الفصل الخامس

مشهوران لا أصل لهما


      * صحّة أخبار البخاري ومسلم
      * عدالة الصّحابة أجمعين



( 314 )



( 315 )


* لقائل أن يقول : لقد أوضحت ما كان غامضاً من أمر التحريف والقائلين به .. ولكنّ بحثك يشتمل على التجهيل والتفسيل لبعض الصحابة ، والطعن في الصحيحين ، وهذا مذهب جمهور أبناء السنّة في المسألتين !!
وأقول : نعم .. إنّ المشهور بين أهل السنّة هو القول بصحّة أخبار كتب اشتهرت بالصحاح .. فقالوا بصحّة كتب : البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجة وأبي داود .. وهذه هي الكتب المعروفة عندهم بالصحاح .. ومنهم من زاد عليها الموطّأ ، أو نقص منها سنن ابن ماجة .. لكن لا كلام بينهم في كتابي البخاري ومسلم ، بل ادّعي الإجماع على صحّة ما في هذين الكتابين وأنّهما أصحّ الكتب بعد القرآن المبين ـ وإن اختلفوا في ترجيح أحدهما على الآخر ـ بل ادّعى جماعة منهم القطع بأحاديثهما ، وعلى هذا الأساس قالوا بأنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة (1) .
قال ابن حجر المكّي : « روى الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما اللذين هما أصحّ الكتب بعد القرآن بإجماع من يعتدّ به » (2) .
وقال أبو الصلاح : « أوّل من صنّف في الصحيح : البخاري أبو عبدالله محمد ابن إسماعيل ، وتلاوه أبو الحسين مسلم بن الحجّاج القشيري ، ومسلم مع أنّه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنّه يشارك البخاري في كثير من شيوخه ، وكتاباهما
____________
(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ـ مقدّمة الكتاب .
(2) الصواعق المحرقة : 5 .


( 316 )


أصحّ الكتب بعد كتاب الله العزيز » (1) .
وقال الجلال السيوطي : « وذكر الشيخ ـ يعني ابن الصلاح ـ أنّ ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته ، والعلم القطعي حاصل فيه . قال : خلافاً لمن نفى ذلك ، محتجّا بأنّه لا يفيد إلاّ الظنّ ، وإنّما تلقّته الأمّة بالقبول لأنّه يجب عليهم العمل بالظنّ والظّن قد يخطئ ، قال : وكنت أميل إلى هذا وأحسبه قويّاً ، ثمّ بان لي أن الذي اخترناه أوّلاً هو الصحيح ، لأنّ ظنّ من هو معصوم عن الخطأ لا يخطئ ، والامّة في إجماعها معصومة من الخطأ ، ولهذا كان الإجماع المبني على الإجتهاد حدّة مقطوعاً بها ، وقد قال إمام الحرمين : لو حلف إنسان بطلان امرأته أنّ ما في الصحيحين ـ ممّا حكما بصحّته ـ من قول النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ألزمته الطلاق ، لإجماع علماء المسلمين على صحّته .
قال المصنّف : وخالفه المحقّقون والأكثرون فقالوا : يفيد الظنّ ما لم يتواتر . قال في شرح مسلم : لأنّ ذلك شأن الآحاد ، ولا فرق في ذلك بين الشيخين وغيرهما ، وتلقّي الامّة بالقبول إنّما أفاد وجوب العمل بما فيهما من غير توقّف على النظر فيه ، بخلاف غيرهما فلا يعمل به حتى ينظر فيه يوجد فيه شروط الصحيح ، ولا يلزم من إجماع الامّة على العمل بما فيهما إجماعهم على القطع بأنّه كلام النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ . قال : وقد اشتدّ إنكار ابن برهان على من قال بما قاله الشيخ ، وبالغ في تغليطه .
وكذا عاب ابن عبدالسلام على ابن الصلاح هذا القول وقال : إنّ بعض المعتزلة يرون أنّ الامّة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحّته ، قال : وهو مذهب رديء .
____________
(1) علوم الحديث لأبي الصلاح . وعنه في مقدّمة فتح الباري : 8 .


( 317 )


قال البلقيني : ما قاله النووي وابن عبدالسلام ومن تبعهما ممنوع ، فقد نقل بعض الحفّاظ المتأخّرين مثل قول ابن الصلاح عن جماعة من الشافعية ، كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيّين ، والقاضي أبي الطيّب ، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وعن السرخسي من الحنفية ، والقاضي عبدالوهّاب من المالكية ، وأبي يعلى وابن الزاغوني من الحنابلة ، وابن فورك وأكثر أهل الكلام من الأشعرية ، وأهل الحديث قاطبة ، ومذهب السلف عامّة . بل بالغ ابن طاهر المقدسي في ( صفوة التصوّف ) فألحق به ما كان على شرطها وإن لم يخرجاه . وقال شيخ الإسلام : ما ذكره النووي مسلّم من جهة الأكثرين ، أمّا المحقّقون فلا . وقد وافق ابن اصلاح أيضاُ محقّقون ... وقال ابن كثير : وأنا مع ابن الصلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه .
قلت : وهو الذي أختاره ولا اعتقد سواه » (1) .
وقال أحمد بن عبدالرحيم الدهلوي في ( حجّة الله البالغة ) : « وأمّا الصحيحان فقد اتّفق المحدّثون على أنّ جميع ما فيهما من المتّصل المرفوع صحيح بالقطع ، وأنّهما متواتران إلى مصنّفيهما وأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين » .
أقول : إنّ البحث عن « الصحيح » و « الصحاح » و « الصحيحين » طويل عريض لا نتطرّق هنا إليه ، عسى أن نوفّق لتأليف كتاب فيه ... لكنّا نقول بأنّ الحقّ مع من خالف ابن الصلاح ، وأنّ ما ذكره الدهلوي مجازفة ، وأنّ الإجماع على أحاديث الصحيحين (2) غير قائم .. نعم .. ذاك هو المشهور .. لكنّه لا أصل له .. وسنبّين هذا بإيجاز :
____________
(1) تدريب الراوي ـ شرح تقريب النواوي 1 : 131 ـ 134 .
(2) ونخصّ الصحيحين بالبحث ، لأنّه إذا سقط ما قيل في حقّهما سقط ما قيل في حق غيرهما بالأولوية ، ونعبّر عنهما بالصحيحين لأنّهما موسوما بهذا الاسم .


( 318 )


الكلام حول الصحيحين

والحقيقة ... أنّا لم نفهم حتى الآن السبب في تخصيص هذا الشأن بالكتابين ، وذكر تلك الفضائل لهما (1) دون غيرهما من كتب المصنّفين !!
ألم يصنّف مشايخ الرجلين وأئمّة الحديث من قبلهما في الحديث ؟!
ألم يكن في المتأخّرين عنهما من هو أعرف بالحديث الصحيح منهما ؟!
ألم يكن في المتأخرين عنهما من هو أعرف بالحديث الصحيح منهما ؟!
أليس قد فضّل بعضهم كتاب أبي داود على البخاري ، وقال الخطابي : « لم يصنّف في علم الحديث مثل سنن أبي داود ، وهو أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من الصحيحين » (2) ؟!
أليس قد قال ابن الأثير : « في سنن الترمذي ما ليس في غيرها من ذكر
____________
(1) ذكروا للبخاري خاصّة ما لا يصدّق ، ففي مقدّمة فتح الباري ـ ص 11 ـ : ذكر الإمام القدوة أبو محمد بن أبي جمرة في اختصاره للبخاري ، قال : قال لي من لقيمته من العارفين ممّن لقي من السادة المقرّ لهم بالفضل : إنّ صحيح البخاري ما قرئ في شدّة إلاّ فرّجت ، ولا ركب به في مركب فغرق ؛ قال : وكان مجاب الدعوة وقد دعا لقارئه » وفيها ـ ص 490 ـ : قال شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي ـ فيما قرأنا على فاطمة وعائشة بنتي محمد بن الهادي ـ : إنّ أحمد بن أبي طالب أخبرهم ، عن عبدالله بن عمر بن علي ، أنّ أبا الوقت أخبرهم عنه سماعاً ، أخبرنا أحمد بم محمد بن إسماعيل الهروي ، سمعت خالد بن عبدالله المروزي ، يقول : سمعت أبا سهل محمد بن أحمد المروزي ، يقول : سمعت أبا زيد المروزي ، يقول : كنت نائماً بين الركن والمقام فرأيت النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في المنام فقال لي : يا أبا زيد ، إلى متى تدرس كتاب الشافعي ولا تدرس كتابي ؟! فقلت : يا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ وما كتابك ؟! قال : جامع محمد بن إسماعيل .
(2) ذكره الأدفوي في عبارته الآتية .


( 319 )


المذاهب ووجوه الإستدال وتبيين أنواع الحديث من الصحيح والحسن والغريب » ؟!
أليس قد قيل في النسائي : إنّ له شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم ؟! (1) .
أليس قد وصف غير الكتابين من كتب الحديث بما يقتضي الترجيح عليهما ؟!
إنّه لم يكن للرجلين هذا الشأن في عصرهما وبين أقرانها .. فلماذا هذا التضخيم لهما فيما بعد ؟!
لا ندري .. هل للسياسة دور في هذه القضية كما كان في قضية حصر المذاهب ؟ أو أنّ شدّة تعصّبهما ضدّ أهل البيت عليهم السّلام هو الباعث لترجيح أبناء السنّة كتابيهما على سائر الكتب ؟!
لكنّي أرى أنّ السبب كلا الأمرين .. لأنّ السلطات ـ في الوقت الذي كانت تضيّق على أئمّة أهل البيت عليهم السّلام وتلامذتهم ورواة حديثهم وعلماء مدرستهم ـ كانت تدعو إلى عقائد المخالفين لهم وتروّج كتبهم وتساعد على نشرها .. ومن الطبيعي أن يتقدّم كلّ من كا أكثر عداوة وأشدّ تعصّباً في هذا الميدان ..
قال السيد شرف الدين : « .. وأنكى من هذا كلّه عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمّة أهل البيت النبوي ، إذ لم يرو شيئاً عن الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي والعسكري وكان معاصراً له ، ولا روى عن الحسن بن
____________
(1) البداية والنهاية 11 : 123 ، تهذيب الكمال ذ1 : 172 ، طبقات الشافعية للسبكي 3 : 16 ، الوافي بالوفيات 6 : 417 .


( 320 )


الحسن ، ولا عن زيد بن علي بن الحسين ، ولا عن يحيى بن زيد ، ولا عن النفس الزكيّة محمد بن عبدالله الكامل ابن الحسن الرضا به الحسن السبط ، ولا عن أخيه إبراهيم بن عبدالله ، ولا عن الحسين الفخّي ابن علي بن الحسن بن الحسن ، ولا عن يحيى بن عبدالله بن الحسن ، ولا عن أخيه إدريس بن عبدالله ، ولا عن محمد بن جعفر الصادق ، ولا عن محمد بن إبراهيم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن الحسن بن الحسن المعروف بابن طباطبا ، ولا عن أخيه القاسم الشرسي ، ولا عن محمد بن زيد بن علي ، ولا عن محمد بن القاسم بن علي بن عمر الأشرف بن زيد العابدين صاحب الطالقان المعاصر للبخاري ، ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة وأغصان الشجرة الزاهرة ، كعبدالله بن الحسن وعلي بن جعفر العريضي وغيرهما ، ولم يرو شيئاً عن حديث سبطه الأكبر وريحانته من الدنيا أبي محمد الحسن المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة .. مع احتجاجه بداعية الخوارج وأشدّهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطّان القائل في ابن ملجم وضربته لأمير المؤمنين عليه السّلام :


يا ضربة من تقيّ ما أراد بها * إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكـره يـوماً فأحسبه * أوفى البريّة عند الله ميزانا » (1)

نعم .. هكذا فعلت السلطات .. والعلماء والمحدّثون .. المتربّعون على موائدهم ، والسائرون على ركابهم ، الآخذون منهم مناصبهم ورواتبهم ، يتسابقون في تأييد خططهم وتوجيهها ، تزلّفاً إليهم وتقرّباً منهم .. حتى بلغ الأمر بهم إلى وضع الفضائل للكتابين ومؤلفيهما .. ثم دعوى الإجماع على قطعيّة أحاديثهما ، وعلى تلقّي الامّة إيّاها بالقبول .. ثم القول بأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو
____________
(1) الفصول المهمّة في تأليف الامّة : 168 .


