محمد في التوراة والإنجيل

ما أن أسمع بهذا السؤال ، حتى يخيل إلى بأنني أشتم رائحة الوريقات القديمة بما لها من رائحة مميزة ، تدل على قدمها . ورغم ما كتبه المسلمين ، وبإلحاح حول تأكيد وجود نبوة محمد بالتوراة والإنجيل ، فهل أغفل المسيحيين – هذا إن أغفلنا عن اليهود – في الرد على تلك الأسئلة ، تلك التأكيدات الإسلامية ؟!

بالطبع لا ؛ ولكن " التعتيم " الذي يكثفه المسلمون حول هذه الردود ، بل يحرم حتى تداولها ، أو حتى السماح بنشرها ، بدعوى " تحريم التبشير " ، وكأنهم يعلنون ضعف المنطق الإسلامي أمام المنطق المسيحي . وهو بلا شك من أهم أسباب المحاربة النفسية ، ونقول النفسية لا العقلية ، ضد كل ما هو مخالف للمعتقدات الإسلامية ، وبالتالي رفض الاعتراف بالآخر ، والسب أنه ليس مسلم .وحتى ما يكون تناولنا لهذه القضية أكثر تنظيماً ، نوجزها في النقاط التالية :

ما هي أشهر الموارد لهذا السؤال ، والموجودة الآن ؟

هل من ردود مؤلفة ، من قبل المسيحيين ، للرد على هذا السؤال ؟

ما هي الآيات القرآنية التي يستند إليها السائلون المسلمون؟

من هو "النبي الأمي " ، وهل من وجود له في التوراة والإنجيل؟

هل من بشائر وإشارات إلى محمد في الكتاب المقدس؟

ولكن ألا يوجد في الإنجيل اسم "أحمد " وقد حرفه مترجمي الإنجيل من أصوله اليونانية؟

 

ما هي أشهر الموارد لهذا السؤال ، والموجودة الآن ؟

ما زال يحفظ لنا ، ناشري التراث الإسلامي ، كتباً حوت من ضمنها تناول هذا السؤال . بل أن كاتبوها أجهدوا أنفسهم في محاولة البرهنة على وجود " النبي الأمي ؛ و أحمد " في الكتاب المقدس ، بعهدية القديم والجديد ، أي التوراة والإنجيل . وأشهر هذه الكتب – وليس كلها :

الملل والنحل للشهرستاني

الفصل في الملل والنحل لابن حزم

السيرة النبوية لابن هشام ، وبخاصةالجزء الأول منها

الفارق بين المخلوق والخالق ، لـ عبد الرحمن بك باجه جي زاده

الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة لـ شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي المعروف بالقرافي

هداية الحيارى من اليهود والنصارى ، لـ ابن القيم الجوزية

ومن المعاصرين :

الوحي المحمدي ، لـ محمد رشيد رضا

النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام ، لـ أحمد عبد الوهاب

التفسير الحديث ، لـ محمد عزة دروزة

تفسير المنار ، لـ محمد عبده وقد دونه وأكمله ونشره محمد رشيد رضا

 

هل من ردود مؤلفة ، من قبل المسيحيين ، للرد على هذا السؤال ؟

في واقع الأمر هي كثيرة ، ومازال الموجود منها يشير إلى أن المفقود منها أكثر . ونذكر البعض منها :

رسالة الكندي إلى الهاشمي ( 247هـ و 861م) ؛ ويمكن طلبها من : O. BOX13.9503 Villach(AUSTRIA).LIGHT OF LIFE. P ، أو زيارة موقعهم على الإنترنت

هل تنبأت التوراة أو الإنجيل عن محمد؟ ، لـ القمص سرجيوس ( 1947)

رد القمص سرجيوس على القائلين بتحريف التوراة والإنجيل ، لـ القمص سرجيوس ( 1946) ، ولهذا القمص بالذات مطبوعات تكشف عن وجود حوارات معلنة – في زمنه – حول القضايا الخلافية بين المسيحية والإسلام منها " رد القمص سرجيوس على الشيخين الطنيخي والعدوي حول تجسد الله ولا هوت المسيح ( 1947)؛ رد القمص سرجيوس على المنتصر المهدي حول حقيقة صلب المسيح وموته ( 1947) ، رد القمص سرجيوس على الشيخ الطنيخي وآخرين حول سر المائدة أو القربان ( 1947)، رد القمص سرجيوس على الشيخ العدوي حول التثليث والتوحيد ( 1947) . ولن نعجب غذا عرفنا أن سعر النسخة وقتئذ كان 10 قروش وأجرة البريد ( لمن يرغب في استلام نسخته بريدياً) 32 مليماً مصرياً.. وكانت هذه الكتيبات من إصدارات مجلة المنار المصرية، والسؤال أين تلك المطبوعات الآن ، ولماذا يسجن كل من يقتني أحدها؟!

مجادلة الأنبا جرجي الراهب السمعاني مع ثلاثة شيوخ من فقهاء المسلمين بحضرة الأمير مشمر الأيوبي(1216م) ، وقد عني بتعليقاتها وتحريرها أحد الرهبان الكاثوليك .

كما نستشف من كتاب " منصور بن سرجون" المعروف بالقديس " يوحنا الدمشقي" ، لـ الإكسرخوس جوزف نصر الله ، من إصدارات سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم ) ، منشورات المكتبة البوليسية ، لبنان، ص 180 – 181 و 221 – 223  : " لقد شمل تأثير الدمشقي حتى الإسلام ، وذلك بطريقتين : فقد دغع يوحنا التيار القدري والمعتزلي ونشط الحركة الفكرية المبررة للعقيدة المسيحية ضد الإسلام . وتابع أبو قرة عمل معلمه ، ونهج نهج الدمشقي مدافعون آخرون من أمثال البطريرك النسطوري تيموثاوس الأول الكبير ( 779 – 823م) ، و أبو الفرج الأنباري ( القرن الثامن – التاسع) ، والراهب إبراهيم الطبراني المعروف ببطرس الراهب ، و أبو الفضل علي بن ربان النصراني ، وأبو سعيد بن علي الأنباري ، وأبو العباس عيسى بن زيد بن أبي مالك ن وأبو الخير عيسى بن هبة الله المسيحي ، وكاتب رؤيا بحيرة المجهول ،وعبد المسيح الكندي كاتب الرسالة المشهورة إلى عبد الله بن إسماعيل الهاشمي ، وأبو رايطة التكريتي . وقد اقتصرنا على ذكر المدافعين الذين سبقوا القرن العاشر ...." وطبعاً ليس بغريب أن المفقود منها أكثرمن الموجود!

منار الحق ؛ ويمكن طلبها من : O. BOX13.9503 Villach(AUSTRIA).LIGHT OF LIFE. P

دوافع للإيمان الإنجيلي ، لـ أمير ريشاوي ، ويمكن طلبها من : O. BOX66.8486 RIKON(SWITZERLAND).THE GOOD WAY. P، أو زيارة موقعهم على الإنترنت

سلسلة الهداية ، لـ مجموعة من خدام الرب ، O. BOX13.9503 Villach(AUSTRIA).LIGHT OF LIFE. P ، أو زيارة موقعهم على الإنترنت

ميزان الحق ، س.ج. فاندر ، O. BOX13.9503 Villach(AUSTRIA).LIGHT OF LIFE. P ، أو زيارة موقعهم على الإنترنت

مدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي، لـ الأب يوسف الدرة حداد ، من إصدارات المكتبة البوليسية، بيروت ، لبنان.

الإنجيل في القرآن ، لـ الأب يوسف الدرة حداد ، من إصدارات المكتبة البوليسية ، لبنان.

 

ما هي الآيات القرآنية التي يستند إليها السائلون المسلمون؟               أول الصفحة

يمكننا هنا أن نوجز للآيات التي اعتمد عليها الكتاب المسلمين كأسانيد لدعواهمبنبوة محمد في الكتابالمقدس بعهديه وهي كالآتي :

أولاً العهد القديم :

1-    (التثنية 18 : 15 و 18 ) ، قالوا :إن قوله " من اخوتك " يعني عندهم من العرب ن لأن ولد إسماعيل هم أخوة بني إسرائيل.

2-    (التثنية 32 : 21 ) ، قالوا : المقصود بـ " الأمة الغبية "العرب .

3-    ( التثنية 33 : 2 ) ، قالوا : مجيئه من " سيناء " اعطاؤه التوراة لموسى ؛ و " إشراقه " من " سعير " اعطاؤه الإنجيل لعيسى ،و"تلألؤه" من " فاران " أنزاله القرآن ، لأن فاران من جبال مكة ، ومنه أتت" شريعة لهم".

4-    ( التكوين 17 : 2 ) ، قالوا : هذه النبوة تجعل من ولدإسماعيل من سيكون سيد شعب كبير . وهذا لم يتحقق في ولد إسماعيل إلا لمحمد .

5-    ( التكوين 49 : 10 ) ، قالوا : " شيلون " هو لقب لمحمد الذي أتى وخضعت له شعوب .

6-    ( المزمور45) ، قالوا النبي الجبار ، نبي السيف والبيان ن هو محمد ؛ فهوالمقصود بهذه البشارة التي لا تنطبق علىغيره.

7-    (المزمور 149) ، قالوا : ان هذه البشارة نبؤة عن أمة محمد ، أنها أمة الحمد والسيف معاً.

8-    ( أشعياء 42 : 9 و 11 ) ، قالوا : أنها نبؤة على يقظة الصحراء التي سكنها " قيدار " الابن الثاني لإسماعيل إلى طريقة جديدة لحمد الله . فهي تشير إلى محمد والإسلام في الحجاز.

9-    ( أشعياء 54 : كله ) ، قالوا :المراد بـ "العاقر" هنا مكة ، لأنه لم يقم فيها نبي بعدإسماعيل ؛ ولم ينزل فيها وحي . وتعبير" بني الموحشة " إشارةإلى أولاد هاجر ، أمإسماعيل ، ومطلقة إبراهيم . و " الحداد " المذكور فيها ( 54 : 16 ) إشارة إلى محمد ، قاتل المشركين بسيفه .

10-( أشعياء 65 : كله) ، قالوا : هذه نبؤة لإستبدال اليهودبالمسلمين شعباً لله" ويدعو عبيده باسم آخر " ( 65 : 25 ) ، كما يدل عليه ذكر " مناة " آلهة العرب ( 65 : 11 ).

11- نبؤة دانيال المزدوجة ؛صورة التمثال ( كناية عن الشرك" الذي يمثل أربعة ممالك ؛ وفي زمن المملكة الرابعة ينقطع حجر من جبل " بغير يد قطعته" فيسحق التمثال و الممالك الوثنية التي تحمله ( 2 : 31 – 45 ) ؛ وصورة ابن البشر الآتي على سحاب السماء لينشئ على الأرض ملكوت الله ، على أنقاض ممالك العالم ( 7 : 13 –37 ) ، قالوا : أن الحجر الذيضرب تمثال الشرك هو محمد ، وملكوت الله هو الدولة الإسلامية التي قامت على أنقاض الفرس والروم.

