شريعة المسيحية

نحو الارتقاء الروحي

تأملات في موعظة المسيح على الجبل

بقلم الدكتور القس منيس عبد النور
نحو الارتقاء الروحي

موجز الموعظة على الجبل

مقدمة متى 5: 1، 2

الفصل الأول: درجات الارتقاء الروحي متى 5: 3-12

1- درجة الشعور بالحاجة إلى الله «طوبى للمساكين» 3

2- درجة التوبة «طوبى للحزانى» 4

3- درجة الوداعة «طوبى للودعاء» 5

4- درجة الجوع والعطش «طوبى للجياع والعطاش» 6

5- درجة مشاعر الرحمة «طوبى للرحماء» 7

6- درجة نقاوة القلب «طوبى ل لأنقياء القلب» 8

7- درجة صُنع السلام «طوبى لصانعي السلام» 9

8- درجة احتمال الألم «أحبوا أعداءكم» 10-12

الفصل الثاني: تأثير الارتقاء الروحي متى 5: 13-16

1- تأثير الملح في الأرض 13

2- تأثير النور في العالم 14-16

الفصل الثالث: شريعة جديدة للارتقاء الروحي متى 5: 17-20

1- الشريعة القديمة 17، 18

2- الشريعة الجديدة 19، 20

الفصل الرابع: الارتقاء في المصالحة متى 5: 21-26

1- الشريعتان القديمة والجديدة 21، 22

2- واجب المؤمن نحو أخيه 23، 24

3- واجب المؤمن نحو خصمه 25، 26

الفصل الخامس: الارتقاء في الطهارة متى 5: 27-32

1- تكميل الشريعة القديمة 27، 28

2- طريق الارتقاء الروحي 29، 30

3- الارتقاء مع شريك الحياة 31، 32

الفصل السادس: الارتقاء في الصدق متى 5: 33-37
1- الشريعة القديمة 33

2- الشريعة الجديدة 34-37

3- القسَم في المحكمة

الفصل السابع: الارتقاء في التسامح متى 5: 38-42

1- الشريعة القديمة 38

2- الشريعة الجديدة 39-42

الفصل الثامن: الارتقاء في المحبة متى 5: 43-48

1- الشريعة القديمة 43

2- الشريعة الجديدة 44

3- دوافع الارتقاء الروحي 45-48

الفصل التاسع: الارتقاء في تقديم الصدقة متى 6: 1-4
1- صدقة المرائين 1، 2

2- صدقة المؤمنين 3، 4

الفصل العاشر: الارتقاء في الصلاة متى 6: 5-15
1- صلاة المرائين 5

2- صلاة المؤمنين 6-8

3- نموذج الصلاة 9-13

4- روح المصلي 14، 15
الفصل الحادي عشر: الارتقاء في الصوم متى 6: 16-18
1- صوم المرائين 16

2- صوم المؤمنين 17، 18

الفصل الثاني عشر: الارتقاء في الاستثمار متى 6: 19-23

1- استثمار أهل الأرض 19

2- استثمار المؤمنين 20-23

الفصل الثالث عشر: الارتقاء في الطمأنينة متى 6: 24-34
1- ما يضيِّع الطمأنينة 24-30

2- ما يضمن الطمأنينة 31-34

الفصل الرابع عشر: الارتقاء في العلاقات متى 7: 1-6

1- الله ديان الجميع 1، 2

2- إن فينا عيوباً 3-5

3- وهناك من يستحق الإدانة 6

الفصل الخامس عشر: الارتقاء في الطلب متى 7: 7-12

1- ضرورة الطلب 7، 8

2- تأكيد الاستجابة 9-11

3- القاعدة الذهبية 12

الفصل السادس عشر: الارتقاء في الاختيار متى 7: 13، 14

1- الباب الواسع والطريق الرحب 13

2- الباب الضيق والطريق الكرب 14

الفصل السابع عشر: الارتقاء في الاحتراس متى 7: 15-23

1- الأنبياء الكذبة ذئاب خاطفة 15

2- الأنبياء الكذبة أشجار ردية 16-20

3- الأنبياء الكذبة أصحاب ديانة كلام 21-23

الفصل الثامن عشر: الامتحان الأخير متى 7: 24-27

 
خاتمة متى 7: 28، 29

 

مسابقة الكتاب

مقدمة

 

«1 وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ. فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ، 2 فَفَتَحَ فَاهُ وَعَلَّمَهُمْ قَائِلاً:» (متى 5: 1، 2).

قدَّم البشير متى في بشارته (الأصحاحات الثلاثة 5-7) ما علَّم المسيح به عن شريعته الجديدة، التي تكمل شريعة موسى القديمة، دون أن تنقضها- وذلك في ما سمّاه القديس أغسطينوس «الموعظة على الجبل». وقد ألقى المسيح هذه العظة من على جبل تحيطه الخُضرة ويغمر محيطه السلام، وأعلن فيها ما يجب أن تكون عليه الطبيعة الجديدة لأتباعه وتصرفاتهم من ارتقاء روحي بعد أن يلبّوا نداءه «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ» (متى 4: 17) فلا يتشبَّهون بأهل العالم (متى 6: 8) بل يحيون حياة مقدسة مكرَّسة لله، ويزيد برُّهم عن بر معاصريهم بمن فيهم رجال الدين (متى 5: 20)، فيضيء نورهم وسط الظلام، ويرى الناس أعمالهم الحسنة ويمجدوا أباهم الذي في السماوات (متى 5: 16)، لأنهم يحبون الجميع بمن فيهم الأعداء.

ولا شك أن المسيح ألقى بعض هذه التعاليم في أماكن مختلفة، إذ يذكر لنا البشير لوقا بعضاً منها ألقاها المسيح في ما يُعرف «بموعظة السهل» (لوقا 6: 20-49).

ولم يقصُر المسيح تعليمه هذا على تلاميذه الاثني عشر، بل ألقاه على كل من قَبِل أن يكون له تلميذاً، فيقول البشير متى إنه « لَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ » (متى 5: 1). وقد سمع هذه العظة وقت إلقائها كثيرون من غير تلاميذه فانبهروا بها عند سماعها، لأنه كان يعلِّم بسلطان، وليس مثل الكتبة الذين كانوا يستمدون سلطانهم من اقتباس ونقل ما سبق أن قاله القدماء (متى 7: 28، 29).

وكانت عادة الواعظ والمعلم أن يجلس، فيجتمع حوله تلاميذه وأتباعه ليسمعوه، ولعلنا لهذا لا زلنا اليوم نقول «كرسي الأستاذية». فعلى كرسي التعليم جلس المسيح.. « فَفَتَحَ فَاهُ وَعَلَّمَهُمْ» وهو تعبير يعني أهمية ما سيُقال، وأنه من أعماق قلب المعلم. فيجب أن يحتلَّ ما قاله مكانته في أعماق قلوب سامعيه.

 

بين شريعة موسى وشريعة المسيح:

تلقَّى موسى «كليم الله» شريعة العهد القديم على جبل سيناء القاحل، أما المسيح «كلمة الله» فقدَّم شريعة العهد الجديد على جبل قرن حطين المغطى بالخضرة والورود. وما أبعد الفرق بين الجبلين، فيقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين لتلاميذ المسيح: « لأَنَّكُمْ لَمْ تَأْتُوا إِلَى جَبَلٍ مَلْمُوسٍ مُضْطَرِمٍ بِالنَّارِ، وَإِلَى ضَبَابٍ وَظَلاَمٍ وَزَوْبَعَةٍ، وَهُتَافِ بُوقٍ وَصَوْتِ كَلِمَاتٍ اسْتَعْفَى الَّذِينَ سَمِعُوهُ مِنْ أَنْ تُزَادَ لَهُمْ كَلِمَةٌ، لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَمِلُوا مَا أُمِرَ بِهِ، وَإِنْ مَسَّتِ الْجَبَلَ بَهِيمَةٌ تُرْجَمُ أَوْ تُرْمَى بِسَهْمٍ، وَكَانَ الْمَنْظَرُ هَكَذَا مُخِيفاً حَتَّى قَالَ مُوسَى: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ! بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى.. وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ: يَسُوعَ » (عبرانيين 12: 18-24).

 

كيف نقدر أن نمارس الشريعة المسيحية؟

قال القديس أغسطينوس أسقف هِبّو في شمال أفريقيا (354-430م) إن هذه الموعظة هي القاعدة الكاملة للحياة المسيحية المثالية، وهي الشريعة الجديدة. وقال الكاتب الروسي تولستوي إنها تتلخَّص في خمس وصايا: كبت كل غضب، والطهارة، وعدم القَسَم، وعدم المقاومة، ومحبة الأعداء بلا حدود. وقال إنها لو أُطيعت حرفياً لقَضَت على شرور العالم.

هذه الموعظة بالغة المثالية، فهي تتحدَّث عن ثماني درجات من الرقي الروحي، وهي صفات مثالية للمسيحي الحقيقي (متى 5: 3-12)، وتتحدث عن تأثير المسيحي في مجتمعه كملحٍ للأرض ونورٍ للعالم (متى 5: 13-16)؛ وعن أخلاقيات المسيحي الذي ارتقى درجات السلم الروحي (متى 5: 17-48)؛ وعن عبادته في الصدقة والصلاة والصوم (مت 6: 1-18)؛ وعن موقفه من الماديات (متى 6: 19-34)؛ ومسؤولياته نحو مجتمعه (متى 7: 1-12)؛ وما ينتظره في حياته الأبدية (متى 7: 13-21).

وقد يدَّعي البعض أن الموعظة على الجبل تعلِّم أن الإنسان يخلُص بأعماله، بدليل أن المسيح يطوِّب صفاتٍ يتحلى بها المؤمنون السعداء، لكن الواقع أن كل من يحاول أن يعيش هذه المبادئ بقدرته الشخصية وجهاده الذاتي لا بد أن يفشل، لأنها بالغة السمو بعيدة المنال. وهذا ما نسمّيه «الفشل المبارك» الذي يضطرُّ الشخص الفاشل لأن يلجأ إلى مراحم الله، ويلقي بنفسه تماماً على نعمة الرب، فيختبر قول الوحي: « وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ.. اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ- بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ- وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ. لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا » (أفسس 2: 1-10).

فعليك قبل أن تتأمل شريعة المسيح أن تقبله مخلِّصاً لك، وتقول: «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ!» (رومية 7: 24) وترفع عينيك مؤمناً بالمسيح المخلِّص، معترفاً بخطاياك، فيغفرها لك ويُنعم عليك بالتبني، فتهتف شاكراً: «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ. لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ. لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِالْجَسَدِ، فَاللهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ، دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ، لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ النَّامُوسِ فِينَا نَحْنُ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ» (رومية 8: 1-4).

إنه واقف على باب قلبك يطلب الدخول، قائلاً: « هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20). فإذا دَعَوْتَه ليدخل قلبك يتم فيك القول: « إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً» (2كورنثوس 5: 17). وبهذا وحده تعتمد على تغيير المسيح لحياتك، فتقدر أن تبدأ رحلة حياة جديدة ترتقي فيها في الروحيات، وتمارس شريعتها كما جاءت في الموعظة على الجبل « لأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (فيلبي 2: 13) و«أَمِينٌ هُوَ الَّذِي يَدْعُوكُمُ الَّذِي سَيَفْعَلُ أَيْضاً» (1تسالونيكي 5: 24).

 

 

 


الفصل الأول

درجات الارتقاء الروحي

(متى 5: 3-12)

 

بدأ المسيح الموعظة بقوله «طُوبَى» (أي: يا لسعادة! أو ما أسعد! أو مبارك). فهي من صيغة «أفعل التفضيل» للمؤنث من أصل «طاب يطيب». وكلمة «طوبى» في اللغة اليونانية «مكاريوس» وهو أحد أسماء جزيرة قبرص، لأن الأقدمين وجدوا في هذه الجزيرة ما يكفيهم من كل شيء، فلم يكونوا يحتاجون لاستيراد شيء من خارجها. وتحمل كلمة «طوبى» أيضاً معنى «بركة من يثق في الله ثقة كاملة ويعمل مشيئته»، كما أنها في الأدب اليوناني القديم كانت تعني «بركة التناغم والتوافق بين الإنسان ومجتمعه».

والطوبى في المسيحية حالة سماوية يتمتع بها المؤمن في هذه الحياة، فهي لا تصف حالة مستقبلية. فالسعيد حقاً هو الذي يجد في علاقته الحميمة مع الله كل ما يحتاج إليه وهو هنا على الأرض.

كان كل الناس في زمن المسيح، كما في زماننا، يطلبون الارتقاء والسعادة، فلا أحد يطلب لنفسه الهبوط والمتاعب.. وكانت هناك عدة طوائف ترى للسعادة سبلاً مختلفة:

(1) سبيل الرجوع إلى الماضي: وهو تفكير طائفة الفريسيين التي كانت تضم المحافظين الأصوليين الذين يظنون السعادة في العودة إلى التراث والتقاليد القديمة، والرجوع إلى الأيام الماضية. وكانوا يخافون من الجديد لئلا يدمر سعادتهم. فالسعادة عندهم كامنة في الأصالة وعدم تغيير شيء.

(2) سبيل الاعتماد على العقل: الذي يجدد ويبتكر، وهو رأي طائفة الصدوقيين، وأغلبهم من الأغنياء أصحاب المكانة السياسية والاجتماعية المرموقة، الذين رأوا الارتقاء في هجر القديم والاتجاه نحو الجديد، فأنكروا وجود الأرواح والملائكة والقيامة والثواب، ووضعوا الاعتبارات السياسية فوق الدينية، ودعوا الناس إلى الأفكار الجديدة والفلسفة المتطورة، والتطلع إلى المستقبل والتغيير. وهؤلاء على عكس الأصوليين تماماً.

(3) سبيل مجاراة العالم: وهو تعليم طائفة الهيرودسيين الذين رأوا السعادة في الذهاب مع العالم، والسير مع التيار، وانتهاز الفرص، لذلك دعوا إلى مجاراة الجو السياسي والاجتماعي السائد ليعيشوا في سعادة.

(4) سبيل الاعتزال عن العالم: وهو تفكير طائفة الأسينيين الذين رأوا السعادة في العزلة والابتعاد عن المدن، والهروب من شرور العالم إلى الصحراء.

(5) سبيل العنف والمقاومة: وهو رأي طائفة الغيورين الذين رأوا السعادة في الوقوف ضد الغريب، ورفع السيف ضد من ليس معهم، ومقاومة المختلفين معهم بالإرهاب والعنف.

وواضحٌ أن كل هذه الطوائف ترى السعادة في البحث خارج النفس الإنسانية.

أما المسيح فقد رأى سر السعادة في داخل نفس الإنسان، وفي ارتقائه الروحي، وفي رضى الله عن الإنسان. وهذا يحتاج إلى فحص الذات وتطهير النفس، لأن سبب تعاسة الإنسان كامنٌ في داخله قبل أن يكون من خارجه! قال النبي إرميا: «اَلْقَلْبُ أَخْدَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ نَجِيسٌ » (إرميا 17: 9). فمشكلة العالم هي أساساً داخل الإنسان. فلينظر طالب السعادة داخل نفسه، وليمتحن مواقفه القلبية من نحو الله ومن نحو إخوته من البشر.

وفي الآيات 3-12 قدم لنا المسيح ثماني درجات لسُلَّم روحي نرتقي فيه إلى السعادة والبركة، تقود كل درجة من هذا السلَّم إلى الدرجة التالية:

 

1- السعيد هو الذي يشعر بحاجته إلى الله

«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات» (متى 5: 3)

الدرجة الأولى في سلم الارتقاء الروحي هي الشعور بالحاجة، والافتقار إلى علاقة سليمة حميمة بالله.

وهناك فرق بين المسكين «في الروح» و«المسكين بالروح». فالمسكين في الروح هو الفقير في علاقته بالله، أما المسكين بالروح فهو الذي يشعر باحتياجه الدائم للرب، وقد وصفه المسيح بالسعادة، لأن اليد السفلى تنتظر عون السماء وتناله. وأذكر ثلاثة معانٍ للمسكنة بالروح:

(أ) المسكين بالروح هو الذي يشعر في أعماقه أنه فقير دائماً إلى رحمة الله، وأنه ناقص في الموازين الإلهية: (مزمور 62: 9 ودانيال 5: 27). وهو الذي يعرف أنه بدون الله لا يستطيع شيئاً، ولا يساوي شيئاً، ويقول: «أَمَّا أَنَا فَعَلَى رَحْمَتِكَ تَوَكَّلْتُ. يَبْتَهِجُ قَلْبِي بِخَلاَصِكَ. أُغَنِّي لِلرَّبِّ لأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ» (مزمور 13: 5، 6). فيتمُّ فيه القول: « هَذَا الْمِسْكِينُ صَرَخَ، وَالرَّبُّ اسْتَمَعَهُ، وَمِنْ كُلِّ ضِيقَاتِهِ خَلَّصَهُ» (مزمور 34: 6).

روى لنا المسيح مثَلاً عن جابي ضرائب مسكين بالروح، وقف في الهيكل من بعيد، لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء، لشدة خجله من خطاياه، وقرع على صدره قائلاً: « اللهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ ». فكان هذا بداية رقيِّه الروحي، وصار له حق الدخول إلى ملكوت السماوات، وقال المسيح عنه: « أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً.. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لوقا 18: 13، 14).

وكان اللص المصلوب التائب مسكيناً بالروح، فقال للمسيح: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». وبهذه الطلبة ارتقى أولى درجات السلّم الروحي، فدخل ملكوت السماوات لما قال المسيح له: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 42، 43).

المسكين بالروح هو الذي يهتف مع رسول المسيحية بولس: «لَيْسَ أَنَّنَا كُفَاةٌ مِنْ أَنْفُسِنَا أَنْ نَفْتَكِرَ شَيْئاً كَأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِنَا، بَلْ كِفَايَتُنَا مِنَ اللهِ، الَّذِي جَعَلَنَا كُفَاةً لأَنْ نَكُونَ خُدَّامَ عَهْدٍ جَدِيدٍ» (2كورنثوس 3: 5، 6).

ومن المؤسف أن البشر لا يرتقون روحياً لأنهم عادةً ينتفخون بكبرياء داخلي، ولا يحبون أن يشعروا بالمسكنة الروحية، كما فعل قائد كنيسة لاودكية، فوبَّخه المسيح بالقول: « لأَنَّكَ تَقُولُ: إِنِّي أَنَا غَنِيٌّ وَقَدِ اسْتَغْنَيْتُ، وَلاَ حَاجَةَ لِي إِلَى شَيْءٍ، وَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ أَنْتَ الشَّقِيُّ، وَالْبَائِسُ، وَفَقِيرٌ، وَأَعْمَى، وَعُرْيَانٌ. أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَباً مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَاباً بِيضاً لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْلٍ لِكَيْ تُبْصِرَ» (رؤيا 3: 17، 18).

وكان الهدف من التوبيخ أن تكون الطوبى والارتقاء الروحي من نصيب هذا القائد. وهذا ما أراده الله لشعبه إذ قال: «أَنْزِعُ مِنْ وَسَطِكِ مُبْتَهِجِي كِبْرِيَائِكِ، وَلَنْ تَعُودِي بَعْدُ إِلَى التَّكَبُّرِ فِي جَبَلِ قُدْسِي، وَأُبْقِي فِي وَسَطِكِ شَعْباً بَائِساً وَمِسْكِيناً، فَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى اسْمِ الرَّبِّ» (صفنيا 3: 11، 12).

فما أسعد المسكين بالروح، الذي يقول له المسيح: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ، ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ» (لوقا 4: 18).

طوبى لمن اكتشف فقره الروحي، فألقى كل هموم روحه وجسده على الله.

(ب) والمسكين بالروح هو الذي يتواضع ويختار أن يضحي من أجل المسيح ، ومن أجل إخوته، ومن أجل جيرانه، مطيعاً الأمر الإلهي: «وَأَنْتَ فَهَلْ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ أُمُوراً عَظِيمَةً؟ لاَ تَطْلُبُ!» (إرميا 45: 5). وهو الذي يحيا بحسب النصيحة الربانية «مَتَى دُعِيتَ مِنْ أَحَدٍ إِلَى عُرْسٍ فَلاَ تَتَّكِئْ فِي الْمُتَّكَإِ الأَوَّلِ، لَعَلَّ أَكْرَمَ مِنْكَ يَكُونُ قَدْ دُعِيَ مِنْهُ، فَيَأْتِيَ الَّذِي دَعَاكَ وَإِيَّاهُ وَيَقُولَ لَكَ: أَعْطِ مَكَاناً لِهَذَا. فَحِينَئِذٍ تَبْتَدِئُ بِخَجَلٍ تَأْخُذُ الْمَوْضِعَ الأَخِيرَ. بَلْ مَتَى دُعِيتَ فَاذْهَبْ وَاتَّكِئْ فِي الْمَوْضِعِ الأَخِيرِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذِي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يَا صَدِيقُ، ارْتَفِعْ إِلَى فَوْقُ. حِينَئِذٍ يَكُونُ لَكَ مَجْدٌ أَمَامَ الْمُتَّكِئِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ» (لوقا 14: 8-11).

(ج) والمسكين بالروح هو الذي يعرف أن كل ما عنده عطية من عند الله: كما قال الملك داود للرب: «مِنْكَ الْجَمِيعُ، وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (1أيام 29: 14). ومثل النبي عاموس الذي قال: «لَسْتُ أَنَا نَبِيّاً وَلاَ أَنَا ابْنُ نَبِيٍّ، بَلْ أَنَا رَاعٍ وَجَانِي جُمَّيْزٍ، فَأَخَذَنِي الرَّبُّ مِنْ وَرَاءِ الضَّأْنِ وَقَالَ لِي الرَّبُّ: اذْهَبْ تَنَبَّأْ لِشَعْبِي» (عاموس 7: 14، 15).

ويسألنا الوحي: « أَيُّ شَيْءٍ لَكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟ (بمعنى أنك لم تحصل على شيء بمجهودك، لكنه من كرم الله عليك). وَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟» (1كورنثوس 4: 7).

وكل من يعرف أن ما عنده عطية إلهية يملك الله على حياته هنا، ويمنحه الحياة الأبدية في الحياة الأخرى، لأنه عضو في ملكوت الله.

والجزاء الذي يمنحه الله للمسكين بالروح هو أن يُدخله ملكوت السماوات، فيكون من رعايا الملك السماوي الآن! فالمسيح لا يقول «سيكون» لهم ملكوت السماوات، ولا يقول «ربما» يكون لهم، بل «لأن لهم» الملكوت هنا والآن.

وهذا الملكوت يتكون من ثلاث خطوات:

(أ) أولها أنه يبدأ كبذرة في قلب المؤمن : يقول الله له فيها: « مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ» (لوقا 17: 21).

(ب) ثم ينمو ويصير شجرة تنمو من البذرة: فقد قال المسيح: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ حَبَّةَ خَرْدَلٍ أَخَذَهَا إِنْسَانٌ وَزَرَعَهَا فِي حَقْلِهِ، وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ. وَلَكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ، وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا» (متى 13: 31، 32) فنقول: « كَفُقَرَاءَ وَنَحْنُ نُغْنِي كَثِيرِينَ» (2كورنثوس 6: 10). «لأَنَّهُ هَكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ سَاكِنُ الأَبَدِ الْقُدُّوسُ اسْمُهُ: فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ» (إشعياء 57: 15).

(ج) وخطوته الثالثة المجازاة الكاملة في الأرض وفي سماء المجد: فيربح نفوساً للمسيح، كما قال المسيح لبطرس وأندراوس: «هَلُمَّ وَرَائِي فَأَجْعَلُكُمَا صَيَّادَيِ النَّاسِ» (متى 4: 19) فإن «رَابِحَ النُّفُوسِ حَكِيمٌ» (أمثال 11: 30).

أما في سماء المجد فيقول الرب له: «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 23).

آية للحفظ

«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات» (متى 5: 3)

صلاة

أعترف لك يا رب بفقري الروحي، وأطلب أن يبدأ ملكوتك بذرة في قلبي تنمو كشجرة زاهية مثمرة

سؤال

1- ما معنى «مسكين بالروح»؟

 

2- السعيد هو الحزين التائب

«طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» ( متى 5: 4)

الدرجة الثانية في سلّم الارتقاء الروحي هي حزن التوبة على الخطية، والحزن على غير التائبين بسبب مصيرهم المظلم. وواضحٌ أن المسيح لا يطوِّب الحزن في ذاته، فلا سعادة في الخسارة المادية، أو في فقدان عزيز، أو في اليأس كما حزن الإسخريوطي وخنق نفسه، بل إننا نرثي لمثل هؤلاء ونشجعهم. لكن الحزين الذي طوَّبه المسيح هو الحزين على خطاياه، وعلى خطايا سواه.

إنه الحزن الذي قال عنه بولس الرسول لأهل كورنثوس: « اَلآنَ أَنَا أَفْرَحُ، لاَ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ، بَلْ لأَنَّكُمْ حَزِنْتُمْ لِلتَّوْبَةِ.. لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ، وَأَمَّا حُزْنُ الْعَالَمِ فَيُنْشِئُ مَوْتاً» (2كورنثوس 7: 9، 10).

ولكن يالتعاسة من يستخفُّ بخطاياه ويؤجل توبته. لمثله يقول الوحي: « أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟ وَلَكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَباً فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ، الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ» (رومية 2: 4-6).

ودرجة التوبة تتلو درجة الإحساس بالفقر الروحي، الذي يُسعد الله صاحبه بأن يُغنيه ويعزيه.

(أ) الحزين المطوَّب هو الذي يحزن على خطاياه: ويعترف بها ويتوب عنها، فينال الغفران المجاني. فالسعادة حقاً هي مِن نصيب مَن يشعر بفقره الروحي، ويحزن على حالته الروحية وعلى خطاياه، إذ ينطبق عليه قول الوحي: « إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1يوحنا 1: 9). فسعيد هو الإنسان الذي يجهِّزه حزنه لتلقّي السعادة.

عندما قرأ رئيس الكهنة سفر الشريعة على يوشيا ملك يهوذا، أدرك الملك خطاياه وخطايا شعبه، فشعر أنه مسكين بالروح وحزن على خطاياه، واعترف بها لله وتاب، فقال الله له: « مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ قَلْبُكَ وَتَوَاضَعْتَ أَمَامَ الرَّبِّ حِينَ سَمِعْتَ مَا تَكَلَّمْتُ بِهِ.. وَمَزَّقْتَ ثِيَابَكَ وَبَكَيْتَ أَمَامِي، قَدْ سَمِعْتُ أَنَا أَيْضاً، يَقُولُ الرَّبُّ» (2ملوك 22: 19). وهكذا نال تعزية الغفران.

وقال المرنم في مزمور التوبة: «أُعَوِّمُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ سَرِيرِي بِدُمُوعِي. أُذَوِّبُ فِرَاشِي». فنال تعزية الرب، وقال: «الرَّبُّ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ بُكَائِي. سَمِعَ الرَّبُّ تَضَرُّعِي. الرَّبُّ يَقْبَلُ صَلاَتِي» (مزمور 6: 6، 8، 9).

