موسى يُنهي خدمته

ها هي الأربعون الثالثة من حياة موسى توشك أن تنتهي. وسندرس في هذا الفصل قصة الحية النحاسية، ثم خطابات موسى الأخيرة التي فيها ذكر الشريعة كلها مرة ثانية، ثم نرى كيف انتهت حياة موسى كما لم تنته حياة شخص آخر غيره!

الحية النحاسية: (العدد 21)

في الشهر السادس من السنة الأربعين بعد خروج بني إسرائيل من أرض مصر، تذمر الشعب على الله وعلى موسى. أما سبب التذمر فإنه السير الطويل في الجو الحار في ذلك الوقت من السنة. وكانت الرحلة قد طالت، وتعب الجميع وبدأوا يتذمرون على الله وعلى موسى قائلين: »لماذا أصعدتمانا من مصر لنموت في البرية؟ لأنه لا خبز ولا ماء، وقد كرهت أنفسُنا الطعام السخيف«. قالوا عن المن إنه طعام سخيف. عافته نفوسهم، لأنهم ظلوا يأكلونه أربعين سنة متتالية، مع أن التوراة تصفه لنا أنه كبذر الكزبرة، أبيض اللون، وطعمه كرقاق بعسل. وكان آباؤهم قد سبقوا أن قالوا لموسى: »من يطعمنا لحماً؟ لقد تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجاناً، والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم، والآن قد يبست أنفسنا. ليس شيء غير أن أعيننا إلى هذا المن«. وغضب الله على بني إسرائيل بسبب هذا التذمر الذي ليس في محله، فأرسل الرب عليهم الحيات المحرقة، فلدغت الشعب فمات منهم كثيرون. وأما القول بأن الحيات محرقة، فالظاهر أن المقصود به نوع الحيات شديدة السم التي لدغتهم. وظن البعض أنها وُصفت بالحيات المحرقة لأن لون رؤوسها الأحمر ولمعانها كان كالنار. وقال آخرون: إن شدة لمعان الشمس المنعكسة على أبدان الحيات جعلتها تبدو كالنار. وقال غيرهم إن لدغة الحيات المحرقة كانت شديدة الألم كلدغ النار. ولا زالت تلك المنطقة من سيناء مليئة بالحيات السامة كثيرة العدد. وعندما اشتدت لدغات الحيات على الشعب، وزاد عدد الذين ماتوا، التجأوا إلى موسى وقالوا له: »قد أخطأنا إذ تكلمنا على الرب وعليك، فصلِّ إلى الرب ليرفع عنا الحيات«. وصلى موسى لأجل الشعب، فقال الرب لموسى: »اصنع لك حية محرقة، وضعها على راية. فكل من لُدغ ونظر إليها يحيا«. فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على راية، فكان متى لدغت حية إنساناً ونظر إلى حية النحاس يحيا.

هذه القصة التي حدثت في صحراء سيناء مع بني إسرائيل ذكرها السيد المسيح في حديثه مع رجل الدين اليهودي نيقوديموس، فقال له: »وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الْإِنْسَانِ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ. ثم مضى المسيح يقول: لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ«. لقد رفع موسى الحية في البرية، وانتقل السيد المسيح بمحدّثه نيقوديموس من المعلوم - أي من حادثة رَفْع موسى الحية في البرية - إلى غير المعلوم وهو أن المسيح سيُرفع على الصليب من أجل خطايا البشر (يوحنا 3:14 - 16).

وهناك أربعة أوجه شبه على الأقل بين رفع موسى الحية في البرية وارتفاع السيد المسيح على الصليب.

 وجه الشبه الأول أن الحية النحاسية كانت على شبه الحية التي سبَّبت الموت. كذلك تجسَّد المسيح فيما يسمّيه الإنجيل »شِبْه جسد الخطية«. الخطية التي سبّبت الموت للعالم. جاء المسيح إلى عالمنا مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس. ويقول الإنجيل المقدس عنه: »فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الْأَوْلَادُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ« (عبرانيين 2:14). في كل شيء تجرب المسيح مثلنا.

