البابا شنوده الثالث

لماذا القيامة ؟

THE RESURRECTION : WHY?

BY Pope Shenouda III

مقدمة

1- القيامة معجزة ضروية تدل على قدرة الله اللانهائية

إمكانية القيامة

ضرورة القيامة

2- القيامة هى قيامة الجسد وحده أما الروح فهى دائمة الحياة

فينا طبيعتان متمايزتان

أنواع الأرواح

الأرواح الكبيرة

ضباب الجسد – الأرواح الضعيفة

الأرواح القوية

3- لماذا يهتم الله بالأجساد ويمنحها القيامة من الموت ؟

4- القيامة هى الباب الموصل للسماء

5- القيامة وأعماقها الروحية

القيامة هى لقاء عجيب

القيامة هى انتقال عجيب

القيامة معجزة متعددة الجوانب

القيامة هى باب الأبدية

6- القيامة تعزية ورمز

القيامة كرمز

7 – القيامة تعلن أنه قد مات الموت وانفتح الطريق إلى الأبدية بأفراحها

8- القيامة تتبعها الدينونة وساعة الحساب والثواب والعقاب

9 – تأملات فى أهمية القيامة

الحياة والخلود

الجسد والروح معاً

كرامة الإنسان

فوائد أخرى للقيامة

الاستعداد

1. – نؤمن بقيامة الأموات وحياة الدهر الآتى ( قانون الإيمان )

مقدمة

نشرنا لك كتاباًُ من قبل عنوانه فى القيامة " كان فى غالبيته عن قيامة السيد المسيح له المجد ، وما فى ذلك فى دلالات ودروس روحية ولاهوتية .

أما هذا الكتاب فهو عن القيامة بصفة عامة ، أو عن القيامة العامة لجميع الناس فى اليوم الأخير

لماذا القيامة ؟ وما هى أعماقها الروحية ، والدروس التى توحيها القيامة لنا ؟ وكيف القيامة ضرورية ولازمة ، والأسباب التى تدعو إلى ذلك ...

وأيضا القيامة ممكنة ، تعتمد فى ذلك على قوة الله القادر على كل ش ، الذى استطاع القيامة أن يخلق الإنسان من العدم ، وهو قادر أن يقيمه بعد الموت ، وهو يريد ذلك ...

ويتحدث الكتاب عما هو بعد القيامة : عن الدينونة والحساب ، ومجازاة كل إنسان حسب أعماله ..

وأنه لابد من القيامة ، لكى يمكن محاسبة الإنسان كله : روحاً وجسداً . لأن الروح والجسد قد اشتركا معا فى الخطية أو البر ، فيجب أن تكون المجازة أو المكافأة لهما معاً ... بعد القيامة .

كما يتحدث فى ذلك أيضاًُ عن السماء ، وعن النعيم الأبدى ، وحياة الدهر الآتى ...

كما يتحدث عن الحياة والخلود ، وكيف أن القيامة هى قيامة الجسد فقط . أما الروح فهى حية بطبيعتها ، لم تمت حتى تقوم . وما القيامة بالنسبة إليها ، إلا عودة هذه الروح إلى الجسد الذى كانت تسكنه من قبل .

ويتحدث أيضاً عن الاستعداد للقيامة ....

هذا الكتاب عبارة عن العظات الت ألقيناها فى الكاتدرائية ، فى أيام عيد القيامة بعد سنة 1986 .

ونشرت فى جريدة الأهرام ، وأذيعت فى تلفزيون مصر .

وها نحن قد جمعناها ، ورتبناها بطريقة تتناسب مع نشرها فى كتاب ، لكى يمكن أن تصلح لأى قارئ ...

يمكن أن يقرأها المسلم ، كما يقرأها المسيحى .

وأن يقرأها غير المتدين أيضاً . ففيها الفكر الخالص الذى يناسب الكل ، دون أن تكون قاصرة على العقيدة المسيحية وحدها ...

نقدم لك هذا الكتاب ، مكملاً للكتاب الأول عن القيامة .

وقد تكون له تكملة أخرى ، إن أحبت نعمة الرب وعشنا .

 أبريل سنة 1998                                                                الباب شنوده الثالث

 

القيامة معجزة ضرورية تدل على قدرة الله اللانهائية

يسرنى يا أبنائى وأخوتى أن أهنئكم بعيد القيامة المجيد رتجياً لكم فيه حياة سعيدة مباركة ، ومصليا أن يعم السلام أرجاء المسكونة كلها .

وإذ نتحدث عن القيامة ، وإنما نذكر هذه المعجزات المرتفعة جداً فى مستواها ، إذ كيف يمكن أن تقوم كل تلك الأجساد التى امتصتها الأرض ، وتحولت إإلى تراب ، أو أكلها الدود ، أو أحتراق بعضها ، والبعض أفتراسه الحيوان .. كيف يقيم الله كل هذه الأجساد التى تعد بملايين الملايين ، من شتى العصور والبلاد . ويأتى بأرواحها من حيث شاء لها أن تقيم ، ويجعلها تتعرف على أجسادها وتتحد بها ، وتقوم من الموت حية .. إنه أمر مذهل بلا شك .. !!

إمكانية القيامة :

إن كان العقل عاجزاً أمام فهم القيامة وكيف تكون ، فإن الإيمان بالله وقدرته قادر على استيعاب ذلك

فنحن نؤمن أن الله قادر على كل شئ ولا حدود لقدرته الإلهية . ومهما كان الأمر صعباً أمام الملحدين أو غير المؤمنين ، أو أمام الذين يعتمدون على الفكر والعلم وحدهما ، فليس شئ عسيراً أمام . " إن غير المستطاع عند الناس ، هو مستطاع عند الله " ( مر 1. : 27 ) .

 إن عملية قيامة الأجساد ، أسهل بكثير جداً من عملية خلقها من قبل .

الله الذى أعطاها نعمة الوجود ، هو قادر بلا شك على إعادة وجودها . هو الذى خلقها من تراب الأرض ، وهو قادر أن يعيدها من تراب الأرض مرة أخرى .. بل ما هو اعمق من هذا ، أن الله خلق الكل من العدم . خلق الأرض وترابها من العدم ، ثم من تراب الأرض خلق الإنسان .

أيهما أصعب إذن : الخلق من العدم ، أم إقامة الجسد من التراب ؟‍‍!

إن الذى يقدر على العمل الأصعب ، من البديهى أنه يقدر على العمل الأسهل . والذى منح الوجود يقدر بالحرى على حفظ هذا الوجود ...

فالذى يتأمل القيامة من هذه الناحية ، إنما يتأمل القدرة غير المحدودة التى لإلهنا الخالق ، الذى يكفى أن يريد ، فيكون كل ما يريد ، حتى بدون أن يلفظ كلمة واحدة . أو يصدر أمراً .. إنها إرادته ، التى هى جوهرها أمر فعال قادر على كل شئ ....

نسمى القيامة إذن معجزة ، ليس لأنها صعبة ، وإنما لأن عقلنا البشرى القاصر يعجز عن إدراكها وكيف تكون .. ولكن الإيمان دائرته أوسع وأعمق .. يقبل ذلك بسهولة معتمداً على الوحى الإلهى 

لذلك فالقيامة هى عقيدة للمؤمنين .

الذى يؤمن بالله وقدرته ، يستطيع أن يؤمن بالقيامة . والذى يؤمن بالله كخالق ، يؤمن به أيضاً مقيماً للموتى . أما الملحدون وأنصاف العلماء ، فلا يصل إدراكهم إلى هذا المستوى . إنهم لا يؤمنون بالقيامة ، كما لا يؤمنون بالروح وخلودها ، كما لا يؤمنون بالله نفسه ... وعندما أقول أنصاف العلماء ، إنما أبرئ العلماء الكاملين فى معرفتهم .

نصف الحقيقة أن الجسد قد تمتص الأرض بعض عناصره ، ويتحلل جزء منه ، وقد يتداخل فى أجساد أخرى . والنصف الثانى أن المادة لا تفنى . فأينما ذهب الجسد ، فمكوناته موجودة ، ومصيرها إلى الأرض أيضاً .. والله غير المحدود يعرف تماماً أين توجد عناصر الجسد ، ويقدر على إعادتها مرة أخرى إلى حالتها ، الله بقدرته اللانهائية . وبخاصة لأنه يريد هذا ، ولأنه قد وعد به البشرية على ألسنة الأنبياء . وفى كتبه المقدسة

إذن القيامة فى جوهرها ، تعتمد على الله تبارك اسمه . تعتمد على إرادته ، ومعرفته ،وقدرته

فمن جهة الإرادة : هو يريد للإنسان أن يقوم من الموت ، وأن يعود إلى الحياة . وقد وعده بالقيامة والخلود . وتحدث عن القيامة العامة بصراحة كاملة وبكل وضوح . وما دام الله قد وعد إذن لابد أنه ينفذ ما قد وعد به .

ومن جهة المعرفة والقدرة : فالله يعرف أين يوجد عناصر الأجساد التى تحللت ، وأين توجد عظامها . ويعرف كيفية إعادة تشكليها وتركيبها . كما يعرف أيضاً أين توجد أرواح تلك الأجساد ، ويسهل عليه أن يأمرها بالعودة إلى أجسادها ، ويسهل عليها ذلك . وهو يقدر على هذا كله ، جل إسمه العظيم ، وتعالت قدرته الإلهية . وبكل الإيمان نصدق هذا ..

 إن الذى ينكر إمكانية القيامة ، هو بالضرورة ينكر المعجزات جملة . وينكر الخلق من العدم . وينكر قدرة الله ، وقد ينكر وجوده أيضاً .

مثال ذلك الصدوقيون الذين " يقولون إنه ليس قيامة ، ولا روح ، ولا ملاك " ( أع 23 : 8 ) . حقاً ، إن عدم الإيمان بأمر ما ، يؤدى إلى عدم الإيمان بأمور أخرى كثيرة .

أما المؤمنون ، الذين يؤمنون بالله ، ويؤمنون بالمعجزة ، ويؤمنون بعملية الخلق من العدم ، يؤمنون بالقدرة غير المحدودة التى للخالق العظيم ، فإن موضوع القيامة يبدو أمامهم سهل التصديق إلى أبعد الحدود .

ضرورة القيامة :

وكما أن القيامة ممكنة بالنسبة إلى قدرة الله ، كذلك هى ضرورية بالنسبة إلى عدل الله وصلاحه وجوده .

1- إنها لازمة من أجل العدل :

ن أجل محاسبة كل إنسان على أفعاله التى عملها خلال حياته على الأرض ، خيراً كانت أم شراً

فيثاب على الخير ، ويعاقب على الشر . ولو لم تكن قيامة ، لتهالك الناس على الحياة الدنيا ، وعاشوا فى ملاذها وفسادها ، غير عابئين بما يحدث فيما بعد ! وأيضاً

إن لم تكن قيامة ، لساد الظلم واستبداد القوى بالضعيف ، دون خوف من عقوبة أبدية . أما الإيمان بالقيامة وما يعقبها من دينونة وجزاء ، فإنه رادع للناس . إذ يشعرون أن العدل لابد سيأخذ مجراه : إن لم يكن فى هذا العالم ، ففى العالم الآخر .

2 – إن الله قد وعد الإنسان بالحياة الأبدية . ووعده هو للإنسان كله . وليس للروح فقط التى هى جزء من الإنسان .

فلو أن الروح فقط أتيح لها الخلود والنعيم والأبدى ، إذن لا يمكن أن نقول إن الإنسان كله قد تنعم بالحياة الدائمة ، وإنما جزء واحد منه فقط ، بينما قد حرم بالجسد . إذن لابد بالضرورة أن يقوم الجسد من الموت وتتحد به الروح . ويكون الجزاء الأبدى للإنسان كله ..

3 – ولولا القيامة لكان مصير الجسد البشرى كمصير أجساد الحيوانات !

ما هى إذن الميزة التى لهذا الكائن البشرى العاقل الناطق ، الذى وهبه الله من العلم موهبة التفكير والاختراع والقدرة على صنع مركبات الفضاء التى توصله إلى القمر ، وتدور به حول الأرض وترجعه إليها سالماً .. والذى قد قام بمخترعات أخرى مذهلة كالكومبيوتر والفاكس وغيرهما .. هل يعقل أن هذا الإنسان العجيب الذى سلطه الله على نواح عديدة من الطبيعة ، يؤول جسده إلى مصير كمصير بهيمة أو حشرة أو بعض الهواء ؟! إن العقل لا يمكن أن يصدق هذا ...

 إن قيامة الجسد تتمشى عقليا مع كرامة الإنسان .

الإنسان الذى يتميز عن جميع المخلوقات الأخرى ذوات الأجساد ، والذى يستطيع بما وهبه الله أن يسيطر عليها جميعاً ، وأن يقوم لها بواجب الرعاية والاهتمام إذ أراد ، أو أن يقوم عليها بحق السيطرة والاستخدام ... فكرامة جسد هذا المخلوق العاقل لابد أن تتميز عن مصير باقى أجساد الكائنات غير العاقلة وغير الناطقة ، التى هى تحت سلطانه ...

4 – والقيامة لازمة أيضاً من أجل التوزان .

ففى الأرض لم يكن هناك توازن بين البشر . ففيها الغنى والفقير ، المنعم والمعذب السعيد والتعيس ... فإن لم تكن هناك مساواة على الأرض ، فمن اللائق أن يوجد توزان فى السماء . ومن لم ينل حقه على الأرض ، يمكنه أن يناله فى العالم الآخر ، ويعوضه الرب عما فاته فى هذه الدنيا . وقصة الغنى ولعازر المسكين التى وردت فى الإنجيل المقدس ( لو 16 ) تقدم لنا الدليل الأكيد على التوازن بين الحياة على الأرض ، والحياة بعد الموت .

5- القيامة ايضاً لتقدم لنا الحياة المثالية التى فقدناها هنا .

تقدم لنا صورة الحياة الجميلة الرائعة فى العالم الآخر ، حيث ل ا حزن ولا بكاء ، ولا فساد ولا ظلم ، ولا عيب ولا نقص . بل حياة النعيم الأبدى ، والإنسان المثالى الذى بلا خطيئة .. مع العشرة الطيبة مع الله وملائكته وقديسيه . ما أجمل هذا وما أروع .

ختاماً فى ظل الحديث عن هذه السعادة ، نرجو لبلادنا حياة الرفاهية والرخاء والسلام ، ونرجو لكم جميعاً حياة سعيدة ، وكل عام وأنتم بخير .

لقيامة هى قيامة الجسد وحده أما الروح فهى دائمة الحياة

أهنئكم يا أبنائى وأخوتى جميعاً بعيد القيامة المجيد ، راجياً فيه من الرب خيراً لبلادنا المحبوبة ، فى كل نواحى الحياة اجتماعية واقتصادية وسياسية . كما نرجو لكم سعادة ورفاهية .

فينا طبيعتان متمايزتان :

وأزد فيما أهنئكم بالعيد ، أن نتأمل معنى القيامة ونرى ما الذى يقوم .. إننا حسب تكويننا البشرى فينا طبيعتان متحدتان ، هما الجسد والروح : الجسد طبيعة مادية ، والروح طبيعية غير مادية . الجسد مرئى ، والروح غير مرئية . الجسد طبيعة قابلة للموت ، والروح حية لا تموت . هذه ميزة ميزنا بها الله على كل الكانئات الى على الأرض : أن لنا الروح التى هى دائمة الحياة .

 

لذلك فلا يوجد موت كلى للإنسان . إنما هو موت للجسد فقط بانفصاله عن الروح التى تبقى حية بعد موت الجسد .

وعلى هذا القياس ، فالقيامة هى قيامة الجسد وحده . لأن الروح لم تمت حتى تقوم وهكذا لا نقول بقيامة الروح ، إنما بعودة الروح ، أى بعودتها إلى الجسد ليقوم .

 

هذه الروح الإنسانية هى روح حية خالدة ، عاقلة ناطقة وهى أسمى وأرقى ما فى الإنسان .. الجسد هو الغلاف الخارجى الذى يغلف الروح ، بينما الروح هى الجوهر . الجسد هو الصدفة التى تحوى اللؤلؤة ، والروح هى الؤلؤة . ومهما كان الجسد جميلاً وبهياً من الخارج ، فلا قيمة لجماله إن لم تكن الروح جميلة أيضاً . بل إن جمال الروح يعطى ملامح الجسد جمالاً أروع . بينما لو دخل الشر إلى الروح ، تكون ملامح الجسد منفرة ....

 

الجسد يعتمد فى كيانه ووجوده على الروح . فإن فارقته الروح ، تفارقه الحياة وكل مظاهرها . تفارقه الحرارة فيبرد ، والحركة فيخمد . ويصبح بلا نبض ، ، بلا نفس ، بلا شعور بلا حس بلا صوت . توقف المخ والقلب وكل الأعضاء . وأصبح جثة هامدة يوارونها التراب . كما قال الرب لأبينا آدم " أنت تراب ، وإلى التراب تعود "

إذن كل ما كان للجسد من نشاط ، كان مصدره الروح .

 

أنواع الأرواح :

على أن الأرواح تختلف فى نوعايتها ودرجاتها .

أعظم الأرواح درجة هم الملائكة ، الذين لهم قوة عجيبة جداً .. يستطيعون فى لمح البصر أن ينزلوا من السماء إلى الأرض ، أو أن يصعدوا من الأرض إلى السماء . حسبما يكلفهم الله من مهمات يقومون بها فى طاعة كاملة وفى سرعة هائلة ، وأحياناً بأسلوب معجزى حسب نوع المهمة .

وأرواح الشياطين هى أيضاً قوية ، ولكنها شريرة . فقد كان الشيطان ملاكاً حينما خلقه الله ولما سقط فقد قداسته وطهارته ، ولكنه لم يفقد طبيعته ...

والروح الإنسانية هى أيضاً روح قوية . ولكننا بمزيد الأسف لم نستخدم كل طاقات أرواحنا . مثلما استخدمنا طاقات العقل .

فاستطاع العقل أن يصل إلى الكواكب ، وأن يخترع الأقمار الصناعية والكومبيوتر والفاكس والتليفونات عابرة القارات والمحيطات ، وأن يستخدم الليزر ، ويرقى فى كل مجالات العلم ... ولم تلحق به الروح فى رقيه ...

