الفصل الثالث

متى توقفنا عن التفكير

بحلول نوفمبر ( تشرين الثاني ) 2001 ، كان قد أُتيح لنا جميعا نحو شهرين لاستيعاب الصور المتصلة.  وكانت نُبذ من حياة الذين قُتلوا في مركز التجارة العالمي تُعرَض بلا نهاية على شاشات تلفزيوناتنا ، إحياء لذكرى ما لا يمكن زعزعته بقدر ما هي إحياء لذكرى ما لا يمكن التفكير فيه.  ولكن الذهول العام أخذ يتبدد ، كما يجب ، واكتسبت المقابلات التي محورها "كيف أمكن لهذا أن يحدث" ، نبرة أشد حدة.  وكان سؤال واحد لم يعد يحتمل التأجيل:  ما علاقة الاسلام بهذا الهجوم؟ 

 

 وبلا تردد ، اصدرت المنظمات الاسلامية في شمال اميركا سيلا متواصلا من البلاغات الصحافية التصالحية.  وأخذت أسماء قادتها تظهر في صفحات الرأي.  ويوما بعد آخر راح الناشطون في مجال "العلاقات العرقية" يناشدون الاميركيين وحلفاءهم أن لا يصبُّوا احباطاتهم على رؤوس المسلمين لأن غالبيتنا الساحقة "أُناس أخيار".  وأرسل لي اصدقاء في اوروبا أمثلة على خزعبلات مماثلة يجري تناقلها في وسائل اعلامهم (1).

 

وكان متحدثون مسلمون ، عمليا ، يبدون استغرابهم قائلين:  أنتِ يا هيئة الارسال البريطانية ( بي بي سي) ، لقد وافقنا على أن نكون على موجاتكِ الهوائية ، وها نحن نعترف بأن شيئا ما ليس على ما يُرام في الاسلام.  فماذا تريدون أكثر؟  وإسمعي يارويترز ، نحن هناك حيث نشجب المتشددين. هيا ، استشهدوا بأقوالنا! وأنت يا محطة فوكس ، نحن نتحاور مع اصحابك المحافظين ولا نتهرب منهم فلا تتهمينا بالتملص للنفاذ بجلدنا.   

 

أنا ، إذاً ، سأتهم أنفسنا بالمراوغة لتبرئة ساحتنا.  فرغم كل استنكاراتنا للمرض الذي تعاني منه هوامش الاسلام ، تفادى المسلمون بمثابرة معالجة العلة التي تشل الدين كله ـ بقاء الاسلام السائد فوق النقد. 

 

بعد شهرين على 11 سبتمبر ( ايلول ) فعلتُ ما كنتُ أعلم بأني قادرة عليه.  كتبتُ سلسلة مقالات تدعو الى مراجعة الذات (2).  فالمسلمون الذين يعيشون في الغرب يتمتعون بترف طرح اسئلة قاسية دون خوف من انتقام السلطة. والبرجان التوأمان اللذان لم يستحقا الانهيار أُحيلا الى انقاض ،  بيد أن البرجين التوأمين اللذين كانا يستحقان الانهيار ، استمرا في رفع شكل ملموس لكنه لم يخضع للتمحيص من الاسلام.  البرج الأول:  خداع.  والبرج الثاني:  غرور.

 

وأوضحتُ أن الخداع يتمثل في أننا بدلا من الإقرار بوجود مشكلة خطيرة في جوهر هذا الدين ، مضينا ، انعكاسيا ، نسبغ رومانسية على الاسلام.  وان ضغط الآخرين من أقراننا لايصال الرسالة ـ والرسالة هي اننا لسنا جميعا ارهابيين ـ أغرانا باجتناب الجهاد الأكثر حسما من كل أنماط الجهاد الأخرى:  النقد الذاتي.  كفانا هذا الاستسلام الطفولي لضغط الآخرين من أقراننا.  كفانا ، ايضا ، التمادي في الغرور بأن الغربيين مدينون لنا باحترام انساني أساسي ولكننا لا ندين بشيء للقيم الغربية التي تتيح لنا هذه الفرصة للاحترام.  وأشرت ُفي احد مقالاتي الى ان جماعة مسلمة تتخذ من مدينة تورنتو مقرا لها دعت السياسيين في اعقاب 11 سبتمبر ( ايلول ) الى الوقوف ضد التعصب المعادي للمسلمين.  ومن بين الذين فعلوا ذلك سياسي مثلي على نحو سافر.  وكتبتُ أني آمل بأن يتمكن هذه السياسي من أن يتوقع غضبا مماثلا من لدن المسلمين عندما يتعرض في المرة القادمة نادٍ للمثليين أو مكتبة من مكتباتهم الى التفجير بالقنابل الحارقة. 

 

ولخَّصتُ التحدي الذي طرحته على المسلمين الآخرين في الآتي:  هل سنبقى طفوليين روحيا تكبلنا التوقعات بأن نخرسّ ونمتثل ، أم سنبلغ مرحلة النضج لنكون مواطنين مكتملي النمو مدافعين عن تعددية التأويلات والأفكار ذاتها التي تمكننا من ممارسة الاسلام في هذا الركن من العالم. 

 

وانهالت الردود.  كان غير المسلمين يتطلعون الى مزيد من الصراحة ، وكذلك قلة من المسلمين معهم.  ولكن غالبية المسلمين كانوا على الضد من ذلك.  البعض عدّني ناشزة صدمتني تجربة المدرسة الدينية ، وربما كان في تقويمهم شيء من الصحة بشأن وضعي الشخصي.  ولكن طالما أنهم أصروا على الحديث عن صدمة ، لماذا لم اسمعهم ينبسون ببنت شفهة عن الصدمة الأكبر التي أحدثتها قلة من المسلمين المؤمنين في 11 سبتمبر ( ايلول )؟  ماذا كان لديهم يقولونه عن دور ديننا في ذلك الدمار؟  لا شيء.  آخرون اتهموني بالتخبط في الهجوم لأن اسلام الاتجاه السائد قد رفضني.  والحق أني رُفِضت ، ولكني لستُ أشعر بالخزي من ذلك.  فما الذي يجعلني أطمح بالانتماء الى تيار سائد ، ضامر فكريا ومعوَّق أخلاقيا؟(3)

 

لكني لم أُنقاش كلَ رسالة تلقيتها.  وان واحدا بصفة خاصة من اصحاب هذه الرسائل أسكتني وحملني على التفكير.   فان هذا المسلم إذ أُصيب بالجزع من "الصورة الفظيعة" التي رسمتُها عن الاسلام ، علَّمني شيئا بناء.  سأل صاحب الرسالة هل أعرف شيئا عن الإجتهاد؟  الإجتهاد وليس الجهاد ( بل انه حتى ساعدني على تلفظ الكلمة:  إجْتِهاد ).  وقال لي ان الإجتهاد هو التقليد الاسلامي في التعليل والتوصل الى أحكام مستقلة ، الأمر الذي زعم أنه يتيح لكل مسلم ، ذكرا أو انثى ، طبيعيا أو شاذا ، شيخا أو شابا ، امكانية تحديث ممارسته أو ممارستها الدينية في ضوء الظروف المستجدة.

 

إجْتِهاد.  أهو تقليد في الاسلام؟  أهو ما يتعلق باستقلال الفكر؟ اللعنة عليّ ( ربما بالمعنى الحرفي لكلمة اللعنة ).

 

وإذ أمعنتُ التفكير في هذه القضية تذكرتُ وقوعي على كلمة "إجتهاد" في قراءات بعد فترة المدرسة الدينية.  ولكنها ظهرت بلا ضجة ، مطروحةً على أنها نزعة شرعية منطفئة أكثر من كونها مفهوما ثوريا.  يضاف الى ذلك ان الانطباع الذي كان عندي هو ان المرجعيات الدينية وحدها التي بإمكانها أن تتعاطى تفسير القرآن بصورة مشروعة.  وقد دفعني علمي بفكرة الإجتهاد الى التساؤل:  من هم هؤلاء المرجعيات في فقه الدين؟ قصدي ، هل يعترف القرآن بمرجعية دينية رسمية؟  لا.  هل أن التقلبات الجامحة في مزاج القرآن تجعل أي تفسير لنصه انتقائيا وذاتيا؟  إي والله.  فهل من الجائز أن يكون الحق في ممارسة التفكير المستقل ، أو تقليد الإجتهاد ، متاحا في الواقع لنا جميعا؟  وان "آيات الله" الذين يطالبون بإتباع فتاواهم هم الهرطيقيون الحقيقيون من خلال استئثارهم بهذا الحق؟ 

 

كالعادة ، بدأت أقرأ وأُنقّب وأتحادث مع الفقهاء.  مَنْ جعل الإجتهاد تقليدا؟ أين مورس وفي أي مجتمع؟  نبشتُ حتى توصلت الى الصورة الآتية:  أن روح التحري كانت عصب الحياة في عصر الاسلام الذهبي بين حوالي 750 و 1250 ميلادية.  وفي العراق ، قلب الامبراطورية الاسلامية ، كان المسيحيون يعملون جنبا الى جنب مع المسلمين لترجمة الفلسفة الاغريقية واحيائها.  وفي اسبانيا ، الطرف الغربي لمشارف الاسلام ، قام المسلمون بتطوير ما يسميه مؤرخ من جامعة يال "ثقافة تسامح" مع اليهود(4).  وقد منحتنا هذه الملل متكاتفة ما كان المقدمة التي مهدت طريق العولمة ـ ترابط التكنولوجيا والمال والبشر.  إذ كان المسلمون يتعاطون التجارة بنشاط مع غير المسلمين ليكونوا رواد نظام يمكن في اطاره تحرير شيك في المغرب وصرفه في سوريا. وأثمرت التجارة في اتجاهين حركة مزدهرة في الأفكار ايضا.  دعوني أُسلط الضوء على بعض مساهمات الاسلام في الثقافة الغربية(5):  آلة الغيتار الموسيقية ، علاج السعال ، الجامعة ، الجبر وتعبير !Ole الذي يعود في جذره الى ابداء الاعجاب من خلال لفظة "الله!"  ( ألقوا باللائمة عن اختراع آلة "الخُشخيشة" الموسيقية على أحد آخر ).

