حياة التلمذة البابا شنودة الثالث

شروط التلمذة             كلمة المنفعة             التلمذة على الحياة             دروس من الموت             التلمذة على الكتب              التلمذة على الطبيعة

تلمذة على عالم الحيوان              التعليم من الطقوس              التلمذة على الحادثات          التلمذة على أب الاعتراف  

مقدمة

هذا الكتاب هو جزء من مجموعة كتب نصدرها. بمشيئة الله للخدام ، ولاعداد الخدام أيضا ، كمنهج تتبعه الكنائس فى خدمة التربية الكنسية و الشبان  وهو ثمرة لمحاضرتين ألقيناهما فى مؤتمر الخدمة   ( سبتمبر 1972) . مع محاضرة ألقيت فى بنها سنة 1966 م . وما ان يصل هذا  الكتاب الى يديك ، حتى يكون هناك كتاب أخر من سلسلة الخدمة ، بدأت المطبعة فى جمعة ، هو [ الغيرة المقدسة] مع كتاب ثالث ارجو ان يصدر قريبا عن [ روحانية الخدمة] .     

                                                       أرجو لكم جميعا توفيقا فى خدمتكم،

 
البابا شنودة الثالث
حياة التلمذة
الحياة المسيحية هى حياة تلمذة . وكل الذين آمنوا بالمسيح ، دعوا تلاميذا له .

آما هو فدعى " المعلم " و " المعلم الصالح" . وعلى الرغم من تلمذة الجميع علية ، كان له تلاميذ خصوصيون ، دعوا " خاصته " ( يو 13 : 1 ) . هؤلاء أعدهم لخدمة الكلمة ( ا ع 6 : 4 ) . عن هؤلاء قيل انه : " دعا تلاميذه الاثنى عشر أعطاهم سلطانا على أرواح نجسة ليخرجون " ( مت 1. : 1 ) . قيل فى العظة على الجبل : " تقدم اليه تلاميذه ، ففتح فاه وخاطبهم ..." ( مت 5 : 1 ، 2 ) . ولما أراد أن يحتفل بالفصح ، أرسل اثنين من تلاميذه ، ليقولا ان المعلم : " يسال أين المنزل حيث أكل الفصح مع تلاميذي " ( مر13:14،14).

 كذلك اتباع يوحنا المعمدان دعوا تلاميذاً له :

      قيل انه حدثت مرة " مباحثة بين تلاميذ يوحنا واليهود من جهة التطهير "(يو25:3)  وفى احدى المرات جاء الى السيد المسيح تلاميذ يوحنا قائلين : " لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيراً ، واما تلاميذك فلا يصومون " (مت14:9).

     والفريسيون  كانوا يدعون بنفسهم تلاميذ موسى :

لذلك فى مناقشة اليهود مع المولود أعمى الذى وهبه الرب البصر ، قالوا له : " آنت تلميذ ذاك، آما نحن فتلاميذ موسى " ( يو28:9) .

      ونلاحظ أن الكرازة كانت تسمى تلمذة :

فلما أرسل الرب تلاميذه ليكرزوا بالإنجيل ، قال لهم : " إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ، وعمدهم ، وعلموهم جميع ما أوصيتكم به" (مت19:28). ولما ذهب بولس وبر نابا إلى دربة ، قيل إنهما : " بشرا فى تلك المدينة وتلمذا كثيرين " (أع21:14).

 

 شروط التلمذة

 فى موضوع التلمذة نحب أن نورد ملاحظتين :

1- إن التلمذة ليست على التعاليم فقط ، بل على الحياة .

2- لذلك فللتلمذة شروط لا بد من توافرها فى الحياة العملية.

     وهكذا يقول السيد الرب لتلاميذه : " إن ثبتم فى كلامى ، فبالحقيقة تكونون تلاميذي " (يو31:8).إذن فمجرد سماع الكلام من معلم ، لا يعنى التليمذة له. إنما الثبات فى تعليمه. ومعنى هذا تحويل الكلام الى حياة ، والى مبادئ راسخة تثبت فيمن يتعلم.

     ويعطينا السيد المسيح علامة ومثالا عمليا بقوله لتلاميذه :

     " بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي ، أن كان لكم حب بعضكم لبعض " (يو35:13).

هنا يقدم شرطاً بدونه لا يكونون تلاميذاً له ، مهما تعلموا منه نظرياً عن الحب .وان لم يجد الناس فيهم هذه المحبة المتبادلة ، لا يمكنكم ان يقولوا ان هؤلاء تلاميذ المسيح .. ‍‍! أنها علامة لازمة.

     كما كان المسيح يحب الكل ، هكذا ينبغى ان يكون تلاميذه. " كما سلك ذاك " ، يسلكون هم ايضا (1يو6:2).

     يذكرني هذا بقول الرب لليهود المفتخريين بأنهم أولاد إبراهيم : " لو كنتم أولاد إبراهيم ، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم (يو 39:8).

     آذن التلمذة الحقيقية هى تلمذه على حياة ، تظهر بأسلوب عملي فى حياة الإنسان ، يعلن بها تلمذته على معلم تميز بهذا النوع من الحياة ، وبهذا اللون من التعليم

     ولهذا يقدم السيد المسيح عينات من الناس لا يمكن ان تكون تلاميذا له ، منها :

يقول : " ان كان أحد يأتى الى ، ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته ، فلا يقدر ان يكون لى تلميذا " " ومن لا يحمل صليبه ويأتى ورائى، فلا يقدر ان يكون لى تلميذا"

" فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله ، لا يقدر ان يكون لى تلميذاً " (لو26:14،27،33).

     وهكذا وضع السيد المسيح قاعدة للتلاميذ عليه ، وهى التجرد ، ومحبة الله فوق محبة الأقرباء.

ومن هذا المنطق قال له تلميذه بطرس : " قد تركنا كل شئ وتبعناك " (مت27:19). فأجابه السيد بنفس تعليمه الروحي : ( كل من ترك بيوتاً ، أو أخوة أو أخوات ، أو أباً أو آم أو امرأة ، أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي ، يأخذ مائة ضعف و يرث الحياة الأبدية ) (مت 19 : 29)

     أذن هو مبدأ التلمذة عل الرب ، ان تترك كل شئ من اجله ، أو على الأقل تكون مستعدا قلبياً لترك كل شئ ولا تندم على ذلك.

     ولهذا أضاف الرب شرطاً أخر وهو : " ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر الى الوراء يصلح لملكوت الله " (لو62:9). فالتلمذة على الرب تحتاج الى ثبات فى الطريق وعدم رجوع الى الوراء. وتحتاج الى ان يحتمل الإنسان من اجل الرب ومن اجل خدمته ، ويتعب فى سبيل ذلك. ولذلك قال الرب :

     " من لا يحمل صليبه ويأتى ورائى ، فلا يقدر ان يكون لى تلميذا " (لو27:14).

هناك شروط أخرى للتلمذة منها الالتزام والتنفيذ.

     فالذي يريد ان يتتلمذ عليه ان يلتزم بما يسمعه وينفذه ، وهكذا يحول المعلومات الى حياة. لانه ما فائدة الكلام ان كنا نسمعه وننساه ، أو نحتفظ به فى أذهاننا فقط لمجرد المعرفة. ولذلك جميلة تلك العبار التى كان يقولها من يزور الآباء :

     [قل لى كلمة ، لكي أحيا بها ].

فالكلمة هي طعامه الروحي. يأخذها ويغذى بها روحه ، فيحيا بها ، وينتفع. ليس مجرد المنفعة الفكرية، إنما ينتفع بها فى حياته العملية ، فتصبح كلمة منفعة

 

كلمة المنفعة:

 الإنسان الروحي يتتلمذ على كلمة المنفعة ، يبحث عنها من كل مصادرها : من الكتاب المقدس أولا ، ومن أقوال الآباء ، ومن المعلمين الموثوق بهم ، ومن اى مصدر ، حتى لو كانت كلمة من فم خاطى ولكنها نافعة

        من ذلك قصة مارا فرام السرياني والمرأة الناظرة إلية :

هذه المرأة نظرت الى القديس مارا فرام ، واطالت التطلع اليه وتركيز نظرها عليه حتى خجل ، وسالها لماذا تثبت نظرها عليه هكذا ؟ فاجابته : [ هذا شئ طبيعى ان انظر الى رجل ، لان المرأة عندما خلقت اخذت من جسم رجل . أما أنت مكان ينبغى ان تنظر الى الأرض ، لانك اخذت من تراب الأرض] فانتفع القديس من كلمة المرأة ، وتدرب ان ينظر الى الأرض وهناك مثال آخر بنفس الطريقة هو

 انتفاع القديس انطونيوس من كلمة المراة التى خلعت ملابسها ، ونزلت أمامه لتستحم!

قال لها : [ ياامراة ، أما تستحين ان تخلعى ملابسك امامى ، وانا رجل راهب ؟!] فاجابته المرأة : [ لو كنت راهبا لسكنت فى البرية الجوانية ، لان هذا المكان لايصلح لسكنى الرهبان]. فانتفع القديس انطونيوس بكلمتها جدا وقال لنفسه : [ هذا صوت الله الى أرسله على فم هذه المرأة] . وقام ودخل الى البرية ..

       كان الناس فى القديم يعبرون البر والبحر فى سفر طويل ، لكى يسألوا احدالاباء عن كلمة منفعة .

