في سَبيل (( الحِوَار الإِسْلامي المسِيحي ))

1

For The Sake Of (( slamc- Chrstan Dalogue ))

1

مدخل إلى الحِوَار الإسلامي المسيحي

ntroducton to the slamcـ Chrstan Dalogue

يوسف درة الحداد

Professor Youssef Durrah al-Haddad

.muhammadansm.org

August 2, 2004

Arac

مَدخل إلى

الحِوَار الإسْلامي المسيحي

في سبيل (( الحوار الإسْلامي المسيحي ))

مَدخل إلى

الحِوَار الإسْلامي المسيحي

الأستاذ الحدّاد

فهرس

من شعارات الحوار القرآنية

تقديم : إلى إخواني المسلمين والمسيحيين

تمهيد : أسس الحوار الصحيح بين الإسلام والمسيحية

بحث أول : الحوار الصحيح من وجهة النظر الإسلامية

1 ـ لا يقوم على أساس الفلسفة

2 ـ ولا على أساس الكلام ( علم اللاهوت )

3 ـ ولا على أساس الصوفية الإسلامية

4 ـ ولا على أساس التاريخ المقارن بين الأديان

بحث ثان : الحوار الصحيح من وجهة النظر المسيحية

1 ـ لا يقوم على أساس السيرة النبوية الموضوعية

2 ـ ولا على أساس الحديث

3 ـ ولا على أساس التفسير المختلف

4 ـ ولا على أساس الكلام الإسلامي

بحث ثالث : الحوار ممكن على أساس الإنجيل والقرآن

1 ـ إن الحوار بين المسيحية والإسلام ممكن ومفيد

2 ـ إن الحوار يصح على أساس الإنجيل والقرآن

3 ـ إن الحوار مفروض بالإنجيل والقرآن

بحث رابع : لكن للحوار الصحيح شروطاً

فصل الخطاب : مثال الحوار الصحيح في (( رسالة الهاشمي إلى الكندي ))

المبدأ العام : الإنجيل والقرآن يدعوان إلى الحوار

أولاً : الإنجيل يدعو جميع الناس إلى الحوار

ثانياً : القرآن يدعو أهل الكتاب خصوصاً إلى الحوار

الفصل الأول : الإسلام في عرْف القرآن

توطئة : (( الإسلام )) اصطلاح لدين الله المنزل في الكتاب

بحث أول : إسلام القرآن هو إسلام الكتاب

1 ـ الإسلام بين القرآن والكتاب واحد

2 ـ وحدة الكتاب المنزل في التوراة والإنجيل والقرآن

3 ـ وحدة الإيمان من وحدة الإسلام

4 ـ وحدة الإيمان والإسلام تقوم على وحدة الوحي

بحث ثان : إسلام القرآن والإسلام (( النصراني ))

1 ـ إسلام القرآن هو إسلام (( أولي العلم )) المقسطين

2 ـ القرآن و (( النصارى )) أمة واحدة

3 ـ الدعوة القرآنية (( تأييد )) للدعوة النصرانية بين العرب

القول الفصل : إن إسلام القرآن هو الإسلام (( النصراني ))

الفصل الثاني : الإنجيل في القرآن

توطئة : اتهامات خطيرة

بحث أول : قيمة الكتاب والإنجيل في نظر القرآن

بحث ثان : هل من تحريف في الكتاب والإنجيل؟

أولاً : تهمة كتمان بعض الكتاب عن الناس

ثانياً : تهمة اللي باللسان في تلاوة الكتاب

ثالثاً : تهمة التحريف نفسها

بحث ثالث : صحة الكتاب والإنجيل عقيدة في القرآن

الشهادة الأولى : (( يتلونه حق تلاوته ))

الشهادة الثانية : إنه (( كتاب الله ))

الشهادة الثالثة : القرآن يشهد بتنزيل الكتاب الذي في زمانه

الشهادة الرابعة : إيمان القرآن بالكتاب الذي قبله

الشهادة الخامسة : القرآن يصدّق الكتاب : فهل يصدّق محرَّفاً ؟

الشهادة السادسة : يستشهد بالكتاب: فهل يستشهد بمحرَّف ؟

الشهادة السابعة : يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل

الشهادة الثامنة : أهل الكتاب يتلون (( آيات الله ))