 

مضى التجديد وروح الإجتهاد متساوقين.  وفي مدينة قرطبة جنوبي اسبانيا على سبيل المثال ، قامت امرأة جذابة جنسيا تُدعى ولاّدة بتنظيم صالونات أدبية لتفسير الأحلام والشعر والقرآن(6).  وكان رواد هذه الصالونات يناقشون ما حرَّمه القرآن على الرجل والمرأة.  ولكن ما هو الرجل وما هي المرأة؟ كانوا يناقشون في هذه المسائل ايضا.  كان ذلك زمنا بوسع المرء ان يناقش فيه دلالات القرآن للخنثيين ، الذين يولدون بأعضاء الجنسين معا. 

 

في هذه الأثناء ، في بغداد كان مركز الامبراطورية يمور بالنشاط.  فيها كان مقر خليفة الاسلام.  وأكان ذلك بالانتخاب أو القتل أو بالاثنين معا فان الخلفاء تعاقبوا على الحكم بعد النبي محمد بوصفهم قادة أمة المسلمين المتنامية ومرشديها الروحيين.  وفي بغداد فتح الخليفة المأمون ، الذي تولى الخلافة في القرن التاسع ، ما عُرف باسم "دار الحكمة" ـ "أول معهد للتعليم العالي في العالم الاسلامي والغربي" ، بحسب محمود أيوب من جامعة تمبل Temple University(7).  ولكن قرطبة المنافِسة ما كانت لتتخلف وراء الركب بوصفها بوتقة أفكار فأصبحت موطن 70 مكتبة.  ويعني هذا الرقم مكتبة مقابل كل حورية يعتقد الشهداء المسلمون أنها موعودة لهم.  مكتبات يومذاك ، وحوريات اليوم ـ يا له من تناقض في الأولويات ، أليس كذلك. 

 

كيف أدى أي من هذا الى تنمية انفتاح على اليهود والمسيحيين؟  للإجابة مستويات متعددة ولكن من حيث الجوهر فان التسامح كان خير وسيلة لبناء الامبراطورية الاسلامية وصيانتها.  فبادئ ذي بدء عمل غالبية الفاتحين المسلمين وفق القاعدة الأساسية القائلة ان ليس بالامكان فرض الاسلام بالاكراه على أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين.  وأثبتت هذه القاعدة أنها كانت الأفضلية الاستراتيجية التي تمتع بها الاسلام الامبريالي على المسيحية الامبريالية.  ولنكن واقعيين فان الصليبيين الكاثوليك ما كانوا ليسمحوا لليهود والمسيحيين الهرطيقيين بممارسة شعائر دينهم.  أما المسلمون فقد سمحوا لهم ضامنين بذلك أنهم عمليا لن يلقوا مقاومة تُذكر من الأقليات الدينية خلال فتوحاتهم.  وهكذا ، على سبيل المثال ، ابتهج اليهود عندما قام المسلمون بغزو القدس في عام 638 ميلادي وانتزعوا مدينة داود من البيزنطينيين الذين دنسوا الأماكن اليهودية المقدسة باستخدامها مزابل يرمون فيها قاذوراتهم.  وقد بادر المسلمون الظافرون الى تنظيف المكان ودعوة العائلات اليهودية الى العودة. 

 

لاحقا ارتقى اليهود بالتعاون الى مستوى أعلى وأخذوا يشاركون في العمل العسكري مع المسلمين.  وإذ كان يهود اسبانيا يعانون في ظل الأسياد المتعصبين لمذهبهم الكاثوليكي ، راحوا يتوسلون بمسلمي المغرب أن يحرروهم بالاستيلاء على شبه جزيرة ايبيريا.  ونشأ تحالف غريب:  جعل المسلمون من اليهود عيونا لهم ضد أي زحف مباغت عليهم يقوم به جيش البابا.  وبالمعلومات التي جمعوها من اليهود سبى المسلمون اسبانيا في سنة 711 ميلادية.  ( في الطريق اليها عبَرَ قائدهم طارق بن زياد كتلة من الصخر اسهما الحالي بالانجليزية

Gibraltar مشتق من اسمها العربي "جبل طارق"(8).  وكانت هذه فاتحة كثير من الكلمات ذات الأصل العربي على غرار كلمة Ole! الاسبانية المشتقة من لفظة "الله!" تعبيرا عن الإعجاب).

 

الجزء الصعب من بناء امبراطورية هو ليس تكديس ما يُقهر من أقاليم تحت سيطرتها بل النجاح في تنظيم الحياة داخل اراضيها مترامية الاطراف.  وكانت هذه مهمة مزدوجة واجهت العرب الذين ، بحسب ناقد في مجال الثقافات ، كانوا "محاربين لا اداريين"(9).  ولكن هؤلاء المحاربين كان لديهم ما يكفي من العقل لأن يدركوا حاجتهم الى خطة يطبقونها في اليوم التالي على فتح هذا الاقليم أو ذاك.  لذا كان الحكام المسلمون يعيِّنون الأكثر ذكاء من بين رعيتهم لإدارة العمليات المتعاظمة التي ترتبط بشؤون الامبراطورية.  كانوا بحاجة الى نواب على دارية بالأعباء والمصاعب الناجمة عن ادارة جماعات بشرية مُقتَلَعة.  وهم كانوا بحاجة الى مَنْ كانوا مواطنين عالميين في حقبتهم.  وهنا جاء دور اليهود الذين لعبوه على أحسن وجه.  فمن اسبانيا الى العراق عمل اليهود ديبلوماسيين كبارا ومساعدين عسكريين وأطباء قضائيين ومصرفيين ، متولين في الواقع مهمات من شتى الأصناف.  

 

ولا بد لي من التساؤل ما إذا كان اليهود قد أسهموا في جعل بغداد خيارا طبيعيا لأن تكون عاصمة الامبراطورية الاسلامية.  فهنا أقام الشتات اليهودي ، بعد سقوط آخر ممالك بني اسرائيل في عام 70 ميلادي ،  مركزا ذا شهرة عالمية لدراسة التلمود.  وعندما وصل المسلمون الى بغداد كان لدى هذه الحاضرة البابلية القديمة اصلا نخبة يهودية متعلمة بامكان الخليفة أن يستمد منها خبراء يعملون مستشارين له.  وهذا بدوره مهد الطريق لأن ينقل حاخامات بغداد تعاليمهم علنا الى اليهود في انحاء العالم حيث كان 90 في المائة منهم يعيشون في ظل حكام مسلمين. ( في القرنين التاسع والعاشر كان اليهود يشكلون نصف السكان في مناطق من اسبانيا ) (10).  وبفضل سهولة تدفق الأفكار في ذلك الزمن ، كما يقول أحد الباحثين ، "اصبح التلمود وتفسيره للتوراة ، المرجعية المركزية في حياة اليهود". 

 

لا يسع المرء إلا ان يهيم بحب التكاتف:  فيما كان الاسلام يعيش عصره الذهبي منفتحا على مؤثرات الحياة الفكرية اليهودية ، كان اليهود أيضا يخطون خطواتهم المجيدة مستلهمين الثقافة العربية الاسلامية.  وتدفقت القصائد العبرانية سيالة من قلم شمويل هاناجد ، الحاخام ، هاوي الشعر ، الذي خدم رئيسا للوزراء في بلاط ملكيَن مسلمَين من ملوك الاندلس.  وخذوا ما تشاءون من الوقت لهضم هذه الحقيقة.

 

لا شيء من هذا يعني ان الحضارة الاسلامية كانت كلها ربيعا من الوئام والانسجام لليهود والمسلمين. لا والله.  فابتداء من القرن الحادي عشر عملت الأنظمة السياسية التي تعاقبت على الحكم في الاندلس على تقويض التسامح بطاغوتها.  ولكن حتى وقتذاك لم يكن موت التقارب الثقافي آنيا.  فان معتنقي الديانات الابراهيمية الثلاث كلهم هربوا للنجاة بحياتهم وتوطنوا مجددا وواصلوا التزاوج بين بعضهم البعض دامجين كل شيء في بوتقة واحدة ، من اللغات مرورا بحكايات الجن الى الفلسفات. 