وعندما أُخذ المسيح للمحاكمة قال أحد اليهود عن بطرس إنه من تلاميذ المسيح « فَقَالَ بُطْرُسُ: يَا إِنْسَانُ، لَسْتُ أَعْرِفُ مَا تَقُولُ! وَفِي الْحَالِ بَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ صَاحَ الدِّيكُ. فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ، فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلاَمَ الرَّبِّ كَيْفَ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. فَخَرَجَ بُطْرُسُ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً» (لوقا 22: 60-62). وغفر المسيح لبطرس، وشجعه وأوكل إليه رعاية المؤمنين كباراً وصغاراً (يوحنا 21: 15-17).

وينال الحزين على خطاياه تعزية سماوية لأن الرب يقول له: « أَنَا أَنَا هُوَ الْمَاحِي ذُنُوبَكَ لأَجْلِ نَفْسِي، وَخَطَايَاكَ لاَ أَذْكُرُهَا» (إشعياء 43: 25)

(ب) والحزين المطوَّب هو من يحزن على خطايا غيره: ويصلي لأجلهم حتى يتوبوا. هذا حزن الكارز، كما قيل عن المسيح « وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ (أورشليم) وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلاً: إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضاً حَتَّى فِي يَوْمِكِ هَذَا مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ. وَلَكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَراً عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ» (لوقا 19: 41-44).

وما أبلغ حزن المرنم وهو يقول: « جَدَاوِلُ مِيَاهٍ جَرَتْ مِنْ عَيْنَيَّ لأَنَّهُمْ لَمْ يَحْفَظُوا شَرِيعَتَكَ» (مزمور 119: 136). وهو حزن النبي إرميا على أمَّته الضالة، فقال : « أَحْشَائِي أَحْشَائِي! تُوجِعُنِي جُدْرَانُ قَلْبِي. يَئِنُّ فِيَّ قَلْبِي. لاَ أَسْتَطِيعُ السُّكُوتَ. لأَنَّكِ سَمِعْتِ يَا نَفْسِي صَوْتَ الْبُوقِ وَهُتَافَ الْحَرْبِ. بِكَسْرٍ عَلَى كَسْرٍ نُودِيَ، لأَنَّهُ قَدْ خَرِبَتْ كُلُّ الأَرْضِ.. يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ فَأَبْكِيَ نَهَاراً وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي.. اِسْمَعُوا وَاصْغُوا. لاَ تَتَعَظَّمُوا لأَنَّ الرَّبَّ تَكَلَّمَ. أَعْطُوا الرَّبَّ إِلَهَكُمْ مَجْداً.. وَإِنْ لَمْ تَسْمَعُوا ذَلِكَ فَإِنَّ نَفْسِي تَبْكِي فِي أَمَاكِنَ مُسْتَتِرَةً مِنْ أَجْلِ الْكِبْرِيَاءِ، وَتَبْكِي عَيْناَيَ بُكَاءً وَتَذْرِفُ الدُّمُوعَ، لأَنَّهُ قَدْ سُبِيَ قَطِيعُ الرَّبِّ» (إرميا 4: 19، 20 و9: 1 و13: 15-17).

ويتعزى من يحزن على خطايا سواه بتوبة كثيرين منهم، كما عزَّى الرب إرميا النبي الباكي (في إرميا 1: 11، 12) عندما سأله: «مَاذَا أَنْتَ رَاءٍ يَا إِرْمِيَا؟» فأجاب: «أَنَا رَاءٍ قَضِيبَ لَوْزٍ» (وكلمة لوز في اللغة العبرية تعني شجرة اللوز، كما تعني أيضاً: السهر. فقال إرميا إنه يرى غصن شجرة لوز، ورفع الرب نظره إلى المعنى الثاني لكلمة لوز) وقال له: «أَحْسَنْتَ الرُّؤْيَةَ، لأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لأُجْرِيَهَا» لأن الله يقظٌ وساهرٌ دوماً لينفذ أقواله السماوية.

سعيد هو الحزين على خطاياه وعلى خطايا سواه، كما هو مكتوب « صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضاً مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضاً مَعَهُ» (2تيموثاوس 2: 11، 12).

آية للحفظ

«طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» ( متى 5: 4)

صلاة

يا رب، إني تائب إليك فارحمني واغفر خطاياي، واجعلني آلة طيِّعة في يدك تجتذب الخطاة.

سؤال

2- ما هي تعزية الحزين على خطاياه؟

 

3- السعيد هو الوديع

«طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ» (متى 5: 5)

عندما يشعر الإنسان بافتقاره إلى الله يكون قد وضع قدمه على أول درجات سلّم السعادة، الذي يؤدي به إلى حزنه على خطاياه، فيصير وديعاً متواضعاً.

وقد ذكر الوحي أن كليم الله موسى كان حليماً جداً (أي وديعاً جداً) أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض (عدد 12: 3)، فقد دعاه الله وهو يرعى الغنم في مديان ليُخرج شعبه من مصر، فشعر بأنه غير مستحق. ونحن نستمد الوداعة من المسيح الذي قال: «لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ» (متى 11: 29). والذي تحدث الوحي عن وداعته وحلمه (2كورنثوس 10: 1) وقال إنه وديع (زكريا 9: 9). فما أسعد الوديع الذي يشترك مع موسى كليم الله في صفة الوداعة، والذي يستمد وداعته من المسيح كلمة الله.

قال المرنم: « أَمَّا الْوُدَعَاءُ فَيَرِثُونَ الأَرْضَ، وَيَتَلَذَّذُونَ فِي كَثْرَةِ السَّلاَمَةِ.. لأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُونَ الأَرْضَ.. انْتَظِرِ الرَّبَّ وَاحْفَظْ طَرِيقَهُ فَيَرْفَعَكَ لِتَرِثَ الأَرْضَ » (مزمور 37: 11، 22، 34). فمن هو الوديع السعيد؟

أذكر للوداعة ثلاثة معانٍ:

(أ) أولها أن الوديع هو المفترس الذي صار أليفاً: هو المتوحش الذي استُؤنس، والقوي في الشر الذي خضع لله فصار يصنع خيراً. إنه مثل شاول الطرسوسي الذي كان ينفث تهدداً وقتلاً على المؤمنين بالمسيح (أعمال 9: 1)، فظهر له المسيح بنور عظيم من السماء، فسقط على وجهه يقول: «مَاذَا تُرِيدُ يَا رَبُّ أَنْ أَفْعَلَ؟». وقد وصف اختباره هذا بقوله: « أَنَا الَّذِي كُنْتُ قَبْلاً مُجَدِّفاً وَمُضْطَهِداً وَمُفْتَرِياً. وَلَكِنَّنِي رُحِمْتُ، لأَنِّي فَعَلْتُ بِجَهْلٍ فِي عَدَمِ إِيمَانٍ. وَتَفَاضَلَتْ نِعْمَةُ رَبِّنَا جِدّاً مَعَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخُطَاةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا» (1تيموثاوس 1: 13-15). وقال للمؤمنين بالمسيح الذين سبق أن اضطهدهم: « وأَمَّا أَنَا فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ كُنْتُ كُلَّمَا أُحِبُّكُمْ أَكْثَرَ أُحَبُّ أَقَلَّ!» (2كورنثوس 12: 15).

(ب) والوديع هو اللطيف الحليم: هو مثل المسيح الذي ظهرت وداعته في أنه كان « يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا» (متى 9: 35، 36). فما أسعد المؤمن الحليم الوديع الذي يصفه الوحي بالقول: « اَلْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً» (أمثال 16: 32).

(ج) والوديع هو القابل للتعليم: وصفه الوحي بالقول: « اطْرَحُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ وَكَثْرَةَ شَرٍّ. فَاقْبَلُوا بِوَدَاعَةٍ الْكَلِمَةَ الْمَغْرُوسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُخَلِّصَ نُفُوسَكُمْ» (يعقوب 1: 21). إنه متواضع، يشعر أنه لا يعرف أشياء كثيرة، فيفتح قلبه وعقله ليتعلم. إنه مثل إسفنجة مستعدة لتتشرَّب المزيد من المعرفة، كما كانت العذراء القديسة مريم، التي عندما سمعت كلام الرعاة عن الطفل يسوع « كَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هَذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا» (لوقا 2: 19)، ومثل مريم أخت مرثا التي « جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ.. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا» (لوقا 10: 39-42).

وهناك بركتان على الأقل ينالهما الوديع:

(أ) الوديع يرث الأرض الروحية: هنا على الأرض، وهناك في السماء الجديدة والأرض الجديدة (رؤيا 21: 1). فقد قال الوحي: « مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ» (1بطرس 1: 3-5).

(ب) والوديع يربح سكان الأرض: فإن رابح النفوس حكيم (أمثال 11: 30). وكل من يتبع المسيح يكرمه المسيح بأن يجعله صياداً للناس (متى 4: 19).

قال بطرس للمسيح: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». فأجابه: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً، أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ، أَوْ أَباً أَوْ أُمّاً، أَوِ امْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً، أَوْ حُقُولاً، لأَجْلِي وَلأَجْلِ الإِنْجِيلِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ الآنَ فِي هَذَا الزَّمَانِ: بُيُوتاً، وَإِخْوَةً وَأَخَوَاتٍ وَأُمَّهَاتٍ وَأَوْلاَداً، وَحُقُولاً مَعَ اضْطِهَادَاتٍ، وَفِي الدَّهْرِ الآتِي الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ» (مرقس 10: 28-30).

آية للحفظ

«طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ» (متى 5: 5)

صلاة

يا رب، أشكرك لأن المسيح يعلمني الوداعة، فاجعلني وديعاً مستعداً أن أتعلم ما يقوله لي الروح القدس

سؤال

3- ما هي معاني الوداعة؟

 

4- السعيد هو الذي بلغ درجة الجوع والعطش

إلى البر

«طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (متى 5: 6)

عندما يشعر الإنسان بفقره الروحي يلجأ إلى الرب فيعزيه ويغفر له، فيحس بالوداعة، ويرتقي في السلّم الروحي إلى درجة الجوع والعطش لمزيدٍ من الارتقاء الروحي. والجوع والعطش علامة الحياة، فإن الموتى لا يجوعون ولا يعطشون.

وهناك أحياء بالجسد لكنهم أموات بالروح، يجوعون ويعطشون فقط للثروة والجاه والعلم والشهوة، ولكنهم لا يشعرون بالجوع والعطش إلى الله، لأن المسرات العالمية تجتذبهم إلى أوهام شبع كاذب يشوِّش قلوبهم ويعمي أبصارهم فلا يحسون بالجوع! وينطبق عليهم الوصف « شَعْبِي عَمِلَ شَرَّيْنِ: تَرَكُونِي أَنَا يَنْبُوعَ الْمِيَاهِ الْحَيَّةِ لِيَنْقُرُوا لأَنْفُسِهِمْ آبَاراً آبَاراً مُشَقَّقَةً، لاَ تَضْبُطُ مَاءً» (إرميا 2: 13).

أما الجياع والعطاش إلى البر فإنهم أحياء جسدياً وروحياً، يجوعون إلى علاقة سليمة حميمة مع الله تتعمق كل يوم، ويقولون مع القديس أغسطينوس: «اللهم، لقد خلقتنا لذاتك، فلن تجد نفوسنا راحةً إلا إذا استراحت فيك». وقد شبَّه القديس أغسطينوس العالم بكُرة، وشبَّه النفس الإنسانية بمثلث، وقال إن الكرة لن تملأ كل جوانب المثلث، لأن الله جعل الأبدية في قلب البشر (جامعة 3: 11). والأحرى بهم أن يهتفوا مع المرنم: « يَا اللهُ إِلَهِي أَنْتَ، إِلَيْكَ أُبَكِّرُ. عَطِشَتْ إِلَيْكَ نَفْسِي، يَشْتَاقُ إِلَيْكَ جَسَدِي فِي أَرْضٍ نَاشِفَةٍ وَيَابِسَةٍ بِلاَ مَاءٍ، لِكَيْ أُبْصِرَ قُوَّتَكَ وَمَجْدَكَ كَمَا قَدْ رَأَيْتُكَ فِي قُدْسِكَ» (مزمور 63: 1، 2).

لو قلت لي: لأي شيء أنت جائع، أقُل لك من أنت، فما أسعد من يجوع للبر!

•  ما هو البر الذي نجوع ونعطش له فيروينا الرب به؟

(أ) البر هو العلاقة السليمة مع الله: عاش آدم وحواء في الجنة في أُنس بالله، ولكن عندما عصى آدمُ ربَّه ضيَّعت الخطيةُ علاقته الحلوة بالله، وأخطأ آدم فأخطأت ذريته، وقتل الأخ أخاه، وفسدت الخليقة « كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً» (رومية 3: 10-12).

ولكن الله المحب الصالح تدخَّل ليعيد علاقتنا به « وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ، بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 21-26). وبكفارة المسيح يستر الله خطايانا، فنقول: « فَرَحاً أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلَهِي، لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ، كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ» (إشعياء 61: 10). هذا هو لباس التقوى، وهو خير، وهو من آيات الله.

(ب) والبر هو العدالة وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه: فتؤدي عملك على أكمل وجه، وتسدد ديونك، وتؤدي الأمانة إلى أصحابها، ولا تظلم أحداً، ولا تذمّ أحداً أو تمدحه بما ليس فيه، وتدافع عن المظلوم في غيابه، وتتفق في الرأي مع من يختلف معك إن رأيت رأيه صواباً، وتعمل بالوصية القائلة: «لاَ تَغْصِبْ قَرِيبَكَ، وَلاَ تَسْلِبْ، وَلاَ تَبِتْ أُجْرَةُ أَجِيرٍ عِنْدَكَ إِلَى الْغَدِ. لاَ تَشْتِمِ الأَصَمَّ، وَقُدَّامَ الأَعْمَى لاَ تَجْعَلْ مَعْثَرَةً، بَلِ اخْشَ إِلَهَكَ. أَنَا الرَّبُّ. لاَ تَرْتَكِبُوا جَوْراً فِي الْقَضَاءِ. لاَ تَأْخُذُوا بِوَجْهِ مِسْكِينٍ وَلاَ تَحْتَرِمْ وَجْهَ كَبِيرٍ. بِالْعَدْلِ تَحْكُمُ لِقَرِيبِكَ. لاَ تَسْعَ فِي الْوِشَايَةِ بَيْنَ شَعْبِكَ» (لاويين 19: 13-16).

(ج) والبر هو إعطاء نفسك حقها: فلا تستعبد نفسك لشيء أو شخص، ولا تُفسد جسدك بالتدخين أو الخمر أو المخدرات أو الشهوات، ولا تسمح للكراهية أن تسيطر عليك مهما كرهك الكارهون « فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ » (أفسس 5: 29).

ما أسعد الإنسان الذي يعترف بجوعه للتبرير الإلهي، ولعطشه لأن يعطي الآخرين حقوقهم، ولجوعه وعطشه لأن يعطي عقله وروحه ونفسه وجسده حقوقها. « وَإِلَهُ السَّلاَمِ نَفْسُهُ يُقَدِّسُكُمْ بِالتَّمَامِ. وَلْتُحْفَظْ رُوحُكُمْ، وَنَفْسُكُمْ، وَجَسَدُكُمْ كَامِلَةً بِلاَ لَوْمٍ عِنْدَ مَجِيءِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (1تسالونيكي 5: 23).

2- مكافأة الجياع والعطاش إلى البر:

يطوِّب المسيح الجياع للبر لأنه يشبعهم ويرويهم. لقد استجابوا للدعوة الكريمة: « أَيُّهَا الْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى الْمِيَاهِ، وَالَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا اشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا اشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْراً وَلَبَناً. لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ؟ اسْتَمِعُوا لِي اسْتِمَاعاً وَكُلُوا الطَّيِّبَ وَلْتَتَلَذَّذْ بِالدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ. أَمِيلُوا آذَانَكُمْ وَهَلُمُّوا إِلَيَّ. اسْمَعُوا فَتَحْيَا أَنْفُسُكُمْ» (إشعياء 55: 1-3).. واستجابوا لدعوة المسيح: «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ. مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا 7: 37، 38).

وعندما يشبع المؤمن ويرتوي يهتف شاكراً: «أَمَامَكَ شِبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِكَ نِعَمٌ إِلَى الأَبَدِ.. أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ.. لأَنَّهُ أَشْبَعَ نَفْساً مُشْتَهِيَةً وَمَلأَ نَفْساً جَائِعَةً خُبْزاً» (مزمور 16: 11، 17: 15، 107: 9).

آية للحفظ

«طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (متى 5: 6)

صلاة

أمامك شبع سرور. في يمينك نِعمٌ إلى الأبد. وأنا جائع متعطش إلى حضورك ونِعمك، فأشبعني واروني بك.

سؤال

4- اذكر ثلاثة معانٍ لكلمة «بر».

 

5- السعيد هو الذي يرحم غيره

« طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ» (متى 5: 7)

هذه هي الدرجة الخامسة في سلّم الارتقاء الروحي، فالمساكين الذين اغتنوا، والحزانى الذين تعزوا صاروا ودعاء، جياعاً عطاشاً إلى البر، يقدمون الرحمة لغيرهم من المحتاجين، فيُسعِدون ويَسعَدون.

والسعيد هو الرحيم الذي يتمثَّل بالله الرحيم. لم يكن الرومان يعرفون الرحمة، فقد اعتزوا بالقوة والحروب، وكانت المصارعة رياضتهم المفضلة. وقصر اليهود الرحمة على بني جنسهم، فتقول التوراة: « لا تَأْكُلُوا جُثَّةً مَا. تُعْطِيهَا لِلغَرِيبِ الذِي فِي أَبْوَابِكَ فَيَأْكُلُهَا أَوْ يَبِيعُهَا لأَجْنَبِيٍّ، لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ» (تثنية 14: 21)، وتقول أيضاً: «فِي آخِرِ سَبْعِ سِنِينَ تَعْمَلُ إِبْرَاءً. وَهَذَا هُوَ حُكْمُ الإِبْرَاءِ: يُبْرِئُ كُلُّ صَاحِبِ دَيْنٍ يَدَهُ مِمَّا أَقْرَضَ صَاحِبَهُ. لا يُطَالِبُ صَاحِبَهُ وَلا أَخَاهُ لأَنَّهُ قَدْ نُودِيَ بِإِبْرَاءٍ لِلرَّبِّ. الأَجْنَبِيَّ تُطَالِبُ، وَأَمَّا مَا كَانَ لكَ عِنْدَ أَخِيكَ فَتُبْرِئُهُ يَدُكَ مِنْهُ» (تثنية 15: 1-3) . (راجع اللاويين 25: 39-46).

أما المسيح فيقول إن الرحيم هو السعيد، لأنه يتمثل بالله الرحيم وبالمسيح الذي هو الرحمة نفسها. وما أجمل ما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:

وُلد الرِّفـقُ يوم مـولد عيسى والمروءاتُ والهُـدى والحياءُ

وازدهى الكونُ بالوليد وضاءت بسناهُ من الثَّرى الأرجــاء

وسَرَت آيةُ المسيح كما يسري من الفجر في الوجود الضياءُ

لا وعيدٌ، لا صولةٌ، لا انتقـامُ، لا حُسامٌ، لا غزوة، لا دمـاءُ

وقد ظهرت رحمة الله لآدم عندما أخطأ، فأعطاه كلمات مشجعة، هي أن المسيح «نسل المرأة» سيسحق رأس الشيطان (تكوين 3: 15) ثم فداه بذبيحة وكسى عريه وعري زوجته «بأقمصة من جلد» (تكوين 3: 21). ويقول الوحي: « الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ.. وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ.. مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 12، 21، 24-26).

•  من هو الرحيم؟

(1) هو الذي يرحم الآخرين بأن يهتم باحتياجاتهم المادية: دون النظر إلى جنسهم أو لونهم أو ديانتهم، كما اهتم السامري الصالح باليهودي الجريح، فتحنَّن عليه وضمد جراحاته، وصبَّ عليها زيتاً وخمراً، وأركبه على دابته، وأتى به إلى فندق واعتنى به. وفي الغد وهو يمضي لحال سبيله أعطى صاحب الفندق دينارين وقال له: « اعْتَنِ بِهِ وَمَهْمَا أَنْفَقْتَ أَكْثَرَ فَعِنْدَ رُجُوعِي أُوفِيكَ» (لوقا 10: 33-35) .

(2) هو الذي يرحم المخطئين في حقه ويغفر لهم: قال المسيح: « فَإِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاتِكُمْ» (متى 6: 14، 15). وقال الرسول بولس: « كُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ» (أفسس 4: 32).

سأل بطرس المسيح: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» فأجابه: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ، بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ».

وبالطبع لم يقصد المسيح تحديد حدٍّ أقصى للغفران، بل قصد أن يطلق الغفران بلا حدود!

ثم ضرب هذا المثل: « يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ إِنْسَاناً مَلِكاً أَرَادَ أَنْ يُحَاسِبَ عَبِيدَهُ. فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِي الْمُحَاسَبَةِ قُدِّمَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ مَدْيُونٌ بِعَشْرَةِ آلاَفِ وَزْنَةٍ. وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُوفِي أَمَرَ سَيِّدُهُ أَنْ يُبَاعَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَأَوْلاَدُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ وَيُوفَى الدَّيْنُ. فَخَرَّ الْعَبْدُ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَتَحَنَّنَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْعَبْدِ وَأَطْلَقَهُ وَتَرَكَ لَهُ الدَّيْنَ.

«وَلَمَّا خَرَجَ ذَلِكَ الْعَبْدُ وَجَدَ وَاحِداً مِنَ الْعَبِيدِ رُفَقَائِهِ كَانَ مَدْيُوناً لَهُ بِمِئَةِ دِينَارٍ، فَأَمْسَكَهُ وَأَخَذَ بِعُنُقِهِ قَائِلاً: أَوْفِنِي مَا لِي عَلَيْكَ. فَخَرَّ الْعَبْدُ رَفِيقُهُ عَلَى قَدَمَيْهِ وَطَلَبَ إِلَيْهِ قَائِلاً: تَمَهَّلْ عَلَيَّ فَأُوفِيَكَ الْجَمِيعَ. فَلَمْ يُرِدْ، بَلْ مَضَى وَأَلْقَاهُ فِي سِجْنٍ حَتَّى يُوفِيَ الدَّيْنَ.

«فَلَمَّا رَأَى الْعَبِيدُ رُفَقَاؤُهُ مَا كَانَ حَزِنُوا جِدّاً. وَأَتَوْا وَقَصُّوا عَلَى سَيِّدِهِمْ كُلَّ مَا جَرَى. فَدَعَاهُ حِينَئِذٍ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ كُلُّ ذَلِكَ الدَّيْنِ تَرَكْتُهُ لَكَ لأَنَّكَ طَلَبْتَ إِلَيَّ. أَفَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّكَ أَنْتَ أَيْضاً تَرْحَمُ الْعَبْدَ رَفِيقَكَ كَمَا رَحِمْتُكَ أَنَا؟

«وَغَضِبَ سَيِّدُهُ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْمُعَذِّبِينَ حَتَّى يُوفِيَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ».

ثم ختم المسيح المثَل بتعليقٍ قال فيه: «فَهَكَذَا أَبِي السَّمَاوِيُّ يَفْعَلُ بِكُمْ إِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مِنْ قُلُوبِكُمْ كُلُّ وَاحِدٍ لأَخِيهِ زَلاتِهِ » (متى 18: 21-35).

(3) هو الذي يدعو الناس إلى التوبة وخلاص نفوسهم: طاعةً للوصية الرسولية «ارْحَمُوا الْبَعْضَ مُمَيِّزِينَ، وَخَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ مُخْتَطِفِينَ مِنَ النَّارِ» (يهوذا 22، 23).

(ب) مكافأة الرحيم:

الرحيم ينال رحمةً لأنه يبيت مستريح الضمير، والرب يكافئه. قال المرنم: « طُوبَى لِلَّذِي يَنْظُرُ إِلَى الْمِسْكِينِ. فِي يَوْمِ الشَّرِّ يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. الرَّبُّ يَحْفَظُهُ وَيُحْيِيهِ. يَغْتَبِطُ فِي الأَرْضِ، وَلاَ يُسَلِّمُهُ إِلَى مَرَامِ أَعْدَائِهِ. الرَّبُّ يَعْضُدُهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِ الضُّعْفِ. مَهَّدْتَ مَضْجَعَهُ كُلَّهُ فِي مَرَضِهِ » (مزمور 41: 1-3).

وقال سليمان الحكيم: « مَنْ يَرْحَمُ الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أمثال 19: 17). فكأن من رحم الفقير قدَّم قرضاً للرب نفسه! أما قاسي القلب فيقول عنه: « مَنْ يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنْ صُرَاخِ الْمِسْكِينِ فَهُوَ أَيْضاً يَصْرُخُ وَلاَ يُسْتَجَابُ» (أمثال 21: 13).

ويقدم الحكيم نصيحة غالية، إذ يقول: « اِرْمِ خُبْزَكَ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ فَإِنَّكَ تَجِدُهُ بَعْدَ أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ. أَعْطِ نَصِيباً لِسَبْعَةٍ وَلِثَمَانِيَةٍ أَيْضاً، لأَنَّكَ لَسْتَ تَعْلَمُ أَيَّ شَرٍّ يَكُونُ عَلَى الأَرْضِ» (جامعة 11: 1، 2).

وقال النبي إشعياء إنك إن « أَنْفَقْتَ نَفْسَكَ لِلْجَائِعِ، وَأَشْبَعْتَ النَّفْسَ الذَّلِيلَةَ، يُشْرِقُ فِي الظُّلْمَةِ نُورُكَ، وَيَكُونُ ظَلاَمُكَ الدَّامِسُ مِثْلَ الظُّهْرِ، وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ، وَيُشْبِعُ فِي الْجَدُوبِ نَفْسَكَ، وَيُنَشِّطُ عِظَامَكَ فَتَصِيرُ كَجَنَّةٍ رَيَّا وَكَنَبْعِ مِيَاهٍ لاَ تَنْقَطِعُ مِيَاهُهُ» (إشعياء 58: 10، 11).

وقال المسيح إن الله الديان في اليوم الأخير يقول للذين عن يمينه: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هَؤُلاَءِ الأَصَاغِرِ فَبِي فَعَلْتُمْ» (متى 25: 34-40).

آية للحفظ

« طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ» (متى 5: 7)

صلاة

علِّمني أن أكون صاحب مشاعر رحيمة نحو المحتاجين، وأن أكون غفوراً لمن يسيئون إليَّ

سؤال

5- في كلمات قليلة اروِ مثَل «السامري الصالح».