( 321 )


مبتدع متبّع غير سبيل المؤمنين .
تماماً كالذي فعلوا ـ بوحي من السلطات ـ في قضية حصر المذاهب ، حيث أفتوا بحرمة الخروج عن تقليد الأربعة مستدلّين بالإجماع ، فعودي من تمذهب بغيرها ، وانكر عليه ، ولم يولّ قاضٍ ولا قبلت شهادة أحد ما لم ملّقداً لأحد هذه المذاهب .
لقد كان التعصّب ضدّ أهل البيت الأطهار عليهم السّلام ، خير وسيلة للتقرّب إلى أحكّام وللحصول على الجاه والمقام .. في بعض الأدوار .. فكلّما كان التعصّب أشدّ وأكثر كان صاحبه أفضل وأشهر .. ولذا تراهم يقدّمون كتاب البخاري ـ بالرغم من أنّ لكتاب مسلم مزايا لأجلها قال جماعة بأفضليّته ـ لأنّه لم يخرّج ما أخرجه مسلم من مناقب أهل البيت كحديث الثقلين .. وتراهم يقدحون في الحاكم وفي مستدركه على الصحيحين .. لأنّه أخرج فيه فيما ما لم يخرجاه .. وإن كان واجداً لكلّ ما اشترطاه .
ويشهد بذلك تضعيفهم الحديث الوارد فيهما إذا كان فيه دلالة أو تأييد لمذهب الشيعة .. كما طعن ابن الجوزي وابن تيميّة في حديث الثقلين .. وطعن الآمدي ومن تبعه في حديث : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى » .. المخرّج في الصحيحين .
فهذا هو الأصل في كلّ ما ادّعوا في حقّ الكتابين .. إنّه إلاّ التعصّب .. وإلاّ فإنّهما يشتملان على الصحيح وغيره كسائر الكتب ، وصاحباهما محدّثان كسائر الرجال .. فها هنا مقامات ثلاثة :


( 322 )


(1)
آراء العلماء في الشيخين

إمتناع أبي زرعة من الرواية ع البخاري
1 ـ لقد امتنع أبو زرعة عبدالله بن عبدالكريم الرازي من الرواية عن البخاري ، أمّا مسلم فقد ذكر صحيحه فقال : « هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به » .
* هذا رأي أبي زرعة في الرجلين ، ذكر ذلك جماعة من الأعلام ، قال الذهبي : « قال سعيد البرذعي : شهدت أبا زرعة ذكر صحيح مسلم فقال : هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به ، وأتاه رجل ـ وأنا شاهد ـ بكتاب مسلم ، فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر فقال : ما أبعد هذا عن الصحيح ! .. ثم رأى قطن بن نسير فقال لي : وهذا أطمّ من الأول ، قطن بن نسير يصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس .. ثم نظر فقال : يروي عن أحمد ابن عيسى في الصحيح ! ما رأيت أهل مصر يشكّون في أنّه ـ وأشار إلى لسانه ـ » (1) .
وقال : « قال أبو قريش الحافظ : كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم بن الحجّاج فسلّم عليه وجلس ساعة وتذاكرا ، فلمّا قام قلت له : هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح . قال : فلمن ترك الباقي ؟! ثمّ قال : هذا ليس له عقل ، لو
____________
(1) تذهيب التهذيب ـ ترجمة أحمد بن عيسى المصري ، ميزان الاعتدال 1 : 125 .


( 323 )


دارى محمد بن يحيى لصار رجلاً » (1) .
وقال الذهبي في ترجمة على بن المديني شيخ البخاري : « علي بن عبدالله بن جعفر ابن الحسن الحافظ ، أحد الأعلام الأثبات ، وحافظ العصر ، ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع ، فقال : جنح إلى ابن داود والجهمية ، وحديثه مستقيم إن شاء الله . قال لي عبدالله بن أحمد : كان أبي حدّثنا عنه ، ثم أمسك عن اسمه وكان يقول : حدّثنا رجل ، ثمّ ترك حديثه بعد ذلك . قلت : بل حديثه عنه في مسنده ، وقد تركه إبراهيم الحربي وذلك لميلة إلى أحمد بن أبي داود ، فقد كان محسناً إليه .
وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحة لهذا المعنى ، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه محمد (2) لأجل مسألة اللفظ . وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم : كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة » (3) .
وقال المناوي في ترجمة البخاري : « زين الامّة ، إفتخار الأئمّة ، صاحب أصحّ الكتب بعد القرآن .. وقال المذهبي : كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة . هذه عبارته في الكاشف . ومع ذلك غلب عليه الغضّ من أهل السنّة ، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين : ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ ، تركه لأجلها الرازيّان (4) . هذه عبارته واستغفر الله تعالى ، نسأل الله السلامة ونعوذ به
____________
(1) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة محمد بن يحيى الذهلي 12 : 280 .
(2) هو محمد بن إسماعيل البخاري .
(3) ميزان الاعتدال 3 : 138 .
(4) هما : أبو زرعة الرازي وأبو حاتم الرازي .


( 324 )


من الخذلان » (1) .

ترجمة أبي زرعة الرازي
وقد ترجم الذهبي وابن حجر وغيرهما أبا زرعة ترجمة حافلة وأوردوا كلمات القوم في إمامته وثقته وحفظه وورعه بما يطول ذكره ، والجدير بالذكر قول الذهبي في آخر ترجمته : « قلت : يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل يبين عليه الورع والخبرة » (2) .
وقول أبي حاتم في حقّه : « إذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنّه مبتدع » (3) .
وقول ابن حبّان : « كان أحد أئمّة الدنيا في الحديث ، مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة وترك الدنيا وما فيه الناس » (4) .
وقول ابن راهويه : « كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل » (5) .

إمتناع أبي حاتم من الرواية عن البخاري
2 ـ وامتنع أبو حاتم الرازي من الرواية عن البخاري .. كما عرفت .
____________
(1) فيض القدير 1 : 24 .
(2) سير أعلام النبلاء 13 : 81 .
(3) تهذيب التهذيب 7 : 30 .
(4) تهذيب التهذيب 7 : 30 .
(5) سير أعلام النبلاء 13 : 71 ، تهذيب التهذيب 7 : 29 ، الكاشف 2 : 201 .


( 325 )


تكلّم الذهلي في البخاري ومسلم
3 ـ وتكلّم محمد بن يحيى الذهلي في البخاري ، وكذا إخراجه مسلماً من مجلس بحثه ، مذكور في جميع كتب التراجم ..
قال الذهبي عن الحاكم : « وسمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول : لمّا استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الإختلاف إليه ، فلمّا وقع بين الذهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادى عليه ومنع الناس عنه ، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم ، فقال الذهلي يوماً : ألا من قال باللفظ فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا ، فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس الناس ، وبعث إلى الذهلي ما كتب عنه على ظهر حمّال ، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه .
قال : وسمعت محمد بن يوسف المؤذّن : سمعت أبا حامد بن الشرقي يقول : حضرت مجلس محمد بن يحيى ، فقال : ألا من قال : لفظي بالقرآن مخلوق فلا يحضر مجلسنا ، فقام مسلم بن الحجّاج عن المجلس ، رواها أحمد بن منصور الشيرازي عن محمد بن يعقوب ، فزاد : وتبعه أحمد بن سلمة .
قال أحمد بن منصور الشيرازي : سمعت محمد بن يعقوب الأخرم ، سمعت أصحابنا يقولون : لمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي قال : لا يساكنني هذا الرجل في البلد . فخشي البخاري وسافر » (1) .
____________
(1) سير أعلام النبلاء 12 : 460 ، هدى الساري في مقدّمة فتح الباري 2 : 264 .


( 326 )


ترجمة الذهلي
وترجم له الخطيب فقال : « كان أحد الآئمة والعارفين والحفّاظ المتقنين والثقات المأمونين ، صنّف حديث الزهري وجوّده ، وقدم بغداد وجالس شيوخها وحدّث بها ، وكان الإمام أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله ، وقد حدّث عنه جماعة من الكبراء » فذكر كلمات الثناء عليه حتى نقل عن بعضهم قوله : « كان أمير المؤمنين في الحديث » (1) .
والجدير بالذكر رواية البخاري عنه بالرغم ممّا كان منه في حقّه ، لكن مع تدليس في اسمه ، قال الذهبي : « روى عنه خلائق منهم .. محمد بن إسماعيل البخاري ، ويدلّسه كثيراً ، لا يقول : محمد بن يحيى ، بل يقول : محمد فقط ، أو محمد ابن خالد ، أو محمد بن عبدالله ، ينسبه إلى الجدّ ويعمّي اسمه لمكان الواقع بينهما » (2) .

البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل )
4 ـ وأورد بن أبي حاتم البخاريّ في كتاب ( الجرح والتعديل ) وقال ما نصّه : « قدم محمد بن إسماعيل الريّ سنة 250 وسمع منه أبي وأبو زرعة ، وتركا حديثه عندما كتب إليهما محمد بن يحيى أنّه أظهر عندهم بنيسابور أنّ لفظه بالقرآن
____________
(1) تاريخ بغداد 3 : 415 .
(2) سير أعلام النبلاء 12 : 274 .


( 327 )


مخلوق » (1) .

ترجمة ابن أبي حاتم
وقد وصفوا ابن أبي حاتم بالإمامة والحفظ والثقة والزهد ، بل قالوا : « كان يعدّ من الأبدال » (2) . وقال الذهبي : « له كتاب نفيس في الجرح والتعديل » (3) . وعن ابن مندة : « له الجرح والتعديل في عدّة مجلّدات ، تدلّ على سعة حفظه وإمامته » (4) .

طعن إبن الأعين في البخاري
5 ـ وقال أبو بكر ابن الأعين : « مشايخ خراسان ثلاثة : قتيبة ، وعلي بن حجر ، ومحمد بن مهران الرازي . ورجالها أربعة : عبدالله بن عبدالرحمن السمرقندي ، ومحمد بن إسماعيل البخاري ـ قبل أن يظهر ـ ومحمد بن يحيى ، وأبو زرعة » (5) .
وقوله : « قبل أن يظهر » طعن كما هو ظاهر .
وابن الأعين من أكابر الحفّاظ الأعلام ، كما في تاريخ بغداد 2 | 128 والمنتظم 6 | 59 وسير أعلام النبلاء 13 | 566 وغيرها . توفي سنة 293 .
____________
(1) الجرح والتعديل 7 : 191 .
(2) سير أعلام النبلاء 103 : 264 ، مرآة الجنان 2 : 289 ، فوات الوفيات 2 : 288 .
(3) سير أعلام النبلاء 13 : 264 .
(4) فوات الوفيات 2 : 288 .
(5) سير أعلام النبلاء ـ ترجمة على بن حجر 11 : 50 .