 

سأروي لكم حياة مَنْ تعبِّر عن الديناميكة التي أتحدث عنها:  انها حياة موسى بن ميمون ، الذي كان فيلسوفا وحاخاما وطبيبا وعالما اخلاقيا يهوديا كبيرا.  نشر ابن ميمون غالبية أعماله باللغة العربية حصرا.  ( اول رئيس وزراء اسرائيلي ، ديفيد بن غوريون ، تعلم العربية خلال فترات الغداء ليتمكن حقا من تقدير ابن ميمون ) (11).  ولكن ابن ميمون لم يرتكب خيانة روحية.   فالى جانب كونه أول من قام بتدوين القوانين الشرعية لليهودي الاعتيادي ( توراة مشْنا التي كتبها بالعبرية ) كان هذا الطبيب الوقور ايضا مؤلف العمل اليهودي الكلاسيكي "دلالات الحائرين".  وإذ ادرك ابن ميمون أن نوبة مفاجئة من الفكر التجديدي يمكن أن تسبب تشوشا أخلاقيا ، أراد أن يحتفظ اليهود بمبادئ توراتية سليمة دون أن يقعوا في تبليد أنفسهم بأنفسهم.  وهذا المقطع من كتاب "دلالات الحائرين"  يبين أمانته الفكرية: "ان من طبيعة الانسان أن يحب ما هو مألوف له ونشأ فيه وأن يخاف من كل شيء غريب.  وتعدد الاديان وما يترتب عليها من لاتسامح متبادل ناجم عن حقيقة ان البشر يبقون أوفياء للتربية التي تلقوها" (12).

 

ما يجعل حياة ابن ميمون الفكرية أكثر مدعاة للاعجاب انه عاش في الفترة العصيبة التي أعقبت استيلاء امراء الطوائف على قرطبة ، مسقط رأسه.  وفي حوالي عام 1150 ميلادي هرب ابن ميمون وعائلته الى شمال افريقيا ثم الى ما هو اليوم اسرائيل قبل أن يلقي رحاله أخيرا في مصر.  وهناك أصبح طبيبا لكبار القواد العسكريين عند صلاح الدين ، البطل العسكري المسلم الذي اجهض الموجة الأولى من الصليبيين البابويين.  وازاء سيف التطرف الاسلامي الذي كان مسلطا ـ في الاندلس إن لم يكن في سواها ـ فقد كان بمقدور ابن ميمون ان يتقوقع في يقينياته الدينية أو الثقافية المطلقة ولكنه لم يفعل ذلك بل واصل عمله طبيبا في مصر.  وكان يعاين المرضى المنتظرين في طابور على بابه ويدرس مع ابناء طائفته اليهودية ويكتب للعالم الأكبر منها.  هكذا كانت القريحة الابداعية الدافقة لمن جعلوا العصر الذهبي أكثر تألقا ، حتى في ساعة أُفوله.

 

كان لإبن ميمون ند مسلم لا يكبره إلا تسع سنوات ـ الفيلسوف والطبيب والعالم الرياضي والقرطبي مثله ابن رشد ( الذي كثيرا ما يُعرف بالاسم اللاتيني

Averroes ).  وفي اسبانيا دافع ابن رشد عن حرية العقل ذاتها التي كان ابن ميمون يجسدها على الجانب الشرقي الأبعد ، غير هياب من الاختلاف مع الثيوقراطيين.  وجادل ابن رشد مدفوعا بصعود شكل متعصب من اشكال الاسلام ، بأن الفلاسفة هم خير من يفهم على الوجه الصحيح الآيات الرمزية في القرآن على اساس درْبَتهم المنطقية ، وانه ليس هناك حكم ديني يقضي بتفسير أي آيات كهذه تفسيرا حرفيا (13).  ونحن نبصم على هذا القول بكلمة آمين. 

 

ولِمَ التوقف عند هذا الحد؟  فان ابن رشد ، اكثر من أي اوروبي آخر ، أكان مسلما أو غير مسلم ، نادى بمساواة الجنسين.  وفي اجتهاده ان "مقدرة المرأة غير معروفة"  لأن حياتها قُصرت على "فعل الانجاب وتربية الاطفال ورضاعتهم" (14).  وحذَّر ابن رشد ، ببعد نظر ، الأوصياء على الحضارة من أن معاملة المرأة وكأنها عبء على الرجل هو "أحد أسباب البؤس".  وبجرأة كهذه اصبح ابن رشد "عبئا" على القوى السائدة ذات الاسلام المتزمت فنفته الى مراكش في المغرب ، وعشية القرن الثالث عشر توفي ابن رشد في ظروف مشبوهة. 

 

 

إذ كنتُ أُفكر في ما قد يكون أصاب عقل ابن رشد المتقد ، ألححتُ في التساؤل:  كيف أمكن لملاذ تأمن فيه الهرطيقية ، مثل اسبانيا المسلمة ، أن يغدو معقلا للتزمت؟ متى توقفتْ بقية الامبراطورية الاسلامية عن التفكير؟  ما الذي وجه الضربة القاضية الى عصر الاسلام الذهبي ، وما معنى ذلك لنا جميعا اليوم؟

 

الأهم ثم المهم.  يتضح ان منحرفين دينيا حجبوا الرؤية السليمة عن اسبانيا المسلمة.  فالمعتمد بن عباد ، حاكم اشبيلية المسلم ، كان يريد تحصين امارته ضد  تهديد الفونسو ، ملك قشتالة  المسيحي.  ولتفادي خطر الفونسو استنجد المعتمد بمسلمين أشداء من المغرب هم المرابطون. وتولى المرابطون ، كما هو ديدنهم ، أمر الفونسو ولكنهم بسطوا سيطرتهم بعد ذلك في حملة ضارية من أجل النقاء اللاهوتي ، وهو ما لم يكن المعتمد يتوقعه بالمرة.  كان المرابطون يكرهون الحريات المتاحة في اسبانيا المسلمة ، التي اعتبروها نتيجة بدعة منافية للدين.  وكانوا يحتقرون اليهود ويستهجنون النساء وينفرون من النقاش واتخذوا موقفا تبشيريا مهووسا.  صدقوني ، ان إبعاد ابن رشد لا يعطي حتى ولو فكرة عابرة عن حجم تجاوزاتهم.  وذهب أهل الكهف اولئك حتى أبعد.  هل سمعتُم ذات يوم عن الغزالي؟  كان مفكرا من مفكري بغداد اتهم الفلاسفة الليبراليين المسلمين بـ"التهافت".  فهل كان هذا موقفا يمكن أن يعتمده المرابطون؟  كلا.  ولكن المرابطين اعلنوا الغزالي نفسه مغرقا في الليبرالية وأحرقوا أعماله أمام الملأ.  كما نكَّلوا بالصوفيين والباطنيين المسلمين الذين قرؤوا القرآن قراءة مجازية لا حرفية. 

 

أتعرفون ما أجد فيه عبرة من هذه الواقعة؟ أن اسبانيا المسلمة لم تسقط تحت ضربات المسيحيين.  صحيح أن المسيحيين قطفوا ثمار الانهيار ولكن البهائم الذين اسقطوا اسبانيا المسلمة كانوا مسلمين.  وهل تعرفون ما يوحي لي هذا به؟  أن المسلمين فرضوا الأحكام العرفية وراحوا يصادرون حريات بعضهم بعضا قبل ظهور الاستعمار الأوروبي.

 

ما أُريد توصيله أن متاعبنا لم تبدأ مع الصليبيين الغادرين بل أن مشاكلنا بدأت معنا.  وحتى يومنا هذا يستخدم المسلمون الرجل الأبيض سلاحا من أسلحة الإلهاء الشامل ـ الإلهاء عن الحقيقة الماثلة في اننا ما كنا قط نحتاج الى الغرب "الظالم" لظلم أنفسنا. 