ثانياً  العهد الجديد :

12-(رسالة يهوذا : 14و15 ) ، قالوا :إن الرب هنا بمعنى السيد ، وهو محمد ، وربوات قديسيه الصحابة.

13-(متى 2 : 1 – 2 ، 4 : 17 ) ، قالوا : إن المسيح لم يؤسس دولة ، وهو مع المعمدان سابقة يبشران بدولة الله في أرضه ، فملكوت السماوات ( أي الله ) هوالإسلام : دولة وشريعة .

14-( متى 13 : 31 - 32 ) ، قالوا : إن حبة الخردل التي تصير شجرة ، صورة لملكوت الله ، هو كناية عن الإسلام ، والنجاة فيه بشريعته.

15-( متى 20 : 1 – 16 ) ، قالوا : هذا المبدأ الإنجيلي نبؤة عن الإسلام ، دين الله في أرضه ، فهو يبشر بأن المسلمين ، آخر من ظهر من أهل الكتب المنزلة ، سيكونون أولين ، والأولين من اليهود النصارى سيكونون آخرين.

16-( متى 21 : 42 – 43 ) ، قالوا : إن ملكوت الله الذي يُنزع من أهل الكتاب ويعطى لأمة أخرى تؤدي ثماره ن هو الإسلام ؛ وأن الحجر رأس الزاوية فيه ، هو محمد.

17-( الرؤيا 2 : 26 – 29) ن قالوا : الغالب الموعود ، الذي وحده أعطي سلطاناً على الأمم ، هو محمد .

18-النبؤة بالفارقليط ، في الإنجيل بحسب يوحنا ( 14 : 16 ؛ 14 : 26 ؛ 15 : 26 ؛ 16 : 7 – 8 ؛ 16 : 12 – 14) ، قالوا : إنالفارقليط الموعود هو " أحمد" المذكور في القرآن ( سورة الصف : 6 ).

من هو "النبي الأمي " ، وهل من وجود له في التوراة والإنجيل؟                  أول الصفحة

في القرآن آيتان تقولان بأن التوراة أنبأت "بالنبي الأمي" (الاعراف: 156 - 157)، وأن الإنجيل سماه بإسمه "أحمد" (الصف: 6)

فما هو الواقع القرآني، بالنسبة للتوراة والإنجيل ؟

"النبي الأمي"

في قصص موسي مع قومه، يقول : "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة : أنا هدنا اليك ! قال : عذابي أصيب به من أشاء، ورحمتي وسعت كل شئ !

"فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول، البني الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والاغلال التي كانت عليهم : فالذين آمنوا به وعزروه ونطروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.

"قل : ياأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، الذي له ملك السموات والأرض، لا إله إلا هو، يحيي ويميت: فآمنوا بالله ورسوله، النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلمته (كلماته)، وابتعوه لعلكم تهتدون.

"ومن قوم موسي، أمة يهدون بالحق، وبه يعدلون.

"وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً، أمماً. وأوحينا إلي موسي ..."

نقول : إن تفسير قوله "مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل"، عناه البعض ، بثلاثة افتراضات : "إن هذا في بعض أسفار دون بعض - أو عند فريق دون فريق - أو من قبيل الإشارات والبشارات الرمزية". إن صفة "النبي الأمي" لا وجود لها علي الإطلاق في التوراة والإنجيل ، لا تصريحاً ولا تلميحاً. ونحن في ذلك لا نتهم القرآن - حاشا لنا وكلا. إنما نقول أن كلمة "النبي الأمي" قد تكون قراءة خاطئة "للنبي الآتي" في نبؤة موسي. إذ كانت الكتابة بدون نقط : "النبي الأمي" أي "النبي الآتي" فقرؤوا "النبي الأمي". وأقحموا حديث "النبي الأمي" في القرآن. ونعرف أن القرآن يكرر ويردد تعليمه للترسيخ والتذكير، وحديث "النبي الأمي" لا وجود له في القرآن علي الإطلاق إلا في هذا الإقحام المزدوج.

والآية تنص علي "النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل". إنها كتابة ! ، لا إشارة. وليس في التوراة من كتابة ولا من إشارة إلي نبي يأتي من الأمم، "الأميين"، إلي بني إسرائيل. إنما الله تعالي وعد بفم عبده موسي بالمسيح الموعود، "النبي الآتي"، ولا يمكن أن يكون المسيح الموعود "أمياً" أي من الأمم، غير بني إسرائيل.

واستشهاد البعض بالآيات المذكورة فإنهم ، كما فات غيرهم مدلولها. إن الذين آمنوا بالدعوة القرآنية في أوانها ليس اليهود، ولا المسيحيين، إنما "الذين قالوا : إنا نصاري (المائدة : 85). وهذا تقويم جديد لهم ولغيرهم. وهؤلاء "النصاري" تصفهم آية الإعراف بأنهم أمة من قوم موسي : "ومن قوم موسي أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" (158)، وآية الصف بأنهم "طائفة من بني إسرائيل" آمنت بالمسيح (14). هؤلاء هم "أولو العلم" (الإسراء 107) أو "الراسخون في العلم" (النساء 162) بحسب اصطلاح القرآن. هؤلاء هم في اصطلاح القرآن أيضاً المسلمون الأوائل قبل محمد والقرآن : "وإذا يتلي عليهم قالوا : آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين" (القصص 53). فالذين "قالوا : إنا نصاري" هم الذين آمنوا وحدهم بالدعوة القرآنية، لا اليهود ولا المسيحيون. فلييس في القرآن من "شواهد عيانية ، مكية ومدنية ، حاسمة" تشهد بإيمان اليهود والمسيحيين بالقرآن، ليكون إيمانهم برهاناً علي صحة كتابة "النبي الأمي" في التوراة والإنجيل. يشهد بذلك موقف "وفد نجران"، الوفد المسيحي الوحيد، الذي باحث النبي ووادعه ورجع خائباً. ونعرف أنه كان من أهل البدعة.

وقول القرآن : "إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون" (الحجر 9)، ينطبق علي التوراة والإنجيل والقرآن لأن "الذكر" مرادف "الكتاب" في اصطلاحه وفي طلاقه الذكر" قد يعني الكتاب قبل القرآن : "فاسألوا أهل الذكر. إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر" (النحل 43، 44) : فهم "أهل الذكر" قبل القرآن.

بعد ذاك الاستطراد، نعود إلي درس حديث "النبي الأمي".إن حديث النبي الأمي يقطع مرتين متتاليتين (156، 157) حديث موسي (155، 159)، وهو لا ينسجم مع خطاب موسي لربه، لا في النسق ولا في الموضوع : فالإقحام ظاهر عليه.

- في الموضوع، حديث النبي الأمي يناقض حديث موسي وخطابه لله. فموسي وقومه، في ميقاتهم أخذتهم الرجفة فأخذوا يصلون إلي الله (154). وفي صلاتهم يقولون : "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة، أنا هدنا إليك" (155). كان اليهود يشتقون اسمهم من الهدي - والهدي كناية عن كتاب موسي : "ولقد آتينا موسي الهدي" (40 : 53) - أو يشتقون الهدي من إسمهم، فالتورية "هدنا" بارعة. فموسي وقومه يطلبون إلي الله تسجيل يهوديتهم حسنة لهم. فأجاب الله أولاً بأن الحسنة لأهل التقي والزكاة والإيمان. ثم أجاب بأن الحسنة إنما هي في الإيمان بالنبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل (156)، فما عليهم إلا أن ينتظر موسي وقومه ألفي سنة حتي تقوم لهم حسنة بالإيمان بمحمد ! أمن المعقول أن يجيب الله علي دعاء موسي وقومه لربهم بأن الهداية ليست في الموسوية بل في اتباع محمد، "النبي الأمي" البعيد ؟ وأن يقول الله في رده علي صلاة موسي أن محمداً مكتوب في التوراة والإنجيل ؟ ففي الحوارين تعارض في الموضوع، مما يشهد بأن حديث النبي الأمي مقحم علي الخطاب.

 - وفي الجوابين علي دعاء موسي وقومه (155 - 156) تعارض في الأسلوب: جواب الله في الأول علي الخطاب (155) ، وفي الثاني علي الغيبة: "عندهم، يأمرهم، ينهاهم..." (156). ولا يصح من الالتفات من المخاطب إلي الغيبة، في كلام متعارض يخرج عن الموضوع.

  - وما معني دعوة الناس إلي الإيمان بمحمد، النبي الأمي، في دعاء موسي لربه ؟ (157) وما معني إعلان محمد إيمانه "بالله وكلمته" أي بالمسيح، في حديث موسي مع ربه، وفي قصة موسي مع قومه في يوم الميقات والرجفة ؟ (157 مع 154).

  - وما معني تصريحه، في حديث موسي من قومه بأن "من قوم موسي أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" (158) ، وهم "الطائفة من بني إسرائيل" التي آمنت بالمسيح ويظاهرها القرآن علي اليهودية (الصف 14) ؟ وما بين هذا التصريح، وبين حديث موسي يوم الميقات والرجفة نحو ألفي سنة ؟

فكل هذه الاعتبارات من النص نفسه تثبت بلا ريب أن حديث "النبي الأمي" مقحم علي النص.

  - وهناك شبهات من القرآن كله علي حديث "النبي الأمي"

الشبهة الأولي " حديث "النبي الأمي" فريد غريب في القرآن.

إن حديث " النبي الأمي" لا وجود له علي الإطلاق في القرآن كله، إلأ في هذا النص الوحيد الذي ثبت إقحامه علي دعاء موسي لربه. وفي أسلوب القرآن من تكرار الفكرة الواحدة بأساليب مختلفة للترسيخ في أذهان السامعين، ما يدل علي أنه فريد غريب في القرآن، مقحم عليه في زمن الجمع. ولم يكن جامعو القرآن معصومين بالوحي.

الشبهة الثانية : إنه إقحام مثل غيره.

الإقحامات المشبوهة في القرآن معدودات، واضحات من القرائن القريبة والبعيدة. وإقحامات معدودات دخلت النص عند جمع القرآن لا تطعن في صحته. ولم يكن الجامعون بمعصومين بالوحي حتي لا يجوز عليهم السهو. وعلي علم النقد النزيه أن يطهر الوحي من كل دخيل عليه، كما يجري ذلك في التوراة والإنجيل.