ولما لم نستخدم طاقات الروح ، ضعفت مثل آية طاقة أو موهبة تضعف بعدم استخدامها أو بقلة استخدامها ....

 

كثير من النساك وصلوا إلى درجات من شفافية الروح .

ووصلوا إلى قامات روحية عالية فى صلتهم بالله – تبارك إسمه – الذى منحهم مواهب عديدة أضيفت إلى القوة الروحية الطبيعية التى لأرواحهم .. بل إن جماعات من اليوجا ومن الهندوس أمكنهم بتدريبات روحية قوية أن يكشفوا الطاقات القوية التى لأرواحهم حسب طبيعتها البشرية . وقاموا بأعمال مذهلة يقف أمامها العقل متعجباً ومبهوراً ..

إن كان الأمر هكذا ، فكم بالأولى أهل الإيمان ، الين يتولى روح الله قيادة أرواحهم . وهم قد عاشوا فى تسليم كامل للمشيئة الإلهية ... ‍! وكما يقول بولس الرسول عنهم إنهم ينقادون بروح الله ( رو 8 : 14 )

 

الأرواح الكبيرة :

هناك أرواح كبيرة ، فوق المستوى الجسدى والنفسى والمادى .

هذه تستطيع أن تقود نفسها ، وأن تقود غيرها ، وأن يكون لها تأثير قوى على المجتمع الذى تعيش فيه . بل كل من يتقابل مع هذه الأرواح ، يعر أنه منجذب لتأثيرها ، خاضع للقوة التى فيها .. هذه هى أرواح قيادية . وأرواح يمكنها أن تحمل مسئوليات ضخمة تعجز عن حملها الأرواح العادية .

إنها أرواح كبيرة فى قدراتها ، فى مواهبها ، فى شفافيتها ، فى معرفتها وحكمتها ، فى صلتها بالله . كبيرة فى مستواها ، وفى عملها ومعاملاتها ، وفى تأثيرها على غيرها . ينطبق على صاحب هذه الروح قول المزمور " وكل ما يعمله ينجح فيه ( مز 1 )

هذه الأرواح الكبيرة استطاعت أن تنال قوة من فوق ، من عمل الروح القدس فيها .

حسب الوعد الإلهى : إنكم " ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم " ( أع 1 : 8 ) . وأيضاً قوله " تلبسون قوة من الأعالى " ( لو 24 : 49 ) .

ومن أمثلة هذه الأرواح : أرواح الأنبياء والرسل ، وكبار القديسين والرعاة . ومن قد نالوا من الله مواهب فائقة للطبيعة ( 1كو 12 ) .

هذه الأرواح الكبيرة – حتى بعد الموت يأتمنها الله على مهمات معينة تقوم بها على الأرض

كما يحدث بالنسبة إلى بعض القديسين ، يرسلهم الله إلى الأرض لكى يبلغوا رسالة خاصة ، أو أن يقوموا بمعجزة شفاء ، أو تقديم معونة معينة لشخص ما أو لمجموعة من الناس .

ليست كل الرواح يأتمنها الله على صنع معجزة ، لأنه توجد أرواح ضعيفة إذا أجترحت معجزة ، يدخل العجب إلى قلبها ، وترتفع فى داخلها بكبرياء ، لأنها لم تحتمل تلك الكرامة . وكما قال القديس الأنبا أنطونيوس إن أحتمال الكرامة أصعب من احتمال الإهانة ...

فإن تكبرت الروح تفقد سموها وتسقط .

كما تكبر الشيطان وسقط ( أش 14 : 13 ، 14 ) . وكما قال الكتاب " قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح " ( أم 16 : 18 ) .

 

ضباب الجسد :

الروح تعيش الآن محاطة بضباب الجسد وضباب المادة .

وهذا الضباب يمنع عنها الكثير من المعرفة ، ويعوقها فى كثير من الأحيان عن التأمل فى الإلهيات والتأمل فى السماويات . بل قد يجذبها الجسد معه إلى أسفل ، فتستغرق فى أمور العالم الحاضر . أو قد تضعف جداً ، فتشترك معه فى شهواته الجسدية وتسقط ، أو على الأقل تستنفذ طاقتها الروحية فى الصراع مع الجسد " الروح تشتهى ضد الجسد ، والجسد يشتهى ضد الروح ، ويقاوم أحدهما الآخر " ( غل 5 : 17 )

الأرواح الضعيفة :

الروح الضعيفة تخضع للجسد ، والروح القوية تنتصر عليه . والروح المتوسطة تصارعه . فأحيانا تعلو عليه ، وأحيانا تنجذب إليه .

الروح القوية تغلب الشيطان أيضاً . يحاول أن يجس نبضها لكى يعرف كنه معدنها .. مرة بفكر ، وأخرى بإغراء خاص ، أو بمداعبة الحواس . فإن ثبتت صامدة أمامه ، وقد أغلقت كل أبوابها فى وجهه .. حينئذ يشعر بأنها من نوع غير عادى ، فيهابها ويخشاها .. وقد ترتقى مثل هذه الروح إلى الوضع الذى تستطيع فيه أن تخرج الشياطين من المصروعين منها . وتكون لصلواتها قوة ترعب الشياطين .

أما الأرواح التى خضعت للشياطين ، وسارت فى تيارهم ، فهذه تكون للشياطين سلطة عليها فى وقت الموت .

يلتف الشياطين حولها ساعة الموت ، ولا يعطونها فرصة للتوبة ، بما يلقونه فى عقلها من أفكار وشهوات وأمنيات ، أو ما يلقونه فيها من شكوك إيمانية كثيرة . حتى إذا ما خرجت هذه الروح من الجسد ، يجذبونها معهم إلى الهاوية ، لتكون فى صبحتهم بعد الموت كما كانت معهم خلال حياتها الأرضية .

أصعب من هذا يا أخوتى ما يحدث لروح الملحد وغير المؤمن .

هذا الذى لا يؤمن بوجود الله ، ولا بالحياة الأخرى .. يحدث له فى ساعة الموت أن ترتعب روحه التى تشعر بأن الموت بالنسبة إليها هو فناء وضياع ، ونهاية كاملة لوجودها  . وتتمنى لو كانت تستطيع التخلص من أفكار الشك التى عليها ... وفى هذه الحالة يغذى الشيطان كل هذه الأفكار ، وكأنها نار يلقى عليها حطباً . فإذا خرجت روح الملحد من جسده ، ووجد أن هناك حياة بعد الموت ، يشعر بخوف كبير بسبب عدم إيمانه ، ويشعر أنه غريب فى جو لم يألفه . فتستطيع أن تجذبه إليها أيضاً . وتقول له : أنت للنا بجملتك ...

 الأرواح القوية :

أما الأرواح القوية فلا تخف . هى أقوى من الخوف .

إنها لا تخاف الموت ، لأنها أستعدت له بالإيمان والتوبة . ولا تخاف مما بعد الموت ، إذ لها رجاء فى الحياة الأبدية والعشرة مع الله فيها .

إنها تدرك تماماً أن الموت هو مجرد انتقال من حياة أرضية مادية ، إلى حياة سمائية أفضل بكثير . فتفرح بما يسمونه الموت . ولكنها تسميه الأنطلاق من روابط الجسد المادية . وهى لا تخاف أيضاً من الشياطين الذين لا يجدون لهم مكاناً فيه . والأجمل من هذا كله أنها فى ساعة الموت ، تحيط بها الملائكة ، وتحملها إلى الفردوس ( لو 16 : 22 ) وتزفها فى فرح إلى مجمع الأبرار .

الأرواح القوية – فى حياتها على الأرض – تستطيع أن تجذب الجسد إلى حياة الطهارة ، ويمكنها أن تحمله وتصعد به إلى ما هو فوق مستواه المادى .

أنظروا إلى روح مثل روح يوسف الصديق ، كيف رفعته روحه الطاهرة القوية إلى مستوى فوق الجسد وفوق كل شهواته وملاذه ، فكان سامياً جسداً وروحاً على الرغم من الإغراءات  التى أحاطت به ( تك 39 ) .

كذلك فى الصوم ، إذا انشغل الإنسان بالفكر الروحى ، لا يشعر بتعب الجسد مهما صام . لأن الروح حينئذ ترفع الجسد وتحمله . مثال ذلك من ينشغل بقصة جميلة جداً تستهوى روحه وفكره : إن قالوا له تعال فالأكل معد ، يقول ليس الآن . ولا يشعر بجوع فروحه منشغلة .. وهكذا أيضاً من ينشغل بألحان أو قراءات أو تأملات روحية ، تجعل روحه فى حالة لا تعباً فيها بتعب الجسد .

ومثل هذا يحدث لنا فى أيام مقدسة مثل أسبوع الآلام ، وبالذات يوم الجمعة البيرة بكل ما تحمل من صوم شديد

الروح القوية تحمل الآخرين أيضاً . وتحتمل اساءاتهم .

الروح الضعيفة هى التى يقوى عليها الغضب والضيقة والرغبة فى الانتقام من اساءات الناس . أما الروح القوية فهى كالجبل الراسخ تصدمه الرياح والزوابع والرمال ، وهو صامد لا يتأثر .. لذلك قال الرسول " يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعفات الضعفاء ، ولا نرضى أنفسنا " ( رو 15 : 1 )

لا شك أن الذى يحتمل هو أقوى روحاً من الذى يعتدى ‍!

الروح القوية لا تهزها الأخبار ولا الأحداث بل لا يتعبها لمرض والألم . يقول الأطباء عن أمثال هؤلاء إن روحهم المعنوية قوية

 

الإنسان الذى له روح قوية يتمتع بحرارة الروح .

تكون صلاته حارة ومستجابة ، تستطيع أن تفتح أبواب السماء . وكل عمل طيب تعمله الروح فى حرارة ، بغير تكاسل ولا تهاون ، بل بحماس وغيره ونشاط . وإن قامت بمسئولية معينة أو بخدمة للغير ، تفعل ذلك بكل عواطفها . لذلك ينصحنا الكتاب بأن نكون " حارين فى الروح " ( رو 12 : 11 ) .

 

هذه الروح الحارة الطاهرة ، تكون لها هيبة .

مثل هيبة الآباء أمام أبنائهم ، وهيبة المرشدين أمام تلاميذهم . يكون لها هيبة أمام أفكار الخطية . فأى فكر أو شعور خاطئ لا يقوى على الاقتراب إليها . بل تكون لها هيبة أمام الأشرار وأمام الشياطين . فيخجل الأشرار أن يتسهتروا أمام روح طاهرة ، ولا يجرؤون على ذلك ...

يا أخوتى وأبنائى الأحباء .

إن كنا ونحن نتحدث عن القيامة نذكر الأبدية ومصيرنا الأبدى ، فلنستعد لذلك بتقوية أرواحنا والسلوك بالروح .

فقد قال الكتاب " أسلكوا بالروح ، ولا تكملوا شهوة الجسد " ( غل 5 : 16 ) . فالسلوك بالروح هو الذى يوصلنا إلى الله .

والشخص الذى يسلك بالرجوع ، لا يكون جسدانياً ولا مادياً ولا شهوانياً . بل تكون حياته روحية ، وأهدافه روحية ، ووسائله روحية ، وكلماته روحية ، ومعاملاته روحية وأفكاره روحية ، وأحاديثه روحية . وكل من يتصل به ينتفع بأسلوبه الروحى وقدوته الروحية ... مثل هذا يكون له فى القيامة نصيب مع الأبرار الذين لم يسلكوا حسب الجسد ، بل حسب الروح ( رو 8 : 1 )

ولكى نصل إلى هذا علينا بتقوية أرواحنا .

نغذى روحنا بالصلاة والتأمل والقراءات الروحية والتفكير الروحى . ونغذيها بالفضائل الأساسية كمحبة الله ومحبة الناس ومحبة الغير . ونغذيها بالسلام والوداعة والإيمان والإتضاع . ونبعد عنها كل ما يهدم بناءها على الأرض ، ويقوى أرواحنا ، ويجذبنا إليه ، فتسكن محبته فى قلوبنا ونستطيع بنقاوة الروح أن نسكن فى السماء مع الله ، ومع أرواح الملائكة والقديسين ، بعد القيامة ...

 

 

 

 

 

 

 

 

(3 )

لماذا يهتم الله بالأجساد ويمنحها القيامة من الموت ؟

 

 

أهنئكم  يا أخوتى الأحباء بعيد القيامة المجيد ، راجياً لكم فيه ولبلادنا العزيزة كل خير وبركة .

وفى مناسبة عيد القيامة ، نود أن يكون لنا تأمل روحى فى القيامة ، حتى نستشف ما تحوى من معان عميقة ...

 المعروف أن القيامة هى قيامة الجسد ، لأن الروح عنصر حى لا يموت . فلماذا اهتم الخالق العظيم بقيامة الأجساد ، على الرغم من صعوبة عملية قيامة الأجساد ؟

هذه الأجساد التى ماتت وتحللت وامتصت الأرض كثيراً من عناصرها ، وأكل الدود ما أكله منها ، وتحول الباقى إلى تراب ، حسب قول الرب لأبينا آدم بعد أن أخطأ " لأنك تراب وإلى التراب تعود " ( تك 3 : 19 ) . وكما قيل فى سفر الجامعة عن الموت " يرجع التراب إلى الأرض كما كان . وترجع الروح إلى الله الذى أعطاها " ( جا 12 : 7 ) . والأصعب من هذا أن بعض الأجساد قد حرقت ، والبعض أفترسته حيوانات ، والبعض دخل فى تركيبات أخرى معتدة .

إذن معجزة إعادة الأجساد إلى وضعها الأول هى معجزة خارقة للطبيعة ليس من السهل فهمها  يضاف إليها مناداة الأرواح من مستقرها ، لتتعرف على أجسادها وتتحد بها ، فتعود إليها الحياة ....

 فقيام الله -  جل إسمه – بهذه المعجزة الجبارة التى تشمل ملايين الملايين من الأجساد من أيام أبينا آدم حتى يوم القيامة .. لابد وراء هدف إلهى فى الإهتمام بهذه الأجساد ، ليكون لها وجود واستمرارية فى العالم الآخر ...

فهل تستحق الأجساد من الله كل هذا الاهتمام ؟ ولماذا ؟

أما كان ممكناً أن تبقى الأرواح وحدها فى العالم الآخر ، بينما تترك الأجساد للفناء ؟‍! وتكون السماء للأرواح فقط ملائكة وبشراً ! ولا داعى لتلك المعجزة الصعبة فى أقامة الأجساد !!

ولكن الروح وحدها لا تكون إنساناً . فالإنسان مركب من روح وجسد . ولابد أن يقوم كله ، ويقف أمام الديان العادل لينال حسابه وجزاءه حسبما فعل وهو فى الجسد خيراً كان أم شراً " ( 2كو 5 : 1. )

أحب أن أقول أولاً إن الله قد اهتم بالجسد البشرى منذ بدء خلقه للإنسان :

وذلك  بما وضعه فى هذا الجسد من آلات دقيقة عجيبة .

مهما أوتى عقل الإنسان من ذكاء ، لا يستطيع أن يأتى بواحدة من هذه الأجهزة البشرية .

مثال ذلك ما وضعه الله فى اللسان من النطق ( إن خدش هذا اللسان وأصابته لعثمة أو عجز فى النطق ، لا تستطيع كل مهارات البشر أن ترجعه إلى وضعه السليم .. ونقول نفس الوضع عن جهاز السمع . إن فقدت الأذن البشرية قدرتها ، وأصيب الإنسان بالصم ، هل يمكن لكل التكنولوجيا الحديثة أن تعيد إليه سمعه ؟! كلا بلا شك ( إن جهاز السمع معجزة إلهية  ...

وكذلك ما وضعه الله فى المخ من مراكز للحركة وللبصر والنطق أيضاً مع مراكز التفكير ...

المخ هو هذه الآلة الدقيقة العجيبة التى إن توقفت ، توقفت حياة الجسد كله . والتى إن أختل أحد مراكزها ، صار الإنسان عاجزاً تماماً من جهة عمل هذا المركز . إن أختل مركز الحركة مثلاً ، أصيب الإنسان بالشلل ، وهكذا مع باقى مراكز المخ .

وما نقوله عن المخ ، نقوله عن الأعصاب ، وما وضعه الله فيها من الإحساس . فإن تلفت الأعصاب تماماً ، لا توجد قوة بشرية تعيدها إلى حالتها الأولى ...

وبالمثل ما وضعه الله فى كل آلة من آلات جسدنا الدقيقة العجيبة ، ومن الوظائف المتنافسة .. التى إن أختل بعضها ، يكون من الصعب جداً أن يرجع إلى وضعه الأول ، أو إلى دقة حالته الأولى .

نضيف إلى كل هذا اهتمام الله بالجسد فى القيامة .

حينما يلبس هذا المائت عدم موت ، ( 1 كو 15 : 53 ، 54 ) . وحينما يتحول الجسد الترابى – فى القيامة – إلى الجسد سماوى ، وإلى جسد روحانى ( 1كو 15 : 49  ، 44 ) .

 

ثم لماذا أيضاً يقام الجسد ، على الرغم من كل من يقال ضده ؟!

 ما أكثر الخطايا التى تنسب إلى الجسد ، وما أكثر الفضائل التى تنسب إلى الروح . حتى أنه كثيراً ما يوصف الشرير بأنه إنسان جسدانى ، ويصف البار بأنه إنسان روحانى .. ! فلماذا يقام الجسد إذن ؟!

ومع أننا لا ننكر أن الجسد طبيعته مادية ، والروح طبيعتها روحية . ومع ذلك فغالبية الأخطاء يشترك فيها الجسد والروح معاً . وأيضاً قد تكون بعض الأخطاء من خطايا الروح وحدها كالكبرياء مثلاً أو الحسد . وإن كان الجسد قد يعبر أحياناً عن إحدى هاتين الخطيتين وأمثالهما بطريقته الخاصة .

على أننا لا نستطيع أن نقول إن الجسد شر فى ذاته .