( 328 )


البخاري في كتاب ( الضعفاء للذهبي )
6 ـ وأورد الذهبي البخاري في كتاب « ميزان الإعتدال في نقد الرجال » وكتاب « المغني في الضعفاء » (1) وهو ما استنكره المناوي في عبارته آنفة الذكر .


(2)
آراء العلماء في الصحيحين

وتضمّنت الكلمات السالفة الذكر ـ عن جمع من أعلام الجرح والتعديل الّذين يكفي قدح الواحد منهم للسقوط عن درجة الاعتبار ـ الطعن في الصحيحين أو أحدهما . وفي ذلك كفاية في وهن دعوى الإجماع على تلقّي الامّة (2) أحاديثهما بالقبول .. وهنا نتعرّض لآراء عدّة من الأكابر السابقين واللاحقين في حكم أحاديث الصحيحين .

معلومات عن الصحيحين
وقبل الورود في ذلك نذكر معلوماتٍ نقلاً عن شرّاح الكتابين والعلماء
____________
(1) ميزان الاعتدال 3 : 485 ، المغني 2 : 557 .
(2) مضافاً إلى أنّ الشيعة الاثني عشرية ، والزيدية والحنفية ، والظاهرية لا يقولون بذلك وهم من هذه الأمّة .


( 329 )


المحقّقين في الحديث :
1 ـ قد انتقد حفّاظ الحديث البخاري في «110» أحاديث ، منها «32» حديثاً وافقه مسلم فيها ، و «78» انفرد هو بها (1) .
2 ـ الّذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم « أربعمائة وبضعه وثلاثون » رجلاً . المتكلّم فيه بالضعف منهم «80» رجلاً . والّذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري «620» رجلاً ، المتكلّم فيه بالضعف منهم «160» رجلاً (2) .
3 ـ الأحاديث المنتقدة المخرّجة عندهما معاً بلغت «210» حديثاً ، اختصّ البخاري منها بأقلّ من «80» حديثاً ، والباقي يختصّ بمسلم (3) .
4 ـ هناك رواة يروي عنهم البخاري ، ومسلم لا يرتضيهم ولايروي عنهم ، ومن أشهرهم : عكرمة مولى ابن عبّاس .
5 ـ قد اتفّق الشيخان على الرواية عن أقوام انتقدهم أصحاب الصحاح الاخرى وأئمّة المذاهب .. ومن أشهرهم : محمد بن بشّار .. حتى نسب إلى الكذب (4) .
6 ـ إنّه قد اختلف عدد أحاديث البخاري في روايات أصحابه لكتابه ، وقال ابن حجر : عدة ما في البخاري من المتون الموصولة بلا تكرار «2602» ومن المتون المعلّقة المرفوعة « 159» ، فالمجموع «2761» ، وقال في شرح
____________
(1) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(2) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(3) مقدّمة فتح الباري : 9 .
(4) ميزان الاعتدال 3 : 490 .


( 330 )


البخاري : إنّ عدّته على التحرير « 2513 » حديث (1) .
7 ـ إنّ البخاري ما قبل أن يبيّض كتابه ، ولذا اختلفت نسخه ورواياته (2) .
8 ـ إن البخاري لم يكن يكتب الحديث في مجلس سماعه ، بل بلده ؛ فعن البخاري أنّه قال : ربّ حديث سمعته بالبصرة كتبته بالشام ، وربّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر ، فقيل له : يا أبا عبدالله بكماله ؟! فسكت » (3) .
أمّا مسلم فقد « صنّف كتابه في بلده بحضور اصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرّ في الألفاظ ويتحرّى في السياق ... » (4) .
وبعد ، فإنّ دعوى تلقّي الامّة أحاديث الصحيحين بالقبول وقيام الإجماع عن صحّتها .. لا أساس لها من الصحّة .. لما تقدّم .. ويأتي :

النووي
1 ـ النووي : « ليس كلّ حديث صحيح يجوز العمل به فضلاً عن أن يكون العمل به واجباً » (5) وقال : « وما يقوله الناس : إنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا من التجوّه ولا يقوى » (6) .
____________
(1) أضواء على السنّة المحمّدية : 307 .
(2) انظر : مقدّمة فتح الباري : 6 ، أضواء على السنّة المحمّدية : 301 .
(3) تاريخ بغداد 2 : 11 .
(4) مقدّمة فتح الباري : 10 .
(5) التقريب في علم الحديث ، عنه في منتهى الكلام في الردّ على الشيعة : 27 .
(6) المنهاج في شرح صحيح مسلم ، وعنه أضواء على السنّة المحمّدية : 313 ، « والتجّوه » طلب الجاه بتكلّف .


( 331 )


ابن الهمام
2 ـ كمال الدين ابن لهمام : « وقول من قال : أصحّ الأحاديث ما في الصحيحين ، ثم ما انفرد به البخاري ، ثم ما انفرد به مسلم ، ثم ما اشتمل على شرطهما ، ثم ما اشتمل على شرط أحدهما ، تحكّم لا يجوز التقليد فيه ، إذا الأصحّيّة ليست إلا لاشتمال رواتهما على الشروط التي اعتبراها ، فإن فرض وجود تلك الشروط في رواة حديث في غير الكتابين ، أفلا يكون الحكم بأصحيّة ما في الكتابين عين التحكّم ؟! » (1) .

أبو الوفاء القرشي (2)
3 ـ أبو الوفاء القرشي : « فائدة : حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في مسلم وغيره ـ يشتمل على أنواع منها التورّك في الجلسة الثانية ـ ضعّفه الطحاوي .. ولا يحنق علينا لمجيئه في مسلم ، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوى عند الإصطلاح ، فقد وضع الحافظ الرشيد العطّار على الأحاديث المقطوعة المخرّجة في مسلم كتاباً سماّه بـ ( غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة ) وبيّنها الشيخ محيي الدين في أوّل شرح مسلم .
وما يقوله الناس : إن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً من
____________
(1) شرح الهداية في الفقه ، وعنه في أضواء على السنّة المحمّدية : 312 .
(2) ترجمته في : حسن المحاضرة 1 : 471 ، الدرر الكامنة 2 : 392 ، شذرات الذهب 6 : 238 .


( 332 )


التحنّق ولا يقوى ، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث بن أبي مسلم وغيره من الضعفاء ، فيقولون : إنّما روى في كتابه للإعتبار والشواهد والمتابعات والإعتبارات ، وهذا لا يقوى ، لأنّ الحفّاظ قالوا : الإعتبار والشواهد والمتابعات والإعتبارات امور يتعرّفون بها حال الحديث ، وكتاب مسلم التزم فيه الصحّة ، فكيف يتعرّف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة .
واعلم أنّ ( عن ) مقتضية للإنقطاع عند أهل الحديث ، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شيء كثير ، فيقولون على سبيل التحنّق : ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع ، وما كان في الصحيحين فمحمول على الإتّصال .
وروى مسلم في كتابه عن أبي الزبير عن جابر أحاديث كثيرة بالعنعنة ، وقال الحافظ : أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس المكّي يدلّس في حديث جابر ، فما كان يصفه بالعنعة لا يقبل ، وقد ذكر ابن حزم وعبدالحقّ عن الليث بن سعد أنّه قال لأبي الزبير : علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتى أسمعها منك ، فعلّم لي أحاديث أظنّ أنّها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه ، قال الحافظ : فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر صحيح .
وقد روى مسلم في كتابه أيضاً عن جابر وابن عمر في حجّة الوداع : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ توجّه إلى مكّة يوم النحر ، وطاف طواف الإفاضة ، ثم رجع فصلّى الظهر بمنى ، فينحنقون ويقولون : أعادها لبيان الجواز ، وغير ذلك من التأويلات ، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين : إحداهما كذب بلا شكّ .
وروى مسلم أيضاً حديث الإسراء وفيه : « وذلك قبل أن يوحى إليه » وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللفظة وبيّنوا ضعفها .

 

وروى مسلم أيضأ : « خلق الله التربة يوم السبت » ، واتفّق الناس على أنّ يوم السبت لم يقع فيه خلق .
وروى مسلم عن أبي سفيان أنّه قال للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لمّا أسلم : يا رسول الله اعطني ثلاثاً : تزوّج ابنتي أمّ حبيبة ، وابني معاوية اجعله كاتباً ، وأمّرني أن اقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين ، فأعطاه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، والحديث معروف مشهور . وفي هذا من الوهم ما لا يخفى ، فامّ حبيبة تزوّجها رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبي ـ صلّى الله وآله وسلّم ـ أربعمائة دينار ، وحضر وخطب وأطعم ، والقصّة مشهورة . وأبو سفيان إنّما أسلم عام الفتح وبين الهجرة إلى الحبشة والفتح عدّة سنين ، ومعاوية كان كاتباً للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من قبل ، وأمّا إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ : إنّهم لا يعرفونها .
فيجيبون على سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة فيقولون في نكاح ابنته : إعتقد أن نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر ، فأراد من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ تجديد النكاح . ويذكرون عن الزبير بن بكّار بأسانيد ضعيفة أنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أمّره في بعض الغزوات ، وهذا لا يعرف .
وما حملهم على هذا كلّه بعض التعصّب ، وقد قال الحافظ : إنّ مسلماً لمّا وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرازي فأنكر عليه وقال : سمّيته الصحيح فجعلت سلّماً لأهل البدع وغيرهم ، فإذا روى لهم المخالف حديثاً يقولون : هذا ليس في صحيح مسلم ؛ فرحم الله تعالى أبا زرعة فقد نطق بالصواب ، فقد وقع هذا .


( 334 )


وما ذكرت ذلك كلّه إلاّ أنّه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورّك ، فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أولاً ، فأجبته بتضعيف الطحاوي فما تلفّظ وقال : مسلم يصحّح والطحاوي يضعّف ، والله تعالى يغفر لنا وله آمين » (1) .

الأدفوي
4 ـ أبو الفضل الأدفوي (2) : « ثم أقول : إنّ الامّة تلقّت كلّ حديث صحيح وحسن بالقبول ، وعملت به عند عدم المعارض ، وحينئذ لا يختصّ بالصحيحين ، وقد تلقّت الامّة الكتب الخمسة أو الستّة بالقبول وأطلق عليها جماعة اسم ( الصحيح ) ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره .
قال أبو سليمان أحمد الخطّابي : كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنّف في حكم الدين كتاب مثله ، وقد زرق من الناس القبول كافّة ، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وكتاب السنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم .
وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي : سمعت الإمام أبا الفضل عبدالله بن محمد الأنصاري بهراة يقول : وقد جرى بين يديه ذكر أبي عيسى الترمذي وكتابه فقال ـ : كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم .
وقال الإمام أبو القاسم سعيد بن علي الزنجاني : إنّ لأبي عبدالرحمن النسائي شرطاً في الرجال أشدّ من شرط البخاري ومسلم .
____________
(1) الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية 2 : 428 ـ 430 .
(2) ترجمته في : الدرر الكامنة 2 : 72 ، النجوم الزاهرة 10 : 237 ، البدر الطالع 1 : 182 ، حسن المحاضرة 1 :320 ، شذرات الذهب 6 : 153 .


