الفصل الرابع

بوابات وزنانير

سألتُ بول ، احد موظفي المنظمة التي قامت برعاية زيارتي لاسرائيل ، "الى أي حد سيكون من الصعب زيارة المناطق؟" وكنتُ أُشير ، بالطبع ، الى "الأراضي المحتلة" ـ الضفة الغربية وقطاع غزة.

 

همهم الموظف ،"اووه ، صعبة".

 

كانت تلك فترةً تفاقم فيها النزاع الاسرائيلي ـ الفلسطيني الى مستويات تبعث على الأسى.  فقد انهارت عملية السلام بالكامل ، واندلعت انتفاضة جديدة.  وكانت التفجيرات الانتحارية التي ينفذها فلسطينيون في تصاعد واسرائيل ترد بما اعتَبره أشد خصومها أدبا "اعادة احتلال" ـ مستوطنات يهودية غير مشروعة ، مروحيات هجومية ، نقاط تفتيش ، حظر تجول وتهديم مقر ياسر عرفات في رام الله.  لم تكن اسرائيل بحاجة الى عبء اضافي يضعه حماية أجانب على كاهلها ولكنها كانت أيضا لا تريد أن تبدو وكأنها تمنع الصحافيين من تسجيل الوجه الآخر للقضية.  ومن دون أي دفع من جانبي أدرَج بول لقاءات مع فنانين ومثقفين عرب في برنامج الزيارة.  وجميعهم ، كما اكتشفتُ ، لم يتورعوا عن انتقاد السياسات الاسرائيلية.  مع ذلك كان يجب ان أزور المناطق الفلسطينية ، وكان هذا ايضا شعور الصحافيين الأربعة الذين سأُرافقهم في الزيارة. 

 

قال بول ، "لنر ما يمكن أن نفعله". 

 

عندما وصلتُ الى مطار تورنتو للسفر الى تل ابيب لم نكن قد تلقينا موافقة على الزيارة.  ولكننا بالمقابل لم نتسلم رفضا. 

 

قام المسؤول العامل في شركة الخطوط الجوية الحكومية الاسرائيلية "العال" باستجواب الجميع.  تقدمتُ لإلقاء التحية عليه.  بدأ بالسؤال ، "مكان الولادة؟"

 

"اوغندا" ، أجبتُ ملوُّحة ببطاقة الجنسية التي أُلصقت عليها صورة لاجئة في هيئة عفريت كنتُ أحسبُ انها صورة لا تُقاوَم. 

 

"أوغندا؟ أنا من الهند بالمناسبة".

 

أجبتُ مداعبةً ، "يهودي جنوب آسيوي؟" "كيف حدث ذلك؟" كشَفَ تاريخ العائلة قبل أن يعود الى سحنته الجدية.  ما هي المدارس التي تعلمتُ فيها؟  هل تخرجتُ منها كلها؟ هل نفَّذتُ "خططا" لأقارب ، مثل تسليم رزم أو نقل عم معوَّق من بلد الى آخر؟  بعد الاستنطاق صار يتدفق حيوية وقال:  "اني اعرفكِ من التلفزيون.  برنامج عظيم".  وكان يعني برنامج "تلفزيون شاذ"

Queer Television . فأشرتُ الى صاحبتي ميشيل التي كانت تقف على بعد أمتار وعلى وجهها امارات القلق من حرارة حديثنا.  ابتسم لها وتمنى لي رحلة سعيدة. 

 

ثم التقطتْ ميشيل صورة لي أمام يافطة تصور صالون الملك داوود ( أسم وجدته مبتذلا بشكل لذيذ ) (1).  توادعنا والأعصاب تختلط بالابتسامات.  كانت الابتسامات تهمس ، "قُضي الأمر!" فيما كانت الأعصاب تهمس ،"أمن الجائز أن تكون هذه هي....النهاية" ميشيل لم تكن عصابية بحيث تتساءل:  بعد أقل من 24 ساعة اقتحم مهاجر مصري مكتب شركة "العال" في لوس انجيليس وقتل شخصين رميا بالرصاص.  ورحلات تورنتو المتوجهة الى تل أبيب تنطلق من لوس انجيليس.  ولو انتظرتُ يوما آخر للسفر لكان من المرجح أن لا أصل الى اسرائيل في أي وقت قريب ـ ميشيل ما كانت لتسمح لي بالذهاب ، وأنا ما كنتُ للألومها على ذلك. 

 

فيما كنتُ مستغرقةً بتحليل الثراء المتجسد في لقاء مسلمة من شرق افريقيا ويهودي من جنوب آسيا ، لفتني مؤشر آخر الى ما تتسم به اسرائيل من تعقيد.  فان شريط الفيديو الذي يعرض اجراءات السلامة خلال الرحلة ، وإن كان ناطقا بالعبرية فهو مذيل بترجمة عربية.  إذ أن العربية لغة رسمية في اسرائيل.  مَنْ كان يعرف؟

 

هبطتُ بلا مشاكل.  كان من المزمع تقسيم الزيارة المخصص لها ستة ايام على مرحلتين رئيسيتين:  قضاء اليومين الأولين في مركز اسرائيل التجاري ، تل أبيب ، والقسم الثاني في العاصمة الروحية ، القدس.  وسنتوقف ايضا في مدن أصغر غالبية سكانها من عرب اسرائيل ، وفي الطريق ، كما ظل يراودني الأمل ، اقتطاع بعض الوقت لزيارة المناطق الفلسطينية.  أعلم أن هذا برنامج مزدحم بالنشاط ولكني فهمتُ في أول يوم كامل امضيته في تل أبيب أن زحمة العمل عند الاسرائيليين هي كالهواء الذي يتنفسونه. 

 

ترتدي زحمة العمل بإيقاعها المتسارع شكل انسيابية ثقافية.  فعلى الغداء حدَّثني صحافي اسرائيلي عن انتاج جديد لمسرحية "سيدتي الجميلة" باللغة العبرية ، فيما تقوم فنانة عربية بدور البطولة.  وأضاف ، "في الثمانينات كانت هناك محاولة لتأسيس مسرح وطني فلسطيني.  كانت كل الأعمال المسرحية باللغة العربية ودعا المنظمون بنشاط نقادا مسرحيين اسرائيليين للحضور.  في الواقع أن المسرح كسب جمهورا متحمسا بين اليهود الليبراليين ولكنه في الحقيقة لم يلق استجابة بين الفلسطينيين" (2).  تعثَّر المسرح بعد طلاق مؤسسيه اللذين كانا زوجين.  ولكن الانتفاضة هي التي اجهضت عمليات التبادل بين العرب واليهود في متحف الفن في تل ابيب الذي كنا بصدد زيارته. 

 

شيء من الخلفية اولا.  فُتح المتحف في ثلاثينات القرن العشرين قبل استقلال اسرائيل بفترة طويلة وفي وقت كان بالامكان رؤية الجِمال تسير في الشوارع.  وبعد اقناع رئيس بلدية تل ابيب ان البلدة ستصبح مدينة وان كل مدينة عظيمة يجب ان تصطف مع الفنانين ، كتب الى مقتنين في أنحاء العالم طالبا ما يمكن اعارته.  وعمد يهود المان كانوا يواجهون مستقبلا يلفه الغموض ، الى ارسال كنوزهم الفنية اليه.  وبهذه الطريقة أُنقذت منحوتات ولوحات رائعة من المصادرة أو التدمير الغاشم.  والآتي في هذه القصة أحسن.  فإن الفن الذي كان متداولا بين اليهود أصبح متاحا ليتمتع به اليهود والعرب.  وعلى امتداد شطر كبير من عقد التسعينات كان مدير غاليري للفنون في القدس الشرقية الفلسطينية ، يعرض أعمالا من مجموعة تل أبيب الفنية ، وبالمقابل يُعير ما في المتحف من أعمال ابدعها فنانون عرب من أبناء جلدته.   وفي ذروة عملية السلام أقامت فنانة مصرية معرضا في تل ابيب وتولى المتحف ترتيب عملية نقل البعض من أعمالها الى المناطق الفلسطينية. 

 

هذا كله لم يعد موجودا.  وقالت مديرة متحف تل ابيب عن نظيرها من القدس الشرقية ، "نود بكل جوارحنا أن نواصل العمل معه".  ومنذ اندلاع الانتفاضة حاولتْ الاتصال به دون أن تنجح في محاولاتها.  وقالت ، "انه على الارجح خائف [ من السلطة الفلسطينية ] بحيث لا يريد الاتصال بنا الآن"  (3).  على الأرجح؟ لماذا تفترض المديرة هذا الافتراض؟  ألححتُ قليلا ، ولكن بلا جدوى.  طريقتها في الكلام بصوت هادئ جعل المضي في الإلحاح يبدو فظاظة. 