 وهناك وجه شَبَه آخر، إن الحية التي رُفعت في البرية كانت خالية من السم لأنها كانت من نحاس، كذلك كان المسيح معصوماً من كل خطية لأنه من السماء. كل من عداه من رجال التوراة، والذين ورد ذكرهم في الإنجيل أخطأوا.. الجميع أخطأوا. واحد فقط كامل بدون عيب ولا خطأ، هو السيد المسيح (رومية 3:12).

 وهناك وجه شبه ثالث، لقد رُفعت الحية في البرية على مرأى من الناس، كذلك صُلب السيد المسيح على تلة الجلجثة، وهي أكمة مرتفعة، فرآه كثيرون من البشر. وكل عليل بالخطية يرفع عينيه إليه ينال الشفاء، إن هو آمن بكفارته ووضع ثقته فيه. ولقد وردت كلمة »رفع« في بشارة يوحنا ثلاث مرات (يوحنا 3:14، 8:28، 12:32) - في كل مرة منها تشير إلى الصليب والمجد الذي يليه. وفي هذه المرات الثلاث نطق بها السيد المسيح عن نفسه، فكان صليب المسيح رِفْعة له، يتمجّد به، ليراه كل خاطئ متعَب بخطاياه، وكل من لدغته أفعى الخطية، لينال الخلاص.

 أما وجه الشبه الرابع فهو أن النظر بالعين المادية كان واسطة الشفاء من لسعة الحية. والنظر الروحي بالإيمان للمسيح المصلوب هو واسطة الشفاء الروحي. وكل من ينظر إلى المسيح المصلوب من أجل خطاياه ينال غفران الخطية.

أيها القارئ الكريم، ندعوك أن تنظر إلى المسيح المصلوب، لتنال غفران خطاياك.

خطابات موسى الأخيرة:

قدم موسى وصاياه الأخيرة لبني إسرائيل في سلسلة خطابات وداعية، تضمنتها الأصحاحات الثلاثون الأولى من السفر المعروف في التوراة باسم سفر التثنية. والتثنية معناها أن نبي الله موسى ذكر الوصايا من جديد مرة ثانية - تكرار الوصايا. وسفر التثنية الذي يحوي تلك الخطابات الأخيرة التي ألقاها موسى، عامر بذكريات الماضي الرائع الذي تعامل الله فيه مع شعبه بكل محبة وعناية، كما أنه عامر بعبارات الشكر والعرفان بالجميل، بفضل الله الذي دائماً يحب ويعطي. كما أنه مليء بالتوسلات المؤثرة التي يوجّهها موسى للشعب، يدعوهم فيها إلى اتّباع الرب والسير وراءه والابتعاد عن عبادة الأوثان.

وتتكرر في سفر التثنية عبارات فيها: »احفظ« بمعنى: احفظ باجتهاد أقوال الله. و»احترز لتعمل« بمعنى: تنبَّه، فإن إبليس يريد أن يبعدك عن أن تعمل بكلمة الله. فاحترز لنفسك واعمل و»الرب يختار«. ونحن نحتاج أن نحفظ كلمة الله في قلوبنا كما يقول المرنم في مزاميره:»خَبَّأْتُ كَلَامَكَ فِي قَلْبِي لِكَيْلَا أُخْطِئَ إِلَيْكَ« (مزمور 119:11). وعلينا أيضاً أن نحترز لنعمل كل ما يكلفنا الله به، لأن ذلك مصدر سعادتنا. ثم نحتاج أن نتعلم أن الله يختار لنا طريقنا في الحياة، وأننا ينبغي أن نتبعه دائماً فيما يختار لنا.

ولتثنية ذكر الشريعة الإلهية أسباب، منها أن التثنية إكرام الشريعة، لما فيها من الحديث عن عناية الله ومحبته، وضرورة طاعته. ثم أن تكرارها كان ضرورياً لأن الذين أُعطوا الشريعة أولاً كانوا قد ماتوا، ونشأ جيل جديد، فأراد الله أن يكرر موسى لهم الشريعة التي أعطاها لآبائهم بواسطة موسى نفسه، لتتأثَّر نفوسهم من كلمة الرب كما تأثر آباؤهم من قبلهم. ثم أن سفر التثنية يكرر شريعة الله على سبيل الوعظ من وعد ووعيد، وإرشاد ونصح، وبيان ما يحتاج البشر إليه لينفذوه في حياتهم.