من الإقحامات الظاهرة كلمة "نصاري" في قوله  : "كونوا هوداً أو نصاري تهتدوا" (البقرة 135)، والأصل الذي يفرضه الحرف والمعني هو : "كونوا هوداً تهتدوا". فالشعار اليهودي الذي أطلقوه في جزيرة العرب ويحكيه القرآن هنا، تورية رائعة لاشتقاق الهدي من اسم اليهود الذي رجموه إلي "هود". ولا يمكن أن يقول النصاري واليهود عن بعضهما بعضاً : "كونوا هوداً أو نصاري تهتدوا"، والتورية المذكورة خير دليل.

استبق الجلالان الاعتراض المفروض فقالا : "وقائل الأول يهود المدينة ! والثاني نصاري نجران". إن وفد نجران كان مسيحياً، وكانوا مثل جميع المسيحيين في العالم يأنفون من وصمهم باسم "نصاري" وكان هذا اللقب اسم شيعة منبوذة عندهم. ومعروف أن سورة البقرة من أول العهد المدني، وإن تخللها فصول من سائر العهود المدنية، ووفد نجران لم يفد علي النبي إلا في عام الوفود، من آخر العهد. وكان النبي قد طهر المدينة من اليهود قبل فتح مكة" وطهر الحجاز كله منهم بعد الفتح. فلا يصح أن يحضروا المناظرة ويقولوا مقالتهم : "كونوا هوداً تهتدوا". واقع حالهم يأبي ذلك.

ثم إن الخطاب كله في سورة البقرة جدال مع اليهود، ولا أثر فيها ولا في ظروف تنزيلها لجدال مع النصاري علي الإطلاق، فقد كانوا "أمة واحدة" مع النبي وجماعته، قبل إعلانهم جميعاً "أمة وسطاً" (البقرة 143) بين اليهودية والمسيحية. فكلمة "نصاري" مقحمة علي الآية (البقرة 135) تتنافر معاً نصاً وموضوعاً وواقع حال.

ومنها أيضاً إقحام "النصاري" في هذه الآية : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء ! بعضهم أولياء بعض ! ومن يتولهم منكم فإنه منهم ! إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (المائدة 54) - وقد كان لهذا الإقحام أسوأ الأثر في تاريخ المسيحية والإسلام، فهو الذي سمم العلاقات لدرجة انقطع فيها سبيل الحوار بين الأمتين من أصل واحد. فكيف يصح في السورة عينها، وفي مقطعين متقاربين أن يحرم الموالاة مع النصاري، وهو يشهد بأنهم "أقرب مودة للذين آمنوا ... تري أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون : ربنا آمنا، فاكتبنا مع الشاهدين" (المائدة 84 - 86). فهذا إعلان بإسلامهم : فهل يمنع القرآن الموالاة مع النصاري، وهو يفرضها في القرآن كله ! وفي هذا النص يصف النصاري "بالمحسنين" (88) مع مقابلته بوصف اليهود "بالظالمين" (54). ووصفهم "بالظالمين" في القرآن كله يحصر منع الولاء مع اليهود وحدهم. ودليل آخر في مقابلة قوله "ومن يتولهم منكم، فإنه منهم". (54) بقوله علي لسان النصاري "ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين" (86). ومن مقارنة آية الولاء الممنوع (54) بآية المودة والشهادة بالإسلام، حيث يظهر أن "أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا" يتضح لنا أن كلمة "المشركين" سقطت في آية الولاء الممنوع، وأبدلت بكلمة "النصاري". فأصل الآية الذي ينسجم مع آية المودة هو : "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والمشركين أولياء، بعضهم أولياء بعض"، وهذا ما تظهره السيرة النبوية. فالإقحام والإبدال ظاهر مكشوف لكل ذي عينين لم تطمسهما عبادة الحرف.

فهذان المثلان شاهدان علي أن صفة "الأمي" نعتاً "للنبي" مقحمة عليه، ولا ذكر في "النبي الآتي" لصفة "أمي" في التوراة والإنجيل.

الشبهة الثالثة : القرآن يحصر النبوة والكتاب في ذرية اسحاق ويعقوب.

حديث "النبي الأمي" يتعارض مع موقف القرآن كله، حيث يحصر النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم، من اسحاق ويعقوب والأسباط، لا من إسماعيل : "ووهبنا له (لإبراهيم) إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" (العنكبوت 27)، "ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب. فمنهم مهتد، وكثير منهم فاسقون. ثم قفينا علي آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسي ابن مريم وآتيناه الإنجيل" (الحديد 26 - 27). بحسب منطوق ومنطق الآيتين معاً في تسلسل الوحي من نوح إلي إبراهيم إلي موسي إلي عيسي، تكون ذرية النبوة والكتاب في إبراهيم من اسحاق ويعقوب، لا من اسماعيل. ونلاحظ أن التقفية في النبوة تتسلسل علي عيسي، وتنقطع معه، بحسب ظاهر اللفظ ومضمونه. فلا مجال لذكر النبي "الأمي".

وحصر النبوة والكتاب في بني إسرائيل كان سبب تفضيلهم علي العالمين حتي المسيح : "يا بني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضلتكم علي العالمين" (البقرة 47و 122، قابل الاعراف 139، الجاثية 15، الإسراء 70). وهذا التفضيل يمنع حديث "النبي الأمي" في دعاء موسي لربه، حيث الحسنة ليست في الموسوية، بل في المحمدية بعد ألفي سنة.

فحصر النبوة والكتاب في بني إسرائيل، لا ينبئ عن مجال لنبي "أمي" يخرج من الأمم لهداية بني إسرائيل : فحديث " النبي الأمي" مقحم علي القرآن.

قد يرد علي ذاك الحصر بهذه التصاريح : "لكل قوم هاد" (الرعد: 7)، "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً" (النحل: 36)، "ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (الحجر: 10)، "وإن من أمة إلا خلا فيها نذير" (فاطر 24) - فطاهرة ينفي حصر النبوة في قوم أو أمة أو زمن.

نقول : إن صح المعني الظاهر لهذه التصاريح، فكيف يكون محمد " خاتم النبيين" ؟(الأحزاب 33). ثم أليس من تعارض في حصر النبوة والكتاب في بني إسرائيل، وتفضيلهم بسببها علي العالمين، مع تعميم النبوة والرسالة علي "كل قوم" (الرعد 7)، "وفي كل أمة" (النحل 36) ؟ لا تعارض بين الموقفين كما يظهر من أسلوب القرآن المتواتر في استخدام التعميم والتخصيص طرداً وعكساً : فهنا تعميم يراد به التخصيص : إن النبوة في أمة موسي، وأمة عيسي، وأمة محمد، وكلها مبنية علي وحدة الإله، ووحدة الوحي، ووحدة الإسلام (العنكبوت 46). مع ذلك يظل الكتاب والنبوة ميزة بني إسرائيل علي العالمين. فالموقف من المضائق في القرآن، الذي يحصر النبوة في ذرية اسحاق ويعقوب.

الشبهة الرابعة : في إطلاق صفة "الأمي" علي محمد

لا يأخذ القرآن صفة " الأمي" هنا بمعناها اللغوي، أي الذي لا يقرأ ولا يكتب، إنما بمعناها الاصطلاحي، نقلاً عن أهل الكتاب، حيث "الأمي" كناية عن غير الإسرائيلي وغير الكتابي، فهو من الأمم، أو الأمة، التي ليس لها كتاب منزل (آل عمران 20و 76، الجمعة 2). فالنبي الأمي يعني النبي العربي، من الأمة العربية التي ليس لها كتاب منزل.

وعلي هذا الأساس وصف القرآن محمداً : "وجدك ضالاً فهدي" (الضحي: 7). مع ذلك فإطلاق الاصطلاح "النبي الأمي" علي محمد لا يصح.

أولا ً لأنه بهدايته إلي الكتاب والإسلام لم يعد "أمياً"، "وقل : آمنت بما  أنزل الله من كتاب" (الشوري 15) : كما أن النصاري من غير بني إسرائيل هم في عرف القرآن من أهل الكتاب

ثانياً لأن محمداً من ولد اسماعيل بن ابراهيم، جد النبوة والكتاب، وإسماعيل يعده القرآن من أنبياء الكتاب (البقرة 136، آل عمران 84). وإبراهيم وإسماعيل يصليان عند تأسيس الكعبة : "ربنا، وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة" (البقرة 129).وعليه يكون محمد بن إسماعيل بن إبراهيم من أهل الكتاب ، فكيف يكون محمد "النبي الأمي" أي من الأميين الذين لا كتاب لهم : و "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ... ويعلمهم الكتاب والحكمة" (الجمعة 2) ؟ إنه "أمي" من "الأميين" العرب بنسبة (الجمعة:2)، لكنه ليس "أمياً" بدعوته، فالقرآن "تفصيل الكتاب" (يونس 37:)، "أنزل إليكم الكتاب مفصلاً" (6 : 114)

لذلك، إن صحت فيه صفة "الأمي" نسباً إلي العرب، فلا نصح فيه بالنسبة إلي الكتاب وأهله، والنبوة نسبة إلي الكتاب: من هذه الناحية ليس محمد "النبي الأمي"، إنه بالدعوة القرآنية من أهل الكتاب. وهذه هي النتيجة الحاسمة : إن صفة "الأمي"، من حيث النبوة والكتاب، لا تصح في محمد. لذلك فهي مقحمة علي القرآن، من سهو الجامعين، وفي غفلة ساعة التدوين

لا ننسي أن صحة نبوة محمد ليست موضوع بحث، إنما كلامنا في صفة "الأمي" التي لا تصح فيه من حيث النبوة والكتاب. لذلك لا شبهة علي التوراة والإنجيل إذا لم توجد فيهما صفة "النبي الأمي"، ولا يطعن في صحة القرآن إقحام كلمة عليه سهواً وتقصيراً عند جمعه

  - في الواقع ليس في التوراة والإنجيل صفة "النبي الأمي"

إن المسيحيين يتلون الإنجيل اليوم عن مخطوطات القرن الرابع ميلادي فهي فوق كل شبهة بالنسبة للقرآن والإسلام ، والكتاب في عهده القديم قد ترجم إلي اليونانية من قبل المسيح، وإلي السريانية في عهد قريب من  المسيح. فهو أيضا فوق الشبهات بالنسبة للإسلام والقرآن . وعلي أهل القرآن أن لا ينسوا هذا الواقع التاريخي في أبحاثهم، أو في حوارهم مع أهل الكتاب، خصوصاً مع أهل الإنجيل . وهذا هو الواقع التوراتي والإنجيلي " إن "النبي الآتي" الموعود في الكتاب، قد حدده "الكتاب والحكم والنبوة" تحديداً شاملاً كاملاً، لا مجال للريب فيه متي ظهر. وقد أكد المسيح ابن مريم في الإنجيل أنه هو النبي الموعود في الكتاب