 وبستان الرهبان حافل بقصص من هذا النوع . رحلات بلاديوس وجيروم وروفينوس كلها من هذا النوع . وقد خلفت لنا كتبهم تراثا ثمينا نفع العالم روحيا

      ولم يقتصر الامر على الصغار آو العوام ، بل حتى الكبار ايضا فى مراكزهم كانوا يلتمسون كلمة المنفعة .

مثل القديس البابا ثاؤفيلوس (البطرياك 23) الذى كم من مرة كان ياتى الى الأديرة ليأخذ كلمة منفعة من الرهبان القديسين . وقصصه معروفة فى زيارة الانبا ارسانيوس ، وفى زيارة الانبا بفنوتيوس . كذلك زيارة القديس البابا بنيامين ( البطريرك 38) للأديرة وأماكن المتوحدين . والمعروف ان القديس اثناسيوس الرسولى كان يتتلمذ على القديس انطونيوس الكبير .

      نسمع عن القديس مقاريوس الكبير انه طلب كلمة منفعة من الصبى زكريا!!

‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍فتعجب الصبى وقال له : [ أنت يا ابى كوكب البرية ومنارها ، تطلب منى كلمة أنا الصغيرة أن ؟‍‍‍‍‍‍‍‍!]فإجابة القديس مقاريوس فى اتضاع : [ أنا واثق يا ابنى بالروح القدس الذى فيك ، ان عندك شيئا ينقصنى ان اعرفه]. ونسمع عن القديس مقاريوس ايضا انه اخذ كلمة منفعة من صبى كان يرعى بقرا

      ان التلمذة لا يعوقها السن آو المركز ، وطوباه من يحيا تلميذا طول حياته ..

مشكلتا أننا نظن أننا نعرف ، أو أننا وصلنا الى الحد الذى لا نحتاج فيه ان نسال آو أن نتعلم بينما نجد جماعة مثل رسل السيد المسيح يسألونه مرة قائلين : " علمنا يأرب ان نصلى "  ( لو1:11). من من الناس لم يكن يعرف كيف يصلى ؟! الكل يعرفون .. أو يظنون انهم يعرفون ولكن الرسل سالوا عن امر يبدو واضحا ! وكانت النتيجة ان الرب علمهم الصلاة  الربية، وكانت منفعة

من هنا كان من صفات التلمذة :ألاتضاع .

يبدا بشعور الإنسان انه محتاج ان يتعلم ،وان يسال، وان يسترشد. وشعوره ان غيره يفهم اكثر ،وان الله قادر ان يعطى غيره ما يرشده به. انظروا فى أتضاع التلمذة ما قاله القديس بولس الرسول عن نفسه انه تربى وتأدب " عند رجلى غمالائيل " (اع3:22)،إذ ما كان التلمذة يستطيع ان يجلس مع معلمه فى مستوى واحد، وانما يجلس عند قدميه ومن شروط التلمذة ايضا ان ما تسمعه ، ينبغى ان تحفظه جيدا فى داخلك ، حتى لاتنساه. كما قال داود

النبي : "خبات كلامك فى قلبى ، لكى لا اخطئ اليك"(مز119).                      

آن نسيان الوصية يوقعك فى الخطية ، وينسيك ما تريد ان تتلمذ عليه من مبادى وقيم . لذلك قال الرب: "ولتكن هذه الكلمات التى أنا اوصيك بها اليوم على قلبك .وقصها على اولادك . وتكلم بها حين تجلس فى بيتك ، وحين تمشى فى الطريق ، وحين تنام وحين تقوم . ورأبطها علامة على يدك ، ولتكن عصائب بين عينيك . واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى ابوابك "( تث 6:6-9) كل ذلك لكى لاتنساها.

      وهكذا ايضا تفعل حتى لاتنسى تداريبك الروحية.

فانت تتلمذ ، بان تنال معرفة ، ثم تنتقل الى مرحلة التطبيق بالتداريب . وتداريبك تضعها امام عينيك باستمرار، فتكون فى ذاكرتك ، لكى تحذرك كلمات حوربت بكسرها

 

التلمذة علي الحياة

      أنت لا تتلمذ على كلام المعلمين فقط ، وإنما على حياتهم ، حتى دون ان يتكلموا. تمتص الحياة منهم ، بما فيهم من أمثولة طيبة وقدوة صالحة.

      فليست الأذون وحدها وسيلة التعليم ، وانما العين أيضا: يروى عن القديس الأنبا شيشوى ، انه من فرط تواضعه ما كان يعطى تعليما لمن يتتلمذ أليه . فلما عاتبه الآباء لانه لم يعط أية إرشادات لأخ جديد سلموه إليه ليعلمه قال لهم : [ أنا لست رئيسا ولا معلما . فان أراد هو ان يتعلم شيئا ، فلينظر كيف أتصرف وكيف أعمل ، ويعمل هكذا مثلى ، دون ان آمره]. ومن أمثلة التعليم من السيرة ، ان ثلاثة إخوة زاروا القديس الأنبا أنطونيوس ، فإثنان منهما سألاه . أما الثالث فجلس صامتاً ، فلما استفسر منه القديس لماذا لم يسأل عن شئ ، أجابه الأخ :

[ يكفيني مجرد النظر الى وجهك يا أبى ].

كان مجرد النظر الى وجه القديس درساً يتعلم منه الأخ وهو صامت . يرى القديس كيف يتكلم وكيف يحبيب ، ويبصر ملامحه الوديعة الهادئة المتضعة ويتعلم .. مثال اخر : فى إحدى المرات زار البابا ثاوفيلس برية شيهيت . فقال الآباء للقديس الأنبا بفنوتيوس : [ قل كلمة لينتفع البابا ] . فأجابهم: [ ان لم ينتفع من سكوتى ، فمن كلامى ايضا سوف لا ينتفع ].

      حقا أن الصمت يمكن التتلمذ عليه ، تماما ككلام المنفعة.

ولعل من أروع الأمثلة على ذلك القديس أرسانيوس الكبير ، الذى كان كثيرون يتتلمذون على صمتة ، ويستفيدون من قدرته الصالحة أكثر من كلام معلمين آخرين وهكذا يتتلمذ الآن على حياة الآخرين ، على الصفات الجميلة التى فيهم . ويمتص فضائلهم ، دون أن يلقوا عليه دروساً فى تلك الفضائل . وقد فعل القديس الأنبا أنطونيوس هكذا فى أول عهده بحياة الرهبنة: فكان يتعلم من حياة     

النساك الذين يراهم :

 كان كالنحلة التى تمتص من كل زهرة رحيقاً

     يتعلم من أحد النساك الهدوء ، ومن اخر التواضع ، ومن ثالث الصمت ، ومن رابع حسن الكلام وما فعله القديس أنطونيوس يذكرنا بتعليم أخر نافع وهو:

 لا يحاول أن تكون فى تلميذتك صورة كربونية من شخص واحد بالذات

فلا يوجد شخص واحد من بنى البشر فيه كل الفضائل . كما ان ما يناسب شخصيا معينا قد لا يناسبك أنت . إنما خذ من كل شخص ما يعجبك فيه من صفات جميلة . وخذ من هذه الصفات بالقدر الذى يصلح لك وبالأسلوب الذي يوافق طبعك وعقليتك وظروفك. 

       وهكذا تكون التلمذة على الحياة ، ومنها التلمذة على سير القديسين .

وفى هذا يقول القديس بولس الرسول : " اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله . انظروا إلى نهاية سيرتهم ، فتمثلوا بأيمانهم" (عب7:13) . ولقد قدم لنا الكتاب المقدس أمثلة عملية من كل نوع ، كما قدم لنا التاريخ أمثلة أخرى فى كل فروع الفضيلة ، وفى كل ألوان الحياة ،يمكن ان نتتلمذ عليها.

     ان السيد المسيح بكت اليهود بمثال ملكة التيمن.

 فقال لهم : " ملكة التيمن ستقوم فى (يوم)الدين مع هذا الجيل وتدينه، لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان . وهوذا أعظم من سليمان ههنا " ( مت42:12). أنها كانت مثالاً عجيباً فى طلب الحكمة والمعرفة ، أى فى التلمذة. وقد تتلمذت على إنسان أخذ الحكمة من الله نفسه، وكان أحكم أهل جيله (1مل12: 3). واصبحت هذه الملكة مثالا لنا نقتدي به.

وقد قدم السيد لجيله ولنا أمثلة نتتلمذ عليها:

قدم لنا المرأة الكنعانية فى أتضعها ، إذ قالت عن نفسها وابنتها : " والكلام أيضا تآكل من الفتات الذى يسقط من مائدة أربابها ". وقدم لنا الرب أيضاً مثال قائد المائة فى أيمانه ، إذ قال : " يا سيد لست مستحقا ان تدخل تحت سقفي ، لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي ". فقال الرب للذين يتبعونه :" الحق أقول لكم : لم أجد ولا فى إسرائيل إيمانا بمقدار هذا ".

     وهكذا قدم الرب للناس أمثلة حية ممن يعيشون حولهم، ويصلحون قدوة للتلمذعلى مثالها.