 

6- السعيد هو النقي القلب

« طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ» (متى 5: 8)

هذه درجة أعلى في سلم الارتقاء الروحي، فالذي يشعر بمسكنته، يصير وديعاً، جائعاً إلى مزيد من البر، يرثي لغيره ويرحم، فيتنقَّى قلبُه. والنقاء الذي يرتقي إليه المؤمن هو نقاء القلب والروح والداخل، لا نقاوة الغسلات والطقوس الخارجية. وهذا ما طالب المسيح به شيوخ اليهود عندما قال: « أَنْتُمُ الآنَ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالْقَصْعَةِ، وَأَمَّا بَاطِنُكُمْ فَمَمْلُوءٌ اخْتِطَافاً وَخُبْثاً» (لوقا 11: 39).

(أ) ما هي نقاوة القلب؟

كلمة «أنقياء» التي استخدمها المسيح هنا كانت تصف الثوب المغسول، وقد صلى النبي داود: « اغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي.. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ.. قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي» (مزمور 51: 2، 7، 10).

وكانت كلمة «أنقياء» تُطلق على القمح الخالي من القش، كما قال يوحنا المعمدان عن المسيح: « أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ، وَلَكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ. الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ» (متى 3: 11، 12).

كما كانت كلمة «أنقياء» تُطلق على اللبن غير المغشوش بالماء، كما قال المرنم: « عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ اسْمِكَ» (مزمور 86: 11).

وكانت كلمة «أنقياء» تصف الجيش العامر بالشجعان الذين لا جبان بينهم، كما قال الله للقاضي جدعون: «لَمْ يَزَلِ الشَّعْبُ كَثِيراً. انْزِلْ بِهِمْ إِلَى الْمَاءِ فَأُنَقِّيَهُمْ لَكَ هُنَاكَ. وَيَكُونُ أَنَّ الَّذِي أَقُولُ لَكَ عَنْهُ: هَذَا يَذْهَبُ مَعَكَ، فَهُوَ يَذْهَبُ مَعَكَ. وَكُلُّ مَنْ أَقُولُ لَكَ عَنْهُ: هَذَا لاَ يَذْهَبُ مَعَكَ، فَهُوَ لاَ يَذْهَبُ» (قضاة 7: 4).

والنقاوة درجات، فهي في نظر سيدة البيت نظافة المكان، أما في نظر الطبيب فهي التعقيم! وكلما ارتقينا في سلّم النقاوة ونمونا في النعمة اكتشفنا آفاقاً أكبر لنقاوة القلب، وهذا ما يتضح من اختبار النبي إشعياء الذي قال: « فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِساً عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ. لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ. بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهَذَا نَادَى ذَاكَ: قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ. فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَاناً. فَقُلْتُ: وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ الشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَاكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ الشَّفَتَيْنِ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ رَأَتَا الْمَلِكَ رَبَّ الْجُنُودِ» (إشعياء 6: 1-5).

(ب) مكافأة أنقياء القلب:

أنقياء القلب يعاينون الله، ويرونه الآن في شخص المسيح الذي قال: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (يوحنا 14: 9). وقد رأى سمعان الشيخ الله في المسيح، لما حمله طفلاً وقال: «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ» (لوقا 2: 29-31).

وأنقياء القلب يعاينون الله، بمعنى أنهم يختبرون حضوره الدائم معهم، فيرون مجده كما اختبره يعقوب أب الأسباط في الصحراء، عندما رأى سلماً منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وسمع الرب يقول له: «أَنَا الرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ أَبِيكَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ.. فَقَالَ: حَقّاً إِنَّ الرَّبَّ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَأَنَا لَمْ أَعْلَمْ!.. مَا أَرْهَبَ هَذَا الْمَكَانَ! مَا هَذَا إِلا بَيْتُ اللهِ وَهَذَا بَابُ السَّمَاءِ!» (تكوين 28: 10-22).. كما اختبره داود النبي أوقات شدَّته فقال: «إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرّاً، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي» (مزمور 23: 4). ولا غرابة فقد قال الله: « تَطْلُبُونَنِي فَتَجِدُونَنِي إِذْ تَطْلُبُونَنِي بِكُلِّ قَلْبِكُمْ» (إرميا 29: 13).

ويختبر نقي القلب حضور الله الدائم فيه، لأنه هيكل حي متحرك، فيقول الوحي: « أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ، الَّذِي لَكُمْ مِنَ اللهِ، وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ» (1كورنثوس 6: 19، 20).

وفي هذا قال المسيح: « اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي.. إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا 14: 21، 23).

وتساءل المرنم: « مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟». ثم أجاب على سؤاله بقوله: « اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِباً. يَحْمِلُ بَرَكَةً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَبِرّاً مِنْ إِلَهِ خَلاَصِهِ» (مزمور 24: 3-5).

ونقي القلب يدرك الله، أما غير النقي فيَصدُق عليه القول: « النُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» ( يوحنا 1: 5) كما يرى شخصٌ عادي النجوم، أما عالِم الفلك فيدركها. ويرى الإنسان العادي عظمة الله في الكون، أما نقي القلب فيدرك بعقله وقلبه هذه العظمة فيعتمد عليها.

ولا بد أن أنقياء القلب يرون الله عياناً عندما يدخلون مجده، كما قيل: « أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يوحنا 3: 2).

آية للحفظ

« طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ» (متى 5: 8)

صلاة

« اغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي. اغْسِلْنِي فَأَبْيَضَّ أَكْثَرَ مِنَ الثَّلْجِ. قَلْباً نَقِيّاً اخْلُقْ فِيَّ يَا اللهُ، وَرُوحاً مُسْتَقِيماً جَدِّدْ فِي دَاخِلِي. عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ أَسْلُكْ فِي حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبِي لِخَوْفِ اسْمِكَ.

سؤال

6- ما هي مكافأة نقي القلب؟

 

7- السعيد هو الذي يصنع السلام

« طُوبَى لِصَانِعِي السَّلامِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْن» (متى 5: 9)

السلام ليس غياب الخصام فقط، بل حصول الإنسان على ما يُسعده ويمتعه بالخير. وصانع السلام يقدِّم لمن هم حوله الخير الأسمى. وهو في هذا يكون حكيماً « الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ، فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَاراً صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ» (يعقوب 3: 17).

(أ) الله صانع السلام:

الذي يرتقي في السلّم الروحي ويصل إلى درجة نقاوة القلب، لا بد أن يجد سعادته في صُنع السلام، متشبِّهاً بربِّه الذي صنع السلام وصالحنا لنفسه، رغم أن تكلفة هذه المصالحة كانت باهظة جداً. والمؤمن الذي يصنع السلام ينهج على مثال سيده، ويتبع خطواته، ويسير في طريقه، لأنه « إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيداً. وَلَكِنَّ الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ.. لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ» (2كورنثوس 5: 17، 18، 21).

أوقعت الخطية الخصومة بين الإنسان والله، وبددت الأُنس الذي كان بين آدم وخالقه. وسعيد هو الإنسان الذي يتصالح مع الله، بالطريقة التي وضحها الله في الإنجيل، فيقول مع صحبه من المؤمنين: « فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ إِلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ، وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ» (رومية 5: 1، 2).

(ب) المؤمن في سلام مع نفسه:

كل من يصنع السلام ترتقي نفسه في الروحيات، فيكون في صلح مع الله ومع نفسه. إن في داخلنا صراعاً بين طاعة الله وطاعة الشرير، وهذا الصراع يضيِّع سلام الإنسان. ويقول الوحي عن هذه الحرب الروحية: « اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهَذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ .. وَلَكِنَّ الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضاً بِحَسَبِ الرُّوحِ» (غلاطية 5: 16، 17، 24، 25).

(ج) المؤمن في سلام مع الآخرين:

السعيد هو الذي يصنع السلام بينه وبين الآخرين. وقد حذَّرنا سليمان الحكيم من الخصومة فيقول عن الشرير: « فِي قَلْبِهِ أَكَاذِيبُ. يَخْتَرِعُ الشَّرَّ فِي كُلِّ حِينٍ. يَزْرَعُ خُصُومَات.. هَذِهِ السِّتَّةُ يُبْغِضُهَا الرَّبُّ، وَسَبْعَةٌ هِيَ مَكْرُهَةُ نَفْسِهِ: عُيُونٌ مُتَعَالِيَةٌ. لِسَانٌ كَاذِبٌ. أَيْدٍ سَافِكَةٌ دَماً بَرِيئاً. قَلْبٌ يُنْشِئُ أَفْكَاراً رَدِيئَةً. أَرْجُلٌ سَرِيعَةُ الْجَرَيَانِ إِلَى السُّوءِ. شَاهِدُ زُورٍ يَفُوهُ بِالأَكَاذِيبِ، وَزَارِعُ خُصُومَاتٍ بَيْنَ إِخْوَةٍ» (أمثال 6: 14، 16-19). ويقول: « رَجُلُ الأَكَاذِيبِ يُطْلِقُ الْخُصُومَةَ، وَالنَّمَّامُ يُفَرِّقُ الأَصْدِقَاءَ.. كَلاَمُ النَّمَّامِ مِثْلُ لُقَمٍ حُلْوَةٍ فَيَنْزِلُ إِلَى مَخَادِعِ الْبَطْنِ» (أمثال 16: 28، 26: 22).

حقاً « لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلَهِي لِلأَشْرَارِ» (إشعياء 57: 21)، أما للمؤمن فتقول الوصية الرسولية: « كُونُوا جَمِيعاً مُتَّحِدِي الرَّأْيِ بِحِسٍّ وَاحِدٍ، ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ، مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ، غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِالْعَكْسِ مُبَارِكِينَ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً. لأَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ الْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّاماً صَالِحَةً، فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ الشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ أَنْ تَتَكَلَّمَا بِالْمَكْرِ. لِيُعْرِضْ عَنِ الشَّرِّ وَيَصْنَعِ الْخَيْرَ، لِيَطْلُبِ السَّلاَمَ وَيَجِدَّ فِي أَثَرِهِ» (1بطرس 3: 8-11).

ف ما أجمل أن نطيع الوصية « إِنْ أَخْطَأَ إِلَيْكَ أَخُوكَ فَوَبِّخْهُ، وَإِنْ تَابَ فَاغْفِرْ لَه» (لوقا 17: 3). « لاَ تُجَازُوا أَحَداً عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ. مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَةٍ قُدَّامَ جَمِيعِ النَّاسِ. إِنْ كَانَ مُمْكِناً فَحَسَبَ طَاقَتِكُمْ سَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ» (رومية 12: 17، 18).

(د) المؤمن يصنع السلام بين الناس:

والسعيد الذي يرتقي في السلّم الروحي يصنع السلام بين الناس وبعضهم، فإذا عرف أن اثنين متخاصمان يسعى ليصلح بينهما، مهما كلفه هذا من عناء. إنه الذي يعمل على إنهاء المشاجرات ولا يهنأ باله حتى تصفو القلوب وتسود المحبة.

كان شاب يعمل واعظاً في قرية صغيرة، عندما نشب نزاعٌ بين العائلتين الكبيرتين فيها، وكاد النزاع يؤدي إلى جريمة قتل، فقام ذلك الواعظ بصُنع السلام بين العائلتين بأن كان يستدرج أفراد العائلة الأولى ليذكروا محاسن وأفضال العائلة الثانية، ثم ينقل هذه الكلمات الطيبة إلى العائلة الأخرى، فصبَّ بذلك ماءً على نار الخصام وأطفأها!

(هـ) المؤمن يصنع السلام بين الناس والله:

والارتقاء الأعظم لصانع السلام أن يصنع السلام بين الناس والله «أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ. إِذاً نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ» (2كورنثوس 5: 19، 20). وبهذا ن طيع الوصية الرسولية « أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ عَنِ الْحَقِّ فَرَدَّهُ أَحَدٌ، فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئاً عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ يُخَلِّصُ نَفْساً مِنَ الْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا» (يعقوب 5: 19، 20). فيتم لنا قول النبي: « وَالْفَاهِمُونَ يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ (يضيئون) كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ» (دانيال 12: 3).

(و) صانع السلام هو ابن لله:

اعتاد العبرانيون أن يطلقوا على صانع السلام لقب «ابن السلام» وعلى من يشجع غيره لقب «ابن الوعظ» أي ابن التشجيع (أعمال 4: 36).. وصانعو السلام هم أبناء الله، بمعنى أنهم يقومون بصنع السلام كما يفعل الله!

آية للحفظ

« طُوبَى لِصَانِعِي السَّلامِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْن» (متى 5: 9)

صلاة

علِّمني يا رب أن أعود إليك فور ضلالي عنك، وأن أردَّ خاطئاً عن ضلال طريقه، فأضيء كالكواكب إلى أبد الدهور.

سؤال

7- ما معنى أن صانع السلام هو ابنٌ لله؟

 

8- السعيد هو الذي يحتمل الألم

«10 طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات. 11 طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. 12 افْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هَكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ» (متى 5: 10-12).

الدرجة العليا في سلم الارتقاء الروحي هي أن المؤمن الذي يطيع الوصية ويحب الربَّ من كل قلبه وفكره وقدرته يحب البشر جميعاً، أصدقاء وأعداء، ويحتمل كل افتراءٍ وألمٍ منهم من أجل المسيح الذي قال: « مَنْ أَحَبَّ أَباً أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْناً أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُنِي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي. مَنْ وَجَدَ حَيَاتَهُ يُضِيعُهَا، وَمَنْ أَضَاعَ حَيَاتَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا» (متى 10: 37-39).

والسعيد حقاً هو الذي يطيع وصية المسيح: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟ فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (متى 16: 24-27).

والسعيد حقاً هو من يقبل اضطهاد العالم له بسبب مبادئه الإلهية، لأنه ينتظر المجازاة السماوية من عند الله، تحقيقاً لوعود الله الصادقة والأمينة.

في هذه التطويبة الثامنة يقول المسيح إن المطرودين من أجل البر سعداء لثلاثة أسباب:

1- لأن لهم ملكوت السماوات: (آية 10).

يقرِّب الاضطهاد المؤمنين كأفرادٍ وككنيسة من الله، ويجعلهم يستندون عليه أكثر، وهو يجعل الكنيسة تنمو في التمسك بالشهادة للرب، وقد كانت دماء الشهداء بذار الكنيسة على مرِّ العصور، كما قيل: « وَحَدَثَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اضْطِهَادٌ عَظِيمٌ عَلَى الْكَنِيسَةِ الَّتِي فِي أُورُشَلِيمَ فَتَشَتَّتَ الْجَمِيعُ فِي كُوَرِ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ مَا عَدَا الرُّسُلَ.. فَالَّذِينَ تَشَتَّتُوا جَالُوا مُبَشِّرِينَ بِالْكَلِمَةِ» (أعمال 8: 1، 4).

ويقف الرب إلى جانب كل مؤمن متألم، كما قيل: « اللهُ أَمِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضاً الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا» (1كورنثوس 10: 13).

وقد اختبر الرسول يعقوب هذه الصُّحبة السماوية وقت الاضطهاد، فكتب لإخوته المضطَهَدين: « اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ.. طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ» (يعقوب 1: 2، 12).. كما اختبرها الرسول بولس، فقال: «إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضاً مَعَهُ. فَإِنِّي أَحْسِبُ أَنَّ آلاَمَ الزَّمَانِ الْحَاضِرِ لاَ تُقَاسُ بِالْمَجْدِ الْعَتِيدِ أَنْ يُسْتَعْلَنَ فِينَا» (رومية 8: 17، 18).

2- لأن هذا يبيِّن صدق إيمانهم: (آية 11).

يقع الاضطهاد على المؤمنين «من أجل المسيح» وافتراءً من المُضطهِدين، كما جرى مع استفانوس، الشهيد المسيحي الأول، فيقول الوحي عنه: « فَإِذْ كَانَ مَمْلُوّاً إِيمَاناً وَقُوَّةً كَانَ يَصْنَعُ عَجَائِبَ وَآيَاتٍ عَظِيمَةً فِي الشَّعْبِ.. حِينَئِذٍ دَسُّوا لِرِجَالٍ يَقُولُونَ: إِنَّنَا سَمِعْنَاهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمِ تَجْدِيفٍ عَلَى مُوسَى وَعَلَى اللهِ.. وَأَمَّا هُوَ فَشَخَصَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، فَرَأَى مَجْدَ اللهِ وَيَسُوعَ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَقَالَ: هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَاوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِماً عَنْ يَمِينِ اللهِ. فَصَاحُوا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَسَدُّوا آذَانَهُمْ وَهَجَمُوا عَلَيْهِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَرَجَمُوهُ. وَالشُّهُودُ خَلَعُوا ثِيَابَهُمْ عِنْدَ رِجْلَيْ شَابٍّ يُقَالُ لَهُ شَاوُلُ. فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي. ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ. وَإِذْ قَالَ هَذَا رَقَدَ. وَكَانَ شَاوُلُ رَاضِياً بِقَتْلِهِ» (أعمال 6: 8، 11 و7: 55-8: 1).

وأعلن المسيح أن السعادة من نصيب المضطهَد بشرطين: أن يكون اضطهاده من أجل البر، وأن يكون لأسباب كاذبة. فلم يطوِّب المسيح الذين يقاسون بسبب أخطائهم، بل الذين يعانون بسبب برِّهم. وفي هذا يقول الوحي: « لأَنَّ هَذَا فَضْلٌ إِنْ كَانَ أَحَدٌ مِنْ أَجْلِ ضَمِيرٍ نَحْوَ اللهِ يَحْتَمِلُ أَحْزَاناً مُتَأَلِّماً بِالظُّلْمِ، لأَنَّهُ أَيُّ مَجْدٍ هُوَ إِنْ كُنْتُمْ تُلْطَمُونَ مُخْطِئِينَ فَتَصْبِرُونَ؟ بَلْ إِنْ كُنْتُمْ تَتَأَلَّمُونَ عَامِلِينَ الْخَيْرَ فَتَصْبِرُونَ، فَهَذَا فَضْلٌ عِنْدَ اللهِ. لأَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ، بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (1بطرس 2: 19-23).

3- ولأنهم يشاركون أنبياء الله الصادقين: (آية 12).

احتمل أنبياء الله في كل العصور الكثير من الاضطهاد لأجل رسالتهم السماوية، فقالت الرسالة إلى العبرانيين عن آلام الأنبياء: « تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضاً وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ، وَهُمْ لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقّاً لَهُمْ. تَائِهِينَ فِي بَرَارِيَّ وَجِبَالٍ وَمَغَايِرَ وَشُقُوقِ الأَرْضِ» (عبرانيين 11: 36-38).

وقال المسيح لتلاميذه: « إِنْ كَانَ الْعَالَمُ يُبْغِضُكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَبْغَضَنِي قَبْلَكُمْ. لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلَكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ لِذَلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ. اُذْكُرُوا الْكلاَمَ الَّذِي قُلْتُهُ لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ حَفِظُوا كلاَمِي فَسَيَحْفَظُونَ كلاَمَكُمْ. لَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِكُمْ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَجْلِ اسْمِي، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا 15: 18-21).

وقال الله عن الرسول بولس: « هَذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي» (أعمال 9: 15، 16). فكتب بولس لمؤمني فيلبي يقول: « قَدْ وُهِبَ لَكُمْ لأَجْلِ الْمَسِيحِ لاَ أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضاً أَنْ تَتَأَلَّمُوا لأَجْلِهِ» (فيلبي 1: 29).

فلماذا يضطهد عالمنا الأبرار مع أنه يحتاج إليهم وإلى برِّهم؟ والإجابة هي: أنه يضطهدهم لأنه لا يريد أن يكون باراً.. ويضطهدهم لأنهم مختلفون عنه.. ولأنهم يرفضون مبادئه.. ولأنهم يدافعون عن قضايا مكروهة عنده، فقد « أَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ السَّيِّآتِ يُبْغِضُ النُّورَ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى النُّورِ لِئَلا تُوَبَّخَ أَعْمَالُهُ. وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُ الْحَقَّ فَيُقْبِلُ إِلَى النُّورِ، لِكَيْ تَظْهَرَ أَعْمَالُهُ أَنَّهَا بِاللَّهِ مَعْمُولَةٌ» (يوحنا 3: 19-21).

في رواية «سياحة المسيحي» تخيَّل كاتبها «يوحنا بنيان» أن السائح المسيحي في طريقه للسماء مرَّ بسوقٍ اسمه «سوق الأباطيل» فيه بضاعة أهل العالم، ولما دعوه ليشتري بضاعتهم رفض، فجرّوه للمحاكمة أمام أربعة قضاة، هم «كاره الحق» و«عديم الصلاح» و«الحقود» و«الخليع» فأصدر القضاة حكمهم بالتخلص منه «لأن وجوده يحرمهم من الراحة».

وهذا ما قاله الملك أخآب للنبي إيليا: «أَأَنْتَ هُوَ مُكَدِّرُ إِسْرَائِيلَ؟» فأجابه النبي: «لَمْ أُكَدِّرْ إِسْرَائِيلَ، بَلْ أَنْتَ وَبَيْتُ أَبِيكَ، بِتَرْكِكُمْ وَصَايَا الرَّبِّ، وَبِسَيْرِكَ وَرَاءَ (وثن) الْبَعْلِيمِ » (1ملوك 18: 17، 18).

وهو عين ما قاله ديمتريوس الصائغ الذي كان يصنع أصنام «أرطاميس» (ديانا) وكان يُكسِب العاملين معه مكسباً كبيراً، فجمع صانعي الأصنام وبائعيها وقال لهم: « أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ سِعَتَنَا إِنَّمَا هِيَ مِنْ هَذِهِ الصِّنَاعَةِ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَتَسْمَعُونَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَفَسُسَ فَقَطْ بَلْ مِنْ جَمِيعِ أَسِيَّا تَقْرِيباً اسْتَمَالَ وَأَزَاغَ بُولُسُ هَذَا جَمْعاً كَثِيراً قَائِلاً: إِنَّ الَّتِي تُصْنَعُ بِالأَيَادِي لَيْسَتْ آلِهَةً. فَلَيْسَ نَصِيبُنَا هَذَا وَحْدَهُ فِي خَطَرٍ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ فِي إِهَانَةٍ، بَلْ أَيْضاً هَيْكَلُ أَرْطَامِيسَ الإِلَهَةِ الْعَظِيمَةِ، أَنْ يُحْسَبَ لاَ شَيْءَ، وَأَنْ سَوْفَ تُهْدَمُ عَظَمَتُهَا، هِيَ الَّتِي يَعْبُدُهَا جَمِيعُ أَسِيَّا وَالْمَسْكُونَةِ. فَلَمَّا سَمِعُوا امْتَلأُوا غَضَباً، وَطَفِقُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: عَظِيمَةٌ هِيَ أَرْطَامِيسُ الأَفَسُسِيِّينَ! فَامْتَلأَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا اضْطِرَاباً وَانْدَفَعُوا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى الْمَشْهَدِ، خَاطِفِينَ مَعَهُمْ غَايُوسَ وَأَرِسْتَرْخُسَ الْمَكِدُونِيَّيْنِ رَفِيقَيْ بُولُسَ فِي السَّفَرِ» (أعمال 19: 25-29).

طوبى لك إن كنت تتألم من أجل مبادئك المقدسة، فقد سبقك رجال الله الأتقياء، وكافأهم الله بالحياة الأبدية في ملكوت السماوات! احسب آلامك فرحاً، ولا تشتكِ ولا تَرْثِ لنفسك، ولا ترُد إساءة العالم لك بإساءة، بل صلِّ مع استفانوس، الشهيد المسيحي الأول قائلاً: «يَا رَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هَذِهِ الْخَطِيَّةَ» (أعمال 7: 60). فقد صلى سيدك لأجل صالبيه: « يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34).

آية للحفظ

«طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات» (متى 5: 10)

صلاة

أشكرك لأنك وقفت معي يوم تألمت بسبب أخطائي، وأشكرك لأنك أسعدتني وقويتني لأحتمل الاضطهاد من أجلك وأنا بريء

سؤال

8- لماذا يضطهد عالمُنا الأبرار؟


الفصل الثاني

تأثير الارتقاء الروحي

 

عندما يرتقي المؤمن في سلم الحياة الروحية، يحب الله أكثر مما يحب نفسه، ويترك تأثيره الصالح على المحيطين به، فيصبح سعيداً ومصدر سعادة لأهل مجتمعه، ويدعوه المسيح «ملحاً للأرض» و«نوراً للعالم».

وواضح من التشبيهين أن المؤمنين الذين هم «ملح للأرض ونور للعالم» موجودون في الأرض والعالم، لكنهم ليسوا من الأرض ولا من العالم، ففي عالمنا مملكتان: مملكة الله والخير، وهي مملكة الملح والنور؛ ومملكة الشر وهي الأرض والعالم. وعلى مملكة الله أن تضيء الطريق لمملكة العالم ليرى أتباعها نور المسيح.

 

1- السعيد هو من يملِّح الأرض

قال المسيح للذين ارتقوا درجات سلم التطويبات: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ وَلَكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لا يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ إِلا لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجاً وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ» (متى 5: 13).

(أ) الملح نقي: والمؤمن يجب أن يكون نقياً. كان الرومان يعتبرون الملح نقياً لأنه مأخوذ من البحر والشمس، ولأنه أبيض اللون. وقال الله لموسى أن يضع بخوراً عطراً في خيمة الاجتماع « صَنْعَةَ الْعَطَّارِ، مُمَلَّحاً نَقِيّاً مُقَدَّساً » (خروج 30: 35). وبحسب شريعة موسى كان الملح يُضاف إلى القرابين، فتقول الشريعة: « وَكُلُّ قُرْبَانٍ مِنْ تَقَادِمِكَ بِالْمِلْحِ تُمَلِّحُهُ، وَلاَ تُخْلِ تَقْدِمَتَكَ مِنْ مِلْحِ عَهْدِ إِلَهِكَ. عَلَى جَمِيعِ قَرَابِينِكَ تُقَرِّبُ مِلْحاً» (لاويين 2: 13).

(ب) وكان الملح غالي الثمن: والمؤمن عزيز على الرب يقول له: « إِذْ صِرْتَ عَزِيزاً فِي عَيْنَيَّ مُكَرَّماً، وَأَنَا قَدْ أَحْبَبْتُكَ» (إشعياء 43: 3) . كان القدماء يعقدون معاهداتهم ومواثيقهم على الملح لأنه ثمين، فقال الملك أبيا، حفيد الملك داود، لبني إسرائيل: « أَمَا لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ أَعْطَى الْمُلْكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ لِدَاوُدَ إِلَى الأَبَدِ وَلِبَنِيهِ بِعَهْدِ مِلْحٍ؟ » (2أخبار 13: 5). ونحن نقول عن الصداقة والوفاء «أكل عيش وملح» أي المشاركة في الطعام. وكتب سكان عبر النهر إلى الملك أحشويروش يقولون: « وَالآنَ بِمَا إِنَّنَا نَأْكُلُ مِلْحَ دَارِ الْمَلِكِ، وَلاَ يَلِيقُ بِنَا أَنْ نَرَى ضَرَرَ الْمَلِكِ، لِذَلِكَ أَرْسَلْنَا فَأَعْلَمْنَا الْمَلِكَ» (عزرا 4: 14).