وتنقسم خطابات موسى الوداعية إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول: يشمل الأصحاحات الثلاثة الأولى من سفر التثنية، وهي تذكر ما صنعه الله لبني إسرائيل منذ خروجهم من مصر إلى آخر السنة الأربعين التي شهدت نهاية رحلاتهم في صحراء سيناء. أما الجزء الثاني فيكرر الشرائع التي أعطاها الله لشعبه. وهذا يستغرق من الأصحاح الرابع إلى الأصحاح السادس والعشرين. أما القسم الثالث: فهو تكرار الشريعة الأخلاقية، والحض على طاعة الله، وهذا يستغرق أربعة أصحاحات من 27 - 30.

ويورد سفر التثنية الوصية العظمى التي اقتبسها السيد المسيح في تعليمه: »الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. فَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ. وَلْتَكُنْ هذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ عَلَى قَلْبِكَ، وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلَادِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ وَحِينَ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ« (تثنية 6:4 - 7 ومتى 22:37).

نبوة عن المسيح:

وتحتوي خطابات موسى الأخيرة على نبوة بمجيء السيد المسيح قال فيها: »يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ... قَالَ لِيَ الرَّبُّ: أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِي الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ« (تثنية 18:15 - 19).

ولقد تحدث الإنجيل المقدس أن السيد المسيح هو هذا النبي الذي من وسط إخوة موسى، ومثل موسى، وطالب الشعب أن يطيعه، وقال عنه إنه يجعل كلامه في فمه، فيكلمهم بكل ما يوصيه الرب به. فقد جاء في سفر أعمال الرسل الأصحاح الثالث: »فإن موسى قال للآباء إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم، له تسمعون في كل ما يكلمكم به. أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللّهُ آبَاءَنَا قَائِلاً لِإِبْراهِيمَ: وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الْأَرْضِ. إِلَيْكُمْ أَوَّلاً، إِذْ أَقَامَ اللّهُ فَتَاهُ يَسُوعَ، أَرْسَلَهُ يُبَارِكُكُمْ بِرَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَنْ شُرُورِهِ« (أعمال 3:25، 26).

نعم، كان المسيح من إخوة موسى، من سبط يهوذا، أرسله الله كما أرسل موسى ليرد الشعب إلى محبة الله.

ونبوّة موسى هذه لا يمكن أن تنطبق في تحقيقها على أحد من البشر. ولو أنها انطبقت على أحد منهم في أن موسى وغيره وُلد من أبوين، وتزوّج وأنجب، ثم مات ودُفن، فإنهما في هذا يشبهان جميع البشر. وهذا لا يبرهن نبوّة موسى ولا غيره. ولكن هذه النبوّة تعني السيد المسيح فقط كالنبي الموعود الآتي. وهناك أوجه شَبَه فريدة بينهما يختلفان فيها عن سائر البشر، هي:

 عند ولادة موسى هدد فرعون بقتله - وعند ولادة المسيح هدد هيرودس بقتله. وليس كل الناس يتهددون بالموت عند ميلادهم.

  أثناء الطفولة قدمت ابنة فرعون الحماية لموسى. أما المسيح فقد حماه خطيب أمه »يوسف«. ولا ينال كل الناس حماية عند طفولتهم من أشخاص يعيّنهم الله للقيام بذلك عندما يقع عليهم التهديد.

 عاش موسى طفولته في مصر، بعيداً عن وطنه. وقدوحدث الشي نفسه مع المسيح، فقد ترك وطنه إلى مصر. ولا يهرب كل الأطفال إلى مصر في طفولتهم.

 لما خدم موسى الله منحه قوة إتيان المعجزات، وهكذا المسيح كلمة الله الحي الذي نال قوة الله ليجري المعجزات، فشفى المرضى وأقام الموتى من قبورهم.

 حرّر موسى بني إسرائيل من عبودية المصريين، وحرّر المسيح من يتبعونه من أغلال الشر والموت.

ومن هذا يتَّضح أن نبوّة موسى هذه كانت عن المسيح كلمة الله المتجسّد، كما أوحى الله للرسول بطرس أن يقول في أعمال 3:25، 26.