 - من قبل موسي، نعرف أن النبي الموعود لإبراهيم يكون ابن إبراهيم. ونعرف من التوراة أنه بإسحاق ويعقوب ويهوذا. فيعقوب الشيخ قبل وفاته ينشد في مصير أسباط إسرائيل، فيقول في يهوذا : "لا يزول صولجان من يهوذا، ومشترع من صلبه حتي يأتي "يودو" وتطيعه الشعوب". هذه الآية من سفر التكوين (49: 10)، وهي تحصر الملك في يهوذا حتي يجئ النبي الموعود من يهوذا. وقد نقلنا اسمه بحرفه العبري "يودو" أي "الذي له"، إظهاراً للجناس اللفظي والتورية المقصودة في نسبه من يهوذا. فالنبي الآتي يكون من يهوذا، لا من غير بني إسرائيل

 - وموسي، في سرعة النبوة يقول :"يقيم لك الله إلهك نبياً، من بينكم، من إخوتك، مثلي، له تسمعون ... أقيم هم نبيا، من بين إخوتهم، مثلك، وأقيم كلامي في فمه، فيخاطبهم بجميع ما أمره به. وأي إنسان لم يطع كلامي الذي يتكلم به سمي، فإني أحاسبه عليه. وأي نبي تجبر، فقال بإسمي قولا لم آمره أن يقوله، أو تنبأ باسم آلهة أخري، فليقتل ذلك النبي ! فإن قلت في نفسك : كيف يعرف القول الذي لم يقله الله ؟ - إن تكلم النبي باسم الله، ولم يتم كلامه، ولم يقع، فذلك الكلام لم يتكلم به الله. بل لتجبره تكلم به النبي : فلا تخافوا" (التثنية 18 : 15 - 21) لقد أول السيد رشيد رضا وأمثاله هذه النبوة إشارة إلي محمد، لأنها تقول "من إخوتهم" أي من العرب، إخوة بني إسرائيل (يعقوب)، من إسماعيل وهذا مثال علي تحريف المعني في إنطاق الألفاظ بغير معانيها والنص صريح : إنه يقصد سلسلة أنبياء بني إسرائيل، وخاتمتهم النبي الآتي الأعظم. فالنبوة سلسلة في بني إسرائيل حتي يأتي خاتمهم المسيح. والنبي الموعود يقيمه الله "لهم" أي لبني إسرائيل لا لولد إسماعيل، يقيمه "من بينكم" لا من العرب. وهذا التحديد "من بينكم" يفسر معني "من إخوتك" أو "من إخوتهم". وهؤلاء الأنبياء المتعاقبون، مع خاتمتهم النبي الأعظم، مرسلون إلي بني إسرائيل، لا إلي العرب. وهي "النبي الآتي" يعلم الغيب، ما محمد فيصرح فيه القرآن : "ولا أعلم الغيب" (6 : 50، 11 : 31، 7 : 187). والسيد المسيح يصرح بأن موسي "كتب عني" (يوحنا 5 : 46) . فكل القرائن في التوراة والإنجيل تدل علي أن أنبياء الكتاب بعد موسي سيكونون كلهم من بني إسرائيل، وخاتمتهم النبي الأعظم، سيكون من بني إسرائيل، لا من غيرهم . ففي شرعة النبوة الموسوية لا مجال لنبي "أمي" يأتي من الأمم، وتكون رسالته الأولي أهل الكتاب : فليس "النبي الأمي" مكتوباً في التوراة والإنجيل. حيث نجد أن النبي الآتي هو ابن داود، ابن يهوذا، وسيولد من بلدة داود ويهوذا، في أفراتا، الإسم القديم لبيت لحم، وسيملك علي إسرائيل، قبل غيرهم، ونسبه أقدم من أصله البشري .

فالكتاب والإنجيل والقرآن تحصر "النبؤة والكتاب" في بني إسرائيل، ولا تقول "نبي أمي" يأتي من غير بني إسرائيل فلا يصح أن  ينقض طرف آية، "النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيلكل الكتاب والإنجيل والقرآن، ودلائل الإقحام بادية علي تلك الآية الدخيل، في غفلة من الجامعين، في عهود التدوين !

 

هل من بشائر وإشارات إلي محمد في الكتاب ؟                                          أول الصفحة

نعود مرة أخرى إلى البشائر التي اعتقد الكتاب المسلمون بأنها تنسب إلى محمد التنبؤ عنه سواء في التوراة أو الإنجيل ، ولا عجب أن نرى السيد رشيد رضا وقد عقد في الجزء التاسع (230 - 300) من (تفسير المنار) فصلاً طويلاً أورد فيه ثماني عشرة بشارة مستمدة من أسفار العهد القديم والأناجيل وناقش الشبهات التي يوردها المبشرون، وأورد من الحجج والأقوال ما فيه المقنع لراغبي الحق والحقيقة، في صواب استنتاجاته وقوة حججه، وفي عدم قيام شبهات المشتبهين علي أسس قوية". ولكن ما لنا وللمبشرين، هذا الهاجس الدائم إن القضية قضية واقع وعلم ونقد نزيه وقد سبق رشيد رضا، صاحب "إظهار الحق" في إيراد تلك البشائر أو الإشارات الثمانية عشرة ، وها نحن نوردها ونرد عليها .

 

البشارة الأولي : "النبي، من إخوتك"

"يقيم لك الله، إلهك، نبياً من وسطك، من أخوتك، مثلي، له تسمعون ... أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك" (سفر التثنية 18 : 15 و 18)

سبق بحثها إن قوله "من إخوتك" يعني عندهم من العرب، لأن ولد اسماعيل هم إخوة بني إسرائيل. وفاتهم أن كل القرائن "لك"، "لهم"، "من وسطك"، "من وسط إخوتهم" تقطع بأن "من إخوتك" مقتصرة علي بني إسرائيل . والتوراة هنا تعطي شرعة النبوة عند بني إسرائيل، كما تعطي شرعة الملك فيهم (التثنية 17 : 14 - 16). فلا يصح بحال من الأحوال أن تكون شرعة النبوة شهادة لنبي موعود يأتي من العرب، لبني إسرائيل

البشارة الثانية : "هم أغاروني بما ليس إلهاً ! أغاظوني بأباطيلهم ! فأنا أغيرهم بما ليس شعباً، بأمة غبية أغيظهم" (التثنية 32 : 21)

قالوا : المقصود "بالأمة الغبية" : العرب. فهنيئاً للقائلين القابلين بهذا اللقب أما نحن فنرفضه قومياً ودينياً.

تاريخياً، لقد أدب الله بني إسرائيل بأمة بابل وأشور، ثم بأمة سوريا الهيلينية، ثم بأمة الرومان. وبعد قتل المسيح، وبحسب نبؤة المسيح، دمر الرومان الأمة والدولة والهيكل، فلم يبق فيه حجر علي حجر، وذلك عام سبعين م. ولما جددوا الثورة عام 133، سحقوهم ومنعوا أورشليم عليهم، وغيروا حتي اسمها، فصارت "ايلياء". وصارت بلاد اليهودية مسيحية قبل الفتح الإسلامي، الذي لم يفعل باليهود شيئاً في فلسطين، لأنهم كانوا مشردين. فالواقع التاريخي ينقض تخريجهم لهذه النبؤة

دينياً، إن "الأمة الغبية" المقصودة، عندها "ما ليس إلهاً"، ولها "أباطيلها" أي أصنامها، فهي أمة وثنية. والأمة العربية التي زحفت علي فلسطين كانت الإسلام : فهل أمة محمد وثنية ؟ يا لعار التخريج !

البشارة الثالثة : "جاء الله من سيناء وأشرق لهم ! من سعير ! وتلألأ من جبل فاران ! وأتي من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم" (التثنية 23 : 2)

قالوا : "مجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسي، وإشراقه من سعير إعطاؤه الإنجيل لعيسي، وتلألؤه من فاران إنزاله القرآن، لأن فاران من جبال مكة"، ومنه أتت "نار شريعة لهم"

هذا التخريج يسمي : جر الجمل بشعرة  !

1 - ياقوت يقول في كتابه (المشترك وضعاً، والمختلف صقعاً) : "فاران إسم جبال مكة. وقيل اسم جبال الحجاز. وقال أبو عببيد القصاعي في كتاب (خطط مصر) : وفاران والطور كورتان من كور مصر القبلية. وفاران أيضاً من قري صفد سمرقند، ينسب إليها أبو منصور الفارابي". فهناك إذن أربعة أماكن تحمل اسم فاران، فلا يصح حصر النبوة بفاران الحجاز. هذا إذا صح أن العرب سمت جبال مكة، أو جبال الحجاز، فاران.

2 - والكتاب يفسر بعضه بعضاً، فلا يصح تفسيره بغيره. ومتي قامت الدلائل والقرائن في نص، فلا يصح تأويلها بغيرها . إن إشارات التوراة كلها تجعل فاران قرب سيناء (تك 14 : 5 - 6، تك 21 : 21، العدد 10 : 12، 12 : 16، 13 : 3)، علي طريق هجرتم من مصر إلي فلسطين، ولم يمروا علي الإطلاق بالحجاز. وسفر التثنية يصف دخول أرض الموعد، بقيادة الله لشعبه، في مراحل الغزو: من سيناء، إلي سعير، إلي فاران، إلي الأرض المقدسة . ويذكر الكتاب أن داود "نزل إلي برية فاران" (1صموئيل  25 : 1، 1 ملوك 11 : 18)، ولا يذكر الكتاب علي الإطلاق أن داود غادر فلسطين إلي الحجاز.

3  - النص المذكور يصف بطريقة شعرية مراحل غزو فلسطين: فلا يصح أن نرى فيها منازل الوحي التي يذكرون وبنص القرآن القاطع كان الوحي إلي محمد بواسطة جبريل (البقرة 89)، لا من الله مباشرة. والآية التوراتية تقول : "جاء الرب" أي الله نفسه، والكلام استعارة شعرية، فلا تسمح القرائن أن تحملها علي الحقيقة والواقع فتحريجهم بأداة النص جملة وتفصيلاً .

البشارة الرابعة :" وأما اسماعيل فقد سمعت لك فيه : ها أنا أباركه، وأثمره، وأكثره جداً، فيلد اثني عشر ولداً. وأجعله أمة كبيرة" (التكوين 17 : 2)

قالوا : هذه النبوة تجعل من ولد اسماعيل من سيكون سيد شعب كبير وهذا لم يتحقق في ولد اسماعيل إلا بمحمد فنبؤة الكتاب تذكره . بل ظاهر النص يقضي علي هذا التخريج فكما أن التوراة تذكر لإسرائيل اثني عشر سبطاً، كذلك تذكر لإسماعيل اثني عشر ولداً، أجداداً لأمة كبيرة ولا مكان في النص لفظاً أو معني للنبوة أو للدولة وسيادتها. وكانت العرب المستعربة من ولد اسماعيل تملأ الحجاز قبل ظهور محمد: فتمت النبؤة قبله.