 

سأُوضح هذه النقطة أكثر بتحويل نقطة التشديد الى بغداد.  أتذكرون الخليفة المأمون الذي حكم في القرن التاسع؟ اعتنق المأمون شكلا من الاسلام يشجع الفكر العقلاني ويستبعد كل ما يذهب الى أن للقرآن أصولا إلهية.  وفي المقام الأول ، أن لاهوت المأمون أصر على الارادة الحرة لكل كائن بشري.   طيب.  في انقلاب مذهل على الارادة الحرة والفكر العقلاني على السواء ، شن المأمون حملة شعواء ضد المسؤولين الذين لم يتفقوا مع تفسيره للاسلام!  وقد جُلد بعض المعترضين وسُجن البعض الآخر.  وحكم خَلَفُ المأمون بضرب عنق معارض واحد على الأقل (15). مَنْ غير المأمون يمكن تحميله مسؤولية هذه الفظائع؟  كنيسة الروم؟  حاولوا مرة اخرى؟  اليهود؟  كلا مع الأسف.  محطة "ام تي في" التلفزيونية الخاصة بالموسيقى؟  ولا هذي ايضا.  أو لا تحزرون مَنْ تبقى؟

 

بعد ثلاثة عقود من "الارادة الحرة" ، المفروضة فرضا ، تراجع المأمون أولا ثم ابن عمه ، الذي جاء خليفة من بعده ، عن السياسة السابقة وأعدَّا الساحة لمذهب جديد يعم البلاد الخاضعة لحكمهم.  وقضى هذا المذهب بأن على المؤمنين أن يقبلوا بما ينص عليه القرآن "دون أن يسألوا كيف" (16).  باختصار ، ليس شغلنا أن نتساءل كيف يطبق الله قوانين معينة لأننا عاجزون عجزا مطلقا عن اقامة صلة به ـ الواحد الأحد الذي لا مثيل له ولا يمكن اكتناهه.  كلامه المنزَّل غني عن البيان وما علينا إلا الامتثال.  من الواضح أن الامتثال لم يكن موقف الجميع.  انظروا الى ابن رشد ، ومعه أي عدد من الكافرين جهارا قبله.  ولكن إذ نتطلع من حولنا الآن يبدو ان لواء النصر عُقد لهذه الارثوذكسية المتزمتة التي تحكم بأن لا يسأل المرء كيف.  وهي انتصرت أساسا لأن ميزان القوى السياسي كان لصالحها.  وقد استمرت روح التفكير المستقل في بعض جيوب الامبراطورية ولكن تقليد الاجتهاد المعترف به رسميا أُجهض عن سابق اصرار.  ولكم أن تسألوا بكل حرية كيف حدث ذلك. 

 

للاجابة ، عليّ أن أعدّ المشهد موضحة أن المسلمين الأوائل اختلفوا على خلافة النبي في عام 632 ميلادي.  البعض طالب بأن تكون الخلافة لصهره وابن عمه الشاب نسبيا علي بن أبي طالب.  وأيد مسلمون أكثر ان تؤول الخلافة الى أكبر الصحابة سنا ، ابو بكر.  وتسببت هذه الصراعات الدموية في حدوث أول انقسام بالاسلام:  الشيعة المنشقون ( جماعة علي ) في مواجهة الغالبية السنة ( أهل السنة أو التقليد ).  وعلى امتداد حوالي 275 سنة بقي هذا الانقسام خامدا تحت الرماد ليشتعل بروح انتقامية في سنة 909 ميلادية عندما أعلنت جماعة شيعية منشقة قيام حكومة منفصلة داخل الامبراطورية الاسلامية ذات القيادة السنية.  وعندها أوحى اعلان الشيعة عن صعودهم ، لحاكم اسبانيا الاسلامية بأن يعلن دعواه المقابلة بكونه "أمير المؤمنين" ـ أو الخليفة إذا توخينا الاختصار.  وفي غمرة هذه الفوضى عمد النظام في بغداد الى غلق ما كان هناك من ثغرات ورص صفوفه. 

وفي غضون أجيال قليلة أخذت بغداد على عاتقها غلق شيء آخر الى جانب الثغرات ـ أبواب الاجتهاد ومعها تقليد الفكر المستقل.  وبذريعة حماية أمة المسلمين جمعاء من الانقسام ( أو جريمة الفتنة ) أجمع العلماء الذين كانوا يحظون برضا بغداد على تجميد النقاش داخل الاسلام.  وكان هؤلاء العلماء ينهلون من عطايا الحاكم فلم يكن في نيتهم التغني بالانفتاح في وقت كان اسيادهم يريدون منهم أن ينعبوا لا أن يغردوا.  لذا كان كل ما يحتاج المسلمون الى معرفته ، معروفا من منظور هؤلاء المدفوع ببواعث سياسية.  هل لديكم اسئلة جديدة؟  ان المذاهب السنية الاربعة القائمة تستطيع الاجابة عنها.  ألم تتعامل هذه المذاهب قط مع اسئلة جديدة كأسئلتكم؟ إذاً ستلجأ الى التقليد قياسا على احكام سابقة.  فان الريادة والمبادرة ممارسة لا تُطاق.

 

نحن في القرن الحادي والعشرين نعيش عواقب هذه الاستراتيجية البالغ عمرها الف عام في سبيل الحفاظ على الامبراطورية من الانهيار.  أو لم تسمعوا بالنبأ؟:  أن الامبراطورية الاسلامية لم تعد قائمة.  أقولها ثانية ، أن الامبراطورية تَمتُّ الى الماضي ونحن هنا ، وابواب الاجتهاد ـ عقولنا ـ تبقى مغلقة  ، في الغالب.  لماذا؟  لماذا يواصل مسلمو الاتجاه السائد قمع قواهم العقلية علما بأن الهدف المعلَن من القاعدة التي تقضي بعدم التفكير ـ الحفاظ على سلامة ديار الاسلام ، من العراق الى اسبانيا ـ هو الآن مسألة فيها كثير من النظر؟  اعطوا رؤوسكم خضة يا اصدقائي.  فالشيء الوحيد الذي حققته هذه الاستراتيجية الامبراطورية هو انتاج أكثر اشكال القمع رسوخا بحق المسلمين على يد المسلمين انفسهم:  الحجر على التأويل.

 

دعوني أتحدث بقدر أكبر من الملموسية.  مع غلق ابواب الاجتهاد اصبح حق التفكير المستقل امتيازَ المفتي ، أو الفقيه ، في كل مدينة ودولة.  ويقول محمود ايوب أن المفتين "حتى هذا اليوم يصدرون الآراء الشرعية التي تُسمى فتاوى طبقا للمبادئ التي تقوم عليها مذاهبهم.  وقد أُعدت مجاميع من الفتاوى الشهيرة لتكون بمثابة دليل ، لا سيما للمفتين الأقل ابداعا أو مقدرة" (17).  الأقل ابداعا؟ الأقل مقدرة؟ بدلا من أن نُقلِّد تقليدهم لأحكام بعضهم بعضا أليس حريا بنا أن نهز أبواب الاجتهاد ونخلع اقفالها؟

 

خذوا مثالا آخر على مدى احترامنا لما هو فائض عن الحاجة:  قانون الشريعة.  بعدما قيل لهم ان الشريعة تجسد المُثُل الاسلامية العليا افترض غالبية المسلمين ان الشريعة مقدسة.  هراء في هراء.  يكتب الداعية الاصلاحي ضياء الدين سردار "ان القسم الأعظم من الشريعة ما هو إلا الرأي الشرعي لفقهاء كلاسيكيين"  ـ بكلمات اخرى فقهاء المذاهب السنية الاربعة.  وإذ وُضعت هذه الأحكام في زمن الامبراطورية فقد جرى تطبيقها منذ ذلك الوقت.  ويقول سردار "أن هذا هو السبب في انه كلما فُرضت الشريعة ـ خارج سياق الزمن الذي وُضعت فيه وبالتناشز مع زمننا ـ تكتسب المجتمعات الاسلامية احساسا قروسطيا.  هذا ما نشهده في العربية السعودية وايران والسودان وافغانستان في ظل حكم طالبان"(18). 

 

حتى عندما لا يبدو أن الشريعة مطبَّقَة يبقى التقليد مُطبَّقَا.  فمؤخرا رمى طلاب احدى الجامعات في فلسطين استاذهم من نافذة الصف في الدور الثاني.  جريمته؟ اعادة تفسير التاريخ الاسلامي المبكر (19).  بقي الاستاذ على قيد الحياة ولكني لستُ واثقة من أن فلسطين تستطيع الحياة وصفوة ابنائها يُبدون مثل هذا الاحتقار للبحث والاستقصاء.  ثم هناك الموقع المؤيد للشيشان على شبكة الانترنت حيث يمجّد التقليد باسلوب أرقى بعض الشيء(20).  فهو يقوم بتنغيل عبقرية ابن ميمون محوِّرا عمله الى "دلالات الحائرين في جواز قتل المأسورين".  تصوروا كيف تنفستُ الصعداء حين علمتُ أن قتل الكفار "جائز" ( بل أنه واجب ) ـ ما لم يقرر الإمام أو من ينوب عنه خلاف ذلك.  يا لها من راحة! على الأقل لم يكن عليّ  أنا أن أُفكر في الأمر. 

 

بعدما اكتشفتُ كيف أصبح النقل هو القاعدة في الاسلام بقي شيء آخر يحيُّرني.  إذا كنا سنمارس النقل فلماذا لا ننقل التسامح بدلا من الطغيان؟  ألم تكن لدينا سابقة متعافية نقتدي بها ـ أو نقلدها ، ليكن ـ في الطريقة التي تعامل بها المسلمون مع اليهود والمسيحيين خلال عصر الاسلام الذهبي؟  لماذا ، إذاً ، انزلق الكثير منا في هاوية لا قرار لها من المشاعر المسمومة ازاء غير المسلمين؟

 

طرح هذه الاسئلة حقق لي أكثر مما كنتُ اراهن عليه ، لأني ، أثناء تنقيباتي ، أدركتُ ان تسامح المسلمين مع اليهود والمسيحيين كان على الدوام تسامحا هشا.  فخلال العصر الذهبي كان التسامح في غالب الأحيان أشبه بالازدراء من الدرجة الخفيفة منه بالقبول.