وقدم لهم أيضا مثال الأرملة التى أعطت من أعوازها (مر12:9 ) ومثال الأرملة التي سكبت قاروة الطيب الغالي الثمن علي رأسه في بيت سمعان الأبرص . و قال : (الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم ، يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكاراً لها ) ( مر 14 : 9) .

إذن ليست الأمثلة التي تتلمذ عليها ، هي فقط للقديسين الذين رقدوا ، إنما أيضا الأمثلة الحية من حولك

ولعلك تجد فيمن تعاشرهم و تختلط بهم ، و في من يعيشون في جيلك - حتي لو لم تختلط بهم -ربما تجد في هؤلاء و أولئك أمثله طيبة يمكن أن تلتقطها و تمتصها و تحتذيها .

 ونحن نري في الأطفال مثالاً لمن يتعلم بالمحاكاة:

إنهم لم يصلوا بعد إلي درجة الفهم و النضوج الفكري الذي يساعدهم علي تلقي العلم أو فهم النصائح . و لكنهم كما يعيش الذين حولهم يأخذون الحياة و الدين و كل شئ عن طريق التسليم ، وليس عن طريق التعليم .

وكما تتعلم من فضائل الناس ، يمكنك التعليم من أخطائهم :

فأنت إذ تري الخطأ ، و نتائجه السيئة ، وردود فعله عند الآخرين ، تستطيع أن تأخذ درساً في تحاشي هذا الخطأ في حياتك . أو كما قال الأسد : [ من علمك الحكمة أيها الثعلب ؟ ] فأجابه : [ تعلمتها من رأس الذئب الطائر عن جثته ]

وما أجمل المثل الذي يقول : [ تعلمت الصمت من الببغاء ].

أي أنني لما رأيت مساوئ كثرة الكلام ، أخذت درساً في سمو الصمت و فائدته واحترام الناس للصامتين

 

دروس من الموت :

 أنت تتعلم من الحياة ، و أيضا من الموت . إنه أستاذ كبير لك و لكثيرين

كثير من الآباء أخذوا من الموت درسا في التجرد ، ودرسا في فناء العالم و بطلان كل شهواته . و البعض منهم قاده عمق هذا الشعور إلي الرهبنة وترك العالم كله .

ومن أمثلة هؤلاء القديس العظيم الأنبا أنطونيوس .

أبصر أباه علي فراش الموت بلا حراك ، فخاطبه قائلا : [ أين هي قوتك وعظمتك و غناك ؟ لقد خرجت من العالم بغير إرادتك . أما أنا فسأخرج منه بإرادتي ، قبل أن يخرجوني كارهاً ] . وهكذا عزم علي الرهبنة . وبهذا الشعور القلبي تأثر من الآية التي سمعها في الكنيسة ( مت 19 :21) .

و القديس الأنبا بولا أول السواح تأثر بالموت أيضا .

وكان في طريقه إلي القضاء ليختصم قريبا له بسبب ميراث . و في الطريق رأي موكب جنازة فتأثر ، وترك المال و الخصومة ، و ذهب إلي البرية سعياً وراء خلاص نفسه

وهناك قصه نصيحة سمعها  أخ من القديس مقاريوس الكبير :

قال للشاب إذهب وامدح الموتى . فذهب وقال لهم : [ يا أبرار يا صديقون يا قديسون ] ورجع فسأله القديس : [ هل أجابوك بشئ ؟ وهل فرحوا بمديحك ؟ ] فقال له [ كلا ] . قال له القديس : [ إذهب إذن و انتقدهم ] فذهب وفعل كذلك . فسأله القديس : [ هل أجابوك بشيء ؟ وهل حزنوا بمذمتك لهم ؟] فأجاب [ كلا ] . فقال له القديس : [ هكذا أنت ، إن أردت أن تكون راهباً ، فكن كهؤلاء الموتى . لا تفرح بمديح ولا تحزن بسبب مذمة ].

و القديس مقاريوس نام مرة ، وقد وضع جمجمة تحت رأسه .

 وبعض القديسون كانوا ينتفعون روحياً من منظر الجماجم ، ومن رؤية الموتى ، ومن زيارة المقابر . بل إن مجرد ذكر الموت كان ينفعهم . والتأمل فيه كان درساً روحياً لهم . وقيل عن الاسكندر الأكبر ، أعظم قائد وإمبراطور في جيله ، إنه كان قد كلف خادماً له أن يقول له كل يوم : [تذكر أنك إنسان ، ولابد ستموت في يوم ما ] فليتك أيضا تنتفع من كل وفاة تسمع بها ومن كل جناز تحضره ، وتتتلمذ علي أولئك  الذين أثر الموت فيهم ، وأخذوا منه دروساً نافعة

 

التلمذة علي الكتب

الأصل هو التلمذة علي الآباء و المعلمين . وكما قال الشاعر :

فخذوا العلم علي أربابه                            واطلبوا الحكمة عند الحكماء

ولكن ماذا يحدث إن لم تجد المعلم ولا الأب ولا المرشد . هناك إذن الكتب . فيها كل شئ . وقد تنفعك مع وجود مرشد أيضاً ..

أوريجانوس أعظم عالم في عصره : تتلمذ علي الكتب .

قيل عنه إنه كان يستأجر المكتبات و يبيت فيها . ويظل يقرأ طول الليل ، ويلتهم ما يوجد في المحفوظات من كنوز المعرفة وقال عنه القديس جيروم : [ إنه كان يقرأ وهو يأكل ، ويقرأ وهو يمشى .. حتي إمتلأ عقله من العلم ] . ولكن أوريجانوس أصابه ضرر من بعض قراءاته .

وفي عصرنا الحاضر نذكر اسم حبيب جرجس .

لم يجد معلماً في الآكليريكية يتلقى عليه العلم ، وبخاصة بعد مرض و نياحة القمص فيلوثاوس إبراهيم ، فلجأ إلي الكتب يلتهم معلوماتها إلتهاماً . واستطاع أن يكون معلم اللاهوت الأول في جيله . ولأأن يكتب في العقيدة وفي الروحيات وفي سير القديسين وفي مناهج التربية الكنسية والتعليم الديني . وكان مصدر علمه هو الكتب .

ولكن علي الإنسان أن يحسن انتقاء  الكتب التي يقرأها ويتتلمذ عليها ، وأن يقرأ بإفراز وحرص ، ولا يعتنق كل ما يقرأ.

فهناك كتب - حتي لمشاهير الكتاب - قد تحمل معلومات غير سليمة . وليست كل الكتب معصومة . فعلي القارئ أن يضع أمامه قول القديس بولس الرسول : ( افحصوا كل شئ و تمسكوا بالحسن )

( 1تس5 : 21) . وكذلك قول القديس يوحنا ( لا تصدقوا كل روح ، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله ( 1 يو 4:1 ) .

وأيضاً علي الإنسان أن يميز بين القراءة و التطبيق .

فهناك مبادئ روحية تحتاج إلي إرشاد في تطبيقها ، وقد تحتج بعض الفضائل إلي تدرج كبير في تنفيذها . وقد يقرأ إنسان في بستان الرهبان عن فضيلة اتقنها أحد القديسين ، ربما بعد جهاد سنوات حتي وصل إليها ، فهل يأخذها القارئ كنقطة ابتداء ، مقلداً القديس فيما وصل إليه أخيراً ، دون أن يحاكيه في تدرجه وجهاده ..نقول هذا عن بعض درجات الصلاة ، والصمت ، والصوم ، و الوحدة ، وما شابه ذلك من أمور يحتاج تنفذها إلي إرشاد روحي

و نشكر الله أن المكتبة القبطية تذخر حالياً بالعديد من الكتب الثمينة :

سواء من أقوال الآباء المترجمة ، أول من سير القديسين ، أو الكتب الروحية و العقدية و التاريخية و الطقسية ، وشتي ألوان المعرفة.

و علي الإنسان أن ينتقي ما يشبع قلبه وفكره .

و أن يصنع لنفسه برنامجاًُ يومياً في القراءة ، أو علي الأقل برنامجاً أسبوعياً ، بحيث إن قصر في يوم تسنده قراءة يوم أخر .

 و الخادم بالذات يحتاج إلي مزيد من القراءة ، ليكن مشبعاً لتلاميذه .

 وذلك حتي لا تقدم لهم معلومات مكررة ، أو معلومات سطحية سبق لهم معرفتها . ولا شك أن الخادم العميق في معرفته يشعر تلاميذه بدسم معلومات فيقبلون عليه و علي دروسه . وهو لا يستطيع أن يتلمذهم ، إلا إن كان هو قد تتلمذ أولاً و تعمق في معرفته . وكما يقول المثل :

[ امتلئوا . لأنه لا يفيض إلا الذي امتلأ ].

والتلمذة علي الكتب لها اتجاهان : المعرفة و الحياة . و لكي تحول بعض معارفك إلي حياة ، عليك بالتداريب الروحية .

إقرأ ، وافهم جيدا . و استخرج المعاني الروحية النافعة و المناسبة لك . وسجلها في مفكرة خاصة ، لكي تتذكرها بين الحين و الحين . ودرب نفسك عليها . و حاسب نفسك علي التدريب . و راقب نفسك في التطبيق . ووبخ نفسك إن قصرت . وهكذا تحول المعلومات الروحية إلي حياة .