موسى يقيم خليفته:

وقبل أن يموت موسى اهتم اهتماماً بالغاً بمن يخلفه، فقال للرب: »لِيُوَكِّلِ الرَّبُّ إِلهُ أَرْوَاحِ جَمِيعِ الْبَشَرِ رَجُلاً عَلَى الْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ أَمَامَهُمْ وَيَدْخُلُ أَمَامَهُمْ وَيُخْرِجُهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ، لِكَيْلَا تَكُونَ جَمَاعَةُ الرَّبِّ كَالْغَنَمِ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا« (العدد 27:16 - 19). وإجابة لهذا الطلب أمره الرب بأن يأخذ يشوع بن نون، وهو رجل فيه روح الله، ويقدمه قدام أليعازر الكاهن، وقدام كل بني إسرائيل، ويوصيه أمام أعينهم. وتمم موسى هذا الأمر تماماً. فعندما بلغ المئة والعشرين من العمر قبل موته، دعا تلميذه يشوع وقال له: »تَشَدَّدْ وَتَشَجَّعْ لِأَنَّكَ أَنْتَ تَدْخُلُ مَعَ هذَا الشَّعْبِ الْأَرْضَ الَّتِي أَقْسَمَ الرَّبُّ لِآبَائِهِمْ أَنْ يُعْطِيَهُمْ إِيَّاهَا. وَأَنْتَ تَقْسِمُهَا لَهُمْ. وَالرَّبُّ سَائِرٌ أَمَامَكَ. هُوَ يَكُونُ مَعَكَ. لَا يُهْمِلُكَ وَلَا يَتْرُكُكَ. لَا تَخَفْ وَلَا تَرْتَعِبْ« (تثنية 31:7، 8).

ثم أودع موسى نصائحه في نشيدين رائعين، في الأول يحذر الشعب من الارتداد عن عبادة الله، وفي الثاني يمنح الشعب بركته الوداعية (التثنية 32،33).

نهاية حياة موسى:

تقول التوراة: »وَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ. وَدَفَنَهُ فِي الْجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ، مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ« (تثنية 34:5،6).

إن الكتاب المقدس هو كتاب الحياة، وهو يذكر حياة كثيرين من البشر بتفصيل، لكنه لا يذكر إلا القليل عن موت الذين يكتب عنهم، باستثناء شخص واحد كتب الكثير عن موته - هو شخص المسيح، لأن موت المسيح كان الهدف من مجيئه إلى العالم. ففي موته مصلوباً تم الفداء للبشر جميعاً. ولا يدوّن الكتاب المقدس إلا القليل عن شهادات أبطاله وأقوالهم واختباراتهم وقت الموت، بينما تضمن الكثير جداً من أعمال وأقوال الأشخاص الذين جاهدوا وتألموا وخدموا في معركة الحياة. ويفسر لنا هذا كيف تسجل التوراة في بساطة كاملة قصة موت موسى، ولو أنها فريدة فعلاً، فنحن لا نجد شخصاً مات كما مات موسى، تقول التوراة عنه: »مات موسى عبد الرب حسب قول الرب، ودفنه الرب، ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم«.

مات موسى بعد أن أكمل الخدمة العظيمة التي أعطاها الله له. ولا يسمو على موسى في معجزاته التي أداها الله بواسطته إلا السيد المسيح نفسه. لقد رأينا كيف أنزل الله بواسطة موسى الضربات العشر، وهي العقوبات العشر التي حلت بالمصريين، وكيف جفف الله مياه البحر الأحمر ليمر الشعب في وسطه بعد أن ضربه موسى بعصاه، وكيف جعل المياه المرة حلوة عند مارة. وكيف أرسل الله بواسطته السلوى إلى شعبه في برية سين. وكيف أخرج ماء من صخر عندما ضرب الصخرة مرتين لتخرج ماءً في رفيديم وفي مريبة. وموسى هو الوحيد الذي كلمه الله من على الجبل وجهاً لوجه، وأعطاه الوصايا العشر مكتوبة على لوحين من الحجر بأصبع الرب نفسه. وموسى هو الشخص الذي آزر الله نبوته بمعجزات متنوعة، فأوقف فيها الذين حسدوه ولوّمهم. فها هو البرص يصيب أخته مريم لأنها غارت منه وحسدته وتكلمت ضده، وها هي الأرض تفتح فاها لتبتلع قورح وعشيرته الذين قاوموا قيادته. ورفع موسى الحية في البرية حتى أن كل من ينظر إليها ينال الشفاء من لدغة الحيات المحرقة التي لدغت بني إسرائيل المتذمرين في صحراء سيناء. وقاد الله شعبه بواسطته أربعين سنة بعمود من السحاب المعجزي الذي ظلل عليهم في النهار، وهداهم في الطريق، كما بعمود من النار في الليل ليبعد عنهم الوحوش المفترسة وليقودهم في سفرهم، إذ شاء الله لهم أن يسافروا بالليل أو بالنهار. لقد كان موت موسى موت رجل عظيم، تقول عنه التوراة: »وَكَانَ مُوسَى ابْنَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً حِينَ مَاتَ، وَلَمْ تَكِلَّ عَيْنُهُ وَلَا ذَهَبَتْ نَضَارَتُهُ« (تثنية 34:7). وتستمر التوراة تقول: »وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهاً لِوَجْهٍ، فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ وَالْعَجَائِبِ الَّتِي أَرْسَلَهُ الرَّبُّ لِيَعْمَلَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ عَبِيدِهِ وَكُلِّ أَرْضِهِ، وَفِي كُلِّ الْيَدِ الشَّدِيدَةِ وَكُلِّ الْمَخَاوِفِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي صَنَعَهَا مُوسَى أَمَامَ أَعْيُنِ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ« (تثنية 34:10 - 12).

