الفصل الأول

 

كيف أصبحتُ مسلمة رافضة

 

هاجرتْ عائلتي الى الغرب شأنها شأن ملايين المسلمين خلال السنوات الأربعين الماضية.  وفي عام 1972 وصلنا الى ريتشموند ، وهي ضاحية من ضواحي الطبقة الوسطى في فانكوفر بمقاطعة بريتش كولومبيا.  كنتُ في الرابعة من العمر.  وفي الفترة الواقعة بين 1971 و1973 كان الوف من مسلمي جنوب آسيا غادروا اوغندا هربا بعدما أعلن الدكتاتور العسكري الجنرال عيدي أمين دادا أن افريقيا للسود.  وأُمهل ذوي البشرة السمراء منا أسابيع لا أكثر للرحيل أو مواجهة الموت.  وكان مسلمون قد أمضوا أعمارهم في شرق افريقيا بفضل البريطانيين الذين جاءوا بنا من جنوب آسيا للمساعدة في مد خطوط السكة الحديد في مستعمراتهم الأفريقية.  وبعد أجيال قليلة ارتقى كثير من المسلمين الى مصاف التجار الموسورين.  وكان والدي وأشقاؤه يديرون وكالة لبيع سيارات مرسيدس بنز قرب كمبالا مستثمرين الحراك الطبقي الذي اورثه البريطانيون لنا لكننا ، من جهتنا ، لم نمنحه للسكان الأصليين من السود الذين كانوا يشتغلون عندنا. 

 

كان مسلمو شرق أفريقيا ، في الغالب ، يعاملون السود معاملة العبيد.  وأذكرُ أن والدي كان يضرب خادمنا توماسي ضربا مبرحا حتى وَسْمِ اطرافه الفاحمة برضوض لامعة.  ورغم أننا ، أنا وشقيقتيَّ وأمي ، كنا نحب توماسي فنحن أيضا كُنا نُعاقَب بالضرب إذا ما ضبطنا والدي نضمِّد اصاباته. كنتُ أعلم أن هذا يحدث في الكثير من بيوت المسلمين الأخرى ، وأن هذه العبودية استمرت زمنا طويلا بعد رحيل عائلتي.  ولهذا السبب رفضتُ في سن المراهقة فرصة القيام بزيارة اقارب لي في شرق افريقيا.  وحذرتُ والدتي قائلة:  "إذا ذهبتُ معكِ تعرفين أنه سيتعين عليّ أن أسأل عماتَكِ وأعمامكِ السمان لماذا هم عمليا يستعبدون خدمهم". 

 

 

كانت والدتي تريد ان تكون الزيارة توديعا للمسنين من ذوي القربى وليست حملة من اجل حقوق الانسان.  ولتفادي إحراجها لم ارافقها في رحلتها خارج الوطن. 

 

في غياب أمي أمعنتُ التفكير في ما يعني أن يكون المرء في "وطنه" فقررتُ أن الوطن حيث تكون كرامتي محفوظة وليس بالضرورة حيث نشأ أجدادي.  وعندها أدركتُ لماذا إجتاحت القارة التي ولدتُ فيها حمى القومية الأفريقية ما بعد الحقبة الاستعمارية ممثلة بشعار "أفريقيا للسود!".  فنحن المسلمين جعلنا الكرامة أمرا صعب المنال على مَنْ بشرتهم اكثر سمارا من بشرتنا.  وقد عمدنا الى إستغلال السكان الأفارقة الأصليين أبشع استغلال.  وأرجوكم أن لا تقولوا لي أننا تعلمنا القسوة الاستعمارية من البريطانيين لأن على هذا يترتب السؤال:  لماذا لم نتعلم منهم أيضا أن نفسح في المجال للسود من ذوي المبادرات الفردية في عالم الأعمال مثلما فعل البريطانيون معنا؟  أنا لا أعتذر عما تلحقه فكرة امتلاك عبد بإسم توماسي من إساءة. واني لواثقة من أن غالبيتكم ايضا يناهضون العبودية.  ولكن الإسلام لم يكن هو الذي ربَّى فيَّ الإيمان بكرامة الفرد بل البيئة الديمقراطية التي هاجرنا اليها أنا وعائلتي:  ريتشموند حيث يمكن الأخذ حتى بيد طفلة مسلمة صغيرة ـ ولا أعني طلب يدها للزواج.  دعوني أوضح.

 

بعد عامين على استقرار عائلتي اكتشف والدي توافر خدمات مجانية للعناية بالاطفال أثناء غياب الوالدين ، في كنيسة روز اوف شارون المعمدانية

Rose of Sharon Baptist Church ( ما أن تقول كلمة "مجانا" للمهاجر حتى تتراجع الإنتماءات الدينية الى موقع ثانوي امام الصفقة المتاحة في اليد ).  وكل اسبوع عندما كانت والدتي تغادر المنزل لبيع منتجات "ايفون" بالطواف على البيوت كان والدي الذي لا يكن حبا كبيرا للأطفال ، يترك صغاره في الكنيسة.  وهناك كانت السيدة الجنوب آسيوية المشرفة على دراسة الكتاب المقدس تبدي من الصبر معي ومع شقيقتي الأكبر سنا ما تبديه مع ابنها الذي من دمها ولحمها. 

 

 

وهي التي غرست فيّ القناعة بأن اسئلتي كانت جديرة بأن تُسأل.  وبديهي ان الأسئلة التي كنتُ اطرحها طفلةً في السابعة من العمر ما كان لها إلا ان تكون أسلئة بسيطة.  من أين أتى المسيح؟ متى عاش؟ ماذا كان يشتغل؟ ممَّ تزوج؟  هذه الأسئلة لم تضع أحدا في مأزق ، ولكن مقصدي ان فعل السؤال ـ ثم السؤال ـ كان دائما يلقى ابتسامة أخَّاذة. 

 

لعل هذا هو الحافز وراء فوزي ، في الثامنة من العمر ، بجائزة "أفضل المسيحيين الواعدين لهذا العام".  وكانت جائزتي:  طبعة مصورة بألوان زاهية لمائة قصة وقصة من الكتاب المقدس.  أنظرُ الى الماضي الآن وأحمدُ الله أن المطاف انتهى بي في عالم لا يتعين أن يكون القرآن كتابي الأول والأوحد فيه ، كأنه الغذاء الروحي الوحيد الذي تقدمه الحياة الى المؤمنين.  زد على ذلك ان طبعة الـ 101 قصة من الكتاب المقدس سحرتني بصورها.  كيف ستبدو 101 قصة من القرآن؟ في حينه لم أرَ شيئا من هذا القبيل.  واليوم ليس هناك شح في كتب الأطفال التي تتناول الإسلام ، بما فيها كتاب "حرف الألف مفتاح لكلمة الله"(1)  من تأليف يوسف إسلام ( المعروف سابقا باسم كات ستيفينز Cat Stevens ).  فالمجتمعات الحرة تتيح اعادة اختراع الذات وتَطوُّر الديانات. 

 

بعد فترة وجيزة على فوزي بلقب "أفضل المسيحيين الواعدين" ، اقتلعني والدي من الكنيسة.  فان مدرسة دينية اسلامية جديدة ستُفتَح قريبا.  وهذه المتشاطرة الصغيرة لا تستطيع الانتظار.  وقياسا على تجربتي في مدرسة ايام الأحد ستكون المدرسة الإسلامية مسلِّية ، أو هكذا افترضتُ ببراءة. 

 

في غضون ذلك كان عالمي الجديد ينمو مع نموي.  فقد افتُتح مجمع ضخم من الأسواق التجارية سيكون له دور محوري في تربيتي كمسلمة.   انه مجمع لانزداون سنتر Lansdowne Centre وسرعان ما كانت الأسماء المتألقة على

 

 

 

اليافطات الخارجية لمؤسسي ريتشموند من الاسكتلنديين ـ أمثال بريغهاوس Brighouse  وماكنير McNair وبرنت Burnett وستيفنسن Stevenson تتزاحم من أجل لفت الانتباه مع كلمات باللغات الهندية والبنجابية والاوردية والصينية بشقيها الماندارن والكانتونية ، والكورية واليابانية.  كانت هذه اللغات تغطي داخل مركز ابردين Aberdeen Centre  الذي شُيد بعد سنوات واعتُبر "أكبر مجمع أسواق آسيوي مغلق في أميركا الشمالية"(2). 