 

فيما كنتُ اغادر المبنى لفتني تناقض بصري.  فان المبنى الحجري الممتد فسيحا على ارتفاع واطئ لمتحف الفن في تل ابيب يقع عبر الشارع مباشرة من المقر الشاهق ، الأشبه بالبناء الفضائي لقوات الدفاع الاسرائيلية.  وهذا التجاور بين الإبداع والمؤسسة التراتبية العسكرية قد يكون مصادفة ولكن بالامكان العثور عليه أينما توجه المرء في اسرائيل ـ موطن احزاب سياسية يهودية متطرفة و موطن المهرجان السنوي الوحيد للمثليين في الشرق الأوسط في الوقت نفسه.  هذه النقطة وُضعت امامي خلال أحاديثي الأولى مع اسرائيلي ، هو الصحافي نفسه الذي حدَّثني عن المسرح الوطني الفلسطيني ورواده اليهود.  ومضى يثير أكثر المسائل وجودية وحساسية:  هل ينبغي ان تبقى اسرائيل "دولة يهودية" أم تتطور الى دولة علمانية محضة حيث يكون الدين طارئا؟  وأي دور ينبغي ان تقوم به الهولوكوست ( المحرقة ) ، لا في تاريخ اسرائيل الرسمي فحسب وانما في هويتها الراهنة كملاذ؟  فكرتُ أن عين الصواب أن يطرح اسرائيلي مثل هذه الاسئلة على نفسه بكل صراحة ، ناهيكم عن طرحها على غريب مثلي. 

 

طيلة اقامتي كانت وسائل الاعلام الاسرائيلية في الحقيقة تناقش مثل هذه المسائل نقاشا حاميا.  ولم يكن في اعتقادي أن بالامكان التعرض الى الدين في دولة يهودية.  وقد كنتُ مخطئة.  إذ قرأتُ عن عضو في الكنيست ( البرلمان الاسرائيلي ) أشار الى أن البلد ليس بحاجة الى مزيد من المهاجرين المتدينين من أميركا الشمالية.  وقامت احدى الصحف بتضخيم تصريحاته الى زوبعة صغيرة.  وزعم النائب لاحقا ان ما عناه هو المهاجرون "المتطرفون في تدينهم" (4).  على أية حال.  فان القوانين الاسرائيلية تكفل حرية التعبير ، ولهذا مغزاه. 

 

استمتعتُ على الأخص بقراءة افتتاحيات الصحف التي كان اختيارها لمواضيع تعليقاتها يشير الى وجود صحافة حرة للغاية.  خذوا صحيفة هآرتس ، التي هي بمثابة نيويورك تايمز الاسرائيلية.  فهي وجهت انتقادات لاذعة الى مشروع تقدمت به الحكومة لتخصيص اراضٍ تملكها الدولة من اجل بناء مدن يهودية حصرا.  أتعرفون كيف وصفت هآرتس مشروع هذا القانون؟  وصفته بالمشروع "العنصري" (5)، ونشرت الصحيفة هذا النعت في العنوان البارز:  "مشروع قانون عنصري".  بلا تلطيف ، وبلا تحفظ ، وبلا اعتذار.  وصُرِف النظر عن مشروع القانون بسبب ما تعرض اليه من انتقادات حادة في اسرائيل. 

 

لا بد من اطلاعكم على مسألة اخرى كانت موضع جدل تناقلته الصحف خلال زيارتي.  وهي كانت تتعلق بإنصاف الشبكات الإخبارية الأجنبية في تغطيتها للنزاع الفلسطيني الاسرائيلي.  وقد هدد وزير الاتصالات الاسرائيلي بمنع شبكة "سي ان ان" من البث على الموجات الهوائية الوطنية والاستعاضة عنها بمحطة "فوكس".  وكان رد هآرتس:  "إذا فعلتَ ذلك فإنك لن تكون أفضل من عرفات" الذي صفَقَ الهاتف ذات مرة على مراسلة "سي ان ان" ، كريستيان امانبور.  وفي دفاع عنيد عن المبادئ ضد الدعاية أكدت أوسع الصحف الاسرائيلية نفوذا ، "أن من حق الاسرائيليين أن يعلموا ان شبكة "سي ان ان" والـ"بي بي سي" ليسا انعكاسا مرآتيا لوجهة النظر الاسرائيلية الرسمية..." (6)

 

وإذ كنتُ لم أزل مترنحة بتأثير ما شاهدته حتى الآن قلبتُ الصفحة ـ وإذا بي أجد مزيدا من النقد الذاتي.  فقد تساءلت الكاتبة ، "هل اولى التاريخ اليهودي ما يكفي من الاهتمام بما انجزته قياداته النسوية.  الأرجح لا...." (7) ومضت الى سرد حكاية مصرفية اسرائيلية تُدعى دونا غراسيا ناسي التي انقذت الوفا من محاكم التفتيش الاسبانية بتحويل موهبتها المالية الى سطوة سياسية.  بعد أيام على نشر هذه المقالة أشادت اسرائيل بنموذج نسوي آخر يُقتدى.  ولأول مرة قرر الجيش تعيين امرأة ناطقا رسميا بإسمه (8).  وأذكُر أني فكرتُ أنه رغم كل تنقيبات اسرائيل لتأكيد هويتها الأثنية ( وربما بسببها ) فان هذا على ما يبدو مجتمع يتقدم ، حتى وهو يصطرع مع الحقائق المتعلقة بإصوله. 

 

رأيتُ وأنا ادخل القدس في النصف الثاني من زيارتي ، مشهدا التقطتُه من نافذة السيارة.  فان شابة في زي عسكري كامل كانت تسير أمام دزينة من الجنود الذكور (9).  أين كانت تقود جنودها؟  إلتفتُّ الى مرشدي متساءلة فقال انهم متجهون الى المدينة القديمة ـ الحي الديني من القدس ـ "حيث سيمضون ثلاثة أيام أو نحو ذلك في التثقف بالاديان الممثَّلة هنا على اختلافها" (10).

 

"هل تعني ان التربية الدينية جزء من الواجب العسكري"؟

 

"بكل تأكيد ، فالجيش يوفر الوقت ، مرة كل بضعة اشهر ، لتثقيف الجنود المتمركزين في القدس بتقاليد من خارج خبرتهم اليومية".  وأنا قد عرفتُ قيمة هذا البرنامج على الصعيد الشخصي في عصر اليوم التالي. 

 

كان من المقرر ان أذهب الى قبة الصخرة (11).  ويمكن التعرف على ثالث أقداس الاسلام فورا من سطحه الذهبي الذي لا ريب في أن بريقه الأخَّاذ يشجع الشمس على الشروق والغروب كل يوم.  وطبقا للتقليد الاسلامي فان هذا المسجد يضم صخرة خاصة ـ الصخرة التي تسلقها النبي محمد خلال "ليلة الإسراء".  فعند الصخرة وجد محمد سُلَّما حلزونيا حمله الى السماء حيث تخالط وصلى مع انبياء سابقين.  ولكن إذا كان هذا هو كل ما يحويه تاريخ هذا الموقع فقد كان بوسعي الدخول دون قلق وربما حتى حاسرة الرأس.  غير أن الأمر ، للأسف ، لم يكن بهذا السهولة. 

