موسى يتلقى الوصايا العشر

بعد ثلاثة شهور من خروج بني إسرائيل من مصر، وصلوا إلى برية سيناء. وهي الأرض المعروفة اليوم باسم وادي الراحة، وأقاموا في سهل طوله ثلاثة كيلو مترات وعرضه كيلو متر واحد، تحيط به سلسلة من جبال من حجر أسود وأصفر. ويُعرف بعض أقسام ذلك الجبل في طرف الصحراء باسم »رأس الصفصافة« وهو هضبة يكثر عليها الشجر الذي يظهر في كل موضع في السهل.

وصعد موسى إلى الله إلى جبل سيناء، فناداه الرب من الجبل وقال له: »أَنْتُمْ رَأَيْتُمْ مَا صَنَعْتُ بِالْمِصْرِيِّينَ. وَأَنَا حَمَلْتُكُمْ عَلَى أَجْنِحَةِ النُّسُورِ وَجِئْتُ بِكُمْ إِلَيَّ« (خروج 19:4).

لعله بسبب هذا الوعد قال موسى بعد ذلك: »كَمَا يُحَرِّكُ النَّسْرُ عُشَّهُ وَعَلَى فِرَاخِهِ يَرِفُّ، وَيَبْسُطُ جَنَاحَيْهِ وَيَأْخُذُهَا وَيَحْمِلُهَا عَلَى مَنَاكِبِهِ، هكَذَا الرَّبُّ وَحْدَهُ اقْتَادَهُ« (تثنية 32:11 و12). والمعنى أن الله بقدرته ساعد شعبه على سَيْرهم، فلم يدَعْهم يسقطون من الإعياء. وكما يساعد النسر فراخه، أنقذهم الله من الشدائد والأخطار، وجاء بهم إليه، ليعبدوه بعيداً عن العبادة الوثنية. ثم قال الله لموسى: »الْآنَ إِنْ سَمِعْتُمْ لِصَوْتِي وَحَفِظْتُمْ عَهْدِي تَكُونُونَ لِي خَاصَّةً مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. فَإِنَّ لِي كُلَّ الْأَرْضِ. وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي مَمْلَكَةَ كَهَنَةٍ وَأُمَّةً مُقَدَّسَةً« (خروج 19:5، 6). وهذا يعني أن الله خصص هذه الأمة لتوصل رسالة محبته لكل الشعوب الذين هم مِلْكٌ له. فللرب الأرض كلها، وبنو إسرائيل سيُسمِعون العالم صوت الله.

موسى يخبر قادة الشعب:

بعد أن سمع موسى هذه الكلمات على الجبل جمع شيوخ بني إسرائيل معاً، فتعهدوا أن يفعلوا ما أمر الرب به. وعن طيب خاطر قالوا إنهم سيحفظون شريعة الله. ولا شك أنهم لم يكونوا يعرفون مقدار ضعفهم وعدم عصمتهم.

وقال الرب لموسى إنه سيخاطبه في السحاب، فيؤمن الشعب أن الرب حقاً هو الذي تكلم. وطلب الله من الشعب أن يستعدوا لذلك اليوم العظيم، وأن يقدسوا أنفسهم جسداً وروحاً، لأن الرب سينزل في اليوم الثالث إلى جبل سيناء، حيث يجتمع الشعب عند سفح الجبل، وكل من يمس الجبل يموت. وفي هذا إعلان لقداسة الله (خروج 19:10 - 13).

ونزل موسى من على الجبل وقدس الشعب، فغسلوا ثيابهم. وحدث في صباح اليوم الثالث أنه صارت رعود وبروق وسحاب ثقيل على الجبل، وصوت بوق شديد جداً، فارتعد كل الشعب الذي في المعسكر. وأخرج موسى الشعب من المعسكر ليلاقوا الرب، فوقفوا في أسفل الجبل. وكان جبل سيناء كله يدخن من أجل أن الرب نزل عليه بالنار، فكان صوتُ البوق يزداد اشتداداً وموسى يتكلم والله يجيبه بصوت يسمعه الشعب كله.

ثم صعد موسى إلى الجبل ليستمع إلى الله يكلمه قائلاً:

»أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ. لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لَا تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً وَلَا صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الْأَرْضِ. لَا تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلَا تَعْبُدْهُنَّ، لِأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابِعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ وَأَصْنَعُ إِحْسَاناً إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ. لَا تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لِأَنَّ الرَّبَّ لَا يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً. اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابِعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. لَا تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ - لِأَنْ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ. لِذلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِتَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الْأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ. لَا تَقْتُلْ. لَا تَزْنِ. لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ. لَا تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لَا تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ وَلَا عَبْدَهُ وَلَا أَمَتَهُ وَلَا ثَوْرَهُ وَلَا حِمَارَهُ وَلَا شَيْئاً مِمَّا لِقَرِيبِكَ« (خروج 20:2 - 17).