 

قبل ذلك بزمن طويل كنتُ توصلتُ الى أن مكانا مثل ريتشموند يمكن أن يحتضن عمليا كل من يبدي روح مبادرة.  ففي الصف العاشر رشحتُ لرئاسة الاتحاد الطلابي في مدرسة جي. أن. برنت الثانوية

J. N. Burnett Junior Secondary School.  وقبل ذلك بعام كنتُ قد فشلتُ في محاولتي لأكون ممثلة طلاب الصف حيث أدلى بالصوت الحاسم ضدي مشاغب قذر لا يريد أن تكون "نكرة من باكستان" Paki مسؤولة صفِّه.  بعد عام لا أكثر قرر غالبية الطلاب في المدرسة برمتها ان تكون هذه "النكرة من باكستان" قائدتهم المنتخَبَة حسب الأصول.  في ريتشموند لم يكن على العنصرية أن تطوُّق طموحاتي اكثر مما كان على العرق نفسه أن يحدد هويتي.

 

بعد أشهر قليلة على انتخابي رئيسة للمنظمة الطلابية كان نائب مدير مدرستي ماراً بالخزانة التي احفظ فيها متعلقاتي فتوقف مذهولا عندما لمح ملصقا للثوار الايرانيين وضعتُه داخل الخزانة.  كان الملصق الذي أرسله عمُّ لي في فرنسا يصوُّر نساء ملحفات بالشادور الأسود وهن يحطمن جناحي طائرة رُسم على الجناح الأيسر منها شعار المطرقة والمنجل السوفياتي وعلى الجناح الأيمن خطوط العلم الأميركي ونجومه.

 

حذرني نائب المدير قائلا "أن هذا ليس لائقا.  أنزليه". 

 

 

 

 

أشرتُ الى الخزانة المجاورة التي كان علم أميركي يتدلى منها وسألتُ "إذا كان بمقدور هذه الفتاة ان تعبر عن رأيها علنا لماذا ليس بمقدوري أنا أن افعل ذلك؟"

 

أجاب نائب المدير:  "لأنك تحطِّين من قيمنا الديمقراطية.  وبوصفِكِ رئيسة الطلاب كافة عليكِ أن تكوني أكثر حكمة من أن تفعلي ذلك". 

 

أعترف بأني لم أدرك ان نظام آية الله الخميني كان يَقْطُرُ توتاليتارية.  لم أكن على إطلاع كافٍ.  فانا إذ أغوتني الدعاية من جهة والاعتزاز بالحياة في مجتمع حر من الجهة الأخرى ، أردتُ أن أُنادي بتنوع الآراء لكي لا تحجب ألوان العلم الأميركي ما هناك من ألوان أخرى.  تلكم كانت مُحاجَّتي.  "أأنا الذي يحطُّ من الديمقراطية؟ كيف يكون دعمكم للديمقراطية بأن تقولوا لي ان ليس في امكاني التعبير عن موقفي ولكن "سواي يمكن لهم" ، مشيرة الى الخزانة الملفوفة بالعلم"؟

 

كنا نحدق في وجه أحدنا الآخر.  قال نائب المدير ، "إنكِ تقدِّمين مثلا سيئا". ثم شدَّ جذعه ومضى في سبيله.

 

لابد من الاعتراف له بفضل السماح لتنوع الآراء بالبقاء والاستمرار في مدرسة برنت الثانوية.  ومما يزيد الاعجاب به انه من معتنقي المسيحية الانجيلية.  وهو لم يخفِ معتقداته الشخصية لكنه ما كان ليفرضها على الطلاب ـ  ليس حين كانت رئيسة المجلس الطلابي تبدو من مؤازري ثيوقراطية الخميني ، ولا حتى عندما تحرك الطلاب مطالبين بأزياء مدرسية تكشف من السيقان أكثر مما كان في نظره معقولا.  وبعد نقاش ساخن معنا وبعض المماطلات المتعمدة استراتيجيا رضخ لمطلب الزي القصير حانقا لكنه حافظ على احترامه لإرادة الجماهير.  كم من المتزمتين المسلمين تعرفون سيتخذون موقفا متسامحا مع التعبير عن وجهات نظر تكدِّر نفوسهم؟  بالطبع كان على نائب مدير مدرستي أن يتراجع عن موقفه

 

 

ملتزما بنظام المدارس الحكومية ولكن مثل هذا النظام لا يمكن أن ينهض إلا نتيجة إجماع على أن البشر على اختلاف معتقداتهم وأصولهم وتطلعاتهم ومواقعهم ينبغي ان يتباروا مع بعضهم بعضا.  فكم من البلدان المسلمة تطيق مثل هذا التنافس؟

 

يا إلهي كم أحببتُ هذا المجتمع.  أحببتُ فيه أنه كان يبدو في بحث دائم عن اجابات نهائية لا علم لأحد بها بعد ـ إن كانت هناك إجابات كهذه.  أحببتُ فيه أن لمساهمات الأفراد أهميتها في عالم لا يني يتجدد. 

 

ولكن في البيت كانت قبضة والدي الجاهزة دوما تتكفل بطاعة اسرته لقواعد منزلية اعتباطية.  لا تضحك عند تناول الشعاء.  عندما اسرق مدخراتك تخرس أنت.  عندما أركل عجيزتك تذكَّر أن الركلة ستكون أقسى في المرة القادمة.  عندما أنهال على أمك بالضرب لا تطلب الشرطة.  وإذا جاءوا سأقنعهم بالعودة أدراجهم وانتم تعلمون ان هذا ما سيفعلون.  وما أن يغادروا سأقلع أذنك.  وإذا هددت بإخطار الخدمات الاجتماعية سأبتر الأذن الأخرى.

 

المرة التي طاردني فيها والدي بسكين حول الدار أفلحتُ في القفز من نافذة غرفتي والمبيت على السطح. لم تكن لدى أمي فكرة عن حالي لأن نوبة عملها لدى شركة طيران لم تكن تنتهي إلا في الساعات الأولى من الصباح.  سيِّان ، فأنا لستُ متأكدة من أني كنتُ سأزحف نازلة نتيجة وعد لي منها بالأمان.  كنتُ أحب السطح للسبب نفسه الذي دفعني الى حب مدرستي وكنيسة روز شارون المعمدانية ، وبعد سنوات ، مجمَّع اسواق ابردين سنتر.  فهي نوافذي التي كنتُ أطل منهاُ على عالم من الاحتمالات المفتوحة.  في عالم مسلمي شرق أفريقيا الذي تحدرتُ منه هل كان مباحا لي أن أحلم بتعليم رسمي؟ بالحصول على منحة دراسية؟ بالمشاركة في منافسات سياسية ، ناهيكم عن تولي منصب من جرائها؟  بناء على الصور الفوتوغرافية المحبَّبة بالابيض والأسود التي أظهر فيها وأنا في سن الثالثة

 

 

 

ألعب متقمصةً دور العروس ، رأسها مبرقع ، ويداها معقودتان ، وعيناها خفيضتان وساقاها متدليتان من الأريكة ، لا أملكُ سوى التهكن بأن تراتبية لا هوادة فيها كانت ستكون مآلي لو بقيتُ داخل أسوار اوغندا المسلمة.  ما رأيكم في مثل هذا الفهم العميق لما هو بديهي؟

 

السؤال الأكبر هو لماذا كانت الأوتوقراطية خيار المدرسة الدينية الإسلامية في ريتشموند ، التي فتحها مهاجرون في بلاد الحقوق والحريات هذه؟  فمن سن التاسعة حتى سن الرابعة عشرة أمضيتُ كل يوم سبت في تلك المدرسة.  كانت الحصص تُنظَّم في الدور العلوي لجامع حديث البناء أشبه ببيت ضخم من بيوت الضواحي منه بالعمارة الشرق اوسطية.  ولكن في الداخل كان الإسلام المتزمت هو السائد في كل ركن.  كان الرجال والنساء يدخلون الجامع من بابين مختلفين ويتخذون أماكنهم على الجانب المحدَّد لكل جنس من جدار أصم يشطر المبنى الى نصفين يُحجَر فيهما كلا الجنسين خلال التعبد.  وشُيد في هذا الجدار باب يربط جانبي الرجال والنساء.  كانت لهذا منافع عملية بعد أداء الشعائر عندما يطالب الرجال بمزيد من الطعام الذي يُعد في المطبخ الجماعي وذلك بمد صحونهم من خلال الباب ثم الطرق على الجدار والانتظار لحظات لا أكثر قبل ان تمتد ذراع امرأة مقدِّمة الصحون عامرة من جديد بالأكل.   في الجامع لم يتعين ذات يوم على الرجال أن يروا النساء ، ولم يتعين ذات يوم على النساء أن يكنَّ مرئيات.  وإذا كان هذا لا يعني الحكم علينا بحياة بائسة فثمة شيء كبير لا افقهه.