 

هناك باحثة اوروبية مصرية الأصل ، تصب ماء باردا على كل نظرة حالمة الى الطريقة التي تعامل بها المسلمون تاريخيا مع "الآخر".  اسمُها بات يئور.  وهو في الحقيقة اسمُها المستعار الذي انتحلته لأن ما تطرحه يدفع كثيرا من المسلمين الى سورات من الغضب.  وكانت يئور هي التي نحتت كلمة باللغة االانجليزية تفيد معنى "الذمية" وهي كلمة dhimmitude لوصف ايديولوجيا الاسلام في التمييز الجماعي ضد اليهود والمسيحيين (21).  لماذا هذه الكلمة الجديدة؟  لأنها مشتقة من مصطلح "الذميين" الذي يُستخدم للاشارة الى هاتين الجماعتين ـ من أهل الكتاب أمثالنا ـ الذين يحق لهم التمتع بالحماية في المجتمعات الاسلامية. 

 

الحماية؟!  لنتفحص بإمعان الفرضية الكامنة وراء هذا المبدأ.  لماذا يحتاج اليهود والمسيحيون الى حماية خاصة إذا كانوا من أهل الكتاب مثلنا ، لهم من الحقوق والمسؤوليات ما للمسلمين؟  هذه هي المعضلة.  فالمجتمعات المسلمة تلاقي صعوبة في معاملة اليهود والمسيحيين ( دعكم عن سواهم ) على قدم المساواة في الكرامة. 

 

مثال:  في دار الاسلام كان اليهود والمسيحيون تاريخيا يشترون الحماية ـ من حيث الجوهر يدفعون ثمنا عن أرواحهم ـ بدفع ضريبة خاصة تُسمى الجزية.  والقرآن يبيح هذه الضريبة للحفاظ على السلام العام.  وما هذه بالممارسة التي تراعي كرامة الآخر ، اليس كذلك؟  نعم ، لقد أثبت النبي محمد أن الإرادة الحرة ممكنة هنا.  فعندما كان السلام العام لا يبدو مهدَّدا كان محمد لا يفرض الجزية.  ولكن خيار جباية ضريبة كهذه بحد ذاته يبدو لي "ابتزازا" سافرا. 

 

أبحاث بات يئور تسلط ضوء ساطعا على هذه التهمة.  تأملوا في الشروط التي تردد أن محمدا أملاها على مجموعة من المزارعين اليهود بعدما نهب محاربوه واحتهم في خيبر شمالي المدينة.  تكتب يئور: "سمح النبي لليهود بزرع أرضهم ولكن كمستأجرين لا أكثر ، وطالب بتسليم نصف محصولهم محتفظا بحق طردهم متى يشاء (22).  لستُ احاول التحرش بالنبي ، كل ما في الأمر أن موقفه كان من شأنه أن يعبد الدرب لانتهاج "سياسة واقعية" في الاسلام. 

 

وإنصافا فان مؤرخين يشيرون الى ان محمدا ابدى اعجابا مديدا بجيرانه اليهود ، وحض المسلمين على مشاركة اليهود صيامهم في يوم الغفران.  واعتبر يوم الجمعة الذي كان بداية عطلة اليهود موعد صلاة الجماعة عند المسلمين.  واختار في الأصل القدس لتكون القبلة وليس مكة.  وهذه كلها التفاتات رائعة.  ولكن علينا أن نواجه السؤال التالي:  هل من الجائز أن هذه كانت مجرد التفاتات قدَّمها سياسي بارع ، وان المغالاة في التشديد عليها تُلهينا عن الجانب المؤذي من الاسلام؟

 

اني الحُ في السؤال لسبب وجيه.  فبعد سنوات ليست كثيرة على وفاة النبي ظهرت وثيقة مُقلقة ويُفترض انها ذات مرجعية موثوقة.  قضت الوثيقة بأن على غير المسلمين أن يقفوا عندما يريد المسلم أن يجلس ، وان على غير المسلمين أن لا يرمموا أو يستبدلوا ما خرب وتداعى من أماكن عبادتهم ، وان شهادة المسلم امام القضاء تعلو على شهادة غير المسلم.  فتخيلوا هذه الصورة القاتمة.  سُميت هذه الوثيقة "العُهدة العمرية".  ومَنْ كان عمر؟  كان عمر الخليفة الثاني بعد وفاة النبي محمد ـ انسان عادل وحكيم بحسب كل ما قرأته عنه تقريبا.  وانه لسر غامض كيف رُبط اسمه ( أو لُطِّخ ) بسلسلة من مثل هذه الاملاءات العنصرية بلا أي وازع.  ولأن هذا الجزء ليس واضحا يطرح السؤال نفسه مجددا:  لماذا اختار المسلمون اللاتسامح على التسامح من خلال ما عُرف بـ"العُهدة العمرية"؟  أنا تعاهدت مع نفسي على إبقاء هذا السؤال في دائرة تحرياتي. 

 

في هذه الغضون كل ما استطيع قوله أن "العهدة العمرية" كان لها تأثير حاسم في الاسلام خلال سنواته الأولى ـ وما بعدها.  وفي مطالع القرن التاسع استخدم فقيه بارز الشروط التي تضمنتها "العهدة العمرية" اساسا للاشارة على الحكام المسلمين بنوع العلاقات التي ينبغي ان يسعوا الى اقامتها مع رعاياهم من غير المسلمين.  وأعد هذا العالم الفقيه ما يشبه الاتفاقية المدبَّجة بصيغة نمطية.  القوا نظرة على بعض الأحكام الموجهة الى اليهود والمسيحيين (23): 

·       "أن لا تُشغِلوا وسط الطريق أو المقاعد في السوق معترضين سبيل المسلمين..."

·       "أن تميزوا أنفسكم بسروجكم وما تركبونه من دواب".

·       "أن تميزوا شُعورَكم بوسم..."

·       "أن تشدوا الزنانير على وسطكم في كل ما ترتدون من ثياب وعباءات وغير ذلك بحيث لا تكون الزنانير مخفيَّة".

 

وتقولون أن هذه ليست امبريالية.  إذ يعترف عبد العزيز ساكدينا استاذ الدراسات الدينية في جامعة فرجينيا أن الفقهاء والقضاة المسلمين فرضوا هذه الشروط بوصفها "نظاما من الأحكام التمييزية المباحة إلهيا" (24).  انها مباحة إلهيا.  وهي نظام.  إذا كانت الكلمات الأخرى في هذا العَقد لا تلفت انتباهكم توقفوا على الأقل عند كلمة "نظام".  فهي تستحضر في الذهن ثقافة تواطؤ كاملة.  وتلك نزعة ذمية دخلت الانجليزية بكلمة dhimmitude.

 

على امتداد 500 عام كانت العصر الذهبي للاسلام ، مارست "العهدة العمرية" تأثيرها مؤدية الى التسامح الهش الذي لمَّحتُ اليه سابقا.  دعوني أوضح بالملموس:  كثير من اليهود والمسيحيين وجدوا أنفسهم في مأزق لا فكاك منه.  فهم كانوا يستطيعون أن يرفضوا بأدب طلب حاكمهم المسلم أن يتولوا وظائف عامة ، وفي هذه الحالة يجازفون بإزعاله ، ولكنهم لو قبلوا الدعوة الى الانخراط في الخدمة لواجهوا خطر البطش بسبب خرقهم أحكام الإذعان والخضوع بموجب أحكام "العهدة العمرية" ، وفي هذه الحالة فان عائلاتهم وطوائفهم ايضا ستدفع الثمن. 

 

أُريدكم ان تعرفوا مثال شمويل هانجد ونجله.  قد تذكرون ان شمويل عمل رئيسا للوزراء عند اثنين من ملوك اسبانيا المسلمين.  ورغم انه كان مبدعا متعدد المواهب ـ شاعرا وقائدا عسكريا ولاهوتيا ـ فانه مارس نفوذه بحذر.  ويقول روفن فايرستون Reuven Firestone من كلية هيبرو يونيون العبرانية Hebrew Union College  ملتقطا القصة:  "عندما توفي شمويل في عام 1055 عُين نجله يوسف للحلول محله.  ورغم ان يوسف كان موهوبا على نحو استثنائي كوالده فقد كان متعجرفا وممقوتا.  وأسهم تصرفه كما لو أنه ليس من أهل الذمة في سقوطه وفي النهاية قُتل في عام 1066 وتعرض يهود غرناطة الى مجزرة.  وتقنياً فان يوسف ووالده على السواء خرقا العهد بقبول منصب رسمي رفيع وسلطة على المسلمين.  وقد جرى غض الطرف عن هذه الحقيقة عندما كان شمويل يتصرف بتواضع استثنائي وكانت المملكة عموما مملكة سعيدة.  ولكن عندما نشأ توتر ورفض يوسف أن يكون متواضعا فانه فرَّط بالحماية التي كان مشمولا بها كذمي.  فقُتل ونُكِّل بطائفته" (25). 