 

تنتصب قبة الصخرة على منصة جبل المعبد الذي يزعم التقليد اليهودي والكثير من الآثاريين انه كان موقع المعبد المركزي في مملكة داود القديمة.  كما انها الرقعة التي اندلعت فيها اضطرابات في سبتمبر ( ايلول ) عام 2000 مفجرة الانتفاضة الثانية.  فقبل أيام من اندلاع الانتفاضة سار ارييل شارون على قدميه الى جبل المعبد.  وبعد فشل عملية السلام التي شهدت تقدم اسرائيل بمقترح تقسيم القدس كان شارون يحاول ، على ما يُفترَض ، ان يبين ان باحة جبل المعبد مفتوحة للمصلين اليهود.  على مَنْ كان يضحك؟  فان شارون بوصفه صديقا لليهود المحافظين حَسَبَ أن مثل هذه الزيارة ستعزز حملته غير الرسمية حتى ذلك الوقت للفوز برئاسة الحكومة.  كانت تلك مناورة سياسية خبيثة.  وبمناسبة الحديث عن خبث السياسة فان رئيس جهاز امن عرفات في الضفة الغربية كان قد اصدر موافقته المسبقة على زيارة شارون.  وكشف وزير في السلطة الفلسطينية لاحقا ان عرفات كان يخطط للانتفاضة منذ أشهر (12).  وكان بحاجة الى استفزاز ، وهكذا على وجه التحديد بدت زيارة شارون لجبل المعبد ، في نظر الفسطينيين ـ استفزازا.  اندلعت الانتفاضة وأُحكِم غلق الأبواب الحديد لمسجد الصخرة والمسجد الأقصى المجاور على السواء بوجه الجميع ما عدا مسلمي المدينة.  ومنذ ذلك الحين أُفرغ هذا الجزء من القدس القديمة ـ الذي كان في السابق محط انظار اليهود والمسيحيين وغير المنتمين الى دين منظَّم ـ من شحنته العالمية.

 

أقف عند البوابة بفستان غامق اللون يصل الى الكاحل وبلوزة مُقفَلة ، طويلة الأكمام.  أُريد تهدئة الوخز الذي تقترفه قبعتي الشوكية بفروة رأسي ولكن الحجاب الذي يغطي رأسي يخفف من وطأتها.   وكانت وزارة الخارجية الاسرائيلية أبلغت "الوقف" بقدومي لكونه الجهة المسؤولة عن الموقع.  وكانت الرسالة:  لا تنغِّصوا عليها الزيارة يا سادة يا كرام فهي واحدة منكم.

 

ليس تماما واحدة منهم. 

 

يتفحصني موظف مربوع في "الوقف" بنظراته من قمة رأسي الى اخمص قدميّ وينكر انه تلقى أي إشعار من الوزارة.  مرشدي يؤكد له نقل الإشعار.  رجل "الوقف" يدمدم في جهازه اللاسلكي وفي غضون دقائق قليلة يطل أخ آخر قوي البنية.  لم أدرك في حينه ، ولكن التأخير لا يمت بصلة الى وصول الإشعار الرسمي أو عدمه.  فان اسمي إرشاد يُطلق على الجنسين ، وهو أكثر شيوعا بين الذكور منه بين الاناث.  وعندما قامت وزارة الخارجية بإبلاغ "الوقف" عني إفترض الشباب ، دون ريب ، انهم سوف يستقبلون رجلا. 

 

ولما لم يكن معي مرافق مسلم ، ما العمل الآن؟  ينتهي الأخذ والرد عندما يوافق ضابط من شرطة القدس على مرافقتي عبر البوابة.  ولكن قبل أن اطأ الأرض القدس يجب تطبيق اجراء آخر.  يأتي موظف من "الوقف" راكضا وبيده زنار يقول لي أن اتحزم به.  ولأني ما زلت محافظة على هدوء اعصابي أبدأ بالتلوي محاولة دس الزنار ليلامس جلدي.  "لا ، لا ، لا!".  أنظرُ الى أعلى فأرى اصبعا غليظا يهتز بعنف.  انه يريد الزنار فوق فستاني وليس تحته.

 

ربنا في الأعالي ، أهذه "عهدة عمر" تضرب من جديد! فان ارتداء الزنانير فوق الملابس شرط كان على أهل الذمة كافة أن يلتزموا به.  وأنا بوصفي مسلمة غربية ، أقرب الى الأقلية الدينية في حكم "الوقف".  والمصيبة أني قد أكون يهودية مدسوسة ولكن الأرجح أني مجرد انسان متخلف. 

 

ألزِمُ لساني وأشدُ حجابي استعدادا للخضات القادمة واسحبُ نفسا عميقا وأهز جسمي ذات اليمين وذات اليسار لعلي أفلح في تمرير الزنار الى ما فوق وركي.  يبقى الأمل يراودني ولكن صبري يعيل بعد حين.  ومن خلال مرافقي أقول للأخ الذي يبدو انه من المعجبين بمدرسة الأزياء الفاشية أن الزنار لن يثبت على ملبسي. يقطبُ عابسا فأُريدُ أن أرد عليه مزمجرة ، "تكفل أنت بالأمر يا هذا!". 

 

يكتفي رجل الوقف بوضع الزنار تحت ملابسي (13).  الفتيان المسلمون الظرفاء يتطلعون عليّ بلا حياء وأنا أتمعج بتطير من ارتداء هذا الشيء. أحمدُ الله أني قررتُ أن ارتدي شيئا آخر تحت فستاني ذلك الصباح ـ سروال قصير من النوع الذي يرتديه سائقو الدراجات الهوائية. 

 

وإذ خلَّفنا هذا الإحراج وراءنا سرنا أنا ومرافقي مخترقين البوابات.  كنا نسير بخطى متعثرة لأن الزنار كان يعيق مشيتي.  وفيما كان ضابط الشرطة يرافقني حول المنصة القائمة في العراء ، التي هي جبل المعبد ، كان يُطَعِّم جولتنا غير الرسمية بنتف من التاريخ الاسلامي.  كان ضابط الشرطة جنديا وهو يتذكر الكثير مما تعلمه خلال الفترة التربوية الالزامية التي أمضاها في المدينة القديمة.  أما أسئلتي المحدَّدة فقد كان عليّ أن اوجهها الى "الوقف".  هل تستطيع ان تقول "هيهات" بالعربية؟  فان رجل "الوقف" رفض حتى التقاط صورة تذكارية معي للأهل ناهيكم عن تبادل أطراف الحديث بيني وبينه.  يا للغرابة في أن يتطلب الأمر يهوديا لاستقبالي هنا.  أو قد يكون ذلك هو الشيء المناسب تماما في ضوء ما نشترك به من لاهوت وتاريخ يمتد قرونا مع جبل المعبد.

 

مرافقي ضابط الشرطة قادني الى أبواب المسجد الأقصى.  وفيما كنتُ أخلع نعليّ ثم أهم بتعديل الحجاب استعدادا للدخول يندفع شيخ من الحائط الذي كان يتكئ عليه ويسد طريقي.  نُحاول أنا ومرافقي أن نؤكد له أني مُزكاة ولكنه اما لا يفهمنا أو لا يصدِّقنا.  نطلب استدعاء مسؤولي "الوقف".  لعله الجانب البوذي من شخصيتي ، ولكني لم اتوقع منهم أن يفعلوا شيئا ، ونتيجة لذلك لم أشعر بخيبة أمل.  رفض رجال "الوقف" أن يؤكدوا للشيخ انهم فتحوا البوابات امامي.  أعقبَ ذلك سكون مديد لا معنى له وقفنا خلاله جميعا مجسدِّين ما ينخر في جسم امتنا الاسلامية من انقسام. 

 

ثم يرميني جدُّنا العجوز وهو ينظر اليّ شَزَرا ، بالمقطع الاستهلالي من سورة الفاتحة:  "بإسم الله الرحمن الرحيم!"  ثمة شيء في صرفه النحوي.  أهو يمتحنني لتلاوة العبارة التالية؟

 

 

أقذفه بالعبارة التالية مرددة "الحمد لله رب العالمين!"

 

فيردفني ، "الرحمن الرحيم!"

 

سنوات من التعليم في المدرسة الدينية انتهت الى هذا ، مطاردة في سورة الفاتحة مع عجوز خرف على جبل المبعد في القدس.  أردُ ، "مالك يوم الدين".  وبعد جولتين أُخريين يغدو واضحا أن لديّ ما يكفي لإثبات هويتي الاسلامية بحيث سيكون حساب هذا العجوز عسيرا مع الله لإعتراضه طريق مسلمة كانت تمارس حقها في الصلاة. 

 

يرشدني الى داخل المسجد على مضض ـ بشرط أخير.  يقول أن عليّ ونحن داخل المسجد ، أن اترك كاميرتي لأن تصوير أي مخلوق له روح هو ترويج للوثنية.  لحظة ياجماعة.  أو ليس المسلمون ، في عصر الاسلام الذهبي ، مَنْ كانوا رواد التصوير بالأجهزة البصرية؟  ألم يكن لاختراعاتهم تأثير في تطوير التصوير الفوتوغرافي إبان القرن التاسع عشر؟  أُنحِّي الفكرة جانبا ، فالعقل يُملي أن أصون لساني وأضع كاميرتي في يد مرافقي. 