وفي حديثنا عن الكتب وأوريجانوس ، نذكر اثنين تتلمذا عليه :  

إنهما القديسان باسيليوس الكبير ، وأغريغوريوس الناطق بالإلهيات . مع إنهما لم يعاصراه ، إذ عاشا في القرن التالي له . و لكنهما تتلمذا علي كتبه . تماماً كما قال اليهود للمولود أعمي : (( نحن تلاميذ موسى )) ( يو 9:28) . مع أنهم لم يعاصروا موسى النبي ،لكنهم تتلمذوا علي الأسفار الخمسة التي كتبها ، و التي أطلق عليه اسم (( ناموس موسى )). لاشك أنكم رأيتم كثيرين من الناس الطيبين . فهل استفدتم منهم ؟ صدقوني أن الله سيديننا في اليوم الأخير ، إن لم نستفيد ممن أرسلهم إلينا كعناصر ممتازة يمكن أن نقتدي بها ، مثلما قال عن معاصري حياته في الجسد علي الأرض ( إن ملكة التيمن ستقوم في يوم الدين مع هذا الجيل و تدينه )) ( مت12: 42 ) .

ربما تسمع أو تقرأ عن الوداعة ولا تفهم معناها بالضبط . ثم يرسل الله لك إنساناً و ديعاً ، تراه فتتلمذ علي وداعته ، و تفهم منه ما هي الوداعة أكثر مما تشرحه الكتب ..

وهكذا في كل فضيلة يرسل لنا الرب عينات حية : في التواضع ، في البساطة ، في الغيرة المقدسة ، في الإيمان ، في كافة الأمور الروحية التي قد تعجز الكتب عن شرحها بدقه ، والتي قد يكون معناها أكثر من احتمال تعبير الألفاظ .. وإن سأل الله (( لماذا لم تتلمذوا علي هذه النماذج العملية ؟! )) حينئذ (( يستند كل فم )) ( رو3: 19) ..

أتظن إن التلمذة هي فقط علي الكتب و العظات و الإرشاد الروحي . كلا. فهناك تلمذة علي أشخاص لا يتحدثون عن الفضائل ، إنما تتحدث فضائلهم عنهم .

لذلك خذ درساً من كل فضيلة تراها في أي إنسان ، أياً كان ، مسيحياً كان أو غير مسيحي ، خادماً كان أو علمانياً .. ننتقل إلي فرع آخر من التلمذة ، وهو التلمذة علي الطبيعة.

 

التلمذة علي الطبيعة :

 لعلي حينما أتكلم عن الطبيعة ، أذكر قول المزمور :

(( السموات تحدث بمجد الله ، و الفلك يخبر بعمل يديه )).

 نعم إن الطبيعة تتحدث . و لذلك يتابع المرتل تأملاته في هذا المزمور قائلاً (( يوم إلي يوم يذيع كلاما . وليل إلي ليل يبدي علماً ..)) (مز19 : 1، 2) . يمكن للإنسان إذن أن يستمع إلي أحاديث الطبيعة ، إلي حديث السماء وحديث الفلك . فما هي الدروس التي تتعلمها حينما نتتلمذ علي الطبيعة درساً ؟ أذكر من بينها : 

1 - تعطينا الطبيعة درساً في النظام و الدقة :

 وفي مقدمة ذلك النظام العجيب الدقيق الذي يربط بين الشمس و القمر والكواكب والنجوم . كيف تدور الأرض حول محورها  دورة منتظمة كل 24 ساعة ينتج عنها الليل و النهار ، وأيضا تدور دورة أخري حول الشمس كل عام تنتج عنها الفصول الأربعة . وكل ذلك بنظام لم يختل مطلقاً خلال آلاف السنين ، بحيث يستطيع كل إنسان أن يتوقع ماذا سوف يحدث بعد ساعات أو أيام أو شهور ، من حيث ضغط الهواء و الرياح والأمطار و البرد و البحر ، و ترتيب الأزمنة و الأوقات حسب نظام الطبيعة

الدقيق .. إنه درس لنا .

 ومن أمثلة النظام و الدقة أجهزة الجسد البشري.

وتقصد هذه الأجهزة كما خلقها الله ، وليس كما يفسدها الإنسان بإهماله ، أو بتعرضه للمرض و الوبأ و الحوادث .. إنها أجهزة دقيقة جداً ، و منظمة جداً سواء في ذلك عمل القلب ودورة الدم في الجسد الإنسان ، أو عمل المخ بكل مراكزه ، أو الجهاز الهضمي ، أو الجهاز العصبي أو غيرها .. تأمل العين كجهاز دقيق ، و الأذن كجهاز للسمع ، واللسان كجهاز للذوق و للكلام و لمساعدة الجهاز الهضمي . عجب في عجب ، لدرجة أن علم الطب  كانوا يدرسونه في كليات اللاهوت ، لانه يعطي فكرة عن قدرة الله في الخلق .

2- نأخذ من الطبيعة درساً آخر ، في أنها تعمل بلا كلل ولا ملل ، ولا نطلب راحة لنفسها ..

  تصوروا لم أن الأرض اتكأت علي محورها ، وطلبت أن تستريح قليلاً من التعب هذا الدوران الذي لا ينتهي ..! ماذا كان سيحدث حينئذ في اضطراب النور و الظلمة ؟! ولكن الأرض لا تتوقف مطلقاً عن عملها و كذلك القمر ، و باقي أعضاء أسرة الفلك ، من شمس وكواكب ونجوم . إنه عمل دائب ، ونشاط عجيب ، في سبيل تأدية الرسالة بكل أمانة هذه دروس لنا .

3 - و الطبيعة تعطينا درساً ثالثاً في أنها تعمل لأجل غيرها ، و أنها تنفذ مشيئة غيرها ، بكل طاعة و بكل إخلاص .

حقاً ماذا يستفيده الطبيعة لذاتها من كل ما تعمل ؟ ماذا يستفيده الماء حينما يتبخر بالحرارة ويصعد إلي فوق ، ثم يتكثف كمطر وينزل إلي تحت . ويدوام الصعود و الهبوط في كل موسم كل عام من أجل غيره..؟

الطبيعة كلها تعمل في خدمة غيرها . أما ذاتها فلا وجود لها في عملها . إنها تبذل وكفي . وهي تطيع القانون الذي وضعه لها الله ، ولا تحيد عنه ولا تناقشه ..

حقا ماذا كان سيحدث ، لو أن الأفلاك عقدت اجتماعا ، لتناقش فيه خطة عمل لها في السنة المقبلة ؟! أو لو طلبت أن تدبر أمورها ، أو لو احتجت علي العمل المستمر بدون توقف وبدون عطلة !! الذي بفعل هذا هو الإنسان ( العاقل ) الذي يتبعه عقله ، والذي لا يأخذ دروساً من الطبيعة ، ولا ينفذ قوله لله : (( لتكن مشيئتك ، كما في السماء كذلك علي الأرض )) ( مت 6: 1.) .

4- و الطبيعة تعطينا درساً رابعاً في التعاون والعمل الجماعي Team Work .

كلها تعمل معاً ، لأداء واجب واحد . يكفي أن يأكل الإنسان وجبة من الطعام ، لتجد اليد تعمل في تقديم الطعام ، الأسنان تطحنه  واللسان يلوكه ، ويقذفه إلي البلعوم و المريء و المعدة ، وإفرازات من هنا وهناك حتي يؤخذ النافع منه ، ويتحول إلي دم و إلي أنسجة و إلي طاقة ، والزائد تخرجه الأمعاء إلي خارج .وكل عضو وكل جهاز في الجسم ، يعمل مع باقي الأعضاء من أجل خير الجسد كله ، في تعاون عجيب يستلم من عضو ، ليسلم لآخر ، مشتركاً مع غيره . بحيث لا نستطيع أخيراً أن نقول : [ من الذي عمل ؟] إنه الجهاز الهضمي كله . بل باقي الأجهزة كانت تعمل معه ، كالقلب و المخ .. حتي لو نسب العمل إلي جهاز وحدة .. نفس التعاون نجده أيضاً بين الحرارة و الرياح و الأمطار و النبات . الكل يعمل معاً ، من أجل أداء سليم لنفع المجموع . ولا يمكن أن ينفرد جزء من الطبيعة بعمل وحده . ونفس التعاون نجده في دولة النمل ، وفي دولة النحل ، بمشاركة عجيبة يعوزني الوقت للتحدث عنها . ألا يستطيع أن نتعلم من الطبيعة هذا الدرس ؟

5- مع درس آخر قال عنه الكتاب : (( إن كان عضو واحد يتألم ، فجميع الأعضاء تتألم معه )) ( 1كو 12 : 26 ) .

يكفي أن عضواً واحدا يتألم ، فتجد الجهاز العصبي يتدخل وتجد الإحساس بالألم يظهر ، وربما تجد أجراس الخطر تدق لتدفع إلي علاجه : جرس من درجة الحرارة ، أو جرس من نبضات القلب أو ضغط الدم ، أو من صداع أو غيره . كلها تنادى قائلة : [ هنا مرض . عالجوه ] . وإن دخل ميكروب في الجسم ، تجد حركه دائبة من كرات الدم البيضاء  ، وتجد كل أجهزة المقاومة تستعد لمقاتلته .. إلي جوار معونات من الأطراف ومن المخ .. ويكمل الرسول كلامه ويقول : (( وإن كان عضو واحد يكرم ، فجميع الأعضاء تفرح معه )) ( 1كو 12 : 26 ) . الوجه يبتسم ، والقلب يطمئن ، و الأعصاب تهدأ ، و اليدان و القدمان كلها تقوم للخدمة و للتعبير عن فرحها . إنه درس تقدمه الطبيعة في مشاعر الأسرة الواحدة.