الشهادة التاسعة : المبدأ القرآني العام (( لا مبدّل لكلماته ))

الشهادة العاشرة : المبدأ القرآني الثاني : الله يحفظ كتابه

بحث رابع : هل نسخ القرآن التوراة والإنجيل ؟

توطئة : النسخ ميزة القرآن وحده في الناسخ والمنسوخ منه

أولاً : النسخ في لغة القرآن

ثانياً : النسخ في علوم القرآن

ثالثاً : النسخ في العقيدة ينقض القرآن نفسه

رابعاً : النسخ في الشريعة ينقض القرآن نفسه

بحث خامس : الإنجيل الواحد والإنجيل الرباعي

أولاً : الواقع القرآني والإنجيلي

ثانياً : نزول الإنجيل على أربعة أحرف ، ونزول القرآن على سبعة أحرف

الفصل الثالث : المسيح في القرآن

توطئة : منزلة المسيح في القرآن

بحث أول : سيرة المسيح في القرآن

أولاً : أسماء المسيح الحسنى في القرآن

مشكلان في أسماء المسيح

ثانياً : نسب المسيح المعجز في القرآن

ثالثاً : أم المسيح في القرآن

رابعاً : مولد المسيح المعجز بحسب القرآن

1 ـ النصوص القرآنية

2 ـ مسائل تفسيرية

المسألة الأولى : كيفية الحبل

المسألة الثانية : مدة الحمل

المسألة الثالثة : ولادة المسيح

المسألة الرابعة : نطق المسيح منذ مولده

المسألة الخامسة : (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ))

3 ـ المعجزات في قصة المولد

خامساً : حداثة المسيح في القرآن

سادساً : رسالة المسيح في القرآن

سابعاً : آخرة المسيح بحسب القرآن

ثامناً : رجوع المسيح في اليوم الآخر

تاسعاً : دور المسيح في يوم الدين

عاشراً : سيرة المسيح تتخطى الزمان وتملؤه

بحث ثان : رسالة المسيح بحسب القرآن

أولاً : ولد المسيح على الهدى والنبوة

ثانياً : المسيح في نبوته استجمع الوحي والتنزيل كله منذ مولده

ثالثاً : استجمع المسيح طرق الرسالة كلها

رابعاً : اختصاص المسيح ، دون الرسل أجمعين ، بتأييد روح القدس له

خامساً : انفراد المسيح بالرفع إلى السماء، من دون العالمين

سادساً : المسيح وحده علَم وعِلْم للساعة

سابعاً : المسيح وحده هو (( الوجيه )) في يوم الدين

بحث ثالث : آخرة المسيح بحسب القرآن

أولاً : النصوص القرآنية

ثانياًً : التفسير الصحيح لتعليم القرآن في آخرة المسيح

1 ـ الردّ على الشبهات

الشبهة الأولى : قصة الشبه

الشبهة الثانية : معنى (( الوفاة )) في لغة القرآن

الشبهة الثالثة : آية النساء نسخت سائر آيات وفاة المسيح

الشبهة الرابعة : آية النساء تنفي القتل والصلب ، لا الموت

الشبهة الخامسة : آية النساء تكذب شبهة شائعة عن قتل المسيح

2 ـ التفسير الصحيح لآية ( النساء ) في قتل المسيح

الأسلوب اللغوي

الأسلوب الموضوعي

الأسلوب البياني

الأسلوب الكلامي

بحث رابع : ميزات المسيح في القرآن

أولاً : المولد من بتول اصطفاها الله على نساء العالمين

ثانياً : نطق المسيح عند مولده

ثالثاً : نبوءة المسيح منذ مولده

رابعاً : عصمة المسيح في سيرته ، مثل عصمته في رسالته

خامساً : تأييد روح القدس له في سيرته ورسالته وشخصيته

سادساً : ميزة رسالة المسيح على الرسالات كلها (( بالبينات ))