( 335 )


وقال أبو زرعة الرازي لمّا عرض عليه ابن ماجة السنن كتابه : أظنّ إن وقع هذا في أيدي الناس تعطّلت هذه الجوامع كلّها ، أو قال : أكثرها .
ووراء هذا بحث آخر وهو : أنّ قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح : إنّ الامّة تلقّت الكتابين بالقبول ، إن أراد كلّ الامّة فلا يخفى فساد ذلك ، إذ الكتابان إنّما صنّفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، وأئمّة المذاهب الأربعة ، ورؤوس حفّاظ الأخبار ونقّاد الآثار المتكلّمين في الطرق والرجال ، المميّزين بين الصحيح والسقيم .
وإن أراد بالأمّة الّذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الامّة ، فلا يستقيم له دليله الذي قرّره من تلقّي الامّة وثبوت العصمة لهم ، والظاهرية إنّما يعتنون بإجماع الصحابة خاصة ، والشيعة لا تعتدّ بالكتابين وطعنت فيهما ، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع والإنعقاد .
ثم إن أراد كلّ حديث فيهما تلقّي بالقبول من الناس كافّة فغير مستقيم ، فقد تكلّم جماعة من الحفّاظ في أحاديث فيهما ، فتكلّم الدار قطني في أحاديث وعلّلها ، وتكلّم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الإسراء ، قال : إنّه خلط ، ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها ، والقطع لا يقع التعارض فيه .
وقد اتّفق البخاري ومسلم على إخراج حديث « محمد بن بشّار بندار » وأكثرا من الإحتجاج بحديثه ، وتكلّم فيه غير واحد من الحفّاظ ، أئمّة الجرح والتعديل ، ونسب إلى الكذب ، وحلف عمرو بن علي الفلاس شيخ البخاري أنّ بندار يكذب في حديثه عن يحيى ، وتكلّم فيه أبو موسى ، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود : هذا كذب ، وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه ،


( 336 )


وكان القواريري لا يرضاه .
وأكثرا من حديث « عبد الرزّاق » والإحتجاج به ، وتكلّم فيه ونسب إلى الكذب .
وأخرج مسلم عن « أسباط بن نصر » وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره .
وأخرج أيضاً عن « سماك بن حرب » وأكثر عنه ، وتكلّم فيه غير واحد ، وقال الإمام أحمد بن حنبل : هو مضطرب الحديث ، وضعّفه أمير المؤمنين في الحديث شعبة ، وسفيان الثوري ؛ وقال يعقوب بن شعبة : لم يكن من المتثبّتين ؛ وقال النسائي : في حديثه ضعف ؛ قال شعبة : كان سماك يقول في التفسير عكرمة ، ولو شئت لقلت له : ابن عبّاس ، لقاله : وقال ابن المبارك : سماك ضعيف في الحديث ؛ وضعّفه ابن حزم قال : وكان يلقّن فيتلقّن .
وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول : كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان ... وذكر جماعة .
وأمثال ذلك يستغرق أوراقاً ، فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقّوهما بالقبول .
وإنّ أراد غالب ما فيهما سالم من ذلك لم يبق له حجّة » (1) .

القاري
5 ـ الشيخ علي القاري حول صحيح مسلم : « وقد وقع منه أشياء لا تقوى عند المعارضة ، وقد وضع الرشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة فيه ،
____________
(1) الإمتاع في أحكام السماع ، عنه في كتابنا الكبير : نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 6 :


( 337 )


وبيّنها الشيخ محيي الدين في أول شرح مسلم .
وما يقوله الناس : إنّ من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة ، هذا أيضاً من التجاهل والتساهل ... فقد روى مسلم في كتابه عن الليث ... » إلى آخر ما ذكره من الأمثلة لما قاله ، بعبارات تشبه عبارات الأدفوي ... (1) .

محبّ الله بن عبد الشكور
6 ـ الشيخ محبّ الله بن عبدالشكور صاحب « مسلّم الثبوت » .

عبدالعلي الأنصاري
7 ـ الشيخ عبدالعلي الأنصاري الهندي ـ شارح مسلّم الثبوت ـ ، وهذا كلامه مازجاً بالمتن : « ( فرع : إبن الصلاح وطائفة ) من الملقّبين بأهل الحديث ( زعموا أنّ رواية الشيخين ) محمد بن إسماعيل ( البخاري ومسلم ) بن الحجّاج صاحبي الصحيحين ( تفيد العلم النظري ، للإجماع على أنّ للصحيحين مزيّة ) على غيرهما ، وتلقّت الامّة بقبولهما ، والإجماع قطعي .
وهذا بهت ، فإنّ من رجع إلى وجدانه يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين ألبتّة ، وقد روي فيهما أخبار متناقضة ، فلو أفادت روايتهما علماً لزم تحقّق النقيضين في الواقع ( وهذا ) أي ما ذهب إليه ابن الصلاح وأتباعه ( بخلاف ما قاله الجمهور ) من الفقهاء والمحدّثين ، لأنّ انعقاد الإجماع على المزيّة على غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع ، والإجماع على مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد
____________
(1) انظر : نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الانوار 6 :


( 338 )


و ( لأنّ جلالة شأنهما وتلقّي الأمّة لكتابيهما والإجماع على المزيّة لو سلم لا يستلزم ذلك ) القطع والعلم ، فإنّ القدر المسلّم المتلقّى بين الامّة ليس إلاّ أنّ رجال مرويّاتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم ، وهذا لا يفيد إلاّ الظنّ ، وأمّا أنّ مرويّاتهما ثابتة عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فلا إجماع عليه أصلاً . كيف ولا إجماع على صحّة جميع ما في كتابيهما ، لأنّ روايتهما منهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع ، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه ، فأين الإجماع على صحّة مرويّات القدريّة ؟! » (1) .

ابن أمير الحاج
8 ـ ابن أمير الحاجّ (2) : « ثم ممّا ينبغي التنبّه له أنّ أصحّيّتهما على ما سواهم تنزّلاً إنّما تكون بالنظر إلى من بعدهما ، لا المجتهدين المتقدّمين عليهما ، فإنّ هذا مع ظهوره قد يخفى على بعضهم أو يغالط به » (3) .

المقبلي
9 ـ المقبلي (4) في كتابه ( العلم الشامخ ) : « في رجال الصحيحين من صرّح كثير من الأئمة بجرحهم ، وتكلّم فيهم من تكلّم بالكلام الشديد ، وإن كان لا
____________
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت 2 : 123 .
(2) ترجمته في : شذرات الذهب 6 : 328 ، الضوء اللامع 9 : 210 ، البدر الطالع 2 : 254 .
(3) التقرير والتحبير في شرح التحرير في اصول الفقه ، وعنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 314 .
(4) صالح بن مهدي ترجمته في : الأعلام 3 : 197 .


( 339 )


يلزمهما إلاّ العمل باجتهادهما » (1) .

محمد رشيد رضا
10 ـ السيّد محمد رشيد رضا ، بعد أن عرض للأحاديث المنتقدة على البخاري : « وإذا قرأت ما قاله الحافظ (2) فيها رأيتها كلّها في صناعة الفنّ ... ولكنّك إذا قرأت الشرح نفسه ( فتح الباري ) رأيت له في أحاديث كثيرة إشكالات (3) في معانيها أو تعارضها مع غيرها ، مع محاولة الجمع بين المختلفات وحلّ المشكلات بما يرضيك بعضه دون بعض » (4) .
وقال : « ممّا لا شكّ فيه أيضاً أنّه يوجد في غيرهما من دواوين السنّة أحاديث أصحّ من بعض ما فيهما ... ولا يخلو [ البخاري ] من أحاديث قليلة في متونها نظر قد يصدق عليه بعض ما عدّوه من علامة الوضع ، كحديث سحر بعضهم للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ الذي أنكره بعض العلماء كالإمام الجصّاص من المفسّرين المتقدّمين والاستاذ الإمام محمد عبده من المتأخّرين ، لأنّه معارض بقوله تعالى : ( إذ يقول الظالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحوراً * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلاً ) [ الإسراء 17 : 47 و 48 ] .
هذا ، وإنّ في البخاري أحاديث في امور العادات والغرائز ليست من اصول الدين ولا فروعه ، فإذا تأمّلتم هذا وذاك علمتم أنّه ليس من اصول الدين
____________
(1) العلم الشامخ ، وعنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 310 .
(2) هو الحافظ ابن حجر العسقلاني .
(3) قلت : سنشير على مواضع منها فيما سيأتي .
(4) المنار 29 : 41 .


( 340 )


ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكلّ حديث رواه البخاري مهما يكن موضوعه ، بل لم يشترط أحد في صحّة الإسلام ولا في معرفته التفصيلية ، الإطّلاع على صحيح البخاري والإقرار بكلّ ما فيه .
وعلمتم أيضاً أنّ المسلم لا يمكن أن ينكر حديثاً من هذه الأحاديث بعد العلم به إلاّ بدليل يقوم عنده على عدم صحّته متناً أو سنداً ، فالعلماء الّذين أنكروا صحّة بعض هذه الأحاديث لم ينكروها إلاّ بأدلّة قامت عندهم ، قد يكون بعضها صواباً وبعضها خطأً ، ولا يعدّ أحدهم طاعناً في دين الإسلام » (1) .

أبورية
11 ـ الشيخ محمود أبو ريّة ... فإنّه انتقد الصحيحين انتقاداً علمياً ، واستشهد في بحثه بكلمات العلماء من المتقدّمين والمتأخرين ... (2) .

أحمد أمين
12 ـ الدكتور أحمد أمين ـ حول البخاري ـ : « إنّ بعض الرجال الّذين روى لهم ثقات ، وقد ضعّف الحفّاظ من رجال البخاري نحو الثمانين ، وفي الواقع هذه مشكلة المشاكل ... » (3) .
____________
(1) المنار 2 : 104 ـ 105 .
(2) أضواء على السنّة المحمديّة : 299 ـ 316 .
(3) ضحى الإسلام 2 : 117 ـ 118 .


( 341 )


شكيب أرسلان
13 ـ الأمير شكيب أرسلان : « إنّ كثير بن من المسلمين ومن ذوي الحميّة الإسلامية وممّن لا ينقصهم شيء من الإيمان والإيقان ... لا يرون من الواجب الديني الإيمان بكلّ ما جاء في الصحيحين وغيرهما من الأحاديث ، لاحتمال أن يكون تطرّق إليها التبديل والتغيير أو دخلها الزيادة و النقصان ... » (1) .

أحمد محمد شاكر
14 ـ الشيخ أحمد محمد شاكر : « قد وقع في الصحيحين أحاديث كثيرة من رواية بعض المدلّسين » (2) .


(3)
الصحيحان في الميزان

هذا .. وقد ألّف بعض أعاظم القوم « علل الحديث » المخّرج في الصحيحين كالدار قطني .
وآخر « غريب الصحيحين » كالضياء المقدسي .
____________
(1) حاضر العالم الإسلامي 1 : 44 ـ 51 ، وعنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 326 .
(2) شرح ألفيّة السيوطي ، عنه في أضواء على السنّة المحمديّة : 311 .


( 342 )


وثالث : « نقد الصحيح » كالفيروز آبادي .
ورابع « التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح » كالزركشي .
وخامس « غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة » كالعطّار ...
ودافع ابن حجر العسقلاني عن البخاري وحاول رفع مشكلات حديثه في مقدّمة شرحه ، لكنّه أخفق في موضع واعترف بالإشكال وستعلم بعض ذلك ...