 

العالم الذي في داخل المسجد الأقصى يختلف اختلافا ملحوظا عن الكون المتَقرِّن الذي يعيش فيه ذلك الشيخ العجوز.  فالحَرَم للجنسين معا وليس هناك جدار أصم يفصل الرجال عن النساء.  الحظُ أن امرأة واحدة تجلس على السجادة المحاكة بإناقة وأنها تُبقي مسافة بينها وبين الرجال المتناثرين داخل الحرم.  ولكنها على الأقل موجودة هناك ، بينهم.  بعض الرجال يبدون في سَكِينة فيما البعض الآخر يجثمون عند مداخل مصممة تصميما رائعا أو يتمددون على الأرض وقد استنزفت حرارة الظهيرة قواهم.  لهذا السبب ، من بين أسباب اخرى ، لا أشعر أن احدا يراقبني في جولتي.

 

تصويب:  لا أشعر أن مَنْ نصَّب نفسه بنفسه سلطةً يراقبني.  ولكني موضع استطلاع.  ففي الركن البعيد يتضاحك جمع من الصبيان على هذه المرأة التي تدعك الأعمدة البديعة وتدير رأسها متلفتةً هنا وهناك.  معلِّم الصبيان يُسكتهم برفق.  أُشير الى المعلم بحذر غير واثقة إن كنتُ أبحث عن المتاعب.  يبتسم ويحييني بالعربية متحولا الى الانجليزية عندما يدرك أنها اللغة التي أتكلمها. 

 

"من أين أنتِ؟"

 

"من تورنتو".

 

"آه ، أنتِ هي إذاً.  نعم ، نحن بانتظارك".  ( وعليه فان وزارة الخارجية الاسرائيلية تكون حقا أبلغت "الوقف" بمجيئي! ومن هنا المعلومة عن وجود اجندة سياسية وراء المماطلات التي واجهتُها عند البوابات. )

 

"جيد ، أنا مسرورة لأني لم أُفاجئ احدا".  أغتنمُ حرارة الود الواضح بيننا. 

 

"هل تسمح لي بالتقاط صورة لك ولتلاميذك يا سيدي؟ سيعني ذلك الكثير عندي".

 

يُجيب ، "لا ضير في ذلك".

 

آها!  ليس الكل يتفقون مع شيخنا على ان تصوير المخلوقات فوتوغرافيا هو بمثابة عبادتها.  وإذا امتنع استاذ في تدريس القرآن ، على الأخص ، عن اختزال النص المقدس الى مثل هذه الترهات المبَلِّدة فلعل هناك تأويلات متعددة حتى في هذا المعقل من معاقل العمل الفلسطيني. 

 

حاليا ، عندي صورة صف مدرسي كامل عليّ أن التقطها (14).  وإذ كنتُ لم أزل مزنَّرة ، أُغادرُ المسجد بخطى متعثرة والفتُ انتباه مرافقي خلسة ثم استرجع الكاميرا وأُنفِّذ فعلتي القذرة.  وفيما أنا أُعبِّر عن شكري للمعلم وتلاميذه شيء يلفت نظري:  احد التلاميذ في درس القرآن يرتدي قميصا طُبعت عليه كتابة بالعبرية.  ولو صادفني ذلك في أي مكان آخر لما ألقيتُ نظرة ثانية.  أما في الموقع الذي اندلعت منه الانتفاضة  فصدقوني عندما أقول أني أمعنتُ النظر مرتين.

 

محطتي التالية قبة الصخرة حيث وجدتُ غالبية النساء والأطفال يُكملون صلاتهم.  كما وجدتُ أن داخل الجامع يفتقد الى اللون المنعش للمسجد الأقصى.  لعل بالامكان عزو العتمة الطاغية الى الأضواء المسلطة على القبة في وسط الجامع ، فيبدو كل شيء ما عداها مظلما بالمقارنة.  أقتربُ من نقطة الجذب الرئيسية.  فان سطح الصخرة المسوَّر بسياج خشبي مرتفع ، بالكاد يستطيع المرء أن يراه إذا كان قصير القامة.  لذا ابحث عن شيء آخر مثير للاهتمام ، ويتضح ان هذا الشيء هو صراحة امرأة في الجامع. 

 

كانت المرأة مديرة مدرسة تعيش في نيو جرسي ،  وُلدت في القدس وهي كثيرا ما تعود لزيارة شقيقتها.  وخلال حديثنا تعلم المديرة أني أعمل في التلفزيون وبودي ان اعود الى هنا لانتاج مسلسل.  توسلت بي قائلة ، "أرجوكِ أن تشغِّلي اشخاصا من مخيمنا [ مخيم اللاجئين ] لمساعدتِكِ. وإذا كانوا لا يعرفون شيئا عن كاميرا الفيديو أو الميكروفونات فان بإمكانكِ تعليمهم". 

 

أقول مازحة أن الانتاج التلفزيوني مثل السياسة الاسرائيلية الفلسطينية ـ عملية معقدة الى حد اللامعقول من أجل نتيجة بسيطة بقدر معقول.  لا تفهم النكتة لأن الأزمة القائمة كانت تستحوذ على كل اهتمامها. "أهلنا مستميتون.  ليست هناك فرص عمل ، ليس هناك عمل منذ زمن طويل". 

 

أردُّ قائلة ، "ولكن ماذا عن كل المساعدات الخارجية التي تتلقاها السلطة الفلسطينية من الغرب؟"  ولا أكلفُ نفسي الاشارة الى الأموال الاضافية التي تقدمها وكالة الغوث الدولية للاجئين الفلسطينيين على امتداد ثلاثة أجيال منهم(15).  "اننا نتكلم عن ملايين الدولارات التي يمكن أن تُستخدَم لبناء المختبرات والمستشفيات والمدارس والمناطق التجارية.  لماذا ما زالت لديكم مخيمات لاجئين؟  أين تذهب كل المساعدات؟"

 

"لا أعرف أين تذهب كلها ولكن بعضها...." ثم تقوم بحركة من يدها كأنها تدس نقودا في جيبها. 

 

"الفساد؟".

 

"انظري هناك" ، قالت في دمدمة مشيرة الى عمود صدَّعته الشقوق.  "ليس لدى المسلمين حتى المال لصيانة هذا المكان الجميل". 

 

"انتظري دقيقة" ، قلتُ بنبرة لاذعة بعض الشيء.  "هل لأننا لا نملك المال أم لأنه ليس لدينا القيادة التي تستخدم المال حيث ينبغي ان تستخدمه؟"

 

"ألله يعلم".  في الحقيقة ان الجواب يأتي مع جملتها التالية.  "البعض يقول ، "لا تقلقي ما دام المسجد يبدو قويا ومتينا من الخارج".  فهم لا يهتمون إلا بالمظاهر الرمزية لا بالبشر". 

 

مرت فترة العصر وعندي محطة اخرى قبل موعد توجهي الى مأدبة عشاء.  التقطُ صورا فوتوغرافية على عجل ـ لنساء ، للعمود ، لأطفال ، للصخرة ـ ثم أُغادرُ وأنا أشعر مقيدةً باحساس بالظلم الداخلي كما يقيدني ذلك الزنَّار اللعين (16).   يُسلِّمني مرافقي عند البوابة التي بدأ منها كل شيء.  هذه المرة أسير بخطى متثاقلة وراء مبنى صغير مكعب الشكل للتخلص من الحزام الذي ينهش في لحمي.  سيكون من دواي غبطتي أن اعيده الى الوقف.  ما لن امنحهم اياه هو فرصة اخرى لتوجيه تلك النظرات الخبيثة صوبي.

 

لا أحد يضايقني على الحائط الغربي.  أدركُ تماما أن المرأة اليهودية تخوض معاركها الخاصة للصلاة على قدم المساواة مع الرجل.  بل أنها حتى نقلت نضالاتها الى ساحة القضاء.  ومع ذلك لا أحد ينظر اليّ أو يأمرني بارتداء قطعة قماش هي معادل صناعة النسيج للشريط اللاصق ، أو يخوض مواجهة بالآيات والسور معي.  إن تسارع ضربات القلب بتأثير المشاعر الغامرة هو كل ما يبعث على الرهبة. 