سابعاً : رفع المسيح حياً إلى السماء من دون العالمين

ثامناً : المسيح وحده علـَم وعِلـْم للساعة من دون المرسلين

تاسعاً : المسيح وحده مع الملائكة المقربين شفيع في يوم الدين

عاشراً : المسيح وحده (( وجيه )) في الآخرة (( ومن المقربين ))

بحث خامس : شخصية المسيح في القرآن

أولاً : المسيح، بحسب ظاهر القرآن ، عبد لا رب

1 ـ الواقع القرآني

2 ـ جدلية القرآن في استنكار بنوة المسيح لله

ثانياً : عيسى : كلمة الله ، ومسيح الله ، وروح الله

1 ـ عيسى ابن مريم هو كلمة الله ألقاها إلى مريم

2 ـ عيسى ابن مريم هو أيضاً روح الله

3 ـ عيسى ابن مريم هو أيضاً مسيح الله

ثالثاً : تلك الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح دليل سرّها

ثلاثة تعابير مختلفة في الروح

معنى : (( أيدناه بروح القدس ))

معنى : (( كلمته وروح منه ))

حيرة القرآن في أمر (( الروح ))

الفصل الرابع : التوحيد والتثليث ما بين الإنجيل والقرآن

توطئة : الخلاف الأكبر

بحث أول : حرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن

أولاً : حرف التوحيد في التوراة

ثانياً : حرف التوحيد في الإنجيل

ثالثاً : حرف التوحيد في القرآن

بحث ثان : التوحيد المنزل واحد ما بين الإنجيل والقرآن

الشهادة في الإسلام والمسيحية

القرآن يشهد للإسلام بشهادة (( النصارى ))

في (( أمة واحدة ))

وعقيدة واحدة : وحدة الإله والتنزيل والإسلام

بحث ثالث : الخلاف الأكبر: التثليث ما بين الإنجيل والقرآن

أولاً : التثليث الذي يكفره القرآن

1 ـ نصوص القرآن التي تكفر القول (( بالثلاثة ))

2 ـ جدلية القرآن في تكفير المقالة (( بالثلاثة ))

3 ـ موقف القرآن الحاسم من النصارى : (( لاتغلوا في دينكم ))

ثانياً : ذاك التثليث الذي يكفره القرآن ليس بالتثليث المسيحي

1ـ مقالات القرآن في (( الثلاثة )) ليست بالتثليث المسيحي

2ـ جدلية القرآن لا تنطبق على التثليث المسيحي

ثالثاً : إن المسيحية كفرت قبل القرآن مقالاته (( بالثلاثة ))

1 ـ المقالة (( بالثلاثة ))

2 ـ مقالة : (( إن الله ثالث ثلاثة ))

3 ـ مقالة : (( إن الله هو المسيح ابن مريم ))

4 ـ مقالة : (( اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ))

رابعاً : التثليث الصحيح ما بين الإنجيل والقرآن

1 ـ التثليث المسيحي الصحيح

2 ـ هل من آثار لهذا التثليث في القرآن ؟

1) فمن هو (( كلمة الله )) في عرف القرآن ؟

2) ومن هو (( الروح القدس )) في عرف القرآن ؟

خامساً : موقف المفسرين والمتكلمين من التثليث الصحيح

1 ـ تفسير الزمخشري

2 ـ تفسير البيضاوي

3 ـ تفسير الرازي

4 ـ تفسير الغزالي

القول الفصل: في المطابقة بين الأشعرية والمسيحية

الفصل الخامس : ما بين القرآن والإنجيل

توطئة : انتساب القرآن إلى (( الكتاب الإمام )) وإلى (( الكتاب المنير ))

بحث أول : ما بين القرآن ، وما بين الكتاب والإنجيل ، انتساب ونسب

أولاً : انتساب القرآن إلى الكتاب كله

1 ـ مبادئ القرآن العامة في انتسابه إلى الكتاب من قبله

2 ـ مبادئ القرآن الخاصة في انتسابه إلى الكتاب من قبله

ثانياً : انتساب القرآن إلى الإنجيل وأهله على التخصيص

بحث ثان : محمد في التوراة والإنجيل

جزء أول : (( النبي الأمي ))