مقدّمة فيها مطلبان
وقبل الشروع في ذكر نماذج من الأحاديث المحكوم عليها بالوضع أو الضعف أو الخطأ .. المخرّجة في الصحيحين .. نذكّر بمطلبين :
1 ـ إنّا عندما نلاحظ كتب الحديث وعلومه عند القوم ، ونستعرض أحوال محدّثيهم ورواتهم ، نجد أنّهم يهتمّون برواية الحديث ونقله بسنده ومتنه ، ولا يعتنون بالنظر في معناه ومدلوله ، وأنّ الأوصاف والألقاب والمناقب والمراتب تعطى لمن كان أوسع جمعاً وأكثر رواية ، لا لمن أدقّ نظراً وأوفر درايةً ... ومن هنا كثرت منهم الأغلاظ الفاحشة ، حتى في الآيات القرآنية والأحكام الشرعية .

1 ـ آفات أهل الحديث :
قال ابن الجوزي : « إنّ اشتغالهم بشواذّ الحديث شغلهم عن القرآن ... إن عبدالله بن عمر بن أبان مشكدانة قرأ عليهم في التفسير : ( ويعوق وبشراً ) فقيل له : ( ونسراً ) فقال : هي منقوطة من فوق فقيل له : النقط غلط . قال : فارجع إلى الأصل .


( 343 )


قال الدار قطني : سمعت أحمد بن عبيدالله المنادي يقول : كنّا في دهليز عثمان ابن أبي شبية فخرج إلينا فقال : ( ن والقلم ) في أيّ سورة هو ؟
قال : وأمّا بيان إعراضهم عن الفقه شغلاً بشواذّ الأحاديث ، فقد رويت عنهم عجائب ... وقفت امرأة على مجلس في يحيى بن معين وأبو خيثمة وخلف ابن سالم في جماعة يتذاكرون الحديث ، فسمعتهم يقولون : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ورواه فلان ، وما حدّث به غير فلان ، فسألتهم المرأة عن الحائض تغسل الموتى ـ وكانت غاسلة ـ ؟ فلم يجبها أحد منهم ، وجعل بعضهم ينظر إلى بعض ، فأقبل أبو ثور فقالوا لها : عليك بالمقبل ، فالتفتت إليه فسألته فقال : نعم تغسل الميت بحديث عائشة : إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال لها : حيضك ليست في يدك ، ولقولها : كنت أفرق رأس رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بالماء وأنا خائض ، قال أبو ثور : فإذا فرقت رأس الحيّ فالميّت أولى به ، فقالوا : نعم ، رواه فلان وحدّثنا فلان ؛ وخاضوا في الطرق ، فقالت المرأة : فأين كنتم إلى الآن ؟! » (1) .
قال : « وقد كان فيهم مع كثرة سماه وجمعه للحديث من يرويه ولا يدري ما معناه ، وفيهم من يصحّفه ويغيره ... أخبرنا الدرا قطني : أنّ أبا موسى محمد بن المثنّى العنزي قال لهم يوماً : نحن قوم لنا شرف ، نحن من عنزة قد صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ إلينا ، لما روي أنّ النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ صلى الى عنزة ، توهّم أنّه صلى إلى قبلتهم ، وإنّما العنزة التي صلى إليها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ هي حربة » (2) .
____________
(1) آفة أصحاب الحديث ـ بتحقيق وتقديم وتعليق علي الحسيني الميلاني ـ : 44 .
(2) المصدر نفسه : 46 .


( 344 )


قال : « وقد كان أكثر المحدّثين يعرفون صحيح الحديث من سقيمه وثقات النقلة من مجروحيهم ثم يعابون لقلّة الفقه ، فكان الفقهاء يقولون للمحدّثين : نحن الأطبّاء وأنتم الصيادلة ... » (1) .
قال : « والآن فالغالب على المحدّثين السماع فحسب ، لا يعرفون صحابياً من تابعي ، ولا حديثاً مقطوعاً من موصول ، ولا صحّة إسناد من بطلانه ، وفرض مثل هؤلاء القبول ممّن يعلم ما جهلوه ... » (2) .
وبالجملة .. فإنّ هذا حال أهل الحديث .. إلاّ القليل منهم .. الّذين نظروا في الأحاديث وبحثوا عن أحوالها على أساس النظر في المفاد والمدلول ، فجاء عنهم الطعن والقدح في أحاديث كثيرة حتى من الصحيحين .. لأنّ الحديث إذا عارض الكتاب أو خالف الضرورة من الدين أو العقل أو التاريخ يكذّب وإن صحّ سنده .. وقد أشرنا إلى هذه القاعدة المقرّرة من قبل ..

2 ـ إنّه قد اختلف القوم في أسباب الجرح والتعديل
إنّه قد اختلف القوم في أسباب الجرح والتعديل اختلافاً فاحشاً ، فرُبّ راو هو موثوق به عند البخاري ومجروح عند مسلم كعكرمة مولى ابن عبّاس ، أو موثوق عندهما ومجروح عند غيرهما ... كما ذكرنا ..
ويتلخّص أنّ في أحاديث الصحيحين ما هو مطعون من جهة السند ، وما هو مطعون فيه من جهة دلالته على معنى تخالفه الضرورة من النقل أو العقل : وما هو مطعون فيه من الجهتين .. وإليك نماذج من هذه الأنواع :
____________
(1) المصدر نفسه : 49 .
(2) آفة أصحاب الحديث : 49 .


( 345 )


من الأحاديث الموضوعة والباطلة في الصحيحين
1 ـ أخرج البخاري في كتاب الطبّ بسنده عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أنّه قال في كسب المعلّمين : « إن أحق ما اخذ عليه الأجر كتاب الله » (1) .
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات ، حيث رواه بسنده عن ابن أبي مليكة عن عائشة ، وطعن في سنده ثم قال : « والحديث منكر » (2) .
2 ـ أخرج البخاري في كتاب التفسير عن ابن عباس قال « في ( إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيّته ) : إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم آياته » وفي رواية غيره أنه : « قرأ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ بمكّة : والنجم ... فلمّا بلغ : ( أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاخرى ) ألقى الشيطان في امنيّته ... » (3) .
قال الرازي : « أمّا أهل التحقيق فقد قالوا : هذا الرواية باطلة موضوعة وبيّن بطلانها .
وحكي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنّه سئل عن هذه القصّة فقال : إنّها من وضع الزنادقة .
وقال الإمام أبوبكر البيهقي : هذه القصّة غير ثابتة من جهة النقل » (4) .
____________
(1) صحيح البخاري 7 : 170 .
(2) الموضوعات 1 : 229 .
(3) لاحظ : إرشاد الساري 7 : 242 ـ 243 ، الدر المنثور 4 : 366 .
(4) تفسير الرازي 23 : 50 .


( 346 )


وقال القاضي عياض المالكي : « قد قامت الحجّة وأجمعت الامّة على عصمته ، صلى الله عليه وآله وسلم ـ ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة النقيصة ... » (1) ...
3 ـ قال ابن حزم في ( المحلى ) : « ومن طريق البخاري ، قال : هشام بن عمار ، نا صدقة بن خالد ، نا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر ، نا عطيّة بن قيس الكابلي ، نا عبدالرحمن بن غنم الأشعري ، حدّثني أبو عامر وأبو مالك الأشعري ـ والله ما كذبني ـ أنّه سمع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يقول : ليكوننّ من أمّتي قوم يستحلّون الخزّ والخنزير والخمر والمعازف .
وهذا منقطع لم يتّصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد ، ولا يصحّ في هذا الباب شيء أبداً ، وكلّ ما في موضوع » .
4 ـ أخرج البخاري بسنده عن عروة : « إنّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خطب عائشة بنت أبي بكر ، فقال له أبو بكر : إنّما أنا أخوك ، فقال : أنت أخي في دين الله وكتابه ، وهي لي حلال » (2) .
قال ابن حجر : « قال مغطاي : في صحّة هذا الحديث نظر ، لأنّ الخلّة لأبي بكر إنّما كانت بالمدينة، وخطبة عائشة كانت بمكّة ، فكيف يلتئم قول : إنّما أنا أخوك ؟! أيضاً .. فالنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ ما باشر الخطبة بنفسه ... » (3) .
5 ـ أخرج البخاري في كتاب التفسير بسنده عن أبي هريرة عن النبي
____________
(1) الشفاء 2 : 118 .
(2) صحيح البخاري 7 : 6 .
(3) فتح الباري 11 : 26 .


( 347 )


ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ قال : « يلقى إبراهيم أباه فيقول : يا ربّ إنّك وعدتني ألاّ تخزني يوم يبعثون : فيقول الله : إنّي حرّمت الجنّة على الكافرين » (1) .
قال ابن حجر : « وقد استشكل الإسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحّته ، فقال بعد أن أخرجه : هذا خبر في صحّته نظر من جهة أنّ إبراهيم عالم أنّ الله لا يخلف الميعاد ، فكيف يجعل ما صار لأبيه خزياً له مع علمه بذلك ؟! وقال غيره : هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى : ( وما كان استغفار .. ) » (2) .
6 ـ أخرج البخاري في كتاب الصلح بسنده عن أنس ، قال : « قيل للنبي ـ صلّى الله عليه آله وسلّم ـ لو أتيت عبدالله بن اُبيّ ، فانطلق إليه النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وركب حماراً ، فانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة ، فلمّا أتاه النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ قال : إليك عنّي ، والله لقد آذاني نتن حمارك ، فقال رجل من الأنصار منهم : والله لحمار رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أطيب ريحاً منك ، فغضب لعبدالله رجل من قومه فشتمه فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، فكا بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنّها نزلت : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) قال أبو عبدالله : هذا ممّا انتخبت من مسدّد قبل أن يجلس ويحدّث » (3) .
قال الزركشي : « فبلغنا أنّها نزلت : ( وإن طائفتان ) قال ابن بطّال : يستحيل نزولها في قصّة عبدالله بن أبيّ والصحابة ، لأنّ أصحاب عبدالله ليسوا بمؤمنين وقد تعصّبوا بعد الإسلام في قصّة فدك ، وقد رواه البخاري فدلّ على أنّ
____________
(1) صحيح البخاري 6 : 139 .
(2) فتح الباري 8 : 46 .
(3) صحيح البخاري 3 : 239 .


( 348 )


الآية لم تنزل فيه ، وإنّما نزلت في قوم من الأوس والخزرج اختلفوا في حقّ فاقتتلوا بالعصي والنعال » (1) .
7 ـ أخرج البخاري في كتاب التفسير بسنده عن ابن عمر قال : « لمّا توفّي عبدالله بن اُبيّ ، جاء ابنه عبدالله بن عبدالله إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه فأعطاه ، ثم سأله أن يصلّي عليه ، فقام رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ليصلّي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله فقال : يا رسول الله ، تصلّي عليه وقد نهاك ربّك أن تصلّي عليه ؟! فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ : إنّما أخبرني الله فقال : ( إستغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة ) وسأزيده على السبعين . قال : إنّه منافق ! قال : فصلّى عليه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فأنزل الله : ( ولا تصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ) » (2) .
طعن فيه :
أبو بكر الباقلاني .
أبو حامد الغزّالي .
الإمام الداودي .
قال ابن حجر : « استشكل فهم التخيير من الآية ، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحّة الحديث ، مع كثرة طرقه واتّفاق الشيخين وسائر الّذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه ... » ثم ذكر كلمات القوم ثم قال : « والسبب
____________
(1) التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح ، عنه في نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 6 : .
(2) صحيح البخاري 6 : 85 و 2 : 121 .