كيف كلمنا المسيح؟

أيها القارئ الكريم، هذه هي الوصايا العشر التي أعطاها الله لموسى على جبل سيناء. ولكن المسيح جاءنا بطريقة مختلفة تماماً، إذْ يقولُ الإنجيل المقدس: »إنكم لم تقتربوا إلى جبل ملموس مشتعل بالنار، ولا إلى غموض وظلام وريح عاصفة، حيث انطلق صوت بوق هاتفاً بكلمات واضحة، وقد كان مرعباً حتى أن سامعيه التمسوا أن يتوقف عن الكلام، فإنهم لم يطيقوا احتمال الأمر الصادر إليهم: »حتى الحيوان الذي يمس الجبل يجب أن تقتلوه رجماً«. والواقع أن ذلك المشهد كان مرعباً إلى درجة جعلت موسى يقول: »أنا خائف جداً بل مرتجف خوفاً«. ولكنكم قد اقتربتم إلى مدينة الله الحي، بل تقدمتم إلى حفلة يجتمع فيها عدد لا يُحصى من الملائكة، إلى كنيسة تجمع أبناء الله أبكاراً، أسماؤهم مكتوبة في السماء، بل إلى الله نفسه ديان الجميع، وإلى أرواح أناس بررهم الله وجعلهم كاملين. كذلك تقدَّمتم إلى يسوع، وسيط العهد الجديد، وإلى دمه المرشوش« (عبرانيين 12:18 - 24).

وهذا هو الفرق بين حديث الله مع موسى على جبل سيناء، وحديث الله لنا من خلال المسيح، الذي هو كلمة الله.

هارون يعمل عجلاً ذهبياً:

صعد موسى إلى جبل سيناء وقضى هناك أربعين يوماً في محضر الله، أعطاه اللهُ في نهايتها لوحي الحجر، مكتوب عليهما الوصايا العشر. فوضع موسى هذين اللوحين في التابوت الذي كان في قدس الأقداس، في خيمة الاجتماع.

وتقول التوراة، إن الله بعد أن انتهى من الحديث مع موسى على جبل سيناء، أعطاه »لوحي شهادة« أي لوحي حجر مكتوبَيْن بإصبع الله.

وكان موسى قد أمر الشعب قبل أن يصعد إلى الجبل أن يرفعوا المشاكل التي يصادفونها أثناء غيابه إلى هارون وحور، فاجتمع الشعب كله على هارون وقالوا له: »اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لِأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ لَا نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ« (خروج 32:1 - 6).

ونحن نستغرب كثيراً كيف أن بني إسرائيل يطلبون عبادة الأوثان! فما أكثر ما يتبدَّل شكر الإنسان لله بنسيان الجميل. وما أكثر ما يبتعد الإنسان عن عبادة الإله الحقيقي ليعبد الأوثان التي يصنعها بيديه. أليس هذا ما نفعله نحن اليوم، حين نضع ثقتنا في أموالنا أو في درجاتنا العلمية، أو في صحتنا، أو في ذكائنا، أو في عائلاتنا، فترانا نصرف الوقت كله في أمورنا الأرضية المادية، ناسين حياتَنا الروحية وصِلَتنا بالله؟

وعندما سمع هارون طلب الشعب أن يصنع لهم صنماً، حاول أن يعطلهم ويمنعهم عن عبادة الأوثان فقال لهم: »انْزِعُوا أَقْرَاطَ الذَّهَبِ الَّتِي فِي آذَانِ نِسَائِكُمْ وَبَنِيكُمْ وَبَنَاتِكُمْ وَأْتُونِي بِهَا« (خروج 32:2). لم يستطع هارون أن يثني الشعب عن طلبهم بطريقة مباشرة، فظن أن نساءهم وأولادهم لا يسمحون لهم بأن يقدموا أقراط الذهب التي في آذانهم. ولكن لدهشة هارون نزع كل الشعب أقراط الذهب، فقد كان تعصُّبهم للأوثان أكثر من محبتهم للذهب، وكان ميلهم إلى الآلهة المنظورة أكثر من ميلهم إلى الروح الأزلي الذي لا يُرى. وأخذ هارون منهم الذهب وصبَّه عِجلاً، ثم أخذ يصوّره بالإزميل ويصنعه كما كان المصريون يصنعون العجل أبيس الذي كان معبده في ممفيس. وما إن رأى الشعب العجل الذهبي حتى بدأوا يهتفون كلهم: »هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ« (خروج 32:4). وبعد أن سلَّم هارون للشعب بطلبه الأول، إذ صنع لهم العجل الذهبي، سلَّم لهم بطلبهم الثاني، وهو أن صنع للعجل مذبحاً من الحجارة، ووضعه أمام العجل، وقال هارون للشعب: »غداً عيد ليهوه«.