6- درساً سادساً تقدمه لنا الطبيعة ، وهو أنها تعمل دون أن تتأثر برأي  الناس فيها

المطر ينزل في موعده و يؤدي واجبه ، لا يتأثر بشكر الزارع إذ روي زرعه ، ولا بتذمر إنسان أبتل به ، أو كوخ سقط من شدته ، أو ملابس ابتلت .. إن المطر لا يبحث عن المجد الباطل ، لذلك لا يتأثر بمديحه أو مذمة . يكفيه أنه يؤدي واجبه بأمانة . كذلك الشمس و الحرارة ، و البرودة أيضاً ، والرياح . تؤدي واجبها ، ولا يهمها في ذلك مديح من يرضي ، أو احتجاج من يتضايق . إنما أداء الواجب هو كل ما يشغلها .

7 - الدرس السابع الذي نأخذه من الطبيعة هو الحكمة .

أنظر مثلاً إلي الكرمة : إنها تنفض أوراقها في الشتاء ، حتي تعطيك فرصه أن تتمتع بأشعة الشمس تحت التكعيبة . ثم تعود فتكتسي بالأوراق في الصيف ، لأنك تحتاج وقتذاك إلي الظل وليس إلي الدفء . وبالمثل أن نتحدث عن أشجار البنسيانا ( من أشجار الظلال ) وكثير من الأشجار التي تنفض أوراقها .

 ومن الحكمة أيضاً أن كثيراً من النباتات و الثمار تظهر في الوقت الحسن ، المناسب للإنسان :

البطيخ مثلاً يظهر في الصيف ، لأنك محتاج أن ترتوي بمائه ، بسبب حرارة الجو . و البرتقال يظهر في الشتاء لأنك محتاج إلي ما فيه من فيتامين ( ج ) ، لتتقي نزلات البرد . وبنفس الوضع يمكن أخذ كثير من الثمار موضعاً للتأمل في حكمة مواعيد ظهورها ..

8- الدرس الثامن الذي نأخذه من الطبيعة هو نكران الذات :

نأخذ هذا الدرس من الجذور مثلاً . فهي قابعة في الأرض لا تظهر ، بينما هي تحمل الشجرة كلها وكلما تزداد الشجرة كلها ، وكلما تزداد الشجرة ارتفاعا ، تزداد الجذور تشعباً و اختفاء في الأرض ، لكي تتمكن من نزولها  إلي أسفل ، إن تعطي فرصة ترتفع بها الشجرة إلي فوق هل تسمي هذا بذلاً أم محبة ، أم أتضاعاً أم إنكاراً للذات أم خدمه للآخرين ،أم كل هذا معاً ؟ وإنه لكذلك .. تري لو أصابت الجذور مشاعر من الغيرة ، فحسدت الجذع و الساق و الأغصان و الأوراق علي ظهورها ومديح الناس لها ، واشتهت أن تكون مثلها ..! فترك الجذر أرضه واختفاءه وصعد إلي فوق مثل الأغصان الراقصة في الهواء ؟! أما كانت تنهار الشجرة كلها . ولكننا نشكر اله ، لأن الجذور لا تنصرف هكذا ، فهي تواضعها ، ولا تغار ..

نفس الدرس نأخذه من أساسات الأبنية:

الناس يمتدحون العمارة الشاهقة في مبناها ، وأتساعها ، وعلوها ، وديكوراتها ، وأنوارها ، وأثاثاتها ..الخ . أما الأساس المختفي تحت الأرض ، فلا أحد يتحدث عنه بينما هو يحمل البناء كله . ولكنه منكر لذاته . وكلما يرتفع البناء ، كلما يهبط هو إلي أسفل . إنه لا يبحث عن المديح ، وإنما عن سلامة المبني الظاهر . أما هو فيكفيه إنه في العمق ..

9- و الطبيعة تقدم لنا درساً تاسعاً : في تنوع الفضائل .

فكلما رأينا لا يقتصر الأمر علي الفضيلة واحدة ، وإنما هي باقة متنوعة الألوان . فبينما تعطيك الزهرة فكرة عن الجمال و العطاء ، تعطيك ثمرة فكرة عن أنها تعيش لتبذل ذاتها الحياة غيرها ، وثمر أخر لعلاجه . وثمرة تقبل أن تكون مرة المذاق ، لأنها هكذا تكون مفيدة

1.- وبعض أجزاء الطبيعة تعطينا الدرس العاشر في القوة والصمود .

مثل ذلك الجبل أو التل ، الذي مهما هبت عليه الرياح و الأمطار هو ثابت لا يتزعزع . ومهما حفر فيه الإنسان مغارات أو طرقاً ، أو بني عليه أبنية ، هو قائم لا يهتز . ومثال ذلك أيضاً الجنادل في مجري النهر ، تصدمها المياه و الأمواج ، وهي ثابتة لا تعباً بالصدمات ولا تتأثر بها  

11-          وأحياناً نأخذ من الطبيعة درساً في التأقلم مع البيئة . 

كنباتات الصحراء التي لا تجد لنفسها ماء ، فلا تعرض أوراقها للبخر و النتح وإنما تنطوي بطريقة أبرية ، فلا تفقد بذلك ماء . ومثال آخر في الدب القبطي و الثعلب القبطي الذي يتكون له فرو ليتقي البرد ، بينما الجواد و الفرس يكون جلده عكس ذلك لأنه لا يعيش في جو بارد . أنأخذ من هذا درساً أخر في عناية الله بمخلوقاته ؟ لا شك  نأخذ ..

12-          يذكرنا الشوك في البند السابق بأن كل الأشياء تعمل معاً للخير ، وهذا درس إيماني ..

قال أحد الآباء كلمة حكيمة وهي [ حتي الأشواك يمكن أن تصلح سماداً للحقل ]!! وليس هناك غرابه في ذلك ، لأن الشوك إذا حرقته ، يتحول إلي رماد ، و الرماد يصلح أن يكون سماداً وينفع الإنسان ، إلي جوار منفعة أخري . وهذا يعطينا درساً آخر في أن ننتفع من كل شئ ، حتي من الأشواك التي تبدو لأول وهلة أنها ضارة .

13-          هناك درس في التواضع نأخذه من السحاب و الماء .

يتبخر الماء فيجف ويرتفع إلي فوق ويصير سحاباً . ولكنه في ذلك لا ينسي أصله أنه كان تحت في مستوي أقل من سطح الأرض . وهكذا يتضع ، لأنه يعرف أن هذا الارتفاع سوف لا يدوم . وسيأتي وقت يبرد فيه ويتكثف ، وتهب ريح فتسقطه إلي الأرض وقد تمتصه جذور شجرة فيهبط إلي تحت الأرض ..أتري يستطيع السحاب أن يفتخر علي الماء ، وهو يعرف أصله ومصيره ؟! أم هل يمكن أن يصاب الماء بصغر النفس إن تذكر زملاءه من القطرات التي تبخرت وارتفعت إلي فوق ؟!

كلا فكل من الاثنين  راض بحالته ، سواء أصعده الله إلي السماء ، أو أهبطه إلي الأرض ، أو امتصته جذور شجرة أو دخل في شرايين الأوراق أو الأغصان ..

إنه درس آخر في حياة التسليم .

14 - درس آخر نأخذه من السباخ الذي تسمد به الأرض .

قد يراه إنسان فيحتقره ، لنتانة رائحته وسوء منظره ، بينما يرضي السباخ بحاله ، والله خلقه قادر أن يغيره . فقد يدخل في طعام شجرة تمتصه ، وتنقله غذاء لبراعمها ، فيتحول إلي ثمرة ، يأكل الإنسان وتدخل في تركيب جسمه ، وقد تتحول إلي نسيج فيه . أترى يتضع الإنسان  حينما يدرك أن بعض أنسجته كانت سباخاً في الأرض في يوم ما ؟! إنها دروس روحية لكل من يحب أن يتعلم ، وأن يتأمل . يذكرنا بقول الرب : (( انظروا ، لا تحتقروا أحد هؤلاء  أحد الصغار ))( مت 18 : 1.) .

15 - درس آخر نأخذه في عناية الله واهتمامه :

يتضح من قول الرب (( تأملوا زنا بق الحقل كيف تنمو . لا تتعب ولا تغزل . ولكن أقول لكم إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها . فإن كان عشب الحقل الذي يوجد اليوم و يطرح غداً في التنور يلبسه الله هكذا ، أفليس بالحرى أن يلبسكم أنتم ياقليلى الإيمان ؟! (مت 6: 28 -3.) . إنه درس في إننا لا نحمل هماً بسبب احتياجنا . فالله هو المتهم بنا دون أن نطلب . حقاً إن الله وضع آدم في الجنة ، وضعه في مكان كله فوائد روحية لمن يتأمل . لقد أعطي له الله الحق أن يتسلط علي لأرض و يخضعها ( تك1: 28، 26) ولكن

كان الأفيد له أن يتأمل و يتعلم ، لا أن يتسلط !

