المذاهب المختلفة في غاية الكفارة وحقيقتها

ما هو المذهب الصحيح في غاية الكفارة وحقيقتها ؟

ما هو المذهب الأدبي في الكفارة ؟

ما هي الاعتراضات علي المذهب الأدبي في الكفارة ؟

من أدخل المذهب السياسي في الكفارة إلي الكنيسة ؟ وما هي أصوله ؟

ما هي الاعتراضات علي المذهب السياسي في الكفارة ؟

لأجل من مات المسيح كفارة ؟

ما هي أخص نتائج الكفارة باعتبار نسبتها إلي الله وإلي البشر ؟

 

ما هو المذهب الصحيح في غاية الكفارة وحقيقتها ؟

إن المذهب الصحيح فيها هو ما بيناه في الفصل السابق وهو يحيط بغايتين عظيمتين وهما إزالة اللعنة التي استولت علي البشر بسبب الخطية لينالوا المصالحة مع الله بالكفارة وأيضاً جعلهم شركاء الحياة الروحية بالروح القدس المحيي. وكلتاهما ضروريتان للخلاص لأن علينا ذنباً ينبغي أن يزال ولنا أنفس ميتة بالخطية ينبغي أن تحيا حياة جديدة روحية. وقد قام عمل الفداء حسب تعليم الكتاب وإيمان الكنيسة بهاتين الغايتين.

وسبق القول الصحيح بغاية الكفارة في ما مر من هذا الكتاب فعمل المسيح بمقتضى هذا التعليم إيفاء حقيقي غير محدود الاستحقاق في ذاته للعدل الإلهي كاف واف لخلاص شعبه لأنه عمل لأجلهم وعوضاً عنهم ما لم يستطيعوا عمله لأجل أنفسهم إذ أوفي عنهم ما يطلبه الناموس وحمل عنهم العقاب الذي أوجبه عليهم. وعلي هذا الوجه يتصالحون مع الله ويقبلون الروح القدس ويصيرون شركاء في حياة المسيح فينالون التجديد والتبرير والتقديس في الزمان الحاضر ثم الخلاص الأبدي.

وينظر في هذا التعليم إلي الغايتين المذكورتين آنفاً لأنه يظهر منه أن لعنة الناموس ترفع عنا بصيرورة المسيح لعنة لأجلنا وأننا بناء علي هذه المصالحة لله نصير بواسطة الروح شركاء حياة المسيح. فإنه صار لنا براً وقداسة أيضاً فنتطهر بدمه من الذنب ونتجدد بروحه حسب صورة الله وإذا متنا للخطية نحيا فيه للبر لأن الشركة في موته تنتج الشركة في حياته.

ونذكر الآن بالاختصار أخص المذاهب الفاسدة في حقيقة الكفارة وهما ما يسمي بالمذهب الأدبي والمذهب السياسي تمييزاً لهما عن المذهب الإيفائي الذي سبق الكلام عليه.

ما هو المذهب الأدبي في الكفارة ؟

هذا المذهب ينفي كل معني التكفير أي إيفاء العدل بالقصاص البدلي وينسب كل فاعلية عمل المسيح إلي ما يحدث من التأثير الأدبي في قلوب الناس بواسطة صفاته وتعاليمه وأعماله. ولذلك سمي غالباً مذهب الكفارة الأدبي. وهو مبني علي زعمهم أنه ليس في الله صفة العدل العقابي أي الصفة التي تقتضي ضرورة أو أدبياً عقاب الخطية. وذلك لا حاجة إلي التكفير لأجل نوال الغفران بل كل ما يلزم لإعادة الخطاة إلي رضى الله إنما هو انقطاعهم عن الخطية.

ولهذا المذهب عدة وجوه :

1 إن عمل المسيح في خلاص البشر محصور في تعليمه. أي أنه أتي بصورة جديدة رفيعة من الديانة خلص بها الناس من ظلام الديانة الوثنية ومما أفضت بهم إليه من الفساد.

2 إنه من الأفضل عن الخير الناشئ عن تعليم المسيح معظم الخلاص الذي عمله يعود إلي موته لأنه لما كان الكتاب المقدس يعلم دائماً أننا نخلص بدم المسيح وصليبه وآلامه لم يصح أن يصرف النظر عن ذلك. ولذلك قالوا أن المسيح يخلصنا ليس لكونه ذبيحة بل لكونه شهيداً. وزعموا أن القصد بموته ختم تعاليمه بدمه فاستحق التسمية بمخلص العالم لأنه أثبت صدق الحقائق التي علمها ولا سيما ما يتعلق منها بالحياة الآتية ومحبة الله وإرادته أن يغفر الخطية.