البشارة الخامسة : "لا يزول قضيب (صولجان) من يهوذا، ولا مشترع من بين رجليه، حتي يأتي شيلون، وله تخضع شعوب" (التكوين 49 : 10)

قالوا : "شيلون" هو لقب لمحمد الذي أتي وخضعت له شعوب .

نستغرب ونستهجن هذا التخريج : فكيف فاتهم أن "شيلون" هو من يهوذا، ومصدره من صلبه، "من بين رجليه" وهو يأتي إلي بني يهوذا، لا إلي العرب وأبي حالما يزول السلطان عن يهوذا، لا بعد ستماية سنة من الاستعباد الروماني الروسي. وهذا ما تم مع المسيح، فإنه "ابن داود"، ابن يهوذا وظهر لما خرج السلطان من يهوذا إلي يد الأمميين، ولا يصح شئ من عناصر النبوة في محمد، ولا إشارة فيها علي الإطلاق إلي النبي العربي.

البشارة السادسة : "فاض قلبي بكلام صالح ! إني أنشد للملك : أنت أروع جمالاً من بني البشر ! ... تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار ! ... كرسيك، يا الله، إلي دهر الدهور ! قضيب استقامة قضيب ملكك !" (المزمور 45)

قالوا : إن النبي الجبار، نبي السيف والبيان، هو محمد، فهو المقصود بهذه البشارة التي لا تنطبق علي غيره.

والنشيد قد يكون له معني واقعي، أو مجازي، فمن حيث التاريخ، هو نشيد زفاف لأحد ملوك إسرائيل. وقد يحمل المجاز، ويقصد في الملك المذكور رمز النبي الملك الآتي، لكن السيف المذكور هو سيف الحق، لا سيف القوة. وفي النشيد تعبيران يمنعان من استخدامه بحق محمد : فالنشيد يطلق عليه لقب "الله"، أو بالحري لقب "إله" - بالعبرية إيلوهيم -، ومن الكفر إطلاق هذا اللقب المجازي علي محمد ثم أن الآية (8) تذكر "مسحة" الملك والنبوة، الدارجة عند بني إسرائيل، ولم يعرفها العرب، ولا يذكر القرآن أو الحديث أو السيرة "مسحة" بزيت لمحمد.. فتأمل كيف يشطون بالتخريج إلي التهريج !

البشارة السابعة : "غنوا للرب ترنيمة جديدة ... تعظيم الله في أفواههم، وسيوف ذات حدين في أيديهم، لإجراء الإنتقام من الأمم والتأديب للشعوب" (المزمور 149)

قالوا : هذه البشارة نبؤة عن أمة محمد، إنها أمة الحمد والسيف معاً .

وفاتهم أن المزمور نشيد لبني إسرائيل أنفسهم، كما يتضح من فاتحته "يبتهج بنو صهيون بملكهم" (مز 149 : 1) فهل كان محمد ملك صهيون ؟ أم هل فرح بنو صهيون بمحمد ؟ ! حملات القرآن المتواترة عليهم خير شاهد.

 

البشارة الثامنة : "هوذا الأوليات قد أتت، والحديثات أنا مخبر بها ... غنوا للرب أغنية جديدة ... لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار" (أشعياء 42 : 9و 11)

قالوا : إنها نبؤة علي يقظة الصحراء التي سكنها قيدار، الإبن التالي لإسماعيل إلي طريقة جديدة لحمد لله، فهي تشير إلي محمد والإسلام في الحجاز

والواقع النبوي يشهد بأن هذه البشارة نشيد من أناشيد الرجوع من جلاء بابل. والدعوة ليست فقط للصحراء (42 : 11)، بل قبلها للبحر وجزره (42 : 10)، ثم لأهل الجبل (42 : 11) فهي تعم البشرية لإعلان انتصار الله علي الأصنام بتحرير أهل التوحيد من جلاء بابل (42 : 17) هذا هو نشيد الحمد لأيام الله في إسرائيل فمن التعسف المفضوح اقتصار الحمد علي "الصحراء التي سكنها قيدار"، للاستنتاج منها أنها بشارة بهداية الجزيرة العربية إلي طريقة جديدة لحمد الله . والقرآن صريح بأنه ليس طريقة جديدة لحمد الله، إنما هو "ذكر من معي وذكر من قبلي"، ذكر من "سما المسلمين من قبل وفي هذا" القرآن (الحج 78): فيه يشرع للعرب دين موسي وعيسي معاً بلا تفريق (الشوري 13) فالاقتصار الثاني علي إسلام القرآن ينقض القرآن كله. والواقع التاريخي يشهد بأن اليهودية عمت الحجاز قبل الإسلام، وأن المسيحية سادت في أطراف الجزيرة كلها، ودخلت النصرانية مكة والمدينة قبل القرآن، بشهادة القرآن نفسه فلا يصح اقتصار "الحمد الحديد" علي الإسلام وحده. فقد سبح أهل قيدار، في شمال الحجاز، بالحمد التوراتي والإنجيلي، قبل القرآني، بمئات السنين، فمثلا تنحصر النبؤة في محمد والإسلام، حتي تكون بشارة بهما . فالواقع التاريخي والواقع النبوي يأبيان ذلك التخريج الإعتباطي

البشارة التاسعة : "ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد ! اندفعي بالترنيم واصرخي أيتها التي لم تتمخض، فإن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قول الرب" (أشعياء 54 كله)

قالوا : المراد بالعاقر هنا مكة لأنه لم يقم فيها نبي بعد إسماعيل، ولم ينزل فيها وحي، وتعبير "بني المستوحشة" إشارة إلي أولاد هاجر، أم إسماعيل، ومطلقة إبراهيم و"الحداد" المذكور فيها (54 : 16) إشارة إلي محمد، قاتل المشركين بسيفه.

إن الواقع النبوي صريح بأن هذه البشارة من أناشيد رجوع بني إسرائيل من جلاء بابل إلي أورشليم، التي كانت بدونهم كالعاقر المستوحشة إن الله سيعيد عن قريب بني صهيون من جلائهم إلي المدينة المقدسة، وتصير العاقر المهجورة أم بنين أكثر من ذات البعل، وأكثر من قبل الهجرة.

والنشيد سمي أورشليم العاقر، والمهجورة، والمستوحشة، لأن صهيون في مجال الكتب عروس الله ولم ترد فيه تلك الكتابة بحق مكة علي الإطلاق - وكيف ترد وهي كانت علي الشر والكفر ! والتنزيه القرآني يأبي مثل تلك الكنايات، فتخريجهم هو أيضا ضد حرف القرآن وروحه.

والعهد الجديد قد اعتبر أورشليم الجديدة رمزاً للمسيحية النازلة من السماء : "ورأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، من عند الله، مهيأة كعروس مزينة لعريسها ! وسمعت صوتاً جهيراً من العرش يقول : هوذا مسكن الله مع الناس ! أجل سيسكن معهم، ويكونون له شعباً، وهو ذاته - معهم" يكون إلههم (الرؤيا 21 : 2 - 3) فالنشيد المذكور رمز للمسيحية المولودة من الموسوية، التي أمست عاقراً فهجرها الله إلي "أورشليم الجديدة". وصار بنو المسيحية أكثر من بني الموسوية، وأكثر من أمة محمد، فلا تنطبق النبوة عليه وعلي أمته، وبما أن العهد الجديد فسر النبوة لصالحه، فعلينا أن نأخذ بوحيه، وليس في القرآن شئ من ذلك، فلا يصح لنا أن نجتهد برأينا بعد تصريح الوحي. ومن المضحك المبكي تفسير "الحداد" في النشيد بمحمد، وهذه هي الآية : "ها أنا خلقت الحداد الذي ينفخ الجمر في النار، ويخرج أداة لعمله وأنا خلقت المفسد للتدمير فكل أداة أنشئت عليك لا تنجح ! وكل لسان  يقوم عليك في القضاء تردينه مؤثما هذا ميراث عبيد الله، وبرهم مني قول الرب". فالحداد الذي يسعي لتدمير إسرائيل مفسد : فهل يليق هذا بالنبي العربي ! ؟ ألا يفطنون لنتائج تخريجهم التي ترتد عليهم ؟

البشارة العاشرة : "إني اعتلنت لمن لم يسألوا عني، ووجدت ممن يطلبوني .. وأنتم الذين تركوا الله، ونسوا جبلي المقدس، الذين يهيئون المائدة لجد، ويعدون الممزوج لمناة، إني أعينكم  للسيف ! وتجثون جميعكم للذبح ! ... ها أني أخلق أورشليم "ابتهاجاً" وشعبها "سروراً" (أشعياء 65 كله)

قالوا : هذه نبؤة لاستبدال اليهود بالمسلمين شعباً لله : "ويدعو عبيده باسم آخر" (65 : 25)، كما يدل عليه ذكر "مناة" ألهة العرب (65 : 11)

يظهر أن القوم يقتصرون علي بعض التعابير في نبؤة، فيتمسكون بها ليفسروا الكل علي ضوء الجزء، فيؤولون النص تأويلاً تأباه قرائنه اللفظية والمعنوية وليس هذا من النقد العلمي النزيه رأوا في ورود اسم (مناة) إحدي "الغرانيق العلي) عند العرب، فحرفوا النبؤة عن معناها، وفاتهم أن "مناة" مثل"جد" المذكور معها (65 : 11) كانا من آلهة الكنعانيين والآراميين، قبل مشركي العرب. وفاتهم أن التجديد المشار إليه سيكون بفضل "النسل الذي يخرج من يعقوب، والوارث من يهوذا" (65 : 6) وأن التجديد سيكون لأورشليم وإسرائيل "تهللوا وابتهجوا إلي الأبد بما أخلق فإني هاءنذا أخلق أورشليم ابتهاجا، وشعبها سروراً، وأبتهج بأورشليم، وأسر بشعبي" (65 : 18 - 19) وهكذا فإن استبدال اليهودية سيكون بالمسيحية، بواسطة نسل يعقوب، ووريث يهوذا، كما صرح به المسيح نفسه في مثل الكرامين القتلة، بأنه هو نفسه ابن رب الكرم ووريثه (متي 21 : 33 - 43)

إنهم يتجاوزون صراحة النص، وتفصيل الإنجيل له، إلي اجتهاد ما أنزل الله به من سلطان في القرآن والإنجيل والتوراة.