لأنه لو كان كذلك ما خلقه الله .. فالله لا يمكن أن يخلق شراً . كما أنه مر وقت علىالبشرية – قبل الخطيئة – كان الجسد والروح كلاهما بارين . ولو كان الجسد خطيئة فى ذاته ، ما كنا نكرم رفات القديسين وعظامهم ونتبارك بها . أيضاً لو كان الجسد شراً فى ذاته ، ما كان يقيمه الله .. إنما الجسد بطبيعته قابل للميل إلى الخير والشر ، حسبما توجهه إرادة الإنسان . وكذلك الروح ...

" الجسد يمكنه أن يعمل الخير . ولذلك قال الكتاب " مجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله " ( 1 كو 6 : 2. ) .

إذن يمكن أن نمجد الله بأجسادنا .

مثال ذلك الجسد العابد ، الذى يركع أمام الله ، ويسجد ، ويرفع يديه إلى فوق بالصلاة ويقرع صدره ندماً على خطاياه . الجسد الذى يضبط نفسه بالصوم . والذى يستخدم لسانه فى التسبيح والترتيل والصلاة ، وفى تلاوة كلام الله وإنشاده .. كما يستخدم لسانه فى الوعظ والتعليم والنصح والكلمة الطيبة ... وهو الذى يبذل ذاته من أجل وطنه ، وهو الذى يمد يده ليعطى للفقير وللمسكين .

فلماذا ننظر إليه فى إقلال لشأنه ؟! أليست أصابع الفنان هى التى تتحرك على آلة موسيقية ، فتتحرك معها القلوب ، ويمكنها أن تحركها نحو الخير . أليست أصابع الفنان تتحرك بالرسم أو النحت أو التصوير ، فتقدم فناً – إن أرادت – تحرك به القلوب نحو الخير

الجسد إذن ليس شراً فى ذاته ، إنما يمكن أن يعمل فى مجالات الخير أو الشر ، والروح كذلك تعمل فى كليهما . ويشتركان معاً .

إن بعض الذين ينكرون القيامة ، يبدون فى أسلوبهم احتقار الجسد .

على اعتبار أن الجسد هو من المادة ، بينما الروح لها جوهر يسمو بما لا يقاس عن طبيعة الجسد . ولكننا نقول إنه على الرغم من أن الإنسان من طبيعتين أحداهما روحية والأخرى مادية ، وإلا أنهما اتحدا فى طبيعة واحدة هى الطبيعة البشرية .

والجسد على الرغم من أنه من المادة ، إلا أنه يستطيع أن يسلك بطريقة روحانية ، إذا اشترك مع الروح فى العمل الروحى .

ومثل الجسد العابد ، الجسد الحر غير المستعبد لعادة .

لا تستعبده عادة رديئة ، كالتدخين ، أو السكر  ، وإدمان الخمر أو إدمان المخدرات ، وغير خاضع لأية عادة شهوانية ، لا شهوة الزنا أو البطنة .. إنما هو جسد منضبط .

مثل هذا الجسد ، هو جسد طاهر

لا يسمح لنفسه أن يقع فى دنس أو نجاسة  ، ولا أن يوقع غيره فى خطيئة ما.  لا يسعى إلى الخطيئة . وإن طرقت بابه ، لا يقبلها . كما فعل يوسف الصديق الذى رفض الدنس حينما سعى ذلك إليه . وقال " كيف أفعل هذا الشر العظيم ، وأخطئ إلى الله ؟! " ( تك 39 : 9 ) .

وهكذا يكون الجسد الطاهر محتشماً أيضاً .

ومن الأجساد الخيرة ، الجسد الذى يتعب لأجل عمل الخير ...

سواء فى رفع مستواه الإنسانى ، كما  يقول الشاعر :

وإذا كانت النفوس كباراً                                  تعبت فى مرادها الأجساد

ومن هذا النوع أيضاً : الجسد الذى لا يتكاسل ولا يهمل فى أداء ، أو فى القيام  بمسئولية تعهد إليه ، أو يتطوع من ذاتها لإدائها . والذى يسرع لإنقاذ غيره بكل همة . ويكون موضع ثقة فى كل ما يقوم به من عمل . إنه جسد خير .

إنه جسد خدوم ، يبذل ذاته وراحته لكى يريح غيره .

نوع آخر من الأجساد الخيرة ، الجسد الذى يقبل تحمل الآلام.

مثل ذلك الشهداء الذين يضحون بأجسادهم ، أو يفقدون بعض أعضائهم من أجل وطنهم أو دينهم ، أو من أجل إنقاذ الآخرين كعمال المطافئ مثلاً ، أو منقذى الغرقى ، أو المتبرعين بدمائهم أو بأعضائهم لأجل حياة غيرهم .. كلها أجساد تعمل فى مجال الخير لنفع الغير بأسلوب من التضحية أو الفداء .

 نوع آخر من الأجساد الفاضلة : الجسد الوديع المتواضع .

الذى لا يتعالى على غيره ، ولا يمشى فى الأرض مرحاً ، ولا يجلس فى كبرياء ، ولا يسعى إلى الرفاهية والمتعة على حساب غيره ، ولا يتهافت على المتكآت الأولى ، ولا يزاحم الناس فى طريق الحياة . بل يقدم غيره على نفسه إيثاراً وحباً وتواضعاً ....

وبالإضافة إلى كل هذا نقول إن الجسد هو المعبر العملى عن مقاصد الروح .

إن كانت الروح هى السلطة التشريعية فى حياة الإنسان ، يكون الجسد هو السلطة التنفيذية ، والضمير هو السلطة القضائية .

الجسد هو الكيان المرئى للإنسان ، وهو العنصر العامل .

الروح العاقل تفكر ، ولكن الذى ينفذ هو الجسد . ولولا الجسد ، لكان عمل الروح هو مجرد وضع نظرى لا يزيد عنه شيئاً .

كل العنصر العملى واقع على الجسد .

قد يضع الفكر خططاً لمخترعات أو تصميمات لها . ولكن الجسد هو الذى يحولها إلى واقع عملى . والأمور النظرية التى تشاءها الروح ، الجسد هو الذى يجعل لها وجود عملى .

الروح والعقل يقدمان مفهوماً للخير . والجسد هو الذى يعمل الخير . هو شريك للروح يعملان معاً : الروح للتخطيط ، والجسد للتنفيذ .

الجسد هو الذى يعمر الأرض ، لولاه ما عمرت .

الفكر وحده لا يقوم بتعمير ، بدون جهاز تنفيذى .

 الروح قد يكون لها بعض الأمانى والأحلام . ولكن الذى يحققها لها هو الجسد . وإلا بقيت فى حدود الرغبات وليس غير ..

الجسد أيضاً هو سبب التكأثر فى الكون.

الروح وحدها ليست مصدراً للتكأثر .

إذن لولا الجسد ما عمرت الأرض ، سواء من جهة العمارة أو الصناعة أو الزراعة وما إلى ذلك . ولولاه ما عمرت أيضاً بالبشر ...

إننا لا نستطيع أن نفصل الجسد عن الروح فى كل تلك الأمور والأعمال . والله لا يفصلهما أيضاً فى الأبدية .

فى العالم الآخر يعود الإتحاد بين الجسد والروح . فلولا هذا الاتحاد لا يكون الإنسان إنساناً . طبيعته خلقها الله هكذا ...

ولولا فنى الجسد ولم يقم ، فأى فرق إذن بينه وبين جسد الحيوان ؟! بينما جسد الإنسان هو أكثر الأجساد سمواً فى تركيبه ، وهو أيضاً أجمل الأجسام وأكثرها قدرة ، وله طاقات متعددة .

الجسد هو الوعاء الذى يحوى الروح .

وكثيراً ما يكون الجسد مطيعاً للروح منقاداً لها ، شريكا ً لها فى الخير ، غير مقاوم لها ... متسامياً فوق مستوى المادة فى نسكياته وزهده .

بل إن الروح تزداد درجة ، حينما تسلك سلوكاً روحياً سامياً على الرغم من اتحادها بمادة الجسد . فتنتصر على هذا العائق المادة ، وتجعل الجسد المادى يسلك معها سلوكاً روحياً . فيتقدس باشتراكه معها فى محبة الله ، وفى محبة الناس ، وفى عمل الخير ...

بالقيامة يلتقى هذا الصديقان – الروح والجسد – اللذان عاشا فى عشرة عجيبة طوال العمر الأرضى  ليكملا عشرتهما معاً فى العالم الآخر ، مشتركين فى دينونة واحدة .

وفى القيامة سيتحول هذا الجسد المادى إلى جسد روحى ( 1 كو 15 ) ويتجلى فى طبيعته ، ويسلك كما يليق بسكان السماء .

مبارك هو الرب الحكيم فى خلقه للإنسان ، العادل فى معاملته له جسداً وروحاً ، الذى يستخدم الكل للخير .

أعود فأكرر تلك الآية الجميلة " مجدوا الله فى أجسادكم وفى أرواحكم التى هى لله " ( 1 كو 6 : 19 ) .. نعم لقد خلق الله الجسد لكى يكون له : ينفذ مشيئته على الأرض ، ويقوم لينال مكأفأته فى السماء .

وانتهز فرصة هذا العيد ، لأطلب أن يعيده الله علينا كل عام بالخير والبركة ، وأن يقدسنا الله جسداً وروحا ، وأن يجعل السلام يسود منطقة الشرق الأوسط ، هذه التى شهدت أول قيامة ممجدة .. نطلب من الله القادر على كل شئ ، أن يعيد إليها الهدوء والسلام وكل عام وجميعكم بخير .

 

 

4

القيامة هي الباب الموصل إلي السماء

حينما يموت الإنسان ، تنفصل روحه عن جسده . ولكن الروح تظل تنتظر الجسد إلى يوم القيامة ، فتتحد به ، ويدخلان معا إلى السماء . إذن السماء هى أملنا وهدفنا ومصيرنا الأبدى .

وقد وجه الله أبصارنا إلى السماء من أول آية فى الكتاب المقدس ، إذ تقول " فى البدء خلق الله السموات والأرض " ( تك 1 : 1 ) . والمقصود بالبدء هنا ، بدء قصة الخليقة . ونلاحظ أنه ذكر السموات قبل الأرض لسموها وعلوها وقداستها .

 

وتحدث عن السموات بصيغة الجمع ، لأنه توجد أكثر من سماء :

أ – سماء طيور : وهى المجال الجوى الذى تسبح فيه الطائراتوالطيور والكتاب يقول عن الطيور " طيور السماء " ( مت 6 : 26 ) .

ب – سماء الفلك : التى توجد فيها الشمس والنجوم والكواكب ، وقد وضع لها الله قوانين دقيقة تحكمها . وعنها قيل فى المزمور " السموات تحدث بمجد الله . والفلك يخبر بعمل يديه " ( مز 19 : 1 ) .

ج – سماء الأرواح والملائكة . وقد أشار إليها القديس بولس الرسول وسماها الفردوس أو السماء الثالثة .

د – وهناك ما هو أعلى وأسمى من هذا كله . وهو ما سماه الكتاب " سماء السموات " ( مز 148 : 4 ) وهى عرش الله . وعنها قال السيد المسيح فى العظة على الجبل " السماء كرسى الله .. والأرض موطئ قدميه " ( مت 5 : 34 ، 35 ) . وهنا نسأل :

 

ما دام الله فى كل مكان ، فما معنى أن السماء هى عرش ؟

معنى ذلك : أن السماء هى موضع مجده ...

الله مطاع فى السماء طاعة مطلقة وسريعة من كل القوات السمائية ومن ملائكته " الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه " ( مز 1.3 : 2. ) . فى السماء مشيئة الله منفذة من الكل ، بلا نقاش ، بلا إبطاء ، بل بكل طاعة وحب . ولذلك نقول للرب فى صلواتنا " لتكن مشيئتك . كما فى السماء ، كذلك على الأرض " ( مت 6 : 1. ) .

على الأرض نجد أناساً ينكرون وجود الله ، وآخرين يقاومونه ويعصون وصاياه ، ويدنسون الأرض بخطاياهم .. أما السماء فهى مكان مقدس ، يليق بمجد الله ، ويتم كل شئ فيه حسب مشيئة الله الصالحة .

والله فى السماء مركز التسبيح من الأجناد السمائية .

إن تأملنا فى السماء يرفع مستوى تفكيرنا ، ويجعلنا نعيش فى جو روحى .

لأننا طالما ننشغل بالأرض ، وتصبح هى مركز تفكيرنا واهتماماتنا ، فإننا نعيش فى جو مادئ ، غرباء عن الله وعن الروحيات والسماويات . أما القديسون الذين ركزوا فكرهم فى الله وفى السماء وما فيها من ملائكة وأرواح الأبرار ، فهؤلاء شعروا أنهم غرباء على الأرض ، موطنهم الأصلى هو السماء ، يشتاقون إلى الرجوع إليه .

ونحن ، أترانا نفكر فى عرش الله ومجده ، أم أننا ننشغل بالأرض والتراب والرماد والمادة .

ونظل هكذا للأسف الشديد ، حتى يدركنا الموت ، فندرك أننا قد ضيعنا العمر فى أمور عديدة لا نأخذها معنا فى أبديتنا .

وفى مناسبة الحديث عن السماء وعرش الله ، أتذكر إننى قلت فى إحدى قصادنى لله

تبارك إسمه :

ما بعيد أنت عن روحى التـى                        فى سكوت الصمت تستوحى نداك

فى سماء أنت حقـاً ، إنـتما                          كل قلب عاش فى الحب سمـاك

عرشك الأقدس قلب قد خـلا                         من هوى الدنيا فلا يحوى سواك

هى ذى العين وقد أغمضهـا                         عن رؤى الأشياء على أن أراك

وكــذا الأذن لقد أخليـتها                             من حديث الناس حتى أسمعك ..         

 

فى مرة من المرات يا أخوتى ، التقى بأحد القديسين واحد من الملحدين . وسأله الملحد " أين يوجد الله ؟ فوضع القديس يده على قلبه ، وقال " يوجد هنا " ... نعم ، يوجد الله فى كل قلب يحبه ، لأن الله موجود فى كل مكان ، لا تحده سماء ولا أرض ...

ولكن الله يريدنا أن تتعلق قلوبنا وأفكارنا بالسماء ، لكى نسمو .

وهكذا دعانا أن نصلى ونقول : " أبانا الذى فى السموات " لكى نتذكر السموات أيضاً فى صلواتنا ، بينما الله موجود فى كل مكان . ولكننا نذكره بالأكثر فى سمائه ، حيث هو ممجد ومسبح . كما نذكره فى سمائه التى سينقلنا إليها ، لنكون معه فى كل حين ، فى حياة قدسية طاهرة ..

وهكذا فنحن دائما حينما نصلى ، نرفع أنظارنا إلى فوق ، إلى السماء .

وفى ذلك نتذكر أن لنا أسرة كبيرة هناك ، من الملائكة ومن أرواح القديسين الذين سبقونا إلى السماء ، بعد أن انتصروا فى جهادهم على الأرض ضد الخطايا والشهوات . وأصبحوا من " أهل

بيت الله " ( أف 2 : 19 ) .

ونجد أن الإنجيل المقدس يحدثنا كثيراً عن " ملكوت السموات " ، أى مملكة الله التى فى السموات ، من كل الذين أحبوه وأطاعوه ، وجعلوا قلوبهم هياكل مقدسة له .

إن السماء لا يدخلها إلا الطاهرون .

أما الخطاة ، فيبقون فى الظلمة الخارجية ( مت 25 : 3. ) . يكفى أنهم نجسوا الأرض بخطاياهم . فلم يعودوا مستحقين للوجود مع الأطهار فى السماء .

لذلك حينما نذكر السماء : إنما نضع فى أذهاننا كيف نستعد لها . وكيف نسلك بالروح ، ونتعلق بالأمور الروحية التى تقربنا إلى الله ، ونجد لذة فى الصلاة وفى التأمل وفى الحديث عن الإلهيات ، وفى محبة اله وكل ما يوصلنا إليه .

وهكذا ندخل فى مذاقة الملكوت ونحن على الأرض .

نذوق شيئاً – مهما كان ضيئلاً – من الجو الروحي الموجود فى السماء ، ونتمتع بالعشرة الإلهية خلال حياتنا الأرضية ، ونذوق محبة الله ، ونجد عمقاً فى كلامه الإلهى يغذى أرواحنا . ونحيا تلك العبارة التى قالها الكتاب التى قالها الكتاب وهى " غير ناظرين إلى الأشياء التى ترى ، بل إلى التى لا ترى ، لأن الأشياء التى ترى وقتية . أما التى لا ترى فأبدية "  ( 2 كو 4 : 18 ) .

نتدرب أيضاً كيف نغذى أرواحنا بمحبة الله .

ونغذيها أيضاً بكلمة الله ، لأنه " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ( مت 4 : 4 ) . ونغذيها بالحديث مع الله فى الصلاة بعمق وحب ، وفهم وروحانية . كما كان القديسون يصلون ، فتسبح أرواحهم فى كلمات الصلاة ويجدون فيها أعماقاً للتأمل . حتى أنهم من حلاوة كلام الصلاة فى أفواهم ، ما كانوا يستطيعون بسهولة أن ينتقلوا من كلمة إلى أخرى ...

إن لم ندرب الروح على كل هذا ، ماذا يكون مصيرها حينما تنتقل إلى السماء ؟ كيف تحيا هناك وكيف تسلك ؟!

نعم ، إن كانت الروح مرتبطة بالجسد كل الارتباط ، وكل متعتها فى شهواته . فعندما تفارق الجسد ، كيف تحصل على متعتها بعيداً عنه إلى يوم القيامة ؟ وماذا يكون عملها ؟ إنه سؤال يحتاج إلى جواب ... ! والجواب الذى أعرفه ، هو أنه يجب أن نتدرب ونحن هنا على متعة الروح . أى متعتها وهى قائمة بذاتها ، وليس من خلال الجسد ...

ومتعة الروح تجدها بلا شك فى الروحيات فى الله ، فى التأمل فى الإلهيات ، فى الغذاء الروحى كما قال الكتاب " اعملوا لا للطعام البائد ، بل للطعام الباقى للحياة الأبدية " ( يو 6 : 27 ) . هل فكرتم يا أخوتى فى طعام الروح وكيف يكون ومما يتكون ؟

 

على قدر محبة الروح لله هنا ، تكون متعته به فى السماء .