نعم، رقد موسى الرجل العظيم، وأي عظيم يحيا ولا يرى الموت؟ ولقد كان العمل الأخير الذي أداه موسى قبل موته أنه اتخذ الإجراءات اللازمة للاحتفاظ بشريعة الله في حراسة قوية، ليضمن أن الشريعة ستبقى في أيدٍ أمينة، وأنها ستُقرأ بصفة مستمرة. لقد تمم الجزء الأول من هذا العمل عندما أودع كلمة الرب المكتوبة بجانب تابوت العهد في خيمة الاجتماع، ليحفظه اللاويون في عُهدتهم، ويقرأوا فقرات منه حين يجتمع بنو إسرائيل جميعاً في مكان العبادة الذي اختاره الله.

مات موسى بعد أن بارك بني إسرائيل جميعاً، كل سبط منهم ببركته. ويشتمل الأصحاح الثاني والثلاثون من سفر التثنية على ما نسميه ترنيمة موسى عبد الله، قال في مطلعها: »انصتي أيتها السماوات فأتكلم، ولتسمع الأرض أقوال فمي، يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي، كالطل على الكلأ وكالوابل على العشب، إني باسم الرب أنادي. أعطوا عظمة لإلهنا، هو الصخر الكامل صنيعه. إن جميع سبله عدل، إله أمانة لا جور فيه، صِدّيق وعادل هو«.

وفي هذه الترنيمة الأخيرة العظيمة كرر موسى عبارات تشبّه الله بالصخر، وتحكي عن عطف الله على شعبه، منذ وجوده لأول مرة في أرض قفر، وهو يشبّه الله بالنسر الذي علَّم فراخه كيف تطير في الجو لأول مرة، ففي حب كامل يدربهم ليعيشوا حياتهم منتصرين بنعمة الله. ويقول إن الإله القديم ملجأ، والأذرع الأبدية تدعم شعبه من تحت، لترفعهم فوق التجارب والآلام.

مات موسى ودفنه الله في الجواء في أرض موآب، وكما أننا نثق أن الله يدبر حاجات الجسد في الحياة، نثق أنه يهتم بدفنه عند الموت. إنه يحدد المكان الذي يختلط فيه تراب كل واحد من أولاده بالأرض التي أُخذ منها، وعندما يُفتح القبر تتطلع عينا المؤمن إلى السماء، لأن روحه هناك، ولأن حياته الأبدية في محضر الله هناك. ومن القبر ينتظر كل مؤمن مجيء المسيح ثانية من السماء، »لِأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ بِهُتَافٍ، بِصَوْتِ رَئِيسِ مَلَائِكَةٍ وَبُوقِ اللّهِ، وَالْأَمْوَاتُ فِي الْمَسِيحِ سَيَقُومُونَ أَّوَلاً. ثُمَّ نَحْنُ الْأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعاً مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلَاقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ. لِذلِكَ عَّزُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِهذَا الْكَلَامِ« (1 تسالونيكي 4:16-18).