مطارحات قرآنية

عبدالله عبد الفادي

مقدمة

كان الشيخ طاهر الهريدي مولعاً بالبحث, فخصّص في بيته مكاناً متّسعاً به من المجلدات الضخمة ما يشفي غليل الباحث في كل عِلم, فأقبل عليه العلماء ثلاث ليالٍ من كل أسبوع, تنقضي في الدرس والمناظرة, حتى إذا ما انتصفت الليلة عاد كلٌّ إلى مأواه قرير العين رحيب الصدر.

ولما اجتمع هؤلاء الأقطاب في بيت الشيخ طاهر يوماً ما, وقف الشيخ زين الدين الأفغاني وقال: «أيها العلماء الأماثل, لقد صرفنا جُل أوقاتنا في دوائر النحو والمنطق والبيان, ولم نخرج عما وضعه الأوائل لا بزيادة ولا بنقص. فإن كان الغرض من المطارحات معرفة قواعد اللغة ومواردها وتخريجها وتصريفها, فقد تمَّ لنا ذلك في الأزهر الشريف. والنصارى أحوج منّا إلى ذلك! وخليقٌ بهم أن يصرفوا معظم وقتهم لاستجلاء غوامض اللغة ليكون لهم ما كان لنا من القدم الراسخ. ولكنهم صرفوا نظرهم عن ذلك واهتموا بالمواضيع الدينية. فإنَّ لهم اجتماعات ليلية فوق اجتماعاتهم الرسمية أيام الآحاد, فيها يسبرون غور آيات الإنجيل, معبّرين عن أسمى المعاني بعبارات بسيطة جداً وكلمات هي في اعتبارنا ركيكة, ولكنها تؤثر التأثير العظيم في عقولهم, رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً. ودليلي على ذلك ما نظرتُه اليوم, فهو كما تعلمون يوم عيدهم الأكبر. وإني إجابةً لدعوة صديقٍ مسيحي ذهبت معه إلى الكنيسة, وسمعت قسِّيسهم يعظ عن قيامة سيدنا عيسى من الموت. وكانت عظته بسيطة التعبير, إلا أنَّه أثبت فيها من الإنجيل والتوراة صدق قيامة عيسى, وأثبت احتياج البشرية في أمر خلاصها إلى تلك القيامة, وختم بالصلاة. ثم خرجوا إلى ردهة المكان ليشربوا القهوة, فأحاطوا به ذكوراً وإناثاً يطارحونه في معنى ما سمعوه منه. فمِن سائل: وما الداعي لموت المسيح؟ ومن سائل: وأين شهود قيامته؟ ومن سائل عن شهود صعوده إلى السماء. وما زالوا كذلك حتى صرفوا زُهاء الساعتين وهو يجيبهم ويدلّهم على الفصل والآية التي يستشهد بها لتأييد أقواله. وكان مع كلٍ منهم كتابه المقدس يقلّب صفحاته ليعرف الآية المقصودة فيقرأها بصوتٍ مسموع ليتمكن السامعون من فهم العبارة. وكان بعضهم عاجزين عن ضبط النطق الصحيح للآيات, فساعدهم القسيس على نُطقها وفهم تفسيرها.

فقلت في نفسي: إنه سلاحٌ متين يضعه هذا القسيس في أيدي النصارى ليدافعوا به عن مسيحيّتهم. وهذا سبب قوة النصارى في فهم كتبهم ومعرفتها, فإنهم أقدر منّا وأقوى في مثل ذلك. وإنَّ المسلمين في احتياجٍ شديد إلى مثل هذه الطريقة لإنارة عقولهم وقلوبهم بنور الحقائق القرآنية. وفكرت أن أقترح على حضراتكم أن نتطارح في الآيات القرآنية وحقائقها المعنوية, ليظهر الإيمان الإسلامي قريب المأخذ من عامة الناس, لا ينحصر تحت أصابع الراسخين في العلم.

فقال الشيخ أحمد المنفلوطي: «هذا اقتراحٌ يهم كل محبٍّ للإسلام. فإني أرى أنه لا تقوم قائمة للدين الإسلامي بدون معرفة أبنائه لآي القرآن, ولا إيمان حيث لا معرفة. وقرآننا هو لكل المسلمين. ألا ترى أنَّ نساء النصارى يقرأن الإنجيل للأحداث, ويشرحن لهم الحقائق لتربيتهم على المبادئ المسيحية منذ نعومة أظفارهم؟ فكيف نتأخر عن إجابة هذا الاقتراح وقد وهبَنا الرحمن المعرفة؟ علينا أن نقوم بتفسير الآيات القرآنية وحل مُعمّياتها وتحريض صغارنا وتقوية كبارنا, وإلا أمسى الإسلام اسماً بلا مسمَّى والقرآن, في نظر المهمِلين لدرسه, طلسماً بلا معنى.

«أتظنّون يا حضرات الأفاضل أنَّ الإنجيل والتوراة خاليان من المعميات والغوامض؟ كلا, بل أنَّ لدى النصارى معميات كثيرة كالثالوث والوحدانية والتجسُّد. وعندهم نبوّات يصعب تفسيرها, ولكن لكثرة الأخذ والردّ فيها صارت هي الأكثر دوراناً على الألسنة وأكثر آيات الكتاب ظهوراً, فلذلك أرى قبول هذا الاقتراح تأييداً لقرآننا وصوناً لشبابنا وعوامنا».

ثم قام الشيخ ناجي المغربي وقال: «إنَّه اقتراحٌ شريف, غير أنَّه وعر المسالك وخيم العاقبة. فمن المعلوم أنَّ المناظرة في موضوعٍ ما تستلزم البراهين القوية لإثبات رأي المُناظِر إيجاباً وسلباً. فما قولكم إذا انتصر الجانب السلبي؟ وأين تذهبون من وجه الدليل, ومن حدّ البرهان؟ وكيف ترتاحون إذا تساوى الطرفان ووقعت الآية تحت الاحتمالين؟ ومن يعصمنا من التحزُّب والتشيُّع وتفريق وحدتنا, الأمر الذي أضعف النصارى, والذي لولاه لأخضعوا العالم أجمع لدينهم وكتابهم! ولكنهم تشاغلوا في إقناع بعضهم ومحاربة أنفسهم بما أضاع وقتهم سدى, لاختلاف علمائهم في تفسير آيةٍ أو آيات. أنا لا أقصد تثبيط همّتكم ولا رفض الاقتراح, بل إني أرغب أن تحسبوا للأمر قبل الشروع فيه, حتى إذا شرعنا يكون الحق ضالتنا والإخلاص شعارنا. والله الهادي وعليه الاتكال».

فصادق الجميع على قبول الاقتراح. وما أن أجمعوا على قبوله حتى دخل الخادم بالقهوة. وبعدما شربوا وقف الشيخ بدر السنوسي وقال:

«نِعم الرأي ما رأيتم, إلا أنَّه لا بد من وضع طريقة للبحث, فأقترح أن تكون آية المفاوضة قوله تعالى: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّـهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ َعدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ» سورة البقرة 2:35-36 . ويتعيّن على حضرة الشيخ طاهر الهريدي افتتاح الاجتماع بعد أسبوعين يستعد خلالهما كلّ منا بما يفتح الله عليه. وبعد انتهاء المفتَتِح تُعطى الحرية للحاضرين فيتكلم مَن شاء بما شاء مِن اعتراضٍ أو نفيٍ أو إثبات».

فصادق الجميع على ما ذُكر, وانفرط عقد اجتماعهم على وعد العودة بعد أسبوعين.المطارحة الأولىنيابة آدم عن النسل

حان موعد اللقاء في منزل الشيخ طاهر الهريدي, فاستوى الشيخ طاهر على كرسي من العاج وبسط يديه قائلاً: «الفاتحة! الفاتحة» فخشعت قلوب الكل وانبسطت الأكفّ ونطقت الألسنة تقول: « بِسْمِ الله الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين. َآمين» سورة الفاتحة 1:1-7 .

 

ثم قال الشيخ طاهر: «لقد عيّنتم عليَّ افتتاح هذه المطارحة واخترتُم لها قوله تعالى في سورة البقرة: «وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ. فَأَزَلَّـهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ». سورة البقرة 2:35-36 . وإني أحمد الله الذي جعل العلماء نبراساً يستضيء به طالب علمٍ وإرشاد. وأنتم أقطاب العلم والأدب. وها إني الليلة أضمّ صوتي لأصواتكم طالباً أن يجعل المولى ما شرعنا به هدى للناس كاشفاً لحيرتهم. وبعد فقد رأيت أن هذه الآية تتضمن:

كان سكن آدم وزوجه الجنة مطلقاً غير مقيَّد بزمن. قالت الآية: «قُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ». فلو لم يُزلّهما الشيطان عنها لبقيا فيها مع نسلهما خالدين. ولو كان مسكنهما الجنة لمدة محدودة, كحال سكنهما في الأرض, لجاز التحديد في الأولى كما جاء في الثانية قوله: «وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ».

كانت الطاعة الكاملة للمولى شرط سكنهما الجنة, فلقد نهاهما عن الأكل من «هذه الشجرة». قال: «وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ» أي العصاة. فلما عصيا ربَّهما وأصغيا لإبليس يوم أقسم لهما بالله أنه لمن الناصحين, وأكلا من الشجرة التي قال لهما إبليس إنها شجرة الخلد, صدر الأمر الإلهي لهما بالهبوط. ولو أنهما أطاعا لأمِنا وسَلِما. ولكنه أمر الله وكان مقضياً.

كانا في حالة الأكل من الشجرة واحتمال القصاص الذي هو الحرمان من الجنة على الأقل نائبَيْن عن كل ذريتهما, بدليل قول الآية: «اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ْعَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ». فلو كان الكلام موجَّهاً إلى آدم وزوجه لجاء في صيغة المثنّى «اهبطا. بعضكما. ولكما» أما وقد جاء بصيغة الجمع فظاهر أنَّ توجيهه كان إليهما مع ذريَّتهما. وعندي دليلٌ آخر, وهو تكرار هذه العبارة في الآية التي بعدها: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» سورة البقرة 2:37-38 . فظاهرٌ أن الباري اعتبر آدم وزوجه نائبين عن نسلهما.

«ولديّ دليل آخر وهو أن العداوة المذكورة لم تقع بين آدم وزوجه, ولكنها وقعت بين أولادهما, فإن الأكبر قتل الأصغر.

«ونيابة آدم عن نسله هي بيت القصيد في هذه الآية, وهي حقيقةٌ ثابتة عند أهل التوراة وأهل الإنجيل, كما أنها ثابتةٌ أيضاً عندنا نحن أهل القرآن, لا مفرَّ من التسليم بها مهما كانت نتائجها. فما أشهرها وقد جاءت في الكتب الثلاثة بما لا يعطي مجالاً للشك فيها. فمن رأيي إثباتها والاعتراف بها كبقية الحقائق القرآنية الواجب تعلُّمها والتعليم بها. وفوق ذلك فهاتوا ما عندكم تأييداً للحق وإزهاقاً للباطل».

 

فقام الشيخ ناجي المغربي قائلاً: «بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد فإني متخوِّفٌ جداً من نتيجة هذا المشروع, وأخشى أن يمس كرامة الدين والقرآن. ولكن يطمئنني أن الباحثين من جهابذة الدين الحنيفي, يغارون على سلامته جهد إيمانهم. تصفيق . وبما أن الحقيقة هي بنت البحث, فلا جُناح ولا خوف من التجوال في هذا المجال.

«وإني أنكر على حضرة العالِم الشيخ هريدي القول بوجوب الاعتراف بنيابة آدم وزوجه, فلقد كان النسل وقتذاك في الأصلاب قبل الأرحام. ثم أنه يُحتمل أن يختار النسل غير آدم وزوجه نائبَيْن عن البشرية, فقد جاء من ذلك النسل إبراهيم الخليل وأبو الأسباط يعقوب والخضر أخنوخ وإدريس وإلياس إيليا . والأخيران أُسرِي بهما فلم يذوقا الموت. وموسى وعيسى صفوة النبيين, ومحمد خاتم المرسَلين صلى الله على جميعهم وسلَّم تسليماً كثيراً . ولا يبعد في دائرة الاحتمال أنه لو طُلب من الجنس البشري إنابة نائب عنه لاختار أحد الذين ذُكروا, لا آدم وزوجه.

«فإذا فُرض وجوب منوِّب, وجب أن يكون من جانب آدم أي من نسله المشترِك معه في الصفاء والشقاء. تعالى الله علواً كبيراً عن هذا المقام, فهو مُبدع آدم وليس من آدم. وليس من الشرع أن يكون القاضي على آدم وجنسه بمقام المنوِّب. والله ليس بظلاّمٍ للعبيد.

«والدليل النقلي الإلهي هو القول الإلهي الوارد تلو آية المطارحة «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ». ومغزاه أن آدم استغفر بما أُوحي إليه «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا» سورة الأعراف7:23 . فقَبِل توبته. فإن كان آدم بحُكم الآية زلّ وعصى, فلماذا لا يكون بحكم الآية الثانية نائباً عن نسله في توبته؟

«والخلاصة على ما أرى أن آدم لم يكن نائباً عن نسله فيما أتى من زلة ومتاب. وإني أقول بأن «لا تزر وازرةٌ وزر أخرى» أي لا تحمل نفسٌ حمل أخرى على ما جاء في قرآننا الكريم».

 

ثم وقف الشيخ أحمد المنفلوطي وبعد أن بسمل وحمدل قال: «لقد أصاب صاحبنا الشيخ ناجي في ما قال, وأزيد عليه تفنيداً لما أتاه الشيخ هريدي بأننا لسنا مقيَّدين بما ورد في كتب اليهود والنصارى, بل هم المقيّدون بما جاء في كتابنا, بسبب شُبهة التحريف الواقعة عليهم من جهة. ومن الجهة الأخرى لأن القرآن جاء ناسخاً لِما قبله, فصارت أقواله حُجّة. فلا يقوم الدليل علينا بالتزام الاعتقاد بنيابة آدم بناءً على ورودها في التوراة والإنجيل, إلا إذا وردت في القرآن, فإنّا بها ملتزِمون.

«عدا هذا فإننا إذا سلَّمنا بنيابة آدم عن جنسه في ذلك الخطأ, وجب أن ننتظر شفيعاً عاماً لذلك الجنس كله, أو بعبارةٍ أخرى لآدم وجنسه. بل وفوق ذلك وجب أن تبتدئ الشفاعة من زمن آدم, فيَخْلص بها آدم بالإصالة عن نفسه وبالنيابة عن نسله. وفي هذا القول مساسٌ عظيم بنبي المسلمين صلعم مما لا محل لإيراده الآن.

«بقي علينا نقض قوله عن صيغة الجمع «اهبطوا» وما ماثلها, التي اتّخذها الشيخ هريدي دليلاً على اعتبار توجيه القول لآدم وذريته. فما ضرّنا لو قلنا إن الصيغة المذكورة هي صيغة التعظيم للمفرد وليس للجمع, وبذلك ينتفي وجه الاحتمال لإثبات نيابة آدم عن ذريته.

«ومما ذكرته الآن, ومما ذكره الشيخ ناجي, يظهر جلياً أن الآية لا تفيد قط إثبات نيابة آدم عن نسله. ولا عبرة بما ورد في التوراة والإنجيل عن ذلك ما دام القرآن لا يؤيد ما فيهما».

 

وقف الشيخ بدر السنوسي وقال:

«لا مفرَّ من مواجهة الدليل الذي أتاه الشيخ هريدي. وإن مقام الإسلام لا يخشى إثبات النيابة لآدم عن نسله, بل بالأحرى تعزِّزها آيةُ المطارحة بما لا يقوى عليه مجادِل, فشهادة الواقع في عالم المحسوسات ناطقةٌ بذلك. ثابتٌ أن آدم وزوجه تعدّيا نهي الرحمن فاقتربا من الشجرة التي قيل لهما «وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ». وثابتٌ أن قصاصهما هو إيقاع العداوة والموت, فقد قيل «بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ْعَدُوٌّ» وهو ما يفيد العداء. وقيل «وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ» وهو ما يفيد عدم الخلود في الأرض, بل الموت صراحة. واليوم نجد ذرية آدم تتحمّل ذلك القصاص عينه عداءً وموتاً, وهو قصاص الذنب الذي لم ترتكبه غير أيدي آدم وزوجه. وهنا ليس لنا إلا نتيجة من اثنتين:

إما أنَّ آدم وزوجه كانا نائبين عن نسلهما, فيكون اشتراك النسل مع نائبه في احتمال القصاص عدلاً وحقاً.

أو أنَّ آدم وزوجه لم ينوبا عن النسل, فيكون وقوع قصاص خطية آدم على مَن لم يشترك معه ظلمٌ ظاهر. تعالى الله علواً كبيراً عن إتيانه, فهو أعدل الحاكمين. والخلاصة أنَّ النيابة ثابتة, بدليل اشتراك النسل في قصاص خطية آدم.

«أما دليل صاحبنا الشيخ ناجي فأخاله ليس إلا من قبيل ما اشتهر عن حضرته من البراعة المنطقية التي تعوَّد أن يُدهِش بها سامعيه. إلا أني بكل احترام لعلمه الغزير أدحض دليله العقلي بمثله, فقد قال إنه لا نيابة حيث لا منوِّب هذا حق . وقال وإن وُجد منوِّب فيجب أن يكون من جانب القاصر أو المتّهم. وهذا فلسفة.