 

الحائط الغربي هو الواجهة الحجرية المحشوة شقوقها التي لا تُعد ولا تُحصى بقصاصات ورقية كُتبت عليها صلوات يهود من سائر انحاء العالم.  فهم يتوافدون لمواجهة الحائط لأنه ، بحسب الديانة اليهودية ، كل ما تبقى من المعبد المحلي الذي كان قائما ذات يوم حيث تنتصب الآن قبة الصخرة ، على جبل المعبد.  وكان سليمان ، نجل الملك العبراني داود ، أنشأ المعبد ليكون مركز القرابين التي كان بني اسرائيل يقدمونها لله.  وقام البابليون بتدمير ذلك المعبد "الأول" فعمد اليهود الى بناء معبدهم "الثاني" في حوالي عام 515 قبل الميلاد.  وفي عام 70 ميلادي سبى الرومان مدينة القدس وهدموا المعبد الثاني وطردوا اليهود من مملكتهم.  وطيلة قرون ترك المسيحيون جبل المعبد يتداعى ليكون شاهدا على سقوط الديانة اليهودية.  ولكن ، كما تعرفون ، وقعت المدينة المقدسة في نهاية المطاف بيد المسلمين فبادروا الى تجديد جبل المعبد بوضع بصمات اسلامية عليه ـ اولا المسجد الأقصى ثم قبة الصخرة.  ورغم ان المسلمين اعادوا فتح القدس لليهود فان المعبد الثاني بقي خربا ولم يقم المسلمون قط بترميمه.  وعند اليهود الأرثوذكسيين فان هذا هو ما ينبغي أن يكون.  ذلك أن اعادة بناء المعبد هي مهمة المخلِّص الذي ما زالوا ينتظرون مجيئه.  والى أن يأتي ذلك اليوم يقوم الحائط الغربي بدور النواة التي تلتف حولها الطائفة اليهودية ـ عامل تذكير لا سطح له ، بالماضي والمستقبل والقوة والتواضع. 

 

أصل الى هناك في وقت قصير نوعا ما لأن الحائط لصيق بالحي المسلم من القدس.  في البداية يدهشني وجود الاعتماد المتبادل بين اليهود والمسلمين حتى في تصميم جبل المعبد.  لاحقا ، أقع على مقالة صحافية تسجل ما يسببه هذا الاعتماد المتبادل من صداع لليهود الذين عليهم أن يتوسلوا بالوقف لاصلاح الثغرات التي يتسرب منها الماء في الحائط الغربي (17).  فمن أجل السلام ، كما ترون ، منحت اسرائيل للمسلمين نصيب الأسد من السلطة على صيانة جبل المعبد.  ونحن لا نتكلم عن السيادة وانما عن السيطرة الادارية.  وما يشكل مصدر خطر على اسرائيل ان سيطرة المسلمين تصل الى الحائط الغربي وتشمل كل ما وراءه عمليا.  وكما في حالة العمود المتضرر في قبة الصخرة فلا يمكن القاء اللوم عن هذا الجرح على الاحتلال الاسرائيلي. 

 

استعير قلما واكتب رجاء الى الله ثم اشق طريقي في الزحام للاقتراب من الحائط.  وإذ امضي بعض الوقت في البحث عن شق غير مستعمَل يستقبل تضرعاتي أدركُ أني اسد الطريق على اليهود المنتظرين ورائي.  مع ذلك لا أشعر أني متطفلة بل أشعر كأني بين أهلي ، وبمشاعر اشد حدة من أي وقت مضى أعرفُ مَنْ هي عائلتي. 

 

قولوا أني عاطفية ولكن افهموا هذا القدر:  عندما اقول "عائلة" فان الصورة التي تحضرني ليست صورة النبي محمد أو حتى ابراهيم بل صورة طفل رمتني الصدفة في طريقه ـ في الحقيقة هو الذي رمته الصدفة في طريقي ـ في وقت سابق من ذلك اليوم.  فحين كنا في طريقنا الى قبة الصخرة قادني مرشدي عبر الحي السكني اليهودي في المدينة القديمة.  دخلنا مكانا للتجمع شديد الرطوبة حُفر من الحجر ، تردِّد جدرانه صيحات أطفال.  قال مرشدي أن هذه روضة اطفال تشعر الامهات اليهوديات الارثوذكسيات بالاطمئنان على اطفالهن فيها وخاصة بعد "يشيفا" ( المدرسة الدينية ).  وبعد لحظات كان صبي بالقلنسوة التقليدية وخصلات شعر مجعَّدة تتدلى من صدغيه وخيوط وشاحه الخاص بالصلاة تبرز فوق سرواله الاسود الفضفاض ،  استدار عند الزاوية واصطدم بي (18).  كان يقود عجلة فضية أنيقة ـ مثال آخر على مجتمع يتقدم مدفوعا بمفارقاته. فإذا كان لا يتعين حتى على النصِّيين اليهود أن يعزلوا انفسهم عن الحداثة فكم من الفرص الأوسع للاختيار ودمج العواطف يتمتع بها اسرائيليو الاتجاه السائد؟ 

 

حين ابديتُ حماستي لهذا الأمر امام صديقة اسرائيلية علمانية روت لي قصة شخصية.  فان ازابيل كيرشنر بعدما ترعرعت في بريطانيا بعيدا عن تراثها اليهودي ، انفتحت على كل مغامرة يمكن تصورها لدى الوصول الى اسرائيل مراهقة.  وهكذا "التقطها" عند الحائط الغربي يهودي ارثوذكسي عرض عليها الدراسة مجانا في المدرسة الدينية.  قد يبدو العرض مريبا للشخصيات الحذرة ولكن ازابيل كانت من طينة اخرى لا تعرف الخوف.  أخبرتني في مطعم ايطالي في القدس ، "كان الجو عظيما.  الناس كرماء وصادقون وكانوا يشجعونني على طرح الأسئلة".  كانوا يحضونني ، "استمري في طرح الأسئلة".  وفي النهاية لم يعد بإمكانهم الإجابة عن اسئلتي فأرسلوني الى حاخام. وبعد اسبوعين قررتُ أني استوعبتُ ما تريد المدرسة الدينية توصيله فتركتُها الى شيء آخر. كانت تجربة رائعة.  لا شيء يوحي بوجود مخطط شرير بالمرة" (19).  اليوم تحظى ازابيل باعتراف الجمهور بكونها نجما صحافيا صاعدا في موقعها مراسلةً متقدمةً لمجلة ذي جيروسليم ريبورت

The Jerusalem Report .

 

أُقدِّر أنه ليس كل من تعلَّم في المدرسة الدينية "يشيفا" يرتقي الى مستوى ازابيل.  جيم ليدرمان Jim Lederman وهو أقدم مراسلي اسرائيل في الخارج ، يضيف منظورا حيويا الى المسألة.  فهو يكتب ان "الحاخامات الأرثوذكسيين المتطرفين حرَّموا على اتباعهم استخدام الانترنت بسبب ما قد يتعلمونه منها.  ووافقوا مؤخرا جدا على فتح ما سموه جامعة.  ولكنهم....حرَّموا على وجه التحديد دراسة التاريخ والأدب والعلوم التي تتعامل مع نظرية النشوء والارتقاء مثل البيولوجيا والفيزياء الفلكية ، والفلسفة" (20).  وسأمضي أبعد على جبهة المنظور هذه.  فالضغط الذي يُمارَس من أجل الامتثال سيؤكد نفسه دائما في كل مكان.  وأحسبُ انه جزء من الوضع البشري.  ما تفعله اسرائيل على نحو مغاير بوصفها دولة هو الذي ينال احترامي.  إذ تمنح اسرائيل المواطنين موافقتها على التحري وتكديس الخبرات ، مثلما فعلتُ أنا عند الحائط الغربي.  هنا يمكن لفتاة مراهقة أن تفكر في ترك المدرسة الدينية "يشيفا" من دون وصمة.  وهنا ، ايضا ، يمكن لصبي من اليهود الأرثوذكسيين المتزمتين ان يلهو على رمز من رموز النزعة الاستهلاكية المأخوذة بالصرعات الجديدة.  هنا ، إذاً ، يشهد الأشخاص طاقاتهم تتبدى في عدة أشياء دفعة واحدة بما يعكس تعدد صور الله ذاته. 