ففى السماء لا يكون الجميع فى درجة واحدة ، ولا على مستوى واحد فى المتعة الروحية . بل كما يقول الكتاب " لأن نجماً يفوق نجماً فى المجد " ( 1 كو 15 : 41 ) . كل سكان السماء يتمتعون بالنعيم الأبدى . ولكن كل واحد منهم تكون له درجته الخاصة . مثل قوارير مختلفة الأحجام ، وكلها ممتلئة لا تشعر واحدة منها بنقص . ولكن الكمية التى فى واحدة ، غير التى فى الأخرى . فى هذه أكثر من تلك بكثير . ولكن الكل ممتلئ .

يذكرنى  هذا برسالة أرسلها أحدهم برسالة أحدهم إلى شيخ روحانى .

يستأذنه فيها بلقاء قبل تدركه الوفاة ، إذ كان ذلك الشيخ كهلاً وفى أيامه الأخيرة . فقال له رسالته " هنا يا أبى يمكننى أن أراك ، قبل أن تغادر عالمنا ، وتكون فى درجة عالية فى السماء ليس بإمكانى الإقتراب منها "

ومع ذلك فإحدى المتع فى السماء أن نتعرف على القديسين هناك . ولكن هل سنتعرف فقط على أشخاصهم ، أم على أعمالهم أيضاً ؟

هل سنتعرف على كل ما عملوه من خير فى الخفاء زاهدين فى مديح الناس ؟ وهل سنتعرف على ما كان لهم من تأملات ومن أفكار روحية ؟ وهل سنتعرف على كل الأنبياء والرسل بكل تفاصيل سير حياتهم التى لم يذكر التاريخ عنها شيئاً . وكذلك ما فى السماء من الشهداء والرعاة وأبطال التاريخ والنساك والعباد وكل الذين عاشوا حياة مثالية من كل الشعوب ...

لا شك أن معرفة كل هؤلاء متعة روحية فى حد ذاتها ، تضاف إليها متعة التعرف على الملائكة بكل درجاتهم .

ولكن كيف سنتعرف على الملائكة وطبيعتنا غير طبيعتهم ؟

إنهم جميعاً أرواح قدسية ( مز 1.4 : 4 ) ونحن لا نراهم بحواسنا الجسدية . فكيف سنراهم إذن فى الأبدية ؟ هل ستقترب طبيعتنا من طبيعتهم ، ونكون كملائكة الله فى السماء ، ( مت 22 : 3. ) نعم  ، هذا سيحدث لنا جميعاً حينما تتجلى طبيعتنا البشرية فى السماء . وتكون لنا أجساد روحانية ، أسمى من المستوى المادى الذى نعيشه الآن ... أجساد تليق بالسماء وسموها وقدسيتها .. .

 

فى السماء ، سوف يمنح لنا الله أكليل البر ، الذى وعدنا الكتاب به

( 2 تى 4 : 6 – 8 ) .

 

نكلل بالبر حينما ينزع الله من قلوبنا ومن أفكارنا ومن ذاكرتنا كل ما يتعلق بالخطيئة وشهواتها . مجرد معرفتها تزول من أذهاننا انثى وكذلك كل ذكرياتها واخبارها . ولا يبقىة فى ذاكرتنا سوى البر فقط .

ولسنا نعود فقط إلى بساطة وبراءة الإنسان الأول ، بل إلى ما هو أسمى من ذلك بكثير .

حقاً كان أبونا آدم وحواء حينما خلقهما الله فى حالة بر عجيبة ، فى بساطة وبراءة ، وكانا عريانين ولا يخجلان ( تك 2 : 25 ) ، إذ لم يكن فى ذهنهما أية معرفة عن الخطية ولا الشهوة .. ولكنهم مع ذلك كله كانت لهما حرية إرادة يمكن بها أن يسقطا ، وقد كان ... 

 

ولكن أكليل البر فى السماء سيشمل الإرادة كما يشمل المعرفة .

فلا يصبح بإمكاننا أن نخطئ فيما بعد . بل نكون كالملائكة الذين تكللوا قبلنا بالبر ، وما عاد ممكناً أن يخطئوا . فالخطية لا تناسب السماء مطلقاً والحياة فيها ... ما أجمل هذا وما أروعه ، أن تنتهى الخطية إلى الأبد . ليس فقط ينتهى ارتكابها ، بل تنتهى معرفتها أيضاً ...

هذه هى الحياة فى السماء . وأود أن أقدم لكم تدريباً روحياً .

فلنتدرب أن تكون لنا أفكار سماوية خالصة ، ولو يوماً واحداً .

بحيث أن كل فكر أرضى أو مادى يزحف إلى أذهاننا ، نطرحه جانباً ، ونتخلص منه . ونحيا خلال هذا اليوم مفكرين فى السماويات : فى الله وملائكته وفردوسه ووصاياه ، وفى الحياة الأبدية ..

حينئذ نعيش فى هذا اليوم وكأننا فى السماء ، على الرغم من أننا على الأرض تكون السماء بمعناها الروحى قد هبطت إلينا ..

ما دمنا لسنا الآن فى وقت الذهاب إلى السماء ، فعلى الأقل ليتنا نرسل إليها أفكارنا وتأملاتنا .. ولو بعض أفكارنا ، ولو إلى يوم ..

تدريب آخر : هو أن نكنز لنا كنوزا ًفى السماء .

كما قال السيد المسيح له المجد " لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض ، بل أكنزوا لكم كنوزاً فى السماء " ( مت 6 : 19 ، 2. ) ... عالمين أن كل شئ مادى نقدمه ، سيتحول إلى شئ روحى فى السماء . وسيعوضنا الله عن الفانيات بالباقيات ، وعن الأرضيات بالسماويات ...

فما الذى أرسلناه إلى السماء ، لكى يسبقنا إلى هناك ؟ .. ما هو رصيد كل منا فى حساب السماء ؟

فوق كل كما قلناه ، وأعلى وأسمى من كل ما قلناه ، هناك الله فى السماء .

الله – تبارك أسمه – الذى سنعود إليه بعد غربة طويلة على الأرض . كيف سنلقاه وبأى وجه ؟ وهل اعددنا قلوبنا لهذا اللقاء ؟ وإن كنا قد أخطأنا ، فهل اصطلحنا مع الله ؟

وكيف ستكون علاقتنا به فى الأبدية ؟ هل سننسى كل شئ ونذكره ؟ أترى سيكون الله هو متعتنا الوحيدة فى السماء ؟ وكيف سنعرفه ؟ وكيف سيكشف لنا عن ذاته ما تحتمل طبيعتنا البشرية أن تعرفه ؟

هنا ويصمت قلمى ، لأن الموضوع أكبر من اللغة ومن الألفاظ ، وأقوى من العقل ومن الفكر .

أترك هذا الذى لا أعرف ، وأتكلم أخيراً عما أعرف .

فأرجو لكم جميعاً حياة سعيدة وموفقة ، وليحفظ الله كل الشعوب التى خلقها ، والتى يرعاها بعنايته  وكل عام وجميعكم بخير .

 

 

 

 

 

 

5

القيامة و أعماقها الروحية

 

أبنائى وأخوتى الأحباء :

يسرنى أن أهنئكم جميعاً بعيد قيامة السيد المسيح من بين الأموات . المسيح قام ، وكانت قيامته عربوناً لقيامة الكل . فالبشر سوف لا تنتهى حياتهم بالموت ، وإنما سيقومون لحياة أخرى . ويلذ للنفس أن تتأمل كثيراً فى هذه القيامة العامة ، معاينتها عميقة جداً ، ولا تنضب ...

القيامة هى لقاء عجيب :

1 - إنها أولاً : لقاء صديقين متحدين :

هذان الصديقان عاشاً معاً العمر كله ، منذ الولادة ، بل وقبلها أيضاًُ ، أثناء الحمل فى بطن الأم ، لم يفترقا لحظة واحدة ، وأعنى بهما الجسد والروح . كل منهما طبيعة متميزة تماماً :

الجسد طبيعة مادية ، والروح طبيعة روحية ، اتحدا فى طبيعة واحدة هى الطبيعة البشرية ، لا تستطيع أن تفصل بينهما فتقول هنا الجسد وهنا الروح . عاشا بهذه الوحدة العجيبة ، التى يعبر فيها الجسد عن كل مشاعر الروح : إن فرحت الروح ، يبتسم الجسد ويتهلل . وإن حزنت الروح ، يظهر حزنها فى عينيه ... وبعد عمر واحد ، انفصل الاثنان بالموت . وأخيراً يلتقيان فى القيامة .. بعد غربة طويلة ، ويتحدان مرة أخرى ... !

 ترى ما هى مشاعر الروح وهى تلتقى بجسدها ، شريك العمر ، ربما بعد آلاف أو مئات السنين ، مثلما تلتقى أرواح آدم ونوح وإبراهيم بأجساها ... !!

تلتقى الروح بجسدها ، بعد أن رأته يتحول إلى حفنة تراب ، ثم يعود ، وفى صورة أبهى من الأول ، بلا أى عيب ، ولا نقص ، حتى العيوب التى كانت فيه أثناء ذلك الزمان السحيق .. نعم ، يقوم بلا عيب ، لأن العيوب لا تتفق مع النعيم الأبدى ( وأيضاً يعود وهو أكثر صداقة ، فلا يختلف إطلاقاً فى الحياة الأخرى مع الروح ، إذ يقوم جسداً روحانياً

.. 2- اللقاء العجيب الثانى فى القيامة ، هو لقاء شعوب وأجناس التاريخ .

إنها قيامة عامة منذ آدم ، تجتمع فيها كل الشعوب والأجناس ، التى عاشت خلال أجيال وقرون ، بكل ملاحهما ولغاتها ، بكل أبطالها وقادتها . ألعلها تتعارف وتتفاهم ؟! نعم ، بلا شك . لأنه ستكون للكل لغة واحدة هى لغة الروح ، او لغة الملائكة . حقاً ما أعجب هذا اللقاء ! إنه قصة القصص ، وحكاية دهور طويلة . وأجمل ما فيه موكب المنتصرين ، الذين جاهدوا خلال حياتهم فى العالم وغلبوا . انتصروا للحق والقيم . يلتقون ووراء كل منهم رواية روتها الأجيال .. ويعود العالم شعباً واحداً كما كان ، قبل أن يفترق ويتشتت .

ترى كيف سيكون لقاء الشعوب التى كانت متصارعة من قبل ؟ أترى تبدو أمامهم تافهة جداً ، تلك الأسباب التى دعتهم من قبل إلى الصراع ؟!

3 – اللقاء الثالث العجيب ، هو لقاء البشر والملائكة .

وهم طبيعة أخرى أسمى من طبيعتنا ، ولكن اللقاء بهم إحدى متع الأبدية ..

4- وأسمى من هذا كله بما لا يقاس : لقاؤنا مع الله ...

التقاؤنا به – تبارك إسمه – هو النعيم الأبدى ، ولا نعيم بدون الله .. هنا ويقف قلمى فى صمت خاشع ، لأنى أمام أمر لا تستطيع الألفاظ أن تعبر عنه ، لأنه فوق مستوى اللغة فى التعبير ، وفوق مستوى العقل فى التفكير ...

القيامة إذن هى لقاء عجيب .. وماذا أيضاً ؟

 

القيامة هى انتقال عجيب :

1- هى انتقال من المحدود إلى اللا محدود .

انتقال من هذا العمر المحدود بأيام وسنين ، إلى حياة غير محدودة ، بل إلى مجال هو فوق الزمن . أترى هل توجد هناك أرض تدور حول نفسها وحول الشمس ، وتترجم دوارتها إلى أيام وسنين ؟! أم أننا سنرتفع فوق الزمن ، بدخولنا فى عالم آخر جديد ... ! مقاييس الزمن ستنتهى . لحظة واحدة فى الأبدية ، هى هى أطول وأعمق من حياة الأرض كلها .

 

2- القيامة أيضاًهى انتقال من المرئيات إلى ما لا يرى .

هى دخول فيما قال عنه الكتاب " ما لم تره عين ، ولم تسمع به إذن ، ولم يخطر على قلب بشر ، ما أعده الله لمحبى اسمه القدوس " . إنه دخول فى عالم  الأرواح ، والتقاء مع الملائكة ، وهم أرواح لا ترى . مع أفراح لم تعرف من قبل فى هذا العالم المادى المرئى . وهنا تكون القيامة سمواً فوق مرتبة ما تدركه الحواس ، بارتفاع إلى ما لا تدركه سوى الروح .

3- هى إذن انتقال من عالم الحواس إلى عالم الروح .

أو هى اقتناء حواس روحية غير الحواس المادية الحالية ، حواس ترى الروح والروحيات ، وتبهر بها . وهنا أصمت مرة أخرى ...

هنا نوع من التجلى للطبيعة البشرية .

تدرك فيه ما لم تدركه من قبل ، وتكتسب خواصاً روحية لم تكن تمارسها قبلاً ، وتصبح فى القيامة فى وضع تستطيع به أن ترى ما لا يرى ، أو بعضاً منه ، أو تتدرج فى الرؤية ، منتقلة من شبع روحى ، إلى شبع أسمى وأسمى ، فى حياة التجلى ...

4 – والقيامة هى انتقال من عالم الباطل إلى عالم الحق .

من عالم الفناء إلى عالم البقاء . من عالم كل ما فيه يبطل بعد حين ، إلى عالم باق إذ ليس فيه بطلان . عالم كل ما فيه حق وثابت . انتهت منه الخطيئة ، وأصبح كل ما فيه بر وفيه أيضاً ينتقل الإنسان من عشرة إلى عشرة ، أنقى وأبقى وأصفى ...

 وماذا عن القيامة أيضاً ؟

 

القيامة معجزة متعددة الجوانب :

1- إنها معجزة ممكنة :

هنا قدرة الله العجيبة ! كيف يجمع الأجساد مرة أخرى بعد أن تحولت إلى تراب ؟! أليس هو الذى خلقها من قبل من تراب ، بل من عدم ، فالتراب كان عدماً قبل أن يكون تراباً . والذى يتأمل القيامة من هذه الناحية ، إنما يتأمل القدرة غير المحدودة التى لإلهنا الخالق ، الذى يكفى أن يريد ، فيكون كل ما يريد ، حتى بدون أن يلفظ كلمة واحدة . إنها إرادته التى هى فى جوهرها أمر فعال قادر على كل شئ ...

نسمى القيامة إذن معجزة ، ليس لأنها صعبة ، وإنما لأن عقلنا يعجز عن أدراكها كيف تكون . وإن كان العقل يعجز عن الفهم ، فالإيمان يستطيع بسهولة أن يفهم ...

لذلك فالقيامة هى عقيدة للمؤمنين .

الذى يؤمن بالله وقدرته ، يستطيع أن يؤمن بالقيامة . والذى يؤمن بالله كخالق ، يؤمن يه أيضاً مقيما للموتى . أما الملحدون ، فلا يصل أدراكهم إلى هذا المستوى . إنهم لا يؤمنون بالقيامة ، منا لا يؤمنون بالروح ، وخلودها ، كما لا يؤمنون بالله نفسه ...

2 – القيامة معجزة ممكنة . وأيضاً هى معجزة لازمة ، لجل العدو ولأجل التوازن :

إنها لازمة من أجل العدل . من أجبل محاسبة كل إنسان على أفعاله التى عملها خلال حياته على الأرض ، خيراً كانت أم شراً ، فيثاب على الخير ، ويعاقب على الشر . ولو لم تكن قيامة ، لتهالك الناس على الحياة الدنيا ، وعاشوا فى ملاذها وفسادها ، غير عابئين بما يشعرون أن العدل لابد أن يأخذ مجراه فى العالم الآخر .

وهذا الجزاء لابد أن يكون بعد القيامة واتحاد الأرواح بالأجساد .

لأنه ليس من العدل أن تجازى الروح وحدها ، ويترك الجسد بلا جزاء على كل ما فعله فى عصيان أو فى طاعتها . إذن لابد أن يقوم الجسد ، وتتحد به الروح ، ويقف الإثنان معاً أمام الله . لأن كل أعمالهم على الأرض كانت معاً كشريكين ملتزمين ...

والقيامة لازمة أيضاً من أجل التوزان .

ففى الأرض لم يكن هناك توزان بين البشر ففيها الغنى والفقير ، السعيد والتعيس ، وامنعم والمعذب ... فإن لم تكن هناك مساواة على الأرض ، فمن اللائق أن يوجد توزان فى السماء . ومن لم ينل حقه على الأرض ، يمكنه أن يناله بعد ذلك فى السماء ، ويعوضه الرب ما قد فاته فى هذه الدنيا ، إن كانت أعماله مرضية للرب . وقصة الغنى ولعازر فى الإنجيل المقدس ( لو 16 ) تقدم لنا الدليل الأكيد عن التوازن بين الحياة على الأرض والحياة فى السماء .

3-القيامة أيضاً هى معجزة جميلة رائعة .

لأنها تقدم للعالم الآخر الحياة المثالية . فالإنسان المثالى الذى تحدث عنه الفلاسفة ، والذى بحث عنه ديوجين ولم يجده ، والذى فكر العلماء كيف يكون .. هذا الإنسان المثالى تقدمه لنا القيامة فى العالم الآخر ، فى عالم ليست فيه خطيئة على الإطلاق ، وليس فيها حزن ولا بكاء ، ولا فساد ولا ظلم ، ولا نقص ولا عيب .

إنها معجزة تقدمها القيامة ، أو هى شهوة فى حياة البر تتحقق بالقيامة .

4 – ولذلك فالقيامة معجزة مفرحة .

مفرحة ، لأن بها تكمل الحياة ، وينتصر الإنسان على الموت ، ويحيا إلى الأبد . إن الحياة الأبدية هى حلم للبشرية التى يهددها الموت بين لحظة وأخرى ، والتى تحيا حياة قصيرة على الأرض ، وعلى قصرها مملوءة بالمتاعب والضيقات . لذلك يكون فرح عظيم للإنسان أن يتخلص من التعب ومن الموت ، ويحيا سعيداً فى النعيم الأبدى .