«وعلى القول الأول إنَّ الله هو الذي نوّب آدم وزوجه عن نسلهما بدليل إصداره القصاص على النسل, فالنيابة حقٌّ وثابتة بموجب قياس حضرة الشيخ الفاضل. وعلى القول الثاني, وهو وجوب وجود المنوِّب من جانب القاصر أو المتّهم, فذلك لا يُفهَم منه ضرورة وجود النائب من قرابة المتهم القاصر كما انتخبت فلسفة الشيخ ناجي. فقد حضرنا قضايا عن مواريث رأينا فيها أنَّ الأوصياء عن القاصر من غير أقربائه حفظوا حقّه له من أهله وذويه, فيصبح الوصيُّ وهو أجنبي عن القاصر واقفاً في جانبه, له ما له وعليه ما عليه. كذلك كان قد نوّب الرحمن آدم عن نسله.

«ثم أننا لو تأملنا في حالة سيدنا آدم صلعم بالمقابلة مع أحوال نسله, بمن فيهم من الأنبياء والرسل والمؤمنين والمجاهدين, لوجدناه يفضلهم بنسبة ما يفضل الوالد ابنه والأصل فرعه والكل جزءه, ولذلك كان آدم وزوجه خير من صلح اعتبارهما للنيابة عن النسل.

«وكما أنَّ للمحكمة الحق أن تقيم وصياً على القاصر دون أن تأخذ رأيه, فللخالق كل الحق في اعتبارهما دون غيرهما نائبين عن النسل. وهو الذي وإن كان لا يُسأل عما يفعل, فكل أعماله أساسها العدالة غير المحدودة.

«وأما دليل الشيخ ناجي فأدفعُه بمثله. لقد قال إنَّ آدم استغفر وتاب وقبِل الله توبته بدليل قوله: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم». وبذلك رفع عن آدم ما وقع عليه بحكم الآية السابقة. بل قال إن هذه الآية رفعت عن نسله بفرض نيابته عنه ما أوقعه فيه حكم الآية السابقة من عداءٍ وموت. ولكن إن كان الله قد محا خطية آدم وتاب عليه وغفر له, فما معنى قوله تعالى في الآية الثالثة «قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» سورة البقرة 2:38-39 . ما معنى المغفرة مع الإصرار على إيقاع القصاص على المذنب؟ ما معنى قبول التوبة مع عدم قبول إرجاعهما إلى الجنة؟ ألسنا حتى الآن نتحمل نفس ذلك القصاص عداءً وموتاً, فلا نحن ولا آدم خلصنا من حمل قصاص خطيةٍ قيل إن أبانا آدم تاب عنها وقُبلت توبته. نعم تلقّى آدم من ربه كلمات, ولكن من ذا الذي يجسر على تبيانها, وقرآننا الكريم لم يذكر حرفاً منها؟ فلماذا نُجهد النفس فيما لا طاقة لنا به لتأويل كلماتٍ لا يعلمها إلا الله فقط.

«دَعْ ذِكر توبة آدم المبنيّة على تلك الكلمات المخفيّة عنا, ولا نتّخذها دليلاً نؤيّد به ما نريده, لأنه لا يجوز إقامة المبهَم دليلاً لتأييد المظهَر, بل العكس بالعكس. وقُلْ بحكم الآية الثانية: إنَّ القصاص لحِقَ بذرية آدم, فإن أتاهم هدى واتّبعوه خلصوا, أو خالفوه هلكوا. وفي هذا فصل الخطاب. لقد كان آدم نائباً عن نسله بلا ريب.

«أما قول الشيخ أحمد المنفلوطي فإني أرى فيه رائحة التحامل على التوراة والإنجيل, فقد نسب حضرته إليهما شُبهة التحريف, وقال بعدم تقيُّدنا بكتب النصارى واليهود. على إني لا أرى أن مثلنا يقول بما لم يقُم عليه دليل, وإن شئتم فلنتطارح مرة أخرى فيما إذا كان قد وقع في التوراة والإنجيل تحريفٌ أم لا. فإذا أثبت البرهان تحريفهما أعرضنا عنهما. وإذا نفاه عنهما رغبنا فيهما. أفلا نجد أن نبيّنا صلعم أمر بسؤال أهل الكتاب أو أهل الذكر, وقال الرحمن له: «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» سورة يونس 10:94 . «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ» سورة يونس 10:37 . وعليه فالقرآن مصدِّق لما قبله أي للتوراة والإنجيل, وقد أوجب احترام الكتب المذكورة والثقة بها. فلم يكن القرآن ناسخاً لها بل شاهداً بصدقها, يؤيد حقَّها. وإلا لما قبِله نبيُّنا عليه السلام ولا أطاعه كما أفادته آية الشك التي أوردناها الآن.

«أما قول حضرته بالتحريف, من الالتزام بالإقرار بشفيعٍ عام تبدأ شفاعته من زلة آدم, متخوّفاً بأن هذا يمس مقام نبينا صلعم فهذا شأن مسافرٍ جعل يتساءل إن كان سيُوفَّق إلى قنطرةٍ يعبر عليها, وإن كانت تلك القنطرة سليمةً متينة أم مخيفة, حتى امتلأ قلبه رعباً وفزعاً. ولكن بحكم الضرورة ظل في سيره حتى وصل إلى القنطرة, فوجدها على ما يحب! فعبرها ضاحكاً على هواجسه ووساوسه الكثيرة التي تسلطت عليه كل الطريق.

«علينا أن نسلِّم بالحقيقة لأنها حقيقة, والعاقل منْ قَبِلَ الحقائق وخضع لنتائجها. وما خوفنا إلا لقلة بحثنا في المسائل التي تعوّدنا قبولها بلا فحص إلا في ألفاظها وصرفها ونحوها ومجازها وكنايتها, صارفين النظر عن الوقوف على جوهر الحقيقة فيها.

«أما قوله عن صيغة الجمع إنها صيغة تعظيم, فهذه نقطة ضعيفة يسهل الرد عليها لتكون مفتاحاً للكلام. وقد أجمع شرّاح القرآن على اعتبار توجيه آية: «اهبطوا» إلى آدم وذريته. وفي اعتقادي أنَّه لا تعظيم لمن يحكم بالهبوط قصاصاً. والقصاص والتعظيم ضدان لا يجتمعان.

«والخلاصة عندي أنَّ القرآن الكريم أثبت نيابة آدم عن نسله, وأثبت اشتراك النسل في قصاص خطية آدم, وهذا ما لا مفرّ من الإقرار به».

 

وبعد أن جلس الشيخ بدر سكت العلماء الأربعة, والحقيقة تتجلَّى بقوة البرهان الإيجابي في وسط ذلك الميدان الوعر, فقبلوها وخضعوا لسلطة جمالها وآثروا احترامها, فأجمعوا على تأييد القضية وقالوا: «لقد شهد القرآن بنيابة آدم عن نسله, له ما له, وعليه ما عليه».

 

ووقف الشيخ المنفلوطي سائلاً: «هل مِن مانعٍ يمنع مَن يريد الحضور معنا من إخوتنا العلماء؟» قالوا: «لا مانع, فإننا نقبل كل فاضلٍ على غاية الرحب والسعة». فسأل: «وما يكون موضوع المطارحة الآتية بإذن الله؟». قال الشيخ هريدي: «يكون موضوعها «الشفيع العام». وآية المطارحة هي قوله: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَـهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ» سورة سبأ 34:22-23 وتُعطى رياسة المطارحة لحضرة الشيخ ناجي المغربي».

شرب القوم القهوة وخرجوا وفي النفوس أشياء ظهرت دلائلها على وجوههم, مما جعلني أتوقَّع وقوع ما ليس في الحسبان, وقلت: «لله الأمر من قبل ومن بعد». وموعدي الاجتماع بهم لأقصَّ على قرائي ما يكون من أمر هؤلاء العلماء.المطارحة الثانيةقضية الشفيع العام

دوى خبر المطارحة الأولى فعزم فحول العلماء على حضور الجلسة التالية. ولما حان موعدها غصّ المكان بالحاضرين, فقام الشيخ ناجي المغربي وتلا الفاتحة, وقال: «يدور البحث هذه الليلة عن الشفيع العام, وقد اتخذنا لذلك قول القرآن: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَـهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه» سورة سبأ 34:22-23 .

 

يا حضرات السادة العلماء, معلومٌ أن الجنس البشري بحُكم ما ظهر من الآية التي سبقت المطارحة الماضية عليها وقع تحت عوامل الفساد الذي سرى من أصلاب الأصول إلى أرحام الفروع, حتى أمسى الجنس كله يشعر شعوراً قوياً بحاجته الشديدة إلى شفيع يشفع له لدى المولى. فلجأ بعضهم إلى ملاك من ملائكة الرحمن, ولجأ آخرون إلى نظيرٍ من بني الإنسان. وجميعهم متشابهون في التذلل والخضوع والتضرع لذلك الشفيع, يكرمونه ويعبدونه عبادةً تَقْرُب من عبادتهم للخالق, يحلفون باسمه, ويبنون له الهياكل والمساجد كما هو المشاهَد الآن حتى بين أعرق الأمم حضارةً, فلليهود موسى, وللنصارى عيسى, وللمسلمين محمد صلى الله على جميعهم وسلّم . فالشعور عام عند كل طبقات البشرية بلزوم وجود شفيع يخفّف أتعابها ويشرح لها صدرها.

«على أن استشفاع الإنسان بالإنسان إلى الدرجة التي فيها يكون الشفيع موضوع رجاء المستشفِع وثقته, يكون شِركاً بالله, إذ لا واسطة تُرجى لجلب منفعة أو لمنع مضرَّة إلا وهي شرك بالله وكفر مبين, كما قال شيخ الإسلام الإمام تقي الدين أبو العباس: «وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة في جلب المنافع ورفع المضار, مثل أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهُداهم, يسألونه ذلك ويرجون إليه فيه, فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين حيث اتّخذوا من دون الله أولياء وشفعاء. على أن الشفاعة لله ولمن يأذن الله له فيها.

«وعندي أنَّ الله لم ولن يأذن لمخلوق آخر أن يشاركه في سلطان ربوبيته ويشاوره في كيفية إسباغ مراحمه على ذوي الحاجات, فقد قيل: «اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ» سورة السجدة 32:4 . فالشفاعة أمر خاص بالله, أو من يعيّنه لذلك تحت شروطٍ محدودة لا يمس فيها الشفيع المنتدَب حقاً من حقوق الله عز وجل. وإننا تحت هذا التحديد نقبل أنَّ لكل أمةٍ شفيعها. وبما أنَّ أمة الإسلام «خير أمة أُخرجت للناس» فبالنتيجة يكون شفيعها أعظم شافع عليه أفضل الصلاة والسلام. وهذا هو الذي رأيته في الآية, ويتكلم كل من حضراتكم بما حضره, والله الهادي إلى الصواب».

 

جلس الشيخ وعقب جلوسه سكوت تام. فقلت في نفسي: «ترى يا عبد الله ما هذا السكوت الطويل؟ هل ارتجت أبواب البحث أمام هذه القرائح الوقادة, أو هل آنس القومُ شراً فاتّقوه واجمين؟». ولكن سرى عن صدري الهم لما قام الشيخ أحمد المنفلوطي وقال:

«عجبت لسكوت سادتي العلماء ولم أفهم لذلك تأويلاً. على أني أقول مؤيداً كلام سابقي الشيخ ناجي المغربي, إن مدار الشفاعة على تقوى الله وإرضائه تماماً, فمَن عاش في الأخلاق الكريمة والآداب السليمة حافظاً السُّنة متمّماً الفرض كانت أعماله هذه شافعةً فيه يوم الدين. ومن كفر أو استباح المحرمات أو عاش بلا ذمة غير مؤتمِرٍ بأوامر الرحمن ولا منتهٍ بنواهيه فنصيبه مع الخاسرين. ولو كان عيسى قابضاً على يمناه ومحمد على يسراه لسقَطَ من بينهما إلى قرار عذابٍ مهين! ويؤيد قولي هذا ما قاله سيدنا محمد صلعم لبني عبد مناف «يا بني عبد مناف, إني لست أُغني عنكم شيئاً عند الله, فلا تأتوني بالأنساب ويأتيني غيركم بالأعمال, فإن خيركم عند الله أتقاكم».

«وإن مقام الرسل والأنبياء ليس مقام شفاعة بمعنى الوساطة بين الله والمجرم بل إنه مقام النذير الهادي لقومه, فقد جاء في سورة القصص: «وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» سورة القصص 28:46 . وعليه فإن سيدنا محمداً نذير لقومه لا شفيع لهم. وإن كان وهو صفوة النبيين ليس له مقام الشفاعة, فبالأحرى ليس لغيره من الرسل والأنبياء. ولا يطعن هذا في قول الآية «إلا لمَن أذِن له» فهذا من باب استطاعة الرحمن كل أمرٍ لو أراده. فلو أذِن لبشريّ أن يكون شفيعاً لما منعه تعالى مانعٌ عن ذلك. ولكنه لم يأذن تصريحاً ولا تلميحاً لفردٍ من الإنس ولا من الجن بذلك. إنما على الوجه التقريبي يمكن الاستنتاج أنه إذا وُجد بين البشر مَن يأذن له الله بذلك, كان سيدنا محمد صلعم صاحبها الفريد».

 

ووقف الشيخ زين الدين وقال:

«رأيتُ من سبقني في الكلام عن هذه الآية كمن يتكلم عن شُرَف البيت دون أن يدخله ويصف محتوياته. فمَن للحقيقة ينصرها ويؤيدها غيركم يا نخبة الأدباء؟ إني واثق في علوّ فطنتكم, فأجول جولة في هذا الميدان غير هيّاب.. لقد جاء القول الإلهي عقب سقطة آدم من الجنة: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ». وقوله أيضاً بعدها في سورة البقرة عنها: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ» سورة البقرة 2:40 . فماذا كان موضوع كلمات التوبة, وماذا كان موضوع عهد الرحمن من بني الإنسان, وما العلاقة بين هذين القولين وما سبقهما من إزلال الشيطان آدم؟ وما هو ذلك العهد الذي إن هم أوفوه وفى الله لهم بأن يُدخلهم الجنة؟ - كما شرحه الجلالان.

«إن قلنا إن العهد هو الإيمان بمحمد )صلعم كما قاله الجلالان, أو قلنا إن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه هي اعتراف آدم بما صار, قائلاً: «رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا» سورة الأعراف7:23 . كما رواه مفسِّرونا, فهذه أقوال لا تُقنع ولا تُشبع, لأنه لم يتلقَّ الله كلماتٍ من آدم, بل إن الأقرب إلى الموضوع أن تلك الكلمات وذلك العهد كانا في ما يختص بموضوع الشفاعة الذي نحن في صدده. فليس لآدم وذريته النائب عنهم إلا أحد أمرين: إما أن يقبلوا الشفيع الذي أذن له الله فيخلصوا, أو يرفضوه فيهلكوا. ولقد تحقق أن آدم كنائب ذريته خالف الرحمن باقترابه من الشجرة. وفي نيابته حُسِب هذا الخلاف على كل نسله بما فيهم من أنبياءٍ وصالحين كالخليل إبراهيم وموسى وسيدنا محمد عليهم السلام أجمعين . وهذه الحقيقة أثبتها القرآن, وبها أثبت مذنوبية كل ابنٍ لآدم. فالنتيجة إذاً: لا شفيع يمكن أن يقوم من نسل آدم, إذ لا يمكن أن يكون المذنب شفيعاً لنفسه ولغيره. بل إن المذنب محتاج لشفيع يشفع فيه عند الله».

فصاح أحد الحاضرين: الله أكبر!

وعندها اندفع الشيخ زين الدين الأفغاني قائلاً:

«نعم وألف نعم الله أكبر وأعظم من أن نحمل أقواله على غير محمل الحقيقة, فإن آدم وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى ومحمداً والحواريين صلاة الله على جميعهم حُسبوا خطاةً بخطية آدم وزالّين بزلته, وهم والحال هذه وجب عليهم أن يلتمسوا شفيعاً لهم عند الله «مَن أذِن له في ذلك».

«ما لنا نستعظم ذلك وقد نطق القرآن موضِّحاً نقائص أولئك الأنبياء المقرَّبين بما يُظهر أن العصمة ليست إلا لله وحده. فهذا سيدنا آدم أزله الشيطان عن الجنة ونحاه «وعصى آدم ربه». وهذا سيدنا محمد وهو خير مَن وُلد مِن آدم يقول القرآن في حقه «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى» سورة الضحى 93:6-8 . قالوا كان محمد )صلعم قبل نزول الشريعة عليه مثله مثل قومه قريش حنيفاً يعبد أساف ونائلة صنمي قريش والأحباش. ويقول له أيضاً في سورة الشرح «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» سورة الشرح 94:1-3 .

«كذا يلزم أن يكون الشفيع من غير طبيعة البشر ليكون له حقّ الوجاهة والشفاعة. وقد صرح القرآن للسيد المسيح بالوجاهة في الدنيا والآخِرة. وقد فسّر ذلك العلامة البيضاوي بقوله «إن الوجاهة في الدنيا النبوّة وفي الآخرة الشفاعة». وشهد القرآن الكريم بأن المسيح لم يكن من زرعٍ بشري كمحمد وداود وموسى عليهم السلام, بل قال عنه «وَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا» سورة التحريم 66:12 . وإنه «رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ» سورة النساء 4:171 . «يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ... قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ». سورة آل عمران 3:45و47 . وخلاصة هذا القول الوارد بسورة آل عمران أن عيسى عليه السلام جاء من غير أن يمس مريم أمه بشرٌ. فهو بهذه الشهادة الواردة عنه ليس من البشر الذين ناب آدم عنهم فحُسبت عليهم معصيته, بل جاء من مصدرٍ آخر, مجمل ما يُقال عنه إنه «أتى من الله». والعلم لله في كيفية إتيانه. لقد أرسل الله لمريم من روحه أو نفخ فيها من روحه وغير ذلك من التعبيرات التي خلاصتها جميعها أنَّ عيسى عليه السلام جاء بطريقة إلهية غير طبيعية. ولم يذكر القرآن سواه وجيهاً في الدنيا والآخِرة.

