القسم السادس#

المسيح ومحمد نبيَّان لعالمٍ ضال

الفصل الأول

نبوَّة محمد

رأينا في الفصل السابق أن الله يطالب بشاهدَين لإقرار قانونية أمر من الأمور، وأنه يطالب بشاهدَين على الأقل لإقرار صحة نبوَّة النبي. وقلنا إنه لو وقف رجل في أورشليم القدس أو مكة أو أية مدينة أخرى ينادي أن أقواله وحي من عند الله، فإننا يجب أن نسأله: كيف نتأكد أن ما تقوله هو من عند الله؟ مَن هو الشاهد الثاني على صِدق رسالتك؟ .

وقد يتضايق البعض مِن توجيه هذا السؤال للنبي، لأنه يعني أننا نشكّ في صدق نبوّته، وكأننا نقول له: نحن لا نصدقك . وهذا الضيق هو ما يشعر به المسيحي لما يُقال له إن إنجيله قد تحرّف. ولكن مهما كانت المشاعر فإننا يجب أن نسأل المسيحيين والمسلمين: هاتوا برهانكم. من هم الشهود على أن كلمات الإنجيل التي قالها المسيح هي من عند الله؟ ومن هم الشهود على أن كلمات القرآن التي قالها محمد هي من عند الله؟ .

كيف نعرف أن ما قاله محمد عن اليوم الآخِر هو وحيٌ يوحى؟ إن محمداً هو الشاهد الوحيد. إنه الشاهد الأول.

شاهدٌ ثانٍ

عندما سألتُ إن كان أحدٌ قد سمع الملاك يكلم محمداً (ما عدا محمد نفسه) أجاب الجميع أن محمداً هو الشاهد الوحيد، إلا في مرة واحدة ورد ذكرها في الأربعون النووية الحديث الثاني (ورواه مسلم أيضاً) عن عمر، قال إن رجلاً لا يعرفه أحد منّا جلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفّيه على فخذيه، وقال يا محمد، أخبرني عن الإسلام.. ثم سأله عن الإيمان، وعن الإحسان، وعن الساعة. ومحمد يجيب. ثم انطلق فسأل محمد عمر يا عمر، أتدري من السائل؟ أجاب الله ورسوله أعلم قال: فإنه جبريل. أتاكم يعلمكم دينكم .

وربما كان قول محمد صحيحاً، ولكننا نحتاج إلى شهادة شاهد ثانٍ يؤيد شهادة محمد، فإنه وحده هو الذي قال إن الزائر كان جبريل. كما أن هذا الحديث حديث آحاد، رواه راوٍ واحد.

وفي الوقت نفسه نعلم أن النبي وحده هو الذي كان يسمع صوت الله أو ملاكه، فلم تسجّل لنا التوراة أن أحداً سمع صوت الله الذي سمعه النبي إشعياء أو النبي إرميا. كما أن القرآن لا يسجل لنا أن أحداً سمع صوت الله يحدّث هوداً أو صالحاً. ولكن يوجد استثناءان فقط لهذه القاعدة: هما موسى والمسيح.

فمن جبل سيناء حدَّث الله موسى وكل بني إسرائيل، فخاف الشعب جداً وطلبوا ألّا يعود الله يكلمهم، فوعدهم الله أن يقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثل موسى (تثنية 18:15 و18).

وأثناء حياة المسيح تكلم الله علانية ثلاث مرات كشاهدٍ ثانٍ على صدق نبوّة المسيح، أولها عندما كان يوحنا المعمدان يعمّد المسيح، فيقول في لوقا 3:21 و22 وَلَمَّا ا عْتَمَدَ جَمِيعُ الشَّعْبِ ا عْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضاً. وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي انفَتَحَتِ السَّمَاءُ، وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. وَكَانَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً: أَنْتَ ابْنِي الحَبِيبُ، بِكَ سُرِرْتُ! .

وواضح أن المعمدان والشعب الموجود سمعوا الصوت.