إنه حلم يتحقق بالقيامة ... من هنا نصل إلى حقيقة هامة وهى :

القيامة هى باب الأبدية :

 

لولا القيامة لكان الموت حكماً بالفناء .

والفناء هو أمر مخيف . وهو نهاية مؤلمة تعتبر أقسى مأساة . ولكن الله عندما خلق الإنسان ، لم يخلقه للفناء ، وإنما للحياة . وإن كان الإنسان قد تعرض للموت بسبب خطيئته ، فإن الله رسم له طريق الخلاص . وأقامه من هذا الموت .

بل إن الله عندما خلق الإنسان ، خلق له يئاً خالداً هو الروح .

والروح لا تموت بموت الإنسان ، بل تبقى حية بطبيعتها . وبهذا يختلف الإنسان عن باقى المخلوقات الأخرى على الأرض ، التى تنتهى حياتها وتبيد . أما الإنسان فإنه بالقيامة يبدأ من جديد حياة أخرى لا تنتهى . وهنا تبدو قيمة الإنسان وأفضليته على غيره من المخلوقات الأرضية .

ولأن الروح حدها ، لا تكون إنساناً كاملاً ، لذلك لابد أن يقوم الجسد ويتحد بها .

وهكذا لا تكون الحياة الأبدية لجزء واحد من الإنسان هو الروح ، بل تكون للإنسان كله روحاً وجسداً . فيعود الإنسان كله إلى الحياة .

وبهذا تكون القيامة يقظة للإنسان بعد نوم طويل .

ونقصد بها يقظة لهذا الجسد ، أو للإنسان بمعناه الكامل . أما الروح فهى فى يقظة دائمة .

إن القيامة هى نهاية للموت . فلا موت بعدها .

إنها نهاية لهذا العدو المخيف . لقد انتصر الإنسان على أعداء كثيرة للبشرية ، ما عدا هذا العدو الذى غلب الجميع ، لأنه كان عقوبة من الله الذى لا رد لحكمه . ولكن الله بالقيامة نجا البشرية من هذا العدو ، وقضى عليه إلى الأبد .

وأصبحنا أمام جسر يفصل بين حياتين : على أوله الموت ، وفى نهايته القيامة . فالموت هو نهاية الحياة الأولى ، والقيامى هى بداية الحياة الأخرى . والمسافة بينهما هى فترة أنتظار ، تنتظرها أرواح الذين سبقوا ، حتى يكمل على الأرض جهادهم واختبارهم .

على ان الأبدية التى تقدمها القيامة لابد تسبقها الدينونة .

بين القيامة والأبدية يقف يوم الدينونة الرهيب ، حيث يقف الجميع أمام الله ، ليقدموا

حساباً عن كل ما فعلوه بالجسد ، خيراً كان أم شراً . يقدمون حساباًُ عن كل عمل ، وكل فكر ، وكل إحساس وشعور ، وكل نية نووها ، وكل كلمة لفظوها .

ويمضى الأبرار إلى النعيم الأبدى ، ويمضى الأشرار إلى العذاب الأبدى .

لذلك فكما أن القيامة فرح للأبرار ، هى أيضا رعب للملحدين وللأشرار .

وحتى بالنسبة إلى الأبرار يعيد الله ترتيب مراكزهم ، بحسب أعمالهم .

فيعطى كل إنسان مركزا جديداً بحسب ما كان له من نقاوة القلب والفكر ، وبحسب ما كان له من دقة وصايا الله ، ومن جهاد فى نشر الخير ومحبة الإنسان ، وأيضاً بحسب ما كان فى قلبه من حب لله واشتياق إليه .

نسأل الله وسط ذكرى القيامة وأفراحها ، أن يفرح بنعمته قلب كل أحد . نصلى إليه أن يرفع عن العالم الحروب والغلاء والوباء وشتى الخطايا والأمراض  . وأن يمتع العالم بالهدوء ، ويحقق فكرة مؤتمر السلام فتسعى كل الدول لإنجاحه .

ونصلى من أجل أن يسود الرخاء ويحل الرب كل مشاكلنا الإقتصادية . ونصلى من ا<ل وحدتنا الوطنية أن يحفظها الرب عميقة ونامية ، وأن تسود المحبة بي القلوب ، بنعمة إلهنا الصالح الذى له المجد الدائم ، من الآن وإلى الأبد ...

 

 

6

القيامة تعزية ورمز

أبنائى وأخوتى الأحباء :

أهنئكم بعيد القيامة المجيد ، راجياً فيه لكم جميعاًَ مباركة سعيدة وراجياً لبلادنا كل خير وسلام .

تكلمنا فى كل عام من الأعوام السابقة عن جانب معين من جوانب القيامة وفاعليتها فى حياتنا . ونتابع اليوم تأملاتنا فنقول :

1-إن كلمة القيامة كلمة جميلة ، فيها تعزية للقلوب .

ولا شك أن قيامة المسيح كانت معزية لتلاميذه ، وكانت لازمة لهم ، لتثبيت إيمانهم .ولبناء الكنيسة . . وأتذكر إننى فى هذا المعنى ، كنت منذ أكثر من أربعين سنة  ، قد كتبت قصيدة قلت فى مطلعها :

قد حطـم الشيطان لا                                       تبق لدولته بقيـــة

قد نفذ الأرواح مــن                                       قبر الضلالة والخطـية

قـــم روع الحــــراس وابهـــرهم بطــلعتك البــهــــية

قم قو إيمان الرعــا                              ة ولم اشتات الرعـية

واكشف جراحك مقنعاً                                     توما فريبته قويـــة

واغفر لبطرس ضعفه                                     وامسح دموع المجدلية                   

وقد كان هذا ، وفى قيامة السيد المسيح ، عزى تلاميذه ، وفرحوا بقيامته ، وآمنوا بالقيامة ، وبأنها ممكنة ، وآمنوا أنهم أيضاً سيقومون بعد الموت ، فمنحهم كل هذا عزاء فى حياتهم وعدم خوف من الموت ...

على أنى أريد اليوم أن أطرق موضوع القيامة من ناحية أخرى ، وهى :

القيامة كرمز :

2- القيامة هى رمز للتوبة :

أو أن التوبة تشبه بالقيامة :

فنحن نعتبر أن الخطية هى حالة من الموت ، وأقصد الموت الروحي . وقال القديس أو غسطينوس " إن موت الجسد ، هو انفصال الجسد عن الروح ، أما موت الروح ، فهو انفصال الروح عن الله " فالله هو ينبوع الحياة ، أو هو الحياة الكلية . كما قال فى الإنجيل " أنا هو الطريق والحق والحياة " ( يو 14 : 6 ) . " أنا هو القيامة والحياة " ( يو 11 : 25 )

من يثبت فى الله ، يكون بالحقيقة حياً . ومن ينفصل عن الله يعتبر ميتاً .

والخطيئة هى انفصال عن الله ، لأنه لا شركة بين النور والظلمة " ( 2 كو 6 : 14 )

فالخاطئ إذن هو ميت روحياً ، مهما كانت له أنفاس تتحرك وقلب ينبض .. قد يكون جسده حياً   . ولكن روحه ميته ميته .. وهكذا فى مثل الأبن الضال ، الذى شرد بعيداً عن أبيه ثم عاد إليه ، وقال عنه أبوه فى هذه التوبة :

ابنى هذا كان ميتاً فعاش . وكان ضالاً فوجد ( لو 15 : 24 ) .

وقيل فى الكتاب عن الأرملة المتنعمة إنها ماتت وهى حية " ( 1 تى 5 : 6 ) . وقال القديس بولس الرسول لأهل أفسس " إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا التى سلكتم فيها قبلاً .. ( اف 2 : 1 ) وقال أيضاً " ونحن أموات بالخطايا ، أحيانا مع المسيح .. وأقامنا معه ، وأجلسنا معه فى السماويات " ( أف 2 : 5 ) . وقال السيد المسيح موبخاً راعى كنيسة ساردس :

" إن لك إسماً إنك حى ، وأنت ميت " ( رؤ 3 : 1 ) .

فحياته الظاهرية حياة حقيقية ، لأن الحياة الحقيقية هى الحياة مع الله ، أو الحياة فى الله ، هى الحياة فى الحق ، وفى النور والبر . أما ذلك الخاطئ ، فإن له اسماً أنه حى ، وهو ميت ..

لذلك كنت أقول فى معنى الحياة الحقيقية :

" أحقاً نحن أحياء .. ؟ "

إن الحياة لا تقاس بالسنين والأيام ، وإنما بالفترات الروحية الحلوة التى نقضيها مع الله .. هى وحدها التى تحسب لنا ، والتى يقاس بها عمرنا الروحى ، وبها يكون تقرير مصيرنا فى القيامة . لذلك أيها الأخ بماذا تجيب حينما يسألك الملائكة كم هى أيام عمرك على الأرض ؟ هل ستحسبها بالجسد أم بالروح ؟ ..

ومع ذلك ، فإن الخاطئ المعتبر ميتاً : إذا تاب تعتبر قيامة ...

وعن هذا المعنى يقول القديس بولس الرسول للخاطئ الغافل عن نفس " استيقظ أيها النائم ، وقم من الأموات ، فيضئ لك المسيح " ( أف 5 : 14 ) . مشبهاً التوبة هنا ، بأنها يقظة روحية ، وأنها قيامة من الأموات ...

وقد ذكر الإنجيل للسيد المسيح ثلاث معجزات أقام فيها أمواتاً . ويمكن اعتبار كل منها رمزاً لحالة من التوبة :

أقام ابنه يايرس وهى ميتة فى بيت أبيها ( مر 5 ) . وأقام ابن أرملة ناين من نعشه فى الطريق ( لو 7 ) وأقام لعازر وهو مدفون فى القبر من أربعة أيام .. وكانت كل إقامة هذه الأداث الثلاثة تحمل رمزاً خاصاً فى حالات التوبة .

أ‌-       ابنه يايرس وهى فى البيت ، ترمز إلأى الذى يخطئ وهو لا يزال فى بيت الله ، فى الكنيسة ، لم يخرج منها ولم يخرج عنها . ولذلك قال السيدعن ابنة يايرس " إنها لم تمت ، ولكنها نائمة ( مر 5 : 39 ) . ولما أقامها أوصاهم أن يعطوها لتأكل ( مر 5 : 43 ) . لأن هذه النفس تحتاج إلى غذاء روح يقويها ، حتى لا تعود فتنام مرة أخرى .

ب – أما ابن أرملة نايين وهو ميت محمول فى نعش .. فهذا ميت خرج من البيت ترك بيت الله ، وأمه تبكى عليه ، أى تبكى عليه الكنيسة أو جماعة المؤمنين . هذا أقامه المسيح ، ثم " دفعه إلى أمه " ( لو 7 : 15 ) . أرجعه إلى جماعة المؤمنين مرة أخرى ...

ج – لعازر المدفون فى القبر ، يرمز إلى الحالات الميئوس منها :

حتى أن أخته مرثا لم تكن تتخيل مطلقاً أنه سيقوم . وقالت للسيد أنتن ، لأنه له أربعة أيام "

( يو 11 : 39 ) . إنه يرمز للذين ماتوا بالخطية  وتركوا بيت الله ، بل تركوا الطريق كله ، ومرت  عليهم مدة طويلة فى الضياع ، ويئس من رجوعهم حتى أقرب الناس إليهم . ومع ذلك أقامه المسيح ، وأمر أن يحلوه من الرباطات التى حوله ( يو 11 : 44 ) .

فمثل هذا الإنسان يحتاج أن يتخلص من رباطاته التى كانت له فى القبر .

كل هذه أمثلة تدعونا إلى عدم اليأس من عودة الخاطئ ، فلابد أن له قيامة ...

إننى فى مناسبة قيامة السيد المسيح ، أقول لكل خاطئ يسعى إلى التوبة :

قام المسيح الحى هل                                      مثل المسيح تراك قمت

أم لا تزال موسداً                                          فى القبر ترقد حيث أنت

والحديث عن القيامة من الخطية ، هو نفس الحديث عن القيامة من أية سقطة .

وقد يحتاج الأمر إلى دعوة للقيامة ، أى إلى حافز خارجى.

مثال ذلك كرة تدحرجت من على جبل . تظل هذه الكرة تهوى من أسفل إلى أسفل ، دون أن تملك ذاتها ، أو تفكر فى مصيرها . وتظل تهوى وتهوى تباعاً ، إلى ان يعترض طريقها حجر كبير ،فيوقفها ، وكأنه يقول لها " إلى أين أنت تتدحرجين ؟! وماذا بعد ؟! " فتقف . إنها يقظة أو صحوة ، بعد موت وضياع .. تشبه بالقيامة ...

أو مثال ذلك أيضاً فكر يسرح فيما لا يليق ...

كإنسان يسرح فى فكر غضب أو انتقام ، أو فى خطة يدبرها ، أو فى شهوة يريد تحقيقها ، أو فى حلم من أحلام اليقظة . ويظل ساهماً فى سرحانه ، إلى أن يوقفه غيره ، فيستيقظ إلى نفسه ، ويتوقف عن الفكر . إنها يقظة أو صحوة ، أو قيامة من سقطة .

3 – هناك أيضاً القيامة من ورطة ، أو من ضيقة .

قد يقع الإنسان فى مشكلة عائلية أو اجتماعية يرزخ تحتها زمناً ، أو فى مشكلة مالية أو أقتصادية لا يجد لها حلاً . أو تضغط عليه عادة معينة لا يملك الفكاك من سيطرتها . أو تملك عليه جماعة معينة أو ضغوط خارجية ، لا يشعر معها بحريته ولا بشخصيته ، ولا بأنه يملك إرادة أو راياً ...

وفى كل تلك الحالات يشعر بالضياع ، وكأنه فى موت ، يريد أن يلتقط أنفاسه ولا يستطيع ... إلى أن فتقده عناية الله وترسل له من ينقذه ، فيتخلص من الضيقة التى كان فيها . ولسان حاله يقول :

" كأنه قد كتب لى عمر جديد " . أليست هذه قيامة ؟ إنها حقاً كذلك .

  4 – القيامة هى حياة من جديد . ما يسمونه بالإنجليزية Revival .

حياة جديدة يحياها إنسان ، أو تحياها أمة أو دولة ، أو أية هيئة من الهيئات .. أو يحياها شعب بعد ثورة من الثورات التى تغير مصيره إلى أفضل ، وتحوله إلى حياة ثانية ، حياة من نوع جديد . فيشعر أن حياته السابقة كانت موتاً ، وأنه عاد يبدأ الحياة من جديد ...

ويود أن حياته السابقة لا تحسب عليه . إنما تحسب حياته من الآن .

هذه القيامة رأيناها فى حياة الأفراد ، ورأيناها فىحياة الأمم : رأيناها فى أوروبا بعد عصر النهضة والانقلاب الصناعى ، ورأيناها فى فرنسا بعد الثورة الفرنسية المعروفة . ورأيناها فى روسيا بع إللان البروستوكيا . ورأيناها أيضاً فى الهند على يد غاندى ، وأيضاً فى كل دولة تخلصت من الاستعمار أو الاختلال أو الانتداب ... 

ورأيناها فى مصر ، مرة بعد التخلص من حكم المماليك ، ومرة أخرى بعد ثورة سنة 1919 ، ومرة ثالثة بعد ثورة سنة 1952 . كما رأيناها كذلك فى الثورة الإقتصادية أو فى النهضة الإقتصادية التى قادها طلعت حرب ...

إن القيامة يا أخوتى ، ليست هى مجرد قيامة الجسد . إنما هناك حالات أخرى كثيرة توحى بها القيامة ، أو تكون القيامة رمزاً لها .. وتبدو فيها سمات حياة أخرى .

5 – ونحن نرجو من الله أن يجعل سمات القيامة فى حياتنا باستمرار .

عمليات تجديد وحياة أخرى ، تسرى فى دمائنا أفراداً وهيئات .. كما قال الكتاب عن عمل الله فى الإنسان إنه " يجدد مثل النسر شبابه " ( مز 1.3 ) . وأيضاً كما قيل فى نبوة اشعياء " وأما منتظرو الرب ، فيجددون قوة . يرفعون أجنحة كالنسور . يركضون ولا يتعبون . يمشون ولا يعيون " ( أش 4. :31 )

إلهنا الصالح ، نسأله فى روح القيامة ، أن يهبكم جميعاً قوة فى حياتكم ، ونسأله أن تحيا بلادنا حياة متجددة باستمرار ، فيها الصحوة وفيها النهضة وفيها  روح القيامة ، فى عزة وفى مجد وفى قوة .

وأمنياتى لكم جميعاً بالسعادة والبركة وكل عام وجميعكم بخير .

 

(7 )

القيامة تعلن أنه قد مات الموت وانفتح الطريق إلى الأبدية بأفراحها

أهنئكم يا أبنائى وأخوتى الأحباء بعد القيامة المجيد ، راجياً لكم حياة سعيدة مباركة ، ثابتة فى الله ومحبته . وراجياً للعالم كله سلاماً وهدوءاً وحلاً للمشاكل الإقليمية والمحلية .. وما أجمل أن ننتهز مناسبة هذا العيد ، لكى نتأمل فى القيامة : ما هى ؟ وما بعدها ؟

القيامة هى انتصار  على الموت الذى ساد على جميع البشر .

بل هى نهاية للموت كما قال الكتاب " آخر عدو يبطل هو الموت " ( 1كو 15 : 26 ) . فيها تهتف قلوب الجميع : لقد مات إلى الأبد . وانفتح أمام البشرية طريق الأبدية السعيدة ، بكل ما فيها من أفراح ومتعة روحية ....

الموت الذى انتصر على كل إنسان ، سوف تنتصر عليه القيامة العامة . ولا يوجد فيما بعد ، سيغنى الجميع قائلين : لقد مات الموت .

وما أجمل ما قيل عن ذلك فى سفر الرؤيا " والموت لا يكون فيما بعد ، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد . لأن الأمور الأولى قد مضت " ( رؤ 21 : 24 ) .