«فإن كان قرآننا الكريم ونبيُّنا العظيم يُثبتان لعيسى عليه السلام هذا الحق, فلماذا نخشى الاعتراف به؟ ترى إن نحن أنكرنا على عيسى حقاً أثبته لنا كتابنا العزيز, أفنكون من الصادقين؟

«هذا مقام الشفاعة الذي ليس على حائطه غبار ولا مساس ولا شرك بالله, ما دام أن الشفيع هو بحكم كتابنا كلمة الله أو روح الله. وكيفما كان تأويل هذه الكلمات, فهو من الله وليس من البشر ولا من المخلوقات الأُخر».

 

جلس الإمام زين الدين فقام الشيخ بدر وقال:

«إذا تأملنا ما قاله القرآن العزيز عن عيسى عليه السلام وجدناه قد فضَّله على جميع بني الإنسان».

وهنا صاح أحد الحاضرين: «الله أكبر».

فأجاب الشيخ بدر: قسماً بالله العظيم رب موسى وإبراهيم إني لا أبخس القرآن حقه, ولا أخضع إلا لقوله. فلقد جاء قوله عن عيسى عليه السلام ما أثبت طهارته القلبية ودرجته النبوية وهو في مهده طفلاً وفي بقية عمره, دون أن يذكر له ما ذكر لغيره من ضلالٍ ووِزر وضيق الصدر وإنقاض الظهر. من ذلك ما ورد في آل عمران «ويكلّم الناس في المهد وكهلاً ومِن الصالحين» عدا ما فضّله به مِن إتيان المعجزات إلى حدٍّ فيه يخلق ويسوي الأمر الذي لم يُسمع إلا عن الله, فهو الخالق وحده ولا خالق غيره. فمِن ذلك قوله «إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي» سورة المائدة 5:110 . فالله أكبر والله أكبر إذا لم نخضع لقول كتابنا الصادق ونعترف لعيسى بمقامٍ فوق كل المقامات. ألا ترى أن القرآن شهد لبعض النبيين بإتيان المعجزات ولكن لم يشهد بالاقتدار الخَلْقي إلا لعيسى. فكيف مع كل هذا التصريح بامتيازاته عن كل مَن سواه مولداً وطبيعةً وصلاحاً واقتداراً خَلْقياً ووجاهةً في الحاضرة والآتية لا نعترف له بمقام الشفاعة ونلوذ ببابه ونلتجئ بجنابه. وهذا لا يضرّ مقام رسولنا عليه السلام, فإننا قبلناه رسولاً من الله, وأميناً تلقّينا عنه كلام رب العالمين, وهو صلعم الذي نطق بما جاء في حق عيسى. فلو أنه رأى فيه ما يحط بمقامه لضرب عليها وأنساها واستلفت الأفكار إلى سواها. ولكنها مشيئة الرحمن الرحيم وتعاليم القرآن الحكيم أنَّ محمداً رسول الله ونذير أمته, وعيسى هو شفيع البشرية عليهما أزكى السلام. ومن شاء رفض. والسلام على من اتَّبع الهدى».

 

عند ذلك حصلت غوغاء شديدة ممّن لم يسبق لهم الحضور في غير هذه الجلسة, فاضطر الرئيس أن يصرف الحاضرين قائلاً: «فلنكتفِ بما سمعنا, ولنؤجل سماع البقية لفرصة أخرى مراعاةً للظروف».

فانصرف الحاضرون, وأخذ الفتيان والأحداث في أخذٍ وردّ. وقال قائل: «كيف يسكت علماؤنا وولاة أمورنا عن إيقاف تيار هذه الجماعة التي لا غرض لها إلا العبث بالقرآن والحط من قدر محمد عليه أفضل صلوات الرحمن؟». أما الراسخون في العلم فلم تذُق أجفانهم طعم النوم, يحاولون التخلّّص من حجج الشيخ بدر السنوسي وزين الدين الأفغاني ودفع برهانهما بما هو أقوى, ولكنهم ينقلبون حيارى, يتأملون الأقوال القرآنية التي استشهدا بها فيجدونها صادقة المعنى. ولما قصدوا المسجد لأداء صلاة الفجر تقابلوا ببعضٍ عن غير قصد, وهم الشيخ المنفلوطي والهريدي والمغربي. فقال الهريدي: «كيف كانت ليلتكم البارحة؟» أجاب المنفلوطي: «لا أأتمن مغبّة اجتماع الأحداث خيفة وقوع ما نعوذ بالله منه». قالوا: «نعم, فلا يكون إلا كما قلت». قال المغربي: «وهل رأيتم مثلما رأيتُ أن الحق كان في جانب الشيخين بدر السنوسي وزين الدين؟ وأعترف لحضراتكم أن هذه الحقيقة لم تظهر لعين تأملي بأجلى مما ظهرت به ساعة المطارحة». قال الشيخ الهريدي: «لم يكن عذابي إلا تخوّفاً من أن الإقرار بالشفاعة العامة لعيسى يُنقِص من كرامة محمد عليهما السلام». قال المغربي: «إنه لوهمٌ وجُبن أن نخشى المجاهرة بأمر تعزّزه آيات الكتاب العزيز وتؤيده تصريحاً لا تلميحاً». قال الشيخ ناجي: «إذاً كلكم مصادقون على أن القرآن يعترف بالشفاعة العامة لعيسى عليه السلام !» قالوا: «نعم». قال: «ومتى تجتمعون للاستمرار على ما نحن عليه؟» قال المنفلوطي: «كان بيننا من خيرة الأدباء وصفوة العلماء من لا يستخف بأمرهم أحد. فإن رأيتم وجوب الاجتماع بهم والوقوف على ما قرروه في هذه الحقيقة, فلكم الخيار».

فأجمعوا على الاجتماع بمنزل الشيخ بدر السنوسي بعد أن يقفوا على نتيجة بحث أولئك الأقطاب, وانصرفوا وأنا وراءهم, أكثر منهم شوقاً للاطلاع على ما يرغبون.المطارحة الثالثةالنيابة والشفيع العام

كان بين الحاضرين في الجلسة الماضية خمسة من فطاحل العلماء هم الشيوخ عمار البرديسي ومصطفى الدمنهوري وإبراهيم الإسناوي ومخلوف الأصوانلي وأبو قراعة الأسيوطي, وجميعهم خرجوا من ميدان المطارحة حيارى كأنهم سكارى, وقد زاد شوقهم إلى الوقوف على مجريات المطارحة الأولى, فوعدهم الدمنهوري بإحضار سجل محضر جلستها. فقرروا الاجتماع عند الشيخ إبراهيم الإسناوي, وهناك تُليت عليهم وعرفوا النتيجة التي أجمع عليها أولئك العلماء باعتبار آدم نائباً في زلته عن كل الجنس البشري.

 

قال البرديسي: «لا أرى بين آدم وذريته نسبة طبيعية ولا جسدية ولا شرعية تسبِّب فيهم الخطية أو توصِّلها إليهم عنه, أو تجعلهم تحت العقاب الذي هُدّد به آدم. وما كانت الأوجاع والمصائب التي نتكبدها نحن اليوم إلا نتيجة أعمالنا الأثيمة وأفكارنا الرديئة التي تقودنا إلى إغفال واجبنا نحو المولى ونحو بني جنسنا».

فقال الشيخ أبو قراعة: «لا يا عمّار, لا! فإن الأطفال والرضّع لا يقوون على عملٍ ولا على فكر, ومع ذلك تراهم تحت هذا القصاص عينه: مرض ووجع ثم موت... وكيف تقول بعدم النسبة الطبيعية, وآدم بالطبيعة هو أبو البشرية؟ فكيف لا يرث أبناؤه عن والديهم خصائص الطباع وغرائز النفس وملامح الجسد؟ هل فاتك أن العِرق دسّاس من الطرفين؟»

قال الإسناوي: «وما ضرّنا لو قلنا بأسبقية وجود الأرواح في غير هذا العالم, وإنها عصت قديماً وتابت فأوجدها الله في ذرية آدم تحت الامتحان؟ فهي وإن كانت الآن تحت قصاص, فهو قصاص خطايانا الشخصية لا خطية آدم».

فأجابه أبو قراعة: «هذه أصدق فتوى لو صدقت. ولكن الآية القرآنية صرّحت بإيقاع القصاص على الذرية «عداءً وموتاً» نتيجةً لخطية آدم ليس إلا. وبذلك انتفى الحكم بجعل سبب هذا العداء وهذا الموت غير مخالفة آدم عليه السلام».

قال الشيخ عمار: «وماذا تقولون إذا كان القصاص الواقع على الذرية ليس نيابة آدم عنها, بل لأن مخالفة آدم هي مخالفة حقيقية منهم لا نيابةً, لأن ناسوت آدم هو ناسوت ذريته أو هو جوهر واحد عام, فالخطية التي ارتكبها الجوهر الذي في آدم ارتكبها نفس هذا الجوهر العام في الطبيعة البشرية, فلا يُعفى عن تحمُّل قصاصها طفل ولا بالغ ولا شيخ».

فأجاب أبو قراعة: «ولا هذه تبطل حجّة الشيخ بدر, فإن القول بالجوهر العام ظنٌّ وتخمين لم يثبته العلم. ونحن لسنا ممن يأخذون بظواهر الأمور بما لم يقم عليه دليل. عدا أنه قول ينافي حقيقة الوجدان, فإني لا أشعر أني أخطأت مع آدم حتى أقبل القصاص المتعيِّن لخطيته. وهَبْ أني كالمجنون الذي يرتكب في جنونه ما لا يشعر به, فما كان الشرع ليجيز عليّ تبعة ما عملته. فإن كنا عملنا في جوهرنا مع آدم ما لا عِلم لنا به, فلسنا مسؤولين عنه. ولو صحَّ القول بذلك الجوهر, لنتج اشتراك الذُّرية مع أبيها في فضائله كما في مساوئه. وإن كان ذلك صحيحاً, فما معنى وجود الكافرين والمشركين والوثنيين من ذريته وقد اشتركوا بالجوهر في نبوّته. فيظهر مما ذكر مع مراجعة أبحاث إخوتنا العلماء أن نيابة آدم عن ذريته ثابتة لا جدال فيها ولا غبار عليها».

قال الشيخ مصطفى: «إني مُسلِّم بصِدق البراهين عن هذه النيابة, إلا أني أرى أنه يلزمنا البحث فيما إذا كان آدم وزوجه نائبين عن الذرية أو آدم وحده. فقد فهمت من المطارحة الأولى أنَّ زملاءنا اعتبروا النيابة فيهما كليهما, وإني منكرٌ ذلك قطعياً. فقد كان القول الإلهي: «وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة» فإن المخاطَب هو آدم وحده». فناداه أبو قراعة «أكمل الآية يا مصطفى: «ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين» فمن قوله «تقربا» بدل «تقرب». «وتكونا» بدل «تكون» دليل على أن حواء معه في تلك النيابة!»

فترك الشيخ مصطفى مسألة النيابة وتكلم عن مسألة الشفيع العام, وأخذ يقول إنَّ الشفاعة المقصودة ليست واقعة في جانب المؤمنين, فإنَّ الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي بين يديه, ثم ماتوا مسلمين مؤمنين, لا يحتاجون إلى شفيع, فقد وعد القرآن الصادق أنَّ: «مَنْ آمَنَ بِاللَِّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَـهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» سورة البقرة 2:62 وجاء في سورة القمر 54:54-55 : «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» فما حاجتهم إلى شفيع وقد قيل أيضاً في سورة الحديد 57:18-19 : «يُضَاعَفُ لَـهُمْ وَلَـهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ... وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَـهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ». فالشفاعة هي المرجوّة لأثيمٍ محكومٍ عليه بالشقاء في سَقَر جهنم حيث اللهيب المستعر فيمسي فيها كهشيم المحتظر. هؤلاء هم المحتاجون إلى شفيع يأخذ على نفسه ما عليهم ويستلف مراحم المولى إليهم.

«ومثل هذا الشفيع ليس من الملائكة بدليل قوله في سورة النجم 53:26 : «وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى». ولا يوجد شفيع بين الخلائق الأرضية, فهذا نوح يشتكي من قومه ويطلب من الله الانتصار عليهم كما قيل في سورة القمر 54:9-11 : «فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ». بل وجاء عن نبينا عليه السلام في سورة عبس ما يفيد أنه عبس في وجه الرجل الأعمى الذي جاء يقول علمني مما علمك الله. ولما كان وقتذاك مشغولاً مع أشراف قريش عن عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى يرجو إسلامهم, فعاتبه الرحمن قائلا: «عَبَسَ وَتَوَلّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتزكى بما يتطهر بما يسمعه منك أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي: لا تُقبِل على الأغنياء » سورة عبس80: 1-6 . فلا موسى ولا نوح ولا محمد عليهم السلام قاموا بالشفاعة, وما كانوا إلا هداةً ونُذراً ورُسلاً ومُرشدين, كلٌّ منهم إلى أمته.

«أما عن عيسى المسيح فإني لكراهتي للنصرانية ابتعدتُ عن قراءة كتبها, ولذلك أمسيت غير قادر أن أحكم بشيء عن عيسى عليه السلام . ويا ليتني لم أشبَّ كغيري من المسلمين على كراهة الإنجيل دون فحصه, فما كنتُ لأعتذر الآن وفي مثل هذا الموقف».

 

دارت كل المناقشات بينما كان الشيخ مخلوف الأصوانلي جالساً صامتاً, فكبُر على العلماء ذلك, فسأله الشيخ إبراهيم الإسناوي والشيخ مصطفى الدمنهوري إبداء رأيه في الموضوع, فاندفع الأصوانلي اندفاع سيل العَرِم وجعل يقول:

«إني أعجب كيف صرفنا أياماً طويلة دون بحثٍ ولو قليل في جوهر القرآن, ولم نشتغل إلا بقشوره المزركشة مِن نحوه وبديعه, وأغفلنا أمر حقيقته, فوقعنا الآن حيارى في معانيه, تتضارب عقولنا في تأويلها كما وقع لنا في مسألة نيابة آدم وزوجه عن الجنس كله بدليل صيغة الجمع في الآية. إلا أني سمعت تأويلاً هو أنَّ قوله تعالى «اهبطوا» كان موجهاً لآدم وزوجه والشيطان والحية, وجميعهم هبطوا, وبين جميعهم العداء ولجميعهم المقرّ إلى حين».

وهنا صفق الحاضرون شديداً .

فاستطرد الأصوانلي قائلاً:

«ولم أكُن أقلّ منكم إعجاباً بهذه الفتوى لو لم أسمع قسيساً يفنِّدها قائلاً إنَّ القرآن بعد قوله: «اهبطوا» قال: «حتى يأتينّكم منّي هدى» ويُراد بالهدى القرآن الكريم ورسوله العظيم, كما قال الجلالان. قال النصراني: فهل ينتظر المسلمون أنَّ الشيطان ينتفع بذلك الهُدى, أو أنَّ للحيات والعقارب والخنافس والضفادع حظاً في القرآن والهداية به؟ سمعت هذا القول فرفضت هذه الفتوى, وصادقت على نيابة آدم عن ذريته التي خوطبت معه وهي في صلبه أن «اهبطوا. بعضكم .. ولكم الخ» ولم تكن صيغة هذا الجمع إلا لهم فقط. وأما في ما يختص بالشفيع العام فإني مضطرب الفكر من جهته, ويلوح لي صدق الذي قاله الشيخ بدر من أنَّ عيسى هو الأعلى بين الخلائق السماوية والأرضية, ولعل اضطرابي راجعٌ لعدم سَبْق البحث ومشاهدة الحقائق في ثوب البرهان القشيب. وإن أنصفتم فلننضمَّ إلى إخوتنا ونستمر معهم, ونرى ماذا يكون رأيهم».

 

فقاموا جميعاً ودخلوا بيت الشيخ بدر, وإذا به وبكل أصحابه جلوسٌ معه. وكان الشيخ بدر يتكلم, فلما دخل العلماء كفّ عن الحديث. فقال له الشيخ الإسناوي: «عُدْ إلى ما كنت فيه». فقال:

«الشفيع المبتغَى والمطلوب للعالم شيء, والهادي المرشِد للعالم شيءٌ آخر. فعمل الشفيع أن يتوسَّط لأجل غفران آثام الأثيم وإصلاح ما أفسد الدهر, وهذا لا يكون إلا عن فيض صلاحٍ غير محدود من نفس الشفيع, يسدّ مسدّ نقص الأثيم. ولقد حاول نبيُّنا عليه السلام أن يعمل عمل الشفيع مرة فزجره الرحمن, كما جاء في سورة التوبة 9:113 : «مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَـهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ» ومعلوم أن هذه الآية نزلت إليه صلعم يوم بكى على قبر أبيه وطلب من الله أن يقيم أبويه حتى يؤمنا به ثم يميتهما مؤمنَيْن, فلم تُقبل شفاعته».

وهنا قال الشيخ الهريدي: «لقد بلغ أمرنا العالِم الشيخ مصطفى عبد الله, أحد علماء الأزهر الشريف, وقد بعث بهذه الرسالة إليكم:

من مصطفى عبد الله إلى الحبيب النسيب الشيخ طاهر الهريدي وإخوته العلماء الأدباء, سلام الله عليكم ورضوانه. أما بعد فلقد وشى بكم الواشون. ولكننا وقفنا على صِدق مبدأِكم. وأنه لمركبٌ خشن ومسلكٌ وعر أنتم فيه سالكون. إننا نقول بحرية الفكر ومتانة الذكر القرآن , لكنّ العالم الإسلامي غير مستعد لِما تقولون وتكتبون. هكذا سلك النصارى قبلكم فأمسوا في شِعاب اختلافاتهم يتشيَّعون ويتشعّبون. فاكتموا رأيكم عمّن يجهلون.