3 إن قوة المسيح في خلاص الناس تتعلق بما أظهره من المحبة وإنكار الذات لا بتعليمه ولا بختم تعاليمه بموته. قال أصحاب هذا الوجه هذا هو أعظم الأسباب العاملة في قلوب الناس وهو أقوى تأثير يلين قساوة القلب ويجذب الناس إلي الله أي لو لم يتم خلاص الأشرار وجذبهم بالمحبة التي لا تقتصر علي كلام اللطف وأعمال المعروف وعبارات الرثي للغير بل تمتد إلي كمال إنكار الذات واحتمال جميع أسواء هذه الحياة وآلام الموت لكانوا بدون رجاء لا محالة لأنه ليس لهم وسيلة أخرى تؤثر فيهم. ولما كانت محبة المسيح محبة لم يسبقها ولن يعقبها أبداً نظير كانت تسميته بالمخلص في غاية المناسبة.

ما هي الاعتراضات علي المذهب الأدبي في الكفارة ؟

1 أنه بصرف النظر بالكلية عما هو جوهري في تعليم الكتاب المقدس في الكفارة وإن كان فيه بعض أصول الحق. فإنه يسلم بأن غاية عمل المسيح هي ترجيع الإنسان إلي الله والقداسة وأنه قد أظهر في هذا العمل العظيم ما يمكن من المحبة الإلهية وأن إظهارها هو أعظم العوامل الروحية الفاعلة في قلوب الناس. غير أن الكتاب لا يقتصر علي ذلك بل يعلم أن المسيح كاهن قدم نفسه ذبيحة لأجل التكفير عن خطايانا فحمل خطايانا في جسده علي الخشبة وصار لعنة لأجلنا وبذل نفسه فدية لأجل خلاصنا. ويعلم أيضاً أن هذا التكفير عن الذنب ضروري مطلقاً قبل المصالحة مع الله وتجديد النفس وتبريرها وتقديسها بالنعمة الإلهية لأن الخطاة بدونه أموات في الروح واقعون تحت عقاب الناموس وما داموا في هذا الموت تحت اللعنة كل العوامل الأدبية لا تفيدهم شيئاً كما أن ضوء الشمس في رابعة النهار لا يفيد الأعمى بصراً ووسائط الصحة لا تقيم أحداً من الموت. فرفض هذا المذهب لتعليم الكفارة أي الإيفاء للعدل هو بمثابة رفض جوهر تعليم الكتاب في خلاص الإنسان.

2 إنه لا يطابق ما نحتاج إليه في حال السقوط. فإننا خطاة ومذنبون ومدنسون ولا سبيل إلي إنكار شعورنا بالمسئولية للعدل وضرورة الإيفاء لما يطلبه كما يستحيل إنكار شعورنا بفساد الخطية. فالتكفير عن الخطية ضروري كما أن تقديس النفس ضروري أيضاً لأن الإنسان في غاية الحاجة إلي بر أفضل من بر نفسه وإلي من يقوم مقامه أمام الله في التكفير عن الخطية وتحصيل الغفران الكامل لجميع ذنوبه وعطية الروح القدس. ولذلك كانت الديانة التي تنفي معني التكفير أولاً تعد سبيلاً إلي إزالة الذنب علي ما يرضي العقل والضمير ليست وفق ما نحتاج إليه وكان المذهب الأدبي في الكفارة باطلاً لأنه خال من كل عمل كفاري يسند إليه الخاطئ رجاءه.

3 إن كل الأدلة السابقة علي صدق تعليم الكفارة هي أدلة أيضاً علي فساد المذهب الذي يرفضه. وفضلاً عن ذلك هذا المذهب يغير كل طريق الخلاص لأنه يغير نسبتنا إلي المسيح من حيث كونه رأسنا ونائبنا ويبدل وجه قبولنا لدي الله فتنتقل حقيقة الديانة المسيحية انتقالاً جوهرياً من حال إلي أخري إذا اعتقدنا المسيح مصلحاً أو مثالاً أو معلماً أو شهيداً لا غير.

من أدخل المذهب السياسي في الكفارة إلي الكنيسة ؟ وما هي أصوله ؟

 أدخله إلي الكنيسة كروشيوس في القرن السابع عشر وأصوله ما يأتي :

1 إن الله في مغفرته الخطية لم يأخذ نحو الخطاة مقام المخطأ إليه بل الحاكم الأدبي ولابد أن يكون عمله حسب ما يقتضيه أفضل منافع الرعية فعدله قائم في طلب خير الرعية لا في طلب عقاب الخطية.

2 غاية القصاص إنما هي ردع الناس عن الجرائم أي حفظ النظام الأدبي وتقديم أفضل مصالح الجمهور.