 

زيارة المناطق الفلسطينية قائمة!  حسنا ، منطقة واحدة منها على أية حال ـ الضفة الغربية.  على الفطور نستمع الى إيجاز من دبلوماسي يعمل مع الفلسطينيين مباشرة.  فهو يؤمن بهم ، ويقول ، "أن هذا شعب قادر ، لو تُرك لحاله ، على حكم نفسه".  ولكن "تركهم لحالهم" يعني أكثر من انهاء الاحتلال الاسرائيلي.  وهو يلَّمح الى انه يعني الاستعاضة عن حكم عرفات المتسلط بحكومة تهتم بما يريده شعبها مهما تكن مرارته على القضية الوطنية.  ويكشف الدبلوماسي فيما نتكوَّم نحن داخل سيارته المضادة للرصاص ، "ان الفلسطينيين تعلموا الكثير من اسرائيل ، وهم من نواح عديدة يريدون مداناة الاسرائيليين.  وذات مرة قال لي سائقي:  "ما نحتاج اليه هنا هو سيادة القانون مثلما موجود عندهم في اسرائيل"" (21).  الرأي العام يردد موقفه هذا.  وبحسب خليل شقاقي الذي يدير مؤسسة لاستطلاع الرأي العام فانه ، "عندما يُسأل الفلسطينيون أي ديمقراطية يعجبون بها أكثر ويريدونها لهم ، تأتي الديمقراطية الاسرائيلية بالمرتبة الاولى حتى هذا اليوم". 

 

يبدو ان صاحبنا الدبلوماسي يشعر انه قال أكثر مما ينبغي.  وإذ كان عصبيا بمزاجه ومتكتما بحكم إعداده المهني ، يلتزم جانب الصمت خلال الرحلة التي تستغرق نصف ساعة الى رام الله.  ولا يعني ذلك عدم وجود موضوع للنقاش.  فبعد عبورنا أول نقطة تفتيش نتوقف عند اشارة مرور.  وعلى كتف الطريق تنتصب لوحة اعلان ضخمة تغطيها صور أطفال رضع.  وكُتب شعار من نوع ما بحروف عربية.  أطلبُ من الدبلوماسي الذي تولى بنفسه قيادة السيارة هذا الصباح ، أن يترجم لي كلمات الشعار.  يتظاهر بأنه لم يسمع ثم يتظاهر بأنه لا يرى ، وأخيرا يشرئب بعنقه "لإلقاء نظرة أفضل" ولكن اشارة المرور تتغير عندذاك فننطلق بعيدا في سيارتنا.  هذه لن تكون عملية التهرب الوحيدة في ذلك اليوم. 

 

جئنا الى رام الله في يوم رفع فيه الجيش الاسرائيلي حظر التجول ليتمكن طلاب المدارس الثانونية من انهاء امتحاناتهم.  الشوارع تعج بالمتبضعين الذين يتسابقون مع الزمن لشراء ما يكفي مدة اسبوع من التموينات.  عربة يجرها حصان تقف بين سيارة جاغوار قديمة وسيارة آودي جديدة.  اليافطات المعلقة على مواقع بناء مختلفة تشبه الأكواخ تقول ، "من تمويل المفوضية الاوروبية".  انها ابنية متداعية وفي بعض الحالات سُدت منافذها بالالواح.  ندخل طريقا جانبيا موحلا وَجْهَتُنا تقع في نهايته ، وهي بعثة دبلوماسية.  انها من الخارج بلا هوية عمليا ، في حين ان الحركة في الداخل تعاني من فقر الدم.

 

لكن احساسا بالترقب ينتابني رغم ذلك.  من بين الناشطين الفلسطينيين الذين كنا هناك لملاقاتهم رجاء شهادة ، وهو كاتب ومحام ومؤسس منظمة "الحق" المستقلة لحقوق الانسان.  طلبتُ أن يكون حاضرا لأنه ، مما نُشر على أقل تقدير ، أكثر من اصبع يعمل بالبطارية لتوجيه الاتهام الى "الآخر".  على الورق ينضح اسلوب شهادة بالظلال التي تموه معاني الكلمات.  آمل بأن احادثه عن كتابه الجديد ، "غرباء في الدار:  "بلوغ مرحلة النضج في فلسطين المحتلة" Strangers in the House: Coming of Age in Occupied Palestine

يحوي الكتاب صورة شخصية لوالده عزيز ، الذي كان أول فلسطيني مرموق يقبل بوجود اسرائيل ويتقدم بحل يقوم على انشاء دولتين.  وبحسب شهادة فان أزلام عرفات ردوا على عزيز بنعته "متعاونا حقيرا" في الاذاعة العربية.  وأفتى الصوت المتهدج ، "أنك ستدفع ثمن خيانتك حيث سنقوم بتصفيتك وإسكاتك الى الأبد ونجعل منك عبرة للآخرين" (22).  نقابة المحامين الفلسطينيين منعت عزيز من ممارسة المهنة.  وبعد سنوات قُتل في ظروف غامضة.  أحسبُ أن نشر اسمه في مثل هذا الكتاب الجرئ يشير الى استعداد شهادة للخوض أعمق في الحديث عن هذه العقبات ذات الصنع المحلي في طريق السلام. 

 

لم يكن شهادة داخل المبنى عند وصولنا ولكن اثنين من الناشطين الآخرين كانا هناك.  الأول ، الدكتور علي جرباوي ، وهو عالم سياسي ، لا يخرج ابدا عن "النص".  وبعد القاء محاضرة مطولة في التاريخ يستدرجنا بتعليل من صميم القلب.  "دعونا لا نضحك على انفسنا. إذ ليس هناك شيء اسمه احتلال حميد.  فالاحتلال يعني ان مصيرك لم يعد بيدك.  وقد شاهدتم على نقاط التفتيش التي مررتم بها أننا لا نستطيع التنقل". 

 

صحافي يقول ، اوقفوا التفجيرات الانتحارية ، وستعود حرية التنقل للجميع.  الدكتور جرباوي يشك في ان الفلسطينيين كانت عندهم حرية تنقُّل يُعتد بها قبل ان يتفشى وباء التفجيرات.  يُخرج بطاقة خضراء من جيب الصدر.  "احمل هذه معي اينما أذهب.  في مدينة مغايرة تكون بلون مختلف.  انه ابارتهايد ( فصل عنصري )" (23).  يعترض آخر متسائلا ، لماذا إذاً انسحب عرفات في صيف عام 2000 من أفضل فرصة أُتيحت على الإطلاق لإقامة دولة مستقلة ـ في خطة أُعدت بوساطة الرئيس الأميركي بيل كلنتون لتلبية القسم العظم من مطالب الفلسطينيين؟  الدكتور جرباوي يشجب المشروع بوصفه خديعة يُراد بها  احياء البانتوستانات أو المستعمرات شبه المستقلة التي كانت سائدة في جنوب افريقيا في حقبة الفصل العنصري.  نتساءل لماذا لم يتقدم عرفات ، على افتراض ان هذه صحيح ، بأي مقترح مقابل؟  لماذا رفض العملية بكل بساطة وحرم شعبه من امكانية الاستمرار في المفاوضات؟

 

في غمرة نقاش كان مثقلا بعوامل التوتر يدخل رجاء شهادة الغرفة على اطراف اصابعه.  يبقى صامتا بل يكاد يكون متجهما بانزوائه خارج دائرة الضوء.  عبد المالك الجابر ، الناشط الذي كان جالسا بجانب الدكتور جرباوي طوال الوقت ، يتكلم للتوثق من أن موضوعة الفصل العنصري لا تختفي في حمأة التراشق بالتحديات.  "زوجتي تحمل بطاقة هوية مقدسية وعندما أنجبت ابنتنا داخل اسرائيل...." ويسهب في وصف الشكليات البيروقراطية في معاملة التقدم بطلب شمول مولودته الجديدة بالضمان الصحي ، وكانت العبرة من قصته ان ظروف الفصل العنصري تجثم على صدور الفلسطينيين في عموم اسرائيل وليس مجرد في الضفة الغربية وقطاع غزة.  وهو يقول ، "نحن من سكان القدس وندفع كل ما علينا من ضرائب ولكن هناك أساليب لحرماننا من حقوقنا على أساس عرقي" (24). 

 

انه على حق.  فأن يكون النظام ديمقراطيا لا يمنع ذلك أي دولة من وضع أقلياتها في موقع المستضعَف.  انظروا ، على سبيل المثال ، كيف ان عدد ضباط التجنيد الذين يزورون المدارس الثانوية الأميركية حيث توجد نسبة عالية من الطلاب ذوي الأصل اللاتيني ( الناطقين بالاسبانية ) يزيد مرات مضاعفة على عدد ممثلي الكليات الذي يأتون لترشيح الطلاب الذين يمكن أن يواصلوا دراساتهم العليا بعد الثانوية.  واسرائيل ايضا ليست غريبة على ممارسة العنصرية ، كما ستنبري صحيفة هآرتس لتكون سبَّاقة الى نشر ذلك.  ولكن بعد ثلاثة أشهر من الاجراءات الروتينية المرهقة أفلح الجابر وزوجته في تسجيل ابنتهما في دائرة التأمين الصحي.  فهل صُودرت حقوقهم في نهاية المطاف؟  ان هذا ليس بحثا بالمجهر عن مبررات للوضع ، ليس عندما تكون الحكومة تحت طائلة الاتهام بممارسة الفصل العنصري. 

