موسى قبل أن يدعوه الله

كلنا يعرف يوسف الذي أنقذ مصر من المجاعة، بعد أن فسَّر لفرعون حُلمَيه عن البقرات السمان والبقرات العجاف، ثم عن السنبلات السبع اليابسة التي ابتلعت السنبلات الممتلئة. وعندما جاءت على مصر سبع سني الشبع، خزن يوسف القمح ليطعم مصر كلها والدول المحيطة بها مدة سبع سنوات الجوع. فاحتل يوسف مكانة عظيمة جداً، وصار رجلاً عظيماً في مصر، فاستدعى أسرته. وجاء أبوه يعقوب مع سبعين شخصاً من نسله، وسكنوا في أرض جاسان شمال شرقي القاهرة الحالية. وعندما مات يوسف حنَّطوه وأبقوه في مصر، ولكننا لا نعلم شيئاً عن أعمار بقية إخوة يوسف، ولا عن زمن وفاتهم. ويبيّن لنا سفر التكوين أن تسعة وخمسين عاماً انقضت ما بين موت يوسف وولادة موسى. كان عمر يوسف حين وقف أمام فرعون ثلاثين عاماً، مضت بعدها سبع سنوات الخير، وأعقبتها سنتان من المجاعة قبل أن ينزل يعقوب إلى أرض مصر. فكان عمر يوسف حين حضر أبوه يعقوب إليه تسعة وثلاثين عاماً. وعاش بعد ذلك واحداً وسبعين سنة أخرى، ومات وهو ابن مئة وعشر سنوات.

ويقول لنا سفر الخروج في التوراة إنه قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، ذلك أن الملوك الرعاة، الهكسوس، كانوا يحكمون مصر عندما جاء يوسف إليها. ولكن الفرعون أحمس، أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة، طرد الهكسوس من مصر، وتولى الحكم ملوك مصريون. فخاف الملك الجديد من قوة العبرانيين العظيمة، لأنهم أصبحوا أمة كبيرة، ويقال إن عددهم بلغ مليونين من النفوس. وخاف الملك أن ينضم العبرانيون إلى أعداء مصر إذا نشبت حرب، فيقلبون البلاد رأساً على عقب، فبدأ يرغمهم على العمل بلا مقابل، ونصَّب عليهم رؤساء تسخير ساموهم سوء العذاب، فبنوا لفرعون مدينتين هما: فيثوم ورعمسيس لتكونا مدينتي مخازن. ورغم الاضطهاد المتزايد عليهم كان عددهم يزداد.

وعندما رأى فرعون أن كل محاولات الاضطهاد لم تنقص عدد العبرانيين، قرر أن كل مولود عبراني ذكر يجب أن يموت، وأمر القابلتين - اللتين تعاونان العبرانيات على الولادة - أن تقتلا كل مولود ذكر. ولكن القابلتين رفضتا أن تفعلا ذلك، وقالتا للملك إن النساء العبرانيات كن يلدن قبل أن تصل القابلة إليهن. وهذا منطقي، لأن السيدة التي تعمل وتتحرك تلد أسهل من السيدة التي لا تتحرك. وكانت نساء العبرانيين يقمن بالأعمال الشاقة. فأمر فرعون عندئذٍ أن يقتلوا كل مولود ذكر من العبرانيين، بأن يطرحوه في النيل.

لقد كانت حياة العبرانيين في مصر صورة من حياة الخطاة الذين يرسفون في عبودية الشيطان، إذ كانت حياتهم مريرة في تلك العبودية، ولم يكن لهم منها مهرب. غير أن الله قدم العلاج والتحرير. ولا زال إلهنا الصالح الذي يحبنا، يريد أن ينتشلنا من عبودية خطيتنا ليخلصنا، وليعطينا الحياة المتحررة البعيدة عن عبودية الخطية.

موسى في النيل:

في ذلك الوقت المظلم، الذي أمر فرعون فيه أن يُقتل كل مولود ذكر، وُلد موسى لأب اسمه عَمْرام، وأم اسمها يوكابد. وكان هارون يكبر موسى بثلاث سنوات. أغلب الظن أن هارون وُلد قبل أن يُصدر فرعون أمره بقتل المواليد الذكور. كما كان لموسى أخت اسمها مريم كانت تكبره بست سنوات. ورأى والدا موسى أن الطفل المولود جميل، وخافا عليه فخبآه ثلاثة أشهر. ويقول كاتب رسالة العبرانيين في الإنجيل، إنهما بالإيمان خبآه ولم يخشيا أمر الملك (عبرانيين 11:23). ولكن صوت الطفل بدأ يرتفع، فلم يمكنهما أن يخبآه أكثر، فأخذا له سَفَطاً من البَردْي، وطلياه بالحُمَر والزفت، كما طلى جده نوح فُلْكه قبل ذلك بنحو ثمانمائة سنة. ووقفت مريم تراقب الطفل موسى في نهر النيل من بعيد.