 البشارة الحادية عشر : نبؤة دانيال المزدوجة : صورة التمثال (كناية عن الشرك) الذي يمثل أربعة ممالك، وفي زمن المملكة الرابعة ينقطع حجر من جبل "بغير يد قطعته" فيسحق التمثال والممالك الوثنية التي تحمله (2 : 31 - 45)، وصورة ابن البشر الآتي علي سحاب السماء لينشئ علي الأرض ملكوت الله، علي أنقاض ممالك العالم (7 : 13 - 37)

قالوا : إن الحجر الذي ضرب تمثال الشرك هو محمد، وملكوت الله هو الدولة الإسلامية التي قامت علي أنقاض الفرس والروم

الحجر المعجز الذي يسحق التمثال، ويبني علي أنقاضه مملكة أبدية يظهر علي أيام ملوك الدولة الرابعة الوثنية أي الرومان، فإنه "في أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماء مملكة لا تنقض إلي الأبد، وملكه لا يترك لشعب آخر، فتسحق وتفني جميع تلك الممالك، أما هي فتثبت إلي الأبد" (2 : 43) ومملكة الروم التي خلفت مملكة الرومان لم تكن وثنية، بل مسيحية، علي دين الكتاب والإنجيل والإسلام لم يقم بعد فناء مملكة بابل وأشور، ومملكة فارس ومادي، ومملكة الإسكندر المقدوني، ومملكة الرومان التي "في أيام ملوكها، ويفلت الحجر الرمزي المعجز، وينشئ علي أنقاضها جميعاً ملكوت الله، بل يظهر الإسلام بعد فناء تلك الممالك الأربعة بثلاثماية سنة . وقد طبق المسيح نفسه رمز الحجر المعجز علي ذاته : "حينئذ قال لهم يسوع : أما قرأتم قط أن الحجر الذي رذله البناؤون هو صار رأساً للزاوية، من قبل الله كان ذلك وهو عجيب في أعيننا" (متي 21 : 42)، فجمع نبؤة دانيال إلي نبؤة الزبور (مز 107 : 22 - 33) . ومتي فسر كتاب منزل كتاباً منزلاً، فلا يحق لنا الاجتهاد في موضع النص والإنجيل تبني نبؤة دانيال، فبني يسوع دعوته علي أنه ابن البشر الآتي ليؤسس ملكوت الله، كما يتضح في كل فصول الإنجيل بأحرفه الأربعة. ففي محكم الإنجيل وصريحه، يسوع هو ابن البشر - وهو اللقب الوحيد الذي اعتاد أن يتسمي به - ورسالته هي تأسيس ملكوت الله . فالإنجيل، يدعمه التاريخ، يشهد بأن المقصود عند دانيال المسيح والمسيحية ولا ذكر لشئ من ذلك في القرآن، لذلك فلا يصح أن نطبق اعتباطاً نبؤة دانيال علي محمد والإسلام

البشارة الثانية عشر : "هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه ليقيم دينونة علي الجميع، ويعاقب جميع فجارهم علي فجورهم" (رسالة يهوذا، العدد 14، 15)

قالوا : إن الرب هنا بمعني السيد، وهو محمد، وربوات قديسيه الصحابة

يا للعجب العجاب ! يقودهم تخريجهم إلي الكفر ولا يشعرون أجل إن كلمة "رب" بالنكرة، أو علي الإضافة إلي مخلوق قد تعني مخلوقاً، لكن متي اقترنت بأل العهد والعلمية، كما في الكتاب كله، لا تعني إلا الله تعالي - فمن الكفر إطلاقها علي محمد ؟ وتعبير "ربوات قديسيه" لا يمكن أن تعني صحابة محمد، فقد كانوا معدودين، ولم يكونوا جميعهم قديسين. وفي لغة العهد الجديد، تعبير "القديسين" كنابة عن المسيحيين . و "الرب" في الآية "يصنع دينونة للجميع" أي أنه ديان العالمين وملك يوم الدين. ومن الكفر أيضاً إطلاق هذه الصفة علي محمد، والقرآن يشهد : "إنما أنت مذكر ! لست عليهم بمسيطر" الغاشية 22). وفي الإنجيل يأخذ المسيح لنفسه صفة الديان للعالمين مثل الله (يوحنا 5 : 22) وصفة ملك يوم الدين (متي 25 : 31 - 33). فلا ذكر في تلك الآية، ولا إشارة، إلي محمد وصحابته، إنما الآية والرسالة كلها حديث في المسيح والمسيحيين.

 البشارة الثالثة عشر : "وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في  برية اليهودية قائلاً : توبوا، لأنه قد اقترب ملكوت السموات" (متي 2 : 1 - 2)، ويسوع نفسه يجدد الدعوة عينها (متي 4 : 17)

قالوا : إن المسيح لم يؤسس دولة، وهو مع المعمدان سابقه يبشران بدولة الله في أرضه فملكوت السماوات (أي الله) هو الإسلام دولة وشريعة.

ونقول : إن التخريج قد بلغ هنا حد الوقاحة علي الإنجيل ومتي قام  النص بطل الاجتهاد. والإنجيل كله يظهر أن ملكوت الله في عرفه ليس دولة تقوم بحد السيف، إنما هو سلطان الله علي النفوس والعقول والقلوب، دولة روحية. وإن ملكوت الله يبنيه المسيح نفسه : "ومن أيام يوحنا المعمدان حتي الآن، ملكوت السموات يغتصب، والمغتصبون يأخذونه عنوة" (متي 11 : 12) ويصرح أن انتصاره علي الشيطان برهان قيام ملكوت بينهم : "وأما إن كنت بروح الله أخرج الشياطين، فذلك إن ملكوت الله قد قام بينكم" (متي 12 : 28) قام بينهم بالحسني علي حياة المسيح، ولكن بعد قيامته ورفعه إلي السماء سيقوم بقوة : "إن من القائمين ههنا من لا يذوقون الموت حتي يروا ملكوت الله قد أتي بقوة" (متي 16 : 28، مرقس 9 : 1، لوقا 9 : 27) فليس في الإنجيل من انتظار لملكوت الله بعد المسيح بمئات السنين ولا من معني لدولة بحد السيف.

البشارة الرابعة عشر : "يشبه ملكوت السموات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله ... فصارت شجرة تؤمها طيور السماء، وتعشش في أغصانها" (متي 13 : 31 - 32)

قالوا : إن حبة الخردل التي تصير شجرة، صورة لملكوت الله، هي كناية عن الإسلام، والنجاة فيه بشريعته

تكفي قراءة الفصل كله، في تمثيل ملكوت الله بالأمثال، حتي يعرف الأمي نفسه معناه، وكيف طبقها المسيح كلها علي نفسه : "الذي يزرع الزرع الجيد هو ابن البشر (لقب المسيح)، والحقل هو العالم، والزرع الجيد الملكوت وبنوه" (متي 13 : 37). وقال يسوع لصحابته بمناسبة تلاوة أمثال الملكوت عليهم : "لقد  أتيتم أنتم أن تعرفوا أسرار ملكوت الله ... فطوبي لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع ! الحق الحق أقول لكم : إن كثيرين من الأنبياء والأولياء قد اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا" (متي 3 : 10 - 17) فإن نبؤات الأنبياء، ورغبات الأولياء، تتم في مشاهدة صحابة المسيح لظهور الملكوت واطلاعهم علي أسراره . فكيف يقرؤون، وكيف يفهمون ؟

البشارة الخامسة عشر : "هكذا يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين" (متي 20 : 1 – 16)

قالوا : هذا المبدأ الإنجيلي نبؤة عن الإسلام، دين الله في أرضه، فهو يبشر بأن المسلمين، آخر من ظهر من أهل الكتب المنزلة، سيكونون أولين، والأولين من اليهود والنصاري سيكونون آخرين. ألا يورك التخريج والتهريج ! إن تحريف الإنجيل يبلغ هنا حد التزوير الرخيص المفضوح . فالمسيح يعلن لتلاميذه : "لا تخف أيها القطيع الصغير، فقد رضي أبوكم السماوي أن يعطيكم الملكوت" (لوقا 12 : 32) . ويقول لهم :"أنتم أوتيتم معرفة أسرار ملكوت الله" (لوقا 8 : 10) . وعند رفعه إلي السماء يأمرهم بالرسالة الإنجيلية في العالم أجمع، للخليقة كلها، ويصرح لهم : "وها أنا معكم كل الأيام إلي  إنقضاء الدهر" (آخر آية عند متي) . فهل تعليم المسيح كاذب ؟ وهل وعده أكذب ؟!

ومن جهة أخري، يعد المسيح أتباعه بتنزيل الروح القدس عليهم، للتأييد المطلق مدي الدهر: "يقيم معكم، ويكون فيكم" (يوحنا 14 : 17)، "يعلمكم كل شئ، ويذكركم جميع ما قلت لكم" (يوحنا 14 : 25)، "روح الحق يشهد لي وأنتم معه شاهدون" (يوحنا 15 : 26 - 27)، ويفحم العالم علي خطيئته، وعلي بركم، وعلي دينونة الله (يوحنا 16 : 8)، "روح الحق يرشدكم إلي الحقيقة كلها" (يوحنا 16 : 12)ز فهل بعد تأييد الروح القدس الدائم للمسيحية لتوطينها في العالم "إلي انقضاء الدهر"، يمكن تفسير المبدأ المذكور، علي النحو الموتور ؟

البشارة السادسة عشر : قال المسيح لليهود : "أما قرأتم قط في الكتب : إن الحجر الذي زذله البناؤون صار رأساً للزاوية من قبل الرب كان ذلك، وهو عجيب في أعيننا ! من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم، ويعطي لأمة تؤدي ثماره" (متي 21 : 42 - 43)

قالوا : إن ملكوت الله الذي ينزع من أهل الكتاب ويعطي لأمة أخري تؤدي ثماره، هو الإسلام، وأن الحجر رأس الزاوية فيه، هو محمد.

هذا مثال مفضوح علي أسلوب التضليل في التأويل فما أسهل عزل آية أو قول عن نصه وبيئته البيانية، لصبغه بمعني يناقضه !

يسوع تحدي اليهود بمثل الكرامين القتلة، الذين يقتلون النبيين بغير حق، وهم يتآمرون علي قتل المسيح نفسه (متي 21 : 33 - 46) ورد علي مكرهم بالاستعارة النبوية في الحجر المرذول (المزمور 117 : 22 - 23) الذي سيكون حجر الزاوية في ملكوت الله، وطبقه علي نفسه بقوله : "أما قرأتم قط في الزبر ... "وطلبوا أن يقبضوا عليه" لقتله (21: 42 و 46) وفي المثل يصور المسيح نفسه أنه "ابني .. ابنه .. الوارث" لملكوت الله، بينما الأنبياء جميعهم "عبيد" الله فهو يجعل نفسه ابن الله، وبهذه الصفة، الوارث الشرعي الوحيد لملكوت الله أبيه - أليس من الكفر بحق القرآن ونبيه وصف محمد بابن الله ؟ ووارث لملكوت الله "أبيه" ؟ . إنهم يكفرون بحق القرآن ونبيه من حيث لا يدرون!

البشارة السابعة عشر : "من يغلب ويحفظ أعمالي إلي النهاية فسأعطيه سلطاناً علي الأمم" (الرؤيا 2 : 26 – 29)

قالوا : الغالب الموعود، الذي وحده أعطي سلطاناً علي الأمم، هو محمد.

