الإنجيل كأحاديث

عندما يقرأ المسلمون إنجيل المسيح كما رواه كلٌّ من متى ومرقس ولوقا ويوحنا، يقول بعضهم: هذا مجرد حديث، وهو ليس كالقرآن . وأفهم من قولهم هذا أن القرآن شريعة سماوية توضح أسلوب الحياة، أما معظم الحديث فيروي حياة نبيّهم، خصوصاً فيما يختص بأسباب نزول الآيات القرآنية. وهم يعتقدون أن الإنجيل يجب أن يكون كالقرآن.. يقولون إن الروايات التاريخية من الإنجيل: هذا مجرد حديث بمعنى أنه ليس وحياً إلهياً، أو أنه في درجة ثانية. وكمثال لذلك لنتأمل الإنجيل كما رواه لوقا 8:19-21 19 وَجَاءَ إِلَيْهِ أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ لِسَبَبِ الجَمْعِ. 20 فَأَخْبَرُوهُ: أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً يُرِيدُونَ أَنْ يَرَوْكَ . 21 فَأَجَابَ: أُمِّي وَإِخْوَتِي هُمُ الذِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ اللّه وَيَعْمَلُونَ بِهَا . وكما أفهم من المسلمين أنهم يعتبرون آية 21 وحدها من إنجيل المسيح. ويقولون (بطريقة الحديث):

عن يعقوب أخ المسيح غير الشقيق (عليه السلام) في مناسبة وحي لوقا 8:21 أمي وإخوتي وأنا ذهبنا طالبين رؤية المسيح، ولكننا لم نقدر أن نصل إليه بسبب الجمع. فقال له أحدهم: أمك وإخوتك واقفون خارجاً يريدون أن يروك، فنزلت آية 21 . (روى هذا الحديث لوقا ومرقس في كتابهما، ومعهما متى ويوحنا) وهم أفضل من روى الحديث.

وإليك مثال آخر من تعليم المسيح عن الطعام جاء في مرقس 7:15 لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، ل كِنَّ الأَشْيَاءَ التِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ التِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ . وهذا يكون قرآناً. وفي كتاب آخر نجد الحديث التالي:

عن بطرس، أحد الحواريين الاثني عشر، رضي الله عنه وأرضاه، أن تعليم المسيح عن الطعام الوارد في مرقس 7:15 و20-23 نزل كالآتي:

جاء بعض الفريسيين والكتبة من أورشليم، ورأوا بعضنا يأكل بأيدٍ غير مغسولة، فسألوا المسيح: لماذا لا يسلك تلاميذك حسب تقليد الشيوخ، بل يأكلون بأيدٍ غير مغسولة؟

فدعا المسيح كل الجمع وقال لهم: اسمعوا مني كلكم وافهموا. ليس شيء من خارج الإنسان .. (الآية). ثم صرف الجمع، ودخلنا البيت فسألناه عن المثَل، فأجاب: أفأنتم هكذا غير فاهمين؟ أما تفهمون أن كل ما يدخل الإنسان من خارج لا يقدر أن ينجسه، لأنه لا يدخل إلى قلبه بل إلى الجوف، ثم يخرج إلى الخلاء.. ثم أُوحي إليه فقال: إن الذي يخرج من الإنسان ذلك ينجس الإنسان.. (الآية) . روى هذا الحديث مرقس، عن بطرس،ورواه متى أيضاً.

ويتضح من هذا أن الإنجيل (كما هو بين أيدينا اليوم) لا يحقق توقّعات المسلم، فكلمات المسيح وحدها هي الوحي، وما عدا ذلك فهو ملاحظات توضيحية. إنها كالحديث الذي يمكن الطعن في صحته، وهو أقل درجة من نص الوحي. ولقد رأينا أن بعض المسلمين يعتقدون أن الحديث ليس في مرتبة الوحي.

وواضح أن اعتقاد المسيحيين في الوحي يختلف عن اعتقاد المسلمين فيه. ونحن المسيحيين لا نقول إن أقوال المسيح هي وحدها الوحي، ولا نقول إن التوضيحيات هي كالحديث. ولكننا نقول إن كل ما هو في الإنجيل موحى به من الله، سواء كان أقوال المسيح أو الرواية التاريخية التي نطق المسيح فيها بتعاليمه.

وقد تحيّرتُ وأنا أقرأ في القرآن قصص الأنبياء. فهل أعتبرها في درجة الحديث؟ إنه يروي كيف عصى آدم ربه وغوى، وكيف نجا نوح من الطوفان، وكيف نجا موسى من الغرق والموت، وكيف وُلد المسيح. وهو يروي الأخبار المفرحة التي أُعلِنت لإبرهيم بولادة إسحق بالتفصيل في ثلاثة أماكن: من العهد المكي الأول في سورة الذاريات 24-37. ومن العهد المكي المتأخر في سورة هود 69-83. ومن العهد نفسه في سورة الحِجْر 51-77. كما أن السورة 28 تحمل اسم سورة القَصَص . فلماذا نسمع الشكوى من أن الإنجيل يحوي قصصاً؟

حل المشكلة

لقد تحيّرت وأنا أرى البعض يعلّقون على الحديث أهمية قصوى، بينما البعض الآخر يراه عديم الفائدة. ثم قرأت ما قاله الأستاذ فضل الله في كتابه الإسلام :

لو أننا رفضنا الحديث كله فإننا نزيل الأسس التاريخية للقرآن بضربة واحدة (ص 66).

وقد يختلف البعض مع هذه العبارة، ولكن لو تأملوها بعناية لوافقوا معها. فالقرآن يحوي مواد تاريخية، ولكن ليس به إلا القليل عن حياة محمد وغزواته إلخ. فلو رفضنا الحديث كله فلن نعرف كيف صام محمد أو تعبَّد في الغار، ولا كيف جاءه أول الوحي، ولا كيف هاجر للمدينة. ومع أن موقعة بدر هامة جداً في التاريخ الإسلامي إلا أن اسمها ورد في القرآن مرة واحدة في سورة آل عمران 123 (وتعود إلى سنة 2 أو 3 هـ ). ولنعرف ما حدث وأهمية ذلك نحتاج للحديث. وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب فصل 3 سنرى أن كل معلوماتنا عن أصل القرآن جاءت في الحديث.

وهكذا نكتشف أنه ليتأكد المسلمون أن القرآن وحي يوحى، يحتاجون للرجوع إلى الحديث الذي هو أقل تأكيداً من القرآن، وبه المشكوك فيه! وعلى كل مسلم (بمن فيهم الذين يصغّرون من شأن الحديث) أن يقرروا إن كانت شهادة أبي بكر وعمر وعثمان وسائر من اقتُبست أقوالهم في الحديث صحيحة، وإن كانت قد نُقلت عنهم بأمانة، تكفي ليصدّقوا ما قالوه عن الوحي القرآني.

على أن إدراكنا لأهمية الحديث القصوى تُرينا أنه لا حقَّ للمسلم أن ينتقد الروايات الواردة في التوراة والإنجيل، لأنه إن كان برهان وحي القرآن يجيء من الحديث الذي اختلفوا في صحته، فعلى أي أساس يرفض المسلم حقيقة موت المسيح ليفدينا من خطايانا، وهي مؤيَّدة بالروايات التي تشبه أسلوب الحديث، والواردة في وحي الإنجيل نفسه؟

الصفحة الرئيسية