(ج) والملح يحفظ الطعام من الفساد: والمؤمن يحفظ العالم من الفساد. جاء في سفر الملوك الثاني أن الشعب لجأ إلى النبي أليشع يقول: «هُوَذَا مَوْقِعُ الْمَدِينَةِ حَسَنٌ كَمَا يَرَى سَيِّدِي، وَأَمَّا الْمِيَاهُ فَرَدِيئَةٌ وَالأَرْضُ مُجْدِبَةٌ». فَقَالَ: «ائْتُونِي بِصَحْنٍ جَدِيدٍ وَضَعُوا فِيهِ مِلْحاً». فَأَتُوهُ بِهِ، فَخَرَجَ إِلَى نَبْعِ الْمَاءِ وَطَرَحَ فِيهِ الْمِلْحَ وَقَالَ: «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ أَبْرَأْتُ هَذِهِ الْمِيَاهَ. لاَ يَكُونُ فِيهَا أَيْضاً مَوْتٌ وَلاَ جَدْبٌ». فَبَرِئَتِ الْمِيَاهُ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ حَسَبَ قَوْلِ أَلِيشَعَ الَّذِي نَطَقَ بِهِ» (2ملوك 2: 19-22).

فعندما يسمّي المسيح المؤمنين «ملح الأرض» يقصد أنهم يجب أن يكونوا أنقياء، وذوي قيمة، لأنهم كالملح الذي يحفظ الطعام من الفساد.

(د) والملح يعطي الطعام طعماً مقبولاً: وكذلك المؤمن. يتساءل أيوب: « هَلْ يُؤْكَلُ الْمَسِيخُ بِلاَ مِلْحٍ ؟» (أيوب 6: 6). و«المسيخ» هو الطعام الخالي من الطعم والنكهة. فإن الملح يجعل الطعام مقبول الطعم.

(هـ) ويقوم الملح بعمله بدون ضوضاء: وهكذا يجب أن يعمل المؤمن، معطياً الفضل كله للرب صاحب الفضل، كما قال المسيح: «احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!» (متى 6: 1، 2).

وفي هذا يشبه المؤمن سيده الذي قيل عنه: «لاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَرْفَعُ، وَلاَ يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ» (إشعياء 42: 2).

(و) والملح يذوب في الطعام ويتغلغل فيه: لا بد أن يعيش المؤمن في العالم ليباركه، كما صلى المسيح: « لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ » (يوحنا 17: 15). لا بد للملح من أن يتغلغل في الطعام ويذوب فيه ليحفظه من الفساد، وليعطيه الطعم المقبول. والمؤمن الحقيقي هو الذي يعيش إيمانه وسط مجتمعه، غير منعزلٍ عنه.

(ز) وعلى المؤمن أن يحترس من أن يفقد ملوحته، فلا يجد من يملحه: قال المسيح: « اَلْمِلْحُ جَيِّدٌ. وَلَكِنْ إِذَا صَارَ الْمِلْحُ بِلاَ مُلُوحَةٍ، فَبِمَاذَا تُصْلِحُونَهُ؟ لِيَكُنْ لَكُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ مِلْحٌ وَسَالِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (مرقس 9: 50). ويفقد الملح مميزاته إن اختلط بمواد غريبة وبالأقذار. فعلى المؤمن أن يحترس من أن يتلوَّث بالفساد الذي في العالم فيفقد ملوحته، و« لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحاً بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ » (كولوسي 4: 6).

ويلقى الملح الذي يفقد ملوحته نهايتان سيئتان: يطرحه الله خارجاً فيسقط من النعمة (غلاطية 5: 4)، ويدوسه الناس بأرجلهم لأنه فقد قوة تأثيره!

آية للحفظ

«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ» (متى 5: 13)

صلاة

احفظني يا رب من أن تختلط حياتي بأقذار هذا العالم، وساعدني لأحفظ نفسي طاهراً

سؤال

9- اذكر صفتين للمؤمن مستمدتين من صفات الملح.

 

2- والسعيد هو من ينير العالم

«14 أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. لا يُمْكِنُ أَنْ تُخْفَى مَدِينَةٌ مَوْضُوعَةٌ عَلَى جَبَلٍ، 15 وَلا يُوقِدُونَ سِرَاجاً وَيَضَعُونَهُ تَحْتَ الْمِكْيَالِ بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، فَيُضِيءُ لِجَمِيعِ الَّذِينَ فِي الْبَيْتِ. 16 فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هَكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى 5: 14-16).

(أ) يستمد المؤمن نوره من المسيح نور العالم: وذلك كما يستمد القمر نوره من الشمس. قال المسيح: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ.. مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يوحنا 8: 12، 9: 5). ونوره هو نور الحق. و« اللهُ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا (نحن المؤمنين)، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ » (2كورنثوس 4: 6). فيجب أن «تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَداً للهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيلٍ مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ» (فيلبي 2: 15).

أيها المؤمن، لا تسمح لشيء أن يفصلك عن المسيح فيحدث خسوف في حياتك، كما يحدث للقمر عندما تفصل الأرض بينه وبين الشمس!

(ب) النور لا يمكن أن يختفي: المدينة المبنية على جبل، لا يمكن أن تختفي! ويتطلع العالم دائماً إلى المؤمنين الذين يجب أن يضيئوا للعالم. ويقول الوحي: « صِرْنَا مَنْظَراً لِلْعَالَمِ لِلْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ » (1كورنثوس 4: 9). والمؤمنون سراج العالم بأعمالهم وسيرتهم وشهادتهم، فيجب أن يوضعوا فوق منارة ليضيئوا للجميع. فيجب « أَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرٍّ يُمَجِّدُونَ اللهَ فِي يَوْمِ الاِفْتِقَادِ، مِنْ أَجْلِ أَعْمَالِكُمُ الْحَسَنَةِ الَّتِي يُلاَحِظُونَهَا » (1بطرس 2: 12).

(ج) قد يضع المؤمن نوره «تحت مكيال» أو يغطيه « بِإِنَاءٍ أَوْ يَضَعُهُ تَحْتَ سَرِيرٍ»: ( لوقا 8: 16) فينشغل بتجارته وأعماله ومكاييله، أو يغلبه الكسل والخمول والنوم الروحي، فيحجب نور المسيح الذي فيه عن مجتمعه. « فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!» (متى 6: 23). فليعمل كل مؤمن كل ما بوسعه ليرى الناس أعماله الحسنة، كما كان المعمدان « السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ » (يوحنا 5: 35)، فأرشد الناس للمسيح « حَمَل اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29)، وكما كان داود سراج بني إسرائيل (2صموئيل 21: 17).

(د) والنور يعمل في صمت: المصباح الذي يُحدث ضوضاءً مصباحٌ مُشكِل! فلنحافظ على مصباحنا منيراً في صمت، لأن المصباح الصالح لا يصدر ضوضاء، بل يضيء في هدوء، ويقول: « أُرِيكَ بِأَعْمَالِي إِيمَانِي» (يعقوب 2: 18). أما الذي يلفت الأنظار بضوضائه فيحتاج إلى تهذيب!

(هـ) والنور يكلف: فالشمعة تحترق لتضيء لمن هم حولها. فكن مستعداً لأن تدفع تكلفة الإنارة للآخرين، كما قال الرسول بولس لمؤمني مدينة كورنثوس: «فَبِكُلِّ سُرُورٍ أُنْفِقُ وَأُنْفَقُ لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ» (2كورنثوس 12: 15).

(و) والنور الموضوع على المنارة يضيء الطريق للناس: فعندما يرون أعمال المؤمنين الحسنة، يمجدون أباهم السماوي، ويتبعونه مؤمنين به، لأن نور الفادي المشعّ في المؤمنين يجذبهم إلى رب الفداء.

آية للحفظ

«أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ» (متى 5: 14)

صلاة

هبني أن أكون سراجاً متقداً منيراً فأجتذب الناس إلى معرفة المسيح الطريق والحق والحياة

سؤال

10- ما معنى وضع السراج تحت مكيال، أو تحت سرير؟


الفصل الثالث

شريعة جديدة للارتقاء الروحي

(متى 5: 17-20)

 

المؤمن الذي ارتقى درجات السلم الروحي يتبع دستور شريعة المسيح الجديدة، التي لا تغفل ولا تنقض الشريعة القديمة، بل تكملها، فهي لا تنقض شريعة «لا تقتل» (خروج 20: 13) ولكنها تكملها بأن تنهى عن الغضب الذي قد يؤدي إلى القتل، بل إنها تعتبر الغضب كالقتل (متى 5: 21-26). وهي لا تنقض وصية «لا تزنِ» (خروج 20: 14) ولكنها تكملها بأن تطالب بشريعة طهارة العين واليد (متى 5: 27-30). وهي لا تنقض شريعة «عين بعين» (لاويين 24: 20) ولكنها تكملها بالغفران الكامل للمسيء، وإظهار كل محبة له (متى 5: 38-41).. وهكذا.

1- الشريعة القديمة:

«17 لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18 فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لا يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ» (متى 5: 17، 18).

كان الفريسيون متمسكين بشريعة موسى ونبوات الأنبياء لأنها كلها جاءت مباشرة من عند الله، تعلن إرادته التي لا تتغير، وكانوا يرون في تطبيقها وطاعتها رجاءهم الوحيد.

فلما جاء المسيح بالتطويبات ظنوا أنه ينقض شريعة موسى وتعاليم الأنبياء وينسخها، لأنهم لاحظوا أنه كان يشفي في يوم السبت، كما سمح لتلاميذه أن يقطفوا سنابل القمح في ذلك اليوم، فظنوه يكسر الوصية (مرقس 2: 23-3: 6). وصُدموا وهم يرونه يختار أتباعه من عامة الشعب من الصيادين وجُباة الضرائب، فاتهموه أنه «مُحِبٌّ لِلْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ» (متى 11: 19) فلا بد أن يكون على شاكلتهم. وكان أسلوبه الوعظي مختلفاً عن الأسلوب الذي اعتادوا سماعه، وهو الأسلوب الذي كان يستمد سلطانه من اقتباس أقوال أساتذة الشريعة القدماء، كما أنه لم يكن قد تخرَّج من مدرسة لاهوتية فقهية.

ولهذا أعلن المسيح أنه جاء ليكمل الشريعة وأقوال الأنبياء لا لينقضها. والفعل «يكمِّل» يعني: «يؤكد» و«يثبِّت» و«ينفذ» و«يوضح المعنى». فالإنجيل كامنٌ في العهد القديم، ولكنه معلَنٌ في العهد الجديد «وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ اللهِ بِدُونِ النَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ النَّامُوسِ وَالأَنْبِيَاءِ.. لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هِيَ: الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ» (رومية 3: 21، 10: 4). وقال الأسقف رايل: «العهد القديم هو الإنجيل في البرعم، أما العهد الجديد فهو الإنجيل في الزهرة.. العهد القديم هو الإنجيل في ورقة النبات، أما العهد الجديد فهو الإنجيل في السنبلة الكاملة».

حقاً «اَلسَّمَاءُ وَالأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلَكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متى 24: 35). «كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ. وَلَكِنَّ زَوَالَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ» (لوقا 16: 16، 17).

ويقول الوحي عن المؤمنين «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ. لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا» (1بطرس 1: 23-25).

كيف أكمل المسيح الناموس؟

(أ) أكمل المسيح الناموس بأن أوضح معناه الحقيقي، وهو المحبة لله من كل القلب، ومحبة الآخرين كالنفس، ف أكمله برفعه من مرتبة الحرفيات إلى الروحيات. وقد أوجز القديس أغسطينوس شريعة المسيح الجديدة بقوله «أحبَّ الله وافعل ما شئت!». وأوجزها المسيح بقوله: « كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ» (متى 7: 12).

و عندما جاءه أحد معلمي الشريعة يسأل المسيح: «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» أجابه: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى. وَثَانِيَةٌ مِثْلُهَا هِيَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. لَيْسَ وَصِيَّةٌ أُخْرَى أَعْظَمَ مِنْ هَاتَيْنِ» (مرقس 12: 29-31).

وبروح المسيح قال الرسول: « لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ، لأَنَّ «لاَ تَزْنِ. لاَ تَقْتُل.ْ لاَ تَسْرِقْ. لاَ تَشْهَدْ بِالزُّورِ. لاَ تَشْتَهِ» وَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً أُخْرَى هِيَ مَجْمُوعَةٌ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ: «أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ». اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ » (رومية 13: 8-10).

واعتبر المسيح الدافع على العمل يسبق العمل نفسه، فعلَّم بضرورة فعل الصواب وليس فقط الامتناع عن الخطأ.. وعلَّم أن روح الشريعة يسمو على طقوسها، فهو يريد «رَحْمَةً لا ذَبِيحَةً» (متى 9: 13، 12: 7).

(ب) وأكمل المسيح أقوال الناموس والأنبياء بأن أطاعها شخصياً بالتمام والكمال، فأكمل كل بر (متى 3: 10) حتى تحدى أعداءه أن يبكتوه على خطية (يوحنا 8: 46) فهو حمل الله الذي بلا عيب ولا دنس (1بطرس 1: 19) « الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ » (1بطرس 2: 22).

(ج) وأكمل المسيح شريعة موسى وأقوال الأنبياء، عندما تحققت كل نبواتها في شخصه، فقد تنبأ موسى أن الله سيقيم لبني إسرائيل نبياً مثله (تثنية 18: 15، 18) فجاء المسيح مثل موسى في أنه «عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهاً لِوَجْهٍ» وفي أنه أجرى معجزات كثيرة (تثنية 34: 10-12). وتمت في المسيح أكثر من 300 نبوَّة توراتية، كما تحققت فيه رموز ذبائح الشريعة الموسوية لأنه «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يوحنا 1: 29).

(د) وأكمل المسيح الناموس للبشر، فكتبه على القلوب وليس فقط على لوحين من حجر، كما قال الله: « أُعْطِيكُمْ قَلْباً جَدِيداً، وَأَجْعَلُ رُوحاً جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ » (حزقيال 36: 26).

(هـ) وأكَّد المسيح أن كلمة الله باقية بنصِّها لا يتغير منها حرف واحد، لأن الله الذي أوحى بها وعد أن يحفظها، فلا يستطيع إنسان أن يعبث بما أعلنه الله ووعد أن يضمن سلامته، فلا مبدِّل لكلماته. قال المسيح: «زَوَالُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ» (لوقا 16: 17). ويقول الوحي: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هَذَا يَزِيدُ اللهُ عَلَيْهِ الضَّرَبَاتِ الْمَكْتُوبَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هَذِهِ النُّبُوَّةِ يَحْذِفُ اللهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَمِنَ الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ الْمَكْتُوبِ فِي هَذَا الْكِتَابِ» (رؤيا 22: 18، 19).

وأكد المسيح أن وعوده باقية ثابتة لا تتغيَّر، كما قال يشوع لبني إسرائيل: « وَتَعْلَمُونَ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَكُلِّ أَنْفُسِكُمْ أَنَّهُ لَمْ تَسْقُطْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ جَمِيعِ الْكَلاَمِ الصَّالِحِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ عَنْكُمُ. الْكُلُّ صَارَ لَكُمْ. لَمْ تَسْقُطْ مِنْهُ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ » (يشوع 23: 14). وكما قال الملك سليمان لشعبه: «مُبَارَكٌ الرَّبُّ الَّذِي أَعْطَى رَاحَةً لِشَعْبِهِ إِسْرَائِيلَ حَسَبَ كُلِّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَمْ تَسْقُطْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ كُلِّ كَلاَمِهِ الصَّالِحِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ عَنْ يَدِ مُوسَى عَبْدِهِ » (1ملوك 8: 56).

2- الشريعة الجديدة:

«19 فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. 20 فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ» (متى 5: 19، 20) .

قسَّم اليهود الوصايا إلى كبرى وصغرى، وقالوا إن أصغر الوصايا الصغرى هي القائلة: «إِذَا اتَّفَقَ قُدَّامَكَ عُشُّ طَائِرٍ فِي الطَّرِيقِ فِي شَجَرَةٍ مَا أَوْ عَلى الأَرْضِ فِيهِ فِرَاخٌ أَوْ بَيْضٌ، وَالأُمُّ حَاضِنَةٌ الفِرَاخَ أَوِ البَيْضَ، فَلا تَأْخُذِ الأُمَّ مَعَ الأَوْلادِ » (تثنية 22: 6).

وقد نقض الكتبة والفريسيون الوصايا الكبرى والصغرى بأن حفظوها وتفرَّغوا لطاعتها وتلقينها كطقوس وفرائض، دون أن تكون لهم علاقة أُنسٍ حميمة بالرب، حتى وبَّخهم المسيح بالقول: «أَنْتُمُ الَّذِينَ تُبَرِّرُونَ أَنْفُسَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ! وَلَكِنَّ اللهَ يَعْرِفُ قُلُوبَكُمْ. إِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ» (لوقا 16: 15) .

و نقضوا شريعة موسى بأن أضافوا إليها من عندهم ما ليس فيها، فدفنوا الحق الإلهي بأكوام تعاليمهم البشرية.

ونقضوها بأن افتخروا بأنفسهم واحتقروا الآخرين، ونسوا الحق والرحمة، فقال المسيح لهم: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ، لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ، وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ» (متى 23: 23).

وقد طالب المسيح أتباعه أن يزيد برهم عن بر الكتبة والفريسيين، بمعنى أن يكون البر من القلب، لا مجرد مظاهر عبادة خارجية مفروضة « لأَنَّهُ لَيْسَ كَمَا يَنْظُرُ الإِنْسَانُ. لأَنَّ الإِنْسَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْعَيْنَيْنِ، وَأَمَّا الرَّبُّ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إِلَى الْقَلْبِ» (1صموئيل 16: 7).

والقلب الذي يطلب الله برَّه هو القلب الجديد الذي تنبأ النبي إرميا أنه آتٍ بالمسيح، فقد قال الله على فم نبيِّه إرميا: « هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً» (إرميا 31: 33).

وبهذا أوصت الشريعة الجديدة بحفظ جميع وصايا الشريعة القديمة، حرفياً وروحياً، فيحفظ المؤمن القانون وروح القانون. فعلى المؤمنين بالمسيح أن يطيعوا كل الوصايا ويعلِّموا بها، حتى إن كانت غير متساوية في السمو، لأنها كلها أوامر إلهية. والأصغر في نظر الله هو الذي ينقض أية وصية، صغيرة كانت أم كبيرة.

وواضحٌ للمسيحي الحقيقي أن « مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ » (يعقوب 2: 10)، فإن أصغر ثقب في السفينة يغرقها، وأصغر ذرة رمل في الساعة توقفها، والنار الصغيرة تحرق وقوداً كثيراً، واللسان وهو عضو صغير يفتخر متعظماً (يعقوب 3: 5).

آية للحفظ

«إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ» (متى 5: 20)

صلاة

علِّمني يا رب أن أطيعك من كل قلبي، وأن أحبك بكل قدرتي، فتكون طاعتي لك طاعة الحب والاتباع، لا طاعة الطقس والفروض

سؤال

11- ما هي الوصية التي اعتبرها الكتبة والفريسيون أصغر الوصايا؟


 

الفصل الرابع

الارتقاء في المصالحة

(متى 5: 21-26)

 

«21 قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لا تَقْتُلْ، وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. 22 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.

23 فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ، 24 فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ.

25 كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ لِئَلا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ. 26 اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لا تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!» (متى 5: 21-26).

في هذه الآيات نرى ثلاث حقائق:

1 - الوصيتان القديمة والجديدة: (آيتا 21، 22).

كانت الوصية السادسة تقول «لا تَقْتُلْ» (خروج 20: 13). وقال الله: « سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ» (تكوين 9: 6). ولكن المسيح تعمَّق بنا إلى الدافع على القتل، وهو الغضب، ويعني به الغضب العميق في القلب الذي غذّاه الغضوب فترة طويلة. فعالج المسيح في وصيته الجديدة المشكلة من جذورها، ودخل بالإنسان إلى مخادع قلبه الداخلية، ليفحص اتجاهاته وميوله الفكرية. كما عالج عداوة الفكر والقول، ف لم يقُل إن الغضب يؤدي إلى القتل، إنما قال إنه هو القتل!

وتقول الوصية الرسولية: « وَأَمَّا الآنَ فَاطْرَحُوا عَنْكُمْ انْتُمْ أَيْضاً الْكُلَّ: الْغَضَبَ، السَّخَطَ، الْخُبْثَ، التَّجْدِيفَ، الْكَلاَمَ الْقَبِيحَ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ» (كولوسي 3: 8).

« مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً » فيجب أن نحذر من الغضب الباطل الذي لا مبرِّر له، على أخٍ لنا في الإنسانية، لئلا نصبح مثل قايين الذي قتل أخاه هابيل، و« كُلُّ مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ قَاتِلُ نَفْسٍ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ كُلَّ قَاتِلِ نَفْسٍ لَيْسَ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ» (1يوحنا 3: 15) . وكل من يغضب على أخيه باطلاً يستوجب الحكم من محكمة القرية التي كان عدد قضاتها سبعة. ولكن إن قال أحدٌ لأخيه «رَقَا» (أي: يا فارغ العقل) يكون مستوجب حكم المجمع الذي عدد قضاته سبعون، لأنه سخر من ذكاء إنسان آخر! أما إن قال له «يَا أَحْمَقُ» (أي: يا غبي، يا جاهل) يكون مستوجب الحكم من الله في نار جهنم.

وقد حذَّرنا المسيح من «الغضب باطلاً» لأن معظم الغضب يكون لأسباب تافهة، لكنها تتجمَّع في فكر الإنسان حتى يتَّهم أخاه بأنه فارغ العقل، وأحمق! فيفقد الشخص الغضوب سلامه الشخصي، ويهدم أخاه أيضاً. فما أشد خطورة الغضب الباطل على الغضوب وعلى غيره، وما أشد خطورة احتقار الآخرين لأنها كبرياء من المحتقِر وضياع لقيمة المحتقَر! ولنا في قصص الوحي أمثلة للنتيجة السيئة للغضب الباطل، نذكر منها أربعة أمثلة:

* مَثَلٌ من غضب هارون وأخته مريم على أخيهما موسى الكليم، يوم تزوج موسى من سيدة زنجية كوشية، فغضب الرب على مريم وهارون، وضرب مريم بالبرص (سفر العدد 12)..

* ومَثلٌ ثانٍ من غضب ميكال زوجة الملك داود على زوجها الذي كان يرقص أمام تابوت عهد الرب، فأُصيبت بالعُقم (2صموئيل 6: 20-23)..

* ومثل ثالث من غضب نعمان السرياني (قائد الجيش السوري الأبرص) على نبي الله أليشع، لأن النبي أرسل له رَسُولاً يَقُولُ: «اذْهَبْ وَاغْتَسِلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ فِي الأُرْدُنِّ فَيَرْجِعَ لَحْمُكَ إِلَيْكَ وَتَطْهُرَ». فَغَضِبَ نُعْمَانُ وَمَضَى وَقَالَ: «هُوَذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَخْرُجُ إِلَيَّ وَيَقِفُ وَيَدْعُو بِاسْمِ الرَّبِّ إِلَهِهِ وَيُرَدِّدُ يَدَهُ فَوْقَ الْمَوْضِعِ فَيَشْفِي الأَبْرَصَ! أَلَيْسَ أَبَانَةُ وَفَرْفَرُ نَهْرَا دِمَشْقَ أَحْسَنَ مِنْ جَمِيعِ مِيَاهِ إِسْرَائِيلَ؟ أَمَا كُنْتُ أَغْتَسِلُ بِهِمَا فَأَطْهُرَ؟». وَرَجَعَ وَمَضَى بِغَيْظٍ. فَتَقَدَّمَ عَبِيدُهُ وَقَالُوا: «يَا أَبَانَا، لَوْ قَالَ لَكَ النَّبِيُّ أَمْراً عَظِيماً أَمَا كُنْتَ تَعْمَلُهُ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ إِذْ قَالَ لَكَ: اغْتَسِلْ وَاطْهُرْ؟». فَنَزَلَ وَغَطَسَ فِي الأُرْدُنِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ حَسَبَ قَوْلِ رَجُلِ اللَّهِ، فَرَجَعَ لَحْمُهُ كَلَحْمِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ وَطَهُرَ» (2ملوك 5: 10-14)..

* ومثل رابع من غضب الملك هيرودس على المجوس الذين لم يرجعوا إليه ليخبروه بمكان ميلاد المسيح، فأمر بقتل كل صبيان بيت لحم من عمر سنتين وأقل (متى 2: 16).

قد يقول قائل: أنا لم أقتل أحداً، فيوجِّه الروح القدس إليه سؤالاً: ألم تغضب على شخص لم يقف ليحييك؟ لقد قتلته في قلبك!

فلنستمع إلى نصائح الوحي:

«بَطِيءُ الْغَضَبِ كَثِيرُ الْفَهْمِ، وَقَصِيرُ الرُّوحِ مُعَلِّي الْحَمَقِ» (أمثال 14: 29)

«اَلْجَوَابُ اللَّيِّنُ يَصْرِفُ الْغَضَبَ، وَالْكَلاَمُ الْمُوجِعُ يُهَيِّجُ السَّخَطَ» (أمثال 15: 1)

«اَلْبَطِيءُ الْغَضَبِ خَيْرٌ مِنَ الْجَبَّارِ، وَمَالِكُ رُوحِهِ خَيْرٌ مِمَّنْ يَأْخُذُ مَدِينَةً» (أمثال 16: 32)

«لاَ تُسْرِعْ بِرُوحِكَ إِلَى الْغَضَبِ، لأَنَّ الْغَضَبَ يَسْتَقِرُّ فِي حِضْنِ الْجُهَّالِ» (جامعة 7: 9)

«إِذاً يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعاً فِي الاِسْتِمَاعِ، مُبْطِئاً فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئاً فِي الْغَضَبِ، لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللَّهِ» (يعقوب 1: 19، 20)

2- واجب المؤمن نحو أخيه: (آيتا 23، 24).

صوَّر المسيح عابداً ذهب إلى الهيكل يحمل قرباناً، فمرَّ برواق الأمم، ومنه إلى دار النساء، ثم دار الرجال، إلى أن وصل إلى دار الكهنة، وهناك وقف أمام الكاهن، ووضع يده على رأس ذبيحته. وفجأة تذكر أنه أساء لأخٍ له، وكان قد نسي الإساءة، غالباً بسبب تفاهتها.. لمثل هذا العابد قال المسيح إنه يجب أن يترك ذبيحته أمام المذبح، ويذهب أولاً ليصطلح مع أخيه. وبعد أن يعتذر عن خطئه يعود إلى الهيكل ليقدم قربانه. وفي هذا يقول المسيح إن المصالحة تسبق العبادة.