وفي المرة الثانية جاء الصوت في حضور ثلاثة تلاميذ هم بطرس ويعقوب ويوحنا، لما أخذهم المسيح إلى جبلٍ عالٍ وتجلّى أمامهم، ولمعت ثيابه، وجاء موسى وإيليا إلى الجبل (وكانا قد ماتا منذ أكثر من 900 سنة). ويقول الإنجيل في مرقس 9:7 و8: وَكَانَتْ سَحَابَةٌ تُظَلِّلُهُمْ. فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: هذَا هُوَ ابْنِي الحَبِيبُ. لَهُ ا سْمَعُوا. فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَداً غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ .

أما المناسبة الثالثة فقد سجلها يوحنا، وحدثت أمام جمهور من الناس. يقول في يوحنا 12:28-30 (قال المسيح): أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ ا سْمَكَ . فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضاً . فَالْجَمْعُ الذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ، قَالَ: قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ . وَآخَرُونَ قَالُوا: قَدْ كَلَّمَهُ مَلَاكٌ . أَجَابَ يَسُوعُ: لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هذَا الصَّوْتُ، بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ .

على أن معظم الأنبياء لم يتأيدوا بمثل هذا الإعلان السماوي، فكان لا بد من طريقة أخرى لوجود شاهد ثانٍ على صدق إرسالية النبي. وقد استخدم الله ثلاث طرق:

أولاً: يعطي الله النبي معجزات ليؤيد نبوته.

ثانياً: تتحقق نبوات الأنبياء السابقين في النبي الجديد.

ثالثا: تتحقق نبوات النبي نفسه، فيؤيد الله صدق نبوته.

فلنفحص الآن هذه الطرق الثلاث:

أولاً:

المعجزات كشاهدٍ ثانٍ

يشهد القرآن والتوراة أن الله أيَّد إرسالية موسى بالمعجزات. وتتحدث التوراة عن معجزات أجراها الله على يدي أنبياء آخرين مثل إيليا وأليشع. ويشهد القرآن والإنجيل للمعجزات التي أيَّدت إرسالية المسيح. فلم يكن غريباً من أهل مكة أن يطالبوا محمداً أن يُجري لهم معجزة، كشاهدٍ ثانٍ لصدق إرساليته. ويقول القرآن إن محمداً أُمر أن يقول إنه نذير. ففي سورة الرعد 13:4 و7 ، بعد ذكر السماوات والشمس والقمر، والأرض والجبال والأنهار والجنات والفواكه والأعناب والنخيل كآيات، يقول إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ,,, وَيَقُولُ الذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ . ويكرر الفكرة نفسها في آية 27 وَيَقُولُ الذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ .

ولا ننكر أن هناك دوماً من يكفرون. فبعد أن أطعم المسيح خمسة آلاف من خمس خبزات وسمكتين قال إنه خبز الحياة النازل من السماء الواهب حياةً للعالم، فسأله اليهود: فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟ مَاذَا تَعْمَلُ؟ (يوحنا 6:30).

ولكن هناك دوماً فريقان: قُساة القلوب الذين يبقون في كفرهم مهما فعل الله، وفريق المؤمنين الذين يريدون أن يعرفوا إرادة الله ليعملوها، فينتظرون كلمة الشاهد الثاني لتؤيد أن الرسالة هي من عند الله.

ويذكر القرآن (كشاهدٍ ثانٍ) آيات من الطبيعة تظهر قوة الخالق وعظمته، ولكنها لا تبرهن أن المتكلم بها هو نبي صادق. وقد كتب د. بوكاي كتابين عن آيات الله في الخلق، ذكر في أحدهما آياتٍ لم يرد ذكرها في القرآن. ولكن هذا لا يجعل من د. بوكاي نبياً!

فهل هناك معجزات يذكرها المسلمون كشاهد ثانٍ؟.. يذكر البعضُ الإسراء. فقد جاء في سورة الإسراء الآية الأولى سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى، الذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا . ويعتقد معظم المفسرين أن الإسراء كان بالجسد، ولو أن قليلين يعتقدون (ومنهم حميد الله) أن الإسراء كان مجرد رؤيا في المنام. ويعتقد الجميع أن المسجد الأقصى هو في أورشليم القدس، إلا حميد الله الذي قال إنه في السماء. وقد جاءتنا كل المعلومات عن الإسراء من الحديث. وما قاله القرآن يترك لنا شاهداً واحداً يشهد لحدوث الإسراء، فمحمد هو الذي اختبر الإسراء، وهو الذي رواه. وقد تساءل كفار مكة: لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (العنكبوت 29:50 و51).