1 ـ تقويم (( التفسير الحديث )) للأستاذ دروزة

2 ـ شبهات على النص من حديث (( النبي الأمي )) ذاته

3 ـ شبهات من القرآن كله على حديث (( النبي الأمي ))

4 ـ في الواقع ليس في التوراة والإنجيل صفة (( النبي الأمي ))

جزء ثان : هل من بشائر وإشارات إلى محمد في الكتاب ؟

البشارة الأولى : (( النبي ، من إخوتك ))

البشارة الثانية : (( بأمة غبية أغيظهم ))

البشارة الثالثة : (( تلألأ من جبل فاران ))

البشارة الرابعة : (( وإسماعيل ... أجعله أمة كثيرة ))

البشارة الخامسة : (( حتى يأتي شيلون ))

البشارة السادسة : (( تقلـّد سيفك على فخدك ، أيها الجبار ))

البشارة السابعة : (( وسيوف ذات حدين في أيديهم ))

البشارة الثامنة : (( ترنيمة جديدة في ديار قيدار ))

البشارة التاسعة : (( ترنمي أيتها العاقر )) ـ مكة

البشارة العاشرة : اعتلان الله لعبَّاد مناة

البشارة الحادثة عشرة : الحجر، رأس الزاوية في الدين

البشارة الثانية عشرة : (( جاء الرب في ربوات قديسية )) :

الصحابة

البشارة الثالثة عشرة : (( توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات ))

البشارة الرابعة عشرة : حبة الخردل تصير شجرة

البشارة الخامسة عشرة : الآخرون أولون

البشارة السادسة عشرة : الحجر الذي رذله البناؤون

البشارة السابعة عشرة : (( سأعطيه سلطاناً على الأمم ))

البشارة الثامنة عشرة : الروح القدس الفارقليط هو محمد

جزء ثالث : الرسول (( أحمد )) في الإنجيل

توطئة : قصة (( أحمد )) في القرآن والسيرة

1 ـ (( أحمد )) في القرآن

2 ـ (( الفارقليط )) في الإنجيل

1) المسألة الأثرية

2) المسألة الموضوعية

القول الفصل : إن كلمتي (( النبي الأمي )) و (( اسمه أحمد )) من المتشابهات

بحث ثالث : محمد في القرآن (( خاتم النبيين ))

توطئة : ألقاب محمد في القرآن

أولاً : مبعث النبوة

ثانياً : صلة محمد بالغيب

ثالثاً : صلة محمد بالكتاب الذي نزل من قبله

رابعاً : صلة محمد بالنصارى (( أولي العلم )) المقسطين

خامساً : بالقرآن يعلم محمد العرب (( الكتاب والحكمة ))

سادساً : نبوءة القرآن امتداد لنبوءة الكتاب

سابعاً : محمد (( خاتم النبيين ))

بحث رابع : القرآن في عُرف القرآن

أولاً : الوحي والتنزيل تعبيران متشابهان في القرآن

ثانياً : تعابير متشابهة عن مصدر القرآن العربي

ثالثاً : التصاريح القرآنية عن مصدر القرآن العربي

رابعاً : صفات القرآن الذاتية تؤيد نسبته إلى (( المثـْل ))

خامساً : صفات القرآن الموضوعية دليل ذاته

فصل الخطاب : (( تنزيل )) القرآن ـ ونزول (( كلمة الله ))

أولاً : (( تنزيل )) القرآن

ثانياً : نزول (( كلمة الله )) في المسيح

خاتمة : المدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي

ملحق : خطاب حوار في دار الإفتاء ببيروت

من شعارات الحوار القرآنية

ـ (( قلْ : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم )) . ( آل عمران 64 )   

ـ (( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ! وجادلهم بالتي هي أحسن )) . ( النحل 125 ) 

ـ (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم ( أَي اليهود ) ـ وقولوا: آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإِلهنا وإِلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) . ( العنكبوت 46 ) 

ـ (( ومِن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) . ( الحج 8 ؛ لقمان 20 )

مقَدّمة

إلى إخواني، المسلمين والمسيحيين،

أقدم هذه الدراسات في قواعد الحوار الصحيح ما بين المسيحيين والمسلمين، القائم على التوحيد الكتابي المنزل الواحد بينهم أجمعين؛ وعلى تقرير القرآن أن أهل الإنجيل وأهل القرآن (( أمة واحدة )) في الإيمان بعيسى وأمه (( آية للعالمين )) !

(( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين: إنَّ هذه أمتكم، أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدونِ )) ( الأنبياء 91 ـ92 )

(( وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذاتِ قرار ومعين ... وإن هذه أمتكم، أمة واحدة، وأنا ربكم فاتـّقونِ )) ( المؤمنون 51 ـ53 ).

هدانا الله جميعاً إلى الصراط المستقيم في الحوار الصحيح بين المسيحية والإسلام.

تمهيد

أسس الحوار الصحيح بين الإسلام والمسيحية

إن المسلمين والمسيحيين هم أَهل الكتاب: فلا يصح حوار ما في بينهم إلاّ على أَساس كتابهم الإنجيل والقرآن.

وكل حوار بينهم يعتمد غير الإنجيل والقرآن إنما هو (( حوار الطرشان )) .

وهذا، مع الأسف الشديد، ما جرى حتى اليوم بين المسلمين والمسيحيين ـ فكان الحوار التاريخي في ما بينهم جدالاً وخصاماً.

من أَجل ذلك رأى الجانب المسيحي، في المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، أن يُسدل الستار على الماضي البغيض؛ ويفتح في علاقة المسيحية بالإسلام صفحة جديدة مبنية على التسامح والتفاهم والإخاء في سبيل التوحيد الكتابي المنزل الذي هو واحد في ما بينهما، تجاه الإلحاد الذي يطبق على المسكونة من الشرق والغرب معاً.

فلأول مرة في تاريخ المسيحية يعلن مجمع مسكوني شيئاً من الرضى عن

الإسلام وأَركان الدين فيه. ففي (( التصريح بشأن الديانات غير المسيحية )) يقول: إنها (( تعكس شعاعاً من الحق الذي ينير العالمين )) ؛ ويقول: (( وتنظر الكنيسة أيضاً بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله والواحد الأحد، الحي القيّوم، الرحمان الرحيم، القدير الذي خلق السماء والأرض، وكلّم الناس بالأنبياء. فهم مثل المسيحيين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويقيمون أَركان الدين من شهادة بالله وصلاة وزكاة وصوم. وهم يجلـّون المسيح وأمه (( آية للعالمين )) . فدعوة أهل الإنجيل إلى الحوار موجهة قبل الجميع إلى أَهل القرآن.

ونعرف من تصاريح القرآن أَنه ينتسب إلى الكتاب انتساباً ونسباً، فقد جاء ليعلـِّم العرب (( الأميّين )) : (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل ( البقرة 129 و151؛ آل عمران 164؛ الجمعة 2 ). هذا هو الدين الذي شرعه للعرب: (( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرّقوا فيه ... وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب )) ( الشورى 13 ـ15 ). وهذا هو إيمان القرآن: (( قولوا: آمنَّا بالله ... وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرّق بين أَحد منهم ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136؛ قابل آل عمران 83 ـ85؛ النساء 162 ـ164 ).

ورئيس المسيحية، في رسالته الجامعة، (( كنيسة المسيح ))، يتوجّه إلى جميع (( المتقين الله في الأرض )) أو بصورة خاصة (( إلى الذين يعبدون الله بحسب دين التوحيد، ولا سيما الدين الإسلامي، ويستحقون التقدير بحسب ما تنطوي عليه ديانتهم من حق وخير )).

بهذه الوثائق الرسمية تعلن المسيحية رسميّاً فتح الحوار الصحيح مع الإسلام. وعلى المتحاورين، من مسلمين ومسيحيين، أن يجدوا ويعتمدوا القواعد القويمة للحوار الصحيح.