يجب أن نحذر من كل فكر أو كلمة أو نظرة أو عمل عدائي، لأن هذا يقود إلى نهايات مؤسفة. « لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ، وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً» (أفسس 4: 26، 27).

على المؤمن الذي ارتقى روحياً أن يعترف بالخطأ عندما يحتقر أخاه ويشتمه، وعليه أن يغفر للآخر الذي احتقره وشتمه. لا عليك إن كان هو عدوَّك، لكن لا تكن أنت عدواً لأحد.

3- واجب المؤمن نحو خصمه: (آيتا 25، 26).

في هاتين الآيتين أوصانا المسيح أن نبادر بحل مشاكلنا بعيداً عن المحاكم والقضاء، وقبل ضياع الفرصة. فإن كان عليك دَيْنٌ لأحد، سدِّده وعالج المشكلة من بدايتها قبل أن تقع في مشاكل أكبر. « لاَ تَكُونُوا مَدْيُونِينَ لأَحَدٍ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِأَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ فَقَدْ أَكْمَلَ النَّامُوسَ» (رومية 13: 8).

افعل كل ما تستطيعه لتحيا في سلام، وصفِّ حساباتك قبل أن تتعقد، ويقع فيها أولادك وأحفادك! لا تترك الديون تتراكم والمشاكل تتعمق فتقودك إلى العنف الذي يولِّد مزيداً من العنف، وقد يصبح ثأراً لا ينتهي «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متى 26: 52).

آية للحفظ

«اذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ» (متى 5: 24)

صلاة

ساعدني يا رب أن ألاحظ مشاعري، فأحترس من الغضب وأكون طويل الأناة، كما أنك طويل الأناة عليَّ

سؤال

12- ما هو واجب المؤمن نحو خصمه؟


الفصل الخامس

الارتقاء في الطهارة

(متى 5: 27-32)

«27 قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. 28 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. 29 فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ. 30 وَإِنْ كَانَتْ يَدُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ، لأَنَّهُ خَيْرٌ لَكَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُ أَعْضَائِكَ وَلاَ يُلْقَى جَسَدُكَ كُلُّهُ فِي جَهَنَّمَ.

«31 وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ. 32 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ الزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي، وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي».

 

في هذه الآيات نجد ثلاثة أفكار رئيسية:

1- تكميل الشريعة القديمة: (آيتا 27، 28).

كل من يرتقي في السلَّم الروحي يطيع الوصيتين السادسة والسابعة «لا تقْتُلْ.. لا تَزْنِ» (خروج 20: 13، 14) بأن يستأصل من داخله ما يدفعه إلى القتل والزنا، فيُطوَّب بالقول: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللَّهَ».

وليس المقصود بهذا التعليم إدانة الجنس، فالجنس داخل إطار الزواج بركة من الله، فقد رأى الله أنه «لَيْسَ جَيِّداً أَنْ يَكُونَ آدَمُ وَحْدَهُ، فَأَصْنَعَ لَهُ مُعِيناً نَظِيرَهُ» (تكوين 2: 18) وعندنا الوصية الرسولية: «لِيَكُنِ الزِّوَاجُ مُكَرَّماً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَالْمَضْجَعُ غَيْرَ نَجِسٍ. وَأَمَّا الْعَاهِرُونَ وَالزُّنَاةُ فَسَيَدِينُهُمُ اللهُ» (عبرانيين 13: 4). لكن المقصود منه أن يتحكم المؤمن في نظرات عينيه ولمسات يده، فكل ما يسعد الإنسان بغير مشيئة الله عبودية، وكل ما يسعد الإنسان في مرضاة الله يُغني الحياة.

نبَّرت شريعة موسى على الفعل، أما الشريعة المسيحية فتنبِّر على ما يسبِّب الفعل ويدفع إليه، فأوصانا المسيح أن نمتنع عن النظر بقصد الشهوة، فيصبح الفكر عملاً. قال القديس أغسطينوس إن الخطية تبدأ بنظرة، تقود إلى تكوين صورة، تتبعها الشهوة، يتلوها السقوط. وهذا ما حدث مع أمنا حواء يوم أغرتها الحية بالأكل من الشجرة الممنوعة «فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ» (تكوين 3: 6).

وشرح عخان ما جعله يعصى الوصية، بقوله: «رَأَيْتُ فِي الْغَنِيمَةِ.. فَاشْتَهَيْتُهَا، وَأَخَذْتُهَا. وَهَا هِيَ مَطْمُورَةٌ فِي الأَرْضِ فِي وَسَطِ خَيْمَتِي» (يشوع 7: 21).

وهذا ما حدث مع نبي الله داود «فِي وَقْتِ الْمَسَاء.. قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ، وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدّاً. فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ.. فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ فَاضْطَجَعَ مَعَهَا» (2صموئيل 11: 2-4).

2- طريق الارتقاء الروحي: (آيتا 29، 30).

لا يمكن أن يكون المسيح قد قصد حرفياً قلع العين اليمنى أو بتر اليد اليمنى، فإن هذا يُبقي عيناً يسرى ويداً يسرى يمكنهما أن يؤديا إلى الشهوة! وقد خلق الله الجفون لتغلق العيون، لكن العيون تتخيَّل من وراء الجفون المغلقة!

لم يقصد المسيح إذاً إجراء جراحة في الجسد، إنما قصد إجراء جراحة في القلب والميول والاتجاهات، وقصد أن نبتعد عن مثيرات الشهوة، من صُور إباحية، أو كتب سوقية، أو أماكن مشبوهة، أو أصدقاء فاسدين. وقصد أن يهرب الإنسان من أفكار الشر، كما نصح الحكيم: «بَاعِدْ رِجْلَكَ عَنِ الشَّرِّ» (أمثال 4: 27) وكما قال يوسف لزوجة فوطيفار: «كَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟».. فَأَمْسَكَتْهُ بِثَوْبِهِ قَائِلَةً: «اضْطَجِعْ مَعِي». فَتَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِهَا وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ» (تكوين 39: 9-12).

فليكن يوسف لنا مثالاً ونحن نطيع الوصية الرسولية: «أَمَّا الشَّهَوَاتُ الشَّبَابِيَّةُ فَاهْرُبْ مِنْهَا، وَاتْبَعِ الْبِرَّ وَالإِيمَانَ وَالْمَحَبَّةَ وَالسَّلاَمَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ الرَّبَّ مِنْ قَلْبٍ نَقِيٍّ.. لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ لِجَمِيعِ النَّاسِ، مُعَلِّمَةً إِيَّانَا أَنْ نُنْكِرَ الْفُجُورَ وَالشَّهَوَاتِ الْعَالَمِيَّةَ، وَنَعِيشَ بِالتَّعَقُّلِ وَالْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي الْعَالَمِ الْحَاضِرِ» (2تيموثاوس 2: 22 وتيطس 2: 11، 12).

ولا شك أن إمام الصابرين أيوب تدرج في سلم الارتقاء الروحي، فقال: «عَهْداً قَطَعْتُ لِعَيْنَيَّ فَكَيْفَ أَتَطَلَّعُ فِي عَذْرَاءَ!.. إِنْ حَادَتْ خَطَوَاتِي عَنِ الطَّرِيقِ وَذَهَبَ قَلْبِي وَرَاءَ عَيْنَيَّ، أَوْ لَصِقَ عَيْبٌ بِكَفِّي، أَزْرَعْ وَغَيْرِي يَأْكُلْ وَفُرُوعِي تُسْتَأْصَلْ. إِنْ غَوِيَ قَلْبِي عَلَى امْرَأَةٍ أَوْ كَمَنْتُ عَلَى بَابِ قَرِيبِي، فَلْتَطْحَنِ امْرَأَتِي لآخَرَ وَلْيَنْحَنِ عَلَيْهَا آخَرُونَ، لأَنَّ هَذِهِ رَذِيلَةٌ وَهِيَ إِثْمٌ يُعْرَضُ لِلْقُضَاةِ» (أيوب 31: 1، 7-11).

3- الارتقاء مع شريك الحياة: (آيتا 31، 32).

من البدء خلق الله آدم واحداً وخلق له زوجة واحدة هي حواء لتكون معيناً نظيره. وأوردت التوراة قصة الزواج الأول بالقول: «أَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ سُبَاتاً عَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْماً. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلَهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إِلَى آدَمَ» (تكوين 2: 21، 22).

ومن هنا نرى شريعة الزوجة الواحدة، ونرى التعبير عن الحب بين الزوجين في أول قصيدة نُظمت في التاريخ، أنشدها آدم حالما رأى زوجته، فقال: «هَذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هَذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». كما يعبر المؤرخ المقدس عن هذا الحب في تعليقه على خلق حواء بقوله: «يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونَانِ جَسَداً وَاحِداً». وهو تعليق ورد في التكوين 2: 24، وفي كلام المسيح (متى 19: 5، ومرقس 10: 7) وفي كتابة بولس الرسول (أفسس 5: 31).

ونلاحظ أن الله خلق حواء من أحد أضلاع آدم، لتكون قريبة من قلبه ليحبها، ومن تحت ذراعه ليحميها. ولم يخلقها من رأسه حتى لا تتسلط عليه، ولا خلقها من قدمه حتى لا يدوسها، فقد أراد الله للزواج أن يكون شركة مقدسة بين شخصين متحابين، مدى الحياة، بحسب الوصية الرسولية: «وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُونَ فَأُوصِيهِمْ لاَ أَنَا بَلِ الرَّبُّ، أَنْ لاَ تُفَارِقَ الْمَرْأَةُ رَجُلَهَا. وَإِنْ فَارَقَتْهُ فَلْتَلْبَثْ غَيْرَ مُتَزَوِّجَةٍ، أَوْ لِتُصَالِحْ رَجُلَهَا. وَلاَ يَتْرُكِ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ» (1كورنثوس 7: 10، 11).

وقد ذكرت التوراة سبباً واحداً للطلاق في القول: «إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَإِنْ لمْ تَجِدْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ لأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا عَيْبَ شَيْءٍ ، وَكَتَبَ لهَا كِتَابَ طَلاقٍ وَدَفَعَهُ إِلى يَدِهَا، وَأَطْلقَهَا مِنْ بَيْتِهِ» (تثنية 24: 1). أما «عيب شيء» فهو الزنا حسب تفسير «الفقيه اليهودي شمعي»، ولو أن الفقيه اليهودي «هلّيل» قال إن «عيب شيء» هو عدم رضا الزوج على زوجته في أي أمر. وعلَّم المسيح أن «عيب شيء» هو الزنا، وكانت مناسبة هذا التعليم أنه قال: «يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الاِثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً. إِذاً لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. فَالَّذِي جَمَعَهُ اللَّهُ لاَ يُفَرِّقُهُ إِنْسَانٌ». فسأله الفريسيون: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاَقٍ فَتُطَلَّقُ؟» فأجابهم: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ، وَلَكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ إِلاَّ بِسَبَبِ الزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي وَالَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي» (متى 19: 5-9).

إذاً فقساوة القلب تُنتج طلاقاً، لذلك قال الله: «فَاحْذَرُوا لِرُوحِكُمْ، وَلاَ يَغْدُرْ أَحَدٌ بِامْرَأَةِ شَبَابِهِ، لأَنَّهُ يَكْرَهُ الطَّلاَق» (ملاخي 2: 15، 16).

وكان قصد شريعة موسى أن تليِّن القلب القاسي وتحدّ من الطلاق العشوائي، فأمرت الرجل أن يعطي زوجته «كتاب طلاق» وهذا يستغرق وقتاً يمكن أن يراجع الزوج فيه نفسه، كما أن «كتاب الطلاق» يحتاج إلى قاضٍ ومحكمة، وهذا يحد من حرية الزوج المطلقة في أمر التطليق.

وسبب تعليم المسيح في الزواج، أن الزوج والزوجة جسد واحد جمعه الله، لا يفرق بينهما إنسان، ولكن يفرق بينهما الزنا. فإذا حدث طلاق لغير علّة الزنا يكون الطلاق أمام الله باطلاً، ويكون الزواج أمام الله قائماً. فإذا ارتبط أحدهما بزواج آخر يكون أمام الله بمرتبة الزنا. وكلما ارتقى المؤمن في درجات السلّم الروحي استطاع أن ينفِّذ شريعة الطهارة ويطيعها. وما أجمل ما قال القديس يوحنا فم الذهب: «كيف يمكن للمسكين بالروح، الوديع، الرحيم أن يطرد زوجته؟ وكيف يمكن أن الذي يصنع سلاماً يخاصم شريك حياته؟».

آية للحفظ

«فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ» (متى 5: 29)

صلاة

يا رب، قدِّس عينيَّ ويديَّ فيكون نظري بحسب مشيئتك، ولا تلمس يداي سوى ما يرضيك

سؤال

13- لماذا أذن موسى لليهود أن يطلقوا نساءهم؟


الفصل السادس

الارتقاء في الصدق

(متى 5: 33-37)

«33 أَيْضاً سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَحْنَثْ بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. 34 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ، لاَ بِالسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ اللَّهِ، 35 وَلاَ بِالأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ. 36 وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. 37 بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ».

 

1- الشريعة القديمة: (آية 33).

علَّمت الشريعة القديمة بضرورة الوفاء بالقسَم، فقالت: «لاَ تَحْلِفُوا بِاسْمِي لِلْكَذِبِ فَتُدَنِّسَ اسْمَ إِلَهِكَ» (لاويين 19: 12). وقالت: «إِذَا نَذَرَ رَجُلٌ نَذْراً لِلرَّبِّ أَوْ أَقْسَمَ قَسَماً، أَنْ يُلزِمَ نَفْسَهُ بِلازِمٍ، فَلا يَنْقُضْ كَلامَهُ. حَسَبَ كُلِّ مَا خَرَجَ مِنْ فَمِهِ يَفْعَلُ» (عدد 30: 2).

ولكن فقهاء الدين اليهودي في عصر المسيح أساءوا تفسير الوصية، وقالوا إن القسَم باسم الله مُلزم، أما القسَم الذي لا يُذكر فيه اسم الله فغير ملزم! فكانوا يحلفون بغير اسم الله ليهربوا من الوفاء بوعودهم وأقسامهم، كأن يحلفوا بالسماء أو الأرض أو أورشليم أو رؤوسهم، فدعاهم المسيح «القادة العميان الجُهال» ووبَّخهم بالقول: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ الْقَائِلُونَ: مَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِذَهَبِ الْهَيْكَلِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلذَّهَبُ أَمِ الْهَيْكَلُ الَّذِي يُقَدِّسُ الذَّهَبَ؟ وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْبَانِ الَّذِي عَلَيْهِ يَلْتَزِمُ! أَيُّهَا الْجُهَّالُ وَالْعُمْيَانُ، أَيُّمَا أَعْظَمُ: أَلْقُرْبَانُ أَمِ الْمَذْبَحُ الَّذِي يُقَدِّسُ الْقُرْبَانَ؟ فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ بِالْمَذْبَحِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِكُلِّ مَا عَلَيْهِ، وَمَنْ حَلَفَ بِالْهَيْكَلِ فَقَدْ حَلَفَ بِهِ وَبِالسَّاكِنِ فِيهِ، وَمَنْ حَلَفَ بِالسَّمَاءِ فَقَدْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللَّهِ وَبِالْجَالِسِ عَلَيْهِ!» (متى 23: 16-22).

2- الشريعة الجديدة: (آيات 34-37).

نهى المسيح عن القسم بالله وبأي شخص أو شيء آخر، لأن الله موجود في كل مكان وزمان يشهد على كل ما نقول، سواء حلفنا باسمه أم بغيره، فالسماء كرسيه، والأرض موطئ قدميه، وأورشليم وكل ما فيها مدينته، ورأس الحالف خليقته، لا يقدر الإنسان أن يتحكَّم في لون شعرها! فمن الحكمة أن نطيع الوصية الرسولية «قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ يَا إِخْوَتِي لاَ تَحْلِفُوا لاَ بِالسَّمَاءِ وَلاَ بِالأَرْضِ وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ وَلاَكُمْ لاَ، لِئَلاَّ تَقَعُوا تَحْتَ دَيْنُونَةٍ» (يعقوب 5: 12).

إن كل ما نقوله هو أمام الله، كما قال الرسول بولس: «أَقُولُ الصِّدْقَ فِي الْمَسِيحِ لاَ أَكْذِبُ، وَضَمِيرِي شَاهِدٌ لِي بِالرُّوحِ الْقُدُسِ» (رومية 9: 1). وكما أوصى: «اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ» (أفسس 4: 25). فليكن كلامنا واضحاً صادقاً «نعم نعم، لا لا».

وبالرغم من هذه الوصية الواضحة لا زال البشر يتكلمون كثيراً، لأن للكلام قوة وتأثيراً كبيراً على سامعه، فإن نافذة الفكر هي الأذن، ونحن نؤثر في الآخرين بما نقوله. وكل من يشعر أنه يقول الحق لا يحتاج لأن يسند كلامه بالقسَم. وأنت لا تحتاج إلى القسَم في حياتك اليومية، وسيظل الناس يصدقونك إلى أن تكذب عليهم، فتضيع ثقتهم فيك مهما أقسمت! ولذلك فإن الذي يعرف أن الناس لن يصدقوه يُكثر من الأقسام! وما أحسن أن نطيع نصيحة القديس أكليمندس الإسكندري الذي قال إن على المؤمن أن يحيا حياة تجعل الناس يصدقونه، فلا يطلبون منه أن يوثِّق كلامة بقسَم.

إن القسَم يُضعف الحق، فالحق لا يحتاج أن يستند على عكازة القسم، أما الذي يعرف أنه يكذب فيُقسم ليصدِّقه الناس.

3- القسَم في المحكمة:

لم يقصد المسيح أن يمنع القسَم في المحكمة، فإن الوحي يقول: «الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقِي وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ وَبِاسْمِهِ تَحْلِفُ» (تثنية 6: 13). ويقول: «فَإِنَّ النَّاسَ يُقْسِمُونَ بِالأَعْظَمِ، وَنِهَايَةُ كُلِّ مُشَاجَرَةٍ عِنْدَهُمْ لأَجْلِ التَّثْبِيتِ هِيَ الْقَسَمُ. فَلِذَلِكَ إِذْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُظْهِرَ أَكْثَرَ كَثِيراً لِوَرَثَةِ الْمَوْعِدِ عَدَمَ تَغَيُّرِ قَضَائِهِ، تَوَسَّطَ بِقَسَمٍ» (عبرانيين 6: 16، 17). وعند محاكمة المسيح قال له رئيس الكهنة: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللَّهِ الحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ؟» أجابه: «أَنْتَ قُلْتَ!» (متى 26: 63، 64).

آية للحفظ

«لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ» (متى 5: 37)

صلاة

سامحني على استخدام اسمك الكريم بالباطل وبدون داعٍ، وعلمني أن أوقِّر اسمك أكثر مما أوقر اسم أبي الأرضي أو اسم عائلتي

سؤال

14- لماذا نهى المسيح عن القسَم؟


الفصل السابع

الارتقاء في التسامح

(متى 5: 38-42)

 

«38 سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. 39 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاً. 40 وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ، فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. 41 وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ. 42 مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ».

 

1- الشريعة القديمة: (آية 38).

أمرت شريعة موسى القضاة أن يحكموا بقانون العين بالعين والسن بالسن، فقالت: « إِنْ حَصَلَتْ أَذِيَّةٌ تُعْطِي نَفْساً بِنَفْسٍ، وَعَيْناً بِعَيْنٍ، وَسِنّاً بِسِنٍّ، وَيَداً بِيَدٍ، وَرِجْلاً بِرِجْلٍ، وَكَيّاً بِكَيٍّ، وَجُرْحاً بِجُرْحٍ، وَرَضّاً بِرَضٍّ» (خروج 21: 23-25). وجاء في لاويين 24: 19، 20 «إِذَا أَحْدَثَ إِنْسَانٌ فِي قَرِيبِهِ عَيْباً، فَكَمَا فَعَلَ كَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ. كَسْرٌ بِكَسْرٍ، وَعَيْنٌ بِعَيْنٍ، وَسِنٌّ بِسِنٍّ. كَمَا أَحْدَثَ عَيْباً فِي الإِنْسَانِ كَذَلِكَ يُحْدَثُ فِيهِ» وجاء في تثنية 19: 21 «نَفْسٌ بِنَفْسٍ. عَيْنٌ بِعَيْنٍ. سِنٌّ بِسِنٍّ. يَدٌ بِيَدٍ. رِجْلٌ بِرِجْلٍ».

وبهذا حدَّدت الشريعة للقاضي ما يحكم به بناءً على شهادة الشهود، ومنعت المجني عليه من الانتقام لنفسه، فأقرَّت أسس العدالة. ولكن البشر بطبيعتهم الخاطئة أخذوا القانون بأيديهم واستخدموه ليبرروا انتقامهم الشخصي، مع أن الحكيم قال: «لاَ تَقُلْ: كَمَا فَعَلَ بِي هَكَذَا أَفْعَلُ بِهِ. أَرُدُّ عَلَى الإِنْسَانِ مِثْلَ عَمَلِهِ» (أمثال 24: 29).

2- الشريعة الجديدة: (آيات 39-42).

وافق المسيح الشريعة القديمة في أنها تعالج الأحكام القضائية، فللقاضي وحده أن يحكم بشريعة «العين بالعين» ولكنه أمرنا في معاملاتنا الشخصية ألا نقاوم الشر، فلا ننتقم لنفوسنا من المسيئين إلينا.

قال أحد الحكماء: «رَدُّ الشر بالشر والخير بالخير عمل بشري. ورد الخير بالشر عمل شيطاني. أما رد الشر بالخير فهو عملٌ إلهي». وإذ نرتقي في التسامح نتعلَّم أن نضحي بحقوقنا في سبيل مساعدة الشخص الآخر. فإذا لم نرتقِ نكون كالعود الجاف العاجز عن مواجهة العاصفة التي تكسره. أما إن ارتقينا روحياً نصير كالعود الأخضر الذي ينحني أمام العاصفة فتتعمَّق جذوره. والقوي وحده هو الذي يقدر أن يتسامح.. ولو ارتقى البشر إلى هذه الدرجة ما جرَّ زوج شريك حياته إلى المحكمة، وما حدث انقسام في عائلة أو كنيسة.

وقدم المسيح أربع حالات لتطبيق شريعة عدم الانتقام الشخصي من المسيء:

(أ) لا تقاوم من لطمك على خدِّك الأيمن بل حوِّل له الخد الآخر أيضاً: (آية 39). قال القديس أوريجانوس الإسكندري «إن لطم الخد الأيمن يكون بظهر اليد اليمنى للضارب، وهذا للتحقير». وفي هذه الحالة يكون الأذى النفسي أبلغ من الأذى البدني. وجاء في النبوات أن هذا ما سيفعله المسيح بقوله: «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ الْعَارِ وَالْبَصْقِ» (إشعياء 50: 6). وتحققت هذه النبوة وقت محاكمة المسيح (مرقس 14: 65، 15: 16-20). وقد ترك المسيح للمؤمنين به قدوة حسنة «لأَنَّكُمْ لِهَذَا دُعِيتُمْ. فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً تَأَلَّمَ لأَجْلِنَا، تَارِكاً لَنَا مِثَالاً لِكَيْ تَتَّبِعُوا خُطُواتِهِ. الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ، الَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً، وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ، بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (1بطرس 2: 21-23). فإن الذي ارتقى روحياً يسير بقوة المحبة مع من سار معه بقوة القانون.

(ب) اترك حتى رداءك لمن خاصمك وأخذ ثوبك: (آية 40). كان المواطن العادي يملك أكثر من ثوب، يلبسه تحت ردائه (عباءته) فيكون الرداء فراشه وغطاءه ليلاً. وكانت الشريعة القديمة تسمح برهن الثوب، وتمنع رهن الرداء، فقالت: «إِنِ ارْتَهَنْتَ ثَوْبَ صَاحِبِكَ (أي رداءه الخارجي) فَإِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ تَرُدُّهُ لَهُ، لأَنَّهُ وَحْدَهُ غِطَاؤُهُ. هُوَ ثَوْبُهُ لِجِلْدِهِ. فِي مَاذَا يَنَامُ؟ فَيَكُونُ إِذَا صَرَخَ إِلَيَّ أَنِّي أَسْمَعُ لأَنِّي رَؤُوفٌ» (خروج 22: 26، 27).

وكأن المسيح يقول: إن أخذ أحدٌ ثوبك، عن حقٍّ له، فاترك له رداءك الذي لا حق له فيه.. اترك حتى ما تحكم لك المحكمة به، فالمؤمن الحقيقي هو الذي لا يقاوم دفاعاً عن حقوقه، في سبيل السلام.

(ج) لا تقاوم من سخَّرك ميلاً، واذهب معه الميل الثاني: (آية 41). كان للجندي الروماني الحق في تسخير أي يهودي ليحمل له متاعه مسافة ميل. فأمر المسيح المؤمن أن يسير الميل الأول غير غاضب، وأن يسير ميلاً ثانياً فوق المفروض عليه وهو راضٍ، لأن المؤمن يكون في هذه الحالة هو الأعلى، لأنه صاحب الفضل في سير الميل الثاني. ويتوقف الأمر على كيفية رؤيتك للموقف وعلى الزاوية التي تحكم منها عليه، فأنت الذي تقيِّم تصرُّفك الشخصي في ما لا يرغمك غيرك أن تفعله.

(د) لا تقاوم من سألك عوناً، ولا ترفض من طلب أن يقترض منك: (آية 42). قالت الشريعة القديمة: «إِنْ كَانَ فِيكَ فَقِيرٌ، أَحَدٌ مِنْ إِخْوَتِكَ فِي أَحَدِ أَبْوَابِكَ فِي أَرْضِكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، فَلا تُقَسِّ قَلبَكَ، وَلا تَقْبِضْ يَدَكَ عَنْ أَخِيكَ الفَقِيرِ، بَلِ افْتَحْ يَدَكَ لهُ وَأَقْرِضْهُ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إِليْهِ.. أَعْطِهِ وَلا يَسُوءُ قَلبُكَ عِنْدَمَا تُعْطِيهِ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هَذَا الأَمْرِ يُبَارِكُكَ الرَّبُّ إِلهُكَ فِي كُلِّ أَعْمَالِكَ وَجَمِيعِ مَا تَمْتَدُّ إِليْهِ يَدُكَ. لأَنَّهُ لا تُفْقَدُ الفُقَرَاءُ مِنَ الأَرْضِ. لِذَلِكَ أَنَا أُوصِيكَ قَائِلاً: افْتَحْ يَدَكَ لأَخِيكَ المِسْكِينِ وَالفَقِيرِ فِي أَرْضِكَ» (تثنية 15: 7-11).