3 كما أن الحاكم العادل لابد أن يعاقب علي الذنوب المرتكبة هكذا الله لا يغفر خطايا الناس إلا مع إظهار كاف لغضبه وعزمه علي عقابها. وهذا هو المراد بآلام المسيح وموته فإن الله عاقب الخطية فيه مثالاُ. وكان هذا المثال عظيم التأثير لسبب مقام شخصه فإنه بناء علي موته أمكن الله أن يصفح للمذنبين التائبين عن العقاب الذي أوجبه الناموس عليهم مع الموافقة التامة لما تقتضيه أفضل مصالح حكمه.

4 إن العقاب ألم يجري بسبب الخطية. وقال إنه لا يلزم إجراؤه بسبب استحقاق المذنب الشخصي ولا بقصد إيفاء العدل علي المعني المألوف بل يكفي أن يكون بسبب الخطية. ولما كانت آلام المسيح ناشئة عن خطايانا وقصد بها جعل الصفح موافقاً لمصلحة حكم الله الأدبي كانت داخلة في معني العقاب حسب هذا التعريف. ولذلك أمكنه أن يقول أن المسيح احتمل قصاص خطايانا لأن آلامه كانت مثالاً لما تستحقه الخطية.

5 إن جوهر الكفارة هو إظهار غضب الله علي الخطية بواسطة آلام المسيح وموته. أي قصد بها تعليمنا أن الخطية عند الله تستحق العقاب ولذلك لا ينجو المصرون علي خطاياهم من القصاص الذي يستحقونه. فحسب هذا المذهب عمل المسيح تعليمي فقط أي قصد به تعليمنا بالمثال أن الله يكره الخطية وما الصليب إلا إشارة إلي ذلك.

 

ما هي الاعتراضات علي المذهب السياسي في الكفارة ؟

1 إنه مبني علي سوء فهم حقيقة القصاص. لأن القائلين به زعموا أن القصد الخاص بالقصاص هو خير الهيئة الاجتماعية فإذا أمكن الحصول علي أفضل منافع الجمهور بدونه لم يسغ إجراؤه. والحال إن الألم لأجل خير الآخرين ليس قصاصاً كما أن الألم لأجل خير المتألم ليس قصاصاً. فإن بتر العضو المهشم ليس من باب القصاص وكذلك آلام الشهداء ولو قصد بها خير الكنيسة والعالم. فلم تكن آلام بولس الكثيرة الدائمة من هذا القبيل وإن كانت عظيمة الفائدة. وهكذا آلام المسيح إذا لم تكن علي سبيل الحكم القضائي حسب مقتضى العدل لم يكن فيها ما يظهر كره الله للخطية أكثر مما كان في آلام الشهداء.

والحكم علي المجرم لا يكون من باب القصاص إلا إذا أجرى لأجل إيفاء العدل وتتميم ما يفرضه الشرع. قيل أن قاضياً قال مرة لمذنب قد حكم عليك بالنفي لا لأنك سرقت المال بل لأجل ردع الناس عن السرقة ولا يخفي ما في هذا المبدأ من فاحش الفساد والضرر لآداب الجمهور. لأن كل التأثير الأدبي الناشئ عن القصاص يعود إلي كونه عادلاً ومن تألم لأجل خير الآخرين فهو شهيد لا أثيم تحت حكم العدل. وقد بني كل المذهب السياسي في الكفارة علي هذا المبدأ الفاسد لأنه لا يسوغ وجهاً للقصاص الأخير الآخرين بإثبات حكمه الأدبي فإذا أمكن الحصول علي هذا الخير علي غير سبيل القصاص لم يبق داع إليه ولا مانع عن الصفح. ومن الواضح أنه إذا كان المبدأ الأساسي في المذهب فاسداً كان المذهب نفسه بالضرورة فاسداً.

2 إن هذا المذهب مضاد لأحكام الناس الأدبية البديهية. لأن ضمير كل إنسان يشهد عليه بأنه خاطئ ومستحق القصاص لا لأجل خير الآخرين بل جزاء لسوء عمله. فإذا لم يكن مذنباً لم يحق عليه القصاص عدلاً وإذا كان مذنباً لا يحق له الصفح بلا إيفاء للعدل. وكما أن هذه هي شهادة ضمير كل إنسان بالنظر إلي خطاياه هي شهادته أيضاً بالنظر إلي خطايا الغير. فإذا حدث ذنب عظيم حكم الناس في الحال بوجوب عقاب الذين ارتكبوه. نعم إن خير الجمهور يقتضي قصاص المذنب لكن ذلك من الفوائد العرضية لا الغاية الخاصة المقصودة بالقصاص الذي كل تأثيره الأدبي يعود إلي أنه يحكم به بناء علي سوء العمل لا علي خير العموم لأنه لو كان خير العموم هو المقصد الأصلي لخرج القصاص عن حقيقته وفقد بالضرورة التأثير الأدبي الخاص به. وعلي هذا يكون المذهب الذي يغفل عن هذه البديهيات العقلية غير موافق لحالنا ولا يستطيع أبداً أن يقنع ضمائرنا. فإن القصاص هو من ضروريات حكم الله العادل لأننا نعلم أننا نستحقه وإذا لم يحمله بدل عنا وجب أن نحمله نحن وإذا لم يكفر عن الخطية لابد من الدينونة المخيفة.