ننتقل إلي نقطة أخري في مصادر التلمذة وهى :

 

تلميذة عالم الحيوان

 هذا المبدأ قدمه لنا الرب حينما قال : (( كونوا حكماء كالحيات ، بسطاء كالحمام )) ( مت 1.: 16 ) . فأعطانا درساً أن نتعلم البساطة من الحمام ، والحكمة من الحيات . وهذا رمز أو إيحاء أن نتعلم حتي من الطيور ومن دبيب الأرض .

صدقوني أنني أخذت دروساً كثيرة من العصفورة :

كنت جالساً أمام قلايتي في حديقة الدير . وكانت علي الأرض بعض الحبوب ، لعلها سقطت من أحد عمال المزرعة . و أتت عصفورة لتلتقط الحب . و ظننت أن ستأكل حتي تشبع من هذه المؤنة . ولكنها التقطت حبة واحدة أو حبتين وطارت تاركة كل هذا الخير وراءها غير حافلة به وغير آسفة عليه .

وأخذت منها درساً في القاعة ، بل وفي التجرد .

وتذكرت قول الرب إنها (( لا تحصد ولا تجمع إلي مخازن )) ( مت 6: 26 ) . هذه العصفورة لم تقبع إلي جوار الخير المادي ولم تتخذ لها مقاماً ثابتاً إلي جوار الخير المادي ولم تتخذ لها مقاماً ثابتاً إلي جواره . إنما أخذت الكفاف الذي تريده وطارت سعيدة بأن تسبح في السماء ، عن أن تجلس إلي جوار المادة في الأرض . وكان في هذا درس آخر نافع لي .

وكانت تغني سعيدة ، وقد تركت كل شئ ..

وقلت في نفسي : ( هذه العصفورة أكثر رهبنه مني ) ، لأنها تفعل كل ذلك بطبعها وعل سجيتها ، دون أن تبذل جهداً ، أو تقاوم شعوراً داخلياً . والسعادة طبيعة فيها ، علي الرغم من أن فخاخاً صغيرة ربما تنتظرها .. وتذكرت قول الرسول : ( أفرحوا في الرب كل حين ) (في4 : 4 )

وأعطتني العصفورة أيضاً درساً في الحياة الإيمان .

 لأنها تركت كميه الحبوب وطارت ، وهي واثقة تماماً ، أن كل مكان ستذهب إليه ستجد فيه قوتها و طعامها ، دون أن تهتم بشيء وهنا تذكر قول الرب : (( لا تهتموا للغد . لأن الغد يهتم بما لنفسه )) لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون )) (مت6 : 34،25) . و بقوله عن العصفورة (( لا تجمع إلي مخازن ، و أبوكم السماوي يقوتها ))( مت 6 :26)

حقاً يا سيدي الرب إن العصافير أفضل من بشر كثيرين .  ولكنك لفرط محبتك و تشجيعك لنا نحن الضعاف قلت شيئاً أخجلنا وهو : ألستم أنتم بالحرى أفضل منها ؟

إننا نتعلم منها الإيمان ، وعدم الاهتمام بالماديات ، وعدم حمل الهم من جهة الغد . وأنت نفسك يارب قلت لنا أن ننظر إلي طيور السماء لنتعلم . ربما تقصد أننا أفضل منها من حيث أننا كائنات عاقلة . لها روح ، وعلي صورة الله ومثاله ، وإن كانت الطيور أفضل منا في اتكاها عليك !!

أعجبني في العصفورة أيضاً الانطلاق وحب الحرية .

 وأعجبني عدم ربط ذاتها بمكان معين ، مكان الرزق ، حتي أنني قلت في قصيدتي عن [ السائح ] :

                     ليس لي دير فكل البيد و الآكام ديري

                     أنا طير هائم في الجو لم أشغف بوكر

                     أنا في الدنيا طليق في أقاماتي وسيري

نحن أيضاً يمكننا أن نأخذ درساً في النشاط من النملة . وهكذا يقول لنا سفر الأمثال :

(( أذهب إلي النملة أيها الكسلان . تأمل طرقها وكن حكيماً )) ( أم6: 6 -9 ) .

إنني أشهد بكل يقين أنني لم أبصر في حياتي كلها نملة بلا حركة . أنها لا تقف مطلقاً . دائما تسعي و تتحرك . وكما يقول الكتاب : (( تعد في الصيف طعامها ، وتجمع في الحصاد أكلها )) _( أم 6 :8) . إنها درس عجيب في النشاط و الحركة

و النحلة أيضاً درس لنا في النظام .

فدولة النحل كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي : [ مملكة مدبرة بامرأة مؤامرة . تحمل في العمال ، و الصناع عبء السيطرة ] عجيب جداً هو نظام مملكة النحل ، سواء توزيع العمل أو  صنع الشمع في منظره الجميل ، أو جمع الرحيق وصنعه عسلاً ، أو صنع طعام الملكات الذي نسرقه منها ، ونبيعه في الصيدليات باسم Royal  Jelly  . وما أعجب ما يصنعه النحل من شهد ، وما أعجب فوائد لصحة الإنسان لقد وضعت في ذلك كتب و مؤلفات . أليس هو غذاء المعمدان ؟!

 

التعليم من الطقوس :

 

 كل ما وضعته الكنيسة من الطقوس ، له فوائدة الروحية ، لمن يحب يتأمل و يتعلم .. ومن أجل هذا نجد الأطفال و الأميين يستفيدون ، حتي أن كان مستواهم العلمي و الذهني لا يساعد علي فهم كل معاني الصلوات . وليسواهم فقط بل كل الشعب يحصل علي فوائد روحية من الطقوس . ولكنهم يستفدون من كل ما يرونه من شموع ، وبخور و أيقونات و ملابس . بل و يستفيدون من تحركات الكاهن ، ومن وجودهم وسطها أو في الهيكل . و ينتفعون كذلك روحياً ، من سلالم الكنيسة ، ومن الوقوف و الجلوس ، ومن منظر الملابس و الصلبان .. إلخ .

يرون الشمعة تنير أمام صورة قديس :

فيتذكرون سيرة القديس و ينتفعون به . ويرون إكرام الكنيسة له بالأنوار فيعرفون أنه لابد كان نافعاً ويستحق التكريم . وهكذا يكرم الله الذين يكرمونه . ونور الشمعة يذكرهم كيف أن القديس كان منيراً  مثل هذه الشمعة .

ولكي ينير كالشمعة ، لابد أنه كان يروي و يذوب فيما ينير .

وهكذا يأخذون درساً في بذل الذات ، من أجل محبه الله ، وفي خدمة الآخرين ..

ويشعرون أن هذا القديس حي لم يمت

فيتحدث معه ويطلبون صلواته عنهم ، ويكلمونه كما لو كان موجوداً بينهم . وهكذا يأخذون فكرة عن العلاقة بين الكنيسة المجاهدة علي الأرض ، و أعضائها الذين جاهدوا و انتقلوا . وفي كل ذلك - ودون أن يشعروا -تثبت فيهم عقيدة الخلود ، ويرددون في داخلهم قول الكاهن في الصلاة : ((لأنه ليس موت لعبيدك بل هو انتقال )) . إنها دروس من مجرد شمعة وصورة ..

و المتعمقون يرون أن الشمعة تضئ بسبب الزيت يرمز إلي الروح القدس ..  وهكذا يرون أن كل ما نعمله خير ، لا يرجع إلي معدننا الطيب ، بقدر ما يرجع إلي عمل الروح فينا . و يتذكر أهمية الزيت في قصة العذارى الحكيمات و الجاهلات

وكذلك يأخذون دروساً أخري من الشموع عند قراءة الإنجيل ، والشموع في الكنيسة عموماً وفي الهيكل .

ويذكرون قول المزمور (( سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي )) (مز 119) وأيضاً (( كلمة الرب مضيئة تنير العينين عن بعد )) ويرون أن الكنيسة كالسماء في أنوارها ، وأن هذه الأنوار تذكرنا بالملائكة . وبأن المؤمنين (( يضئيون كالكواكب إلي آبد الدهور )) (دا12 : 3 ) .

ملابس الكهنة البيضاء تذكرا لمصلين بنقاوة الكهنوت .

و بأن الكهنة هم ملائكة الكنيسة( رؤ2،3) . وتذكرهم بسكان السماء الذين ظهروا في سفر الرؤيا بثياب بيض ، قد بيضوها في دم الحمل (رؤ7 : 13 ،14) .

والدرجات التي يصعدها الكهنة إلي الهيكل ، تذكرهم بسمو المذبح و ارتفاعه ، وعلو خدامه ..

وهكذا يخلعون أحذيتهم وهم يدخلون إلي الهيكل . شاعرين بقدسيته . وبأن مكان الشمامسة و الخدام أعلي من مكان الشعب ، ومكان الهيكل أعلي من كليهما

 و البخور إذ يرتفع  إلي فوق ، وهو لرائحة زكيه :

يذكرهم بالصلوات الطاهرة التي تصعد إلي فوق إلي السماء . ويعوزني الوقت إن تكلمت عن كل طقوس الكنيسة بالتفصيل ، وكل ما فيها من تأملات ومن دروس . مع تنوع القراءات وألحان الصلوات .. إنها تحتاج إلي كتب . ولكن يكفي أن كل من يدخل الكنيسة بروح التأمل ، يخرج منها وهو في حالة روحية قوية ، وقد أثرت فيه الدروس التي تلقاها من الطقوس ..مجرد منظر الكنيسة التي تذكره بفلك نوح ، وكيف خلص فيه أولاد الله ، أو تذكره بالسماء وما فيها من ملائكة وأضواء ..