( 349 )


في إنكارهم صحّته ما تقرّر عندهم ممّا قدّمناه ، وهو الذي فهمه عمر من حمل ( أو ) على التسوية لما يقتضيه سياق القصّة ، وحمل السبعين على المبالغة ... » (1) .
8 ـ أخرج البخاري بسنده عن مسروق ، قال : « أتيت ابن مسعود فقال : إنّ قريشاً أبطؤا عن الإسلام ، فدعا عليهم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيما وأكلوا الميتة والعظام ، فجاءه أبو سفيان فقال : يا محمد جئت تأمر بصلة الرحمن إنّ قومك هلكوا ...
زاد أسباط عن منصور : دعا رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ فسقوا الغيث ... » (2) .
وطعن فيه :
إبن حجر العسقلاني .
العيني ، صاحب ( عمدة القاري ) .
الإمام الداودي .
أبو عبدالملك .
الحافظ الدمياطي .
الكرماني ، صاحب ( الكواكب الدراري ) .
قال العيني : « واعترض على البخاري زيادة أسباط هذا ، فقال الداودي : أدخل قصّة المدينة في قصّة قريش وهو غلط . وقال أبو عبدالملك : الذي زاده أسباط وهم واختلاط ... وكذا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي .
والعجب من البخاري كيف أورد هذا ومكان مخالفاً لما رواه الثقات !!
____________
(1) فتح الباري 8 : 271 .
(2) صحيح البخاري 2 : 37 .


( 350 )


وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله : لا مانع أن يقع ذلك مرّتين . وفيه نظر لا يخفى .
وقال الكرماني : قلت : قصّة قريش والتماس أبي سفيان كانت في مكّة لا في المدينة . قلت : القصّة مكّية إلاّ القدر الذي زاد أسباط فإنه وقع في المدينة » (1) .
وقال ابن حجر بترجمة أسباط : « علّق له البخاري حديثاً في الإستسقاء ، وقد وصله الإمام أحمد والبيهقي في السنن الكبير ، وهو حديث منكر أو ضحته في التعليق ... » (2) .
وهذا من المواضع التي اعترف فيها ابن حجر بنكارة الحديث ولم يتمكّن من الدفاع عنه ...
9 ـ أخرج البخاري عن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ أنه قال : « تكثير لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله تعالى ...» .
قال يحيى بن معين : « إنّه حديث وضعته الزنادقة » .
وقال التفتازاني : « طعن فيه المحدّثون » .
قال : « وقد طعن فيه المحدّثون بأنّ في رواته يزيد بن ربيعة وهو مجهول ، وترك في إسناده واسطة بين الأشعت وثوبان فيكون منقطعاً . وذكر يحيى بن معين أنّه حديث وضعته الزنادقة ، وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الإنقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية »(3) .
____________
(1) عمدة القاري 7 : 46 .
(2) تهذيب التهذيب 1 : 121 .
(3) التلويح في اصول الفقه 2 : 397 .


( 351 )


10 ـ أخرج البخاري بسنده عن ابن عمر : « كنّا في زمن النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ لا نفاضل بينهم » (1) .
قال ابن عبدالبّر : « هو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما أجمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والآثر : أنّ عليّاً أفضل الناس بعد عثمان ، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه ، وإنّما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان . واختلف السلف أيضاً في تفضيل علي وأبي بكر .
وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط وأنّه لا يصحّ معناه وإن كان إسناده صحيحاً ... » (2) .
11 ـ أخرج الشيخان عن شريك بن عبدالله عن أنس بن مالك قصّة إسراء النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة اسري برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ من مسجد الكعبة أنّه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم ... » (3) .
طعن فيه النووي فقال : « وذلك قبل أن يوحى إيه ، وهو غلط لم يوافق عليه ، فإن الإسراء أقلّ ما قيل فيه : أنّه كان بعد مبعثه بخمسة عشر شهراً ... » (4) .
والكرماني فقال : « قال النووي : جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء ، من جملتها أنّه قال : ذلك قبل أن يوحى إليه . وهو غلط لم يوافق عليه ، وأيضاً : العلماء أجمعوا على أنّ فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون قبل
____________
(1) صحيح البخاري 5 : 18 .
(2) الاستيعاب 2 : 1115 .
(3) صحيح البخاري 9 : 182 ، صحيح مسلم 1 :102 .
(4) المنهاج في شرح مسلم 2 : 65 .


( 352 )


الوحي ؟!
أقول : وقول جبرئيل جواب بوّاب السماء إذ قال : أبعث ؟ نعم ، صريح في أنّه كان بعده » (1) .
وابن القيّم وعبارته : « قد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء ، ومسلم أورد المسند منه ثم قال : فقدّم وأخّر وزاد ونقص ، ولم يسرد الحديث وأجاد » (2) .
12 ـ أخرج البخاري بسنده : « عن عمرو بن ميمون ، قال : رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليه قردة قد زنت فرجموها فرجمتها معهم » (3) .
طعن فيه :
الحافظ الحميدي .
وابن عبدالبّر .
قال ابن حجر : « استنكر ابن عبد البرّ قصّة عمرو بن ميمون هذه وقال : فيها إضافة الزنا إلى غير مكلّف ، وإقامة الحدّ على البهائم ، وهذا منكر عنه أهل العلم .. وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين فزعم أنّ هذا الحديث وقع في بعض نسخ البخاري ، وأنّ أبا مسعود وحده ذكره في الأطراف ، قال : وليس في نسخ البخاري أصلاً ، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري ... » (4) .
13 و14 و15 ـ أخرج البخاري ثلاثة أحاديث عن عطاء عن ابن عبّاس ،
____________
(1) الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري 25 : 204 .
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 2 : 49 .
(3) صحيح البخاري 5 : 56 .
(4) فتح الباري 7 : 127 .


 

اثنان منها في كتاب الطلاق ، والآخر في كتاب التفسير (1) .
وقد طعن الأئمّة في هذه الأحاديث . وأذعن أبن حجر بخطأ البخاري في إخراجها ، وهذا نصّ كلامه : « تعقّبه أبو مسعود الدمشقي فقال : ثبت هذا الحديث والذي قبله ـ يعني بهذا الإسناد سوى الحديث المتقدّم في التفسير ـ في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عبّاس ، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني ، وإنّما أخذ الكتاب من ابنه عثمان ونظر فيه . قال أبو علي : وهذا تنبيه بليغ من أبي مسعود ... » .
قال ابن حجر : « وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السديد ، ولابدّ للجواد من كبوة ، والله المستعان . وما ذكره أبو مسعود من التعقّب قد سبقه إليه الإسماعيلي ، ذكر ذلك الحميدي في الجمع عن البرقاني عنه ، قال : وحكاه عن علي بن المديني ، يشير إلى القصّة التي ساقها الغسّاني ، والله الموفق » (2) .
16 ـ أخرج البخاري في كتاب المغازي بسنده عن مسروق بن الأجدع قال : « حدّثتني أمّ رومان ـ وهي امّ عائشة ـ ... » (3) .
وقد غلّط كبار الأئمّة هذا الحديث من جهة أنّ مسروقاً لم يدرك أمّ رومان ..ومنهم :
الخطيب البغدادي (4) .
ابن عبدالبرّ القرطبي (5) .
____________
(1) صحيح البخاري 7 : 62 ـ 63 و 6 : 199 .
(2) هدى الساري ـ مقدمة فتح الباري 2 : 135 .
(3) صحيح البخاري 5 : 154 .
(4) انظر : فتح الباري 7 : 353 .
(5) الاستيعاب 4 : 1937 .


( 354 )


القاضي عياض في مشارق الأنوار (1) .
إبراهيم بن يوسف ، صاحب مطالع الأنوار (2) .
أبو القاسم السهيلي شارح السيرة (3) .
ابن سيّد الناس صاحب السيرة (4) .
الحافظ المزّي (5) .
الحافظ شمس الدين الذهبي (6) .
الحافظ صلاح الدين العلائي (7) .
17 ـ أخرج البخاري في كتاب المغازي بسنده عن علي : « إنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية » (8) .
وأخرجه مسلم بأسانيد متعدّدة (9) .
وقد غلّط هذا الحديث جماعة منهم :
الحافظ أبو بكر البيهقي .
الحافظ إبن عبدالبّر .
____________
(1) انظر : فتح الباري 7 : 353 .
(2) انظر : فتح الباري 7 : 353 .
(3) الروض الآنف 6 : 440 .
(4) عيون الأثر 2 : 101 .
(5) تهذيب الكمال
(6) اُنظر : فتح الباري 7 : 353 .
(7) اُنظر : فتح الباري 7 : 353 .
(8) صحيح البخاري 5 : 172 ، وانظر 123 و 9 : 31 .
(9) صحيح مسلم : 4 : 134 ـ 135 .


( 355 )


الحافظ أبو القاسم السهيلي .
الحافظ إبن قيّم الجوزية .
العلاّمة العيني .
شهاب الدين القسطلاني ...
قال السهيلي : « هذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر أنّ المتعة حرّمت يوم خيبر ... » (1) .
وقال ابن القيّم : « لم تحّرم المتعة يوم خيبر وإنّما كان تحريمها عام الفتح ، هذا هو الصواب . وقد ظنّ طائفة من أهل العلم أنّه حرّمها يوم خيبر ، واحتجّوا بما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... » (2) .
وقال العيني : « قال ابن عبد البرّ : وذكر النهي عن المتععة يوم خيبر غلط . وقال السهيلي ... » (3) .
وقال القسطلاني : « قال ابن عبدالبرّ : إنّ ذكر النهي يوم خيبر غلط ، وقال البيهقي : لا يعرفه أحد من أهل السير » (4) .
18 ـ أخرج البخاري : » ... عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله : لم يكذب إبراهيم إلاّ ثلاثاً ...
عن أبي هريرة : لم يكذب إبراهيم إلاّ ثلاث كذبات ، ثنتين منهنّ في ذات الله عزّو جلّ : إنّي سقيم . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا .
وقال : بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبّار من الجبابرة فقيل له : إنّ
____________
(1) الروض الانف 6 : 557 .
(2) زاد المعاد 2 : 142 و 183 و 4 : 6 .
(3) عمدة القاري 17 : 246 ـ 247 .
(4) إرشاد الساري 6 : 536 و 8 : 41 .


( 356 )


هاهنا رجلاً معه امرأة م أحسن الناس ، فأرسل إيه فسأله عنها ، فقال : من هذه ؟ قال : اختي ... » (1) .
وأخرجه مسلم (2) .
وهذا الحديث كذّبه الفخر الرازي في تفسيره وقال : بأنّ نسبة الكذب إلى الراوي أولى من نسبته إلى الخليل عليه السلام (3) .
19 ـ أخرج مسلم عن عكرمة بن عمّار ، عن أبي زميل ، عن ابن عبّاس ، قال : « كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه ، فقال : يا نبي الله ثلاث أعطنيهنّ ، قال : نعم ، قال : أحسن العرب وأجملهم أمّ حبيبة ازوّجكها ، قال : نعم ، قال : ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك ، قال : نعم ، قال : وتؤمّرني أن اقاتل الكفّار كما كنت اقاتل المسلمين ، قال : نعم ... » (4) .
وقد طعن فيه جماعة سنداً ومتناً منهم :
الذهبي في ترجمة عكرمة بن عمّار (5) .
الحافظ إبن حزم .
الحافظ النووي .
الحافظ إبن القيّم .
الحافظ إبن الجوزي .
قال إبن القيّم في ( زاد المعاد ) : « إنّ حديث عكرمة في الثلاث التي طلبها
____________
(1) صحيح البخاري 4 : 171 .
(2) صحيح مسلم 7 : 98 .
(3) تفسير الرازي 22 : 185 و 26 : 148 .
(4) صحيح مسلم 7 : 171 .
(5) ميزان الإعتدال 3 : 90 .