3 إن كل الأدلة التي سبقت علي وجود صفة العدل العقابي في الله وأنه غير جودته تعالي هي أدلة أيضاً قاطعة علي فساد المذهب السياسي في الكفارة. فإن القول بأن السعادة هي الخير الأعظم وأن الفضيلة إنما هي الرغبة في تسبيب كل ما يمكن من السعادة ضعفت منزلته في مدارس الفلسفة ووجب نفيه من مدارس اللاهوت لأن الفضيلة تقوم بطلب القداسة أبداً لا السعادة والقول بعدم فرق أصلي جوهري بين الحلال والحرام مخالف كل المخالفة لطبيعتنا الأدبية ولا يسلم أحد بأن الحلال إنما هو ما يوافق والحرام ما لا يوافق إلا تذرعاً إلي حل مشاكل عقلية بقطع النظر عما يقتضيه الضمير وقد سبق الكلام علي ذلك في ما تقدم من صفات الله فلا حاجة إلي إبطاله هنا مرة أخري.

4 هذا المذهب مخالف لأقوال الكتاب. لأنه ورد فيه مراراً أن المسيح كاهن وذبيحة وكفارة وبدل ونائب عن الخطاة أي أنه قام مقامهم في حمل لعنة الناموس أو عقابه عنهم. وأما القائلون بهذا المذهب فأنكروا تلك الأقوال أو فسروها تفسيراً فاسداً.

5 هذا المذهب كالمذهب الأدبي في الكفارة فاسد لأنه ناقص. ولا ريب أنه قصد بعمل المسيح الحث الأدبي للخطاة علي الرجوع إلي الله والتأثير الشديد في عقول جميع الخلائق الناطقة وأن يقنعهم بشر الخطية ويردهم عن ارتكابها غير أن القصد الأصلي منه هو غير ما ذكر فإن هذا التأثير الأدبي في الخاطئ وفي جميع الخلائق العاقلة ناشئ عن كون عمل المسيح إيفاء لعدل الله وكونه من أعظم الأدلة علي أن الخطية لا تغفر بلا كفارة كافية.

لأجل من مات المسيح كفارة ؟

 بحثنا في تلك المسألة في الكلام علي قضاء الله بالفداء والقول الأصح فيه ورأينا أن حقيقة المسألة هي هل مات المسيح كفارة لأجل العالم أجمع أو لأجل المختارين فقط. وأثبتنا بالبراهين الكافية أن كفارة المسيح عامة علي أن المختارين فقط ينالون الخلاص بها. ولكن هذه النتيجة ليست من حصر الكفارة بل من تخصيص فوائدها بالمؤمنين والقابلين لها (أنظر 1تي 2 : 6 و 4 : 10 وعب 2 : 9 ويو 1 : 29 و 3 : 17 و12 : 47 و 2كو 5 : 14 و 15 و 1يو 2 : 2) والقول بعموم كفارة المسيح موافق لكل ما يعلمنا الكتاب المقدس من صفات الله ولا سيما رحمته ونعمته وغاية موت المسيح وكذلك يؤثر في قلوب الناس تأثيراً حسناً حتي يجذبهم إلي الله ويجعلهم بلا عذر إذا رفضوا وسائط الخلاص لأنها معدة لأجلهم.

ما هي أخص نتائج الكفارة باعتبار نسبتها إلي الله وإلي البشر ؟

 للكفارة نتائج عظيمة في إظهار صفات اللاهوت ولا سيما كمال المحبة والقداسة والعدل في الثالوث الأقدس وفي إثبات حكم الله الأدبي وبيان أركانه وفي فتح باب المصالحة بين الله القدوس والإنسان الخاطئ وفي إنقاذ الإنسان من عبودية الخطية وإعداده للحياة الأبدية في حضرة خالقه ولذلك كان للكفارة أعظم أهمية وأرفع شأن في الديانة المسيحية وهي موضوع الشكر والحمد وأساس الرجاء والسلام والواسطة الوحيدة الفعالة للخلاص عند جميع المؤمنين الحقيقيين.


أول الصفحة

أرغب في توجيه سؤال لكم

صفحات أخرى ذات صلة بالموضوع

هل حقاً أتى الله تعالى في جسم بشر؟

ماذا عن يسوع؟

لزوم كفار المسيح

هل علم الكتاب المقدس عن التثليث؟

 

 

 الرجوع إلى قائمة " ركن الأسئلة المشهورة