 

ولكن فايرستون يطلب منا ألا نغفل "الوضع الجيد نسبيا الذي تمتع به اليهود وغيرهم من الأقليات الدينية الاخرى في ظل الاسلام" (26).  وكثير من العلماء يتفقون معه في ذلك.  ويشير أحد الاساتذة الى ان الأحياء اليهودية في العالم العربي الاسلامي إبان القرون الوسطى لم تعان من وصمة في حين عملت الكنيسة بنشاط في اوروبا المسيحية على منع الاتصال بين المسيحيين واليهود بتحديد الأماكن التي يمكن لكل جماعة ان تعيش فيها.  وكانت الشوارع المخصصة للعبرانيين أو اليهود حصرا تبثُ "الشك والرعب في المخيلة الشعبية" للمسيحيين (27).  ما يرمي اليه الباحث هو:  لا تتهجموا على الاسلام بسبب بعض المجازر التي ارتُكبت هنا وهناك بل قارنوه بمسيحية القرون الوسطى التي سعت الى محو اليهودية عن بكرة ابيها.

 

يمكن أن أفهم هذه المحاولة لإتخاذ موقف متوازن.  ولكن لمصلحة قدر أكبر من التوازن ينبغي أن لا نستهين بالطرق الدنيوية المتقَنَة في تطبيق الشروط التي تنص عليها "العهدة العمرية".  ففي شمال افريقيا كان اليهود والمسيحيون يضعون على مناكبهم رقعة رُسمت عليها صور خنازير وقرود لكل منهما على التوالي.  وكان عليهم أن يلصقوا هذه الرموز على أبواب منازلهم ايضا.  وفي بغداد ، مركز التنوير الاسلامي ، كان أهل الذمة يرتدون ملابس تحمل رموزا صفراء اللون ـ وهي علامة أحياها النازيون.  آمل ان تكون الوقائع التي شرعتُ في سردها قد أعانتكم على استكمال الصورة لديكم.  فهذا هو ما فَعَلته لي.  وبدأتُ أدرك كيف بات الاسلام دينا انعزاليا وفي احيان كثيرة دين كراهية.  ولو جمعتم بين حظر على التفكير وشَرعَة تمييزية مطبَّقة منذ زمن طويل ماذا تكون الحصيلة التي لا بد أن تتوصلوا اليها؟  انها حصيلة من التقليد واللاتسامح ، وفي المقام الأول ستكون حصيلتكم "تقليدا للاتسامح". 

 

لعل البعض منكم يريد أن يصرخ: "قفي عند هذا الحد.  كم من المرات يجب ان نكرر عليكِ اننا لا نرغب في مذلة اليهود والمسيحيين؟  اننا لا نريدهم ان يتجولوا في انحاء مدينتنا بنجوم صفراء ، أتفهمين؟  لا تتهمي المسلمين كلهم بـ"تقليد اللاتسامح ، رجاء".  ولكن تقليد اللاتسامح يذهب أبعد بكثير من النجوم الصفراء.  وما من مسلم أعرفه متحرر تماما من النظام الذي يكرسه. 

 

سأسوق نفسي مثالا.  لقد نشأتُ بعقدة خوف من الكلاب لأن الاسلام علَّمني ان الكلاب مخلوقات قذرة.  وإذا اضطررتم الى استخدامها للحراسة فسدوا أنوفكم.  وينبغي ألا تُرَبِّتوا على كلب بأي حال من الأحوال ، ناهيكم عن اعتباره حيوانا منزليا اليفا.  وماذا عن الكلاب السود؟  انها شيطانية ، لا أكثر ولا أقل.  وكنتُ في شطر متقدم من العقد الثالث من العمر قبل أن اتمكن من ملامسة كلب دون أن أتوقع عضَّة لمخالفتي كلام الله. 

 

لهذا علاقة وثيقة بتقليد اللاتسامح.  ففي الحديث ـ ما نُقل عن اقوال النبي وافعاله ـ تظهر كل المناسبات التي يأتي فيها ذكر الكلاب السود بجانب اشارات تحقيرية الى النساء واليهود. وبدلا من أن تكون هذه الأحاديث المنقولة موضوعية فانها تلعن الكلاب السود من خلال ربطها بـ"آخرين" مذمومين.  وإذا لم نضع الاحاديث موضع تساؤل وإذا لم نفتح أعيننا على أنماط التحامل فاننا يمكن بكل سهولة أن نسند نظاما يعامل ملايين من خلق الله بوصفهم كائنات دونية بل وكائنات مسحورة. 

 

يبدو ذلك ضربا من الجنون ، أليس كذلك؟  ولكن العواقب حقيقية.   اسمعوا تجربة بروفيسور في الشريعة الاسلامية من جامعة كاليفورنيا بمدينة لوس انجيليس ، خالد ابو افضل.  فهو يعرف شخصا اهتدى الى الاسلام ، أوعز اليه احد الملالي بالتخلص من كلبه.  وقد اكتشف هذا الشخص الذي اعتنق الاسلام أن الكلب أينما تركه يعود الى عتبة داره.  فطلب الرجل رأي الملا بشأن ما ينبغي عمله مع كلب يرفض الهجران. 

 

كان جواب الملا أن يقوم هذا  المسلم بتجويع كلبه.

 

عندما سمع الفضل بهذه القصة التي لا رحمة فيها ثارت ثائرته وانكب هذا العالِم في الشريعة الاسلامية ، المولود في الكويت والمتعلم في مصر ، يدرس النصوص الأصلية والتأويلات الاولى للتوثق مما إذا كانت لدى الملا حجة تشفع له.  وحينذاك اكتشف كيف رُحِّل الكلاب والنساء واليهود بإسلوب تشهيري الى مصاف كائنات أدنى مرتبة (28) ، ليس من قبل النبي محمد الذي يبدو ان اعتزازه بالكلاب بلغ حد الصلاة في حضورها وانما على يد فقهاء لاحقين.  وعلى غرار البناء الفكري الذي هو الشريعة الاسلامية فان ذم الكلاب ( واليهود والنساء ) كان خيارا.  وما كان الله هو الذي اختار ذلك بل حفنة من العرَّابين.  وكثيرون منا يشترون رضاهم بقبول جوانب من نظامهم ولكننا لسنا مجبرين على التسليم بأي منه.  وقد عمد الفضل وزوجته غرايس Grace الى تبنِّي ثلاثة كلاب ضالة ـ أحدها كلب اسود.  زد على ذلك أن غرايس كثيرا ما تؤم صلاة العائلة.  فان ممارسة الاجتهاد تدفعهم الى وضع حُب الخالق فوق قوانين البشر. 

 

اسمعوا ، لا يتعين علينا ان نكون مثقفين افذاذا لممارسة الاجتهاد.  كل ما ينبغي ان نفعله هو طرح تساؤلاتنا عن الاسلام بصراحة.  ونحن جميعا لدينا تساؤلات مركونة في اعماق ضمائرنا.  

 

بين الفَينة والاخرى كنا نتحرك بموجب ما تمليه علينا تساؤلاتنا ، بتردد ، وبتردد شديد.  قبل مائة عام شهدت مصر مناقشات عامة حول الماركسية والالحاد ونظرية النشوء والارتقاء. وطبقا لأحد الباحثين كان زهاء 50 صحيفة يومية و200 اسبوعية تصدر بحرية مستشهدة بأقوال علمانيين يجاهرون بعلمانيتهم مثل فولتير (29).  كما انطلقت دعوات الى الاصلاح الديني.  وبعدما قام ما تحقق من تقارب سياسي مع اوروبا في اواخر القرن التاسع عشر بدور العامل المساعد ، تراجعت هذه النهضة الفكرية تحت وطأة الخطابية المعادية للاستعمار والضغوط السياسية من اجل التضامن العربي ، بما معناه رفض كل ما هو غربي.  وبحلول عشرينات القرن العشرين اضمحلَّت غالبية التساؤلات الى همس.  وفي حوالي هذا الوقت بادر مصري الى تأسيس جماعة "الاخوان المسلمين" ، التي كانت بمثابة شبكة "القاعدة" عند جيله.  وكانت طقوس القبول في عضوية الخلايا الارهابية لجماعة الاخوان ، تتمحور على ركيزتين هما القرآن والمسدس.  لم تكن هناك تساؤلات. 