ولكن هذه الآية تجاوب سؤالاً بسؤال! فقد طلب منا القرآن أن نصدّق على أمرٍ بناءً على شهادة شاهدين، ولكنه يقول هنا إن كلمات النبي هي الشاهد الثاني، وهذا غير ممكن، فليس النبي وكلمته منفصلين. إنهما واحد، وهما بمثابة شاهد واحد!

فلنفترض أني أقول لك إن القمر مصنوع من الزبد، فستقول لي: هذا ما لم يقُله علماء الفلك. فكيف تبرهن كلامك؟ . عندها آخذ ورقة أكتب عليها إن القمر مصنوع من الزبد، ثم أقول لك: هذه الورقة تقول إن القمر مصنوع من الزبد . ستضحك منّي، لأن كلامي الشفاهي هو نفسه كلامي المكتوب. كلاهما شاهد واحد. وستقول لي: والآن هات شاهدك الثاني، فلن يشهد ما كتبتَه لما قلتَه!

وتقول سورة العنكبوت 29:52 قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ . فهو يعيدهم إلى آية السماء والأرض التي تبرهن وجود الخالق، ولكنها لا تبرهن أن محمداً رسوله. ولا زلنا نسأل: أين المعجزة المؤيدة للرسول؟ أين الشاهد الثاني الذي يؤكد أن إرساليته هي من عند الله؟

ثانياً:

نبوَّات كتابية عن محمد

هناك حديث أشرنا إليه من قبل، يقول إن عطا بن يسار سأل عبد الله بن عمرو بن العاص أن يخبره بوصف رسول الله كما جاء في التوراة، فأكد عبد الله أنه موصوف في التوراة بما وُصف به في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشرا ونذيراً (سورة العنكبوت 45). ثم قال عبد الله إن التوراة تقول: أنت عبدي ورسولي، سمَّيتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخَّاب في الأسواق. لا يجزي بالسيئة، لكن يغفر ويصفح، ولن يأخذه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، ويفتح به أعيناً عميا وآذاناً صُمّاً وقلوباً غُلفاً (حديث رواه البخاري والدارمي).

وقد جاءت نبوة التوراة المشار إليها هنا في نبوة إشعياء 42:1-3 و6 و7 (عام 700 ق م) هُوَذَا عَبْدِي الذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الحَقَّ لِلْأُمَمِ. لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لَا يُطْفِئُ... أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلْأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ العُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الحَبْسِ المَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ .

هنا حديث صحيح لأنه مؤيَّد من اثنين، فعندنا الحديث الإسلامي، وعندنا أصله التوراتي من نبوَّة إشعياء. وهذه الشهادة الثنائية هي صفة عشرات النبوات التوراتية عن المسيح. وقد اقتبس الإنجيل نبوة إشعياء، وقال إنها تحققت في المسيح، فنقرأ في متى 12:15-18 وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعاً. وَأَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يُظْهِرُوهُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ: هُوَذَا فَتَايَ الذِي اختَرْتُهُ، حَبِيبِي الذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. أَضَعُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْبِرُ الأُمَمَ بِالحَقِّ . ثم يمضي الإنجيل ليقول في الآية 22 إن المسيح شفى مجنوناً أعمى وأخرس، فبُهت الناس وتساءلوا: ألعل هذا هو المسيح ابن داود؟ .

وسواء كانت نبوة إشعياء خاصة بالمسيح أو بمحمد، فإننا نترك هذا للقارئ. ولكن لما كان للحديث الإسلامي السالف شاهدان، فلا بد أن يكون صحيحاً، فإن واحداً من المسلمين اقتبس نبوة إشعياء على أنها صحيحة.

الصفحة الرئيسية