( 357 )


أبو سفيان من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ غلط ظاهر لا خفاء به . قال أبو محمد ابن حزم : هو موضوع بلا شك ، كذبه عكرمة بن عمّار . قال ابن الجوزي : هذا الحديث وهم من بعض الرواة لا شكّ فيه ولا تردّد .
وقد اتّهموا به عكرمة بن عمّار ، لأنّ أهل التواريخ أجمعوا على أنّ أمّ حبيبة كانت تحت عبيدالله بن جحش ، ولدت له وهاجر بها إلى أرض الحبشة ، ثم تنصّر وثبتت أمّ حبيبة على إسلامها ، فبعث رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى النجاشي يخطبها فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى النجاشي يخطبها فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ صداقاً ، وذلك في سنة سبع من الهجرة . وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة ودخل عليها فثنت فراش رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حتى لا يجلس عليه . ولا خلاف في أنّ أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكّة سنة ثمان .
وأيضاً : في الحديث أنّه قال : وتؤمّرني حتى أقتل الكفّار كما كانت اقاتل المسلمين فقال : نعم ، ولا يعرف أنّه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أمّر أبا سفيان ألبتّة » .
وقال النووي : « إعلم أنّ هذا الحديث من الأحاديث المشهورة بالإشكال ... » (1) .
20 ـ أخرج مسلم حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وقد ضعّفه الطحاوي وغيره ... كما قد تقدّم في عبارة عبدالقادر القرشي .
____________
(1) شرح صحيح مسلم ـ هامش إرشاد الساري 11 : 360 .


( 358 )


خلاصة البحث
هذا بعض الكلام حول الصحيحين وأخبارهما على ضوء كلمات الأعلام .. وقد رأيت في الكتابين رجالاً كاذبين وأحاديث موضوعة وباطلة ...
وأحاديث نقصان القرآن .. من القبيل ... فلا يهولنّك الطعن فيها بعد ثبوت مخالفتها للإجماع والضرورة ومحكم التنزيل .. والله هو الهادي إلى سواء السبيل ...


( 359 )



الكلام حول الصحابة

إنّ المشهور بين أهل السنّة « عدالة الصحابة » أجمعين .. قال أبو إبراهيم المزني في معنى حديث أصحابي كالنجوم : « إن صحّ هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه وشهدوا به عليه ، فكلّهم ثقة مؤتمن على ما جاء به ، لا يجوز عندي غير هذا » (1) .
وقال ابن حزم : « الصحابة كلّهم من أهل الجنّة قطعاً » (2) وقال الخطيب : « عدالة الصحابة ثابتة معلومة » (2) وقال النووي في التقريب : « الصحابة كلّهم عدول من لابس الفتنة وغيرهم » .
بل ادّعى بعضهم الإجماع على هذا المعنى صريحاً كابن حجر العسقلاني (4) وابن عبد البرّ القرطبي (5) .

1 ـ الصحابة عدالةً :
لكنّ دعوى الإجماع باطلة .. والمشهور لا أصل له ..
أمّا دعوى الإجماع فيكذّبها نسبة هذا القول إلى الأكقر في كلام جماعة من الأئمة .. قال ابن الحاجب : « الأكثر على عدالة الصحابة ، وقيل : كغيرهم ، وقيل :
____________
(1) انظر : جامع بيان العلم 2 : 8 ـ 90 .
(2) انظر : الإصابة 1 : 19 .
(3) انظر : الإصابة 1 : 17 ـ 18 .
(4) الإصابة 1 : 17 ـ 18 .
(5) الاستيعاب 1 : 8 .


( 360 )


إلى حين الفتن فلا يقبل الداخلون ، لأنّ الفاسق غير معيّن ، وقالت المعتزلة : عدول إلاّ من قاتل عليّاً ... » (1) .
وقال الغزّالي : « الذي عليه سلف الامّة وجماهير الخلف أنّ عدالتهم معلومة بتعديل الله عزّو جلّ أيّاهم وثنائه عليهم في كتابه ، فهو معتقدنا فيه إلاّ أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به ، وذلك ممّا لا يثبت ، فلا حاجة لهم إلى التعديل .. وقد زعم قوم أنّ حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث ، وقال قوم : حالهم العدالة في بدائة الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ، ثم تغيّر الحال وسفكت الدماء فلابدّ من البحث ، وقال جماهير المعتزلة : عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فسّاق بقتال الإمام الحقّ ... » (2) .
وكذا في ( جمع الجوامع ) وشرحه حيث قال : « والأكثر على عدالة الصحابة لا يبحث عنها في رواية ولا شهادة ... » ثم نقل الأقوال الاخرى (3) .
وفي ( مسلم الثبوت ) وشرحه : « الأكثر قالوا : الأصل في الصحابة العدالة ، وقيل ... » (4) .
بل صرّح جماعة من أكابر القوم من المتقدّمين والمتأخرين كالسعد التفتازاني (5) ، والمازري ـ شارح البرهان ـ (6) ، وابن العماد الحنبلي (7)
____________
(1) المختصر في الأصول 2 : 67 .
(2) المستصفى 1 : 164 .
(3) انظر : النصائح الكافية : 160 .
(4) فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت 2 : 155 .
(5) إحقاق الحقّ ـ للتستري ـ 2 : 391 ـ 392 عن شرح القاصد .
(6) الإصابة 1 : 19 ، النصائح الكافية : 161 .
(7) النصائح الكافية : 162 عن الآلوسي .


( 361 )


والشوكاني (1) وأبي ريّة (2) ، ومحمد عبدة (3) ، ومحمد بن عقيل (4) ، ومحمد رشيد رضا (5) ، والمقبلي (6) ، والرافعي (7) ، وطه حسين ، وأحمد أمين ... وغيرهم بأنّ في الصحابة عدولاً وغير عدول ، وهذا هو رأي الشيعة الإثني عشرية (8) .
وأمّا أنّه مشهور لا أصل له ... فلأنّ هذا القول يناقض القرآن الكريم ... الذي تنصّ آيات كثيرة منه على أنّ كثيراً من الأصحاب حول النبي في حياته صلّى الله عليه وآله وسلم منافقون فسقة (9) حتى جاءت سورة منه بعنوان « المنافقين » .
ونصّت الآية الكريمة : ( ... أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ... ) (10) على ارتداد كثيرين منهم من بعده ...
وجاءت الأحاديث الصحيحة شارحةً هذه الآية المباركة ، ومن أشهرها وأصحّها حديث الحوض الوارد في الصحيحين وغيرهما بألفاظ وطرق مختلفة (11) ، بل عدّه بعضهم في الأحاديث المتواترة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله
____________
(1) إرشاد الفحول : 158 .
(2) شيخ المضيرة أبو هريرة : 101 .
(3) أضواء على السنّة المحمديّة : 322 .
(4) النصائج الكافية : 163 .
(5) شيخ المضيرة أبو هريرة : 101 .
(6) المصدر نفسه .
(7) إعجاز القرآن : 141 .
(8) انظر كتاب : « أصحابي كالنجوم « العدد الأول من سلسلة الأحاديث الموضوعة ، تأليف : علي الحسيني الميلاني ، وهو مطبوع أيضاً في كتابنا ( الإمامة ) .
(9) انظر الآيات في سورة آل عمران ، سورة التوبة ...
(10) آل عمران : 3 | 144 .
(11) صحيح البخاري ، باب في الحوض 4 : 87 ـ 88 .


( 362 )


وسلّم ، فقد ذكر العلاّمة الزبيدي في كتابه في ( الأحاديث المتواترة ) : « الحديث السبعون حديث الحوض . رواه من الصحابة خمسون نفساً » فذكر أسماءهم .
فالقول المذكور يناقص الكتاب والسنة .. ويناقص السير والتواريخ وأحوال الصحابة .
وبالجملة .. فإنّ الصحابة ما كانوا يرون في أنفسهم لأنفسهم وفيما بينهم ما قيل في حقّهم ووضع في شأنهم .. فلقد تباغضوا وتسابّوا وتضاربوا وتقاتلوا ..
وإنّ الآثار المنقولة عنهم الحاكية لارتكابهم الكبائر واقترافهم السيئات من الزنا ، وشرب الخمر ، والربا ... وغير ذلك .. كثيرة لا تحصى (1) .
فهذا هوالقول بعدالة الصحابة أجمعين .. فهو مشهور .. لكن لا أصل له .
نعم .. يستدلّون له بأدلّة .. عمدتها ما رووا بأسانيدهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم » لكنّه حديث يعارض الكتاب والسنّة والتاريخ الصحيح .. فلا اعتبار به .. مضافاً إلى أنّ جمعاً كبيراً من أعيان القوم ينصّون على أنّه حديث باطل موضوع ، ومنهم :
أحمد بن حنبل (2) .
أبو إبراهيم المزني (3) .
أبو بكر البزّار (4) .
____________
(1) انظر : أصحابي كالنجوم : 73 ـ 81 .
(2) نقل ذلك عنه في : التقرير والتحبير ـ لابن أمير الحاج ـ ، المنتخب ـ لابن قدامة ـ التيسير في شرح التحرير 3 : 243 ، مسلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 : 79 .
(3) جامع بيان العلم ـ لابن عبدالبرّ ـ 2 : 89 ـ 90 .
(4) جامع بيان العلم 2 : 90 ، أعلام المؤقّعين 2 : 223 ، البحر المحيط 5 : 528 .


( 363 )


ابن القطّان (1) .
الحافظ الدار قطني (2) .
الحافظ ابن حزم (3) .
الحافظ البيهقي (4) .
الحافظ إبن عبدالبرّ (5) .
الحافظ إبن عساكر (6) .
الحافظ إبن الجوزي (7) .
الحافظ إبن دحية (8) .
الحافظ أبو حيّان الأندلسي (9) .
الحافظ الذهبي (10) .
الحافظ إبن القيّم (11) .
____________
(1) الكامل | ترجمة جعفر بن عبد الواحد الهاشمي القاضي وحمزة النصيبي .
(2) غرائب مالك ، تخريج أحاديث الكشّاف 2 : 628 .
(3) البحر المحيط 5 : 528 ، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة 1 : 78 .
(4) المدخل ، وعنه في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف ـ المطبوع على هامش الكشّاف ـ 2 :628 .
(5) جامع بيان العلم 2 : 90 ـ 91 .
(6) التاريخ ، وعنه في فيض القدير في شرح الجامع الصغير 4 : 76 .
(7) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ، وانظر : فيض القدير 4 : 76 .
(8) تعليق تخريج أحاديث منهاج البيضاوي .
(9) البحر المحيط 5 : 527 ـ 528 .
(10) ميزان الاعتدال 1 : 413 و 2 : 102 .
(11) أعلام الموقّعين 2 : 223 .


( 364 )


الحافظ إبن حجر العسقلاني (1) .
الحافظ السخاوي (2) .
الحافظ السيوطي (3) .
الحافظ الشوكاني (4) .