ولا يقصد المسيح أن تعطي كل سائلٍ ما يطلبه، فقد يسألك سكير أن تعطيه مالاً، فإن قدَّمت له نصيحة تكون قد أفدته، لأنه يحتاج إلى نُصح أكثر منه إلى مال. وإن قدمت له طعاماً، تكون قد أعطيته لأنه يحتاج إلى الطعام أكثر من حاجته إلى الكحول!

إن المحبة كما قلنا هي عمل الخير الأسمى للآخر، فأعطِ ما هو للأنفع، وجميل أن تمارس النصيحة الصينية «أن تعلِّم شخصاً أن يصيد أفضل له من أن تعطيه سمكة».

آية للحفظ

«لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ» (متى 5: 39)

صلاة

لا تسمح يا رب أن أقاوم الشر بالشر، ولا تسمح أن أدافع عن حقوقي بيدي، بل أترك لك أمر الدفاع عني

 

سؤال

15- كيف تعاون سكيراً أراد أن يقترض منك؟


الفصل الثامن

الارتقاء في المحبة

(متى 5: 43-48)

«43 سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. 44 وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، 45 لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. 46 لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ 47 وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ 48 فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى 5: 43-48).

 

1- الشريعة القديمة: (آية 43).

أمرت شريعة موسى بمحبة القريب فقالت: «لاَ تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ، بَلْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ. أَنَا الرَّبُّ» (لاويين 19: 18) فحذف منها فقهاء اليهود «كنفسك» وأضافوا إليها من عندهم «وتبغض عدوك» بمعنى أن يحب اليهودي اليهود فقط ويكره الأمم. واستندوا في الحذف والإضافة إلى أن الحديث في هذا النص موجَّه «لِكُلِّ جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.. لاَ تُبْغِضْ أَخَاكَ فِي قَلْبِكَ.. لاَ تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَبْنَاءِ شَعْبِكَ» (لاويين 19: 2، 17، 18). كما أنهم استندوا إلى مزامير الانتقام مثل مزمور 137 الذي يقول: «يَا بِنْتَ بَابِلَ الْمُخْرَبَةَ، طُوبَى لِمَنْ يُجَازِيكِ جَزَاءَكِ الَّذِي جَازَيْتِنَا! طُوبَى لِمَنْ يُمْسِكُ أَطْفَالَكِ وَيَضْرِبُ بِهِمُ الصَّخْرَةَ!» (آيتا 8، 9).

2- الشريعة الجديدة: (آية 44).

علَّم المسيح أن القريب هو الذي يحتاج للمساعدة، مهما كان لونه أو لغته أو عقيدته، وضرب لذلك مَثَل السامري الصالح (لوقا 10: 25-37). ويعلمنا هنا أن القريب المحتاج لمساعدتنا قد يكون عدواً أساء إلينا وطردنا. ونحن لا نقدر أن نحب العدو بعواطفنا، لكننا يجب أن نحبه بإرادتنا وتصميمنا. فأنت لا تحب عدوَّك بمعنى أن تتمنى رؤيته، ولكنك تحبه بأنه «إِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ، وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هَذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ، بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ» (رومية 12: 20، 21). وهذا ما لا يمكننا القيام به من أنفسنا، بل بحياة المسيح فينا، إذ نقول: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20).

وقد علَّمنا أن يكون التعبير عن هذه المحبة المسيحية بثلاث طرق:

(أ) التعبير بالكلام: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ». المحبة، كما قلنا، هي عمل الخير الأسمى للآخر، فعلينا أن نعبِّر لأعدائنا عن مشاعرنا الطيبة نحوهم كلما سنحت لنا الفرصة.

(ب) التعبير بالإحسان: «أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ». فتتضح محبة المؤمن لعدوِّه عملياً، طاعةً للوصية: «لاَ نُحِبَّ بِالْكَلاَمِ وَلاَ بِاللِّسَانِ، بَلْ بِالْعَمَلِ وَالْحَقِّ» (1يوحنا 3: 18). وهذه المحبة العملية تبرهن للعدو أن التعبير عن المحبة بالكلام كان قلبياً وصادقاً، ولم يكن مجرد نفاق وكذب.

(ج) التعبير بالصلاة: «وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ». قال القديس يوحنا فم الذهب إن الصلاة لأجل الأعداء هي «أعلى قمم ضبط النفس» فهي تعبِّر عن الارتقاء الروحي. وتساعد الصلاة المؤمن حتى يحب مَن يسيء إليه ويطرده، فيطلب له البركة من عند الرب.

3- دوافع الارتقاء الروحي: (آيات 45-48).

ذكر المسيح ثلاثة دوافع لنرتقي روحياً في التسامح:

(أ) اقتداءً بالآب السماوي: (آية 45). «لكَيْ تكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ». والتعبير «أبناء أبيكم» يعنى التشبُّه بالله أبينا، الذي يشرق بمحبته على البشر جميعاً، ويغدق على الكل من خيراته، سواء كانوا من المؤمنين أو الكافرين. «اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ السَّاقِطِينَ، وَمُقَوِّمٌ كُلَّ الْمُنْحَنِينَ. أَعْيُنُ الْكُلِّ إِيَّاكَ تَتَرَجَّى، وَأَنْتَ تُعْطِيهِمْ طَعَامَهُمْ فِي حِينِهِ. تَفْتَحُ يَدَكَ فَتُشْبِعُ كُلَّ حَيٍّ رِضىً» (مزمور 145: 14-16). ومع أن كل البشر يتمتعون بخيرات الله الجسدية، إلا أن المؤمنين وحدهم يتمتعون بخيراته الجسدية والروحية معاً، إذ يقول لهم: «لَكُمْ أَيُّهَا الْمُتَّقُونَ اسْمِي تُشْرِقُ شَمْسُ الْبِرِّ وَالشِّفَاءُ فِي أَجْنِحَتِهَا» (ملاخي 4: 2). فيقولون: « لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس 4: 6).

ويدفع هذا كل مؤمن لأن يطيع الوصية «فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ، وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أفسس 5: 1، 2).

(ب) ارتقاءً عن العُرف: (آيتا 46، 47). «لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟». وقد طالب المسيح في هاتين الآيتين أن يكون مستوى ارتقاء المؤمن في الروحيات أعلى من مستويات العُرف الذي اصطلح عليه المجتمع.

(ج) ارتقاءً للكمال: (آية 48). «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ». والكمال المطلوب هنا ليس كمال المعرفة، ولا كمال القداسة، بل هو كمال النيَّة، فينوي المؤمن أن يحيا حياة الكمال بكل قلبه، فتكون صلاته: «اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا! مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي.. لِتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ صَخْرَتِي وَوَلِيِّي.. اخْتَبِرْنِي يَا اللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي، وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقاً أَبَدِيّاً» (مزمور 19: 12، 14 و139: 23، 24).

آية للحفظ

«فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متى 5: 48)

صلاة

كما غفرت لي الكثير يا سيدي، ساعدني لأغفر القليل الذي يسيء به الآخرون لي، فأتمثل بك في محبتك وتسامحك وغفرانك

سؤال

16- اذكر ثلاثة دوافع للارتقاء الروحي.


الفصل التاسع

الارتقاء في تقديم الصدقة

(متى 6: 1-4)

 

«1 احْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلا فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2 فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!

3 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4 لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً»

 

1- صدقة المرائين: (آيتا 1، 2).

كان اليهود ينبِّرون كثيراً على تقديم الصدقة باعتبارها أول أركان الدين، وكلمة «صَدَقَة» وكلمة «صِدِّيق» (أي بار) في اللغة العبرية من أصل واحد. فالبار عندهم هو الذي يعطي صدقة، الأمر الذي نادت به شريعة موسى قائلة: «إِذَا افْتَقَرَ أَخُوكَ وَقَصُرَتْ يَدُهُ عِنْدَكَ فَاعْضُدْهُ غَرِيباً أَوْ مُسْتَوْطِناً فَيَعِيشَ مَعَكَ» (لاويين 25: 35)، وأمرت: «إِنْ كَانَ فِيكَ فَقِيرٌ، أَحَدٌ مِنْ إِخْوَتِكَ فِي أَحَدِ أَبْوَابِكَ فِي أَرْضِكَ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ، فَلا تُقَسِّ قَلبَكَ وَلا تَقْبِضْ يَدَكَ عَنْ أَخِيكَ الفَقِيرِ» (تثنية 15: 7). وهذا ما أمر المسيح به، فقال للفريسيين: « أَعْطُوا مَا عِنْدَكُمْ صَدَقَةً فَهُوَذَا كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ نَقِيّاً لَكُمْ» (لوقا 11: 41) وقال لقطيعه الصغير: «لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً. اِعْمَلُوا لَكُمْ أَكْيَاساً لاَ تَفْنَى وَكَنْزاً لاَ يَنْفَدُ فِي السَّمَاوَاتِ، حَيْثُ لاَ يَقْرَبُ سَارِقٌ وَلاَ يُبْلِي سُوسٌ، لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُمْ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكُمْ أَيْضاً» (لوقا 12: 32-34).

وكلمة «صدقة» في اللغة اليونانية تعني «عمل رحمة». فلم يكن العيب في إعطاء الصدقة، بل في الإعلان عنها، فقد اعتاد المراؤون أن يستأجروا موسيقياً يضرب بالبوق أمامهم وهم يقدمون عطاياهم للفقراء، حتى ينالوا تمجيد الناس ومدحهم. وكانوا يفعلون هذا في «المجامع» (أي أماكن العبادة) حيث يجتمع أناس كثيرون، وفي الأزقة حيث يسكن الفقراء « لأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ» (يوحنا 12: 43) .

وقد وبخ المسيح أمثال أولئك المنافقين المرائين بقوله: «قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللَّهِ فِي أَنْفُسِكُمْ.. كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلَهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟» (يوحنا 5: 41، 42، 44).

وقال المسيح إن هؤلاء المنافقين قد نالوا الأجر الذي ابتغوه وسعوا للحصول عليه. فقد طلبوا مدح الناس، فمدحهم الناس. ولم يبقَ لهم أجر آخر ينالونه من عند الله لأنهم لم يبتغوا مثل هذا الأجر ولا طلبوه.

ذات مرة قال متبرع لراعي كنيسته إنه دفع تبرعاً، فلم يعلِّق الراعي. فكرر المتبرع ما قاله. فأخذ الراعي يمدحه ويمدحه حتى أخجله، ثم قال له: «ها قد نلتَ أجرك!».

2- صدقة المؤمنين: (آيتا 3، 4).

(أ) طالب المسيح أن تكون الصدقة في الخفاء المطلق، حتى أن اليد اليسرى لا تدري ما تفعله اليد اليمنى! وهذا يعني أن لا نفتخر حتى داخل نفوسنا بما نقوم به من خير.

(ب) وعد المسيح أن الآب السماوي يكافئ من يعطي في الخفاء « لأَنَّ الْمُعْطِيَ الْمَسْرُورَ يُحِبُّهُ اللهُ» (2كورنثوس 9: 7).. فيكافئه بأن يُشبع نفسه بالرضى، فيختبر نُصح الرسول بولس لقادة كنيسة أفسس: « فِي كُلِّ شَيْءٍ أَرَيْتُكُمْ أَنَّهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنَّكُمْ تَتْعَبُونَ وَتَعْضُدُونَ الضُّعَفَاءَ، مُتَذَكِّرِينَ كَلِمَاتِ الرَّبِّ يَسُوعَ أَنَّهُ قَالَ: مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ» (أعمال 20: 35).. و يكافئه بأن يُريه سداد عَوَز المُعوَزين، فيكتسي العاري، ويشبع الجائع، ويخلُص الخاطئ.. ويقول له بخصوص اليوم الأخير: «هَا أَنَا آتِي سَرِيعاً وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ» (رؤيا 22: 12).

آية للحفظ

«وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ» (متى 6: 3)

صلاة

أنت المُنعم الكريم، الذي أفضْتَ عليَّ من نِعمك الروحية والجسدية. فأنعِم عليَّ بروح السخاء الذي لا يرجو إلا رضاك

سؤال

17- ما هو العيب في أن المرائين المنافقين يبوِّقون وهم يقدمون صدقاتهم؟


الفصل العاشر

الارتقاء في الصلاة

(متى 6: 5-15)

 

«5 وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!

«6 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7 وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلاً كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8 فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ.

«9 فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. 10 لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 11 خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. 12 وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. 13 وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَجْدَ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ.

«14 فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضاً أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. 15 وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاتِهِمْ لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضاً زَلاتِكُمْ» (متى 6: 5-15).

 

1- صلاة المرائين: (آية 5).

كان اليهود يصلون ثلاث مرات يومياً، ويؤمنون إن الصلاة أرقى درجات الواجبات الدينية وأعظم من كل الأعمال الصالحة، ولكن المرائين المنافقين منهم جعلوا الصلاة طقساً خالياً من العلاقة الحميمة مع الله. ثم أنهم كانوا يهتمون بحُكم الناس عليهم أنهم من أهل التقوى والورع، فكانوا يصلون في المجامع ليراهم جمهور العابدين، وفي زوايا الشوارع ليراهم الناس في كل وقت. فكانت صلاتهم للناس ليُسمِعوهم كلمات المديح. ولم تكن نابعة من محبتهم لله، ولا من رغبتهم في أن يتحدثوا إليه، بل كانت حباً في الظهور، وإشباعاً لذواتهم من مدح الناس لهم.

2- صلاة المؤمنين: (آيات 6-8).

(أ) طالَب المسيح تلاميذه أن تكون صلواتهم بينهم وبين ربهم، لتكون للرب وليس للناس، فيسمع الله الصلاة ويستجيب (آية 6). ويقول الرسول بولس: «لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضاً لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: يَا أَبَا الآبُ!» (رومية 8: 15). وتعبير «يَا أَبَا الآبُ!» ينادي به الأبناء آباءهم، ولا ينادي به العبيد سادتهم.

ولا يهتم الله بكلمات الصلاة قدر ما يهتم بحالة المصلي الروحية، فقال: «صَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً» (آية 6). فنحن نصلي، وأبونا السماوي «يرى» مقدار إيماننا ونقاوة قلوبنا. فليست الصلاة مجرد كلام يُقال، بل هي حالة قلب يحب الله ويطيعه.

(ب) وطالَب المسيح تلاميذه أن لا يعتمدوا على كثرة كلامهم في الصلاة فيكررونه باطلاً، فالصلاة ليست كلمات تُتلى، بل علاقة محبة لله وحوار حب معه (آية 7).

(ج) وأكَّد المسيح لتلاميذه أن الله يعرف احتياجاتهم من قبل أن يسألوه، فهو ليس محتاجاً لمعرفة ما نحتاج إليه، ولا للمزيد من الطلب، ولا لتكرار الطلب. لكنه يحب أن شعبه يخاطبه ويستند عليه ويلجأ إليه دائماً (آية 8). لذلك قال المرنم: « لَكَ قَالَ قَلْبِي: قُلْتَ اطْلُبُوا وَجْهِي. وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ» (مزمور 27: 8).

3- نموذج للصلاة: (آيات 9-13).

أعطى المسيح تلاميذه نموذجاً للصلاة، نسميه «الصلاة الربانية». وهي صلاة يمكن أن نتلوها، لأنه قال عنها: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ..» (لوقا 11: 2)، ويمكن أن نتَّخذها نموذجاً لصلواتنا لأنه قال: «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هَكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ..».

(أ) تُوجَّه الصلاة إلى الآب السماوي، فهو الذي «سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ» (أفسس 1: 5، 6). والحديث إلى «الله الآب» يعني أننا أبناؤه وأنه وليُّ أمرنا، الذي يرحب بنا، كما يعني أنه المدبر الذي يجب أن نطيعه ونكرمه، ويعني أيضاً أن كل من يدعوه «أبانا» هو أخونا!

ونلاحظ أنها صلاة موجَّهة لله، ليس للذات ولا للناس، كما يفعل المراؤون المنافقون.

(ب) وتبدأ الصلاة الربانية النموذجية بثلاث طلبات لمجد الله:

(1) «لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ». الاسم هو ما يذكِّر بالشخص ويعلن طبيعته وشخصيته. وعندما نطلب تقديس اسم الله نعني أننا نوقِّره ونطيعه ونخضع له، ونطلب أن يضيء نور المؤمنين أمام الناس فيمجدون أباهم السماوي، ويعرف البشر جميعاً شخصه القدوس الموقر المرتفع فوق كل خلائقه. وبهذا يكرمه الأتقياء فيخضعون، ويعرفه الخطاة فيتوبون.

(2) «لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ». وبهذه الطلبة نطلب أن يملك على قلوبنا، فيُعلَن مُلكه في عالمنا، ويخضع له القريبون والبعيدون، ويختبر كل البشر خلاصه، وتحدث انتعاشة روحية من حولنا، ونحن نصلي مع مسيحيي الصين: «يا رب، أنهض كنيستك مبتدئاً بي أنا».

(3) «لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ عَلَى الأَرْضِ». يتمم ساكنو السماء مشيئة الله فيسبحه القديسون الذين انتقلوا إلى حضرته، ويترنم له الملائكة الأطهار. وعندما يطيع المؤمن الله بكل قلبه يملك الله على حياته كما يملك على قلوب السمائيين. ولسان حال صاحب هذه الصلاة يقول: «أَنْ أَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا إِلَهِي سُرِرْتُ» (مزمور 40: 8). فإن مشيئة الرب هي «الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ» (رومية 12: 2).

(ج) وفي الصلاة الربانية النموذجية ثلاث طلبات تعبِّر عن احتياجاتنا الشخصية:

(1) «خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ». كعائلة متآخية يطلب المؤمن من الله أن يعطيه هو وبقية عائلته الصغيرة والكبيرة حاجة اليوم من طعام الجسد، وشعاره: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ» (مزمور 23: 1). ويطلب المؤمن خبز يومه كما عال الله بني إسرائيل في صحراء سيناء بالمن فكانوا يجمعون طعام كل يوم بيومه (خروج 16: 1-21). ولا تعني هذه الطلبة عدم العمل، فعندنا الوصية الرسولية القائلة: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» (2تسالونيكي 3: 10).

وتعلمنا هذه الطلبة الاكتفاء ونحن نطلب «خبزنا كفافنا»؛ كما تعلمنا الاعتماد اليومي على الله فنقول له «أعطنا»؛ وتعلمنا المحبة ونحن نقول «أعطنا، نحن وإخوتنا».

(2) «وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضاً لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا». كلمة «ذنوبنا» هنا تعني ديوننا لله بسبب تقصيرنا في طاعته. ويشعر كل إنسان بالذنب، ويقول: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ» (إشعياء 53: 6). والمذنب المديون التائب يطلب غفران خطاياه، فتفتح السماء بابها فوراً وتقبل الطلبة. فما أنسب طلبة المعترف التائب الذي «قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ». فقال المسيح عنه «إِنَّ هَذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً» (لوقا 18: 13، 14). وغفران الله لنا يعني رفع ثقل ذنوبنا عن كواهلنا، ومحو خطايانا فلا تعود تديننا. ويسع غفران الله أشقى الخطاة، فقد قال المسيح للِّص المصلوب التائب: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43).

ويؤكد المصلي لله أنه راغب في أن يغفر لمن يسيئون إليه، ويطالب بالغفران الإلهي بنفس القدر الذي يغفر به هو لمن يذنب إليه!

(3) «وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لَكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ». التجربة هي الامتحان، وقد تجيئنا من داخل نفوسنا فنخطئ، ويكون هذا الخطأ من نقطة ضعف فينا أو من نقطة قوة. وقد تأتينا التجربة من خارج نفوسنا، من صديق أو من عدو. وفي الحالتين يقف الشيطان من خلفنا أو من خلف الصديق أو العدو يجرِّبنا ويجمِّل لنا الخطأ، كما جمَّله لأبوينا الأوَّلين، فعصى آدم ربَّه وسقط في الغواية. ولما كنا كلنا من نسل آدم وحواء، وجب أن نطلب النجاة من ساعة التجربة، فلا ندخل فيها، وننجو من قلبنا الشرير، ومن العدو الشرير، ومن العالم الشرير.

(د) وتُختم الصلاة بتمجيد الله، في القول: «لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ وَالْقُوَّةَ وَالْمَجْدَ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ».

لله المُلك، فليأتِ ملكوته على العالم وعلينا لأننا ملكٌ له. نقدس اسمه، وننتمي لملكوته، ونطيع مشيئته. فنطلب منه الاستجابة لأننا له.

ولله القوة التي تستجيب الدعاء، فلتكن مشيئته الصالحة التي تعاوننا لننتصر ساعة التجربة، ونتأيد بالقوة لنعيش حياة الطاعة له.

وله المجد وكمال الصفات، فليتمجد اسمه نتيجة استخدام سلطانه، فنقدم له الشكر والتسبيح إلى أبد الآبدين.

ثم يختم المصلي طلبته بكلمة «آمين». وهي كلمة عبرية انتقلت إلى كل لغات العالم تقريباً، ومعناها «ليكن هكذا» أو «ليتم الأمر». وعندما يُقرأ جزء من الوحي الإلهي، أو تُرفع صلاة يقول كل العابدين «آمين» للتعبير عن موافقتهم على ما قيل.

4- روح المصلي: (آيتا 14، 15).

التعليق الوحيد الذي قدمه المسيح على الصلاة النموذجية هو ضرورة الغفران. قالها مرة بالإيجاب «إِنْ غَفَرْتُمْ» (آية 14) ومرة أخري بالسلب «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا» (آية 15).

سأل بطرس السيد المسيح: «يَا رَبُّ كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» فأجابه: «لاَ أَقُولُ لَكَ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ بَلْ إِلَى سَبْعِينَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّاتٍ» (متى 18: 21، 22).

ولو أن المؤمن قصد بيت الله للصلاة وفي قلبه كراهية لأحد، لوجب عليه أن يترك قربانه أمام المذبح ويذهب أولاً ليصطلح مع أخيه، ثم يعود ليقدم قربانه، فإن الله سيغفر له ويقبله بمقدار ما أنه هو يغفر لأخيه ويقبله!

آية للحفظ

«لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (متى 6: 8)

صلاة

ساعدني يا أبي السماوي لأضعك واسمك وملكوتك ومشيئتك قبل اهتمامي بخبزي اليومي، فكلما وضعتك أولاً في حياتي وآمالي عرفتُ معنى الحياة ذات القيمة

سؤال

18- ما هو التعليق الوحيد الذي علَّق به المسيح على الصلاة الربانية؟


الفصل الحادي عشر

الارتقاء في الصوم

(متى 6: 16-18)

 

«16 وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ.

«17 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18 لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِماً، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً».

 

1- صوم المرائين: (آية 16).

طالبت الشريعة القديمة اليهود أن يصوموا يوم الكفارة العظيم « وَيَكُونُ لَكُمْ فَرِيضَةً دَهْرِيَّةً أَنَّكُمْ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ فِي عَاشِرِ الشَّهْرِ تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ» (لاويين 16: 29) فلا يأكل اليهودي ولا يشرب ولا يستحم ولا يدهن رأسه بالعطور. فكان الصوم إعلاناً للتوبة، وعلامة انكسار الصائم أمام الرب.

غير أن المرائين مارسوا الصوم لأهدافهم الخاصة، فكانوا يصومون يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع لأنهما يوما التسوُّق حيث يجتمع عدد كبير من أهل الريف والحضَر، بهدف إظهار تقواهم أمام الناس، وليس تعبُّداً منهم لله. فكانوا يسيرون في الشوارع عابسين وقد غيَّروا وجوههم حتى يدرك من يرونهم أنهم صائمون.

وروى المسيح لنا مثَل الفريسي الذي « وَقَفَ يُصَلِّي فِي نَفْسِهِ هَكَذَا: اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ.. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ» (لوقا 18: 11، 12). فوضعه الله في حالة وضيعة لأنه حاول أن يرفع نفسه أمام نفسه وأمام الآخرين. ويرفض الله مثل هذه الصلاة الطافحة بالكبرياء وإدانة الآخرين.

2- صوم المؤمنين: (آيتا 17، 18).

أوصى المسيح بالصوم، وصام هو أربعين يوماً (لوقا 4: 1، 2). وصام رجال الله الأتقياء، فصام موسى أربعين يوماً (خروج 34: 28) وإيليا (1ملوك 19: 8) ودانيال (دانيال 10: 3)، وصام التلاميذ «وَبَيْنَمَا هُمْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ. فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا» (أعمال 13: 2، 3). ويقول الوحي إن بولس وبرنابا « انْتَخَبَا لَهُمْ قُسُوساً فِي كُلِّ كَنِيسَةٍ، ثُمَّ صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ وَاسْتَوْدَعَاهُمْ لِلرَّبِّ الَّذِي كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ» (أعمال 14: 23).

وقد طالب المسيح تلاميذه أن يكون صومهم شخصياً بينهم وبين الله، فلا يعبسون ولا يغيرون وجوههم ليراهم الناس. بل يجب أن يتدهنوا بالطيب، ويغسلوا وجوههم، كما يفعلون كل يوم، ليرى الله وحده تواضعهم فيكافئهم بالجزاء السماوي.



الفصل الثاني عشر

الارتقاء في الاستثمار

(متى 6: 19-23)

 

«19 لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ.

20 بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21 لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً.

22 سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّراً، 23 وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِماً. فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَماً فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!» (متى 6: 19-23).

 

1- استثمار أهل الأرض: (آية 19).

يكنز أهل العالم كنوزاً على الأرض، لتأمين حاضرهم ومستقبلهم، ولكنهم يكنزون البائد وينسون الباقي. ولعل مثَل الغني الغبي يشرح تصرف أهل العالم قصيري النظر أبلغ شرح، فقد كثرت غلاته، فقرر أن يهدم مخازنه القديمة ليبني أكبر وأوسع منها، ثم قال: «أَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي». فَقَالَ لَهُ اللهُ: «يَا غَبِيُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهَذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟». وعلَّق المسيح على المثل بالقول: «هَكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيّاً لِلَّهِ» (لوقا 12: 19-21).

يكنز البشر ما يبلى ويفني، وكانت ثروة القدماء حبوباً يأكلها السوس، ومعادن يفنيها الصدأ، ونفائس يسرقها اللصوص. فما أسعد من يفهم قول المسيح: «اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ» (يوحنا 6: 27).

ولا شك أن المسيح لم يقصد أن يدين الحصول على الثروة، لكنه يدين اكتنازها ووضعها في المقام الأول. لقد كان إبراهيم أب المؤمنين غنياً، وكذلك كان إمام الصابرين أيوب. والمشكلة ليست في المال، لكنها في محبة المال، التي هي «أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ» (1تيموثاوس 6: 10).

2- استثمار المؤمنين: (آيات 20-23).

(أ) مكان الاستثمار الحكيم: (آية 20). «فِي السَّمَاءِ» عندما يتعلَّق قلب المؤمن بالسماويات عملاً بالوصية: «فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ. اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ» (كولوسي 3: 1، 2). و«فِي السَّمَاءِ» حيث نجد المكافأة على كل عمل صالح، ونسمع القول العظيم: «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 21، 23).