بحث أول

الحوار الصحيح من وجهة النظر الإسلامية

من وجهة النظر الإسلامية، لا يقوم الحوار الصحيح على أساس الفلسفة، ولا الكلام (علم اللاهوت)، ولا الصوفية الإسلامية، ولا التاريخ المقارن في الأديان.

1ـ مع أهل القرآن، لا يقوم الحوار الصحيح على أساس الفلسفة

في الحوار مع المسلمين، قد يعتمد بعضهم البديهيات في الإلهيات، والمنطق في البرهان على صحة الإيمان؛ لكن الفلسفة، والمدخل إليها في علم المنطق، كان على الدوام موضع شبهة عند أَهل السنة والجماعة، حتى قيل: (( من تمنطق فقد تزندق )) ! فجرت مجرى المثل السائر.

والفلسفة، ومدخلها المنطق، كانت من (( علم الأوائل )) التي يعدها أهل السنة والجماعة بدعة، في مقابلة العلوم الشرعية؛ وأنها باب إلى الإلحاد في الإسلام. وكان مَن يسلك في تصنيفاته وتأليفاته طريق الحكمة يُرمى بالزندقة، كما نقل

صاحب الفهرست1. وكان الكِندي، الفيلسوف العربي الشهير، يخشى على نفسه، في زمن المتوكل، من تعاطي الفلسفة. والغزالي نفسه، الذي كتب كتاب (( تهافت الفلاسفة )) لم يتجاسر على تسمية أحد كتبه في علم المنطق باسـمه الحق، بل سـمَّاه (( معيار العلم )) ؛ وفيه يقول: (( حتى أن علم الحساب والمنطق الذي ليس فيه تعرُّض للمذاهب بنفي ولا إِثبات، إذا قيل إنه من علوم الفلاسفة الملحدين نفر طباع أهل الدين عنه2)) . وفي (( تهافت الفلاسفة )) يقول فيه: (( الكتاب الذي سميناه ( معيار العلم ) الذي هو الملقب بالمنطق عندهم3)) . وفي (( المنقذ من الضلال )) يقول: (( اعترضوا بمجاحدة علم الهندسة والمنطق وغير ذلك مما هو ضروري لهم4 )) .

وكانت تلك النزعة قوية خصوصاً عند الحنابلة، حتى أنهم نفـَروا ونفـّروا من كل علم غير العلوم الشرعية. قال تقي الدين بن تيمية: (( العلم الموروث عن النبي ( صلعم ) هو الذي يستحق أَن يسمّى علماً. وما سواه، إِمَّا أن يكون علماً فلا يكون نافعاً، وإِمَّا أَن لا يكون علماً، وإن سمّي به. ولئن كان علماً نافعاً فلا بدّ أَن يكون في ميراث محمد ( صلعم5). وقال الشاطبي: (( إِن عامة المشتغلين بالعلوم التي تتفق بها ثمرة تكليفية تُدخِل عليهم فيها الفتنة والخروج عن الصراط المستقيم6)) .

(1) ابن النديم، الفهرست 119 و 138.

(2) الغزالي: معيار العلم 117.

(3) الغزالي: تهافت الفلاسفة 6.

(4) الغزالي: المنقذ من الضلال 29.

(5) ابن تيمية: مجموعة الرسائل الكبرى 1 : 238.

(6) الشاطبي: كتاب الموافقات 1 : 26.

وهذا ما نقله لنا الجامعون المحققون. فقد نقل ياقوت1 ما أجمع عليه القوم: إن الفلسفة (( حكمة مشوبة بكفر )) ! ونقل السيوطي2 عن الفيلسوف حسن الأربلي الذي عاصر ابن خلكان، وكانت داره بدمشق ندوة للمسلمين وأهل الكتاب وأتباع الفلسفة، يأخذون عنه ويتعلمون منه، أَنه قال وهو على فراش الموت: (( صدق الله العظيم، وكذب ابن سيناء )) . ونقل الجاحظ3 أَن بين الأشـياء التي تخفى بعناية عن عيون الناس، إلى جانب الشراب المكروه، (( الكتاب المتهم )) من علوم الأوائل.