 

كانت المدرسة الدينية الإسلامية في الدور العلوي بديكورها الكئيب من البُسط ذات اللون البني الكابي والمصابيح الفلورية المشعة والحواجز المتنقلة التي تفصل البنات عن البنين.  وحيثما كان الصف يلتئم بتلاميذه وتلميذاته في فضاء تلك الغرفة الفسيح كان حاجز يُنقل معهم.  الأسوأ من ذلك كان الحاجز بين العقل والروح.  وفي دروس يوم السبت التي كنتُ أحضرها تعلمتُ أن مَنْ كان روحانيا

 

 

لا يفكر وإذا فكر فهو ليس روحانيا.  وقد اصطدمت هذه المعادلة التبسيطية بما في داخلي من فضول منعش كانت ريتشموند تداريه.  سمُّوه صِدام الحضارات الذي كان يعتمل في نفسي.

 

الحل لم يكن الإقرار ببساطة بأن هناك عالما علمانيا وآخر غير علماني ، وان لكل منهما طُرُقَه في التعبير عن كينونته.  فعملا بهذا المنطق كان على كنيسة روز اوف شارون المعمدانية ، اللاعلمانية قطعا ، أن تقمع ما لدي من اسئلة ولكن بدلا من ذلك كان فضولي مدعاة لإطرائي.  وفي مدرسة برنت الثانوية ، وهي مدرسة علمانية ، كانت اسئلتي تصعِّد دم نائب مدير مدرستي الى درجة الغليان ولكن أحدا لم يعمد الى إسكاتي.  ففي المكانين على السواء كانت السيادة لكرامة الفرد.  تلك لم تكن هي الحال في المدرسة الدينية الإسلامية.  فقد دخلتُ مبنى المدرسة وأنا ارتدي شادورا أبيض من البوليستر وغادرتُ بعد ساعات وشعري مكبوس وروحي مسحوقة كأن مانع الحمل الرجالي العملاق الذي غطيتُ به رأسي حصَّنني على الوجه المطلوب ضد أي نشاط فكري "غير مأمون". 

 

قبل أن أنشرُ مزيدا من الغسيل دعوني أخصُّ بشيء من الإنصاف معلمي في المدرسة الدينية الذي سنطلق عليه اسم "السيد خاكي".  فقد كان مسلما مؤمنا بحق.  وكان هذا الأخ النحيل ذو اللحية المشذبة بدقة ( تعبيرا عن الطهارة) والسيارة من طراز "هوندا ميني كومبامت" ( إشارة الى التواضع ) يتبرع بخدماته في نهاية كل كل اسبوع ( دليلا على الصَدَقة ) لتسليح اطفال المهاجرين المسلمين بتربية دينية من دونها سيقعون ضحيةً لإباحية القيم في بلد متعدد الثقافات.  وما هذه بالمهمة السهلة لأن المدرسة الدينية كانت تجتذب تلاميذ من كل الفئات العمرية:  يافعون شديدو الوعي بذاتهم ، يصارعون حبَ الشباب ، ونماذج مقهقهة ، تحتمي بدورة المياه ، ومراهقون نبتت عليهم شوارب ـ  وهؤلاء هم البنات فقط.  كلا فإني امزح....بشكل ما. 

 

 

 

 

غالبيتنا كانت تنظر الى المدرسة لا بوصفها مكانا لطلب العلم بقدر ما كانت بركة لاصطياد مَنْ سيكونوا اصحابنا لاحقا. ولأن البنات ذوات اللسان الطويل لن يُكتب لهن الزواج فان صديقاتي نادرا ما كنَّ يجادلن السيد خاكي.  فماذا كانت مشكلتي؟  ألم أكن أريد الزواج ذات يوم؟

 

لا تستفزوني.  كانت مشكلتي الآتي:  إذ كنتُ مفتونة بذلك العالم متعدد الألوان خارج المدرسة الدينية فقد أصريتُ على التعلم لا التمذهب.

 

بدأت المتاعب مع "اعرف اسلامَك" Know Your Islam ، وهو كتاب ابتدائي كنتُ احشوه في حقيبتي المدرسية كل اسبوع.  وبعد قراءته كنتُ بحاجة الى أن أعرف المزيد عن إسلامـ"ي".  لماذا يتعين على الفتيات أن يلتفتن الى أساسيات مثل الصلاة خمس مرات في اليوم ، في عمر أبكر من الأولاد؟.  لأن البنات ، كما أخبرني السيد خاكي ، ينضجن في وقت أسرع.  وهن يبلغن "السن الإلزامي" للممارسة في التاسعة بالمقارنة مع سن الثالثة عشرة للأولاد. 

 

سألتُ ، "إذاً ، لماذا لا نُكافأ نحن البنات على نضجنا هذا بالسماح لنا بإمامة الصلاة؟"

"لا يمكن للبنات أن يَئمَّن الصلاة"

"ماذا تعني؟"

"ليس مسموحا للبنات".

"لمَ لا؟"

"الله يقول ذلك".

"ما هي أسبابه؟"

"اقرأي القرآن".

 

 

 

 

حاولتُ القرآءة رغم الإحساس بالافتعال لأني لا أعرف العربية.  هل اراكم تهزون رؤوسكم؟  غالبية المسلمين ليس لديهم أدنى فكرة عما نقول عندما نتلو القرآن بالعربية.  وليس السبب أننا أغبياء بل لأن العربية واحدة من أكثر لغات العالم موسيقية ، والدروس الأسبوعية في المدرسة الدينية لا تتيح لنا استيعاب خفاياها.  فان كلمة "حرام" مثلا يمكن أن تُشير الى شيء محرَّم أو "الحَرَم" بمعنى الشيء المقدس حسب التشديد على حرف الراء.  المحرَّم في مواجهة الحرَم:  ان الحديث لا يجري هنا عن تحولات دقيقة في المعنى.  اضيفوا الى التحديات المتأصلة في هذه اللغة حقائق الحياة.  وهي في حالتي أب عنيف يمارس الدين من باب المظاهر في الغالب وأم تفعل ما بوسعها لأن تكون تقية فيما هي تسعى الى إعالة الأسرة بالعمل في نوبات.  ولكم أن تقدروا لماذا تخلفتْ دراسة العربية عن أن تكون من أولويات العائلة.  وبصراحة فان رد السيد خاكي المبتذَل على اسئلتي ـ اقرأي القرآن ـ كان مهلهلا مثله مثل شعري المستور بالشادور.

 

بمرور الزمن تمخض هذا الرد بأن أقرأ القرآن عن مزيد من الاسئلة:  لماذا عليّ أن اواصل اكذوبة قراءة القرآن إذا لم تكن هذه القرآءة ذات معنى عملي ولا تلامس أي وتر عاطفي؟  لماذا يجب ان نرتاب ظنا بأن كل ترجمة انجليزية للقرآن "تُفسد" النص الأصلي؟  قصدي أنه إذا كان القرآن كتابا مفتوحا كما يقول لنا الصفائيون فلماذا لا تُترجَم تعاليمه بسهولة الى ألف لسان آخر؟  وأخيرا ، لماذا تلاحق الوصمة الذين لم يُفطموا منا على العربية رغم الحقيقة الماثلة في أن العرب يشكلون 13 في المائة فقط من مسلمي العالم؟ ويعني هذا أن 87 في المائة منا ليسوا عربا.  "أعرف إسلامَك" ، كما يقولون بكل خفة.  إسلام مَنْ؟  أهذه ديانة أم باطنية؟

 

حسنا ، لنتوقف برهة. 