(ب) ثمر الاستثمار الحكيم: (آية 21). أصحاب الاستثمار الحكيم يستثمرون «فِي السَّمَاءِ» ويكون كنزهم في الارتقاء بشخصياتهم الروحية، فيتضاءل اهتمامهم بأمور العالم الفانية، ويزيد اهتمامهم بالسماويات، لأن كنزهم هناك. وكلما اتَّجه فكرهم للسماء قلَّت قيمة هذا العالم في نظرهم، فيوصفون بالقول: «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ» (عبرانيين 12: 2) وشعار كل منهم: « جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ. لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ» (مزمور 16: 8).

(ج) الإبصار السليم للاستثمار الحكيم: (آيتا 22، 23). «سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ». يدخل النور إلى الجسد بواسطة العين، فإذا كانت العين سليمة صحيحة يدخل النور واضحاً. وإن كانت العين مريضة يدخل النور ضعيفاً أو مظلماً. وكما يحتاج جسد الإنسان إلى عين سليمة تحتاج نفسه إلى قلب نقي. ويتوقف الاستثمار الحكيم على الإبصار السليم والنظرة النقية والحُكم الصحيح على «الكنوز» المادية والروحية. فصاحب «العين البسيطة» (بعكس صاحب «العين الشريرة») يرى الحقائق بجلاء ووضوح، ويدرك العمل السليم ونتائجه، ويقيِّم الكنوز تقييماً صحيحاً، ويكون جسده كله نيِّراً، فيكنز في المكان الصحيح.

كان لتلاميذ المسيح عيون مفتوحة نيِّرة بسيطة، بينما كانت عيون اليهود مظلمة. فعندما سأل المسيح تلاميذه: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا ابْنُ الإِنْسَانِ؟» أجابوا: «قَوْمٌ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ، وَآخَرُونَ إِيلِيَّا، وَآخَرُونَ إِرْمِيَا، أَوْ وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ». فسألهم: «وَأَنْتُمْ مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟». فأجاب بطرس: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ الْحَيِّ». فقال له: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا. إِنَّ لَحْماً وَدَماً لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لَكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى 16: 13-17).

كانت عين سمعان بسيطة نيِّرة فرأى المسيح في النور السماوي، وعرف من هو، فاستثمر حياته في اتِّباع الفادي المخلِّص. وكانت عيون غيره مريضة فظنت المسيح واحداً من الأنبياء، فتبعته طلباً للمعجزة.

آية للحفظ

«حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضاً» (متى 6: 21)

صلاة

أعطني يا رب عيناً سليمة ترى كنوز العالم في نور الأبدية، فأكنز في السماء، حيث قلبي وفكري ومحبتي

سؤال

19- ما معنى «سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ»؟


 

الفصل الثالث عشر

الارتقاء في الطمأنينة

(متى 6: 24-34)

 

«24 لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّهَ وَالْمَالَ. 25 لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26 اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27 وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعاً وَاحِدَةً؟ 28 وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29 وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30 فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَداً فِي التَّنُّورِ يُلْبِسُهُ اللَّهُ هَكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدّاً يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟

«31 فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32 فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. 33 لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34 فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ» (متى 6: 24-34).

1- ما يضيِّع الطمأنينة: (آيات 24-30).

(أ) تضيع طمأنينة الإنسان الذي يجد نفسه ممزقاً بين خدمة المال وخدمة الله: (آية 24). فإذا خدم المال واستعبد نفسه له يكتشف أن المال سيد قاسٍ. صحيحٌ أن المال عبد صالح، لكن عندما ينقلب الأمر ويصبح الإنسان عبداً للمال، يصرف جلَّ وقته يفكر فيه، وقد يحصل عليه بطرق خاطئة، سرعان ما يعذبه ضميره لأنه لم يقدم لله الولاء الواجب، إذ جعل المال في المقام الأول، فتضيع طمأنينته.

إن مشكلة الإنسان الخطيرة هي أنه يهتم بالأشياء أكثر من اهتمامه بخالق الأشياء ومعطيها. وكم نخطئ ونتعب ونقلق إن كان اهتمامنا بالماديات مساوياً لاهتمامنا بالله.

لنذكر دائماً أن الله مصدر ما عندنا من مال، فمنه الجميع. ولنحترس من أن نركز نظرنا على عطايا الله من مال ومقتنيات، فننشغل عن الله بعطايا الله، فنشبه طفلاً أهداه أبوه هدية فانشغل بها ولم يرفع عينيه بالشكر لمن أهداها له!

(ب) وتضيع طمأنينة الإنسان عندما ينسى أن الله أعطاه الحياة والجسد (آية 25). فإن كان قد أعطاه الحياة فلا بد أنه سيعطيه ما يحفظ عليه هذه الحياة، ويضمن له الطعام والشراب. إن الحياة أهم من الطعام، ولا يقدر أن يعطيها إلا الله الذي «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 28) .

وتضيع طمأنينة الإنسان عندما يغيب عن باله أن الله الذي وهبه الجسد يكسو هذا الجسد. والجسد أهم من كسائه. وقد يكسو إنسانٌ إنساناً، ولكن لا يمكن أن إنساناً يهب جسداً لإنسان آخر. فإن كان الله كريماً محباً قديراً وقد أعطى الأهم، فلا بد أنه سيعطي ما هو أقل أهمية. وإن كان قد أعطى الكثير فلا بد أنه سيعطي القليل.

وواضحٌ أن المسيح لا ينهى عن التفكير في احتياجات الجسد، فقد علَّمنا أن نصلي « خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ». وقدم لنا الرسول بولس مثالاً ونصيحة، فقال: «إِذْ أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يُتَمَثَّلَ بِنَا، لأَنَّنَا لَمْ نَسْلُكْ بِلاَ تَرْتِيبٍ بَيْنَكُمْ، وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزاً مَجَّاناً مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَاراً، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ. لَيْسَ أَنْ لاَ سُلْطَانَ لَنَا، بَلْ لِكَيْ نُعْطِيَكُمْ أَنْفُسَنَا قُدْوَةً حَتَّى تَتَمَثَّلُوا بِنَا. فَإِنَّنَا أَيْضاً حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ أَوْصَيْنَاكُمْ بِهَذَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضاً» (2تسالونيكي 3: 7-10). لكن المسيح يمنعنا من القلق على طعامنا وشرابنا وكسائنا، لأنه هو يعتني بنا.

(ج) وتضيع طمأنينة الإنسان عندما ينسى أنه في نظر الله أهم من الطيور (آية 26). فإن كان الله يقوت الطيور كل يوم وهي لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع طعامها في مخازن، فكم بالحري يعول الإنسان الذي يحبه، وقد قال : «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ». حَتَّى إِنَّنَا نَقُولُ وَاثِقِينَ: «الرَّبُّ مُعِينٌ لِي فَلاَ أَخَافُ» (عبرانيين 13: 5، 6).

تخيَّل أحدهم عصفوراً يقول للعصفور زميله: أريد أن أعرف لماذا يقلق البشر؟ فأجابه زميله: لا بد أنه ليس عندهم أب سماوي مثل أبينا السماوي!

(د) وتضيع طمأنينة الإنسان وهو يقلق ويعول الهم، لأنه يعجز عن مساعدة نفسه (آية 27). فهو لا يقدر أن يزيد دخله، أو يصد الأذى عن بدنه، أو يطيل قامته ذراعاً واحدة (نحو نصف متر!). ولهذا يوصينا الرسول يعقوب: « هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَداً إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ. أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ. عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ» (يعقوب 4: 13-15).

لنذكر أن قلقنا في محاولة إضافة ذراع واحدة على قامتنا، ونحن عاجزون عن هذا، يزيد متاعب يومنا ويضاعف مخاوفنا من الغد، فتسرق هذه المحاولة العقيمة سلامنا وتصيبنا بالأمراض النفسية والجسدية. فما أجمل أن نطيع النصيحة: « أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ. لاَ يَدَعُ الصِّدِّيقَ يَتَزَعْزَعُ إِلَى الأَبَدِ» (مزمور 55: 22).

(هـ) وتضيع طمأنينة الإنسان عندما يظن أنه في نظر الله أقل أهمية من زنابق الحقل ومن العُشب (آيات 28-30). يغزل الإنسان ملابسه وينسجها، لكن الورود البرية وعشب الحقل تنمو زاهية متناسقة الألوان، دون أن تتعب وتغزل وتنسج، حتى أن سليمان الحكيم الغني لم يكن يلبس ملابس ذات ألوان ثابتة جميلة مثلها! فإن كان الله يهتم بالزنابق قصيرة العمر، والتي لا حياة أبدية لها، فكم وكم يهتم بالإنسان الذي له حياة أبدية في الدهر الآتي!

ويحذرنا المسيح من أن نكون « قَلِيلِي الإِيمَانِ» في عناية الله بنا، فلنفكر في قول المرنم: «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ. مَلآنَةٌ الأَرْضُ مِنْ غِنَاكَ.. كُلُّهَا إِيَّاكَ تَتَرَجَّى لِتَرْزُقَهَا قُوتَهَا فِي حِينِهِ. تُعْطِيهَا فَتَلْتَقِطُ. تَفْتَحُ يَدَكَ فَتَشْبَعُ خَيْراً» (مزمور 104: 24، 27، 28).

2- ما يضمن الطمأنينة: (آيات 31-34).

(أ) يضمن الإنسان طمأنينته عندما لا يسمح للقلق الذي ينهش حياة غير المؤمنين أن يدمر سلامه (آية 31). فمن صفات غير المؤمنين أنهم ينزعجون ويقلقون، ولا يتوقعون مساعدة إلهية، لأنهم لم يختبروا محبة الله، فينزعجون ويقلقون ويقولون: « مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟». و«هَذِهِ كُلّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ» (آية 32أ). أما ربنا فإنه «الله الْحَيّ الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ» (1تيموثاوس 6: 17).

(ب) ويضمن الإنسان طمأنينته عندما يعرف أباه السماوي حقَّ المعرفة، ويثق أنه يهتم بكل احتياجاته، فهو «يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا» (آية 32ب)، ويؤمن أن « أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (متى 6: 8).

انتصر أحد المؤمنين على القلق، لما قضى ليلته ساهراً يفكر في مشكلاته، وفجأة أشرق عليه الخاطر أن أباه السماوي ساهرٌ عليه، فلماذا يسهر الاثنان؟ واطمأن قلبه وهو يقول: «أبي ساهر عليَّ، وأنا سأنام». « بِسَلاَمَةٍ أَضْطَجِعُ بَلْ أَيْضاً أَنَامُ، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ مُنْفَرِداً فِي طُمَأْنِينَةٍ تُسَكِّنُنِي» (مزمور 4: 8).

(ج) ويضمن المؤمن طمأنينته لما يضع أولوياته بطريقة سليمة، فيطلب أولاً ملكوت الله وبرَّه (آية 33) فيعطيه الله ما طلب، وفوق ما طلب «وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ».

لو أننا عشنا للأشياء المادية نخسرها، ولو جعلنا الأرضيات أولاً نخسر السماء والأرض.. ولكن لو جعلنا مُلك الله أولاً على حياتنا، وبرَّه وعدله أولاً نصب عيوننا نكسب السماء والأرض. فلنطلب منه أن يملك على حياتنا، وعلى مجتمعنا، ولننتظر ملكوته الآتي عندما «تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ» (فيلبي 2: 10، 11).

(د) ويضمن المؤمن طمأنينته لما يدرك أن «الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ». وأنه «يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ» (آية 34). ونحتاج كلنا أن نتدرَّب على أن نحيا يومنا ونترك غدنا لنعمة إلهنا، ففي كل يوم تجد البركات والمشكلات، فيكفي أن تعالج مشكلات يومك، ولا تقلق بخصوص مشكلات غدك، فمع الغد القادم يمدّك الله بقوة جديدة وحكمة جديدة وظروف جديدة، فينطبق عليك القول: «ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِماً سَالِماً، لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ. تَوَكَّلُوا عَلَى الرَّبِّ إِلَى الأَبَدِ، لأَنَّ فِي يَاهَ الرَّبِّ صَخْرَ الدُّهُورِ» (إشعياء 26: 3، 4).

آية للحفظ

«اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (متى 6: 33)

صلاة

أنت حي فلا يوجد ما يدعوني للقلق. ساعدني لأراك مهتماً بيومي وبغدي، بينما كل اهتمامي وقلقي لن يزيد على قامتي ذراعاً واحدة.

سؤال

20- اشرح معنى «المال عبد صالح، لكنه سيد قاسٍ».


الفصل الرابع عشر

الارتقاء في العلاقات

(متى 7: 1-6)

«1 لاَ تَدِينُوا لِكَيْ لاَ تُدَانُوا، 2 لأَنَّكُمْ بِالدَّيْنُونَةِ الَّتِي بِهَا تَدِينُونَ تُدَانُونَ، وَبِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ.

3 وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 4 أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ. 5 يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!

6 لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَبِ، وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ، لِئَلا تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا، وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ» (متى 7: 1-6).

 

نسقط جميعنا في خطية انتقاد الآخرين نقداً هداماً، دون أن نعرف ظروفهم.. أو نعرفها فنصدر عليهم أحكاماً شخصية قاسية. ويعلمنا المسيح أن نرتقي في علاقاتنا مع الناس، فلا نسرع في إصدار أحكام الإدانة عليهم، متذكرين القول الرسولي: «مَنْ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ عَبْدَ غَيْرِكَ؟ هُوَ لِمَوْلاَهُ يَثْبُتُ أَوْ يَسْقُطُ. وَلَكِنَّهُ سَيُثَبَّتُ، لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ» (رومية 14: 4)، فكم من أشخاص حُكم عليهم ظلماً وبهتاناً، مثل المسيح الذي «أَسْلَمُوهُ حَسَداً» (متى 27: 18).

ويورد المسيح ثلاث ملاحظات عن إدانة الآخرين:

1- الله ديان الجميع: (آيتا 1، 2).

لا يجب أن ندين الآخرين إدانة هدامة، حتى لا يديننا الله دينونة عادلة نستحقها «لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً» (2كورنثوس 5: 10). « وَأَمَّا أَنْتَ فَلِمَاذَا تَدِينُ أَخَاكَ؟ أَوْ أَنْتَ أَيْضاً لِمَاذَا تَزْدَرِي بِأَخِيكَ؟ لأَنَّنَا جَمِيعاً سَوْفَ نَقِفُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ» (رومية 14: 10).

«لِذَلِكَ أَنْتَ بِلاَ عُذْرٍ أَيُّهَا الإِنْسَانُ، كُلُّ مَنْ يَدِينُ. لأَنَّكَ فِي مَا تَدِينُ غَيْرَكَ تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِكَ. لأَنَّكَ أَنْتَ الَّذِي تَدِينُ تَفْعَلُ تِلْكَ الأُمُورَ بِعَيْنِهَا! وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ دَيْنُونَةَ اللهِ هِيَ حَسَبُ الْحَقِّ عَلَى الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ. أَفَتَظُنُّ هَذَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ الَّذِي تَدِينُ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هَذِهِ وَأَنْتَ تَفْعَلُهَا أَنَّكَ تَنْجُو مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ؟» (رومية 2: 1-3).

إننا لا نعرف كل شيء عن الشخص الذي ندينه، كما أننا نقع كثيراً في خطية التحيُّز ضد من لا يتفقون معنا في شيء أو أشياء، ولا يوجد إنسان صالح بدرجة تكفي لأن يدين غيره.

2- إن فينا عيوباً: (آيات 3-5).

من السهل أن ندين الناس لأننا نرى القذى في عيونهم، وننسى أن في عيوننا خشبة! ونحن عادة نضخِّم عيوب الغير ولا نحاول أن نساعدهم ليصلحوها، لأن هدمهم أسهل جداً من بنائهم. وفي أغلب الأحيان يكون الشخص الذي ينتقد غيره أقل مشغولية من غيره، فيقضي وقته يراقب الناس وينتقدهم. ولعلنا نلاحظ هذا كثيراً في انتقادات مشجِّعي لاعبي كرة القدم للاعبين. إنهم نظارة متفرجون ينتقدون العاملين المجدّين!

ويرسم لنا المسيح صورة كاريكاتورية مضحكة يمكن أن نصوِّرها اليوم بصاحب عين رمداء يوقع الكشف عليه طبيب عيون وارم العينين!

فعلى المؤمن أن يبدأ بإصلاح نفسه قبل أن يحاول إصلاح غيره، كما قال الشاعر العربي:

يا أيها الرجلُ المعلِّمُ غيرَهُ هلا لنفسِك كان ذا التعليمُ

كم من أبٍ ينصح ولده ألا يدخن بينما يشعل الأب سيجارته! وكم من زوج ينتقد زوجته وزوجة تنتقد زوجها على نفس العيوب التي يرتكبها كلٌّ منهما، بينما الواجب أن يصلح المرء من عيوب نفسه قبل أن يحاول إصلاح عيوب غيره.

ونلاحظ عادة أن الذي يدين غيره يظن أنه يعرف أكثر من غيره، كما أنه يحاول إبعاد النظر عن أخطائه ويلفت النظر إلى أخطاء غيره. ولهذا قال المسيح للذين دانوا المرأة الخاطئة: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلاً بِحَجَرٍ!» (يوحنا 8: 7).

3- وهناك من يستحق الإدانة: (آية 6).

هناك أشخاص مرضى، بعيونهم قذى وخشبة معاً. فبعد أن نُخرج الخشبة من عيوننا نحتاج إلى فطنة روحية للتعامل معهم، ونحن نذكر النصيحة الرسولية: «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هَذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِراً إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضاً» (غلاطية 6: 1). وما أجمل ما نصح به القديس يوحنا فم الذهب: «أصلِح غيرك لا كعدوٍّ، ولا كخاطئ يستحق العقاب، بل كطبيب تقدم له الدواء».

وقد رأت الكنيسة الأولى أن عبارة « لاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ» تعني منع «الكلاب والخنازير» (أي الخطاة الذين سمعوا رسالة الخلاص ورفضوها بسخرية واستهزاء) من التناول من مائدة العشاء الرباني.

أمثال هؤلاء يجب أن يحكم المؤمن الحكيم عليهم ويدينهم، لأنه المُطوَّب الذي «لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ» (مزمور 1: 1).

وقد قال المسيح لتلاميذه وهو يرسلهم للتبشير: «أَيَّةُ مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ دَخَلْتُمُوهَا فَافْحَصُوا مَنْ فِيهَا مُسْتَحِقٌّ.. مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ كَلاَمَكُمْ فَاخْرُجُوا خَارِجاً مِنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَانْفُضُوا غُبَارَ أَرْجُلِكُمْ.. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ» (متى 10: 11-16).

على أننا يجب أن نتأنى كثيراً في الحكم على البعض بأنهم «كلاب وخنازير» لا يستحقون المقدسات والدرر، فإن الله الذي هو غني في الرحمة يحب الخطاة، و«يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 4).

ولنذكر دوماً أمر المسيح: «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْماً عَادِلاً» (يوحنا 7: 24).

آية للحفظ

«أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّداً أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ» (متى 7: 5)

صلاة

يا رب، ساعدني لأرى عيوبي قبل أن أرى عيوب غيري. ساعدني لأصلح من أمر نفسي قبل أن أحاول إصلاح أمر غيري. ولا تسمح بأن أدعو غيري «كلاباً وخنازير» إلا بعد أن يرفضوا سماع رسالتك ويستمرون مصرّين على رفضها

سؤال

21- لماذا يجب أن نمتنع عن النقد الهدام؟


الفصل الخامس عشر

الارتقاء في الطلب

(متى 7: 7-12)

 

«7 اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اطْلُبُوا تَجِدُوا. اقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. 8 لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ.

«9 أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزاً يُعْطِيهِ حَجَراً؟ 10 وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ 11 فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ.

«12 فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ، لأَنَّ هَذَا هُوَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ» (متى 7: 7-12).

 

1- ضرورة الطلب: (آيتا 7، 8).

تحدَّث المسيح في الموعظة على الجبل عن الارتقاء في صلاة المخدع حيث يرانا الله ويسمعنا (متى 6: 5-8)، وأعطانا نموذجاً للصلاة المستجابة (متى 6: 9-13)، ووضع أمامنا شرط الاستجابة، وهو الغفران للآخرين (متى 6: 14، 15). وفي الآيات التي نتأملها هنا يشجعنا أن نصلي، فنسأل، ونطلب، ونقرع، ونقول: « يَا سَامِعَ الصَّلاَةِ إِلَيْكَ يَأْتِي كُلُّ بَشَرٍ» (مزمور 65: 2).

في السؤال نتساءل إن كان سيعطينا شيئاً، وفي الطلب نوضح الحاجة ونطلبها، وفي القرع نعلن إلحاحنا وشديد احتياجنا لما نطلبه، وهذا يعني أننا نستمر في الطلب بغير يأس. صحيحٌ أن الله «أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ.. (وهو) يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا» (متى 6: 8، 32) ولكنه يشتاق إلى سماع طلباتكم لأنها تدل على محبتكم له وثقتكم فيه وانتظاركم له. وقد عبَّر المرنم عن طرق مختلفة لارتقائه في الصلاة، من كلمات إلى صراخ إلى دعاء وهو يقول: «لِكَلِمَاتِي أَصْغِ يَا رَبُّ. تَأَمَّلْ صُرَاخِي. اسْتَمِعْ لِصَوْتِ دُعَائِي يَا مَلِكِي وَإِلَهِي، لأَنِّي إِلَيْكَ أُصَلِّي. يَا رَبُّ، بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ، وَأَنْتَظِرُ» (مزمور 5: 1-3).

ونتعلم من أمر المسيح: « اِسْأَلُوا.. اطْلُبُوا.. اقْرَعُوا» أن هناك صلوات تُستجاب فوراً يقول الله عنها: «وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ» (إشعياء 65: 24)؛ كما أن هناك صلوات تُسمع بعد لجاجة، فقد ضرب المسيح مَثَل الأرملة والقاضي الظالم الذي أنصفها بسبب إلحاحها، وبدأه بالقول: «يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى كُلَّ حِينٍ وَلاَ يُمَلَّ». ثم علَّق على المثل بالقول: «أَفَلاَ يُنْصِفُ اللهُ مُخْتَارِيهِ الصَّارِخِينَ إِلَيْهِ نَهَاراً وَلَيْلاً وَهُوَ مُتَمَهِّلٌ عَلَيْهِمْ؟ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يُنْصِفُهُمْ سَرِيعاً» (لوقا 18: 1-8).

سأل خليل الله إبراهيم الرب، وطلب وقرع وهو يصلي لأجل نجاة سدوم وعمورة، فقال: «لاَ يَسْخَطِ الْمَوْلَى فَأَتَكَلَّمَ هَذِهِ الْمَرَّةَ فَقَطْ. عَسَى أَنْ يُوجَدَ هُنَاكَ عَشَرَةٌ». فَقَالَ: «لاَ أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ الْعَشَرَةِ» (تكوين 18: 32)، وسأل يعقوب أب الأسباط وطلب وقرع باب الله قائلاً: «لاَ أُطْلِقُكَ إِنْ لَمْ تُبَارِكْنِي» (تكوين 32: 26)، وصلَّت الكنيسة الأولى لما « كَانَ بُطْرُسُ مَحْرُوساً فِي السِّجْنِ.. فَكَانَتْ تَصِيرُ مِنْهَا صَلاَةٌ بِلَجَاجَةٍ إِلَى اللهِ مِنْ أَجْلِهِ» (أعمال 12: 5).

ولا يقصد المسيح أن الله سيستجيب كل طلباتنا، كما نطلبها، إن سألنا وطلبنا وقرعنا، ولكنه يعلِّمنا أن « هَذِهِ هِيَ الثِّقَةُ الَّتِي لَنَا عِنْدَهُ: أَنَّهُ إِنْ طَلَبْنَا شَيْئاً حَسَبَ مَشِيئَتِهِ يَسْمَعُ لَنَا. وَإِنْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مَهْمَا طَلَبْنَا يَسْمَعُ لَنَا، نَعْلَمُ أَنَّ لَنَا الطِّلْبَاتِ الَّتِي طَلَبْنَاهَا مِنْهُ» (1يوحنا 5: 14، 15).

2- تأكيد الاستجابة: (آيات 9-11).

(أ) أكَّد المسيح لنا استجابة الصلاة بمثَل من واقع حياة كل إنسان، فكل أب بشري يستجيب لطلبات ابنه بأفضل ما يستطيع، لأنه وليُّ أمره. بل إنه يحرم نفسه من أشياء كثيرة ليوفر لأولاده حياة فُضلى. ولا يوجد أب يطلب منه ابنه رغيف خبز فيعطيه حجراً لا يؤكل، حتى لو كان شكل الحجر على شكل رغيف الخبز. كما لا يوجد أب يطلب منه ابنه سمكة فيعطيه حيةً سامة، مع أن الحية تشبه سمكة الثعبان! ومع أن الجميع خطاؤون وفي الموازين إلى فوق إلا أنهم صالحون كرماء مع أولادهم. فإن كان الأب البشري الخاطئ يكرم ابنه ويستجيب له، فكم بالحري الأب السماوي الصالح يهب خيرات للذين يسألونه.

«اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (رومية 8: 32).

(ب) وأكَّد المسيح استجابة الصلاة بتنبيره على أبوَّة الله للمؤمنين، كما قيل: « كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ، اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ، بَلْ مِنَ اللَّهِ» (يوحنا 1: 12، 13).

ويهتف المؤمنون في فرح «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ!.. أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ» (1يوحنا 3: 1، 2).

3- القاعدة الذهبية: (آية 12).

ختم المسيح حديثه عن الصلاة في الأصحاح السادس بأن طلب منا أن نهتم بعلاقتنا بالناس ونحن نصلي، ووضع شرطاً لغفران الله لنا هو أن نغفر نحن للمذنبين إلينا، فتُقبل صلاتنا. وختم حديثه هنا عن استجابته لطلباتنا بأن وضع القاعدة الذهبية أساساً لاستجابة الصلاة، فطلب منا أن نعامل الناس كما نحب أن يعاملونا، لأن هذا يلخص كل تعاليم الشريعة والأنبياء، التي تتحدث عن علاقة المؤمن بأهل بيته وجيرانه ومجتمعه.

بدأ المسيح «القاعدة الذهبية» بحرف «فاء السببية» بمعنى أنه إن كان الله صالحاً لأبنائه الذين يقرعون بابه، وَجَبَ أن يكون أبناؤه صالحين مع جيرانهم، يحبون قريبهم كما يحبون نفوسهم، ويعاملون غيرهم بالحُسنى. فعلى الزوج الذي يريد محبة زوجته خالصة له أن يطيع الوصية: « يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ» (أفسس 5: 28).

وتعلمنا القاعدة الذهبية أن «اَلْمَحَبَّة لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ.. فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ، وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا. فَلْيُرْضِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا قَرِيبَهُ لِلْخَيْرِ لأَجْلِ الْبُنْيَانِ» (رومية 13: 10 و15: 1، 2). فلندافع عن الغائب في غيبته كما نريد غيرنا أن يدافع عنا في غيبتنا، ولنمد يد العون لمحتاج في مأزق كما نحب أن نرى يداً تمتد إلينا في مآزقنا.