2 ـ الصحابة علماً :
وأمّا جهل الأصحاب بالقرآن الكريم والأحكام الشرعية .. فالشواهد عليه كثيرة جدّاً ، بل يمتنع أن تحصي له عدداً وتبلغ به حدّاً .. ونحن نكتفي هنا بكلام لإبن حزم .. وللتفصيل فيه مجال آخر .
قال الحافظ ابن حزم : « ووجدنا الصحاب من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ يبلغه الحديث فيتأوّل فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره ، ووجدناهم ـ رضي الله عنهم ـ يقرّون ويعترفون بأنّه لم يبلغهم كثير من السنن ، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة : إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق ، وإنّ إخواني من الأنصار كان يشغلم القيام على أموالهم ، وهكذا قال البراء .. قال : ما كلّ ما نحدّثكموه سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه [ آله ] وسلّم [ و ] لكن حدّثنا أصحابنا ، وكانت تشغلنا رعية الإبل .
وهكذا [ وهذا ] أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لم يعرف فرض ميراث الجدّة وعرفه محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة ، وقد سأل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ
____________
(1) الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف .
(2) المقاصد الحسنة 26 : 27 .
(3) الجامع الصغير ـ بشرح المناوي ـ 4 : 76 .
(4) إرشاد الفحول : 83 .


( 365 )


عائشة في كم رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ؟
وهذا عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول في حديث الإستئذان : اخفي عليّ هذا من أمر رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم . ألهاني الصفق في الأسواق !
وقد جهل أيضاً أمر إملاص المرأة وعرفه غيره ، وغضب على عيينة بن حصن ، حتى ذكّره الحرّ بن قيس بن حصن بقوله تعالى : ( وأعرض عن الجاهلين ) .
وخفي عليه أمر رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته ، وخفي على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قبله أيضاً طول مدّة خلافته ، فلمّا بلغ عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحداً .
وخفي على عمر أيضاً امره عليه السّلام بترك الإقدام على الوباء ، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف .
وسأل عمر أبا واقد الليثي عمّا كان يقرأ به رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في صلاتي الفطر والأضحى ، هذا ، وقد صلاّهما رسول الله [ صلّى الله عليه وآله وسلّم ] أعواماً كثيرة .
ولم يدر ما يصنع بالمجوس حتى ذكّره عبدالرحمن بأمر رسول الله صلّى الله عليه [ وآل ] وسلّم فيهم .
ونسي قبوله عليه السّلام الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور ، ولعلّه ـ رضي الله عنه ـ قد أخذ من ذلك المال حظّاً كما أخذ غيره منه .
ونسي أمره عليه السّلام بتيمّم الجنب فقال : لا يتيمّم أبداً ولا يصلّي ما لم يجد الماء ، وذكّره بذلك عمّار .


( 366 )


وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتجّ عليه اُبيّ بن كعب بأنّ النبي عليه السّلام لم يفعل ذلك ، فأمسك .
وكان يردّ النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودّعن البيت ، حتى أخبر بأنّ رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم أذن في ذلك . فأمسك عن ردّهن .
وكان يفاضل بين ديات الأصابع حتى بلغه عن النبي ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ أمره بالمساواة بينها ، فترك قوله وأخذ المساواة .
وكان يرى الدية للعصبة فقط حتى أخبره الضحّاك بن سفيان بأنّ النبي ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ ورّث المرأة من الدية ، فانصرف عمر إلى ذلك .
ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالاً بمهور النبي صلّى الله [ وآله ] وسلم ، حتى ذكّرته امرأة بقول الله عزّو جلّ : ( وآتيتم إحداهنّ قنطاراً ) فرجع عن نهيه .
وأراد رجم مجنونة حتى اعلم بقول رسول الله ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ : رفع القلم عن ثلاثة ، فأمر أن لا ترجم .
وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكّره عثمان بأنّ الجاهل لا حدّ عليه ، فأمسك عن رجمها .
وأنكر على حسّان الإنشاد في المسجد ، فأخبر هو وأبو هريرة أنّه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ، فسكت عمر .
وقد نهى عمر أن يسمّى بأسماء الأنبياء ، وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلّة منهم ، ويرى أبا أيّوب الأنصاري وأبا موسى الأشعري ، وهما لا يعرفان إلاّ بكناهما من الصحابة ، ويرى محمد بن أبي بكر الصدّيق وقد ولد بحضرة رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في حجّة


( 367 )


الوداع ، واستفتته امّه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء ، وقد علم يقيناً أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شكّ وأقرّهم عليها ودعاهم بها ولم يغيّر شيئاً من ذلك ، فلمّا أخبره طلحة وصهيب عن النبي ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ بإباحة ذلك أمسك عن النهي عنه .
وهمّ بترك الرمي في الحجّ ، ثم ذكّر أنّ النبي ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ فعله فقال : لا يجب لنا أن نتركه .
وهذا عثمان ـ رضي الله عنه ـ ، فقد رووا عن أنّه بعث إلى الفريعة اخت أبي سعيد الخدري يسألها عمّا أفتاها به رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم في أمر عدّتها ، وأنّه أخذ بذلك .
وأمر برجم امرأة قد ولدت لستّة أشهر ، فذكّره علي بالقرآن وأنّ الحمل قد يكون ستّة أشهر ، فرجع عن الأمر برجمها .
وهذه عائشة وأبو هريرة ـ رضي الله عنهما ـ خفي عليهما المسح على الخفّين وعلى ابن عمر معهما ، وعلّمه جرير ولم يسلم إلاّ قبل موت النبي ـ صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم ـ بأشهر ، وأقرّت عائشة أنّها لا علم لها به وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه .
هذه حفصة أمّ المؤمنين سئلت عن الوطء ، يجنب فيه الواطئ أفيه غسل أم لا ؟ فقالت : لا علم لي ؟!
وهذا ابن عمر توقّع أن يكون وحديث نهي عن النبي ـ صلّى الله عليه [ وآل ] وسلّم ـ عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي ـ صلّى الله عليه [ و آله ] وسلّم ـ فأمسك عنها وأقرّ أنّهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان ، ولم يقل : إنّه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو


( 368 )


هريرة ، وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا : لو كان هذا حقّاً ما خفي على عمر !
وقد خفي على زيد بن ثابت وابن عمر وجمهور أهل المدينة إباحة النبي صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم للحائض أن تنفر ، حتى أعلمهم بذلك ابن عبّاس وامّ سليم ، فرجعوا عن قولهم .
وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميّت ، حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال : لقد فرّطنا في فراريط كثيرة .
وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحجّ على الإفراد : إنّك تخالف أباك فقال : أكتاب الله أحقّ أن يتّبع أم عمر ؟! روينا ذلك عنه من طريق عبدالرزّاق ، عنه معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن ابن عمر .
وخفي على عبدالله بن عمر الوضوء من مسّ الذكر ، حتى أمرته بذلك عن النبي صّلى الله عليه وآله وسلّم بسرة بنت صفوان ، فأخذ بذلك .
وقد تجد الرجل يحفظ الحديث ولا يحضره ذكره حتى يفتي بخلافه وقد يعرض هذا في آي القرآن ، وقد أمر عمر على المنبر بأن لا يزاد في مهور النساء على عدد ذكره ، فذكّرته أمرأة بقول الله تعالى : ( وآتيتم إحداهنّ قنطاراً ) فترك قوله وقال : كلّ أحد أفقه منك يا عمر ، وقال : أمرأة أصابت وأمير المؤمنين أخطأ !
وأمر برجم امرأة ولدت لستّة أشهر ، فذكّره علي بقول الله تعالى : ( وحمله وفصاله ثلاثون شهراً ) مع قول تعالى : ( والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين ) فرجع عن الأمر برجمها .
وهمّ أن يسطو بعيينة بن حصن إذا قال له : يا عمر ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل ، فذكّره الحرّ بن قيس بن حصن بن حذيفة بقول الله تعالى :


( 369 )


( وأعرض عن الجاهلين ) وقال له : يا أمير المؤمنين هذا من الجاهلين ، فأمسك عمر .
وقال يوم مات رسول الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم : والله ما مات رسول الله ولا يموت حتى يكون آخرنا ، أو كلاماً هذا معناه ، حتى قرئت عليه : ( إنّك ميّت وإنّهم ميّتون ) ، فسقط السيف من يده وخرّ إلى الأرض وقال : كأنّي والله لم أكن قرأتها قطّ !
قال الحافظ ابن حزم : فإذا أمكن هذا في القرآن فهو في الحديث أمكن ، وقد ينساه ألبتّة ، وقد لا ينساه بل يذكره ولكن يتأوّل فيه نأويلاً ، فيظنّ فيه خصوصاً أو نسخاً أو معنًى مّا ، وكلّ هذا لا يجوز اتّباعه إلاّ بنصّ أو إجماع ، لأنّه رأي من رأى ذلك ولا يحلّ تقليد أحد ولا قبول رأيه ... » (1) .
هذا ، ولقد ذكر هذه القضايا يا وغيرها ابن القيّم في ( أعلام الموقّعين ) وقال : « وهذا باب واسع لو تتبّعناه لجاء سفراً كبيراً » .

إيقاظ
أقول : لا يخفى أنّه ليس في هذه الموارد التي ذكرها من جهل الصحابة ونسيانهم للأحكام الشرعية ولا مورد واحد منقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام ، ولو كان عند ابن حزم شيء من ذلك بالنسبة اليه ولو كذباً لذكره لوجود الدواعي لذلك عنده . وهذا من أدلّة أعلميّة الامام عليه السّلام وافضليّته بعد النبي مطلقاً .
____________
(1) الإحكام في اصول الأحكام 2 : 12 .


( 370 )


خاتمة الباب الثاني

لقد استعرضنا في الباب الثاني كلّ ما يتعلّق بـ ( أهل السنّة والتحريف ) حيث ذكرنا أن المشهور بينهم هو تنزيه القرآن عن الخطأ والنقصان ، وتعرّضنا للأحاديث الموهمة لذلك عن أهمّ أسفارهم .. فما أمكن حمله على بعض الوجوه المقبولة حملناه ، وما لم يمكن نظرنا في سنده فما ضعف رددناه وما صحّ على اصولهم كذّبناه ، لتكذيب الكتاب والسنّة والإجمال إيّاه ...
لكنّ هذا الردّ والتكذيب .. أثار سؤالاً عمّا إذا كان الحديث صحيحاً وصريحاً في اعتقاد بعض الأصحاب لتحريف الكتاب .. فكيف يكذّب وتكذيبه طعن في الصحيحين وعدالة الأصحاب ؟! وهذا ما دعانا إلى الدخول في بحث موجز حول كتابي البخاري ومسلم ، وعدالة أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ...
وتلخّص أنّ مذهب أهل السنّة نفي تحريف القرآن .. إلاّ القائلين منهم بصحّة جميع ما أخرج في الكتابين ، وبعدالة الصحابة أجمعين .. وهؤلاء هم « الحشوية » الّذين نسب إليهم هذا القول الطبرسي (1) وغيره . وأنّه لا قيمة لإنكار ذلك من الآلوسي (2) وغيره .
____________
(1) مجمع البيان 1 : 15 .
(2) روح المعاني 1 : 21 .


( 371 )


خاتمة البحث

فيا أهل الإسلام !! الله الله في القرآن .. في حفظه والعمل به والسعي في تطبيقه في المجتمعات الإسلامية ... ولا يسبقنّكم بالعمل به غيركم ..
ولا ينسبّن أحد منكم القول بتحريفه والتلاعب به إلى أخيه ... فإنّه لم يثبت القول بذلك من أحد من الشيعة إلاّ من شذّ ، ولم يقل به من السنّة إلاّ الحشوية ... لأحاديث لا يستبعد محقّقوا الفريقين دسّها بين المسلمين من قبل الملاحدة والزنادقة .. دسّوها ليتسنّى لهم الطعن في القرآن المجيد . هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .. فعوا وكونوا على حذر من المشاغبين ...
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .

قم | علي الحسيني الميلاني