والمنارة التي ترتفع إلي فوق متجهة إلي السماء .

تذكره قبل أن يدخل إلي الكنيسة ، بأن يرفع نظره إلي فوق ، هو أيضاً ، متجهاً إلي فوق . إن من يريد أن يتتلمذ ، يجد في الطقوس مادة دسمة .

 

التلمذة علي الحادثات

كل حدث يحدث ، يحمل في أعماقه درساً نافعاً لمن يرغب في الاستفادة وفي التلمذة . وليس فقط الأبرار يستفيدون ، بل أيضاً أهل العالم . إن أحشو يرش الملك لما قرأ سفر أخبار الأيام ، تأثرت نفسه مما قرأ . وكان ذلك سبباً في خلاص الشعب كله . إن الأحداث توحي بمشاعر معينة ، وتقود إلي تصرفات روحية لمن يتأثر بها .

يا ليتنا نتأمل يد الله في كل ما يحدث معنا أو حولنا ، للأفراد و الجماعات ..

نأخذ درساً عن الله ، وكيف يتصرف وكيف ومتي يتدخل ، وكيف يحول الشر إلي الخير وكيف يدبر أمور هذا الكون في حكمة ، تجمع بين الحرية التي يهبها للإنسان ، والحزم الإلهي الذي يقيم العدل علي الأرض . نأخذ دروساً في عناية الله ، وفي عدل الله ، وفي صبر الله وطول أناته ..

لقد سجل داود النبي حادثات حدثت في أيامه. غني بها داود في مزامير . وغني بها المدنيون في أناشيد هو في سفر ياشر (2صم 1 : 8). وكانت دروساً . وكذلك أحداث غني بها يشوع ( يش1. : 13) . سجلت أيضاً في كتاب الأناشيد القومية المعروف بسفر ياشر . تأمل إذن كل الحادثات التي تمر بك ..

وخذ منها درساً ، واحفظها في قلبك . كما قيل عن العذراء إنها (كانت تحفظ جميع هذه الأمور في قلبها )) ( لو2 :51 ) . وكما كان الرب يقيم تذكارات معينة لأحدث خاصة ، حتي لا ينساها الناس ، كالأحجار التي وضعوها وسط مياه الأردن ، حتي لا ينسوا أنه أنشق ذات يوم ( يش4: 9 ) ..

قصة عبور البحر الأحمر ، وقصة الثلاثة فتية ..

تضعها الكنيسة في تسبحة نصف الليل ، لكي نتغني بهما كل يوم ، ونأخذ درساً في الإيمان ، ودرساً في عناية الله وحفظه .. وقصص أخري غير هاتين .

وما الأحداث التي نقرأها في السنكسار كل يوم سوي دروس أخري نتتلمذ عليها..

إنها تتلي علينا لكي نتتلمذ علي الاحداث ، ونري كيف كان الله يعمل ، وكيف كان القديسون يعملون .. مع قصص أخري من سفر أعمال الرسل ، نسمعها في كل قداس ، لنفس الغرض ، مع قصص أخري من سير القديسين .. وطوبى لمن يستفيد من كل تلك الحادثات دروساً 

يمكن أن تسمي دروساً من التاريخ ..

أن كانت قد حدثت في الماضي ، ودروساً من الحادثات إن كانت في جيلنا ، ورأيناها بعيوننا ، أو سمعنا عنها بآذاننا .

أما أن تمر الحادثات دون أن نأخذ منها دروساً ، فهذا بلا شك تقصير في التلمذة.

حتي أهل العالم يجدون في الحوادث عبراً أي دروساً يعتبر بها الإنسان ويستفد منها ، سواء حدثت له هو أو لغيره ، صديقاً كان أو عدواً . وقد قال الشاعر :

   ومن وعي التاريخ في صدره                       أضاف أعماراً إلي عمره

 

 التلمذة علي أب الإعتراف

 سعيد هو الإنسان الذي له أب اعتراف علي مستوي الإرشاد الروحي . لا يسمع فقط ويقرأ التحليل ، وإنما يرشد أيضاً ويعلم ويشرح الطريق الروحي ، ويمنح ابنه في الإعتراف موهبة الإفراز و التمييز..

 ذلك هو المعلم الذي درس الطريق الروحي و اختبره .

ودرس النفس البشرية ، وعرف ضعفاتها ، وغرائزها ، وميولها ، و دوافعها . كما يكون أيضاً قد درس حروب الشياطين وحيلهم ومكرهم وخداعهم . وعرف أيضاً وسائل الإنتصار عليهم .

مثل هذا الأب يمكن التتلمذ عليه . فإن لم يوجد يبحث المعترف عن المرشد روحي .

يضعه إلي جوار أب الاعتراف ، ويسأله فيما يمكن أن يتصرف به في حياته الروحية .. المفروض أن يكون أب الاعتراف هو المرشد لأن نفس المعترف مكشوفة أمامه . فإن لم يكن له هذه الموهبة . أو كان وقته ضيقاً جداً لا يكفي الإرشاد المئات من المعترفين عليه ، بالإضافة إلي  مسئوليات الأخرى ، حينئذ تقضي الضرورة إلي وجود مرشد يسند المعترف بنصائحه و تشجيعا ته ، ويكشف له ما خفي عن معرفته ، حتي لا يسير في الضباب .

لقد ألقيت علي أبنائي الكهنة محاضرات كثيرة عن أب الاعتراف ، أرجو أن أنشرها قريباً في كتاب ..

ومن  جهة التلمذة علي الآباء و المرشدين ، لنا ملاحظات :

1-    ينبغي أن يكون المرشد سليماً في عقيدته ، سليماً في إرشاده وفي قيادته ، مجرباً مختبراً .

و إلا أنطبق قول الكتاب (( أعمي يقود أعمي ، كلاهما يسقطان في حفرة )) ( مت 15 : 14) . وهذا الوضع أنتقده السيد بالنسبة إلي الكتبة و والفريسيين ، وقال عنهم إنهم قادة عميان ( مت23: 16 ، 24)  . وقال لهم موبخاً (( إنكم تطفون البحر و البر لتكسبوا دخيلاً واحداً . ومت حصل تصنعونه ابناً لجهنم أكثر منكم مضاعفاً )) ( مت 23: 15) .

2- إذن فإذا إنحرف الأب و المرشد ، لا تجوز له طاعة ، ولا يجوز قبول لإرشاده

من هنا كان علي الإنسان أن يسترشد ، وفي نفس الوقت يكون مفتوحاً العينين . ويحرص علي راحه ضميره في كل ما يقبله من إرشاد . وعلي الأب أو المرشد أن لا يكتفي بمجرد التوجيه ، إنما أيضاً يقنع ويثبت التعليم بآيات الكتاب أو أقوال . القديسين .

3-ولا مانع من أن يسأل الإنسان معلمه أو مرشده أو أباه الروحي .

فتلاميذ السيد المسيح نفسه كانوا يسألونه، ويستوضحونه بعض الأمور . فكان - تبارك اسمه - يشرح لهم ، ويضرب الأمثال ، ويذكر لهم بعض آيات الكتاب ، ويفسر لهم ( لو 24 :27) . فإن وجد أحد في نصيحة مرشده ما يخالف كلام الله ، فليذكر قول الكتاب (( ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس )) ( أع5 : 29) .

4- وليس من الصالح أن يحاول المعترف أن يكون صورة من أبيه الروحي في كل شئ .

فربما ما يناسب أباه لا يناسبه هو . وربما ظروف أبيه ومقدراته ونفسيته تختلف عنه تماماً . إنما يأخذ المبادئ ، ويطبقها علي قدر طاقته الروحية ، وحسبما يناسبه هو ويناسب شخصيته .

5- وفي نفس الوقت لا يجوز للمرشد أن يلغي شخصية من يتتلمذ عليه .. 

ولا يجوز أن يسيره في تياره علي الرغم منه ، غير مراع ظروفه و نفسيته وميوله !! فإن كان المرشد مثلاً محباً للوحدة و الهدوء ، لا يجوز له أن يدفع كل تلاميذه ، فربما بعضهم له شخصية إجتماعية ، ويحب خدمة الناس و الوجود معهم ، وإفادتهم و الاستفادة منهم ..

6- كما يمكن أن يكون الإنسان أكثر من مرشد ..

يسأل كلاً منهم فيما يتقنه من أمور .. بحيث لا يقع في تناقض بين الإرشادات . فإن حدث شئ من هذا أو ما يشبهه ، يتخذه مجالاً للسؤال و للدرس ، و لمزيد من المعلومات .. و لمواجهة الرأي بالرأي ، في غير إحراج ، وبدون ذكر أسماء .. كان القديس الأنبا أنطونيوس الكبير ، يأخذ دروساً من كل النساك المحيطين به بداية حياته الرهبانية . ويتعلم من هذا الوداعة ، ومن ذاك الصمت ومن ثالث النسك و الزهد ، ومن رابع الصلاة و التأمل ، ومن خامس  الحكمة .. الخ .