آية للحفظ

«فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ» (متى 7: 12)

صلاة

يا من تسمع صلاتي وتُجيب دعائي أشكرك لأنك الكريم الذي تعطي أفضل العطايا وتمنع ما لا يفيد. أشكرك لأنك تريدني أن أعامل الآخرين كما تعاملني أنت، وكما أحب أن يعاملوني، فساعدني لأكون سامعاً عاملاً بالكلمة

سؤال

22- كيف أكَّد المسيح لنا استجابة الله لصلواتنا؟

الفصل السادس عشر

الارتقاء في الاختيار

(متى 7: 13، 14)

 

«13 اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ!

«14 مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ!» (متى 7: 13، 14).

 

كل إنسان يتَّخذ قرارات هامة في حياته، في دراسته ووظيفته واختيار شريك حياته. ولكل قرار من هذه تأثير على جزء من حياة الإنسان الحاضرة، طال هذا الجزء أو قصُر. ولكن القرار الأهم في الحياة هو علاقة الإنسان بالله، لأن هذا يؤثر سلباً أو إيجاباً على حياة الإنسان الحاضرة والمستقبَلة. وقد طلب كليم الله موسى من بني إسرائيل أن يتخذوا قراراً في موقفهم من الله، فقال: «اُنْظُرْ. قَدْ جَعَلتُ اليَوْمَ قُدَّامَكَ الحَيَاةَ وَالخَيْرَ، وَالمَوْتَ وَالشَّرَّ، بِمَا أَنِّي أَوْصَيْتُكَ اليَوْمَ أَنْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ، وَتَسْلُكَ فِي طُرُقِهِ، وَتَحْفَظَ وَصَايَاهُ وَفَرَائِضَهُ وَأَحْكَامَهُ، لِتَحْيَا وَتَنْمُوَ وَيُبَارِكَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ» (تثنية 30: 15، 16).

وقد عبَّر القائد العسكري يشوع عن الأمر نفسه بقوله لبني إسرائيل: « فَاخْتَارُوا لأَنْفُسِكُمُ الْيَوْمَ مَنْ تَعْبُدُونَ: إِنْ كَانَ الآلِهَةَ الَّذِينَ عَبَدَهُمْ آبَاؤُكُمُ الَّذِينَ فِي عَبْرِ النَّهْرِ، وَإِنْ كَانَ آلِهَةَ الأَمُورِيِّينَ الَّذِينَ أَنْتُمْ سَاكِنُونَ فِي أَرْضِهِمْ. وَأَمَّا أَنَا وَبَيْتِي فَنَعْبُدُ الرَّبَّ» (يشوع 24: 15).

وقال النبي إيليا لبني إسرائيل: «حَتَّى مَتَى تَعْرُجُونَ بَيْنَ الْفِرْقَتَيْنِ؟ إِنْ كَانَ الرَّبُّ هُوَ اللَّهَ فَاتَّبِعُوهُ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْلُ (الصنم) فَاتَّبِعُوهُ» (1ملوك 18: 21).

وها هو المسيح يضع أمامنا اختيار الباب والطريق والمصير، فإن هناك بابين: الباب الواسع والباب الضيق، وأمامنا طريقان: الطريق الرحب والطريق الكرب، وتنتظرنا نهايتان: الهلاك أو الحياة! فماذا تختار؟ إن نصيحة المسيح هي « اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ».

1- الباب الواسع والطريق الرحب: (آية 13).

هناك باب واسع يمكن أن يدخل الإنسان منه بدون عناء، وهو يحمل معه كل ما يشاء من خطايا وآثام وشهوات، ولا داعي لأن يترك وراءه شيئاً يظنه عزيزاً عليه من أمور هذه الدنيا. ويوصف من يدخله بأنه «الإِنْسَانُ الشَّارِبُ الإِثْمَ كَالْمَاءِ!» (أيوب 15: 16). «طَرِيقُ السَّلاَمِ لَمْ يَعْرِفُوهُ وَلَيْسَ فِي مَسَالِكِهِمْ عَدْلٌ. جَعَلُوا لأَنْفُسِهِمْ سُبُلاً مُعَوَّجَةً. كُلُّ مَنْ يَسِيرُ فِيهَا لاَ يَعْرِفُ سَلاَماً» (إشعياء 59: 8).

ويؤدي هذا الباب الواسع إلى طريق رحب، سهل المسالك، بلا قيود أو حدود، يفعل فيه الإنسان كل ما يحلو له، فيقول لله: «ابْعُدْ عَنَّا. وَبِمَعْرِفَةِ طُرُقِكَ لاَ نُسَرُّ.. مَنْ هُوَ الْقَدِيرُ حَتَّى نَعْبُدَهُ، وَمَاذَا نَنْتَفِعُ إِنِ الْتَمَسْنَاهُ!» (أيوب 21: 14، 15).

ولكن الباب الواسع والطريق الرحب ينتهي بنهاية مخيفة لأنه يؤدي إلى «الهلاك» وما أرهب المصير! والمؤسف أن أصحاب هذا الطريق الرحب لا يكتشفون سوء نهايتهم إلا بعد فوات الأوان «فإنه تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ الْمَوْتِ» (أمثال 14: 12). «الشَّرُّ يُمِيتُ الشِّرِّيرَ» (مزمور 34: 21). و«أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية 6: 23).

ومن المؤسف أن أغلبية البشر يرفضون أن يكونوا تحت نير المسيح وحمله، مع أنه «هَيِّنٌ وَخَفِيفٌ» ويختارون الباب الواسع والطريق الرحب، لأنه مطروق من الأغلبية دون وعي منهم، وكثيرون يدخلون منه مع أنه يؤدي بهم إلى الهلاك.

2- الباب الضيق والطريق الكرب: (آية 14).

هذا الباب ضيق لا يسمح لمن يدخله بالمرور منه وهو يحمل معه شيئاً يعطله عن المرور فيه، طاعة للوصية: « لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ، لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ الآبِ بَلْ مِنَ الْعَالَمِ. وَالْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا الَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ اللهِ فَيَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ» (1يوحنا 2: 15-17).

إنه باب كثقب الإبرة! (متى 19: 24). تحدُّه حدود واضحة هي الإعلان الإلهي الموحى به، ويحكمه قانون: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ، وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ، وَيَتْبَعْنِي، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَلِّصَ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُهْلِكُ نَفْسَهُ مِنْ أَجْلِي يَجِدُهَا. لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي الإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (متى 16: 24-26). ويجب أن الداخل من هذا الباب يقول: «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي.. الَّذِينَ هُمْ لِلْمَسِيحِ قَدْ صَلَبُوا الْجَسَدَ مَعَ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ» (غلاطية 2: 20، 5: 24). وقليلون هم الذين يجدون هذا الباب لأن قليلين يهتمون بحياتهم الأبدية.

ويقود الباب الضيق إلى طريق كرب، فإن «جَمِيع الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعِيشُوا بِالتَّقْوَى فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ يُضْطَهَدُونَ» (2تيموثاوس 3: 12). وقد قال المسيح لقائد كنيسة سميرنا: «لاَ تَخَفِ الْبَتَّةَ مِمَّا أَنْتَ عَتِيدٌ أَنْ تَتَأَلَّمَ بِهِ. هُوَذَا إِبْلِيسُ مُزْمِعٌ أَنْ يُلْقِيَ بَعْضاً مِنْكُمْ فِي السِّجْنِ لِكَيْ تُجَرَّبُوا، وَيَكُونَ لَكُمْ ضِيقٌ عَشَرَةَ أَيَّامٍ. كُنْ أَمِيناً إِلَى الْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» (رؤيا 2: 10)

هذا الباب الضيق والطريق الكرب يؤدي إلى الحياة في حضرة المسيح، الذي قال: «أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يوحنا 10: 9).

ما أصدق القول: «طَرِيقُ الصِّدِّيقِ اسْتِقَامَةٌ. تُمَهِّدُ أَيُّهَا الْمُسْتَقِيمُ سَبِيلَ الصِّدِّيقِ. فَفِي طَرِيقِ أَحْكَامِكَ يَا رَبُّ انْتَظَرْنَاكَ. إِلَى اسْمِكَ وَإِلَى ذِكْرِكَ شَهْوَةُ النَّفْسِ. بِنَفْسِي اشْتَهَيْتُكَ فِي اللَّيْلِ. أَيْضاً بِرُوحِي فِي دَاخِلِي إِلَيْكَ أَبْتَكِرُ» (إشعياء 26: 7-9).

آية للحفظ

«اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ» (متى 7: 13)

صلاة

أشكرك يا رب لأنك تحب البشر وتحترم حرية إرادتهم، فتنصحهم أن يختاروا الحياة لكي يحيوا، وتدعوهم ليدخلوا من الباب الضيق الذي يؤدي بهم إلى محضرك السماوي

سؤال

23- ما المقصود أن الباب المؤدي إلى الحياة ضيق وأن الطريق إليها كَرْب؟


الفصل السابع عشر

الارتقاء في الاحتراس

(متى 7: 15-23)

 

«15 اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَابِ الْحُمْلاَنِ، وَلَكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِلٍ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ! 16 مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.

«هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَباً أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِيناً؟ 17 هَكَذَا كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَاراً جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَاراً رَدِيَّةً 18 لاَ تَقْدِرُ شَجَرَةٌ جَيِّدَةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً رَدِيَّةً وَلاَ شَجَرَةٌ رَدِيَّةٌ أَنْ تَصْنَعَ أَثْمَاراً جَيِّدَةً. 19 كُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ. 20 فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ.

«21 لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 22 كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ 23 فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!» (متى 7: 15-23).

 

بعد أن قدَّم المسيح شريعته الجديدة، شريعة الارتقاء الروحي، حذَّر سامعيه من معلِّمين مضللين، دعاهم «الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ». وقال الرسول بولس إنهم « رُسُلٌ كَذَبَةٌ، فَعَلَةٌ مَاكِرُونَ، مُغَيِّرُونَ شَكْلَهُمْ إِلَى شِبْهِ رُسُلِ الْمَسِيحِ» (2كورنثوس 11: 13). وقال الرسول بطرس «كَانَ أَيْضاً فِي الشَّعْبِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ، كَمَا سَيَكُونُ فِيكُمْ أَيْضاً مُعَلِّمُونَ كَذَبَةٌ، الَّذِينَ يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ» (2بطرس 2: 1)

ووصف المسيح الأنبياء الكذبة بثلاث صفات:

1- هم ذئاب خاطفة: (آية 15).

هم مخادعون، يرتدون سترة خارجية تجعلهم يظهرون كحملان، لكنهم في حقيقة الأمر «ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ». وقد حذَّرنا الوحي في العهد القديم من هؤلاء الكذبة بقوله: «بِالْكَذِبِ يَتَنَبَّأُ الأَنْبِيَاءُ بِاسْمِي. لَمْ أُرْسِلْهُمْ وَلاَ أَمَرْتُهُمْ وَلاَ كَلَّمْتُهُمْ. بِرُؤْيَا كَاذِبَةٍ وَعِرَافَةٍ وَبَاطِلٍ وَمَكْرِ قُلُوبِهِمْ هُمْ يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ.. رُؤَسَاؤُهَا فِي وَسَطِهَا كَذِئَابٍ خَاطِفَةٍ خَطْفاً لِسَفْكِ الدَّمِ، لإِهْلاَكِ النُّفُوسِ لاِكْتِسَابِ كَسْبٍ» (إرميا 14: 14 وحزقيال 22: 27). وقال المسيح إنه في آخر الأيام «يَقُومُ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ» (متى 24: 11).

وعندما أرسل المسيح رسله في رحلة تبشيرية قال لهم: «هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسَطِ ذِئَابٍ فَكُونُوا حُكَمَاءَ كَالْحَيَّاتِ وَبُسَطَاءَ كَالْحَمَامِ» (متى 10: 16). وقال الرسول بولس لقسوس كنيسة أفسس: « اِحْتَرِزُوا إِذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا أَسَاقِفَةً لِتَرْعُوا كَنِيسَةَ اللهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ، لأَنِّي أَعْلَمُ هَذَا: أَنَّهُ بَعْدَ ذِهَابِي سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ. وَمِنْكُمْ أَنْتُمْ سَيَقُومُ رِجَالٌ يَتَكَلَّمُونَ بِأُمُورٍ مُلْتَوِيَةٍ لِيَجْتَذِبُوا التَّلاَمِيذَ وَرَاءهُمْ. لِذَلِكَ اسْهَرُوا» (أعمال 20: 28-31).

ولكن «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» فإن تصرفات أولئك الأنبياء الكذبة ستكشفهم، وسلوكهم سيفضحهم.

2- هم أشجار ردية: (آيات 16-20).

وطلب المسيح أن نحترس ونحن نرى أولئك الأنبياء الكذبة كأشجار يثمرون شوكاً وحسكاً يُدمي رؤوس سامعيهم، كما يدمي أقدامهم، فإنهم يجرّون سامعيهم إلى تعاليم باطلة تدمر الفكر السليم، ويُغرونهم بتصرفات باطلة تجرح أيديهم التي تعمل خيراً وأرجلهم التي تسلك في النور.

ومع أنهم أشواك تجرح، إلا أنهم يقولون لسامعيهم إنهم يقدمون لهم العنب والتين! والحقيقة هي أن هناك نوعاً من الشوك ينبت ثماراً سوداء صغيرة يظنها الناظر عنباً، لكن طعمها يكشفها! وهناك نوع من الحسك يزهر ما يشبه ثمرة التين، لكن من يقترب منه ويدقق النظر يكتشف حقيقته. ولو كان هؤلاء الأنبياء الكذبة أشجاراً صالحة لأثمروا ثمراً صالحاً، لكنهم أشجار ردية، لا بد أن الله سيقطعها ويلقيها في نار جهنم.

«فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» فإن أخلاقهم وسلوكهم يكشفانهم، ودوافعهم الشريرة تفضحهم، ونوعية وعظهم تظهرهم، وتأثيرهم في أتباعهم يوضح ثمارهم المدمِّرة. وكل من يتمسك بكلمة الله النقية يقدر أن يفرِّق بين النبي الزائف والنبي الحقيقي، ويميِّز بين الصواب والخطأ.

3- هم أصحاب ديانة كلام: (آيات 21-23).

يقولون «يَا رَبُّ، يَا رَبُّ» لكنهم لا يفعلون «إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ». «فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ».

وفي اليوم الأخير ستظهر أعمال كل واحد، و«كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا سَيُعْطِي عَنْ نَفْسِهِ حِسَاباً لِلَّهِ» (رومية 14: 12). وعندما يسأل الأنبياء الكذبة عن سبب رفضهم رغم أنهم أجروا المعجزات باسم المسيح، يجيبهم: «إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!» لأن أقوالهم كانت خالية من الحق، واعترافاتهم كانت فارغة من الجوهر، ودوافعهم كانت الرغبة في تعظيم أنفسهم وليست المحبة لله وللبشر.

لقد كان بلعام نبياً (سفر العدد 22-24) لكنه كان يحب أجرة الإثم (2بطرس 2: 15)، وتنبأ قيافا (يوحنا 11: 51)، ولكن الله لم يكن قد أرسله. وأجرى الخائن يهوذا معجزات إخراج شياطين، بعد أن كلَّفه المسيح بذلك مع سائر التلاميذ الاثني عشر (مرقس 3: 14، 15)، لكن الشيطان سكن قلبه فهلك بأن خنق نفسه (متى 27: 5).

وقد حذَّرنا المسيح منهم بقوله: «لأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضاً» (متى 24: 24).

فلنحترس من المعلمين الكذبة، ولنحترس لئلا نكون نحن معلمين كذبة!

آية للحفظ

«فَإِذاً مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (متى 7: 20)

صلاة

يا رب، أشكرك لأنك تعلمني أن من الثمرة تُعرف الشجرة. اجعلني شجرة جيدة تثمر ثمراً جيداً لمجدك، ولخير المحيطين بي

سؤال

24- كيف نقدر أن نعرف النبي الكاذب؟


الفصل الثامن عشر

الامتحان الأخير

(متى 7: 24-27)

 

«24 فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ، 25 فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَوَقَعَتْ عَلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّساً عَلَى الصَّخْرِ.

26 وَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا يُشَبَّهُ بِرَجُلٍ جَاهِل،ٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الرَّمْلِ. 27 فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ، وَصَدَمَتْ ذَلِكَ الْبَيْتَ فَسَقَطَ، وَكَانَ سُقُوطُهُ عَظِيماً!» (متى 7: 24-27).

 

ختم المسيح الموعظة على الجبل بالتنبير على ضرورة سماع أقواله وطاعتها، فلم يكن يعظ ليثير إعجاب السامعين، لكنه وعظ لتكون تعاليمه واقع حياةٍ مُعاشة، فقال إن الحكيم هو من يسمع التعليم وينفِّذه فيرتقي روحياً. وحذَّر الجاهل الذي يسمع تعاليمه ويتجاهل تطبيقها، لأنه بذلك يحرم نفسه من البركة، بل إنه يصبح تحت دينونة، لأنه نال امتياز السماع، ورفض مسؤولية التطبيق.

وفي هذه الخاتمة تحدث المسيح عن شخصين متشابهين في الكثير، ولكنهما مختلفان في شيء واحد: هو الأساس، المقصود به: الطاعة.

شعر هذان الشخصان بضرورة الاستماع لكلام المسيح، فتواجدا بين السامعين. وبناءً على ما سمعاه قرر كلٌّ منهما أن يقيم مبنى لحياته الإيمانية الراقية، ونفَّذ كلاهما ما قرراه، وأكملا العمل الذي بدآ به. بل إن أحدهما أسرع في الانتهاء من البناء، لأنه لم يقضِ وقتاً في إرساء أساس للبيت. أما الآخر فكان سامعاً عاملاً بالكلمة، انتبه للتعليمات بدقَّة، وحفر وعمَّق حتى وصل إلى صخرٍ جعله أساساً أقام عليه البناء. وصحيحٌ أنه استغرق وقتاً أطول، ولكنه أنجز الأفضل.

وفي النهاية أُقيم بيتان متشابهان لا تفرِّق عين الناظر بينهما في المظهر، لكنهما مختلفان تماماً في الأساس.

وسرعان ما جاءت على كليهما ساعة الامتحان «فَنَزَلَ الْمَطَرُ، وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ، وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ». ولا بد أن تجيء ساعةٌ يمتحن فيها الله عمل كل إنسان (1كورنثوس 3: 13).

وفي مثل الزارع قال لنا المسيح إن الامتحانات والصعوبات واجهت البذور التي سقطت على القلب الحجري، و«هُوَ الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَحَالاً يَقْبَلُهَا بِفَرَحٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي ذَاتِهِ، بَلْ هُوَ إِلَى حِينٍ. فَإِذَا حَدَثَ ضِيقٌ أَوِ اضْطِهَادٌ مِنْ أَجْلِ الْكَلِمَةِ فَحَالاً يَعْثُرُ» (متى 13: 20، 21). بينما لم توقف الامتحانات والصعوبات نمو البذور التي سقطت على الأرض الجيدة فأثمرت، لأن صاحبها هو «الَّذِي يَسْمَعُ الْكَلِمَةَ وَيَفْهَمُ. وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِثَمَرٍ، فَيَصْنَعُ بَعْضٌ مِئَةً، وَآخَرُ سِتِّينَ، وَآخَرُ ثَلاَثِينَ» (متى 13: 23).

ويرمز المطر إلى التجارب والامتحانات التي يسمح الله بها، مثل المرض والخسارة المادية.. وترمز الأنهار إلى ما يصيب الإنسان بفعل الناس من مؤامرات واضطهادات ومقاومات.. وترمز الرياح إلى مهاجمات الشيطان الروحية.

وقال أحد المفسرين إن المطر يضرب سقف البيت، وتضرب الأنهار أساسه، وتضرب الرياح جدرانه. والخلاصة أن الامتحان يجيء على كل واحد من كل حدب وصوب!

وأظهرت العاصفة التي اجتاحت الجميع أن هناك شخصاً حكيماً بنى بيته على الصخر، لأن الامتحانات عندما وقعت على بيته ثبت ولم يسقط. كما ظهر أن هناك شخصاً جاهلاً بني بيته على الرمل، لأن الامتحانات عندما صدمت بيته سقط وكان سقوطه عظيماً.

كان يظهر للمشاهد أن البيتين متشابهان، لأن الأساس الذي بنى عليه الحكيم غير منظور، لكن الأزمة امتحنت وكشفت معدن كلٍّ منهما، وأظهرت الفرق بين من «سمع وعمل» و«من سمع ولم يعمل».

ونحن اليوم سمعنا كلام المسيح وعرفنا شريعته الجديدة، وسيسمع بعضنا ويعمل، بينما البعض الآخر سيسمع ولا يعمل. والسؤال الذي يواجهنا ويتحدّانا بقوة هو: أي الشخصين نحن؟ وأي البيتين بيتنا؟

كل السامعين يبنون، ولهم حرية اختيار نوعية الأساس الذي يقيمون بناءهم عليه. ولكنهم يجب أن ينتبهوا أن ساعة الامتحان قادمة لا مهرب منها، فإن الله يرسل العواصف لتُظهر حقيقة إيمان الإنسان، ولن يثبت بناءُ أحدٍ إلا إن كان يعمل بما يسمع، إذ «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متى 7: 21).

فلنستمع لقول المسيح: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً. اَلَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي» (يوحنا 14: 23، 24). و لنصغِ للوصية الرسولية «كُونُوا عَامِلِينَ بِالْكَلِمَةِ، لاَ سَامِعِينَ فَقَطْ خَادِعِينَ نُفُوسَكُمْ» (يعقوب 1: 22).

آية للحفظ

«فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا أُشَبِّهُهُ بِرَجُلٍ عَاقِلٍ بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ» (متى 7: 24)

صلاة

أشكرك يا رب لأنك أسمعتني صوتك، وأنا أحب أن أطيعك من كل قلبي، فثبِّت بنائي الروحي بنعمتك على أساس الطاعة لك

سؤال

25- إلى ماذا يرمز المطر والأنهار والرياح؟


خاتمة

 

«28 فَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هَذِهِ الأَقْوَالَ بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، 29 لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ» (متى 7: 28، 29).

 

بعد أن انتهى المسيح من إلقاء عظته انبهر السامعون لاختلاف أسلوب وعظه عن وعظ «الكتبة» الذين كانوا يعتمدون في وعظهم على الاقتباس من أقوال الأقدمين، فقد كان وعظ المسيح بسلطان نفسه، ولا عجب، فهو «الكلمة» وهو المتكلم، وهو الرسالة والرسول معاً. كان الأنبياء يستمدون سلطانهم من قولهم «هكذا قال الرب» أما هو فقال:

«فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُم» (5: 18)

«فَإِنِّي أَقُولُ لَكُم» (5: 20)

«وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ» (5: 22، 28، 32، 34، 39، 44)

«الْحَقَّ أَقُولُ لَكُم» (6: 2، 5، 16)

«لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ» (6: 25)

«وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ» (6: 29)

«فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هَذِهِ» (7: 24، 26)

وقال للمعلم اليهودي نيقوديموس، عضو مجلس السنهدريم: «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا» (يوحنا 3: 11).

وانبهر السامعون من سمو الارتقاء الروحي الذي أراد المسيح أن يرفعهم إليه، وهو يسنّ مبادئ الملكوت السماوي، ويعلِّم روح الشريعة لا حرفها « لأَنَّ الْحَرْفَ يَقْتُلُ، وَلَكِنَّ الرُّوحَ يُحْيِي» (2كورنثوس 3: 6). وينادي بالمحبة التي «لاَ تَصْنَعُ شَرّاً لِلْقَرِيبِ، فَالْمَحَبَّةُ هِيَ تَكْمِيلُ النَّامُوسِ» (رومية 13: 10). ويوضح في بساطة ويُسر طريق السعادة الحقيقية، موضحاً قول المرنم: «كَثِيرُونَ يَقُولُونَ: مَنْ يُرِينَا خَيْراً؟ ارْفَعْ عَلَيْنَا نُورَ وَجْهِكَ يَا رَبُّ» (مزمور 4: 6).

وانبهر السامعون لأن حياة المسيح كانت تجسيداً لتعاليمه، فالذي علَّم عن المحبة «كَانَ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا» (متى 9: 35، 36).

ولا زلنا اليوم ننبهر من تعاليم المسيح التي تسمو بالناس في كل زمان ومكان، وهي مناسبة للجميع في كل مكان. ولو أن البشر عاشوها ما قامت حرب، وما هاجمت طائفةٌ طائفةً أخرى، وما انقسم بيت، وما حدث نزاع.. وفوق هذا لو أن إنساناً عاشها بعد أن اختبر الحياة الجديدة في المسيح (كما ذكرنا في مقدمة هذه الدراسة) يكون له ملكوت السماوات، ويصبح ملحاً للأرض ونوراً للعالم.

وهذه صلاة الكاتب لأجل نفسه ولأجل كل قارئ.


مسابقة الكتاب

1- ما معنى «مسكين بالروح»؟

2- ما هي تعزية الحزين على خطاياه؟

3- ما هي معاني الوداعة؟

4- اذكر ثلاثة معانٍ لكلمة «بر».

5- في كلمات قليلة اروِ مثَل «السامري الصالح».

6- ما هي مكافأة نقي القلب؟

7- ما معنى أن صانع السلام هو ابنٌ لله؟

8- لماذا يضطهد عالمُنا الأبرار؟

9- اذكر صفتين للمؤمن مستمدتين من صفات الملح.

10- ما معنى وضع السراج تحت مكيال، أو تحت سرير؟

11- ما هي الوصية التي اعتبرها الكتبة والفريسيون أصغر الوصايا؟

12- ما هو واجب المؤمن نحو خصمه؟

13- لماذا أذن موسى لليهود أن يطلقوا نساءهم؟

14- لماذا نهى المسيح عن القسَم؟

15- كيف تعاون سكيراً أراد أن يقترض منك؟

16- اذكر ثلاثة دوافع للارتقاء الروحي.

17- ما هو العيب في أن المرائين المنافقين يبوِّقون وهم يقدمون صدقاتهم؟

18- ما هو التعليق الوحيد الذي علَّق به المسيح على الصلاة الربانية؟

19- ما معنى «سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ»؟

20- اشرح معنى «المال عبد صالح، لكنه سيد قاسٍ».

21- لماذا يجب أن نمتنع عن النقد الهدام؟

22- كيف أكَّد المسيح لنا استجابة الله لصلواتنا؟

23- ما المقصود أن الباب المؤدي إلى الحياة ضيق وأن الطريق إليها كَرْب؟

24- كيف نقدر أن نعرف النبي الكاذب؟

25- إلى ماذا يرمز المطر والأنهار والرياح؟

 الصفحة الرئيسية