تأملتُ مسألتَي النيابة والشفاعة, وإذا بهما قول الحق يعتقده المؤمنون, نطق به القرآن الحكيم لمن يعقلون. وأزيدكم نصحاً بأن ترجعوا إلى سورة الإسراء وسورة البقرة تجدون القول الفصل الذي عليه يرجع الباحثون. في الأولى قيل: «فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ» سورة الإسراء 17:55 . والقول بتفضيل البعض على البعض لا كفر فيه ولا له دحض. وقيل في الثانية: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ» سورة البقرة 2:253 . فلا وهم ولا حدس, فقد خصَّ عيسى عليه السلام بهذا الامتياز والإكرام عمن سواه من أيِّ رتبة ومقام. والموضوع بذلك من كتاب الله الحكيم. تصريحاً تتداوله الأجيال فيلقّنه الكبير للفطيم. بهذا كانت المشيئة الصمدانية والحِكم القرآنية يتمسك بها المجتهدون. فما كان عيسى كنوحٍ الذي شكا قومَه, ولا كإلياس الذي طلب الجدب فأكلت الأمهات أولادهنّ, ولا كمحمد الذي عبس في وجه الضرير. بل هو الذي فتح عيني الأكمه وأبرأ الأبرص وأحيا الموتى, وهو الذي خلق من الطين طيراً, ولا يروعنّك ذلك فالله حر مطلق التصرف في خلقه لا يُسأل عما يفعل, يكرم من شاء بما شاء. تبارك الله ربي ذو الفضل العجيب.

إمضاء: مصطفى عبدالله

وبعد أن انتهى الهريدي من القراءة, كنتَ ترى هذا يمسح جفنه وذاك يفرك عينه بشدة. هذا يسرّح أصابعه في لحيته, وذاك يرفع العمامة إلى خلف وذلك يدفعها إلى أمام. رأيت ذلك فقلتُ في نفسي: عبثاً يا عبد الله يحاولون الكتمان إلا إلى أمدٍ قصير!

وأخيراً وقف الشيخ عمار البرديسي وقال: «ولكن كيف تنطبق هذه الكرامات لمن قال عنه أهله إنَّ قومه صلبوه وعلّقوه على خشبة, وبذلك وقعت اللعنة عليه؟» قال الشيخ طاهر: «وماذا يمنع أن تكون هذه القضية موضوع مطارحتنا التالية؟» قالوا: «نعم». قال: «ويكون افتتاح المطارحة للشيخ إبراهيم الإسناوي, والاجتماع بمنزل الشيخ بدر بعد أسبوع». ثم انصرفوا, وأنا أكثرهم شوقاً إلى حضور تلك المطارحة وسماع ما يدور بين فطاحل المسلمين عن قضية صلب المسيح وموته.المطارحة الرابعةمَن هو المصلوب؟

تأخرتُ لسببٍ قهري عن الحضور مع القوم في الموعد المحدد, فوصلتُ متأخراً بضع دقائق لم أتمكن فيها من سماع مقدمة الخطيب, بل سمعته عند دخولي يقول:

 

«والخلاصة أنَّ قضية الصلب من أصعب القضايا بحثاً واستقصاءً وأعقدها معنى واستقراءً, تضاربت فيها الأفكار, وحصل فيها الاختلاف فوق ما كان في الحسبان ولا سيما بين الإنجيل والقرآن. فمع إثبات الإنجيل لحادثة الصلب فقد قال القرآن: «وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَـهُمْ» سورة النساء 4:157 وهذه هي آية المطارحة.

قرأت هذه الآية مرات عديدة ووقفت حائراً جداً. وددت لو أنكر القرآن القضية بتاتاً لكان ذلك من أسهل الأمور. ولكن القرآن شهد بوجود صليب وبوجود مصلوب, وفي هذا هو يتفق مع الإنجيل. أما الاختلاف ففي شخصية المصلوب. ومع ميلي لتصديق حكاية الإنجيل لأنه الأسبق, إلا أنه تقف أمامي صعوبة كون المصلوب هو عيسى المسيح للأسباب الآتية:

«لأنه من روح الله وكلمته, فليس هو بشرياً محضاً. أفلا يكون إذاً أحرى بالكرامة من إدريس وإلياس اللذين رُفعا إلى السماء بدون أن يذوقا الموت؟ لقد كان في إمكانه وهو رب المعجزات أن يختفي من بين أيديهم كما اختفى يوم همّوا بتتويجه ملكاً عليهم كما ذكر إنجيلهم في يوحنا 6:15 .

«القول بقتل عيسى يناقض القول بلاهوته, فكيف يُعقل أنَّ الروح الإلهية التي هي من الله تموت؟ قالوا عنه إنه أقنوم من أقانيم الثالوث الأقدس, فكيف يحيا بعض الثالوث ويموت بعضه؟ إنَّ في ذلك لعجباً! وإني أرى أنَّ القرآن بنفيه الموت عن عيسى خدم الإنجيل أعظم خدمة, بل وخدم عيسى نفسه بأقصى ما يمكن.

«لم ينتِج قتلُ عيسى عليه السلام أدنى خيرٍ لأمته بني إسرائيل, فلا هو حرَّرهم من عبوديةٍ ولا أوصلهم لمجدٍ, بل ربما يُقال إنه جاءهم لعنةً بما جعلهم قتلة ذاك البريء, ودمه على رؤوسهم ورؤوس أولادهم من بعدهم. فموت عيسى إن لم يكن للإضرار ولو بسمعتهم الأدبية فإنه لم ينفعهم قط.

«القرآن بقوله «ولكن شُبِّه لهم» حلّ المسألة بما يضمن كرامة عيسى عليه السلام من وجه, وبما يحفظ قصد الرواية من الاضطراب من وجهٍ آخر. لقد اتَّهموه بأنه كان مجدِّفاً على شريعتهم, وإنه كان ثورياً يثير الناس إلى فتنة عظيمة, ويعمل على نقض هيكلهم. وقامت قيامة الأمة كلها لهذا الأمر وقعدت, واجتمعت العشائر والعائلات يوم صلبه ليروا الذي طالما أحسن إليهم وجال في بلادهم وشفى مرضاهم وأشبع جياعهم, وليروا ماذا يفعل إخوتهم به. وكيف يكون التأثير عليهم عظيماً لو أنهم رأوه مصلوباً وسمعوا كبارهم يقولون: لم نصلب إلا عدواً للبلاد وللحكومة وللهيكل وللشريعة. ألا يكون في انتصارهم عليه إضلالاً لهذه الجموع المجتمعة؟ ولكن الله العليم, لكي لا يضل الناس, وليحفظ أتعاب عبده وتعاليمه في قلوب سامعيها, ألقى شَبهَه على آخر, فصلبوه. حتى إذا ما تبيَّن لهم فرط جهالتهم ظهر لهم عيسى مجتمعاً بالحواريين أربعين يوماً, ثم بُعث إلى السماء جهراً, فنظروا وهم بين مندهش وبين آسف نادم».

 

وجلس الإسناوي وقام أبو قراعة وقال: «موقف القرآن حرِجٌ جداً في هذا الموضوع مع التوراة والإنجيل, ولا يمكن أن نصل إلى الغرض المقصود ما لم يكن بيننا عالِم من علماء المسيحية, فالمسألة من أمهات المسائل».

قال الشيخ بدر: «لي صديق من كبارهم, أديب لطيف. فإن شئتم أتيتكم به الساعة». قالوا: «لك وإليك». وسرعان ما عاد ومعه الرجل, وقال: «أقدّم لإخوتي الأدباء أديباً ما له ندّ وبحراً كثير المدّ وعالماً فاضلاً من علماء المسيحيين, اسمه الشيخ عبد الله بن أمين». فرحَّب به العلماء. وبعد أن أطلعوه على الحال, وأعادوا عليه ما قيل, قال الشيخ مخلوف الأصوانلي: «إنَّ في القول بصلب عيسى عليه السلام تشهير كبير, فلو أنهم قالوا بموته على فراشه لكان ذلك أسهل احتمالاً». وقال الشيخ الصفدي: «لو كان في موت عيسى خلاص بني إسرائيل, كما يزعمون, لقبِلنا الأمر, ولكن الواقع عكس ذلك, فالتاريخ شاهدٌ بعدم إيمانهم به إلى هذه الساعة. فما فائدة موته إذا كان كل الغرض منه أن يؤمنوا؟»

 

فتكلم الشيخ عبد الله بن أمين وقال: «إن قضية صلب المسيح وموته هي الفارق الأعظم بين شعبين عظيمين هما المسلمون والمسيحيون, وكل تقي من أتقياء الأمتين ينتظر الوقت الذي فيه تسود المحبة ويتم الإخاء بينهما ويسود الإنصاف والائتلاف, ويُجمِع الطرفان على البحث معاً عن الحقيقة بكل تأنٍّ وتروٍّ. وإني أحمد الله الذي متّع عينيّ برؤيتكم في هذا الميدان تبحثون, والحرية شعاركم والحق ضالتكم. وإني إجابة لدعوتكم أقول:

«أيها السادة العلماء, إنَّ لهذه القضية وجهتين: الأولى تاريخية, والثانية فقهية لاهوتية. ففي الوجهة التاريخية أمامنا أقوال الغابرين من كفّار ومؤمنين, وأقوالهم هذه مدوّنة في الموسوعات المطوّلة بما يزيل الشك عن ذهن المتأملين. وهذه التواريخ لا تتعصب لفريق من البشر دون آخر, بل تروي الحوادث على علاتها. وهي محرَّرة بأقلام أعداء المسيحية والمسيحيين, ومدوَّنة بأقلام اليهود والكفرة, وهي تشهد لصلب المسيح كحقيقة تاريخية. والتاريخ يحرص على ذكر تفاصيل حادثة الصلب كما وردت في إنجيلنا, فيذكر إنزال المسيح من فوق الصليب, ودفنه في قبر غني, وختم القبر بخاتم الحكومة الرومانية, ووقوف الحراس حوله لحراسته لئلا يتغير القصد فيه. والعجيب أن تلك المطالب والمساعي لم تكن من أصحاب المسيح بل من مساعي أعدائه, فإنهم كانوا يخشون أن يسرقه تلاميذه, وفي الصباح يدَّعون أنه صعد إلى السماء.

«إنَّ قرآنكم يا حضرات الأدباء شاهدٌ لصليب المسيح. شهدت آية المطارحة أنَّ الصليب كان موجوداً, وأنه كان مجهّزاً للمسيح. وأنَّ عليه صُلِب شخصٌ صورته كصورة المسيح. فما تريدون أكثر من ذلك ممن يتكلم عن حادثة بعد وقوعها بستمائة سنة؟

«وقد حدث بعد قيامة المسيح من الموت أن التقى بحوارييه, ولم يكن توما معهم. فلما التقى الحواريون بتوما قالوا له: «قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ». فَقَالَ لَـهُمْ: «إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ, وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ, وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ موضع الحربة التي طُعن بها على الصليب , لا أُومِنْ» فلما كان الاجتماع التالي وتوما معهم, حضر المسيح وقال لتوما: «هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ, وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي». فلما آمن توما سأله المسيح: «هل آمنت يا توما؟» قال: «رَبِّي وَإِلهِي». فقال المسيح له: «طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» يوحنا 20:25-29 . فهذه الرواية تدفع قول القرآن «ولكن شُبِّه لهم». فقد سجل التاريخ مدة ستمائة سنة صلب المسيح وموته بأقلام اليهود أنفسهم, ولم يقُم بينهم من يدفع هذه القضية أو يكذّب هذه الحادثة, وهم أحرى الناس بتكذيبها. أما وبعد مرور ستمائة سنة يأتي صاحب القرآن ويقول: «ولكن شُبِّه لهم» بدون دليل أو سند, فما ذلك إلا تغريرٌ ممّن عاصروه من اليهود فأضلّوه عن الحقيقة.

«أما الوجهة الثانية اللاهوتية الفقهية, فمِن حيث أن المسيح أقنوم في أقانيم الإله الواحد, ومن حيث أنه روح الله وكلمته, فكيف يموت؟ هذا أكبر اعتراضاتكم. ولكني سأردّ على ما سمعته من الكبير والصغير.

«قلتم إنَّ القول بصلب المسيح ماسٌّ بكرامته وناقضٌ للقول بلاهوته, وإنه لم ينتِج خيراً, وإنَّ القرآن خدم الإنجيل والمسيح بقوله «ولكن شُبِّه لهم» وإنهم أهانوا المسيح واحتقروه ولعنوه. أما إنه ماس بكرامة المسيح وناقض للقول بلاهوته فهو قول من لم يطلع على الإنجيل الذي يعلمنا أن المسيح من جهة روحانيته هو ابن الله, وبلغة القرآن روح الله وكلمة الله. هذا «الكلمة» اتخذ جسداً وحل بيننا في صورة بشرية تأكل وتلبس وتجوع وتتعب وتنام. مثلنا في كل شيء ما عدا الخطية, لأنه كما شهدت أحاديثكم أنه هو المولود الوحيد الذي لم يتمكن الشيطان من الحضور ساعة ولادته ليمسه, فقد روى البخاري ومسلم أنَّ «كل ابن لآدم قد وخزه الشيطان يوم ولادته سوى مريم وابنها». وهذا الجسد الذي اتخذه صُلب وتألم ومات وقام من دون اشتراكٍ لروحه اللاهوتية في هذه العَرَضيات, ومثله في ذلك مثلنا, فإننا نأكل ونشرب ونتعب وننام, دون أن ينال أرواحنا شيء من ذلك. ألم يحدث أنَّ رجلاً قُطعت يداه وساقاه ومع ذلك بقي حياً لم يمت؟ فهل نقصت روحه مثلما نقص جسده؟ .. وبهذا المنطق يسقط الاعتراض أنه بموت جسد المسيح مات اللاهوت, أو مات الأقنوم الإلهي الحي إلى الأبد.

«أما قولكم إنَّ موته لم ينتِج خيراً لبني إسرائيل, فهذا قول مَن لم يختبر الخير الذي نتج من موت المسيح. أنتم تعرفون أن الحواريين كانوا من اليهود, وقد آمن على أيديهم الألوف من اليهود بالمسيح المصلوب ووجدوا فيه إتمام نبوات أنبيائهم عن موته صلباً وعن الفوائد التي تنجم عن موته. لقد تنبأ النبي داود بقوله: «ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ... يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ, وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» مزمور 22:16-18 . وتعرفون أنَّ ذلك هو عين ما فعله الذين صلبوا المسيح كما قال الإنجيل. وكذلك تنبأ النبي إشعياء بقوله: «وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا, مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلامِنَا عَلَيْهِ, وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ, وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا... إَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي» إشعياء 53:5 و6 و8 . وتنبأ زكريا النبي عن المسيح وقال: «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ, الَّذِي طَعَنُوهُ» زكريا 12:10 والكثير غير ذلك من النبوّات. فضلاً عن أنَّ كل الأمم الذين قبِلوا المسيحية أخذوها أصلاً عن بني إسرائيل. ولم ينحصر خير موت المسيح لبني إسرائيل فقط, بل لكل الذين آمنوا ويؤمنون به من جميع الأمم إلى يوم القيامة. أما الخير الذي نتج لتلك الأمة على نوع خاص فهو أنه حررهم بموته وأعتقهم من العبادة الطقسية الفرضية التي كانوا فيها يعوّلون على الغسلات والتطهيرات التي أخذتم منها أنتم الوضوء, وعلى تقديم الذبائح كلما أخطأوا بدون أن يكون التعويل عندهم على التوبة والطهارة القلبية والقداسة العملية. ومنهم أخذتم أنتم الفَرْض وغضضتم أنظاركم عن أن تكون العبادة عبادةً روحية, مع أنَّ الله روح, والساجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا. فالخير لبني إسرائيل خير عظيم تمّ لهم بتغيير مبدأ عبادتهم. ويوجد اليوم ألوفٌ منهم مؤمنون بالمسيح, منهم الواعظون والكارزون والقسوس المنادون بصلب المسيح, وعددهم يزيد سنوياً حتى لا يمكن لمكابرٍ إنكار الخير العميم الذي تمّ لهم بصلب المسيح.

«وأما قولكم إنَّ صاحب القرآن خدم عيسى والإنجيل بقوله «شُبه لهم». فأظنّكم لا تصادقون كلكم على ذلك, بل وأظن أنَّ القائل إنما أتاه من قبيل المفاخرة ليس إلا. واسمحوا لي أن أبيّن لحضراتكم أنَّ القرآن جنَى بهذه العبارة جنايةً لا تُغتفر.

فقد جنَى أولاً على نفسه, لأنه نطق بما لم يشاهده ولم يصله عن مصدر صِدق, فأوقف نفسه شاهد نفيٍ في قضيةٍ صدر الحكم فيها قبل وجوده بستمائة سنة, وهو حُكم بيلاطس واليهود وحُكم الرأي العام. وكانت حيثيات هذه القضية قد تُرجمت بعدة لغات وانتشرت في كل بلد. فجاء القرآن يكذّبها بغير دليل, وهكذا جنى على نفسه وأوقع الشك في قلوب سامعيه.

وجنى ثانياً على المسيح, لأنه لو لم يكن المسيح قد مات ما انتفعنا مِن حياته. وتوضيح ذلك سهل مما أثبتّموه في مطارحتكم عن الشفيع العظيم. تعلمون حضراتكم أنَّ المسيح هو شفيع المذنبين, بمعنى أن يأخذ عليه ما عليهم. فأخذ خطيتهم ووقف موقف الخاطئ, وناب عنهم في احتمال قصاص الخطية. وكما ناب آدم عن البشر فوُضعت عليهم الخطية, كذلك ينوب المسيح عمّن يلوذ بجنابه, فتوضع عنه الخطية, لأنه حمل قصاصها ونُفِّذ فيه الحكم اللازم إنفاذه على الخاطئين. لقد احتمل كل ما أُعدّ للخطاة من قصاص وموت. وحُسب خاطئاً وهو لم يخطئ أبداً. والفرق شاسع بين الحسبان والصيرورة, فلو لم يمت المسيح لكان عمل الشفاعة ناقصاً. ولم يكن موت المسيح كموت كل إنسان, لأن كل إنسان يموت تنفيذاً للحكم الإلهي على بني آدم. والمسيح ليس خاطئاً فلا يموت. أما وهو شفيع الخاطئين ونائبهم فقد لزم أن يموت موتاً شفاعياً.