وقد يقول البعض إن القيامة هى عودة الإنسان إلى الحياة . وفى الواقع إن هذا التعبير غير دقيق .

فالإنسان يتكون من عنصرين : أحدهما حى بطبيعته وهو الروح . والعنصر الآخر قابل للموت والتحلل وهو الجسد . وعندما يموت الإنسان ، إنما يموت جسده ويعود إلى التراب كما كان ( جا 12 : 7 ) وتعود روحه إلى الله ، وتبقى حية فى مكان الانتظار إلى يوم القيامة ، حين تعود إلى الجسد المقام .

ولأن روح الإنسان تبقى حية بعد موته ، تكون لنا صلة بلأرواح القديسين فى العالم الآخر ، نطلب صلواتهم من أجلنا . كما يحدث أحياناً أن الله – تبارك إسمه . يرسل بعض هذه الأرواح إلى عالمنا ، لتبليغ رسالة أو لإجراء معجزة .. ولأن روح الإنسان لا تموت بموته ، لذل نقول لك فى صلواتنا " .. ليس موت لعبيدك ، بل هو انتقال " . ونقصد انتقال الروح إلى العالم الآخر .

بالقيامة ينتهى تاريخ الموت إلى الأبد ، ولا يكون له فيما بعد سلطان على الناس .

فأجساد القيامة ستكون أجساداً روحية لا يقوى عليها الموت .

كما أن الموت كان فى الحياة قبل القيامة ، هو عقوبة الخطية منذ أيام أبينا آدم . وبعد القيامة لا تكون هناك خطية ، ولا يكون هناك موت .

الأبدية – بعيد القيامة – هى موطن الحياة الدائمة . لذلك قيل عن الأبرار إنهم يحيون إلى الأبد ، أو تكون لهم حياة الأبدية " ( دا 12 : 2 )

وقيل " يمضى الأبرار إلى حياة أبدية " ( مت 25 : 46 ) .

وهناك نوع آخر من الموت سينتهى ، هو موت الخطية .

فالخطية تعتبر حالة موت ، موت روحى ، لأنها انفصال عن الله الذى هو مصدر الحياة الحقيقية  ( يو 1 : 4 ) ( يو 14 : 6 )

ولذلك حسناً قال الرب لراعى ساردس المخطئ " إن لك إسماً أنك حى ، وأنت ميت ! " ( رؤ 3 : 1 ) وقال الأب عن توبة ابنه الخاطئ " ابنى هذا كان ميتاً فعاش " ( لو 15 : 24 ) فما دامت الخطية هى حالة موت أدبى وروحى ، وفى الأبدية لا تكون خطية ، إذن سوف يزول هذا الموت بعد القيامة ، ولا يكون له وجود فى عالم الأبرار ...

والقيامة هى لون من التجلى للطبيعة البشرية . ويشمل ذلك التجلى الجسد والروح كليهما معاً .

فنقوم بأجساد روحانية نورانية سماوية ، غير قابلة للفساد ( 1 كو 15 : 42 – 49 ) . فهى غير قابلة للتحلل ولا للموت . أجساد لا تمرض ولا تتعب ، ولا تشكو ألماً ولا وجعاً . ولا تتعبها شهوة ولا غريزة . ولا تنتقلها المادة ، بل تكون خفيفة فى كل تحركاتها وتنقلاتها .

نقوم أيضاً بأجساد لا عيب فيها ولا نقص . فالأعمى لا يقوم أعمى ، بل يعود إليه البصر . والضعيف لا يقوم ضعيفاً ، بل يمنحه الله قوة . والمشوه وغير الجميل ، لا يقوم هكذا . بل يلبس فى القيامة جمالاً وبهاء .. ففى القيامة يعوض الله الإنسان على كل نقص قاسى منه فى هذا العالم الحاضر . ويعطيه أن يقوم بجسد ممجد ، " على صورة جسد مجده " ( فى 3 : 21 )

 وهكذا الروح أيضاً ، سوف تتجلى بالنقاء والصفاء والبساطة .

تتجلى بنقاء أكثر مما كان لآدم وحواء قبل السقوط ، حينما كانا فى الجنة عريانين ولا يخجلان ( تك 2 : 25 ) إذ كانا فى براءة عجيبة لا تعرف الخطية . ولكن طبيعتهما مع ذلك كانت تحتمل الخطأ ، وفعلاً أخطأ الإثنان .

أما فى الأبدية فسوف توجد براءة غير قابلة للسقوط . وتزول من الذهن كل معرفة الخطية . بل تنتهى الخطية إلى الأبد .. وهذا هو الذى قصده القديس بولس الرسول بقوله " وأخيراً وضع لى إكليل البر الذى يهبه لى فى ذلك اليوم الديان العادل ، وليس لى فقط ، بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً " ( 2 تى 4 : 8 )

إذن تجلى الأرواح فى الأبدية هو أن تتكل بالبر ، وتصير كملائكة الله فى السماء ( مت 22 : 3. )

براءة كاملة لا تعرف الخطية ، ولا تشتهيها ، ولا تجول فى ذهنها إطلاقاً . وذلك بأن ينسى الإنسان نسياناً كاملاً كل ما كان فى العالم من خطيئة ومن شر ، أثناء حياته فيه . وهكذا يتنقى القلب والفكر تماماً . ويعيش الكل فى حياة روحية ، لهم البصيرة الروحية ولهم الحس الروحى

وليسوا فقط يتنقون من الخطأ . وأنما أيضاً من الناحية الإيجابية تكون لهم ثمار الروح ، التى شرحها الكتاب بقوله " وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام .. لطف صلاح إيمان .. " ( غل 5 : 22 ، 23 )

 يزول تماماً الصراع الذى كان فى العالم ، سواء الذى بين الناس ، أو الذى كان بين الروح والجسد .

حينما كان " الجسد يشتهى ضد الروح ، والروح ضد الجسد . وهذان يقاوم أحدهما الآخر " ( غل 5 : 17 ) .. إذ يصبح الجسد والروح فى الأبدية ، فى خط واحد ومسيرة واحدة ، لا تناقض بينهما ولا صراع ...

كما تزول الخصومات والمشاكل والمتاعب .. ويعيش الناس فى عالم حب وتفاهم . ويكون للكل لغة واحدة يتفاهمون بها معاً ، لعلها لغة الروح . وفى حديثهم وتسبيحهم يكون لهم لسان واحد وفهم واحد ...

وتزول الثنائية التى عاش فيها الإنسان بعد الخطيئة .

ثنائية الجق والباطل ، والحلال والحرام ، والصواب والخطأ .. لأنه سوف لا يكون فى الأبدية بعد القيامة سوى الحق فقط . ولا يكون مجال للاختيار بين طريقتين . فليس سوى طريق واحد يسير فيه الجميع ولا يعرفون غيره ...

وبعد القيامة يعيش الأبرار فى فرح دائم ، نسميه النعيم الأبدى .

فما هى ألوان هذا الفرح الذى يتمتع به الأبرار .

·        أولا فرح الدخول إلى ملكوت السموات . فرح الانتصار على العالم وعلى الخطية والشيطان . هذا الانتصار الذى يؤهل الروح إلى الدخول فى الملكوت . ذلك لأن ملكوت الله لا يدخله إلا الغالبون المنتصرون ، الذين استطاعوا خلال فترة عمرهم على الأرض ، أن ينجحوا فى كل الحروب الروحية ، ويظهروا أن محبتهم لله كانت فوق كل إغراء وكل شهوة أخرى . فاجتازوا فترة اختبارهم بسلام .

يفرحون فى الأبدية أيضاً بعشرة الملائكة والقديسين .

إنها متعة عظيمة بلا شك أن يتعرف الإنسان فى الأبدية على كل الأنبياء والرسل الذين وردت   أسماؤهم فى الكتب المقدسة ، أن تعرف على كل الشهداء فى كافة عصور التاريخ ، ةتعرف على كل الآباء القديسين ، وكل الرعاة الصالحين ، وكل الذين أتصفوا بفضائل عميقة ميزت حياة كل منهم عن غيرها . كما يتعرف أيضاً على كل أبطال التاريخ الذين عاشوا حياة صالحة ، وكل الشخصيات البارزة قرأ عنها من قبل فى الكتب ، وكانت مقبولة أمام الله ...

معرفة كل هؤلاء وأمثالهم تملأ القلب فرحاً . أما معاشرتهم والحياة معهم والصلة بهم ، فهذه متعة أعمق .

هؤلاء الأبرار يمثلون ما يقول عنه الكتاب " كورة الأحياء " ( مز 27 : 13 ) ، أى الذين فى الحياة الحقيقية الدائمة التى لا خوف عليها من موت فيما بعد ...

على أن المتعة فى النعيم الأبدى ، لابد أن تتفاوت فى الدرجة .

الكل يكونون فى فرح وفى مجد ، ولكن ليس الكل فى درجة واحدة . وكما قال الكتاب عن ذلك " لأن نجماً يمتاز عن نجم فى المجد " ( 1 كو 15 : 41 ) . إن الله فى الأبدية سيكافئ كل واحد حسب أعماله ( رؤ 22 : 12 ) .

 أو كما قيل " لينال كل واحد ما كان بالجسد ، بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً " ( 2 كو 5 : 1. ) . ولا شك أن أعمال الناس تختلف فى الدرجة وفى النوع والعمق ومقدار الروحانية ، ومقدار المحبة نحو الله ... فعلى حسب جهاد الإنسان على الأرض ، تكون مكافأته فى السماء ، ويكون نوع إكليله فى الملكوت ..

وحتى الأقل درجة فى السماء ، لا يشعرون بنقص .

 

لأن الشعور بالنقص يجلب الحزن . والحزن لا يتفق مع النعيم الأبدى ... ‍ ! يمكننا تشبيه الأمر بعدد كبير من الأوانى منها الكبير ومنها الصغير ، والكبير جداً ، والصغير جداً ، والمتوسط . وكلها ممتلئة . أصغر واحدة فيها لا ينقصها شئ ...

هكذا الأبرار فى الأبدية . كلهم ممتلئون فرحاً ، لا يشعر أحد منهم بنقص . وكل منهم فى مجد ، يشعر بالمكافأة . ولكن درجة الواحد غير درجة الآخر .

مثال آخر : لنفرض أن جماعة من الرفاق والأقارب ، ذهبوا للقاء إنسان عزيز عليهم جداً قد عاد من غياب طويل فى سفر . الكل يحبونه ، والكل مشتاق إليه ، والكل فى فرح بعودته . ولكن فرح كل منهم تكون درجته بحسب ما فى قلبه من حب وشوق . وقد تتفاوت درجة حبهم ، ولكن الكل شعر بالفرح .

إننا نفرح بالقيامة ، لأنه فرح بالخلود ، وبالنعيم . ولكننا لا نستطيع أن نصف تماماً كنه هذا الفرح .

اللغة قاصرة عن التعبير ، والفهم أيضاً قاصر ، والخبرة غير موجودة لأن ساعتها لم تأت بعد . ويكفينا ما قاله الكتاب عن النعيم الأبدى : " ما لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولم يخطر على بال إنسان ، ما أعده الله للذين يحبونه " ( 1كو 2 : 9 ) .. مهما يخطر على فكرك من أوصاف ، لا يمكن أن تعبر عن الحقيقة ، لأن ما أعده الله للبرار " لم يخطر على بال إنسان "

ولعل فى قمة متع الأبدية : معرفتنا لله .

الآن " تعرف بعض المعرفة " ( 1 كو 13 : 12 ) . ولكن معرفتنا هذه تعتبر كلا شئ بالنسبة إلى الله غير المحدود . ولذلك قيل فى الإنجيل المقدس " هذه هى الحياة الأبدية ، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك .. " ( يو 17 : 3 ) .. كل يوم يمر علينا فى الأبدية ، سنعرف فيه شيئاً جديداً عن الله ، يبهر عقولنا ويشبع قلوبنا . ونقف فى دهش وذهول ، ونقول : كفانا كفانا  . نحتاج إلى زمن حتى نستوعب هذا الذى كشفه الرب لنا عن ذاته .

ثم يوسع الله عقولنا وقلوبنا لنعرف أكثر ، على قدر ما تحتمل طبيعتنا البرية . ومع كل ذلك تبقى طبيعتنا محدودة ، تحاول الاقتراب من الله غير المحدود ، لتعرف وتبتهج بالمعرفة ... 

حقاً متى نصير من العارفين بالله ؟! .. يقول الكتاب " هذه هى الحياة الأبدية ، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقى وحدك .. " ( يو 17 : 3 )

 هنا وأقول : إن المتعة فى الأبدية ستكون فى نمو مستمر ، وتعدد ...

لأنه لو وقف نمو متعتنا ، أو تنوعها ، قد تتحول مشاعرنا إلى روتين أو إلى جمود ... ولكن مخازن الله مملوءة خيرات ، ومنابعه لا تنضب .. وكل متعة سوف نتمتع بها ستكون فى الأبدية مثل نقطة فى محيط ..

يكفى الشبع الروحى ، والشبع بالله نفسه ، هذا الذى سنكون فى دوام الشوق والحرقة إليه . وكما قال السيد المسيح له المجد " طوبى للجياع والعطاش إلى البر ، لأنهم يشبعون " ( مت 5 : 6 ) ومهما اشبعنا الله ، سيبقى شوقنا إليه قائماً .. إلى متى ؟ إنها الأبدية ...

 

إن كانت الأبدية هكذا ، فما هو استعدادنا لها ؟

ليتنا نضع القيامة الأبدية أمامنا فى كل حين ، ونعمل لملاقاتها .

نعمل بالإيمان بالله ، وبنقاوة القلب ، وبنمو محبتنا لله ، وصفاء معاملاتنا مع الناس . ونعمل للأبدية بعمل الخير كل حين ، على قدر ما نستطيع من قوة وعلى قدر ما ننال من النعمة .

لئلا مع وجود الأبدية والنعيم ، يوجد إنسان محروماً منهما ...

آباؤنا الذين التصقت قلوبهم بالأبدية ، حسبوا أنفسهم غرباء على الأرض ( عب 11 : 13 ) ، مشتاقين باستمرار إلى السماء ، يعملون من أجل استحقاق الوجود فى عشرة الله والملائكة والقديسين .

أرجو لكم يا أخوتى جميعاً حياة سعيدة على الأرض ، وعملاً دائماً من أجل الأبدية ..

وليتنا ننتهز هذه الفرصة لنصلى من أجل عالمنا أن يسوده السلام وتسوده معرفة الله . فى كل مكان ..

إلهنا الصالح قادرأن يتولى بعنايته هذا العالم المضطرب ، ويمنح معونة وحكمة من عنده ... وكل عام وأنتم بخير .

(8 )

القيامة تتبعها الدينونة وساعة الحساب والثواب والعقاب

 

أهنئكم يا أخوتى وأبنائى جميعاً بعيد اقيامة ، راجيا من الله أن يعيده عليكم بالخير والبربكة ، وأن يعيده على بلادنا المحبوبة وهى فى سلام ورخاء .

وأتابع معكم فى هذه المناسبة السعيدة أحاديثنا عن القيامة العامة ...

 فأقول إن القيامة تتبعها الدينونة العامة . فلإنسان لا ينال جزاءه بعد الموت مباشرة ، لن الجسد يكون وقتذاك فى القبر ، ويتحول بالوقت إلى تراب .

ولكن فى القيامة ، حينما يقوم الجسد وتتحد به الروح ، يمكن حينئذ أن يبدأ الحساب للإنسان بكامل تكوينه جسداً وروحاً . وذلك لأن ما فعله الإنسان من خير وشر ، اشترك فيه الجسد والروح معاً . فيلزم إذن محاسبة الإثنين معاً : ينالان المكافأة معاً ، أو يتحملان العقوبة معاً .

وهكذا شاء الله أن يكون الحساب أو الدينونة بعد القيامة العامة ، حينما تتحد الأرواح بالأجساد

ويكون الحساب أيضاً لكل البشر معاً .

كل شئ مسجل امام الله ، وسوف يعلن فى يوم الحساب ، وسف يعرف من الكل .. كل أفعال الناس ، وكل أفكارهم وأقوالهم ونياتهم وأحاسيسهم ، الخفيات والظاهرات . ولذلك صدق ذلك الأديب الروحى الذى قال " فكر كما لو كانت أفكارك مكتوبة على سحاب السماء بحروف من نور ، وإنها لكذلك ... " 

الناس حينما يموتون ، يتركون أموالهم وأملاكهم ، وأقاربهم ومعارفهم . ويفارقون الكل . ولكن الشئ الذى لا يفارقهم هو أعملهم . لأن أعمالهم تتبعهم .

تلصق بهم كل أخطائهم ، بكل صورها ، وكل تفاصيلها ، وكل بشاعتها ، فتقلق قلوبهم ، وتتعب أفكارهم .. وفى يوم الدينونة العامة يجدون كل ذلك أمامهم . فيكونون مدانين أمام أنفسهم ، لا ينفعهم عذر ولا تبرير

لا يمحو هذه الخطايا والآثام سوى التوبة الصادقة الحقيقية .

فالخطأ الذى تاب عنه الإنسان توبة قلبية بغير رجعة ، هذا تدركه مراحم الله الواسعة ومغفرته للتائبين .

والتوبة الحقيقية ليست مجرد ترك الخطية . فقط يتركها الإنسان من حيث الفعل والممارسة ، ولكن يستمر يشتهيها فى قلبه ، ويقبلها فى فكره . أما التوبة الحقيقية فهى كراهية الخطية قلباً وفعلاً ...

بكراهية الخطية وعدم اقترافها ، يستحق الإنسان المغفرة ، ولا تحسب عليه خطاياه فى يوم الدين .

ويبقى للتوبة شرط آخر ، وهو معالجة نتائج الخطايا .

فمثلاً لا يقل الظالم " لقد تبت ، وما عدت أظلم أحداً ، بل صرت أكره الظلم " هذا لا يكفى ، لأنه خاص فقط بالحاضر والمستقبل . ولكن ماذا عن الماضى ، وعن حال المظلومين الذين لا يزالون يقاسون من نتائج ظلمه ؟! عليه أن يعالج هذه النتائج بكل ما يستطيع  من قدرة وإن كان قد سرق من أحد شيئاً ، عليه أن يرده إلى صاحبه . وإن كان قد أساء إلى سمعة إنسان ، عليه أن يصلح ذلك ويرد إليه إعتباره .