ولم تجدِ نفعاً عاجلاً محاولة الغزالي إلى توطين الفلسـفة والكلام والصوفية في الإسلام ـ مع نقضه لما فيها جميعاً من انحراف في نظر أهل السنة والجماعة ـ لخدمة الإسـلام نفسه. فقد أفتى من بعده ابن الصلاح الشهرزوري4 بتحريم الفلسفة والمنطق. قال: (( الفلسفة أسُّ السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة. ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهّرة المؤيدة بالحجج الظاهرة والبراهين الباهرة. ومَن تلبّس بها تعليماً وتعلـُّماً قارنه الخذلان والحرمان واستحوذ عليه الشيطان ... وأمَّا المنطق فهو مدخل الفلسفة، ومدخل الشرّ شرّ؛ وليس الاشتغال به ممّا أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، والسلف الصالح ... فالواجب على السلطان أَن يدفع عن المسلمين شـرّ هؤلاء المباشيم، ويخرجهم عن المدارس، ويبعدهم ويعاقب على الاشتغال بفنهم، ويعرض مَن ظهر عنه اعتقاد عقائد الفلاسفة على السيف أو الإسلام )) .

(1) ياقوت ـ نشر مرجليوث 2 : 48.

(2) السيوطي: بغية الوعاة 226.

(3) الجاحظ: كتاب البخلاء ـ نشر فون فلوتن 87.

(4) قابل عبد الرحمان البدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية 160 ـ161.

بعد تلك الفتوى القاضية اعتُبر الاشتغال محرَّماً كما نرى، عند تاج الدين السبكي1، وهو (( يوافق موافقة تامة وبدون شرط على ما أفتى به جماعة من أئمتنا ومشيختنا، ومشيخة مشيختنا بتحريم الاشتغال بالفلسفة )) . كما نرى عند ابن تيمية الذي كان عدوّاً مرّاً للفلسفة، كما يظهر من سائر مؤلفاته، خصوصاً في ( الرد على عقائد الفلاسفة )، وفي ( نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان )؛ وعند السيوطي الذي كان يقول: (( إن المنطق ـ وهو فضلاً عن ذلك من علوم اليهود والنصارى ـ علم يُحرّم الاشتغال به )) . تلك فتوى خاتمة المحققين.

فكان على النسَّاخ المحترفين في بغداد، عام 277هـ ، أن يقسموا بأنهم لن يشتغلوا بانتساخ أي كتاب في الفلسفة أو في الكلام2.

وقـد حمل عبد القادر الجيلاني، المتصـوّف الحنبلي الكبير ـ وقد توفي عام 561هـ ـ على أحد القضاة لأنه سمح بأن تكون في مكتبته مؤلفات الفلاسفة العرب3 وقد انتقم من أسرته، في شخص حفيده عبد السلام بن عبد الوهَّاب، الملقب بركن الدين المتوَّفى عام 611هـ، أهل السنّة بحرق كتب الأوائل التي كانت في مكتبته، بحضور القضاة والعلماء ومن بينهم ابن الجوزي. وحُكم على الشيخ عبد السلام بأنه فاسق وجُرّد من طيلسان العلماء، وزجّ به في السجن4.

قال العلامة جولدتسيهر5: (( ومن دوائر المتكلمين أَنفسهم، سواء المعتزلة

(1) المصدر نفسه 162.

(2) المصدر نفسه 135.

(3) المصدر نفسه 136.

(4) المصدر نفسه 136 ـ 137.

(5) المصدر نفسه 148.

منهم والأشاعرة، خرجت كتب عديدة ضد الفلسـفة عموماً وضد المنطق على وجه التخصيص )) .

وقد جرى كل هذا في عصر كان فيه علم اللاهوت المسيحي يرتكز على فلسفة أرسطو عند (( المدرسيّين )) في أوج ازدهاره مع توما الأكويني.

تلك الحملة على الفلسفة بتحريمها كانت بدء عهد الانحلال والجمود وختم باب الاجتهاد، طيلة العهد العثماني.