هذا التصريح تفتيش أعمي، في روح الرؤيا، ليروا فيها إشارة وفاتهم أن الرؤيا كلها كشف لسلطان المسيح علي سير التاريخ في البشرية فهو الذي أخذ من يد القديم سفر القضاء والقدر المختوم بسبعة أختام لحجبه عن المخلوق يقول الرائي : "فأخذت أبكي بكاء كثيراً، لأنه لم يوجد أحد يستحق أن يفتح الكتاب، ولا أن ينظر إليه فقال لي أحد الشيوخ (المقربين) أمسك عن البكاء ! فهوذا قد غلب الأسد، الذي من سبط يهوذا، فرع داود ! فهو إذن يفتح الكتاب وختومه السبعة"، وأنشد أهل السماء نشيداً جديداً لأسد يهوذا، السيد المسيح :" مستحق أنت أن تأخذ الكتاب، وتفض ختومه، لأنك ذبحت وافتديت لله أناساً من كل قوم ولسان، وشعب وأمة، وجعلتهم لإلهنا ملكوتاً وكهنة، وسيملكون علي الأرض" (الرؤيا 5 : كله). فالغالب القهار هو المسيح نفسه ، لا غيره . والغالب معه، في الآية التي بها يستشهدون، هو أيضاً المسيحي الذي يغلب الوثنية والشرك، ولا ينغلب لها، لأنه حفظ "وصية ابن الله" أي إنجيله (6 : 18). فسفر الرؤيا كله، جملة وتفصيلاً، ينقض تفسيرهم المغرض المفضوح.

الشهادة الثامنة عشرة : النبؤة بالفارقليط، في الإنجيل بحسب يوحنا (14 : 16، 14 : 26، 15 : 26، 16 : 7 - 8، 12 – 14)

قالوا : إن الفارقليط الموعود هو "أحمد" المذكور في القرآن (الصف: 6)

سيأتي الجواب عليه، ومحوره أن الفارقليط ذات إلهية، بحسب الإنجيل، فمن الكفر بالإنجيل والقرآن نسبته إلي محمد.

تلك هي "البشارات والإشارات" التي رأوا فيها أن محمداً "مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل". وقد لمسنا لمس اليد أنها نبؤات وشهادات للمسيح وحده.  والنتيجة الحاسمة أنه ليس في التوراة، ولا في الزابور، ولا عند النبيين، ولا في الإنجيل، إشارة إلي محمد، النبي العربي، فالمسيح فيها خاتمة النبوة والكتاب. وما نرى تلك إلا عقدة نفسية، علي أهل القرآن أن يتخلصوا منها إذا كان الله قد ميز المسيح علي الإنبياء بالإنباء عنه قبل ظهوره - وليست الميزة الوحيدة - فلم يبشر الله بموسي ولا بإبراهيم، ولا بأحد من الأنبياء : وهذا لا ينقص من قيمة نبؤتهم وفضل دعوتهم، كما لا ينقص من كرامة محمد إذا لم يكن "مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل". والإنباء السابق بالمسيح من باب المفاضلة بين الأنبياء (2 : 253، 17 : 55) كفضل تأييد المسيح بالروح القدس (2 : 253، 17 : 21 و 25) : ولا بشكل ذلك نقصاً أو انتقاماً في نبؤتهم.

ولكن ألا يوجد في الإنجيل اسم "أحمد " وقد حرفه مترجمي الإنجيل من أصوله اليونانية؟                                                        أول الصفحة

للإجابة على هذا السؤال دعنا نأخذ هذا الطريق في المعالجة :

أولاً : قصة أحمد في القرآن والسيرة .

ثانياً : " أحمد " في القرآن .

ثالثاً " الفارقليط " في الإنجيل .

أولاً : قصة أحمد في القرآن والسيرة .

1  - في سورة (الصف) هذه الآية اليتيمة: "واد قال عيسي ابن مريم: بابني إسرائيل، إني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدي من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا : هذا سحر مبين" (6)

2  - تفسير الآية في السيرة النبوية لابن هشام ( الجزء الأول ، ص 248 ) ، "صفة رسول الله ص من الإنجيل": "وقد كان، فيما بلغني، عما كان وضع عيسي ابن مريم، فيما جاء من الله في الإنجيل، لأهل الإنجيل مما أثبت يحنس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل، عن عهد عيسي ابن مريم عليه السلام، في رسول الله ص أنه قال: "من أبغضني فقد أبغض الرب ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي، ما كانت لهم خطيئة. ولكن من الآن نظروا وظنوا أنهم يعزونني (يغلبونني)، وأيضاً للرب. ولكن لابد من أن تتم الكلمة التي في الناموس أنهم أبغضوني مجاناً - أي باطلاً. فلو قد جاء المنحمنا، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب، روح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو سهيد علي، وأنتم أيضاً، لأنكم قديماً كنتم معي. في هذا قلت لكم، لكيما لا تشكوا" . وأضاف ابن هشام علي نص ابن اسحاق : "المنحمنا : بالسريانية محمد، وهو بالرومية البرقليطس، ص". فأهل السيرة يرشدونا في اسم "أحمد" الوارد في القرآن، إلي لفظه السرياني والرومي، مما أثبت يحنس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل".

ثانياً : " أحمد " في القرآن .

نوجز الواقع القرآني في هذه الاعتبارات

1 - اسم النبي العربي في القرآن هو "محمد"، كما يرد في أربع آيات:

"ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" (آل عمران 144)

"ما كان محمد أبا أحد من رجالكم" (الأحزاب 40)

"وآمنوا بما نزل علي محمد" (محمد 2)

"محمد، رسول الله" (الفتح 29)

لذلك فوروده بلفظ "أحمد" مرة يتيمة مشبوه، ولا يعرفه الواقع التاريخي!

2  - إن تعبير اسم "محمد" المتواتر إلي "أحمد" في لفظة يتيمة في القرآن كله، تعبير مقصود، لكي ينطبق علي قراءة شاذة، لا أصل لها في المخطوطات الإنجيلية كلها، في كلمة "الفارقليط"، بحسب الإنجيل فالتحريف ظاهر ومزدوج في القرآن، وفي الإنجيل كما سنرى .

3  - في القرآن كله في النصوص كلها التي يرد فيها ذكر المسيح، ظاهرتان :

الأولي : يقفي القرآن علي كل الرسل بالمسيح، ولا يقفي علي المسيح بأحد (البقرة 87، المائدة 49، الحديد 47)

الثانية : المسيح نفسه، في ما ذكر القرآن عنه، لا يبشر بأحد من بعده علي الإطلاق، إلا في بعض تلك الآية اليتيمة

وهذا يجعل تعارضاً ما بين الموقف المتواتر، والموقف الشاذ اليتيم فيه. والعقيدة في كتاب منزل تؤخذ من المحكوم فيه، لا من المتشابه.

4  - وفي محكم نظم القرآن، إذا أسقط بعض الآية المشبوه، لا يختل النظم ولا البيان ولا التبيين ولا السياق اللفظي أو المعنوي : "يا بني إسرائيل، إني رسول الله إليكم، مصدقاً لما بين يدي من التوراة. فلما جاءهم بالبينات قالوا : هذا سحر مبين". يؤكد ذلك المعني نفسه المتواتر في (آل عمران 50، المائدة 46، الزخرف 63) ففيها جميعاً لا يبشر المسيح برسول من بعده .  ومن ثم ، فهذا الواقع المتواتر يشير إلي إقحام مكشوف في آية الصف (6)

5  - سورة الصف كلها حملة علي اليهود الذين كفروا بموسي (5) وبعيسي (7 ويكفرون بمحمد (8 - 9) ويختم السورة بإعلان تأييد الدعوة القرآنية للنصرانية علي اليهودية، حتي "أصبحوا ظاهرين" (14) فلا إشارة في السورة، ولا دليل، يقضي بهذه الإضافة : "ومبشراً برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد" (6) . فتأمل موقف اليهود من المسيح وهو يبشرهم برسول يأتيهم من العرب الوثنيين ! فلو فعل لكفروه مرتين، ولقتلوه مرتين !

6  - ليست قراءة "اسمه أحمد" ثابتة فهي غير موجودة في قراءة أبي وهذا دليل أثري علي تطور الإقحام قبل التدوين الأخير. فيحق لنا إسقاط قراءة "اسمه أحمد" حينئذ يأتي التبشير "برسول يأتي من بعدي" متطابقاً في القرآن والإنجيل علي الروح القدس.

7  - الإنجيل يعتبر المسيح خاتمة النبوة والكتاب والقرآن يصدق الإنجيل في ذلك، إذ أنه لا يقفي، في تسلل الرسل، علي المسيح بأحد والرسول الذي يبشر به الإنجيل، هو الروح القدس، وهو ليس ببشر، ولا يظهر لبشر حتي يكون "رسولاً بشراً"، "إسمه أحمد".

فكل تلك القرائن والدلائل تشير  إلي إقحام "اسمه أحمد" علي آية الصف، وقد أسقطت الإقحام قراءة أبي!

ثالثاً " الفارقليط " في الإنجيل .

في الأنجيل بحسب يوحنا، الذي تقودنا إليه السيرة النبوية لابن هشام، لا كلمة "الفارقليط" تعني "أحمد"، ولا أوصاف "الفارقليط" فيه يمكن أن تعني "محمداً" أو بشراً علي الإطلاق. وفي توحيد السيرة، نقلًا عن الإنجيل، بين الفارقليط والروح القدس ما كان يغنيهم عن ورطتهم. فالإنجيل يقول "الروح القدس" علي العلمية، وسنري معناه في الإنجيل. والقرآن يجعل "روح القدس" جبريل (النحل 103، البقرة 92) فكيف يكون الفارقليط، روح القدس، جبريل، النبي "أحمد" ؟ وكيف خفي هذا عن أهل السيرة وأهل التفسير ؟ وكيف يمكن لعاقل اليوم أن يدعي بأن "أحمد" هو الفارقليط، روح القدس ؟ أكان ذلك بحسب قراءة القرآن، أم بحسب قراءة الإنجيل ؟

والواقع الإنجيلي فيه مسألة أثرية، ومسألة موضوعية:

1  - المسألة الأثرية إن المخطوطات الكبري التي ينقلون عنها الإنجيل، والموجودة في المتاحف الشهيرة، هي من القرن الرابع الميلادي، قبل القرآن بمئتي سنة ونيف . وكل المخطوطات قرأت الفارقليط ، البارقليطس أي المعين - وبعضهم ترجم : المعزي، المحامي، المدافع - ولم يقرأ مخطوط علي الإطلاق" برقليطس" أي محمود الصفات، أحمد الأفعال، كثير الحمد. لكن في نقل الكلمة اليونانية بحرفها إلي العربية "برقليطس" ضاعت  القراءة اليونانية الصحيحة، وجاز تحريف المعني إلي "أحمد" فقولوا الإنجيل ما لم يقل وقد حاول تقويم التحريف الذين قرأوا "فارقليط" القريب في مخرجه من مطلع الحرف اليوناني. فليس في الحرف اليوناني الصحيح، الثابت في جميع المخطوطات، من أثر لقراءة تعني  "أحمد"