 

 

 

 

لنأخذ سؤالي الأصلي الى السيد خاكي:  لماذ لا يمكن للفتيات أن يئمَّن الصلاة؟  لقد حاولتُ استطلاع مكتبة المدرسة الدينية معتقدة بأن إجابة القرآن ستكون مكرَّرة في كتاب آخر يعينني على اكتساب ذرة من الفهم.  ولكن اتضح ان ارتياد المكتبة رحلة محفوفة بالأهوال.  إذ كانت المكتبة سلسلة من الرفوف تقع في نهاية السلَّم على الجانب المخصص للرجال من الجامع ـ الجانب المحظور على السيدات من دون موافقة مسبقة.  ولأني كنتُ في الحادية عشرة وفي "السن الإلزامي" ، لم يكن بمقدوري التخالط مع ذكور بالغين فكان علي أن أُقنع صبيا قاصرا ـ في الثانية عشرة أو اصغر ـ للصعود نيابة عني واستحصال موافقة تجيز لي تصفح الكتب في أي وقت.  وعلى افتراض حصولي على الضوء الأخضر فقد كان على جميع الرجال ان يغادروا المكان قبل أن أتمكن من صعود الدرج وتقليب مجموعة الكراسات الرخيصة المرصوفة على الرفوف.  كان وقتي ، بالطبع ، محدَّدا بصرامة لأن الرجال ينتظرون العودة الى فضائهم.  أفلحتُ في استعارة بعض الكراسات كل مرة ولكن مضامينها كانت أقرب الى الطلاسم ، ولا أدري في أي مدرسة تعلَّم مؤلفوها.  عامان من المراوغة داخل الجامع اثبتا عدم جدواهما.  وفي سن الثالثة عشرة أدركتُ ان عليّ الإلتفاف على السيد خاكي والمدرسة الدينية للتوصل الى إجابة عن سؤالي. 

 

أصبحتُ من القوارض المقيمة في مجمع الأسواق التجارية.  مهمتي؟ اقتفاء نسخة من القرآن باللغة الانجليزية.  وكان مجمع لانزداون بمستوى المهمة ، فبارك الله سوق المعتقدات في مدينتي.  لعل حرية المعلومات كانت ستخيف السيد خاكي ولكن هذه الحرية على وجه التحديد هي التي اتاحت لواحدة من تلاميذه أن تعثر على معنى أكبر في دينها ـ معنى ما كانت المدرسة الدينية لتقدمه. 

 

 

 

 

ماذا تعلمتُ عن السبب في عدم تمكن الفتيات من أن يئمَّن الصلاة؟  لا استطيع أن اقول لكم الآن ، لأنه حتى إذا قدم الملالي ومعلمو المدرسة الدينية إجابات تبسيطية فان القرآن لا يقدم مثل هذه الاجابات. ما أستطيع ان اقوله لكم هو أني ما بين الانتخابات والبروفات المسرحية والوظائف التي عملتُ فيها ساعات محدودة وتمارين الكرة الطائرة ـ حتى دخولي الجامعة وأثناء دراستي الجامعية وبعد التخرج من الجامعة ـ درستُ كتاب الله وفي ذهني "مسألة المرأة" على رأس كل الأفكار.  وأنا ما زلتُ أقرأ.  ولكن الكشف عما خلصتُ اليه في هذه المرحلة سيكون قفزة الى حياتي بعد سن البلوغ.  وعليَّ ، اولا ، ان أتناول شيئا آخر. 

 

اليهود.  انه السؤال الآخر الذي كان يقلقني خلال سنواتي في المدرسة الدينية لأن اليهود كانوا هدفا ثابتا للذم.  كان السيد خاكي يعلّمنا والجدُّ باد على محيّاه أن اليهود يعبدون المال ولا يعبدون الله ، وان وثنيتهم ستلوث ايماني إذا خالطتهم.  فتساءلتُ أي كوكب هذا الذي يسكنه السيد خاكي؟  أكان يتعمد العمى عما يحيط بنا؟  فان ريتشموند ، وهي ضاحية تحت مستوى البحر ، كان احتمال غرقها في محيط من نفوذ الآسيويين التجاري أكبر من انهيارها تحت أي جبل من المال الذي يمكن ان يكدِّسه اليهود.  وإذا كان في ريتشموند معبد يهودي واحد وقتذاك فأنا لم أكن على علم به. 

 

ولكن من جهة اخرى ربما كنتُ  عميلة من عملاء سطوتهم الشبحية لأني أفلحتُ بكل تأكيد في تعطيل دروس التاريخ التي كان السيد خاكي يعطيها بعاطفة متقدة من خلال طرحي أسئلة عن اليهود.  وأذكر سؤالي لماذا كان النبي محمد سيأمر جيشه بإبادة قبيلة يهودية عن بكرة أبيها في حين المفروض ان القرآن نزل عليه رسالةً من أجل السلام.  السيد خاكي لم يعد قادرا على التحمل فرمقني بنظرة ازدراء ولوَّح بيده علامة انزعاج ثم أوقف درس التاريخ للانتقال الى دراسة القرآن.  ما كان هذا ليحدث لولا الحاحي بالسؤال. 

 

 

 

 

بعد عام على شراء نسختي الانجليزية من القرآن وصلنا أنا والسيد خاكي الى طريق مسدود.  إذ ما من شيء قرأته حتى ذلك الوقت أقنعني بوجود مؤامرة يهودية.  أعترف بأن عاما فترة بالكاد تكفي لهضم القرآن ، وفي سن الرابعة عشرة لا يزال ثمة الكثير من النضج العقلي الذي يتعين بلوغه.  ولم يكن بوسعي تماما صرف محاضرات السيد خاكي في معاداة السامية.  فمن أنا حتى أحكم بأن الهراء ينز من كل مساماته قبل ان تتوافر عندي كل الأدلة؟  لذا تحديتَه أن يقدم برهانا على المؤامرة اليهودية.  ولكن ما قدمه كان انذارا نهائيا:  اما أن اصدِّق أو أُغادر المكان ، وإذا غادرتُ فهي مغادرة بلا رجعة. 

 

أحقا ذلك؟  أهذه هي النهاية؟

 

هذه هي النهاية.

 

نهضتُ والدم يغلي في عروقي والعرق يتصبب من رقبتي تحت الشادور الذي يسبب الحكة لخشونة قماشته المصنوعة من مادة البولستر.  وحين اجتزتُ الخط الفاصل عند الحاجز كان بمقدوري ان أكشف عن رأسي ليراه جميع الصبيان ولكني لم أرد المجازفة بالتعرض الى مهانة الطرد على يد السيد خاكي الذي كان حتى أكثر مني تأثرا بالفضيحة.  كل ما استطعتُ التفكير في عمله هو فتح باب المدرسة الدينية الحديد ، الثقيل ، والصراخ ، "بحق اليسوع المسيح!".  مغادرة مشهودة على ما كنتُ آمل.  ولم أدرك كم كانت مشهودة إلا لاحقا.  فقد كان المسيح يهوديا!

 

أتتساءلون لماذا ، بعد طردي من المدرسة الدينية ، لم ألعن الدين كله وأمضي الى الاحتفاء بروحي الشمال اميركية "المعتوقة"؟ من ضمن الأسباب أن حُكم الهوية

 

 

 

فَعَلَ مفعوله.  وأنتم تعرفون ما أقصده.  فان غالبيتنا نحن المسلمين لسنا مسلمين لأننا نفكر في الأمر بل لأننا نولد هكذا.  والسؤال هو "مَنْ نكون!"