 

ولكن لديّ اسئلة أكثر آنية.  فان اثنين من الفلسطينيين الثلاثة قدَّموا وجهات نظرهم على النحو المطلوب فهل سيفعل ثالثهم الشيء نفسه؟  أم أننا سوف نسمع شيئا ما ـ أي شيء ـ يتناول كيف ان الثنائيات الحدية من قبيل "نحن في مواجهتـ"هم" ، اليهودي ضد العربي" ، تمسخ الشعبين على السواء؟ كل الأنظار تتجه صوب شهادة.  وبخجل  يُخرج شهادة كتابه.  "أحسنتَ يا هذا!" ، قلتُ هاتفة له مع نفسي.

 

أعلَنَ شهادة ، "صفحة 173" ثم بدأ القراءة.  "ان الايديولوجيا والبلدوزرات هما بلاء هذه الأرض.  فالاولى توحي والثاني تجعل ممكنا في يوم واحد ما كان يتطلب انجازه عشرة رجال وشهرا كاملا" (25).  يستخدم شهادة الدقائق التالية لتلاوة مقطع عن التكنولوجيا ـ والأجندة ـ التي تملكها اسرائيل لتشريد الفلسطينيين.  ولأنه قرأ كتابه مرتين من قبل وكان عمليا يستظهر الفقرات الرئيسية فيه ، فاني الحظُ أن شهادة ، في هذا الوضع ، يتوقف قبل أن يصل الى باب هام من الكتاب.  انه باب يقول فيه والده ان الحل الممكن للقضية الفلسطينية يتعين أن يتحقق بالتفاوض لا بالقنابل.  وإذا اردنا الاقتباس بدقة فانه يقول "ان مبادرة سياسية" هي وحدها التي ستتكلل بالنجاح ، "وفي وقت سريع قبل أن لا تكون هناك أرض تستحق الذكر" (26).  مبادرة سياسية وفي وقت سريع:  تماما ما أُتيحت لعرفات فرصة العمل من أجله ولم يعمل. 

 

تذهلني النهاية التي يخلص اليها شهادة.  ولكني أعرف ما فيه الكفاية عن النهاية التي يؤول اليها هذا المقطع تحديدا لأني أفهم لماذا يمارس الرقابة الذاتية على نفسه أمام اثنين من مواطنيه ، مثقف صلب في الأحوال الاعتيادية .  وهو يكتب في مكان آخر من كتابه أن في فلسطين "يتآمر المجتمع على تدمير مَنْ يحالفهم التوفيق وتثبيطهم وإسقاطهم بحسد آكل لا يُبقي على شيء. انه مجتمع يشجعك على المداهنة.   فأنت تستهلك القسم الأعظم من طاقتك في مد مجسات لاستشعار رأي الآخرين بأعمالك لأن حياتك تتوقف على الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع مجتمعك" (27).  أتذكر ما قالته مديرة المتحف في تل أبيب لي:  ربما من أجل البقاء كان نظيرها الفلسطيني يمتنع عن الرد على اتصالاتها.  فأي رفض للانخراط في لعبة الضحية الجماعية يكون ثمنه باهظا ، وقد دفع والد شهادة هذا الثمن قناطير.  "كان رجلا حيويا ذا روح جماعية لم يُسمح له قط بالنجاح.  وقد أصبح رجلا مستهدَفَا...."(28)  أُريد ان اسأل نجله إن كان ينظر الى نفسه ايضا على انه يحمل صفات والده.  ولكن السؤال يبدو قاسيا.  يكفي أنه في اليوم الذي يستطيع سكان رام الله التجوال ، لا يجرؤ رجاء شهادة على المغامرة بعيدا عن عتبة نصف الحقيقة. 

 

ينتهي لقاؤنا بصورة مفاجئة عندما يتذكر الفلسطينيون أن وقتهم محدود للقيام ببعض المهمات قبل أن يبدأ حظر التجول.  نغادر الغرفة الواحد تلو الآخر ، جوعى ومتوجسين بعض الشيء لأن منظمي الزيارة أعدوا سندويشات من الجمبون ( لحم فخذ الخنزير ) والجبنة للغداء.  جمبون وجبنة! لمجموعة من الصحافيين بينهم مسلمة ويهوديان ، في وكر من اوكار الدبلوماسية!  ياللغباء! (29) .

 

خلال مداولاتنا المرتَجَلة حول ما ينبغي عمله بشأن الغداء انسحبتُ للإطلاع على المطبوعات المرصوفة على رف للمجلات ، صُفَّت على الرف دراسات وتقارير ومجلات اكاديمية يعود تاريخها الى منتصف التسعينات.  أدس مطبوعين منها في حقيبتي لأني أستطيع أن أتعلَّم منها شيئا عن السياق ، ولأني ، بلى ، لأني فضولية.  وفضولي هو السبب في أني أُحبُ ايضا الطواف على مكتبات المطارات.  فهي مؤشر الى الأفكار التي يبيح المجتمع لأفراده أن يحملوها معهم. 

 

تلك الليلة ، قبل رحلة العودة الى تورنتو ، دخلتُ مطار بن غوريون ومدينة رام الله ماثلة في ذهني ـ وفي نيتي العثور على ما متاح من كتب عن اللخبطة التي اسمُها النزاع الفلسطيني الاسرائيلي.  لا أرى إلا كتابين:  واحد محايد نسبيا والآخر متعاطف جهارا مع العرب.  فان اسرائيل تسمح بالتشكيك في شرعيتها على أيدي مؤرخين تُباع كتبهم في مطارها الوطني.  جدوا تفسيرا لهذا الموقف!  ولكني مع ذلك لا استطيع تجاهل الإدعاء بممارسة الابارتهايد ( الفصل العنصري ) الذي يؤكده ناشطون فلسطينيون بهذه الحماسة.  فهم يشهدون يوما بعد آخر ما رأيتُه أنا من لمحة عابرة:  شابات وشبان بأسلحة تتدلى على صدورهم.  طريق ترابية تمتد أميالا يتعين قطعها مشيا على الاقدام بين نقاط التفتيش. جنود أفظاظ يرفضون التلفظ بكلمة واحدة بالعربية حتى إذا كانوا يعرفونها.  بطاقات هوية ، اسلاك شائكة ، مدرعات ، مستوطنات واسعة تبدو كأنها ضواحي وسيتطلب تفكيكها سنوات ، يتأخر سنوات مثلها موعد تحقيق العدالة للفلسطينيين.  لقد وجدتُ نفسي في مأزق اخلاقي ولكني مقبلة على ما من شأنه تنويري.

 

خلال الرحلة أفتحُ أحد المطبوعات التي أخذتُها من رام الله ، انه عدد من مجلة دراسات فلسطينية Journal of Palestine Studies  تاريخه 1997 ، وهو عام كانت عملية السلام لم تزل واعدة فيه.  تشير المقالة الأولى الى ان مؤسسي اسرائيل أقاموها بقمع الديمقراطية.  وتستشهد المقالة باعتراف الزعيم الصهيوني وايزمان قائلا "لم يكن بمقدورنا أن نقيم قضيتنا على موافقة العرب ، فطالما كانت موافقتهم مطلوبة سيرفضون منحها بطبيعة الحال" (30).  وكلما قرأتُ أكثر من المقالة زاد فهمي لمرارة كاتبها. 

 

في المطبوع نفسه قرأتُ "اعترافات" رجل يعود الى غزة بعد سنوات من الغربة.  في عام 1997 بدا وكأن فلسطين المستقلة تلوح في الأفق ، وقد عاد الى الوطن لتخطيط حياته بعد التحرير.  ولكن ما وجده كان مجتمعا يفتقر الى الأمانة متشبثا بكل ذريعة لتفريغ مظالم قديمة.  "كانت هناك الجدران المدهونة حديثا باللون الأبيض....جدران لم تمر إلا أيام قليلة ، بعد مقتل فلسطيني برصاصة اسرائيلية طائشة ، حتى غطتها شعارت النعي التي خطتها كل المنظمات المعروفة والمغمورة مدعية أنه من ابطالها وشهدائها ومهددة بالثأر على نحو فظيع من قتلته.    لقد تمت التضحية بالحقيقة والجدران البيضاء ، لأن المؤكد أن الضحية لم يكن ينتمي الى أي من هذه المنظمات.  فالتعطش الى الشهداء تعطش غامر ، انه عاطفة سائدة"(31). 