«وجنى القرآن ثالثاً على عدل الله. فاليهود قصدوا أن يصلبوا المسيح, واعتبروه مستحقاً للموت, وحكمت محكمة البلاد بموته. فكيف يجوز للعدالة أن تلقي شَبَهه على بريء توقعه تحت الموت؟!»

وبعد أن انتهى الشيخ عبد الله من حديثه استأذن لينصرف, فودّعوه بكل إكرام وامتنان, وعادوا إلى حديثهم. فسأل الشيخ إبراهيم الإسناوي: «ما رأي العلماء في ما سمعوا؟»

 

أجاب الشيخ أبو قراعة: «لقد قام الدليل بما ليس لدينا حجّة تدفعه. ومع أني لا أعترف بأن أحد اليهود خدع صاحب القرآن بهذا النبأ الكاذب فانخدع به وأثبته, إلا أني أعتقدأنه خوفاً على مساس كرامة المسيح الذي تفنّن في مديحه وتعظيمه كلما ورد اسمه في القرآن, أراد أن يدفع عنه قضية الموت صلباً, ويؤكد له البعث حياً بدون موت. ومن هذه الحكاية تبيَّن لي أمران: أولهما إن صاحب القرآن عليه السلام ملتزم دائماً جانب إكرام عيسى عليه السلام وتعظيمه على كل مخلوق, حتى قال فيه وعنه ما لم يقله في غيره مما لم نقرأه إلا في الإنجيل. وثانيهما إن شهادته بنفي الموت لا تحل محل شهادة التاريخ, لا سيما وأنها جاءت بعد مرور 600 سنة, وهذه حجة قاطعة جداً لا أرى لي سبيلاً للهروب من الالتزام بها».

 

وقال الشيخ الهريدي: «لقد تأثرت جداً من قول العالِم النصراني الذي شهد أمامكم بقصة الصليب وسبب إعداده وتهيئته وصلب شخصٍ عليه. وإنَّ مشابهته لعيسى لا حقيقة لها, لأنه هو ذات عيسى المصلوب. فالنتيجة من ذلك أنه المسيح وليس القول «بل شبه لهم».

 

وقال الصفدي: «حجّة المسلمين ضعيفة جداً في هذه القضية, لأن ليس لهم ما يسندهم لا علمياً ولا تاريخياً ولا دينياً, عدا أنَّ شهادة التواتر عند المسيحيين تثبت ذلك, وقبور شهدائهم الذين ضحّوا حياتهم في سبيل عدم الرضى بإنكارهم موت المسيح هي أقوى شهادة. ألا ترون حضراتكم أنَّ للمسيحيين تاريخاً سنوياً يبدأ بشهداء المسيحية؟ فبينما للإسلام تاريخ واحد هو التاريخ الهجري, للنصارى تاريخان أحدهما تاريخ المسيح, والآخر تاريخ الشهداء, وكلاهما كانا قبل أن تولد الحضرة المحمدية في عالم الوجود. فكيف يسوغ لمثلنا أن ننكر حقاً هذا نوره وهذا مقدار ظهوره؟»

 

وقال الشيخ عمار: «إذاً نُكذّب رواية القرآن ونعتمد على رواية الإنجيل. ما هذا الذي أنتم به تصرّحون بدون خوف ولا حذر؟ وإن كانت هكذا منزلة القرآن وأقواله في حياتكم, فلماذا لا تصرّحون إن كان ملهماً أم غير ملهم؟»

فقال الشيخ أحمد المنفلوطي: «أقترح أن يكون موضوع المطارحة الآتية إلهامية القرآن».

وقال الشيخ عمار: «وأنت يا شيخ أحمد تفتتح المطارحة؟». قالوا: «نعم».

ثم انفضّت الجلسة وأنا أكثر الناس عجباً من إصرار هؤلاء العلماء على موالاة هذه الأبحاث ومتابعتها, وأكثرهم اندهاشاً بما أراه فيهم من الشجاعة التي بها يقررون الحقيقة ناصعة بالرغم من ميولهم, كأنهم لا يرون إلا الحقيقة ولا يخشون في سبيل تحصيلها لوماً ولا تثريباً.المطارحة الخامسةإلهاميَّة القرآن

انصرف العلماء على وعد الالتئام في هذه الجلسة, وكانت حافلةً بكبار العلماء, عرفتُ بينهم الشيخ أمين الأزهري والشيخ رفاعة والشيخ أبا المكارم.

 

ووقف الشيخ أحمد المنفلوطي وقال: «ما كنتُ أجد في نفسي ارتياحاً لموالاة هذه الأبحاث بهذه الكيفية, ولكني أرى أننا في حاجة كبرى لهذا الاحتكاك الفكري حتى يقوى ساعدنا على ردع المتشدّقين من ذوي الضلالة والغواية. فإن نحن قصرّنا في تعزيز كتابنا كنا أولى بتبعة اللوم, أو أحسنّا الجواب كان ذلك أكثر صوناً لمقام القرآن ورسوله صلعم . أما وجوه تفضيل قرآننا الكريم على سواه من الكتب المنزلة فهي:

«أنه كان قبل نزوله على الرسول صلعم محفوظاً في لوح قديم. ذلك يعزّزه ما جاء في )سورة البروج 85:21 و22 : «بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ» فهو وحيٌ أوحى به الخالق إلى سيدنا محمد صلعم في زمنٍ معلوم. يؤيد ذلك قوله في سورة الأنعام 6:19 : «قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ» فيتبيّن لذي الإنصاف أنه ليس مؤلَّف بأيدي البشر, بل هو قول الله أنزله إلى رسوله الأمين.

«وقد جاء بيان اللغة التي أُنزل فيها فقيل إنه أُنزل «بِلِسَانٍ عَرَبِّيٍ» سورة الشعراء 26:195 . فلم تبقَ بعدُ للنفس حاجة تمنعها عن الوثوق به وقبول كلامه واعتباره إلهياً صادقاً بعيداً عن مختلفات البشر وعادات الأمم.

«وقد يُقال إن عيسى قبْل محمد, فبشّر الناس بوحدانية الإله وباليوم الآخِر كما كان موسى قبله, فما كان في ما أُوحي إلى محمدٍ صلعم شيء جديد يستحق الاختصاص به. قلنا إن عيسى إنما هو رسول اليهود جاء إلى اليهود لا إلى غيرهم, وذلك بدليل قوله في الإنجيل: «لَمْ أُرْسَلْ إِلَّا إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ»... لَيْسَ حَسَناً أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلابِ» متى 15:24-26 . وقال أيضاً يوحنا عن عيسى عليه السلام : «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ, وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» يوحنا 1:11 . فالاختصاص بعيسى جاء صريحاً لأمة اليهود. على أنَّ أمة العرب في تلك الأيام كانت جاهلية لا تعرف شيئاً عن الله ولا عن مطاليبه المقدسة, فجاء محمد صلعم بوحيٍ يناسبها, فتكلم في قرآنه المجيد بما أزال خشونتهم وألان قلوبهم وأخضع قبائلهم تحت لواء الوحدانية, بعيدين عن الإشراك والوثنية. وكم من تقي مجاهد ساجد وهاجد, قام من تلك الأمة بفضل آي القرآن. فلو لم يكن له غير هذا التأثير شاهداً بسمو مصدره الإلهي لكفى به دليلاً مفحِماً ومعجِزاً.

«ولنا أيضاً دليل آخر على إلهاميته, وهو أنه سهل الاستظهار جداً حتى أنه ليحفظه أيُّ من أراد على كثرة آياته وسوره وغموض معانيه وسمو ألفاظه, ولكنه مسكوب في قالب يُكسِب الصوت غِنّة واللسان فصاحة وبلاغة وطلاقة مع عدم لحن. تنفرج له الصدور وتتسع له قوائم القلوب, وتتقوم به منحنيات العواطف وتستقيم به منحرفات الأفكار, وتلتقي به مفترقات النيات وتطيل به العزائم القصيرة, لا يباريه كتاب آخر في العهد القديم ولا الحديث».

وهنا صفّق القوم تصفيقاً حاداً, وصرخ بعضهم: الله الله! يا سبحان الله! .

ومضى الشيخ المنفلوطي يقول: «وكل من يتأمل في مراسيم الديانة الإسلامية وطقوسها يجدها طليّة جديدة, لم تُقتبس من مراسيم الديانة الموسوية وطقوسها, بل أتت مبتكرة جديدة. وهذا أعظم دليل على الإلهام بها, ومنها حج البيت والإحرام والطواف ورمي الجمار والاعتمار والختان والاستنجاء.

هذا فضلاً عن أنَّ شريعة القرآن فيها مِن المتانة والرقة والتناسب والملاءمة ما يفوق حدّ التصور البشري, وبما لم يسبقه نظير بين شرائع الأمم. من ذلك الصلوات الخمس والأعياد والأحكام والفروض, فهذه جميعها لا تصدر من رجل أمي كمحمد صلعم . وهي دلالة واضحة على أنَّ القرآن ملهَم به من السماء من عند الله.

«زِدْ على ذلك ما هو معلوم للكل من بلاغة القرآن المعجزية إلى حدٍّ لا يباريه مبارٍ, حتى صار معجزة الإنس والجن, فلا يستطيع مخلوق أن يأتي بمثله كما ورد القول عن ذلك صريحاً في القرآن الحكيم.

«ومن تأمل القصص المنزَلة فيه والتي لم يكن لها أصل في التوراة ولا أدنى أثر في الإنجيل, يحكم لأول وهلة أنَّ ذلك إلهام الإله على رسوله الأمين. من ذلك قصة إبراهيم والنمرود الواردة في سورة الأنعام والأنبياء ومريم والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف والممتحنة وغيرها. وإلا فمِن أين جاء لمحمد العلم بما لم يقل به موسى وعيسى قبله؟ ومن ذلك قصة بلقيس ملكة سبأ التي لم يُذكر عنها في توراتهم إلا القليل. وما ورد عن هاروت وماروت وما جاء عن خوار العجل الذهبي الذي ألقاه السامري لإسرائيل, فقد ذكر القرآن أن كان له خوار وأن رجلاً سامرياً صنعه. والأمران لم تذكرهما التوراة. فكيف أمكن للرجل الأمي ذِكر هذين النبأين بدون وحيٍ إلهي عظيم؟ فانظروا كيف تسطع الأدلة الشافية بجمال الحقيقة التي تبهر عيون المنتقدين».

 

جلس الشيخ المنفلوطي بين تصفيقٍ حاد وإعجابٍ عظيم. وطال الوقت بعد جلوسه, فلم ينتصر للوجه السلبي منتصر.

وأخيراً قام الشيخ أبو المكارم الصفدي وقال:

«إنَّ المجال يا قومي حرِج جداً, ومن ذا الذي يُقدِم على الطعن في إلهامية القرآن بوجهٍ من الوجوه أو بمعنى من المعاني؟ ألا يُعدّ مارقاً خارجاً عن الدين وعدوّاً للمسلمين؟ ولربما خاف بعضنا عاقبة هذه الحال فسكتوا مرغمين. أما ونحن كمن يمتحن الذهب بالنار فإننا نعلم أنها إنما لتكسبه جلاءً وبهاءً, فلا نخشى الدخول في الميدان وتفنيد البرهان بالبرهان حتى تنجلي الحقيقة, فهي ضالتنا ننشدها في التوراة والإنجيل والقرآن. وعليه أقول والأسف ملء فؤادي إنه ليس أصعب عليّ من إثبات إلهامية القرآن. بل وإني عند استعمال العقل قليلاً يتضح لي أن القرآن على غير ما كنتُ أتمنى».

قال المنفلوطي: يا لطيف! .

فقال الصفدي: «نعم! وإني طالبٌ أن يلطف الله بعباده وينير بصائرهم فلا يُؤخذوا بمصائد الضلال وأشراك الجهالة والعناد. يكفيني يا حضرات الأماثل في تبيان ذلك تفنيد ما قال مناظري. فلقد قال:

« كان القرآن في لوح محفوظ. وهذا الدليل مأخوذٌ من أدلة اليهود, فإنهم أقاموه على صِدق توراتهم وإلهاميّتها, فقالوا إنها أُنزلت على سيدنا موسى مكتوبةً على لوحين من حجر, وأُمروا بحفظها داخل صندوق من ذهبٍ نقي في تابوتٍ من خشب السنط الموشّى بالذهب زمناً طويلاً. فإن ادّعينا بمثل دعواهم وجب أن يكون لنا من كتابنا ما كان لهم من كتابهم, بيان لمادة اللوح ومحل حفظه, وإلا فالبرهان مأخوذ مما جاء في التوراة بسفر الخروج 25:10-16. زد على ذلك أنه إذا ثبتت أقدمية القرآن في لوح محفوظ منذ الأزل, كان ذلك دليلاً جديداً على أزلية التوراة والإنجيل وسَبْق أزليتهما له. وذلك جليّ من الإشارات والاقتباسات المقتبسة فيه من الإنجيل والتوراة. من ذلك قوله في سورة الأنبياء 21:105 : «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ». وهو اقتباس من سفر المزامير 37:11 في كتاب محفوظ في لوح قديم. وهذا دليلٌ على أن تلك الآية وذلك المزمور أسبق أزلية وأقدمية من القرآن الحامل ذلك الخبر. وعليه يكون دليلنا شاهداً بالفضل لكتب النصارى فضل الأسبقية والأقدمية.

«عدا ذلك فإني لا أرى أنَّ تلك الآيات التي اختصت بحفصة وزينب وغيرتهن على الرسول وغيرة الرسول على أزواجه ومنعه الصحابة عن الدخول إلى خيامه, وما كان منه مع امرأة زيد, وما يماثل ذلك من الآيات والأخبار التي لا أرى فيها أكثر من أنها رواياتٌ وأخبار عن أمور خصوصية. فكيف نعتقدها مسطورة مأثورة في اللوح المحفوظ؟ تعالى ذلك اللوح عن أن يحتوي مثل هذه الأمور.

« أما قول جنابه بأنه أُنزل في ليلة القدر, فلا أقول عنه إلا أنه لو اطلع على أقوال إخوته العلماء الذين وضعوا كتاب «أسباب النزول» لعرف أنَّ الآية المختصّة بامرأة زيد أُنزلت على النبي في يوم «تقلَّبت القلوب وتمَّ المرغوب» وأنَّ الآية المختصة بالأعمى قد أُنزلت يوم «عبس النبي وولّى وجهه» عنه. ولكل آيةٍ زمانها ومكانها, فلم ينزل القرآن في ليلة واحدة كما ادّعى صاحبي.

« ولم يكن القرآن مخبراً بما لم تخبر به التوراة والإنجيل من أمر الوحدانية التي زعم صاحبي أنها كانت مجهولة عند عرب الجاهلية, وغريب عندي أنه يقول ذلك وهو يحفظ قول النابغة الذي قاله قبل مولد محمد صلعم :

 

لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم

من الجود والأحلام غير موارب

محلتهم ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

فهؤلاء يعترفون بالإله الواحد. وكيف يصعب عليهم ذلك وقد كانت عقيدة بني إسرائيل ظاهرة مشهورة؟ ألم تكن قبيلة قريش من نسل سيدنا إسماعيل بن سيدنا إبراهيم عليهما السلام. فكيف يُقال إنَّ ذرية إبراهيم كانت تجهل أمر وحدانية الله تعالى حتى أتاها محمد صلعم فعلّمها ما لم تكن تعلم؟ إنها فرية كبرى لا تُغتفر لحضرة مناظري, فما كان له أن ينزع عن القوم ما لهم فيبخسهم حقوقهم.

«فضلاً عن أنَّ الوحدانية التي بشَّر بها موسى قومه وعيسى عصره لم تنحصر في بني إسرائيل, بل ذاع خبرها في الشام والحبشة ومصر والهند, الأمر المذكور في كتب النصارى وبالتواتر الكنسي المعروف عندهم بالتقليد, فإن الحورايين بعد بعثة عيسى قصدوا هذه البلاد وماتوا بها.

«وأما عن القصص المذكورة في القرآن وليس لها بيان شافٍ في التوراة والإنجيل, فإني أقول بكل أسف إنها يعسر فهمها إلا إذا راجعناها في أصولها اليهودية أو المسيحية, وذلك لما بها من الاقتضاب. وفوق ذلك لم ترد بالقرآن قصة إلا ولها أصل, إن لم يكن في مُنزلات القوم ففي كتبهم التاريخية».

 

فقال الشيخ ناجي: «لقد أحرجت علينا الموقف جداً يا أبا المكارم. وما كان ذلك عهدنا في مكارمكم. وكيف لا وقد ضربت على إلهامية القرآن بهذه الضربات الجارحة؟ هل أنت في ذلك تقول الحق الذي اقتنعت به, أم تقصد مغالبة النظراء في حومة الجدال؟ فإن كان على الأول فلقد خسرتك الأمة الإسلامية يا أحسن ركنٍ فيها. وإن كان على الثاني, فلقد شهدنا جميعنا بمتانة بيانك وقوة برهانك!»