 

نهاية أيامي في المدرسة الدينية أحرجتْ والدتي ولكنها عاشت معي زمنا أطول من ان يؤدي بها الى الاعتقاد أن بامكانها أن تأمرني بالخنوع طلبا للمغفرة من السيد خاكي.  كان ذلك غير وارد بالمرة.  ولا هي أكرهتني على الذهاب الى الجامع معها.  ولكن لمدة عامين من الزمن كنتُ في الحقيقة اتردد على الجامع.  فلقد كان المكان الوحيد الذي ظل مفتوحا لي على خريطة إسلامي الهش.  أحببتُ الله ولم أكن بصدد تحميل الجامع وزر خطايا المدرسة الدينية ـ حتى توصلتُ شيئا فشيء الى الادراك بأن المدرسة الدينية التي أمقتها هي امتداد للجامع.  ولعل التردد على الجامع أتاح لي تحديد هويتي كمسلمة ولكنه اجبرني ايضا على التضحية بذلك الجزء الذي لا يقل قدسية من هويتي:  الانسان المفكر. 

 

دعوني أروي لكم حكاية أخرى.  فان من اركان الإسلام الخمسة ، الزكاة.  لذا ساد الجو ذات مساء همس من الاستحسان عندما أعلن المكبر على الجانب المخصص للنساء من الجامع ، هاتفا بصوت الملا على الجانب المخصص للرجال ، عن تنظيم حملة لجمع التبرعات من أجل اخوتنا المسلمين وأخواتنا المسلمات في الخارج.  وكان علينا إعداد الشيكات في غضون أيام قليلة.  وخلال تلك الفترة سألتُ عضوا في فريق السيدات المساعدات أين ستذهب هذه التبرعات.  فذكرت لي منظمة إسلامية ذات اسم كلاسيكي ثقيل.   سألتُها لأي غرض سوف تُستخدَم الأموال فأجابت لإطعام اخوتنا واخواتنا المسلمين.  وإذ تذكرتُ تقارير تلفزيونية عن اتهامات بالاحتيال وُجهت الى منظمات خيرية مسيحية سألتُ كيف نعرف ان التبرعات ستؤول الى الجهة التي نقصدها.  فردت بنزق ، "انها ستذهب الى المسلمين وهذا كل ما تحتاجين الى معرفته".

 

 

 

 

هل تصدِّقون؟  أنا لم أُصدِّق.  خلافي لم يكن مع الزكاة وانما مع اكتناز المعلومات.  لماذا أشعرُ بالاطمئنان لمجرد أن اشخاصا يسمُّون أنفسهم مسلمين سيتلقون تبرعاتي؟  هل أن كل مسلم يعمل من أجل المعروف بحكم كونه مسلما؟ يا له من ايمان.  أين هي الجريمة في استفساراتي؟  أم أن الاستفسارات نفسها هي الجريمة؟  والدتي المحاصرة لم تبدُ في صدمة تماما عندما شرحتُ بأني لم استطع الإسهام في تبرع العائلة لأنه مَنْ ذا الذي يكترث في الواقع أي ديانة يعتنقها الجائع ، فضلا عن احتراسي من تمرير مشروع الحملة علينا.  قلتُ ان صَدَقاتي ستذهب بدلا من ذلك الى منظمة خيرية غير دينية سأتحرى عن مصداقيتها.

 

كلما شعرتُ بأن الجامع أقرب الى المدرسة الدينية تناقص ترددي عليه.  وبدأتُ في تفكيك مركزية ديانتي منميَّة علاقة شخصية مع الله عوضا عن الافتراض بوجد واسطة بيني وبينه من خلال الجماعة.  وبهذه الروح رحتُ أصلي بتوحد راكعة بمفردي (3).  كل يوم على امتداد سنوات كنتُ استيقظ في ساعة مبكرة واقصد مرتجفة غرفة حمام بلا تدفئة ـ والدتي اللاجئة كانت تؤمن بوجود فواتير منخفضة بقدر ايمانها بوجود قوة عليا.  وبعد الوضوء كنتُ افرش سجادتي المخملية وأصوّبها باتجاه مكة وأضع التربة العربية التي ستلامسها جبهتي وأقضي الدقائق العشر التالية في الصلاة.  انها تمرين في بناء الانضباط لا سيما وان المرء يغتسل مرتين اخريين في اليوم ويؤدي الصلاة اربع مرات أُخر. 

 

ولكن الممارسة كلها في غسل اجزاء موصوفة من الجسم وتلاوة آيات بعينها والجثو بزاوية لا تحتمل المساومة ، كل ذلك في أوقات محدَّدة من اليوم ، يمكن أن تنحدر الى خضوع لا يقره العقل ـ والى استسلام مكرَّس بقوة العادة.  وإذا لم تروا هذا النزوع لدى الآباء أو الأجداد فانكم يا أصدقائي تنتمون الى صنف نادر من المسلمين.  أدركتُ أن ما بدأ دليلا الى مخافة الله أصبح ترديدا رتيبا حملني على الاستعاضة عن "روتين" الصلاة عندي بشيء أقرب الى الوعي الذاتي: 

 

 

أحاديث صريحة غير مصطنعة مع خالقي طوال اليوم.  قد يبدو هذا خارجا عن المألوف ولكني استطيع على الأقل أن اقول ان تلك الكلمات كانت كلماتي أنا. 

 

ما كان التخلي عن الإسلام جملة وتفصيلا والتبرؤ من هويتي المسلمة ليشكل تلك الطفرة الكبيرة وقتذاك.  أتعرفون ما الذي منعني من الأقدم عليها؟ الوفاء للإنصاف.  فلقد آمنتُ دائما بإنصاف الإسلام لأن الاستحقاق ينبغي ان تكون له أهميته ، بحسب مشاعري الغربية.  وأنا كنتُ بحاجة الى اكتشاف شخصية الإسلام بدلا من مظهره.  ومن باب المقارنة:  عندما كنتُ في الثالثة عشرة أو نحو ذلك حضتني والدتي على أن أكون لطيفة مع قريبة لي خبيثة.  علَّلت والدتي ذلك قائلة ، أنها جزء من العائلة ، انها من دمنا".  وكان ردي ان قرابة الدم لا تعني شيئا عندي.  وكان السؤال المناسب هو ما إذا كنتُ سأختار صداقتها في المدرسة لو لم نكن مرتبطتين بصلة قربى.  ولكن هيهات مع شخصية كشخصيتها.  وبذل مجهود من اجل "محبة" قريبتي سيكون تمثيلية سيئة الإخراج وأنا لدي اشياء أفضل افعلها في وقتي.  ورغم ما ابدته والدتي من تفهم فانها لم توافق.  إذ كانت الغلبة عندها للعائلة.  أما عندي فلم يكن النَسَب معادلا للاستحاق ، بل الشخصية. 

 

طبقتُ المعيار نفسه على الدين.  وللبت في ما إذا كنتُ سأُمارس شعائر الإسلام كان علي أن اكتشف حسناته ـ أو عدمها.  وكان علي ان اكتشف ذلك لنفسي مستعيضة عن الجامع وتقواه المبَرمَجة ببحثي أنا عن شخصية الإسلام.  لعل القرآن حقا يجرد اليهود من انسانيتهم ويحكم على النساء بالخضوع.  أو لعل السيد خاكي كان معلِّما سيئا.  لعل الله يقضي بأن يكون الجميع ناطقين بالعربية.  أو لعل ذلك حكم من صنع الانسان لإبقاء غالبية المسلمين تابعين لمن في الأعالي.  لعل الخروج عن النص الروحي اهانة للعلي القدير.  أو لعلنا نسبح بحمد الله على قواه الخلاقة عندما نستخدم قوانا نحن.  ولكن بدون استقصاء البديل فان الانسحاب كان سيبدو هروبا. 

 

 

 

 

النبأ الطيب هو معرفتي بأني عشتُ في رقعة من العالم أتاحت لي امكانية الاستكشاف.  وبفضل الحريات المتوافرة لي في الغرب ـ ان افكر وأبحث واتكلم واتبادل واناقش واتحدى وأكون موضع تحدٍِ ، وأن اعيد التفكير ـ كنتُ مهيأة للحكم على ديني في ضوءٍ ما كنتُ لأتصوره في العالم الإسلامي المتخلف مجَسدا في المدرسة الدينية.  لا ضرورة للاختيار بين الغرب والإسلام بل على العكس ، فان الغرب جعل من الممكن لي أن اختار الإسلام ، مهما كان هذا الاختيار أوليا.  وكان بيد الإسلام أن يحتفظ بي في كنفه. 