 

وهكذا فانه حتى في زمن يتسم بتفاؤل نسبي كانت أُمنية الموت تستبد بالمسلمين الفلسطينيين.  لماذا؟  يلحظ صاحبنا كاتب الاعترافات "ان قسوة الاحتلال ليست وحدها" المسؤولة بل الغياب المطلق لمراجعة الذات ايضا.  وقد تسبب هذا في "انهيار القيم التي ينهض عليها العقد الاجتماعي.  فأن يضع المرء نفسه فوق النقد ليس دليلا على الثقة بالنفس بقدر ما هو دليل تقوقع على الذات ، والانغلاق عن بقية العالم.  وقد كان الثمن باهظا".  

 

اعقدُ العزم على معرفة المزيد عن كيف كفر المسلمون بتحذير القرآن من "إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم" (32).  وقد أكدت لي الصحافة الاسرائيلية أنه ليس هناك ما يُخزي في كلام جماعة ما عن مواطن ضعفها. وأظهر لي "الوقف" أن هناك عارا عظيما في البقاء مكبلين ـ بزنانير أو غيرها.  فالى الجحيم بصانعي هذه القيود.  ماذا هناك غير ذلك مما لا نصارح نحن المسلمين به أنفسنا فنبقى عائمين على موجات الشفقة وقانعين بصورة الضحية؟

 

هوامش الفصل الرابع

1 ـ انظر الصورة.

2 ـ حديث مع ميخائيل هاندلزاتس Micahel Handelsatz  الذي يعمل محررا في صحيقة هآرتس ، تل ابيب ، 5 يوليو ( تموز ) ، 2002.

3ـ حديث مع نهاما غورالنيج Nehama Guralnij  مديرة متحف تل ابيب للفنون ، تل ابيب 5 يوليو ( تموز ) ، 2002.

4 ـ توفاح لازاروف Tovah Lazaroff واليسا روز Alisa Rose ومليسا رادلر

Melissa Radler  ، "تصريح لابيد Lapid ضد المهاجرين الأميركيين المتدينين يثير الغضب" ، جيروسليم بوست Jerusalem Post  ، 9 يوليو ( تموز ) ، 2002.  ونائب البرلمان المعني هو يوسف "تومي" لابيد ، زعيم حزب التغيير العلماني بصرامة.  أصبح لابيد منذ تصريحه هذا وزير العدل في الحكومة الائتلافية برئاسة ارييل شارون. 

5 ـ "مشروع قانون عنصري" ، افتتاحية صحيفة هآرتس ، 9 يوليو ( تموز ) ، 2002. 

6 ـ "اسكتوا ، وداعا ، باي باي" ، افتتاحية هآرتس ، 24 يونيو ( حزيران ) ، 2002.

7 ـ اندري عليون بروكس Andree Aelion Brooks  ، "امرأة النهضة" ، صحيفة هآرتس ، 24 يونيو ( حزيران ) ، 2002.

8 ـ انظر على سبيل المثال ، اريح اوساليفان Arieh Osullivan  ، "الناطق باسم قوات الدفاع الاسرائيلية امرأة" ، جيروسليم بوست Jerusalem Post  ، 9 يوليو ( تموز ) ، 2002.

9 ـ انظر الصورة. 

10 ـ حديث مع رون ايدلهايت Ron Edelheit  ، القدس ، 6 يوليو ( تموز ) ، 2002. 

11 ـ زرتُ قبة الصخرة في 7 يوليو ( تموز ) ، 2002.

12 ـ خالد ابو طعمة ، "كيف بدأت الحرب" How the War Began  ، صحيفة جيروسليم بوست Jerusalem Post  ، 19 سبتمبر ( ايلول ) ، 2002.

 

المقالة كلها جديرة بالقراءة ولكن دعوني أُشدد على مقطع منها.  يكتب طعمة:  "اعترف عماد  فالوجي ، وزير الاتصالات في السلطة الفلسطينية ، في 11 اكتوبر ( تشرين الأول ) ، 2001 بالتخطيط لأعمال العنف منذ يوليو ( تموز ) ، قبل فترة طويلة من "استفزاز" شارون.  وقال:  "كل مَنْ يظن ان الانتفاضة اندلعت بسبب زيارة شارون البغيضة للمسجد الأقصى مخطئ ، حتى إذا كانت هذه الزيارة القشة التي قصمت ظهر الشعب الفلسطيني.  فهذه الانتفاضة كان مخططا لها مسبقا ، منذ عودة الرئيس عرفات من مفاوضات كامب ديفيد حيث قلب الطاولة على الرئيس كلنتون.  وبقي [ عرفات ] صامدا متحديا [ كلنتون ] ورفض الشروط الأميركية وقد رفضها في قلب الولايات المتحدة".

 

طعمة ، وهو صحافي عربي ، قال لي انه تعرض الى انتقادات لنشره الغسيل الفلسطيني القذر ولكن الحقائق [ التي اوردتها ] لم يُطعن فيها قط ، ولا مرة واحدة".  حديث في القدس ، 1 يوليو ( تموز ) ، 2003. 

13 ـ انظر الصورة.

14 ـ انظر الصورة.

15 ـ الوكالة التي اعنيها هي وكالة الامم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى ، المعروفة باسم "انروا". 

16 ـ انظر الصور. 

17 ـ اتغار ليفكوفيتس Etgar Letkovits  ، "الوقف يحقق في تسرب في الحائط الغربي" ، Wakf to investigate Western Wall leak  ، جيروسليم بوست

Jerusalem Post  ، 8 يوليو ( تموز ) ، 2002. 

18 ـ انظر الصورة.

19 ـ ايزابيل كيرشنر Isabel Kershner  ، حديث في القدس ، 8 يوليو ( تموز ) ، 2002. 

20 ـ مقابلة مع جيم ليدرمان Jim Lederman  ، 9 يوليو ( تموز ) ، 2002. 

21 ـ لا استطيع الكشف عن هوية الدبلوماسي لأن حديثه معنا اعتبر من الأحاديث "التي لا يمكن أن تُنسَب الى مصدرها".  جرى الحديث في 8 يوليو ( تموز ) ، 2002.

 

22 ـ رجاء شهادة مستشهدا بالاذاعة العربية في كتابه "غرباء في الدار: بلوغ سن الرشد في فلسطين المحتلة"

Strangers in the House: Coming of Age in Occupied Palestine (South Royalton,

Vermont:  Steerforth Press), p. 68.

 

 

23 ـ حديث مع الدكتور علي جرباوي ، رام الله ، 8 يوليو ( تموز ) ، 2002.

24 ـ حديث مع عبد المالك الجابر ، رام الله ، 8 يوليو ( تموز ) ، 2002.

25 ـ رجاء شهادة في قراءة من "غرباء في الدار.." ، ص 173.

26 ـ عزيز شهادة كما يُنقل عنه في كتاب "غرباء في الدار..." ، المصدر السابق ، ص 175.

27 ـ رجاء شهادة ، المصدر السابق ، ص 141. 

28 ـ رجاء شهادة ، المصدر السابق ، ص 176.

29 ـ حين رويتُ هذه القصة لميشيل ردت عليّ بتعبير "يا للغباء!" ذاته وقالت مداعبة ، "إذا كنتِ تلك المتمردة على التقاليد فلماذا لا تأكلين لحم الخنزير؟" وأنا لستُ واثقة من أن لديَّ اجابة مقنعة.

30 ـ حاييم وايزمان Chaim Weizmann  كما يستشهد به وليد خالدي ، "عودة الى قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العام للامم المتحدة"

Revisiting the UNGA Partition Resolution

مجلة الدراسات الفلسطينية Journal of Palestine Studies  ، العدد 105 ، خريف 1997 ، ص 15.

31 ـ حسن خضر ، "اعترافات عائد فلسطيني"  Confessions of a Palestinian Returnee  ، المصدر السابق ، صص 89 ـ 90.

32 ـ القرآن ، سورة الرعد: 11.