 

من الامثلة الراهنة على تقليد اللاتسامح ما يتبدى في اللاسامية الذُهانية (البارانويِّة) التي تجتاح مصر.  ومن الصعب معرفة ما ينبغي تسليط الضوء عليه في مثل هذا الحيز الضيق فدعوني اوضح بإضحاكِكم.  في اواخر التسعينات تبرعت اسرائيل بتشاطر تكنولوجيتها الزراعية مع مصر عملا بالحكم التوراتي القائل بتحويل السيوف الى محاريث.  يا سلام!  سوى ان الصحافة المصرية نشرت تقارير تحدثت عن توزيع بذور سامة وخِيار يسبب السرطان على الفلاحين المساكين.  وتلقت هذه الشائعات دفعة من  حملة مصرية المنشأ اتهمت الاسرائيليين بتسويق منتوجين من المنتوجات الشريرة:  علكة تسبب تشجنات شهوانية عند النساء وفاكهة معدَّلة وراثيا تَستنزف الحيوانات المنوية عند ازواجهن (30).  وهذا كله من بلد عربي يرتبط بمعاهدة صلح مع اسرائيل منذ عام 1979! 

 

الاردن هو البلد العربي الوحيد بجانب مصر الذي عقد اتفاقية سلام مع اسرائيل.  ولكن صُحفا اردنية عديدة بينها يوميتان حكوميتان على الأقل نسبت ما حدث في 11 سبتمبر ( ايلول ) الى "اليهود".  اقرأوا ما ارتأت صحيفة اردنية اخرى من المناسب نشره مترجما من قبل معهد الأبحاث الاعلامية في الشرق الأوسط:  "فكَّر يهود اوروبا في الانتقال الى الولايات المتحدة لبسط سيطرتهم المطلقة على رؤوس الأموال والمصارف والبورصة ووسائل الاعلام [ الأميركية ] وعملية صنع القرارات السياسية في مجلسي الكونغرس ، وهكذا كان.  وتسلل اليهود الى صفوف الجيش الأميركي وخاصة السلاح الجوي ، وقاموا باعداد طياريهم لأخذ الطائرات عارفين ان بطاقات هوية المنتسبين الى الجيش الأميركي لا تشير الى الديانة.  وعليه كانت الطائرات [ تحت سيطرة ] اليهود كما كانت الصحافة والراديو والتلفزيون والأرصدة المالية المودعة في المصارف والبورصة.  وهكذا استحوذوا على عملية صنع القرار السياسي.  لماذا يتجاهل بوش هذه الحقائق معلنا عن اجراء تحقيق للكشف عن المسؤولين وراء هذه الحوادث؟  انهم اليهود يا بوش!" (31)

 

أتعرفون ما يرعبني أكثر من حقيقة ان مصدر "هذه المؤامرات الكاسحة" هو بلد عربي مسلم "معتدل"؟ انها الحقيقة الماثلة في ان هذه المواقف تلاحق المسلمين الى الغرب.  وإذا كنتُ بحاجة الى دليل آخر فقد حصلتُ عليه في رسالة عن مقالاتي بعد احداث 11 سبتمبر ( اليول ).  بدأ صاحب الرسالة قائلا: "اني اعتبر نفسي مسلما ليبراليا" ثم شرع يمزقني اربا اربا لتدميري "كل ما عملتُ ( ما عمله صاحب الرسالة ) وما عمله مسلمون آخرون من اجل نشر رسالة الاسلام الحق".  وماذا كانت "رسالة الحق" تلك "؟ سها صاحبنا عن القول مستغرقا في اماطة اللثام عن سيطرة الصهاينة على وسائل الاعلام الجماهيري مشيرا الى ان أعمدتي الصحافية "تدعم المنظمات اليهودية".  وأكد لي هذا الليبرالي:  "أنا لا اقول لكِ بأن تمارسي الرقابة الذاتية.  ولكن عندما يقوم غير المسلمين والصهاينة باستغلال الآراء التي يبديها مسلم مثلكِ فان عليكِ أن تعيدي النظر" (32). 

 

السيد عبد الحق اثبت انه على حق في أمر واحد.  فالصهاينة حقا اولوا اهتماما كبيرا بنداءاتي المنشورة من اجل الاصلاح.  وبوصفي صحافية ذات سمعة بفتح الأبواب على مصاريعها وُجِّهت لي دعوة لزيارة اسرائيل في صيف 2002.  وإذ رحتُ أُفكرُ في العرض خطر لي شيء متميز على جانب من الأهمية.  فالمسلمون يعاملون النساء معاملة فظيعة فظاعة معاملتنا اليهود ولكننا لا نحمِّل النساء مسؤولية تقرحاتنا الجيوسياسية وركودنا الفكري.  فهل يمكن لذي عقل يفكر بصفاء أن ينظر الى اسرائيل على انها تحمل مفتاح المرور الى اصلاح الاسلام؟ 

 

لبَّيتُ الدعوة لزيارة اسرائيل بشرطين:  أن يُسمح لي بطرح أي اسئلة أُريد طرحها ، وأن أُساعد في تحديد برنامج الزيارة.  وهما الشرطان ذاتهما على وجه التحديد اللذان ذكرتُهما لمنظمات عربية ومسلمة لدى استفسارها عن امكانية القيام بمهمة مماثلة.  ولم يصدر رد من هذه المنظمات.  لكن مضيفي الصهيوني استجاب مؤكدا لي ان بامكاني أن أكون شريكة في الزيارة بل ينبغي أن اكون شريكة في الزيارة ، وسأكون شريكة في الزيارة.   فسألتُ نفسي مرة اخرى ، أينبغي أن اذهب؟ 

 

تذكرتُ السيد خاكي ومشاهدي برنامج "تلفزيون شاذ" Queer Television الذين القوا المسؤولية عن مثلية بعض المسلمين على عاتق "الخنازير" و"الكلاب" اليهود.  فكرتُ في الناشطة النسوية التي احتمت بـ"ما يحدث للمسلمين في فلسطين" ذريعة لالتزام الصمت حول طالبان.  واستشطتُ غضبا على المسلم "الليبرالي" الذي حذَّرني كي اعيد النظر في دعوات الاصلاح لأن المنظمات اليهودية تراقب ما يجري. 

 

وإذ كانت الدراما العربية / اليهودية المشحونة بالعواطف الملتهبة شاخصة على الدوام أمام انظارنا ، قررتُ أن أرى بنفسي ما إذا كانت اسرائيل تستحق غضب المسلمين غضبا يشل الحركة.  وأني لأتحدث عن الغضب الذي نستغله لتبرئة انفسنا من المسؤولية عن وضعنا ـ حتى وضعنا في الغرب حيث ننعم بحرية مراجعة اعمالنا شأننا شأن سوانا.  وإذا كنا نريد قلب ما في ذهن المسلم من لاتسامح فعلينا أن نفتح أبصارنا ونتساءل:  هل ان اسرائيل حقا ذلك الوحش كما نصوُّرها؟

 

طلبتُ من الصهاينة ان يحجزوا لي تذكرة طائرة (33).

 

 

هوامش الفصل الثالث

1 ـ إذا كنتم لا تريدون أن تصدَّقوا أصدقائي فإليكم ياسمين علي باي براون التي لها عمود ثابت في صحيفة ذي اندبندنت The Independent البريطانية حيث كتبتْ: "أن موسما كاملا من برامج الـ"بي بي سي" عن مسلمي بريطانيا تجنب بحرص بالغ أي قصص خطرة لأنهم شعروا بعد 11 سبتمبر ( ايلول ) ان من الهام اعطاء الجمهور نظرة ايجابية عن مسلمي بريطانيا". 

انظر Muslims are wrong to blame the British Media,

The Independent, August 26, 2002

2 ـ انقر هنا للاطلاع على مثال

3 ـ "أعلمُ أن هذه كلمات مقاتلة.  لكني أصر على تصويري لمسلمي الاتجاه السائد على أنهم "ضامرون فكريا" و"معوقون اخلاقيا".  توقفوا عند هذا المقتطف من تقرير نُشر في عدد 10 فبراير ( شباط ) 2003 من جريدة طلاب جامعة تورنتو "ذي فارستي" The Varsity .  يروي التقرير قصة مسلمة ويهودي يشاركان في "أُمسية تعارف".  كلاهما مترددان لكن النتائج كانت مفاجأة سارة لهما.  فالمسلمة ، على ما تروي هذه القصة ، "كانت تعرف ان طلابا آخرين اختاروا عدم الحضور".  وتنقل الصحيفة عنها قولها ، "أن الناس قلقون من الوصمة التي ستُلصق باسمهم أو بملَّتهم إذا شاركوا في هذه الفعالية مع ملل معينة ليست مقبولة في الجماعة التي تشكل الاتجاه السائد".  لماذا يجب ان تُلصَق وصمة بحضور فعالية كهذه؟  لماذا يكون مجرد الحوار مع يهود مرفوضا عند اسلام الاتجاه السائد ما لم يكن هذا الاتجاه السائد هزيلا فكريا أو أخلاقيا ـ أو الأثنين معا؟

4 ـ Maria Rosa Menocal, The Ornament of the World:  How Muslims, Jews and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain (Boston:  Little, Brown, 2002 )

5 ـ أنظر ، من بين مصادر اخرى

George Rafael, A is for Arabs, www.salon.com, January 8, 2002.

كلمة Ole! الاسبانية أصلها كلمة "الله" العربية

Murad Wilfried Hoffman, Religion on the Rise: Islam in the Third Millennium (Beltsville, Maryland:  Amana, 2001 ), p.3.