 

لم أكن مهووسة بالدين ولكن بين الفينة والأخرى كان سؤال يخطر وكنتُ ابحث عن إجابات في المكان الوحيد الذي كنتُ اعتقد بانه يمكن أن يقدم بعضا منها:  المكتبة العامة في حقبة ما قبل الانترنت إبان الثمانينات ومطالع التسعينات.  كان غالبية ما قرأتُ عن الإسلام ينضح بنبرة الكتب المدرسية.  الكثير من المراجع والقليل من المخاطرة.  ثم جاء 14 فبراير ( شباط ) ليصدر الخميني في ذلك اليوم فتواه ضد سلمان رشدي صاحب رواية "الآيات الشيطانية".  فان هذه المزحة السمجة في يوم الحب ، كما قال رشدي لاحقا في وصف الفتوى ، طالبت الغربيين بأكثر من أن يحاذروا جماعيا حين يتعلق الأمر بالثيوقراطية.  كثيرون في الغرب اتخذوا موقفا ضد حكم الموت الذي قضت به الفتوى ، وسأكون مخاتلةً إن أنا أنكرتُ ذلك.  ولكن التعليقات التي تابعتُها في المكتبة العامة بدت قانعةً بمجرد شرح غضب المسلمين ، مبتعدة عن التساؤل ما إذا كان القرآن عفيفا ومقدسا كما أراد ان يوحي لنا به مَنْ خرجوا لإحراق دُمى تمثل الكاتب.  ماذا جرى للغرب الذي وقعتُ في غرامه بما يكنه من احترام للأديان على ما فيه من لخبطة فكرية؟ هل أُصيب التعدد الثقافي بالجنون؟

 

 

 

 

بمعنى حاسم ، هذا ما أظن.  وأقول ذلك لأن زيارتي للمكتبة تزامنت مع حقبة ادوارد سعيد ، المثقف العربي الأميركي الذي استخدم في عام 1979 كلمة "الاستشراق"(4) لوصف نزعة الغرب المفتَرَضة الى استعمار المسلمين بأبلَستهم  في هيئة مسوخ غريبة من الشرق.  وهذه نظرية لها ثقلها بكل تأكيد ولكن أليس تولي الغرب "الامبريالي" نشر كتاب سعيد وتوزيعه وتروجيه شهادة تسطِّر مجلدات لصالحه؟

 

في غضون عقد من الزمن كان سعيد آخر صرعة بين الشباب من الأكاديميين الذين تحولوا ناشطين في أميركا الشمالية واوروبا.  وخنقت عبادتهم له ما هناك من أفكار اخرى عن الإسلام.  وعندما طلع سلمان رشدي علينا بآياته الشيطانية ، وقف مريدو سعيد على أهبة الاستعداد لشجب كل ما يسيء الى مسلمي التيار السائد على أنه "استشراقي" ( اقرأ: عنصري).  ومن خبرتي فان المكتبة العامة لم تنج من هذا الزمهرير. 

 

بدأتُ استعيد إيماني بالغرب وبالإسلام على السواء في منتصف التسعينات.  وأحمد الله على الانترنت في ذلك.  فان هذا الشبكة إذ جعلت الرقابة الذاتية نافلة ـ كان من المحتم أن يقول غيرُك ما لن تقوله أنت ـ أضحت المكان الذي تألق فيه أخيرا مغامرو الفكر ، وأكدوا مجددا ما يجعل الغرب حاضنة أفكار لا تعرف الكلل وإن كانت قاصرة:  حب الغرب للاستطلاع ، بما في ذلك استطلاع انحيازاته ذاتها.  وفيما كان الناقدون يتحرَّون الإسلام ، أكتشفتُ أنا جوانب مذهلة من ديني. 

 

كم منا يعرف الى أي حد كان الإسلام "هدية من اليهود" (5).  فان وحدة خلق الله وعدالة الله المتأصلة ، والغامضة في أكثر الأحيان ، وكون حياتنا الدنيا وُجدت لغاية ، ولا نهائية الآخرة ـ هذه وغيرها من المبادئ الكبرى للديانة التوحيدية

 

 

 

جاءت الى المسلمين من اليهودية.  وقد دوخني هذا الاكتشاف لكونه يفيد بأن لا داعي للمسلمين أن يكونوا غارقين في معاداة السامية ، بل أن لدينا سببا للامتنان الى اليهود بدلا من كرههم. 

 

كما أني لم أُقدِّر ، قبل أن اثقف نفسي ، أن المسلمين يعبدون الإله نفسه تماما الذي يعبده اليهود والمسيحيون (6).  والقرآن يؤكد هذه الحقيقة.  ولكن كان عليّ ، صدقا ، أن أقرأ كتابا حديث العهد من تأليف المفكرة الدينية البريطانية كارين ارمسترونغ Karen Armstrong قبل أن تخترق هذه الحقيقة ذهني الذي قولبَتْه المدرسة الدينية (ماذا اقول لكم؟ فان التحرر من البَرمَجة أمر متعدد الإشراقات).  تؤكد ارمسترونغ أن النبي محمد لم يدَّع الإتيان بإله جديد للعالم أجمع بل أن رسالته الشخصية كانت إدخال العرب الى أسرة ابراهيم "الرشيدة" ، وابراهيم كان أول نبي نزل عليه الوحي بأن لا إله إلا الله.  وأنا خلال سنوات نموي ما سمعتُ قط اسم ابراهيم يُذكر في درس من دروس التاريخ.  وتلك ثغرة صارخة إذا ما علمنا أن ذريته من بعده أنشأت الأمة اليهودية.  وإذ كان اليهود أول المؤمنين بإله واحد فهم الذين مهدوا الطريق لظهور المسيحيين ثم المسلمين.  وهكذا فان المسلمين ، كما ترون ، لم يخترعوا الواحد الأحد بل أعادوا تسميته ليكون الله ، الكلمة العربية للإله ـ إله اليهود والمسيحيين (7). 

 

أين في منهج المدرسة الدينية يرد هذا الإقرار؟ كأن شيئا لم يكن قبل الإسلام.  ومع ذلك ، إذا كانت كل الخبرة السابقة على الإسلام لا تساوي شيئا فان الأمر نفسه يصح على حشد من مبادئنا كمسلمين.  ولو عرف المزيد منا أن الإسلام هو نتاج تواريخ متداخلة لا طريقة حياة أصلية بالكامل ـ إذا ادركنا أننا هجائن روحية ـ ألن يكون المزيد منا على استعداد لقبول "الآخر"؟  بدأتُ اتساءل لماذا نرفض بهذا العناد الإعتراف بوجود مؤثرات خارجية إلا عندما نحمِّل الغرب

 

 

 

 

مسؤولية جراح كولونيالية شتى.  وكان هذا ، بدوره ، يطرح سؤالا أساسيا:  هل الإسلام أضيق افقا من بقية أديان العالم؟ 

 

ثمة موضوع وظيفته الإفساد والتخريب.  إذ ابتداء من سنوات الجامعة فلاحقا ، كلما اتفق أشخاص على اجراء مناظرة حول الجانب اللامتسامح من الإسلام ، كانوا يحذرونني من الخلط بين الدين والثقافة.  وقالت امرأة بنبرة استاذية خلال مأدبة عشاء "أن رجم النساء وثيق الصلة بالعادات القَبَلية ولا يمت بأي صلة الى الإسلام".  ظلتْ لديّ شكوكي.  إذ لو كان الإسلام مرنا لأمكنه التكيف مع ما هو صالح وليس فقط ما هو طالح ، أليس كذلك؟  فلماذا لم يكن في جامعي أي وجه شبه بديمقراطية ريتشموند ـ الديمقراطية ذاتها التي أتاحت للمسلمين أن يشيدوا جامعا هناك؟

 