وفي اليوم التالي استيقظ الشعب مبكرين من نومهم، وجاءوا بالقرابين والذبائح، وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة، ثم جلس الشعب للأكل والشرب، بعدها قاموا للّعب والاحتفال بتلك المناسبة.

موسى نزل ليرى العِجل:

وهنا قال الله لموسى: »اذْهَبِ انْزِلْ! لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ شَعْبُكَ الَّذِي أَصْعَدْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ... وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: »رَأَيْتُ هذَا الشَّعْبَ وَإِذَا هُوَ شَعْبٌ صُلْبُ الرَّقَبَةِ.  (بمعنى أنه شعب عنيد ومقاوم. كأنه فرس صلب العنق جموح، لا يستطيع راكبه أن يثنيه باللجام). ثم قال الله لموسى: فَالْآنَ اتْرُكْنِي لِيَحْمَى غَضَبِي عَلَيْهِمْ وَأُفْنِيَهُمْ، فَأُصَيِّرَكَ شَعْباً عَظِيماً« وهذا يعني أن الله سيفني بني إسرائيل ويقيم من نسل موسى شعباً جديداً. ولكن موسى بدأ يتشفَّع في شعبه، فقال لله: »لِمَاذَا يَا رَبُّ يَحْمَى غَضَبُكَ عَلَى شَعْبِكَ الَّذِي أَخْرَجْتَهُ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ بِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ وَيَدٍ شَدِيدَةٍ؟ لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْمِصْرِيُّونَ قَائِلِينَ: أَخْرَجَهُمْ بِخُبْثٍ لِيَقْتُلَهُمْ فِي الْجِبَالِ وَيُفْنِيَهُمْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ؟ اِرْجِعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِكَ وَانْدَمْ عَلَى الشَّرِّ بِشَعْبِكَ. اُذْكُرْ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَإِسْرَائِيلَ عَبِيدَكَ الَّذِينَ حَلَفْتَ لَهُمْ بِنَفْسِكَ وَقُلْتَ لَهُمْ: أُكَثِّرُ نَسْلَكُمْ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، وَأُعْطِي نَسْلَكُمْ كُلَّ هذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي تَكَلَّمْتُ عَنْهَا فَيَمْلِكُونَهَا« (خروج 32:7 - 14).

وفي هذا الجواب الذي قدمه موسى نكتشف أنه قال لله ثلاثة أمور. قال له: إن الله قدَّم خدمات كثيرة لشعبه، فليس له أن يترك كل ذلك عبثاً. ثم قال له إن إفناء بني إسرائيل يعني أن المصريين قد انتصروا، كما أنه يبطل المواعيد لإبراهيم وإسحق ويعقوب. استغفر موسى لشعبه وقبل استغفاره وكان لشفاعته تأثير عظيم، فقد عفا الرب عن الشعب، ولم يعاقبهم رغم استحقاقهم للعقاب. ولا يلزم من ذلك أن الله غيَّر قصده. لأن الله كان يعلم أن موسى سيشفع في الشعب وأنه سيقبل شفاعته، لأن عقاب الله للشعب مشروط بعدم الشفاعة وبعدم التوبة. وهنا حدث الأمران، فإن موسى تشفَّع في الشعب... والشعب تاب كما سيأتي.

موسى يكسر لوحي الشريعة:

وعندما نزل موسى من على الجبل كان لوحا الشريعة في يده، مكتوبين على جانبيهما واللوحان صنعة الله، والكتابة كتابة الله منقوشة على اللوحين. وعندما اقترب موسى من معسكر بني إسرائيل أبصر العجل الذي يعبدونه، ورآهم يرقصون أمامه، فغضب غضباً شديداً، وطرح اللوحين من يديه وكسَّرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العِجل الذي صنعوه وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعماً، وذرَّاه على وجه الماء ثم سقى بني إسرائيل. ووبخ موسى هارون أخاه توبيخاً شديداً، لأنه خضع لمطالب بني إسرائيل، وصنع لهم العجل الذهبي. وبعد ذلك أمر موسى بني لاوي أن يقتلوا كل الذين رفضوا أن يعودوا إلى عبادة الله واستمروا يعبدون الوثن، فقتل موسى نحو ثلاثة آلاف رجل أصرُّوا أن يستمروا في عبادة الأوثان.

أيها القارئ الكريم، علينا أن نحترس من عبادة الأوثان، فهناك أصنام كثيرة تستحوذ على انتباهنا، ويجب أن يكون الله وحده متقدماً في حياتنا كلها - كل ما يحتل في قلبك المكانة الأولى هو الصنم الذي تتعبَّد له (خروج 32:15 - 35) سواء كان هذا: المال، أو الشهوة، أو العلم، أو المركز الاجتماعي، أو العائلة.