 

قال أبو المكارم: «لا يا أبا علي, فإني إنما أقول الحق الصريح معتقداً بأن هذا لا يضر إسلامي, لأن الإسلام ليس هو أن أومن بإلهامية كل ما احتوى القرآن, بل أن أومن بما أمرني القرآن بالإيمان به, وذلك هو الإيمان بالله واليوم الآخِر. وما عدا ذلك فإني أعتقد في كل أمرٍ بما يناسبه. فأعتقد مثلاً في الغزوات والحروب أنها كانت لازمة لتوسيع نطاق الإسلام, وهذا شأن كل الفاتحين كنبيّنا صلعم . وأعتقد في ما يختص بتعدد الزوجات أنَّ ذلك كان لازماً في ذلك العصر لازدياد عدد المسلمين. إلا أني لا أشعر بأني ملتزم بإقامة ذلك, فأحارب وأغزو وأتزوج بأكثر من الواحدة التي أجد معها كل هناء وسلام. هذا رأيي, فإن رغبتم الإفاضة زدناكم. أو إن كنتُ قد أثقلت على أسماعكم فاغفروا لأخيكم, والسلام على مَن اتّبع الحق».

قال هذا وجلس فتحزّب المجلس أحزاباً. وقال أغلبهم: «ليتمِّمن برهانه إن كنتم في البحث مخلصين. أو إن كان قد راعكم أنَّ براهينه صدق فهل تكرهون؟ هكذا افترق النصارى فرقاً ولكنهم لكتابهم يحترمون. فما يضرنا احتكاك الفكر, فهو يولّد نوراً وهدى للناس أجمعين! وكيف نعلّم الناس بما نحن عن إثباته عاجزون؟»

فهدأ العجيج وسكن الضجيج, واستُدعي الرئيس الشيخ أبا المكارم لاستئناف البحث, فوقف وقال:

« وأما قوله إنَّ القرآن سهل الاستظهار, وإنه يُكسب الصوت غِنّة الخ الخ, فهو قول ينقصه الواقع. فقد ثبت لدينا أنه لا يحفظه إلا من انقطع لذلك منذ الحداثة, فصرف الأيام الأولى الثمينة في حفظه غيباً, وبذلك يمتنع عن تحصيل اللازم من العلوم العصرية كالرياضة والطب والحقوق.

«وبفرض صدق هذا البرهان فإنه برهان اليهود من جهة مزاميرهم, فإنهم حفظوها ويكررونها يومياً في صلواتهم. وقد أكسبت أصواتهم لعلعة ومعابدهم بهجة وبيوتهم إشراقاً لكونهم قد وقعوها على الألحان الموسيقية, فنطقت بها الآلات الشجية يترنمون بها في المعابد والبيوت بما يسحر القلوب والأفهام, ويملأ برهبة الخالق قلوب الأنام.

« أما قوله إن مراسيم الديانة الإسلامية مبتكرة وشريعة القرآن وقصصه مستجدة, فقد فاته الاطلاع على قول علماء النصرانية في ذلك, قال أحدهم إنَّ الختان كان عند الفراعنة قبل ظهور الإسلام. والإهلال والإحرام من ربع الليل الأخير حتى غروب الشمس كان معتقد الصابئة, وتقبيل الحجر كانت ولا تزال عادة الوثنيين قبل محمد صلعم . وماذا يقول مناظري لو قرأ قصة إبراهيم والنمرود في أساطير اليهود, وكذلك جاءت حكاية ملكة سبأ في ترجومهم, كما جاءت قصة هاروت وماروت في كتاب لهم اسمه «مدراش يلكوت».

«وتضيق بي فسحات صدوركم لو أني أخذت في البحث عن غير ما ذكر كقوله في سورة الأعراف 7:171 : «وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ» وأريتكم أنَّ هذه حكاية قديمة للهنود مع إلههم كرشنة الذي خوفاً عليهم من ريح عاصف, رفع فوقهم جبلاً وعلّقهم به سبعة أيام وسبع ليال!»

 

فصرخ الشيخ المنفلوطي: «يا عباد الله, أما كفى؟» وصرخ معه كثيرون, فجلس أبو المكارم ووقف الشيخ الهريدي وقال: «والله لقد ضاق صدري وضاع صبري واحترت في أمري, وأعجب كيف سكت علماؤنا ومشايخ طرقنا كل هذه الأجيال دون أن يتمكنوا من الرد على هذه الأقوال التي أوردها أبو المكارم! قرأها في كتبهم وأحضرها إليكم, فما كان لكم أن تصرخوا في وجهه وتقفوا في طريقه بالصراخ والعويل, بل كان لكم أن تقنعوه بالبرهان والدليل, فيُحفظ لكم ويُؤخذ عنكم من جيل لجيل. تحاولون إسكات مسلم يشحذ هممكم. فإن قصّرتم فكيف تقفون أمام أهل الكتاب لو أنهم وقفوا موقفه, وهم أصحاب البيت, وإنهم لأدرى بما نقل عنهم؟ هل نعتب على أخينا لأنه سألنا فحيَّرنا, أم نعتب على أنفسنا لأننا سُئلنا فقصرنا؟ وهل الأسهل أن نخجل الآن فنصحو غداً, أم نبقى في إهمالنا أمر البحث فنبلى بمن لا طاقة لنا معه في موقف الجدال. لقد ظلمتم الرجل, بل والله لقد ظلمتم أنفسكم. وهل يفلح الظالمون؟ انصرفوا الآن, ومن كان في نفسه شيء ضد حرية البحث لا يرجع مع الراجعين».المطارحة السادسةفي حومة الجدال

خرج الشيخ عمار والشيخ زين الدين, وقلب عمار كأنه شعلة نار, ينوء تحت همٍّ كبير. فسأله زين الدين: «ما لك يا عمار؟» أجاب: «وددت لو عرفت ذلك الرجل الضئيل لأُوقعه في جدال ثقيل». قال: «دعنا يا عمار من النصارى, فإنهم أقوى أهل الأرض برهاناً على صحة ما يعتقدون. ولو أنهم أُوتوا من تعزيز القوة الحاكمة في هذه الديار ما أُوتي المسلمون, لكشفوا النقاب وظهر منهم العجاب». فأجاب عمار: «والله لو جمعني الزمان بعالمٍ من علمائهم لأفحمته, ولم أدعه يبارحني حتى يعترف لديك بأنه مغلوب مقهور».

وبينما هما في القيل والقال لحقهما الشيخ أبو قراعة وقال: «اسرعا وتنكرا, ثم اقصدا منزل فلان إلى أن ألحقكما بمن أجده من إخوتنا العلماء». فسأل عمار: «وماذا عسى أن يكون بذاك المنزل؟» قال: «هناك ضالتنا المنشودة. أسرعا فقد حان ميعادهم. وستجدان من يفتح لكما ويقبلكما على الرحب والسعة».

 

وقف عمار وصاحبه أمام المنزل في منتصف الليل تماماً, وإذا بخادم يقول: «ليدخل الشيخ ومن معه». فدخلوا جميعاً في غرفة قُفلت حالاً بعد دخولهم, فتأملوا وإذا بمنافذها تطل على صالة رحبة أُشعل فيها البخور ولمعت المصابيح والثريات وأُعدّت المقاعد. ولم يمض إلا قليل حتىدخل ثلاثة رجال جلس كل منهم في مكان أُعدّ له, أولهم الحاخام دانيال اليهودي, والثاني الشيخ عبد الله بن أمين, والثالث الشيخ حسان اليماني, وحولهم عشرة أو تزيد بصفة شهود.

فانتصب الحاخام دانيال وقال: «الحمد لله الواحد الأحد الذي لا ثاني له ولا له ندّ, رب يعقوب وإسحاق وإبراهيم, ورب موسى الكليم. لقد حضرت حسب الوعد في هذا المقام للبحث حسب طلبكم في أيِّ الأنبياء فاز بالإكرام المفرد, وخصّه الرحمن بالمقام الأوحد. وحيث أنَّ أشهر الملل المعترِفة بوجود الله عز وجل هي اليهودية والمسيحية والإسلام, وحيث أنكم أعطيتمونا هذه الفرصة لتفخر كل أمة بنبيِّها, وحيث أنَّ اليهودية أسبق من غيرها, فواجب عليّ أن أقوم أولاً بما عليّ, فأقول:

«اليهود هم سلالة إبراهيم الخليل. وهو الفريد الذي أفرزه الله من العالمين قديماً. وكما أفرز نوحاً قبله وأهلك الباقي بطوفان الماء, كذلك أفرز سيدنا إبراهيم وأغرق بقية العالم بطوفان الجهالة والكفر. وهذا هو الشخص الوحيد الذي دعاه الله خليله, ودعاه أيضاً أباً لكل المؤمنين. ترك الوطن والمال ورحل بوالديه وظل غريباً ووقعت له وقائع جمة بين الملوك فنصره الرب وأنقذه, وأرعب خصومه وحوّل قلوبهم إليه, فعرفوه أنه سيد الأنبياء وأفضل الصالحين, فطلبوا إليه أن يصلي من أجلهم, فصلى وأكرمه الله بإجابة ما طلب.

«ومشرّعنا هو سيدنا موسى الذي لم يقم لأمة نبي مثله. كان يخاطبه الرحمن كما يخاطب الرجل قرينه, وأما بقية الأنبياء والصالحين السابقين واللاحقين فكانت الإرادة الإلهية تأتيهم عن طريق الرؤى والأحلام كما ورد في التوراة.

«هذه هي الأمة التي فداها الرب بكل ساكني كنعان, والتي لأجلها أغرق المصريين في البحر الأحمر, وظللها بالسحاب أثناء سيرها نهاراً, وأنار أمام خيامها بعمود نارٍ لدى استقرارها ليلاً. وهي المتمتعة برعاية الرب وعنايته, ولا تزال كذلك حتى تتم أقوال أنبيائها بإتيان ابن إبراهيم وابن داود ومثيل موسى ونظير ملكي صادق: مسيا المنتظَر الذي عند مجيئه تلتفّ حوله أمته المحبوبة, فيُخضِع الممالك والدول تحت قدميها ويجعل من أبنائها ملوكاً وسلاطين في أنحاء المشرقين, وتخفق الرايات والأعلام اليهودية فوق أصقاع المسكونة, وتجثو كل ركبة ويخضع كل رأس عند موطئ قدمي مسيا الآتي الذي هو فخر الأمة ومجدها. وعند مجيئه الثاني تعلم السماء وتشهدالأرض أن لا أمة إلا أمته التي منها أتى وفيها رُبيّ. وكفانا فخراً بأبينا ونبيِّنا قديماً, وبابننا المسيا المنتظر. فنحن تاج الخليقة ومجدها وخلاصتها ومختاروها, قديماً وحاضراً ومستقبلاً.

«ولقد تزوج إبراهيم زوجات كثيرات, وله منهن أنسال, ولكن لم يختص بالوعد إلا إسحاق ابن سارة الرئيسة على الجميع, كما هو معنى ومدلول اسم سارة بلغتنا العبرانية. وكما كانت أم إسحاق رئيسة الجميع كان ابنها رئيس أنساله بمن فيهم إسماعيل وغيره. ومن إسحاق اختص الله بالوعد يعقوب دون عيسو أخيه. فالوعد بظهور مشتهى الخليقة الوحيد بين الكائنات والرفيع الدرجات عمانوئيل مسيا, آتياً من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. فإن وُجدت أمة شريفة على الأرض فهي أمتنا. وإن نبغ ذو اسمٍ عظيم فهو من أفرادها. وكيف لا تكون هامة الأمم أمتنا اليهودية, وإبراهيم وإسحاق ويعقوب آباؤها, ثم موسى ويشوع وصموئيل تقاتها, ثم داود وسليمان ملوكها, ثم إيليا وإشعياء ودانيال أنبياؤها, ثم المسيا ابنها وسيد الخليقة المنتظَر. بهذا ليفتخر المفتخر وينال الفوز على غريمه في الظلام الحالك!»

 

جلس الحاخام وجاء دور الشيخ عبد الله بن أمين المسيحي, فوقف وقال:

«أُصادق تمام المصادقة على ما قاله جناب الحاخام دانيال, فإن الشرف كل الشرف لأبناء إبراهيم وأمة إسرائيل, الباقين على إيمان أبيهم إبراهيم. ولكن بركة إبراهيم لا تصل من إبراهيم لكل أولاده, فإنها لم تصل إلا إلى نسل إسحاق, لأنه كان في طاعة أبيه. أما إخوته الذين خرجوا عنه فحُرموا من تلك البركة. كذلك أيضاً لا تصل البركة لكل أفراد نسل إسحاق فتشمل الفاسقين والسكيرين منهم, بل تشمل فقط كل من سار على مثال إبراهيم ولو كان من غير نسل إبراهيم, فإن الله ليس بظلاّم للعبيد. وقد شهد تاريخ الجبعونيين الذين هم ليسوا من إسرائيل, أنهم بانتمائهم إلى إسرائيل حفظهم الرب وباركهم وانتصر لظلامتهم من ظالميهم, بينما دفع المردة والأشرار من نسل إبراهيم للحيات في القفر فأهلكتهم, كما ورد مفصَّلاً في توراتهم. فالعمدة في الفخر ليس لأمة إبراهيم من نسله بل من إيمانه, وهذه أكبر مكرُمة للخليل من الله أن جعله أباً لجماهير كثيرة من غير نسله, كما هو مدلول, ومعنى اسمه في العبرانية.

«وهناك فرقٌ بيننا أيضاً في نقطةٍ أخرى, أنه ينتظر المسيا الذي هو المسيح, الرأس الجديد للعصر الجديد. ولكن قد جاء المسيح حبيب الله وابنه وكلمته وروحه. وكفى المسيحية فخراً أنها موضوعة من المسيح الذي لم يكن من أب بشري كإبراهيم وموسى وداود, ولكن من روح الله.

«وقد فاق المسيح في أخلاقه عن إبراهيم الذي ذكرت له التوراة أنه كذب يوم سَلبه الكنعاني زوجته سفر التكوين 20 والذي لم يَعُفّ نفسه بل أكثر من الزوجات بالتتابع, فلم يكن كالمسيح الذي لم يخطئ قط ولا حدّثته نفسه بهوى بِكرٍ ولا بعِشق حسناء ولا باغتصاب ربيبة, ولم يتشبّب بولدان ولا بحور, ولم يدنس شفتيه بلفظٍ قبيح, بل كان طاهر اللسان ثابت الجنان, لم يصبه صرعٌ ولا مسَّه جنون, ولا سحره مشعوذ, ولا احتاج إلى الرُّقى فرقاه الرّاقون, بل زجر الشيطان وفتح أعين العميان وشفى المرضى وأقام الموتى, وقال للشيء كن فكان.

«بمن يا ابن إبراهيم تُشبّه هذا الفرد الذي أصبح بلا ندّ؟ ألست ترى أنه وإن كان داود أباه, لكنه دعاه ربَّه في سفر المزامير 110 ؟ هو صاحب الإنجيل الذي لا تجد به كلمة تُعجِز قارئها ولا جملة مطلسمة. فمعانيه من أشهى وأشهر ما جاء في كل لغة, وحكمته وفلسفته فاقتا نور كل شريعة. فأنت تذكر يا ابن إبراهيم أن مشرّعكم موسى في الخروج 21:24 قال: «عَيْناً بِعَيْنٍ, وَسِنّاً بِسِنّ» وقال محمد: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ» سورة البقرة 2:194 . أما المسيح فهو القائل: «مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضاًَ, وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ» متى 5:38-42 . وهو صاحب القول المأثور: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ, وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» متى 5:44 ».

ثم رفع الشيخ عبد الله بن أمين نظره إلى السماء وقال بصوت عظيم: «بمن يمثّلونك يا عديم المثال, ويا روح الكمال, ويا ذا العظمة والجلال, والهيبة والإجلال, وأنت وليّي أيها الرب المتعال».

 

وبعد بضع دقائق وقف الشيخ اليماني وقال:

«لقد مضى الليل والجسم في حاجةٍ إلى الراحة, وإن شئتم فاضربوا لنا موعداً نجتمع فيه لاستيفاء المناظرة». فهبّ رئيس الحفلة وقال: «ما كان لك أن تتنصّل يا زعيم المحمدية بحجة طلب الراحة. وهَبْ أننا أجبناك إلى طلبك فهل يرتاح فؤادك بقية هذا الليل بعد الذي جاءك بهذا الكيل؟». أجابه اليماني: «هذا الذي عليه أصررت ونويت, وسيان عندي حكيت وما حكيت».

وما أن سمع الشيخ عمار كلام صاحبه حتى صرخ: «لقد فاز بطل المسيحية عليهما فوزاً مبيناً». ثم سقط الشيخ عمار بين أيدينا مغشياً عليه, فعالجناه حتى أفاق, فنهضنا به وخرجنا. وعند الباب علمنا أنَّ المتناظرين الثلاثة اتفقوا على الاجتماع بغروب الليلة التالية.

قصدنا أن نسير بالشيخ عمار إلى بيته, فقال: «لا والله بل إلى بيت الشيخ اليماني». فسدّدنا الخُطى نحو رحابه, فاندفع عمار يقول: «كيف لم تنصفنا مع المسيحي, وكلامك اليوم يدور على ألسنة الكتَّاب والمتكلمين من بني الإسلام؟ لماذا لم تذكر تلك المناقضات والتحريفات التي هاجمتَ بها الإنجيل والتوراة؟»

فسرّح اليماني في ذقنه وقال: «إليكم عني, فإني أدرَى الناس بما قلتُ من الشبهات والمناقضات. فوالله ما ندمت على شيءٍ أتيتُه في حياتي ندمي عليها, فقد أثرتُ بها النصارى فانتقدوا القرآن كما انتقدنا كتبهم وعابوه كما عبناها, إلى درجة لم يستطع أحدٌ من علمائنا الرد عليهم. ألم تسمعوا ما غصّصني به المسيحي وهو يناضل اليهودي؟ فماذا تكون حججه عندما أُحرجه لمناضلتي؟».