لم تكن المسلمة العصرية في داخلي وحدها التي تصطرع مع هذه القضايا. ذلك أن عملي صحافية تلفزيونية ومعلقة كان يضعني في الخطوط الأمامية لتلقي أسئلة الجمهور عن الإسلام.  وإذ شاهدوا وجهي على الشاشة الصغيرة في غرفهم فان الناس الاعتياديين لا يشعرون بالتردد في الاقتراب مني في المتاجر والمطاعم وقطارات الانفاق للتعبير عن هاجس أساسي:  إذا قررتِ أن تكوني مسلمة تحارب اللحى وتتحدى الشادور ، كان الله في عونك ونجَّاك.  ولكن ما دمتِ تختارين التمسك بالاسلام كيف تفسرين كل هذا التعصب تحت رايته؟  بتعبير أدق ، أنهم كانوا يسألون: "هل يُسمح لك بأن تكوني مسلمة ونسوية؟" "ما المطلوب لتحويل مسلم مؤمن الى انتحاري؟" "لماذا لا يرفع مزيد من المسلمين أصواتهم؟" و "كيف أني لم اسمع قط نكتة عن قس أو حاخام أو مُلا؟" ومنذ أن صُفِعتْ بالسؤال المحيِّر الأخير رحتُ أنبش بجد ، وأحسب اني اكتسبتُ بصيرة من جراء ذلك.  اسمحوا لي أن أخرج قليلا عن الموضوع. 

 

 

 

 

من تعاليم الإسلام ذات الشعبية ، النهي عن "الإفراط في الضحك" (8).  وما هذه بمزحة. ففي كتيب بعنوان "مشاكل وحلول" Problems and Solutions  يأتي الشيخ محمد صالح المنجِّد على نص هذا الحكم.  وعلى حين انه "ليس من المتوقع أن يكون المسلم عبوسا"  لكن الإكثار من الضحك يثبت أننا نحن المسلمين وقعنا فريسة للسحر والفكاهة ، الأمر الذي يُضعف شخصيتنا وينال من ايماننا.  وأذكر تحذيرَ عم لي بمحبة ولكن بحزم عشية رأس السنة الجديدة من الضحك عاليا لأن الهلاك سيأتي بعده لا محالة.  وهنا يُصيبني عمي والشيخ بالإرباك والتشوش:  إذا كان السحر الأسود للضحك مستقبحا الى هذا الحد فلماذا لا يُستجهن التأثير الغنائي المخدِّر للغة العربية لدى التجويد بها عاليا؟ (9)

 

بإزاء اللمحة التي القيتُها على هذا الجانب الأخطل من الإسلام لأن أحدهم أعرب عن الأمل بسماع نكتة عن قس وحاخام وملا ، علي أن اقول أني اعشق فضول الجمهور.  فعلى امتداد سنوات ، عمل هذا الفضول على تغذية فضولي أنا.  وكلما زادت الفرص التي اغتنمتها لأكون في دائرة الضوء رافعة صوتي حول هذه المشكلة الاجتماعية أو ذلك الاتجاه العالمي ، زادت حاجتي الى الآخرين لشحذ ذهني حول سبب تجشمي عناء الارتباط بدين يحتل موقع الصدارة في كل هذا الاحتقان الدولي والعذاب الفردي.  من حق الناس أن يسألوا.  وان سؤالين بصفة خاصة هزَّا عالمي ـ كلاهما الى الأحسن ولكن ليس من دون ألم في الحالتين. 

 

السؤال الأول هو: "كيف يمكن التوفيق بين المثلية والإسلام؟" فأنا سحاقية بصراحة.  وأختار "الافصاح" عن توجهي الجنسي لأني بعدما نشأتُ في بيت تعيس برعاية أب يحتقر الفرح ، لستُ الآن بصدد تخريب الحب المتبادل الذي يمنحني البهجة في سن البلوغ.  التقيتُ اولى صديقاتي في العشرينات من عمري ، وبعد أسابيع أخبرتُ أمي بالعلاقة.  استجابتْ كعهدي بها أما حنونا.   وبالتالي فان مسألة ما إذا كان بمقدوري أن أكون مسلمة وسحاقية في الوقت نفسه بالكاد

 

 

كدَّرتني.  فذاك دين وهذه سعادة.  وكنتُ أعرف أيهما أحتاج أكثر.  واصلتُ حياتي أدرس الإسلام بصورة متقطعة ، وأتعلم الفن الجميل لإقامة علاقات مع النساء ( موضوع كتاب آخر بحد ذاته ) ، وأنتج برامج للتلفزيون ، وأعيش على العموم الحياة متعددة الاتجاهات لشابة في العشرين ونيف في أميركا الشمالية. 

 

وعندما جعلني عملي في التلفزيون شخصة عامة أكثر شهرة ، تطور أملي في التوفيق بين مثليتي والإسلام الى واحد من انشغالاتي.  وكان المشاهدون يريدون مني أن أُبرر حالي الاستثنائية في الجمع بين هويتين.  وقد دُفعتُ الى نوبة حادة من المراجعة بل راودتني حتى امكانية التخلي أخيرا عن الإسلام من أجل الحب.  إسمعوا ، أي حافز أفضل من هذا الحافز للتضحية بأي شيء؟ ولكني كلما أصل الى حافة إقصاء نفسي كنتُ أتراجع ، لا بدافع الخوف وانما من باب الإنصاف ـ إنصاف نفسي.  وكان سؤال واحد يتطلب مزيدا من التفكير:  إذا كان الله العليم القدير لا يريد أن يجعلني سحاقية فلماذا خلقني سحاقية؟ هل خلق أحدا آخر بدلا مني؟

 

التحديات العدائية لـ"تبرير نفسي" اصبحت حدثا يكاد يكون يوميا بعد عام 1998.  ففي ذلك العام بدأتُ استضيف برنامج "تلفزيون شاذ" Queer Television  ، وهو مسلسل تلفزيوني يُبث على الانترنت ايضا عن ثقافَتَي المثليين والسحاقيات.  وكان البرنامج يتعلق ببشر مثلنا بعيدا عن الإباحية والخلاعة ومع ذلك فان مسلمين أتقياء انضموا الى أصوليين مسيحيين في الاحتجاج ضد ظهوري على شاشات تلفزيوناتهم.  وفي الواقع أني ما كنتُ أتوقع أقل من ذلك ، ولكن هل كنتُ من السذاجة كي أتوقع أكثر قليلا من ذلك ـ مناظرة بدلا من مجرد الإدانة. 

 

صدقوني ، حاولتُ أن أفتح حوارا.  وبوصفي من محبي التنوع ، بما في ذلك تنوع زوايا النظر فاني لم استهن ذات يوم برسائل خصومي بل في الحقيقة كنتُ

 

 

 

ابثها بانتظام في البرنامج.  ومن الأمثلة على ذلك الرسالة التالية:  "أكتبُ لابلاغكِ أن الله الواحد الأحد الحقيقي ، إله الكتاب المقدس ، يجعل من الواضح الى حد الألم أن اللواطيين كافة ( المقصود هم "المثليون" أو أشباههم من المنحرفين ) قد تخلوا عن انسانيتهم من أجل شهواتهم الدنيئة ، الفاسقة ، الشريرة.  وبذلك اضحوا مخلوقات بغيضة لم تعد انسانية ، وينبغي اعدامهم على الفور بحسب سِفري اللاويين والتثنية..."

 

المسلمون الكثار الذين اتصلوا ببرنامج    Queer Televisionوراسلوه بالبريد الالكتروني اتفقوا مع هؤلاء المسيحيين.  ( باستثناء الجزء المتعلق بالله الواحد الأحد الحقيقي وتجييره لحساب الكتاب المقدس حصرا ).  ولكن ما من مسلم واحد واجه التحدي المضاد الذي طرحته عليهم دعوتي المتكررة الى الحوار:  كيف يمكن للقرآن ان يستنكر في آن واحد المثلية ويعلن أن الله يخلق كل شيء على أحسن تقويم (10).  كيف يفسر مَنْ ينتقدونني حقيقة أن الله ، حسب الكتاب الذي يلتزمون به التزاما صارما ، خلق عن سابق إصرار ما في العالم من تعددية أخَّاذة؟ (11)  ان السؤال الذي يضع المثلية في مواجهة الإسلام كان امتحانا لإيماني دون ريب.  ولكن إمعان التفكير فيه جعلني أدركُ ان الحوار المتعافى أمر ممكن لو أبدينا من الاهتمام بما قد يكون موقف الله أكثر من اهتمامنا بموقفنا نحن. 