6 ـ كان اسمها الكامل ولاّدة بنت المستكفي.  انظر ، طارق علي

Tariq Ali, The Clash of Fundamentalisms:  Crusades, Jihads and Modernity ( London, New York:  Verso, 2002 ), p. 56.

7 ـ Mahmoud Ayoub, The Islamic Tradition, Willard G. Oxtoby, ed., World religions:  Western Traditions (Don Mills, Ontario:  Oxford University Press, 2002 ) p. 395.

8 ـ انظر من بين مصادر اخرى ، طارق علي

Tariq Ali, The Clash of Fundamentalisms, p. 34.

9 ـ George Rafael, A is for Arabs, www.salon.com

January 8, 2002.

10 ـ Khalid Duran, Children of Abraham: An Introduction to Islam for Jews (Hoboken, New jersey:  Ktav Publishing House/American Jewish Committee, 2001 ), p. 100.

11 ـ Khalid Duran خالد دوران ، المصدر السابق ، ص 105.

12 ـ  خالد دوران مستشهدا بإبن ميمون ، المصدر السابق ، ص 103.

13 ـ هذه المشاعر تظهر في اكثر من مصدر لإبن رشد وعلى طول الخط.  انظر مثلا مقالته الفاصلة حول العلاقة بين القانون والعلم

 

Decisive Treatise on the Connection between Law and Wisdom, translation and notes by Charles E. Butterworth ( Provo, Utah:  Brigham Young University Press, 2001 )

انظر ايضا كتاب ابن رشد الشهير "تهافت التهافت".

14 ـ ابن رشد كما يستشهد به طارق علي Tariq Ali في كتابه

The Clash of Fundamentalisms, p. 66.

15 ـ الوريث الذي اتحدث عنه هو ابن أخيه ، الواثق.  ويفيد ابن وراق

 Ibn Warraq  "ان الواثق حاول شخصيا أن يضرب عنق عالم ديني رفض اتباع المذهب الرسمي.  ولم يفلح الخليفة في ذلك واضطر في نهاية المطاف الى الاستعانة بجلاد محترف لإنجاز المهمة".  انظر

Ibn Warraq, Why I Am Not a Muslim ( Amherst, New York:  Prometheus Books, 1995 ), p. 248.

16 ـ انظر محمود ايوب Mahmoud Ayoud, The Islamic Tradition,World religions:  Western Traditions, p. 398.

17 ـ انظر محمود ايوب ، المصدر السابق ، ص 392.

18 ـ انظر ضياء الدين سردار

Ziauddin Sardar, Islam:  reistance and Reform, The Internationalist, May 2002. 

من الموقع www.newint.org على الانترنت.

19 ـ انظر Alexander Stille, Radical New Views of Islam and the Origins of the Koran, New York Times, May 2, 2002

صحيفة نيويورك تايمز ، 2 مارس ( آذار ) ، 2002.  أكد وقوع هذا الحادث صحافيان وداعية لحقوق الانسان في الضفة الغربية.

البروفيسور المقصود هو سليمان بشير.  انظر مراجعة كتابه

Arabs and Others in Early Islam, in the International Journal of Middle East Studies, Vol. XXXII, No. 2, May 2000, pp. 277-79.

20 ـ www.qoqaz.com في آخر زيارة للموقع كانت الصفحة الداخلية تعرض شريط فيديو عن تفجير اشخاص وأماكن. 

21 ـ انظر بات يئور Bat Ye or, Islam and Dhimmitude:  Where Civilizations Collide ( Madison, New jersey: Farleigh Dicknson University Press, 2002 )

22 ـ بات يئور ، المصدر السابق ، ص 37.

23 ـ هذه النقاط مستقاة من عبد العزيز ساكدينا

Abdulaziz Sachedina, The Islamic Roots of democratic Pluralism (Oxford, New York:  Oxford University Press, 2001 ), p. 67.

24 ـ انظر عبد العزيز ساكدينا، المصدر السابق ، ص 65.

ساكدينا ليس العالم المسلم الوحيد الذي يقر بطرح يئور القائل ان ايديولوجيا ذمية كانت موجودة في الاسلام.  ففي كتابه "ابناء ابراهيم" Children of Abraham  يكتب خالد دوران: "في البداية كان الفتح الاسلامي خلاصا للكثير من الشعوب المظلومة في حوض البحر المتوسط وما ورائه.  ولكن في القرون اللاحقة أخذت الحكومات المسلمة تضاهي عسف اولئك الذين أزاحتهم.  وتحول بعض الحكام المسلمين عندما بدأ الضعف يعتري سلطتهم السياسية الى حكام طغاة في معاملتهم للأقليات" ( ص 106 ),  ولكن لاحظوا استخدامه كلمة "بعض".  فان دوران لا يقر بالنزعة الذمية كممارسة شائعة في الاسلام ويقول "ان التسامح كان هو الموقف من اهل الذمة في أغلب الأحيان..." ( ص 109 ).  وأنا الآن لست متأكدة من ذلك حتى أكثر من ذي قبل. 

25 ـ انظر روفن فايرستون

Reuven Firestone, Children of Abraham:  An Introduction to Judaism for Muslims ( Hoboken, New Jersy:  Ktav Publishing House/American Jewish Committee, 2001), p. 56.

26 ـ روفن فايرستون ، المصدر السابق ، ص 57.

27 ـ انظر مارك كوهين

Mark Cohen, Under Crescent and Cross:  The Jews in the Middle Ages (princton: Princton University Press, 1994), p. 126.

يقول كوهين في مكان سابق من كتابه ان "ثمة اتجاها بين الكتاب العرب والمستعربين" ينحو الى "التفاني الذليل لبديهية التسامح الاسلامي...وللخرافة القائلة بوجود طوباوية بين الأديان.  وقد عمل هذا التصوير للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في التاريخ على تبرير اتجاه آخر:  نزعة خبيثة من اللاسامية الاوروبية التقليدية ، بزي عربي" ( ص 8 ). 

28 ـ يطرح الفضل هذه النقطة في عدة مقابلات صحافية.  انظر الموقع الذي يتولى أرشفة عمله على الانترنت www.scholarofthehouse.org

29 ـ انظر News from Egypt: Tried and Found Guilty of Deriding Islam  

على الموقع www.secularislam.org

في هذا الحيز ينقل معهد الأبحاث الاعلامية في الشرق الأوسط عن تقرير للصحافية المصرية فاطمة فرج في "الاهرام" الاسبوعي ، 3 ـ 9 اغسطس ( آب ) ، 2002.  وتقول فرج في تقريرها ان "انور مغيث الذي يعمل باحثا في الفكر المصري الحديث وصف كيف كانت هناك 50 صحيفة يومية في عام 1889 ارتفع عددها الى 84 يومية في عام 1909 و 200 اسبوعية كان العديد منها تناقش بانفتاح افكار المفكرين" بمن فيهم مفكرون "ينتقدون الدين بصراحة".

30 ـ انظر برنارد لويس

Bernard Lewis, Muslim  and Anti-Semitism, The Middle East Forum, June 1998, p. 3 of online version

انظر ص 3 من النسخة المنشورة على الانترنت www.meforum.org

لمثل هذه الخرفات جاذبيتها في فلسطين ايضا.  إذ يكتب الصحافي العربي خالد ابو طعمة ان اسرائيل إتُّهمت في الأشهر التي سبقت الانتفاضة الأخيرة بتوزيع مخدرات على الفلسطينيين والفلسطينييات لإفسادهم...كما يُعتقد ان الاسرائيليين كانوا وراء علكة مثيرة جنسيا عُثر عليها في متاجر فلسطينية.  أما الهدف المفتَرَض فهو تحويل النساء الفلسطينيات الى عاهرات.  وعندما تصاعدت حدة التوتر اتهم مسؤولون في السلطة الفلسطينية هذه المرة اسرائيل بترويج احزمة مشعة تسبب السرطان".  انظر خالد ابو طعمة

How the war began, Jerusalem Post, September 19, 2002

جيروسليم بوست ، 19 سبتمبر ( ايلول ) ، 2002.

31 ـ صحيفة "السبيل" الاردنية كما نقل عنها معهد الأبحاث الاعلامية في الشرق الأوسط MEMRI في

A NewAnti-Semitic Myth in Middle East Studies: The September 11 Attacks Were Perpetrated by the Jews, Washington, D.C., 2002, p. 3. 

يقوم المعهد بتوفير النصوص العربية لكل مصادره.  للاطلاع على هذا التقرير انظر www.memri.org

32 ـ مراسَلَة بالبريد الالكتروني ، 19 مايو ( ايار )، 2002.

33 ـ في الأشهر التي اعقبت زيارتي لاسرائيل اتصلتُ بمنظمات عربية وفلسطينية ومسلمة مختلفة بشأن انتدابي في مهمة صحافية الى الشرق الأوسط ليتسنى لي الوقوف على الأوضاع وتقديرها من منظور غير صهيوني. ولكن لم يرد أي منها على طلبي.