قال الشيخ عمار: «لا كان هذا اليوم ولا كان هذا الكلام! لقد ضاق به صدري وحرت في أمري. ألم يكن في وسعك مجادلته وإفحامه من جهة حقارة نبيهم إلى حدّ أنهم قالوا بقتله فقتلوه؟»

قال اليماني: «بماذا أناضله يا عمار, وهو يعلم عن نبيّنا أنه كان رجلاً أمياً, وأعلم عن نبيه أنه كنز العرفان. هو يعلم عن نبيّنا أنه ابن عبد الله, وأعلم عن نبيّهم أنه كلمة الله بل روح الله. وهو يعلم عن نبيّنا غيرته على النساء, وأعلم عن نبيّهم عفته مع وجود المريمات وهن جميلات اليهود, تجرّأت إحداهن عليه فدهنت بالطيب رأسه وقدميه وانكبّت على قدميه تقبلهما وتمسحهما بشعرها, وهو لم تحدّثه نفسه بسوء من نحوها.

«هل أناضله بأقوال الشعراء وقصائد البلغاء, وهل ذلك يضمن لي الفوز على خصم لا يعتمد إلا على شهادة الدليل الصادق والواقع؟

«هل يمكنني الحصول على شهادةٍ أو نبوّة صدرت من أحد الأنبياء السالفين يتعزّز بها جانب نبيّ المسلمين, بينما يمكن خصمي أن يُغرِقني تحت سحابة شهود يتكلم بعضهم عن شخص نبيهم والآخر عن حالة معيشته والآخر عن شريعته وتعاليمه وآخر عن آدابه وآخر عن موته وعن محل دفنه وعن قيامته؟

«دعوني دعوني, فإني أعرف من قوة خصمي ما لا تعرفون. قوة حجة, وكثرة شهود, وأنا ليس لي إلا ما أختلقه وأحرّفه, وأصوّره وأتّهمهم به, وليس لديّ ما يؤيد ما أريد إيقاعهم فيه... آه... قلبي... قلبي يتقطع... لست مسلماً... ولا أريد أن أكون مسيحياً... ولكن أريد نكاية النصارى».

فقلت له: «ولكنهم ينتظرونك في غروب اليوم المقبل حسب وعدك». أجاب: «إن ليوم القيامة ميعاد».المطارحة السابعةمقام المسيح في القرآن

خرج الشيخ عمار من دار الشيخ اليماني مسرعاً إلى دار الشيخ أبو قراعة. وبعد التحية قال له: أريد أن نتطارح مرة في مقام المسيح أدبياً وإلهياً, وتكون أنت رئيس الحفلة. ولتكن آية المطارحة من سورة النساء 4:171 : «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهِ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً».

واتفق المتناظرون أن يلتقوا بعد يومين. وفي الموعد المحدد تربّع أبو قراعة في صدر المكان, وقال:

«بسم الله الرحمن الرحيم. هذا وقت الكلام عما صرَّحَت به هذه الآية لعيسى من المقام».

 

وما أن جاء على الكلمة الأخيرة حتى هبَّ الشيخ عمار هبوب العاصفة ساعة الأمطار, وقال:

« لقد صرَّحت آية القرآن أن عيسى ما هو إلا رسول الله, فلا مميِّز له عن غيره إلا بامتياز رسالته وحالة عصره. وتلك خصوصيات, لكل رسولٍ نصيبه منها.

« قد أثبتت الآية عنه أنه مخلوق بأمره تعالى وذلك بدليل قوله «وكلمته ألقاها إلى مريم» أي أنه سبحانه وتعالى قال: ليكن عيسى مِن مريم بنت عمران, فكان منها بدون أن يمسّها إنسٌ ولا جان. ومثله في ذلك مثل آدم, إذ قبض الرحمنُ قبضةً من التراب وقال: ليكن منها آدم, فكان كما بيّنه القرآن. وعلى ذلك فلا فضل لعيسى, إنما الفضل لآدم بالأسبقية عليه لأن «الفضل للمتقدّم».

« أثبتت الآية أن عيسى مأمورٌ ومكلّف بما قال. وهذا معنى قوله «وروحٌ منه» أي أنه نفخ فيه من روحه, فهو رسولٌ بما أمره به. والمعنى أنه لا فخر له في ما فعله مما يفتخر به المفتخرون, لأنه لم يكن من عندياته بل كان مما أؤتمن عليه. ولا فخر له أنه قام أميناً وتمم ما أُرسل لتنفيذه, فهكذا كان كل رسول قبله أميناً في ما عُهد إليه.

« تطلب الآية منّا أن نؤمن بعيسى كرسولٍ فقط, لا أكثر من ذلك, بدليل قوله: «فآمِنوا بالله ورسُله». والذين يقولون غير ذلك إنما يقولون بما لم يقُل به المولى, فهم أفاكون مختلفون ومضلون.

« والآية أيضاً تنفي لاهوت عيسى بقولها «ولا تقولوا ثلاثة» أي ثلاثة آلهة, فإن القائلين بذلك كافرون مردة ظالمون, جنوا على أنفسهم وعلى العالم جناية لا تُغتفر.

« أثبتت الآية تبرّؤ الرحمن من أن يكون له ولد. وتقول سورة الجن 72:3 : «أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً». والنصارى يدعون عيسى ابن الله. يقولون ذلك ولا يخشون لوماً ولا توبيخاً.

« فليس في الآية على ما أرى وما رأيتم شيئاً من المميّزات لمقام عيسى عن غيره من الرسل. وكل ما قيل هنا عنه يصح أن يُقال عن كل رسولٍ سواه. فكلهم مأمورون بما عندهم, ومصوَّرون في الأرحام بقدرة الرحمن, ومكلَّفون بتأدية واجب لا مهرب لهم من إتمامه».

 

فوقف الشيخ الصفدي, وبعد أن أذن له الرئيس اندفع يقول:

«إن كانت آيةٌ في قرآننا تقارب آيات الإنجيل في ألفاظها ومعانيها فليس غير هذه الآية, حتى يُخال للمطالع أنها مقتبسة من الإنجيل! فالإنجيل يقول: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ, وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ, وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله» يوحنا 1:1 والتوراة تقول: «وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ» إشعياء 42:1 . وبعد ذلك ينكر أن تسمية عيسى بروح الله وكلمة الله مقتبسة من التوراة والإنجيل, وأنها ليست من مبتكرات القرآن؟

«وهل هذه الآية هي كل ما قاله القرآن في تبيان مقام عيسى؟ ألم يقل في سورة المؤمنون 23:50 : «وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ». أتنسون ما ورد في سورة المائدة 5:110 : «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي» وغيرها وغيرها مما لا يسعني المقام ذكره.

وملخص هذه الأقوال: إن عيسى كلمة الله إنه روح الله بحكم آية النساء وإنه المؤيَّد بالروح القدس وإنه الجامع الشارح للكتب المنزلة من توراةٍ وإنجيل وإنه الخالق بإذن الله من الطين طيراً وإنه المقيم الموتى من قبورهم وإنه المبرئ ذوي الأدواء من عاهاتهم وآفاتهم وإنه آية الآيات بحكم سورة المؤمنون وإنه الوجيه في الدنيا وفي الآخِرة ومن المقرَّبين وإنه المكمَّل فيه ملء الصلاح من مهده إلى بعثه.

«عودوا معي إلى القول «إنَّ عيسى كلمة الله» ومعناها حسب رأي سابقي أنَّ الرحمن قال بوجوده فكان له الوجود. ومَن مِن الإنس والجن لم تصدر في حق كيانه لفظة كن فكان. أليس أنَّ العزيز الحكيم قال عن كل كائن في السماء والأرض والهواء والبحر كن فكان؟ فإن كان هذا المعنى هو المقصود, فلماذا اختص الله عيسى بتوجيه هذه الكلمة إليه, فقال إنه كلمة الله وإنَّ الخليقة كلها ما خُلقت إلا بهذه الكلمة عينها؟

«ألا تتضمَّن تسمية عيسى «كلمة الله» مميزاً لم يتميز به غيره. هل يتصوّر الجنين ببطن أمه بدون أن يقول له القدير العظيم كن فيكون؟ فلماذا إذاً لم يُدع الخضر ويونس ومحمد عليهم السلام بمثل ما دُعي به عيسى «كلمة الله»؟ هذه التسمية غريبة في بابها, وقد تواترت إلى القرآن عن التوراة والإنجيل لأنها مقتبَسة منهما. أفلا يضطرنا الإنصاف أن نقتبس المعنى الذي اقتبسناه من محله؟ أيجوز أن نقتبس كلاماً ونُلبِسه معنى غير ما وُضع إليه في محله؟ هل إن فعل النصارى ما أنتم تفعلون, فاقتبسوا من القرآن جملة ثم فسَّروها كما تشاء أهواؤهم, ضاربين بتفسير علمائنا: أنرضى بذلك, أم نلزمهم بمعنى ما اقتبسوا لفظه؟ لقد قال الإنجيل جملةً فأخذ القرآن نصفها وترك النصف الآخر. وجملة الإنجيل تقول: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ, وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ, وَكَانَ الْكَلِمَةُ الله. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» يوحنا 1:1و2 . فهو يتكلم لا عن عيسى المولود من مريم, بل عن عيسى قبل ولادته وقبل ولادة أمه, بل وقبل ولادة آدم, إذ قال: «هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» أي أنَّ هذا المسمَّى كلمة الله كما اقتبسه قرآننا, والذي هو الله بحسب نص كتابهم, هذا كان في البدء منذ الأزل عند الله. كان عيسى قائماً منذ البدء ككلمة الله, بل كالله نفسه. وهذا قول المسيحية وعلمائها. فلزمنا ونحن نقتبس هذه التسمية من موضعها أن نقتبس المعنى أيضاً الذي وُضعت لأجله, فلسنا بعد أحراراً نفسرها كيف شئنا, لأنها مما لم يقع تحت تصرفنا, بل وقعت تحت تصرف سوانا قبل ظهور قرآننا بستماية عام, وقبل أن يكون له رأي فيها».

 

قال الشيخ بدر: «أصبت والله وأنصفت!» فكبُر الأمر على الشيخ عمار البرديسي فصرخ: «ألا من نهاية لهذه السفسطة؟» فنهض الشيخ بدر قائلاً: «لننتظر حتى يتمم الشيخ الصفدي كلامه. وما كان للعلماء أن يقاطعوا حديث بعضهم». فاعتذر الشيخ عمار. وعند ذلك استأنف الصفدي الكلام:

«أما القول إنَّ عيسى كان مكلَّفاً ومأموراً بما أتاه وفعَله فلا فضل له, فتسليمنا بذلك لا يمنعنا من الاعتراف بعظمة ما أُمر به وتكلّفه. فلقد كان ما عُهد إليه أعظم مما عُهد إلى أي نبي آخر من الأنبياء, فإن قرآننا الكريم لم يعترف لغيره بما أتاه من إقامة الموتى وإبراء المرضى وخلق الطيور. وعليه فيقوم البرهان بسمو امتياز مقام عيسى لسمو عمله ومزاياه التي منها أنه كلم الناس في المهد, الأمر الذي لم يُسمع في حق أحد غيره. لقد قالت الكتب عن كل نبي إنه كان رسول قومه يدعوهم إلى التوبة, وأما كتاب عيسى فإنه قال إنه هو الذي أحب قومه وبذل نفسه عنهم, وهو عمل لم يذكره نبي لنفسه غيره. وجاء بالتوراة وصف هذا العمل الخطير, فصوّر المسيح بصورة الحمل الموضوع عليه خطايا قومه, المذبوح للتكفير عن خطاياهم. أمور لم تسمعها الأكوان من أنبيائها, فكيف لا نعترف بالأفضلية بعمل عيسى ونشهد بالتفوق له على أعمال من سواه من النبيين. وأما القول إن النصارى قالوا إن الله اتخذ زوجة وولداً فهو قول لم يُسمع لا من سَفَلتهم ولا جَهَلتهم, فكيف يصدر من علمائهم؟

«وأما القول إنهم يقولون بثلاثة آلهة فهذه فرية كبرى, لأن النصارى لا يقولون بثلاثة آلهة بل بإله واحد في ثلاثة أقانيم, أو ثلاثة أقانيم في إله واحد, فهم موحِّدون كما نحن. بل أعتقد أنهم أقرب إلى الوحدانية من المسلمين».

قال المنفلوطي: «أبداً! لا والله أبداً!».

قال الشيخ الصفدي: «مهلاً, فأشرح عقيدة القوم في الأقانيم الثلاثة. ذلك أن البسملة عندهم هي «باسم الآب والابن والروح القدس إله واحد» فهم يعتقدون في ذلك الإله الواحد ثلاثة أشخاص: أب وابن وروح القدس. سألتُهم كيف ذلك؟»

قال الدمنهوري: «وبمَ أجابوك يا أبا أحمد؟»

قال: «لقد أسكتوني بما أجابوا. سألوني: وأنتم بِمَ تعتقدون في الذات الإلهية؟ قلتُ: نشهد أنَّ الله واحد أحد. قالوا: إنَّ تعريف الواحد عند أرباب اللغة هو ما تركب من أجزاء, فإن كان الله واحداً فما هي أجزاء ذلك الواحد؟ قلتُ: إنَّ الله واحد لا جزء له. فسألوني: بماذا تمثّل لنا ذلك لتقبله عقولنا؟ أجبتُ: إنه واحد لا مثيل له. قالوا: وكيف ذلك؟ قلت: لا يُقال له كيف ولا لماذا؟ قالوا: وكيف اقتنعتم بما لا تعقلون؟ قلت: هكذا جاء في القرآن الكريم: «قل هو الله أحد». قالوا إذاً حجتكم هي الرجوع إلى الوحي والاعتصام به. قلت: نعم. قالوا: تلك حجتنا في الثلاثة, فقد جاء في الإنجيل أنه يوم معمودية المسيح: «فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ, وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ, فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلاً مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِياً عَلَيْهِ, وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» متى 3:16-17 . قلت إن كان الأمر كذلك فأنتم معذورون في اعتقادكم عذرنا في اعتقادنا, وليوم القيامة ميعاد... وفوق ما ذكر علمت أنهم لا يقولون بولادة عيسى من الله كما نقول نحن بولادة الفرع من الأصل, بل إن الابن عندهم من جهة الأقنومية موجود كائن عند الله. أما من حيث جسده فهو مولود من بطن مريم, غير مخلوق لسَبْق وجوده عليها قبل الحلول في بطنها... هذا هو عيسى العجيب كما شهد عنه نبي التوراة إشعياء,حيث دعاه عجيباً, وهو شخص في الإله الواحد, واسمه كلمة الله موجود قبل ولادته, وهو رسول الرحمة والخلاص اسمه عيسى أي مخلص العالم, عليه أفضل الصلاة وأذكى التحية والسلام. هذا مجمل ما رأيت وبه اكتفيت, والله الهادي إلى الصواب».

 

قال الرئيس: «ما رأي العلماء في ما سمعوه؟»

أجاب الشيخ بدر: «إني مصادقٌ على قول أبي القاسم». وكذلك قال الدمنهوري والإسناوي والمنفلوطي والأصوانلي والهريدي والمغربي. قال الرئيس: «وإني أيضاً مؤمّن على ما قيل ومؤمن به».

وسأل عمار: «أوَأنت أيضاً تصادق على امتياز عيسى عن النبيين يا أبا قراعة؟» قال: «نعم. لأني لست أكبر من الحق. لقد شهدَت مُحْكمات القرآن صريحاً لا تلميحاً أن المسيح آية الآيات. لقد كان آيةً في ولادته من غير زرع, وكيانه من غير وضع, وفي تسميته كلمة الله وروح منه, الأمر المثبت له الأزلية كما نصت عليه كتب المسيحية. انظروا كيف يكرمه علماؤنا, فقد قال الإمام الرازي إنَّ عيسى هو «واهب الحياة للعالم في أديانهم» وقال الإمام البيضاوي: «فيه روحٌ صادرةٌ من الله رأساً بلا وساطةِ وسيطٍ في الأصل والجوهر». نعم هو آية الآيات في شرعه, فإنه مما لا طاقة للطبيعة البشرية لاشتراعه. لقد أباح هارون لقومه عبادة العجل, وأباح موسى لقومه حرفية العدل, وأما عيسى المسيح فشريعته الكمال في الفضل. وهو آية الآيات في عبادته, فلم يدفع الناس إلى عبادة الخالق حباً في مأكل أو ملبس أو لذة أخرى, بل تفوّق على من سواه داعياً الناس إلى العبادة في طريق المحبة لله الذي أحبهم. فله المقام الأسمى والمركز الأبهى. بهذا شهد الرحمن ونطق القرآن, والعاقل من خضع للحقيقة فقبلها, لا مَن تجاهلها وقاومها».