هنا يقف أمامنا سؤال قد يكون محيراً ، وهو : ماذا عن القاتل ، وهو لا يستطيع أن يصلح ما فعله ؟

والجواب هو أنه إذا أخذ عقوبة على الأرض ، وقبلها برضى وبشعور أنه مستحق للعقوبة .. فإنه يستريح من عقوبة فى يوم الدينونة الرهيب ...

 

الإنسان فى يوم الدينونة ينال عقوبة على الخطايا التى لم يتب عنها ، والخطايا التى لم ينل عنها عقوبة على الأرض .

إما لأنها كانت خطايا فى الخفاء لم يعرفها أحد عنه ، أو لم تثبت أدلة عليه ، أو أمسك فيها أحد غيره ظلماً . وفى هذه الحالة يعاقبه الله على خطيئتين : الخطيئة التى ارتكبها ، 

يضاف إليها تركه لغيره يعاقب ظلم على ما اقترفه هو من إثم ، دون أن ينقذه باعترافه . ومن الخطايا الخفية أيضاً : النيات والأفكار والمشاعر . وهذه كلها ينبغى أن تدركها التوبة لتمحوها ، مع الجهاد الروحى لتنقية القلب والفكر .

ومن الخطايا التى تتعب الإنسان أيضاً فى يوم الحساب ، وهنا أيضاً على الأرض ، أن يوقع غيره فى خطية ، ويتسبب فى إفساده . ثم يتوب هو ، ويبقى هذا الغير فى الخطيئة والفساد ، دون أن يقدر على إرجاعه !!

وفى يوم الحساب ،لا يعاقب الإنسان فقط على ما فعله من شر ، وإنما أيضاً على ما كان بإمكانه أن يفعله من الخير ولم يفعله ...

والكتاب المقدس يقول فى ذلك " من عرف أن يعمل حسناً ولا يفعل ، فتلك خطية له " ( يع 4 : 17 ) بل من الخطايا أيضاً : تأخير عمل الخير ، أو تأخير أعطاء الحقوق لأصحابها . ومن وصايا الكتاب فى هذا الشأن :

" لا تمنع الخير عن أهله ، حين يكون فى طاقة يدك أن تفعله . لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غداً ، وموجود عندك " ( ام  3 : 27 ، 28 ) .

لذلك كله ولغيره ، على الإنسان أن يحاسب نفسه بكل دقة ، قبل أن يدركه يوم الحاب وهو غافل عن نفسه ....

وصدق ذلك القديس الذى قال لأحد الخطاة : " احكم يا أخى على نفسك ، قبل أن يحكم عليك "

ينبغى إن أن يتدرب كل إنسان على محاسبة النفس ، وأن يدين نفسه ، على أخطائها ، ويحاول أن يصلح ذاته . فالفرصة لا تزال قائمة ، والتوبة بإمكانه ، قبل أن يغلق باب التوبة بالموت ، ويقف فى ذلك اليوم الرهيب مداناً أمام الله . وصدق ذلك الشاعر الذى قال :

         قبورنا تبنى                              ونحن ما تبنا   

وفى محاسبة الإنسان لنفسه ، عليه أن يلتفت إلى الخطايا المركبة والخطايا الأصلية .

وأعنى بالخطايا المركبة ، تلك التى تحوى مجموعة كبيرة من الخطايا ، بينما نلقى عليها إسماً واحداً .. كما توجد أيضاً خطايا أمهات ، تلد كل منها عدداً كبيراً من الخطايا .

فلا نستهن بالمر ، ونظن أننا قد ارتكبنا شيئاً بسيطاً ‍‍!!

كذلك لا ننسى الخطايا الأصلية . فغالبية خطايا اللسان وخطايا الحواس ، يكون سببها خطية أصلية موجودة فى القلب ...

فالذى ينظر نظرة حسد ، أو نظرة شهوة ، أو نظرة حقد ، وما أشبه ، ليست كل هذه مجرد خطية نظر ، وإنما الحسد والشهوة والحقد وغير ذلك ، موجود كله فى القلب قبل أن يظهر فى العين . فخطية القلب هى الخطيئة الأصلية . وخطيئة النظر هى الخطية اللاحقة ، أو الثانية فى الترتيب . وهكذا عليه أن يطهر قلبه أولاً ، فتتطهر حواسه تلقائياً ...

كذلك الذى يوجه إلى غيره كلمة قاسية ، القسوة موجودة فى قلبه أصلاً ، قبل أن تكون خطية لسان ، عليه أن يتوب عن كلتيهما ...

الإنسان الدقيق فى محاسبة نفسه ، يمكنه التخلص من نقائصه وخطاياه . وهكذا يقف أمام الله طاهراً فى يوم القيامة ، لا يبكته ضميره على شئ .. والإنسان الروحى لا يتساهل مع نفسه ، ولا يغطى  خطاياه بالتبريرات والأعذار . لأن الذى يبرر نفسه على الأرض ، سيكون مكشوفاً تماماً أمام الله فى يوم الحساب ، حيث يستند كل فم ، ولا تنفع الأعذار ...

تقول عن الله رحيم ، فأقول لك وهو أيضاً عادل .

رحمة الله سوف تدرك التائبين فيغفر لهم . وعدل الله لابد أن يلاحق المستهترين ، الذى يستغلون رحمة الله ومغفرته ، للتمادى فى خطاياهم وشرورهم ، وعصيانهم لله أولئك الذين لم يجعلوا الله أمامهم !

 

 

يوم الحساب إذن هو يوم العدل الإلهى ، الذى فيه سيجازى كل واحد بحسب اعماله مكافأتهم على برهم وحرصهم وطاعتهم .

هؤلاء الأبرار سيكافئهم الله على كل شئ ، ليس فقط عن الأعمال العظيمة التى عملوها ، بل حتى لى خير مهما بدا أمامهم ضئيلاً ....

يكافئهم ليس فقط على أعمال الرحمة الكبيرة ، وأنقاذ غيرهم من المشاكل والورطات ، إنما ينالون ثواباً حتى على كلمة التشجيع ليائس ، وبسمة الحنان الصغار النفوس ، وزيارة لمريض ، ونظرة حب لطفل .

وسوف يعوضهم الله عن كل خير عملوه ، ولم ينالوا عنه جزاء على الأرض .

إما بسبب ظلم أو جاهل أو إهمال ، أو بسبب أنهم أخفوا فضائلهم عن الناس ، حتى لا يستوفوا خيراتهم على الأرض ، بل نالوا جزاءهم كاملاً من يد الله يعرف الخفيات ...

بل إنهم ينالون مكافأة عن الخير الذين أرادوا أن يفعلوه ، ولم يستطيعوا لأسباب خارجة عن إرادتهم .

 وكل تعب احتملوه على الأرض ، من أجل محبتهم لله ومحبتهم للناس ، سيكون سبب راحة أبدية لهم

ستتبعهم فى يوم الحساب أعمال برهم ، وتكون شاهدة لهم أمام الله فطوبى لمن يتعب الآن  فى عمل الخير ، وفى خدمة الغير ، لكى يستريح فى ذلك اليوم ، وينال أجره بحسب تعبه ( 1كو 3 : 8 ) فى النعيم الأبدى ...

ليتنا نضع يوم القيامة والحساب أمام أعيننا باستمرار ، حتى نسلك بحرص أمام الله ، وحتى نقف أمامه فى يوم الدين ، دون أن تبكتنا ضمائرنا .

وليتنا نبذل كل جهد وتعب من أجل راحة الآخرين ، سواء فى محيط الأسرة أو المجتمع أو الوطن أو البشرية جمعاء ، حباً للكل ، وليس لمجرد الجزاء . وهذا الحب سيقف إلى جوارنا فى اليوم الأخير .

ولن يدخل ملكوت الله فى ذلك اليوم ، إلا القلوب العامرة بالحب ، لن يدخله إلا الذين أحبوا الله ، وأحبوا الخير ، وأحبوا الغير ...

بهذا الحب نصلى جميعاً من أجل بلادنا ، ومن أجل أمنها وسلامتها ، ومن أجل البلاد التى تسودها الحروب أو النزاعات الداخلية ، لكى يمنح الرب سلاماً للعالم . ولكى يعطى الرب الغذاء للبلاد التى تسودها المجاعات ، ويمنح النقاوة والتوبة للمجتمعات التى يسودها الفساد . ونطلب أن يبارك الرب كل من يعمل خيراً فيعم الخير كل مكان . وكل عام وجميعكم بخير ...

 

( 9 )

تأملات فى أهمية القيامة

الحياة والخلود :

مبارك هو الله الذى منحنا الوجود إذ لم تكن ، وميزنا عن باقى الكائنات بالعقل والنطق .

وأعطانا الله الحياة . وهى سر يغوص الناس فى أعماقه ، ولا يصلون إلى مكنوناته .

وأعطى الله الحياة لكائنات حية عديدة جداً تعيش معنا على هذا الكوكب ، من طيور وحيوانات وحشرات وهوام وأسماك ، كل منها له طبيعته .. ولكن الحياة فى الإنسان تميزت بميزة أسمى من كل تلك الكائنات .. تميزت بالروح التى تختلف عن أنفس الحيوانات ...

فتلك الكائنات الحية معنا حياة . أما نحن فلنا حياة ، وحياة أخرى . إذ أعطامنا الله حين خلقنا أرواحاً خالدة ...

الخلود عطية عجيبة وعميقة جداً ، منحها الله للبشرية . فكان إذن من أهم عطاياه لنا : الوجود ، والحياة ، والخلود . مع سمو فى كل من هذه الأمور الثلاثة ، نتفوق فيها على كل المخلوقات الأرضية . يضيف لها الله مجموعة من المواهب والقدرات ، تتنوع من إنسان لآخر ، حسبما قسم الله لكل واحد كما شاءت مواهبه الإلهية ( 1 كو 12 : 11 ) 

خروج الحياة من الإنسان سر لا ندريه . ورجوع الحياة إليه سر أعظم ...

كل ما ندريه عن خروج الحياة من الإنسان هو بعض مظاهر خارجية ، مثل توقف المخ ، وتوقف القلب ، وتوقف النفس ، وتوقف النبض ، وتوقف الحرارة ، وتوقف الحس ، وبالتالى توقف كل أجهزة الجسد .

أما خروج الروح من الجسد ، فهو سر . كيف يحدث ، ومتى ؟ وما تحيط به من مشاعر وأحاسيس ، أو من مناظر . وما يتبع ذلك ، ومسيرة الروح .. كل هذه أسرار .. حتى الذين عادوا إلى الحياة ، وأقامهم الأنبياء فى العهد القديم ، أو أقامهم السيد المسيح له المجد ، لم يخبرونا بما حدث لهم ، وكيف خرجت منهم الحياة ، وكيف عادت إليهم ، وكيف كانوا بين الحالين ؟! .. كل ذلك بقى سراً مختوماً عليه بسبعة ختوم .

كل ما نستطيعه ، هو أن نشكر الله ، لأنه وعد أن يعطينا حياة أخرى ...

إنها حياة بعد الموت ، ننالها فى القيامة العامة ، التى تقوم فيها جميع البشر . ترجع الأرواح إلى اجسادها فتقوم ، لتقف فى يوم الدينونة العظيم ، الذى فيه يجازى الله كل نفس بما عملت . وينال كل واحد منا حسبما صنع بالجسد كان أم شراً ( ( 2 كو 5 : 1. )

ولكن كيف تعود الأرواح إلى الأجساد ؟ هنا نقف بالإيمان أمام قدرة الله القادر على كل شئ .

الله الذى خلق الكون كله من العدم ، أتكون القيامة صعبة عليه ؟ حاشا ..

القيامة تعطينا إذن فكرة عن قدرة الله .

الله القوى المتناهى فى قوته ، الذى يستطيع أن يعيد هذه الأجسام مرة أخرى بعد أن تتحلل وبعد أن نتحول إلى تراب ...

ويعيدها فى نوع من التجلى ، أجساداً روحانية ،سماوية ، نورانية ( 1 كو 15 : 49 ) . لا يدركها الموت فيما بعد ، ولا يدركها تعب ، ولا مرض .

فالله وعد الإنسان بالخلود ، وليس بالخلود لجزء منه فقط هو الوح ، بل الخلود للإنسان كله ، روحا ًوجسداً .

فلو أن الروح فقط أتيح لها الخلود والنعيم الأبدى ، إذن لا يمكن أن نقول إن الإنسان كله قد تنعم بالحياة الدائمة ، وإنما جزء منه فقط ، وهو الروح . فبالضرورة إذن لابد أن يقوم الجسد من الموت ، وتتحد به الروح ، لتكون إنساناً كاملاً تصير له الحياة الدائمة .

الجسد والروح معاً

القيامة عقيدة أساسية فى جميع الأديان .

ولولاها ما يثبت دين إطلاقاً . فنحن نؤمن بقيامة الجسد من الموت وبالحياة الأخرى والنعيم الأبدى وعقوبة الأشرار .

إن قيامة الأجساد ضرورة تستلزمها عدالة الله :

فالإنسان مخلوق عاقل ذو إرادة . وبالتالى هو مخلوق مسئول عن أعماله . وسيقف أمام الله ، لينال ثواباً أو عقاياً عما فعل خلال حياته بالجسد على هذه الأرض . فهل يعقل أن يقع هذا الجزاء على الروح فقط ، أم يقع على الإنسان كله بروحه وجسده ؟

إن الروح والجسد اللذين اشتراكاً معاً فى العمل ، تقتضى العدالة الإلهية أن يتحملا الجزاء معاً ، أو أن يتنعماً بالمكافأة معاً .

الجسد هو الجهاز التنفيذى للروح أو للنفس أو للعقل . الروح تميل إلى عمل الخير ، والجسد هو الذى يقوم بعمل الخير ، يجرى ويتعب ويشقى ويسهر ويحتمل . أفلا تكون له مكافأة عن كل ما اشترك فيه من خير مع الروح ؟ أم تتنعم الروح وحدها فى الأبدية ، وكل تعب الجسد يضيع هباء ؟! وهل يتفق هذا مع عدل الله الكلى العدالة ؟!

ونفس الوضع نذكره أيضاً عن عمل الشر الذى يشترك فيه الجسد مع الروح . بل قد يكون له فى الشر النصيب الأوفر .

فالجسد الذى ينهمك فى الملاذ العالمية ، من أكل وشرب وسكر ومخدرات وزنى ورقص وعبث ومجون ، ويلذذ حواسه باللهو .. هل بعد هذا كله ، تدفع الروح الثمن وحدها فى الأبدية ، ولا يلحق بالجسد شئ من العذاب أو من المجازاة ؟! كلا ، فهذا لا يتفق مطلقاً مع العدل الإلهى ، الذى لابد أن يجازى الإنسان كله روحاً وجسداً .. إذن لابد أن يقوم الجسد ليشترك فى المجازاة ، ويكون الحساب لكليهما معاً .

لأنهما أشتركا فى العمل معاً ، سواء بدأت الروح ، وأكمل الجسد . أو أشتهى الجسد واستسلمت الروح له ، واشتركت معه فى شهواته .

إن الجسد ينفذ ما تريده الروح ، ويبر أيضاً عن مشاعرها .

ولنأخذ الجندى فى الميدان مثالاً لنا .

الجندى تدفعه روحه إلى أعمال البسالة والبذل والفداء ، وتشتعل روحه بمحبة وطنه ومواطنيه . ولكن الجسد هو الذى يتحمل العبء كله ، ويدفع الثمن كله . الجسد هو الذى يتعب ويسهر ويحارب ، وهو الذى يجرح ويتمزق وتسيل دماؤه . فهل بعد كل هذا تتمتع الروح وحدها ، والجسد لا يشترك معها فى المكافأة ؟! وكأنه لم ينل أرضاً ولا سماء ؟! إن العدل الإلهى لا يوافق إطلاقاً على هذا . إذن لابد أن يقوم الجسد من الموت ، ليشترك مع الروح فى أفراحها .

ولنضرب مثلاً واحداً للشركة بين الروح والجسد ، وهو العين :

الروح تحب أن تشفق ، ويظهر الحب والإشفاق فى نظرة العين . والروح تغضب أو تميل إلى الانتقام . وترى العين نظرة الغضب أو نظرة الانتقام . الروح تتجه إلى الله بالصلاة ، وترى فى العين نظرة الابتهال ، أو تغرورق العين بالدموع من تأثر الروح ...

الروح الوديعة المتضعة يشترك معها الجسد بنظرات وديعة متضعة . والروح المتكبرة المتغطرسة المتعالية ، يشترك معها الجسد أيضاً بنظرات التكبر والغطرسة والتعالى .

وكما تشترك العين ، تشترك أيضاً كل ملامح الوجه ، كما تشترك دقات القلب ومراكز المخ ، وأعضاء أخرى من الجسد ..

هذه أمثلة من الشركة بين الروح والجسد .

وفى مجال الجد والإجتهاد ، نرى هذا أيضاً . ويوضح هذا قول الشاعر :

وإذا كانت النفوس كباراً                                  تعبت فى مرادها الأجساد

إذن تكون المكافأة فى الأبدية للروح الكبيرة التى أرادت الخير وصممت على عمله ، وأيضاً للجسد الذى حمل عبء وجاهد واحتمل وصبر ، حتى حقق حقق للروح رغبتها . وهكذا كما اشترك معها فى العمل ، ينبغى أن يقوم ليشترك معها فى الجزاء وفى حمل المسئولية ... فالمجازاة هى للإنسان كله  ...

ونحن على الأرض نكافئ الجسد ، ونعتبر هذا أيضاً مكافأة فى نفس الوقت للروح التى لا نراها 

ألسنا نمجد أجساد الشهداء والأبرار ، ونجعل مقابرهم مزاراً ، ونضع عليها الورود والأزهار والأطياب ، ونصلى هناك من أجلهم .. ؟ ولا نعتبر هذا كله مجرد إكرام للجسد أو للعظام أو للرفات أو للتراب ، وإنما للإنسان كله . لأننا فيما نفعل هذا ، إنما نكرم روحه أيضاً ...