2  - المسألة الموضوعية كذلك ليس في أوصاف الفارقليط، في الإنجيل، ما يصح أن ينطبق علي مخلوق: فكيف يطبقونه علي بشر رسول ؟

في حديث أول، قال يسوع : "وأنا أسأل الآب فيعطيكم فارقليط آخر، ليقيم معكم إلي الأبد، روح الحق، الذي لا يستطيع العالم أن يراه، ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه، لأنه يقيم معكم، ويكون فيكم" (يوحنا 14 : 16 - 17). تلك الأوصاف تدل علي إلهية الفارقليط . الفارقليط يقيم مع تلاميذ المسيح إلي الأبد - وليس هذا في قدرة مخلوق. والفارقليط هو "روح الحق" أي روح الله. وهو أيضاً "روح المسيح لأن المسيح وصف نفسه "الحق" (يوحنا 13 : 6) - فهو روح الله وروح الحق ومن الكفر نسبة هذه المصدرية إلي مخلوق. الفارقليط يتمتع بطريقة وجود الله في كونه وعالمه لوجود خفي، لذلك "لا يستطيع العالم أن يراه" ومن الكفر نسبة تلك الصفة إلي بشر. والفارقليط يتمتع بسعة الله، وروحانيته، في إقامته بنفوس المؤمنين "يقيم معكم، ويكون فيكم" - ومن الكفر إسناد هذه الصفة لمخلوق. فكيف يكون الروح القدس، الفارقليط، النبي "أحمد" ؟ او أي بشر رسول ؟ أو أي مخلوق ؟

ومن ناحية أخري، فإن الفارقليط، الروح القدس، يبعث إلي الحواريين الذين يخاطبهم المسيح، مسلياً لهم في رفعه عنهم إلي السماء فكيف يكون الفارقليط "أحمد" الآتي بعد ستماية سنة للعرب ؟ !. فكل القرائن اللفظية والمعنوية تدل علي أن الفارقليط لا يمكن أن يكون بشراً ولا مخلوقاً وصفاته الإلهية وخلوده وعمله في المسيحيين "إلي الأبد"، براهين ساطعة علي إلهيته

في حديث ثان، يقول يسوع : "قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيم معكم والفارقليط، الروح القدس، الذي سيرسله الآب بإسمي، فهو الذي يعلمكم كل شئ، ويذكركم بجميع ما قلت لكم (يوحنا 14 : 25 – 26). هنا يسمي الفارقليط، باسمه المتواتر "الروح القدس" لاحظ التعبير  المطلق، علي العلمية فهو "الروح" علي الإطلاق - وهذه صفة إلهية، وصفة "القدس" تنزيه له عن المخلوق، لأن "القدس" في لغة التوراة والإنجيل والقرآن كناية عن الله، بصفة التجريد والتنزيه ولاحظ الفرق العظيم مع التعبير القرآني، "روح القدس"، مرادفاً لجبريل، فهنا إضافة للتشريف، لا للمصدرية إنها تسمية، ما بين الإنجيل والقرآن، علي طريقة المشاكلة، لا علي طريق المقابلة وبما أن "روح القدس" هو جبريل في القرآن، فقد كفر بمحمد نفسه من جعل محمداً الملاك جبريل، روح القدس، الفارقليط . هذا في ذات الفارقليط وفي صفاته يقول :

إن الفارقليط يرسله الله باسم المسيح - فهل أرسل "أحمد" باسم المسيح ؟

إن الفارقليط يعلم الحواريين كل شئ - فهل تخطي "أحمد" الزمن وظهر للحواريين "يذكرهم جميع ما قاله المسيح لهم" ؟

والفارقليط يعلم رسل المسيح "كل شئ" هذا هو العلم الرباني وسعته الإلهية - فهل ينطبق هذا علي بشر ؟ أم لا مخلوق ؟

فذات الفارقليط وصفاته تمنع من أن يكون "أحمد" الرسول البشر . إن مصدر الفارقليط الإلهي، وعمله الإلهي، أسمي من المخلوق، ورسالته تتمة لرسالة المسيح، وهي مخصصة برسل المسيح والمسيحية.

في حديث ثالث قال : "ومتي جاء الفارقليط، الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق، الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي، وأنتم أيضاً تشهدون، بما أنكم معي منذ الابتداء" (يوحنا 15 : 26) . هذه الآية تعلن مباشرة إلهية الفارقليط أنه "ينبثق من الآب" أي من ذات الآب والتعبير "ينبثق" ينفي الصدور بالخلق . فهو "روح الحق"، يصدر من ذات الآب، في ذات الآب، لذات الآب . وبما أن "الحق" هو أيضاً المسيح نفسه، فصفته "روح الحق" تدل علي صدوره أيضاً من المسيح، بصفة كونه "الحق" مع الله، أي كلمة الله .ودليل صلته المصدرية بالمسيح، كلمة الله، كون المسيح هو الذي يرسله من لدن الآب "أرسله إليكم من لدن الأب".

فالفارقليط، روح الحق، الذي ينبثق من الآب، هو روح الله الآب، والمسيح الكلمة، في آن واحد فمن الكفر نسبته إلي مخلوق. ورسالته هي الشهادة، مع الحواريين، للمسيح فهل كان "أحمد" يشهد مع الحواريين في زمنهم للمسيح ؟

في حديث رابع يقول "إني أقول لكم الحق إن في إنطلاقي لخيراً لكم، فإن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط، وأما متي انطلقت، فإني أرسله إليكم ومتي جاء فهو يفحم العالم علي الخطيئة، وعلي البر وعلي الدينونة فعلي الخطيئة لأنهم لم يؤمنوا بي وعلي البر، لأني منطلق إلي الآب ولا تروني من بعد وعلي الدينونة، لأن زعيم هذا العالم قد دين (يوحنا 16 : 7 - 11) . يسلي المسيح حواريه ببعثه الفارقليط إليهم، ويربط بين رفعه إلي السماء، وبين بعثه الروح الفارقليط فهل من رابط شخصي أو زماني أو مكاني أو حياتي أو رسولي بين رفع المسيح وبعثه محمد ؟ وهل يصح أن ينطبق ذلك علي "أحمد" بعد مئات السنين ؟. ورسالة الفارقليط، "الذي لا يستطيع العالم أن يراه، هي رسالة روحية، فلا يصح بحال أن تنسب إلي "أحمد" ورسالة الفارقليط هي تتمة متلاصقة لرسالة المسيح، وليست هكذا بعثه أحمد.

ورسالة الفارقليط هي الشهادة للمسيح وحده فهو يفحم العالم علي خطيئته لأنه لم يؤمن بالمسيح، ويفحم العالم بصحة الإيمان بالمسيح، وإن رفع إلي السماء، ويفحم العالم بنصر المسيح علي إبليس، زعيم هذا العالم، الذي رفع المسيح سلطان إبليس عنه وهذه رسالة لا يمكن أن يقوم بها "أحمد" ولا أي رسول بشر !

في حديث خامس يقول أخيراً "وعندي أيضاً أشياء كثيرة أقولها لكم، غير أنكم لا تطيقون حملها الآن ولكن متي جاء هو، روح الحق، فإنه يرشدكم إلي الحقيقة كلها فإنه لا يتكلم من عند نفسه، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما يأتي إنه سيمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم جميع ما هو للآب هو لي من أجل هذا قلت لكم إنه يأخذ مما لي ويخبركم" (يوحنا 16 : 12 - 15). علم الفارقليط إلهي فهو يرشد رسل المسيح "إلي الحقيقة كلها" "ويخبرهم بما يأتي" - فهل يستطيع هذا "أحمد" مع حورايي المسيح ؟ وهو لا يعلم الغيب . علم الفارقليط إلهي أيضاً في مصدره ومصدره هو العلم الإلهي الواحد بين الله الآب والمسيح كلمته، "فجميع ما للآب هو لي، من أجل هذا قلت لكم، إنه يأخذ مما لي ويخبركم" - فهل يستمد "أحمد" علمه، ما يستمد ذاته، من الله الآب نفسه، ومن كلمته ذاته؟ . وعمل الفارقليط الإلهي يتم مع صحابة المسيح أنفسهم  : فهل كان "أحمد" فوق الزمان والمكان، مع صحابة المسيح ؟

وفصل الخطاب أن ذات الفارقليط، الروح القدس، إلهية، وصفاته إلهية، وأفعاله إلهية تلك هي شهادة النصوص الخمسة في الفارقليط أليس من الكفر القول بأن الفارقليط في الإنجيل هو "أحمد" ؟

ولا تصح هنا أيضاً  تحريف الإنجيل، لأن تلك النصوص الخمسة، مكتوبة علي الرق، محفوظة إلي  اليوم، من قبل القرآن بمئتي سنة ونيف. فهي شهادة تاريخيةن - إن لم نقل منزلة - علي إلهية الفارقليط، الروح القدس، فمن الكفر تطبيقها علي "أحمد" الرسول البشر. فإن ذكر "أحمد" لا أصل له لفظاً ولا معني في الإنجيل .

الخلاصة

والقول الفصل إن كلمتي "النبي الأمي" و"اسمه أحمد" هما من متشابهات القرآن وهما يتيمتان فيه، لا تؤيدهما نصوص أخري، كعادة القرآن في تعليمه وبيانه . وقرائن النصوص القريبة والبعيدة تدل جميعها علي أن كلمتي "النبي الأمي" و" اسم أحمد" هما مقحمتان علي القرآن من زمن تدوينه ولم يكن الجامعون للقرآن بمعصومين لمعرفة الصحيح من الدخيل فالاتهام موجه إلي جمع القرآن، لا إلي تنزيله . وإسقاط تلك الكلمتين من القرآن، لا ينقص منه شيئاً، ولا يطعن في صحة القرآن وحفظه، ولا يبدل من موقف القرآن تجاه التوراة والإنجيل شيئاً فوجودهما أو إسقاطهما لا يغيرمن واقع القرآن من شئ !


أول الصفحة

أرغب في توجيه سؤال لكم

صفحات أخرى ذات صلة بالموضوع

هل حقاً أتى الله تعالى في جسم بشر؟

لماذا يقول المسلمون بتحريف الكتاب المقدس؟

ماذا تخبرنا المخطوطات عن الكتاب المقدس؟

هل علم الكتاب المقدس عن التثليث؟

 الرجوع إلى قائمة " ركن الأسئلة المشهورة