وهنا جاءت ابنة فرعون، ومعها جواريها، لتستحم في نهر النيل، فرأت الطفل موسى وسمعته يبكي، فرقَّ قلبها له. وعندما حملت إحدى جواري ابنة فرعون الطفل موسى، جرت مريم إليها وقالت: »هَلْ أَذْهَبُ وَأَدْعُو لَكِ امْرَأَةً مُرْضِعَةً مِنَ الْعِبْرَانِيَّاتِ لِتُرْضِعَ لَكِ الْوَلَدَ؟« فَقَالَتْ لَهَا ابْنَةُ فِرْعَوْنَ: »اذْهَبِي« (خروج 2:7، 8). فذهبت مريم لتدعو أمها يوكابد. وهكذا أصبح موسى في حماية ابنة الفرعون العظيم نفسه، تعتني به أمه نفسها، ترضعه لبنها مع الإيمان، وتعلمه عن الله، فلقد كانت يوكابد وزوجها عمرام من سبط لاوي، سبط الكهنوت. وتلاحظ أيها القارئ معي، العناية الإلهية العجيبة. لقد حمى الله هذا الطفل الذي كان له مستقبل عظيم في خدمة الله، وجعل أمه تقوم بواجب الأم من نحوه، لقاء أجر.

يا لعناية الله العظيمة! ألم تختبر أنت في حياتك كيف أنقذك الله من مأزق كنت لا تظن أنك ستجد منه مخرجاً، وفي محبته النادرة أنقذك ورفعك. دعنا نسبِّح الله معاً بما قاله نبي الله داود: »أَمَّا أَنَا فَعَلَى رَحْمَتِكَ تَوَكَّلْتُ. يَبْتَهِجُ قَلْبِي بِخَلَاصِكَ. أُغَنِّي لِلرَّبِّ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ إِلَيَّ« (مزمور 13:5، 6).

موسى في القصر الملكي:

كانت مصر قمة الحضارة وأعظم بلاد العالم المعروفة آنذاك. ولا شك أن موسى تلقى أعظم علوم عصره. ولقد تحدث الشهيد المسيحي الأول إستفانوس عن هذه القصة فقال: »قَامَ مَلِكٌ آخَرُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ يُوسُفَ. فَاحْتَالَ هذَا عَلَى جِنْسِنَا وَأَسَاءَ إِلَى آبَائِنَا، حَتَّى جَعَلُوا أَطْفَالَهُمْ مَنْبُوذِينَ لِكَيْ لَا يَعِيشُوا. وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ وُلِدَ مُوسَى وَكَانَ جَمِيلاً جِدّاً، فَرُبِّيَ هذَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي بَيْتِ أَبِيهِ. وَلَمَّا نُبِذَ، اتَّخَذَتْهُ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ وَرَبَّتْهُ لِنَفْسِهَا ابْناً. فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ، وَكَانَ مُقْتَدِراً فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ« (أعمال 7:18 - 22).

لا بد أن موسى تلقى علومه في جامعة هليوبوليس، التي تقع على بعد عشرة كيلو مترات شمال شرق القاهرة الحالية. ولا شك أنّه تعلم كيف يكتب ويقرأ اللغة الهيروغليفية، ثم تعلم الحساب والموازين والهندسة. وإن كنا نفكر في مقدار علم المصريين الذين بنوا الأهرامات، ندرك مقدار معرفتهم التي علَّموها لموسى في الهندسة والفلك والمباني والكيمياء والتشريح وعلم المعادن والموسيقى. لقد كان موسى أميراً مصرياً يتمتع بكل الامتيازات التي يتمتع بها أعظم رجال مصر، كيف لا، وهو حفيد الفرعون العظيم نفسه بالتبنّي! ويحدثنا المؤرخ يوسيفوس أن موسى قاد حملة عسكرية إلى بلاد الحبشة، وُفِّق فيها توفيقاً عظيماً، وتلقى أكبر النياشين، وزوَّجه الفرعون من ابنته ساربيس.

موسى يسأل عن إخوته:

وذات يوم تعب موسى من حياة القصر، فخرج يتجول ليتأمل أحوال البلاد. ترك العاصمة تانيس واتجه ليزور إخوته الذين كانوا يُسامون سوء العذاب، وهناك رأى رجلاً مصرياً يضرب رجلاً عبرانياً. والتفت موسى هنا وهناك فلم يجد أحداً، فقتل المصري ودفنه في الرمل، فقد كانت عصبيته لجنسه أقوى من حكمته. وفي اليوم التالي تحمَّس ليخرج مرة أخرى ليرى أهله وعشيرته، فرأى رجلين عبرانيين يتخاصمان معاً، واستمع إلى الخصومة، فعرف أيّ الاثنين كان مذنباً فقال له: »لماذا تضرب أخاك؟«. فما كان من هذا إلا أن قال له: »من جعلك رئيساً وقاضياً علينا؟ هل تريد أن تقتلني كما قتلت الرجل المصري بالأمس ودفنته في الرمل؟« وهنا أدرك موسى أن فعلته قد ذاعت، وأن الناس قد سمعوا عنها. وسرعان ما سيصل الخبر إلى القصر الملكي. فخاف موسى وقال: »لقد انكشف أمري«. ووصل الأمر فعلاً إلى فرعون فأصدر أوامره بقتل موسى. وهنا هرب موسى إلى بلاد بعيدة  - إلى أرض مديان - وله من العمر أربعون سنة (خروج 2:11 - 15).

ويقول الشهيد المسيحي الأول استفانوس عن ذلك: »لما بلغ موسى الأربعين من العمر، خطر بقلبه أن يتفقد أحوال إخوته من بني إسرائيل، فرأى واحداً منهم يعتدي عليه مصريٌّ، فتدخل ليدافع عن المظلوم، وانتقم له. فقتل المصري على أمل أن يدرك إخوته أن الله سينقذهم على يده، غير أنهم لم يدركوا. وفي اليوم التالي وجد اثنين من إخوته يتعاركان، فحاول أن يصلح بينهما قائلاً: أنتما أخوان، فلماذا يعتدي أحدكما على الآخر؟ فما كان من المعتدي على قريبه إلا أن دفعه بعيداً وقال: »مَنْ أَقَامَكَ رَئِيساً وَقَاضِياً عَلَيْنَا؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ أَمْسَ الْمِصْرِيَّ؟«. وهنا هرب موسى من مصر إلى بلاد مديان، وعاش فيها غريباً. وهناك أنجب ولدين« (أعمال 7:23 - 29).

لقد كانت دوافع موسى سليمة، وأدرك أن الله يدعوه. لكن التوقيت والوسيلة التي اتَّبعهما كانا خاطئين، إذ لم يكن وقت الله قد حان بعد ليُخرج بني إسرائيل من مصر. فكان على موسى أن لا يحذو حذو قايين فيقتل رجلاً. ويقول لنا كاتب الرسالة إلى العبرانيين: »بِالْإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالْأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللّهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِباً عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ. بِالْإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ، لِأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لَا يُرَى« (عبرانيين 11:24 - 27).

موسى في مديان:

تنقسم حياة موسى إلى ثلاث مراحل، مدة كل منها أربعون سنة كما قال استفانوس (أعمال 7:23، 30، 36). صرف موسى أربعين سنة في قصر فرعون، حيث تلقى حكمة المصريين وتعلم آدابهم وعلومهم. وقضى أربعين سنة أخرى على أطراف الصحراء، وهناك تدرب في مدرسة الله، في خلوة مع الله ومع الطبيعة، حيث كان الله رفيقه وحده.

تختلف طرق الله عن طرق البشر، فداود صاحب المزامير رجل عظيم آخر من رجال الله، عرف فكر الله بينما كان يرعى مواشي أبيه تحت السماء المرصَّعة بالنجوم. وهكذا فعل رسول المسيحية بولس بعد أن التقى به السيد المسيح على الطريق إلى دمشق، فذهب إلى الصحراء العربية ليلتقي بالله، ليعيد تفكيره في كل ما تعلَّمه من فقه ديني. وقد أصبح موسى بعد تدريب في مدرسة الله استغرق أربعين عاماً في صحراء مديان مستعداً لأن يقوم بالمهمة التي سيكلفه الله بها وكرس لها حياته، فأنفق السنوات الأربعين الثالثة من حياته في إخراج شعب الله من أرض مصر وقيادتهم إلى حدود الأرض التي وعدهم الله بها.

أقام موسى في مديان أربعين سنة - وهي بلاد تتخذ اسمها من مديان، أحد أبناء إبراهيم من زوجته قطورة، التي تزوج بها بعد موت زوجته سارة. وكان رئيس كهنة مديان يُدعَى رعوئيل، كما يُدعى أيضاً يثرون. ومعنى اسم »يثرون« صاحب سعادة، ولعل هذا لقبه وليس اسمه، وكان ليثرون سبع بنات يقمن على رعاية غنمه، فأخذن الأغنام لتشرب، ولكن الرعاة الآخرين طردوا البنات مع قطعانهن عن البئر، فلم يستطعن أن يسقين قطعانهن، ولكن موسى أنجدهن. واستخدم الله رغبة موسى في مساعدة الآخرين فأرسله ليخلص شعبه. وأراد كاهن مديان أن يسكن موسى معه، وزوَّجه من ابنته صفورة، وأعطاه الله ابنين، هما جرشوم وأليعازر. وظل موسى يرعى قطعان حميه يثرون.