وإن كان الإنسان لا يستحق الإكرام ، ينسحب الأهمال على جسده وعلى روحه معاً . فالمجرمون الذين يحكم عليهم بالأعدام أو بالسجن ، تنال أجسادهم جزاءها . وفى نفس الوقت يلحق بأرواحهم سوء السمعة ، وتتأثر أرواحهم بما يحدث لأجسادهم .

فإن كانت عدالتنا الأرضية تفعل هكذا ، فكم بالحرى عدالة الله ...

عدالة الله تشمل الإنسان كله ، روحاً وجسداً ، لذلك لابد أن يقوم الجسد الذى عاش على الأرض مشتركاً مع الروح فى أعمالها . وليس فى مجرد الأعمال فقط ، بل حتى فى الأفكار والمشاعر

فإن الجسد ينفعل بحالة الروح ، بفكرها ومشاعرها ونياتها .

الروح تقدم المهابة أو الخشوع فينحنى الجسد تلقائيا . الروح تحزن فتبكى العين ، ويظهر الحزن على ملامح الوجه وفى حركات الجسد . الروح تفرح ، فتظهر الابتسامة على الوجه . . الروح تخاف فيرتعش الجسد ، ويظهر الخوف فى ملامحه . الروح تخجل ، فيعرق الإنسان ، أو يبدو الخجل فى ملامحه ....

إنها شركة فى كل شئ ، ليس من العدل أن تتحملها الروح وحدها أو الجسد وحده إنما يتحملها الإثنان معاً ، وهذا هو الذى يحدث فى القيامة .

كذلك من العدالة أن تقوم الأجساد لتنال تعويضاً عما كان ينقصها .

فالعميان مثلاً والمعوقون أصحاب العاهات ، والمشوهون ، وكل الذين لم تنل أجسادهم حظاً من الجمال أو الصحة أو القوة .. من العادلة أن تقوم أجسادهم  فى اليوم الخير ، وتقوم بلا عيب ، حتى يعوضها الله عما قاسته على الأرض من نقص وألم .

كذلك الذين عاشوا على الأرض فى فقر وعوز ، وفى جوع ومرض ، كان له تأثيره على أجسادهم ، يحتاجون أن تقوم أجسادهم فى حياة أخرى لا تشعر فيها أجسادهم بما كان لها على الأرض من ألم ...

كرامة الإنسان

إننا نفرح بالقيامة ، ونراها لازمة وضرورية وممكنة . ونراها تعبيراً عن محبة الله للبشر ، وتعبيراً أيضاً عن عدله .

القيامة أيضاً تعطينا فكرة عن محبة الله للبشرية ،

الله الذى أحبنا حتى أنعم علينا بالخلود ، كما أحبنا من قبل وأنعم علينا بالوجود . الله المحب منح البشرية هذا الخلود العجيب ، فيحيون إلى الأبد فى نعيم دائم .

القيامة أعطت الإنسان قيمة معينة ، أعطت لحياته قيمة .

فلو كانت  حياة الإنسان تنتهى عند القبر ، لأصبح مخلوفاً فانياً زائلاً ، مثله مثل الحيوان تماماً ، ومثل باقى الكائنات التى لها مجرد حياة أرضية فقط .

ما هى إذن الميزة التى لهذا الكائن البشرى العاقل الناطق ، الذى وهبه الله من العلم موهبة التفكير والاختراع ، والذى سلطه على كل الكائنات الأرضية الأخرى ... ! هل يعقل أن هذا الإنسان العجيب ، يؤول جسده إلى مصير كمصير بهيمة أو حشرة أو بعض الهوام ؟! إن العقل لا يمكنه أن يصدق هذا ...

إذن قيامة الجسد تتمشى عقلياً مع كرامة الإنسان .

الإنسان الذى يتميز على جميع المخلوقات ذوات الأجساد ، والذى يستطيع بما وهبه الله  أن يسيطر عليها جميعاً ، وأن يقوم لها بواجب الرعاية والاهتمام إذ أراد . فكرامة الجسد هذا المخلوق العاقل ، لابد أن تتميز عن مصير باقى أجساد الكائنات غير العاقلة غير الناطقة .

وهذه الميزة تظهر فى قيامة الجسد وتجليه .

لذلك نشكر الله لأنه بالقيامة أعطى لحياتنا امتداداً كبيراً إلى غير نهاية ، حيث يعيش الإنسان فى حياة أخرى لا تنتهى إلى الأبد .

عندما خلق الله الإنسان خلقه حياً ، ذا نفس حية ، ولم يكن تحت سلطان الموت .

إذن الموت دخيل على العالم ، والحياة  هى الطبيعة الأصلية للإنسان .

وبالقيامة يرد الله الإنسان إلى رتبته الأولى ، إلى الحياة التى خلق بها ولأجلها .

فوائد أخرى للقيامة :

بالقيامة تتثبت المبادئ الروحية ، ويصبح الإنسان صاحب رسالة وصاحب قيم .

لأنه مع القيامة توجد المسئولية وتوجد الدينونة ، والإنسان يقوم من الموت لكى يقف أمام منبر الله العادل ليعطى حساباً عن كل ما فعله بالجسد إن خيراً وإن شراً . يعطى حساباً ليس فقط عن أعماله ، وإنما أيضاً عن أعماله ونياته وحواسه ومشاعره الباطنية .

ومادام الإنسان سيقوم وسيعطى حساباً عن كل شئ ، ينبغى إذن له أن يحيا حياة التدقيق والحرص ، حياة البر والقداسة التى يقف فيها بلا خجل ولا خزى ولا خوف أمام الله ، وأمام الناس فى اليوم الأخير .

لو لم تكن قيامة لساد الفساد العالم ، ولأنتشر الظلم ، ولأكل الناس بعضهم بعضاً .

لو لم تكن هناك قيامة للأجساد ، وحياة أخرى ، لانتشر الفساد والأربيقورية التى تقول " لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت " ، ولتهالك الإنسان على ملاذ الدنيا وعلى المادة . لكن بالقيامة أصبحت هناك قيم ، وهناك مبادئ ، وهناك أهداف روحية يحيا الإنسان لها ، وهناك الحياة الآخرة التى يسعى الإنسان إليها بهدف واسع كبير غير الأهداف القصيرة المؤقتة التى يعيش لها الناس .

وبالقيامة دخلت إلى الإنسان مشاعر الشجاعة والجرأة وعدم الخوف .

وأصبح الإنسان لا يخاف الموت ، وهكذا على رجاء القيامة تقدم الشهداء إلى الموت غير هيابين  إنهم يعرفون أن الموت ليس نهاية حياتهم ، ويرون أن بعد الموت باباً واسعاً لحياة لا تنتهى 

على رجاء القيامة عاش الناس على هذا الرجاء فى فكرهم السماء  ، وفى فكرهم النعيم الأبدى ، وفى فكرهم سعادة تفوق سعادة الدنيا ، وهى ما عبر عنها الكتاب بقوله " ما لم تره عين ، وما لم تسمع به أذن ، وما لم يخطر على قلب بشر ما أعده الله لمحبى اسمه القدوس "

إن الناس كلما يودعون راحلاً عن الدنيا يودعونه على رجاء القيامة ، باعتبار أنهم سيرونه هناك . بل إن القيامة أعطت رجاء أوسع من هذا ، ليس فقط فى تلاقى الأحباء والأقرباء ، وإنما فى تلاقى الأجيال كلها .

حيث يلتقى الناس هناك فى السماء مع أبينا آدم وأبينا نوح والأنبياء ، ومع جميع الأبرار فى جميع العصور . ستلقى الأجيال كلها هناك فى القيامة ولولا القيامة ما كان مثل هذا اللقاء ممكناً ، ولعاش الناس فى جيل محدود ، وفى زمن محدود لا يتعدونه .

ومن هنا رأينا أناساً يعيشون حياة الزهد والنسك والتجرد من الماديات فى العالم ، لأنهم يعرفون تماماً أن وراء هذا النسك والزهد توجد مكافأة أبدية تعوض كل شئ .

الاستعداد :

ولكن ولكن هذه القيامة يا أخوتى هى فرح للأبرار ، وهى خوف ورهبة للمخطئين والأشرار الذين يخافون من القيامة لأنها تفتح باباً أبدياً فىعقاب الله .

لذلك إذ نتذكر القيامة ، وإذ نتذكر هذا العمر الطويل غير المتناهى الذى ينتظرنا فى الأبدية ، نستعد لهذه الحياة بحياة البر وحياة الإيمان ، لكى نستحق هذا الخلود السعيد . لأنه لن يدخل فى نعيم الله الأبدى إلا المؤمنون الذين عاشوا بالحب ، وعاشوا بالسلام ، وعاشوا فى خير ، ينشرون الخير أينما وجدوا ، وأينما حلوا ويبحثون عن سعادة غيرهم أكثر من سعادتهم الشخصية .هؤلاء الأنقياء الأبرياء ، الأبرار هم الذين يعيشون فى النعيم الأبدى .

علينا أن نحيا فى هذا البر ما دامت لنا أنفاس تتردد فينا ، ولنبذل  كل طاقاتنا لكى نسعد الأجيال التى نعيش فيها ، ولكى نتمثل بالسيد المسيح الذى قيل عنه " كان يجول يصنع خيراً "

 

(10 )

نؤمن بقيامة الأموات وحياة الدهر الآتى ( قانون الإيمان )

 

إننا نقول فى ( قانون الإيمان ) : " ننتظر قيامة الأموات ، وحياة الدهر الآتى " ...

فبالقيامة ننتقل إلى السماء ، إلى الدهر الآتى . إلى عالم آخر غير عالمنا الحالى فما هو ؟ وما طبيعة الحياة فيه ؟

لو كانت الحياة فى الآخرة مثل حياتنا ههنا على الأرض ، إذن ما هو الفرق ؟! وما معنى النعيم الأبدى ؟ وما معنى ملكوت السموات ؟ وما هى المكافآت التى تعطى للمؤمنين الغالبين ؟

طبيعى أن الحياة على الأرض ، غير الحياة فى السماء .

والحياة فى هذا الدهر ، غير الحياة فى الدهر الآتى .

بل إننا نقول فى صلاتنا بالمزامير " أنت يارب تنجينا ، وتحفظنا من هذا الجيل وإلى الدهر " ( مز 12 : 7 ) .

لقد لخص السيد المسيح الحياة فى الدهر الآتى بعبارة جميلة دققة موجزة قال فيها :

" .. يكونون كملائكة الله فى السماء " ( مت 22 : 3. ) .

هنا عجيب شديد ، وهنا الفارق الأساسى بين الدهر الحاضر ، والدهر الآتى . بين هذا العالم المادى ، والعالم السماوى الروحانى بعد القيامة .

الأشرار فى الدهر الآتى ، سوف يلقون فى جهنم ، فى الظلمة الخارجية ( مت 25 : 3. ) ، أى خارج مجمع الأبرار .

وحديثنا حالياً هو عن حالة الأبرار فى الدهر الآتى : كيف يجدونه ؟

فى الدهر الآتى سكون كل الأبرار معاً ، فى وحدة شاملة .

تجتمع كل الشعوب والأمم والبائل والأجناس ، بلا تمايز بينها . لا تمايز من جهة الجنس أو اللون ، لا خلاف عرقى ولا قبلى ولا قومى . الكل معاً فى سلام ، وفى وحدة القلب والفكر .

تبطل العدوات والحقد والحروب . ولا يكون صراع ولا منافسة ...

الكل بلغة واحدة . أهى لغة الروح ، أم لغة الملائكة ؟

لست أدرى .. المهم أنهم سيفهمون بعضهم بعضاً ، ولا يحتاجون إلى مترجم . بل لهم فهم واحد ، ومفاهيم واحدة وفكر واحد .

تبطل الألسنة واللغات التى تميز مجموعة عن أخرى ...

إن وجد تمايز ، فإنه يكون فى الدرجة الروحية .

وفى درجة المكافأة . لأن كل إنسان سينال جزاءه بحسب أعماله ( مت 16 : 27 ) .

وطبيعى أن أعمال الناس على الأرض كانت متفاوتة فى النوع والعمق والدرجة . فعلى هذا القدر تكون مكافأتهم فى السماء أيضاً متفاوتة . ولكن الكل يكونون سعداء .

ويتكون المجتمع السمائى فى الدهر الآتى ، من الملائكة والبشر .

الكل يكونون معاً . وهنا نوع آخر من النعيم الأبدى ، وهو عشرة البشر مع الملائكة بكافة درجاتهم وطغماتهم السمائية ، ومعهم جموع الأنبياء والرسل ، والشهداء والأبرار ، فى حفلة تعارف كبرى تضم الجميع ...

حياة الدهر الآتى تتميز بالفرح الدائم

لذلك يطلق عليها لقب ( التعب الأبدى ) . وكلمة ( الأبدى ) تعنى لا نهاية لها . فالدهر الحالى له نهاية . وحتى عندما تطول سنى حياة إنسان على الأرض ، تدركه  الشيخوخة بكل ما فيها من تعب وضعف .

أما الأبدية فهى الفرح الدائم الذى لا ينقص ولا يهتز . إنه الموضع الذى لا حزن فيه ولا كآبة ، ولا خوف ولا دموع ، ولا عوز ولا فقر .

إنه يقدم أروع مثال لما حاول الفلاسفة يتخيلوه . كما كتبوا عن ( المدينة الفاضلة ) أو( مدينة الله )

فى الدهر الآتى سوف يبطل عمل الشيطان وتبطل حريته ، وينتهى الشر .

لا تكون خطية فيما بعد . لا تكون هناك أية شهوة بطالة ، ولا آى فكر شرير . الدهر الآتى سوف يتميز بالهارة الكاملة ، وبحياة القداسة التى تشبه ملائكة الله فى السماء ..

وطبعاً سوف لا توجد حروب روحية من عدو الخير يجاهد البشر فى الانتصار عليها .

بل سوف يتمتع الجميع بنقاء تلقائى وصفاء فى الروح والعقل . لخصه الكتاب فى عبارة " إكليل البر " ( 2 تى 4 : 8 )

يتكلل البشر بالبر ، أى تصبح طبيعتهم فى حالة من القداسة غير قابلة للخطأ ، ومنزهة عن كل شر .

فى هذا الدهر نعيش فى عالم مادى . فهل فى الآخرة فى الدهر الآتى ، سنعيش فى عالم مادى أيضاً ؟‍!

هل سنعيش فى ثقل هذا الجسد المادى وفى شهواته ؟! وهل شهوات الجسد تتفق مع طهر السماء وقدسية السماء ؟!

لا شك أن الجسد فى السماء ، سوف لا يكون كما هو حالياً على الأرض . إنه ستخلص طبعاً من الجاذبية الأرضية .

محال أن تجذبه الأرض وهو فى السماء !! وإلا فإنه يسقط من السماء إلى الأرض .

لذلك نؤمن أن الأجساد – فى القيامة – ستقوم بطبيعة سماوية ، لكى يكون هناك تجانس بينها وبين البيئة السماوية التى ستعيش فيها بعد القيامة . وهكذا يعلمنا الإنجيل أننا سنقوم بأجساد سماوية ( 1 كو 15 : 49 )

ستكون الأجساد فى الدهر الآتى غير قابلة للتعب ، ولا للمرض ، ولا للموت ولا للتحلل ، ولا للفساد . أجساد لها الطابع الروحانى ( 1 كو 15 : 44 ، 53 ) .

المتعة فى السماء ، ستكون غير المتعة على الأرض .

لأنه لو كانت المتعة فى الدهر الآتى من نوع المتعة الأرضية ، فما الفرق إذن بين مباهج الأرض ومباهج السماء ؟! وماذا عن الذين جربوا كل أنواع المتعة الأرضية ، وملوها وسئموها ؟! وارتفع الأنقياء عن مستواها ! هنا يقدم لنا الكتاب نوعاً أسمى من هذا كله ، فى قوله :

" ما لم تره عين ، ولم تسمع به أذن ، ولم يخطر على بال إنسان ، ما أعده الله للذين يحبونه " ( 1 كو 2 : 9 )

هنا إذن ارتفاع عن كل الأرضيات وكل الماديات ، وكل الجسدانيات . فكلها قد رأتها العيون ، وسمعت بها الآذان . ولا يستطيع أحد أن يقترح أو يستنتج نوعاً آخر من المتعة ، وإلا يكون قد خطر على بال إنسان !

وفى حياة الدهر الآتى ، لا يوجد تزواج ولا توالد .

فمن غير المعقول أن يولد إنسان جديد ، ويجد نفسه فى النعيم الأبدى دون أن تختبر إرادته ويثبت استحقاقه لهذا النعيم . حينما خلق الله آدم وحواء ، كانا عريانين فى الجنة وهما لا يخجلان ( تك 2 : 25 ) . ما كانت الهوة الجنسية قد دخلت إلى طبيعتهما ، ولا حتى مجرد معرفة الجنس والتمايز الجنسى .. لكنهما عرفا ذلك بعد الخطية والسقوط . فهل سيعود البشر إلى السمو الذى كان له قبل السقوط ؟ أم سيبقى فى عبودية ( الجنس ) وشهواته وضغطاته ؟!

فى الدهر الآتى سيرجع الإنسان إلى البساطة الأولى والنقاوة الأولى .

ولكن بوضع ثابت لا يتحول  عنه ولا ينحرف .

حياة الدهر الآتى هى الشهوة الروحية التى اشتهاها القديسون .

واعتبروها انطلاقاً للروح من ضباب الجسد ورباطاته ، ومن الحياة على المستوى المادى . حتى قال سمعان الشيخ " الآن يارب تطلق عبدك  بسلام حسب قولك " ( لو 2 : 29 ) كما قال القديس بولس الرسول " لى اشتهاء أن انطلق وأكون مع المسيح . ذاك أفضل جداً " ( فى 1 : 23 ) .

إذن حياة الدهر الآتي هى حياة الانطلاق من قيود الجسد والمادة ومن رباطات هذا العالم الحاض.

إنها حياة الحرية الحقيقية ، حرية مجد أولا الله ( رو 8 : 21 )

 الصفحة الرئيسية