 

والآن بالنسبة للسؤال الثاني الذي وعدتُكم بالحديث اليكم عنه.  فقد طُرح عليّ قبل أشهر قليلة من 11 سبتمبر ( ايلول ) ، وأدى الى أكبر اختبار لإيماني. 

 

في ديسمبر ( كانون الأول ) 2000 وصل ظِرف من داخل المكتب الى منضدتي في استوديوهات "تلفزيون شاذ".  كان الظرف من مديري ، موسيس زنايمر Moses Znaimer .  وإذ كنتُ في عجلة لانجاز أكبر عدد ممكن من حلقات البرنامج بحلول عطلة عيد الميلاد ، شعرتُ فورا بأني مستنزَفَة وبحاجة الى ما يلهيني. 

 

 

 

ففتحتُ الظرف وأخرجتُ قصاصة جريدة مادتها الرئيسية تقرير موجز من وكالة الصحافة الفرنسية: 

 

180 جلدة لفتاة مارست الجنس بالإكراه(12)

ـ تسافي (نيجيريا). ذكرت عائلة فتاة حامل في السابعة عشرة من العمر حكمت عليها محكمة إسلامية بـ 180 جلدة لممارستها الجنس خارج رباط الزوجية ، أنها ستضع مولودها في غضون أيام. 

وقالت بارية ابراهيم مغازو امام المحكمة في سبتمبر ( ايلول ) أنها أُجبرت على ممارسة الجنس مع ثلاثة رجال من اصحاب والدها.  واستدعت الفتاة سبعة شهود.  وقالت أسرة الفتاة أن من المنتَظَر ان تلد في غضون يومين ومن المتوقع ان تنال عقابها بعد 40 يوما على الأقل. ( و ص ف )

 

وبحبر أحمر قانٍ رسم موسيس دائرة حول كلمة "اسلامية" وشدد مرتين على الرقم 180 وكتب تعليقا على الهامش باسلوب تلمودي قال فيه:

 

إرشاد

في يوم من الأيام

ستقولين لي

كيف توفِّقين

بين هذا النوع

من الجنون

وتشويه أعضاء الأنثى

التناسلية

مع عقيدتك

 

 

 

الإسلامية.

م

 

يا ويلي.  ألا يكفي ان مشاهدي  برنامج Queer Television كانوا يحضونني على الاختيار بين توجهي الجنسي وتوجهي الروحاني؟ هل كان لزاما على مديري أن يثقل كاهلي اخلاقيا كذلك؟  وخاصة في وقت حافل بالمواعيد المضنية التي عليّ الالتزام بها. 

 

نحيتُ الظرف جانبا وواصلتُ العمل لحساب هذا الرجل.  ولكن خلال الساعات التالية اهتز ضميري بما طرحه موسيس من تحدٍ.  وأحسبُ أن الشيء نفسه كان سيحدث لكم.  فان قصة هذه الشابة التي راحت ضحية جريمة اغتصاب لا بد أن تلاحق كل انسان شريف لأنه أيا تكن تفاصيل قضيتها فان حقيقة واحدة مما ورد ما كان ليمكن تبريرها بأي حال من الأحوال:  أن هذه المرأة التي انتُهكت كرامتها حرصت على جمع سبعة شهود ، نعم سبعة! ومع ذلك واجهت حكما بأن تنال 180 جلدة! كيف بحق الجحيم يُنتظر مني أن أُوفق بين مثل هذا الظلم الصارخ وعقيدتي الإسلامية؟

 

كنتُ اعتزم مواجهة السؤال من دون لف ودوران ، لا بموقف دفاعي ولا بالنظريات بل بأمانة مطلقة.  وقبل أن يختض كثير من العالم بما حدث في 11 سبتمبر ( ايلول ) بأقل من عام ، تهيأتُ لولوج الفصل التالي من حياتي كمسلمة رافضة.

 

 

 

 

هوامش الفصل الأول

1 ـ على غرار كتاب "مائة قصة وقصة من الكتاب المقدس"

101 Bible Stories  هناك الآن كتاب "أحسن القصص القرآنية"

The Best Quranic Stories  من تأليف كمال سيد.  اذهب الى الموقع

www.fadabooks.com  وانقر على Books for Children .

2 ـ البرت ورسن Albert Warson في موضوع حول :لقاء الشرق والغرب في سوق تجارية جديدة" اشار فيه الى اعادة بناء المركز الآسيوي في بريتش كولومبيا بالكامل لاجتذاب مزيد من الزبائن.  صحيفة غلوب اند ميل

Globe and Mail  ، 10 سبتمبر ( ايلول ) ، 2002.

3 ـ ثمة تورية هنا لتشابه كلمة "يركع" التي هي bow   بالانجليزية وكلمة "بولنغ" التي تفيد اسم اللعبة bowling  وذلك في اشارة الى الكتاب الشهير الذي نشره العالم السوسيولوجي من جامعة هارفارد ، روبرت بتنام Robert Putnam بعنوان

Bowling Alone  من اصدار Simon & Schuster  ، نيويورك ، 2000 ، حول انحسار روح الجماعة في أميركا. 

 

4 ـ انظر Edward said, Orientalism (New York: Vintage Books, 1979)

5 ـ هذا التعبير البليغ مستقى من 

Thomas Cahill, The Gifts of the Jews: How a Tribe of Desert Nomads Changed the Way Everyone Thinks and Feels (New York:  Nan Talese/Anchor books, 1998)

6 ـ القرآن يؤكد ذلك ، انظر الآية 29: 46 وكذلك الآية 2: 136. 

7 ـ Karen Armstrong, A History of God:  The 4,000-Year Quest of Judaism, Christianity and Islam (New York:  A. A. Knopf, 1994), p. 141.

انظر ايضا القرآن ،  29:  61 ـ 63.

8 ـ عنوان الكتيب الأصلي هو "شكاوى وحلول".  ويمكن الحصول عليه من الموقع www.islam-qa.com .  ويذهب هذ الموقع الى ان الشيخ المنجِّد "محاضر ومؤلف اسلامي معروف" "يهدف الى تقديم اجابات ذكية ومسنودة بالحجة عن أي اسلئة حول الاسلام...والمساعدة في حل مشاكل اجتماعية عامة وشخصية".

 

9 ـ لا تنسوا أن كلمة قرآن مشتقة من القراءة وتأتي ايضا بمعنى التلاوة

The Recitation  التي تفيد القراءة بصوت عال.

10 ـ القرآن:  32: 6-7 وتقول الآيتان:  ذلك عالِم الغيب والشهادة العزيز الرحيم (6) الذي أحسن كل شيء خلَقَه وبدأ خلق الانسان من طين".  انظر ايضا الآية 38: 26 التي تقول:  "وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنُ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار".  وثمة آيات مماثلة منها 3:191 و 3:  48 التي تقول: "قالت ربي أنَّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر ، قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون". 

11 ـ من أشد خصومي ضراوة وحيدة فاليانت ، نائبة رئيس المؤتمر الاسلامي الكندي.  وهي حين تُسأل عني تنفي هويتي الاسلامية لأن لا وجود لشيء اسمه "مثلي" في الاسلام.  ولكنها في ندوة تلفزيونية اعترفت بأن "مَنْ نكون وماذا نكون" انما هو انعكاس لله الخالق وان من الأسرار العصية أن يفهم المرء خلق الله في كليته.( Faith Journal, Christian Television Station ، 23 نوفمبر/ تشرين الثاني ، 2002 ).  ازاء هذا الاعتراف كيف يمكن لها ان تكون واثقة بأني مخلوق مشوه؟  وحيدة ، ماذا حدث للأسرار العصية في خلق الله؟

12 ـ صحيفة غلوب اند ميل Globe and Mail  ،  7 ديسمبر ( كانون الأول ) ، 2000.