ثم قاموا وانصرفوا.الخاتمة

مضى ردح من الزمان بعد تلك المطارحات الماضية ولم يُسمع شيء عن أصحابها, فقام في نفسي أن أبحث الأمر لاستجلاء النتيجة التي وصلوا إليها بعد ذلك. وكم كان سروري عظيماً عندما علمتُ أنَّ القوم يقرأون الإنجيل ويسألون معلّمي المسيحية عما تعسَّر عليهم فهمه. وإنهم في آخر اجتماع لهم وقف بهم الشيخ بدر السنوسي وقال: «لقد انبلج صبح الحقيقة, فماذا أنتم فاعلون؟» أجاب الشيخ الهريدي: «إننا لا مسلمون ولا مسيحيون. فالأجدر بنا أن نقف على أحد الشاطئين, ونقول بإحدى العقيدتين». وبعد المداولة طويلاً أجمع رأيهم على الاعتراف بالمسيحية جهاراً والسعي لقبول علامة المعمودية ختماً لإيمانهم. وفي هذه الأثناء دخل الشيخ عبد الله بن أمين المسيحي, فأخبروه بما عقدوا عليه العزيمة, وطلبوا أن يتكلم بما حضره في هذا الموضوع فقال:

 

«لقد ظهرت لكم حقيقة الخلاص, وعلمتم سيادة الخطية على البشر, وتأكدتم أنَّ سيدنا المسيح هو فادي الخطاة, فأردتم الاعتراف بذلك لراحة ضمائركم. إلا أنَّ ذلك ليس كل المطلوب, بل بقي شيء آخر أساسي, هو الشعور بضرورة تخصيص هذا العمل الخلاصي العمومي ليكون شخصياً لكل فردٍ منكم. نعم إنَّ الإيمان بالمسيح ومعرفة شخصه ووظائفه والاعتراف بكل ذلك واجب, ولكن يعوزكم شيء آخر وهو أن تكون لكم شركة عملية مع المسيح واتحاد حقيقي به, بحيث تحيون بحياته وتتحركون بقوته, فتُظهرون سمو شخصه في معيشتكم, وقداسة شرعه في تصرفكم, وطهارة إنجيله في معاملتكم, وسلطة روحه القدوس وقدرته في أخلاقكم. تعترفون وتعتمدون باسم المسيح النبي - فهل امتلأتم من روح نبوّته وتعليمه؟ وباسم المسيح الكاهن - فهل استفدتم من ذبيحته الكفارية؟ وباسم المسيح الملك - فهل أنتم من جنوده المدافعين عن مسيحيته؟ إنَّ المسيحية يا قوم لا تقوم بحفظ آيات الإنجيل ولا بترتيلها بكرة وأصيلاً, بل تقوم بالانتصار على عاداتنا وأهوائنا وتغييرها بما هو حسن ونافع».

فشكره القوم على هذا البيان وقالوا: «إننا نثق بنعمة الله لتقويتنا, ونطمع برحمته لإعانتنا, ونتكل على تأييد روحه القدوس بنيّاتنا في ما فيه مجد اسمه وخلاص نفوسنا. والآن نلتمس ونطلب منك أن تحمل رسالتنا هذه الى راعي الكنيسة, وطمعنا إجابة ملتمسنا وهو تعميدنا».

بزغت شمس الأحد وكان الطقس جميلاً. ومن حُسن الاتفاق أنَّ ذلك اليوم كان موعد تعميد رجل آمن بالمسيح وطلب العماد. دخل المشايخ الكنيسة فوجدوا الرجل قائماً أمام المعمودية يسأله الراعي: «لماذا تطلب أن تتعمد يا أحمد؟» فأجابه: «لأني أعتقد أني بالمعمودية أشهد بالتصاقي مع المسيح الذي أشهد السماء والأرض يوم صليبه بحبه لي وفدائه إيّاي. أحب أن تعرفني الخلائق كلها عبداً لحبه, أسيراً لشرعه, مديناً لفضله. أحب يسوع. نعم أحبه وأومن به وأحترم شخصه وأقدس قوله وأعيش بروحه, وبغير ذلك لا راحة لي لا في الليل ولا في النهار, ولذلك جئتك راجياً قبولي وتعميدي باسمه».

فرفع الراعي يديه إلى السماء وقال: «اللهم, أنت الذي أطلقت لسان هذا الرجل فاعترف بهذه الأقوال الثمينة والعظيمة, وما ذلك إلا عمل نعمتك في قلوب الذين تُنعِم عليهم بنورك الحقيقي فيرون ما لا يراه سواهم, وتمتلئ من الحب ليسوع والثقة به والاتكال عليه. فبارِكه يا رب وعمِّده بروحك القدوس حينما أعمده بالماء, وليكن شجرةً مثمرة في بيتك لمجد اسمك وحمدك. آمين». ثم قال: «يا أحمد, أعمدك باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد. آمين». فقالت الجماعة: «نعم آمين». ثم صعد الراعي إلى المنبر ليشرح فكرة المعمودية. وكان المشايخ معجبين جداً مما فاه به الرجل المعمَّد, وأدركوا أن محبة الله هي التي ملأت قلبه, ونعمة الله هي التي أطلقت لسانه, فنطق بما يصعب على الحكماء إتيانه. إلا أنهم لم يلبثوا حتى استلفت الواعظ أنظارهم الى كلامه إذ قال: «أما المعمودية فقد وضعها الله في كنيسته علامةً لفرز شعبه عن العالم وتخصيصهم له. ظاهرها الماء وباطنها انسكاب الروح القدس على المتعمّدين, وهي العلامة المميّزة للمسيحي عن غير المسيحي, كما كان الختان قديماً يميز الإسرائيلي من غير الإسرائيلي. وقد حلّت المعمودية محل الختان لإظهار أن المتعمدين هم الأمة المقدسة والشعب المقتنَى. أما موضوعها فهو الاعتراف بالإيمان بالمسيح المخلِّص, إنه مات عن الخطية وقام للحياة القدسية. فكل الذين يقبلون صبغة المعمودية يصيرون تحت مسؤولية عظمى للمسيح وحقِّه. أما المسؤولية فهي التي تُلزمهم أن ينكِروا أهواءهم ويُظهِروا طبيعة المسيح, فيتخلّقوا بأخلاقه ويمتلئوا بروحه حتى يكون المعترِف به حاملاً صورته. وهذا هو سر المعمودية وجوهرها العظيم: يخرج المعمَّد من المعمودية حائزاً قلباً جديداً وروحاً جديدة. وهذه الجِدَّة لا تأتي عن ماء المعمودية بل عن عمل الروح القدس المطهِّر, حتى إنَّ مَن لم تظهر عليه سمات الجِدَّة في أخلاقه وعاداته بعد المعمودية يصير أشرّ مِن غير المتعمِّد دنيا وآخِرة.

«أما المسؤولية لِحَقّ المسيح فمعناها مسؤوليتهم للعالم الذي لا يعرف للمسيح حقاً إلا بواسطتهم, ولا يتم إصلاحه إلا بظهور حق المسيح لتقويم المعوجات وإصلاح الفاسد. فأصبح من المحتّم على المتعمِّدين أن يحملوا صورة المسيح وينادوا بخلاصه, وأن يؤدوا هذه الخدمة للعالم مقيمين حدود إنجيله, وإلا فقد أساءوا إلى العالم فوق إساءتهم إلى مَن أقامهم لهذا الغرض. ولا ينحصِر ظهور سرّ المعمودية ساعة اعتراف المتعمّد وتعميده, ولكنه يملأ حياته فيظهر في كل حركة وسكنة كل أيام حياته. لقد كفر الذين يزعمون أن المسألة كلها قاصرة على الاعتراف والعماد دون أن تكون حياتهم مظهراً لظهور نتائج معموديتهم من أعمال الحب العظيم بمن اعتمدوا باسمه والالتصاق الكامل به والطاعة لشرعه, بحيث تكون حياتهم بعد عهد المعمودية كحياة العروسين بعد عهدهما الذي قطعاه ليلة القِران, بأن يكون كل منهما مُحباً وأميناً للآخر. فكلما مرت دقيقة أو ساعة بعد ذلك سعى الواحد لإرضاء الآخر وإظهار ما به, ليبرّر عهده ويبرّ بوعده. وإلا فإن ظهر في حياتهما غير ذلك فقد صار عهدهما ليلة القِران لغواً عاطلاً وإثماً وباطلاً».

 

وقف الشيخ أبو المكارم الصفدي وقال: «إني يا حضرة الراعي أُشهد الله وأُشهدكم بأني قبلت السيد المسيح ابن الله فادياً ومخلِّصاً لي مما أنا مثقَّل به من الخطايا الثقيلة ومن جرمها الهائل. أموت معه عن كل دنسٍ وفجور, وأقوم معه لأحيا بل ليحيا هو فيّ, فأفرح وأتمتع بنعمة خلاصه المجاني الذي وهبه إحساناً منه, وواعداً أن أنال ختم إيماني بتعميدي باسمه الكريم».

وحالما جلس قام الشيخ بدر, وبعده الشيخ طاهر, وهكذا إلى آخر واحدٍ منهم, وكلٌّ يقول مؤمِّناً على ما قاله أخوه, ويختم بطلب العماد. فلما سمع الراعي هذه التعهدات وهذه الاعترافات شخَص إلى السماء وقال: «أيها الإله العظيم, وازن أرواح البشر والرقيب على أفعالهم, نشكرك على الفتح المبين الذي فتحت به على هؤلاء الإخوة المحبوبين, ونشكرك يا من شرحت صدورهم ونقلت أوزارهم, وهديتهم إلى نورك وحقك. بارِكهم بحقك, واحمِهم بظلك, واجذبهم إلى نفسك هم وأزواجهم وبنيهم وبناتهم, وأشرِق على قلوبهم بنور حنانك, فيزدادوا بك رجاءً وإليك انتماءً والتجاءً. عوِّض عليهم أضعاف ما تركوه رغماً واختياراً واسبِل عليهم سترك ليلاً ونهاراً, وطيِّب قلوبهم واصلح شؤونهم بمعمودية روحك القدوس. إنك أنت الجواد الكريم. باسم المسيح نطلب - آمين».

ولما اقتربوا إلى المعمودية أبرقت أساريرهم, وخلعوا العمائم جانباً. وقال الراعي: «أعمدك يا شيخ طاهر, باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين». و«أعمدك يا شيخ بدر, باسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد آمين» وهكذا حتى عمَّدهم جميعاً. وحين انتهاء معموديتهم رنموا:

ماذا أرد بدل الإحسان للمولى العظيم

كأس الخلاص أتناول باسمه الكريم

ثم جلسوا حول المائدة الربانية وتناولوا منها, وقطعوا عهد المحبة مع الذي أحبهم, ثم رتلوا وصلوا.

 

يكون اسمه الكريم للآباد

كذا أمام الشمس فيكون ذا امتداد

به تبارك الأنام والعباد

له تطوّب الورى في سائر البلاد

مبارك إلهنا على الدوام

مَن وحده قد صنع العجائب العظام

تبارك اسم مجده في كل حين

والأرض طراً تمتلي من مجده. آمين

 

انصرفت الكنيسة أما المشايخ فقصدوا منزل الراعي. وقال الراعي: «الآن وقد نلتم سر المعمودية, أحب أن أعرف السبب الذي دفعكم لاعتناق المسيحية».

فأجابه الشيخ فاضل: «إننا لم نؤمن بالإنجيل بواسطة شهادة أحدٍ من بني النصرانية, ولكننا آمنا بالإنجيل بناءً على شهادة القرآن نفسه له».

وقال الشيخ أبو المكارم: «والحق أولى أن يُقال, إنه لو لم يَقُم لنا القرآن بهذه الشهادة لما تسنّى لنا قبولها من غيره».

قال الراعي: «ولماذا لم يقم القرآن لكم بهذه الخدمة قبل الآن وهو بين أيديكم منذ نعومة أظفاركم؟».

أجاب الشيخ الهريدي: «كان بين أيدينا مقفولاً. فلما فتحناه نطق وهدى. فالحمد لله على الهُدى ونيل الفِدا».

قال الراعي: «كيف به مقفولاً وأنتم ترتلونه صبحاً وعشياً؟».

أجاب الشيخ بدر: «كنا نترنَّم بحرفه ونُعجب بوزنه, ولكن لم نتأمل في روحه ولم نلتفت إلى مدلوله. فلما أراد السميع العليم هدايتنا اقترح أحدنا أن نسبر غور آياته على مثل ما تعملون بإنجيلكم في كنائسكم صباح كل أحد, حيث تبحثون آي الإنجيل واحدة فواحدة, وهكذا تناظرنا وتجادلنا حتى ظهرت الحقيقة بقوة البرهان فقبلناها». قال الراعي: «إني آسف جداً لعدم اهتمام أبناء المسيحية بمساعدة أمثالكم المجاهدين في طريق الاهتداء إلى الحق الإنجيلي. وسأذكر لهم ذلك يوماً من الأيام حتى لا يعكفوا على مساعدة واجتذاب المسيحيين فقط, تاركين الباب مقفلاً في وجوه غير المسيحيين من يهود ومسلمين ووثنيين, كأن المسيحية احتكارٌ لهم».

 

اجتمعت الكنيسة الأحد التالي فوعظ الراعي: «موضوع كلامي هذا الصباح «حق الكرازة على بنيها» و أبني كلامي على قول المسيح لتلاميذه: «اذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» متى 28:19 و20 ثم أنه شرح الموضوع شرحاً وافياً وأوضح المسؤولية التي على الكنيسة للعالم الذي لا يمكن أن يؤمن ما لم يسمع, ولا أن يسمع بلا كارز. وحضّ الكنيسة على الكرازة وإعلان حق الإنجيل بلا خجل ولا تهيُّب, حتى يظهر بره إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون, وتكون لهم الحياة الأبدية.

ثم أخبر بما سمعه من المهتدين, وقال: «وإن كان فرحنا بهُداهم عظيماً بواسطة النور الضئيل الذي ساروا في ضوئه حتى وصلوا إلى حقيقة الإنجيل, إلا أن فرحنا كان يكون أعظم لو أننا ونحن مصابيح الله وأنوار العالم المضيئة أشرقنا عليهم, وكفيناهم ما لاقوه من التعب في البحث والمشقة في الاستقصاء والاستقراء. مبارك الله الجواد الكريم الذي لم يترك نفسه بلا شاهد, والذي أرسل أنواراً أخرى لهداية مختاريه في الوقت الذي فيه ضننّا نحن بما عندنا من النور. فلتتأثر بذلك كل نفس, فنأخذ على نفوسنا عهد النشاط والغيرة والحماس للكرازة المطلوبة منّا».

ثم جثا على ركبتيه فجثا الجمهور وأخذوا يقدمون صلوات وابتهالات كثيرة معترفين بتقصيرهم, ومتعهّدين بالقيام بواجبهم من نحو خلاص الآخرين. وسرَّني أن أقول إنهم بعد ذلك ضاقت بهم بيوت العبادة لكثرة العابدين, وحصلت يقظة دينية لم يسبق لها مثيل, وظهرت الأفراح الحقيقية على وجوههم. وكان العابر يسمع في طريقه الصغار والكبار يرتلون بمزامير وتسابيح وأغاني روحية في البيوت والحارات. وصارت الاجتماعات معزية, وكانوا بطيبة قلب وانشراح صدر يضيِّفون بعضهم بعضاً كإخوة في عائلة واحدة, مرتبطين برباط المحبة الأخوية في الإيمان الواحد بالرب يسوع المسيح, له المجد في جماعة قديسيه المعترفين باسمه. آمين.مسابقة الكتاب

أيها القارئ العزيز,

إن درست هذا الكتاب برويّة وعمق تقدر أن تجاوب على الأسئلة التالية بسهولة.

1 - ما الذي دفع الشيخ الأفغاني ليدرس مع زملائه معاني آيات القرآن؟

2 - ماذا خشي الشيخ المغربي من المناظرة في الموضوعات القرآنية؟

3 - ذكر الشيخ الهريدي ثلاثة براهين على أنَّ آدم وزوجه كانا نائبين عن ذريتهما. اذكرها.

4 - ذكر الشيخ المغربي ثلاثة براهين على أنَّ آدم وزوجه لم يكونا نائبين عن ذريتهما. اذكرها.

5 - ذكر الشيخ المنفلوطي أنَّ نيابة آدم عن ذريته تستلزم وجود شفيع, وأنَّ هذا مساس بنبي المسلمين. اشرح فكرته.

6 - برهن الشيخ أحمد المنفلوطي أنَّ الأنبياء بمن فيهم محمد ليسوا شفعاء. اذكر براهينه.

7 - برهن الشيخ زين الدين أنَّ لا شفيع يمكن أن يقوم من نسل آدم. أورد برهانه.

8 - في رأي الشيخ زين الدين أنَّ المسيح ليس من البشر, فيحقّ له أن يكون شفيعاً. ما الذي أوصله لهذا الرأي؟

9 - في رأي الشيخ مصطفى الدمنهوري أنَّ الملائكة والأنبياء لا يشفعون. أورد برهانه.

10 - لماذا رفض الشيخ الأصوانلي فكرة أن الأمر «اهبطوا» موجَّه لآدم وزوجه والشيطان والحية؟

11 - يتفق القرآن مع الإنجيل ويختلف معه في موضوع الصَّلب - وضّح.

12 - قال الشيخ عبد الله بن أمين إنَّ لقضية صلب المسيح وجهتين: تاريخية وفقهية اشرح الوجهتين.

13 - ما هو الخير الذي نتج عن الصليب لبني إسرائيل؟

14 - يقول القرآن عن الصليب «شُبّه لهم» - اذكر ثلاث جنايات ارتكبها القرآن بهذا القول.

15 - في رأي الشيخ المنفلوطي, ماذا كانت أوجه تفضيل القرآن على سواه من الكتب المنزلة؟

16 - جاوب الشيخ الصفدي على الشيخ المنفلوطي في موضوع تفضيل القرآن. قدم ملخص ذلك.

17 - بماذا افتخر الحاخام دانيال؟

18 - ماذا كان ردّ الشيخ المسيحي عبد الله على الحاخام؟

19 - لماذا لم يرُدّ الشيخ اليماني على الشيخ المسيحي عبد الله؟

20 - قدِّم ملخصاً لشرح الشيخ عمار البرديسي للنساء 171.

21 - قدَّم الشيخ الصفدي عشر حقائق عن مقام المسيح. اذكرها.

22 - كيف شرح الشيخ الصفدي لقب المسيح «كلمة الله»؟

23 - وكيف شرح الشيخ الصفدي فكرة التثليث المسيحي؟

24 - قال الشيخ المسيحي عبد الله إنَّ الإنسان يحتاج لأمور بعد اقتناعه العقلي بالمسيحية. اذكرها.

25 - اعطِ ملخصاً لشرح راعي الكنيسة للمعمودية.

 الصفحة الرئيسية