7- وقد يحتاج الإنسان فيما يتلقاه من المرشد أو من الكتب إلي شئ من التدريج :

فليس كل ما يقتنع به الإنسان من الفضائل أمراً سهلاً في تنفيذه . ربما يحتاج إلي وقت طويل .. من أجل عدم تعود النفس علي هذا الجديد من الفضائل ، وربما لمقاومة العادة ، أو بسبب حروب الشياطين ومحاولتهم عرقلته في طريق الله ، أو بسبب العقبات التي تصادفه من بيته أو من البيئة المحيطة ..!

كذلك فالشيء الذي يدركه بسهولة ، قد يفقده بسهولة .

فليس المهم أن يمارس إنسان فضيلة ما ، إنما المهم أن يثبت فيها حتي تصبح جزءاً من طبيعة . و لهذا فكل فضيلة لا يبقي الإنسان فيها زمناً ، وقد تكون عارضة في حياته وغير ثابتة .

فلا يصح أن يقفز الإنسان بقفزات سريعة في الطريق الروحي ، ويحاول أن يصل قبل الوقت .

إنما في هدوء وترو واتزان ، ينبغي أن يسير خطوة فخطوة ، حتي يصل بخطوات ثابتة ، و(( لا يرتئي فوق ما ينبغي )) ( رو12 : 3) . ولا يسرع إلي درجة معينة قبل أن يتقن ما قبلها . ولا يضغط علي مرشده و أبيه الروحي لكي يسمح له بتلك السرعة

8- ولا يجوز أن تعتبر أباك الروحي مجرد جهاز تنفيذي لما تعرضه من رغبات روحية !

لا تعرض عليها قرارات واجبة التنفيذ ، و إنما مجرد رغبات ، أو علي الأصح مجرد مقترحات أو أسلة أو تطلعات ، يقول لك هل هي صالحة لك أم هي غير صالحة . ولا تضغط عليه في أن يسمح لك أن تنفذ ، ولا تغضب إذا لم يسمح ..! وإلاّ كان الإرشاد صورياً ، وتصبح في هذه الحالة كمن يسلك علي حسب هواه ، إنما يريد الأب أن يوافق ليعطي هواه ورغباته روحية ..

9- قبل أن تذهب للاسترشاد الروحي ، عليك أن تصلي أن يهب الله لمرشدك الفكر الصالح الذي يناسب حياتك .  

أي تصلي أن ينفذ الله مشيئته في حياتك عن طريق الأب أو المرشد . فيقودك في الإرشاد الذي يريد الله أن يقدمه لك ، ويرشده بما يرشدك به ..

1.- اعرف أن الفضائل التي تسلك فيها حسب هواك ، قد تقودك إلي المجد الباطل

لذلك يقول الآباء في البستان [ إذا وجدت شاباً صاعداً إلي السماء بهواه ، فاجذبه إلي أسفل ] . و الخطورة هنا في العبارة [ يهواه ] ويقول الكتاب :

(( علي فهمك لا تعتمد )) ( أم 3: 5 ) .

وقد شرح الكتاب هذا الأمر في آية تكررت مرتين متقاربتين في نفس السفر (( توجد طرق تظهر للإنسان مستقيمة ، وعاقبتها طرق الموت )) ( أم 14 : 12 ، 16 :25) . وقد يتشبث الإنسان بهذه الطريق التي تبدو مستقيمة ، ويكون فيها تشبثه كل الضرر له .

وربما تكون هذه الطريق التي تبدو  له مستقيمة هي من خداع الشياطين ..

وما  أكثر ما شرحه مار أسحق و القديس مار أوغريس في هذه النقطة بالذات !! علي أن المتشبث بفكرة ، الذي يقود نفسه حسب هواه ، قد يقنع نفسه بأن هذا الفكر من الله ، و أن الروح هو الذي ألهمه هذا الفكر !

11- ما أخطر حالة من يقول إنه يتلقي معرفته من الله مباشرة ! و أنه يتتلمذ علي المسيح مباشرة .

وبهذا يرفض أن يتتلمذ علي الناس . وفي نفس الوقت لا يضمن هل الفكر الذي أتاه هو من الله أم ليس من الله ..! ومن عجب أن من يقول هذا الكلام ليس هو نبياً ، وليس هو من الإثنى عشر . ولا يستطيع أن يقول كما قال بولس الرسول (( تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضاً )) ( 1كو 11: 23) .

12- إن التعليم من الله قد يعني التعليم من مصادر إلهية . 

إننا نتعلم من الله في كتابه المقدس . يتعلم من السيد المسيح في سيرته المقدسة  . ومع ذلك نحتاج إلي من يفسر لنا هذه الكتب ، و إلي من يقودنا في الطريق الروحي . فليس التعلم مجرد فهم نظري ، بقدر ما هو تطبيق عملي .

13-وإلا فلماذا أوجد الله المعلمين و المرشدين ؟!

لماذا قال للتلاميذ (( وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به )) ( مت 28 : 2.) إن كان يمكن للإنسان أن يتعلم من الله مباشرة ؟! ولماذا (( أعطي البعض أن يكونوا .. رعاة ومعلمين )) ( أف4: 11) . ولماذا قيل (( أم المعلم ففي التعليم )) ( رو 12 : 7) . ولماذا قيل إنه من فم الكاهن تطلب الشريعة ( ملا2)

إن عبارة (( يكون الجميع متعلمين من الله )) ( يو 6: 45 ) ، نفهمها بآية أخرى هي (( من يسمع منكم ، يسمع مني )) ( لو 1.: 16) .

إن من يطلب أن يتعلم من الله مباشرة ، أو يتتلمذ علي المسيح مباشرة ،

ربما ينقصه الإتضاع الذي يقبل التعليم من المعلمين و المرشدين ، و يعوزه أن يتذكر قول الرسول (( اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله ..)) ( عب 13 : 7) . وأيضاً (( أطيعوا مرشديكم واخضعوا . لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حساباً ، لكي يفعلون ذلك بفرح غير آنين ، لأن هذا غير نافع لكم )) ( عب 13 : 17) . إن القديس بولس الرسول قد أمتدح تلميذه تيموثاوس الأسقف قائلاً : (( وأما أنت فقد  تبعت تعليمي و سيرتي وقصدي و إيماني ..)) ( 2تي 3 : 1.) . لماذا لم ينصحه أن تعليمه و سيرته من الله مباشرة ؟! وهل ترانا أعظم من القديس تيموثاوس الذي تلقي تعليمه من بولس الرسول ؟ ! ولماذا يقول بولس الرسول للمؤمنين (( كونوا متمثلين بي ، كما أنا بالمسيح )) ( 1كو 11: 1) (( كونوا متمثلين بي معاً أيها الأخوة)) ( في 3: 17)..

14-إن الفكر الذي يرفض التلمذة علي الكنيسة ، ويريد أن يتعلم من الله مباشرة ليس هو فكراً أرثوذكسياً، وليس هو فكراً إنجيلياً كتابياً ..

وذلك في ضوء نصوص الكتاب التي ذكرناها ، وأمثالها كثير جداً ، ومنها كل الآيات التي تتحدث عن التعليم والكرازة و الإرشاد و الوعظ ووظيفة الكنيسة في التعليم . وفي كل كنائس الدنيا - مهما أختلفت عقائدها - يوجد وعاظ ومنابر للوعظ . ما لزوم كل هذا إن كان الناس يتعلمون من الله مباشرة ؟!

15 - الحياة الروحية أيها الإخوة تحتاج إلي إتضاع قلب .  وفي التلمذة أتضاع ..

أما الذي يصر علي أن يتعلم من الله مباشرة ، فقد يقع في الكبرياء . وتستطيع الكبرياء أن تسلمه فريسة سهله للشياطين ، فيقدمون له ما يشاءوا من التعليم . وكل المبتدعين و الهراطقة في تاريخ الكنيسة ، رفضوا أن  يتتلمذوا علي الكنيسة ، واتبعوا فكرهم ، ظانين أن ذلك الفكر هو من الله !!

16- حقاً . ما أدراك أن الفكر الذي تظن أنه من الله هو من الله حقاً ؟!

يروي لنا البستان أن القديس مقاريوس الكبير جاءه فكر أن يزور الآباء السواح في البرية الجوانية ، فيقول هذا القديس العظيم [ .. فبقيت مقاتلاً هذا الفكر ثلاث سنوات ، لأري هل هو من الله أم لا ..] !وأنت بكل بساطة تري أنك تتعلم من الله مباشرة ، وأن الروح قال لك كذا وكذا!!

أي روح هذا ؟ وكيف تضمن ؟!

إن الكتاب يقول ((لا تصدقوا كل روح ، بل إمتحنوا الأرواح هل هي من الله ؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلي العالم )) (1يو 4: 1) . ويقول أيضاً ((امتحنوا كل شئ )) ( 1تي 5: 21) . 

17- ربما تكون هناك مصادر كثيرة للفكر الذي تظنه من الله .

قد يكون فكرك الخاص ، أو هواك الخاص . وقد يكون فكراً مترسباً في عقلك الباطن من قراءات أو سماعات سابقة . وقد يكون خدعة من الشيطان .. وأنت محتاج أن تتباطأ وتتروي ، وتقرأ الكتاب ، وتسأل وتسترشد .

أيها الأحباء ، تواضعوا ، وتتلمذوا ..

واذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله ..

 الصفحة الرئيسية