فلما جاءت النهضة العصرية تبدَّلت فيها المفاهيم ورجّعت إلى الفلسفة مكانتها في نظر أهل السنّة والجماعة، لأن الفلسفة والدين ميدانان من ميادين المعرفة متقابلان. وقد قام بهذا التوطين الأستاذ الإِمام محمد عبده على طريقة سلفه الغزالي1.

مع ذلك لم تزل الفلسفة مشبوهة في نظر أَهل السنّة والجماعة، لخطرها على النبوّة والشريعة. لذلك لا يصح أَن تكون الفلسفة أساساً للحوار الصحيح بين الإسلام والمسيحية، كما كان عليه الأمر في العهود الماضية.

2ـ مع أهل القرآن، لا يقوم الحوار الصحيح على أساس الكلام ( علم اللاهوت )

نشأ علم الكلام، في الإسلام، مع المعتزلة. لذلك كان هو أيضاً مشبوهاً عند أهل السنّة والجماعة. فقد قاومه أهل الحديث، والفقهاء من الحنابلة، وخصوصاً الصفاتيون منهم. وشهير الجدل في علم الكلام بين الذات والصفات

(1) عباس محمود العقاد: محمد عبده 240 و 269.

في الله، وبين الجبر والحرية في الإنسان. ولم يكن الكلام الأشعري الذي ساد الإسلام فيما بعد، بقوله بالمنزلة بين المنزلتين، كافياً ليرفع الشبهة عن علم الكلام.

نقل ابن الأثير1، في أخبار سنة 277هـ ، أنه كان على النسَّاخ المحترفين في بغداد أن يُقسموا بأنهم لن يشتغلوا بانتساخ أي كتاب من كتب الكلام، كما كان ذلك مطلوباً منهم أيضاً تجاه كتب الفلسفة.

ونقل أبو المحاسن في تاريخه عن الذهبي أَن أبا المعالي الجويني أستاذ الغزالي، قد ندم وهو على فراش الموت على اشتغاله بالكلام؛ وكان يقـول إن آلام علـّته سببها تلك الدراسة الآثمة2.

ويقول العلامة جولدتسيهر3: (( وكان طبيعيّاً أن تتّجه كراهية أهل السنة أولاً وبالذات إلى إلهيات أرسطو، لأن مقدماتها ونتائجها كانت تعتبر متعارضة أشد التعارض مع مقتضيات عقائد الإسلام، على الرغم ممّا بذله الفلاسفة الإسلاميون في عدة محاولات للتوفيق بينهما )) .

ونكتفي من ذلك بما نقله الغزالي في ( إحياء علوم الدين4)، قال: (( مسألة: فإن قلت، تعلـّم الجدل والكلام مذموم كتعلـّم النجوم، أو هو مباح، أو مندوب إليه؟ ـ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أَطراف. فمن قائلٍ: إِنه بدعة وإن العبد، إِنْ لقي الله عزّ وجلّ بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه الكلام! ومن قائل: إنه واجب وفرض إمّا على الكفاية أو على الأعيان؛ وإِنه أفضل الأعمال وأعلى القربات؛ فإِنه تحقيق لعلم التوحيد، ونضال عن

(1) قابل عبد الرحمان البدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية 135.

(2) المصدر نفسه 135 حاشية 2.

(3) المصدر نفسه 138.

(4) الغزالي: أحياء علوم الدين 1 : 84 و86 ـ 87.

دين الله تعالى. وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف. قال الشافعي: حكمي في أصحاب الكلام أَن يُضربوا بالجريد ويُطاف بهم في القبائل والعشـائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسـُّنّة، وأخذ في الكلام. وقال أحمد بن حنبل: لا يُفلح أهل الكلام أبداً! ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إِلاّ وفي قلبه دغَل! وبالغ في ذمه حتى ... قال: علماء الكلام زنادقة! وقال مالك: أَرأَيت، إِن جاءه مَن هو أجدل منه، أيدع دينه كل يوم لدين جديد! وقال أبو يوسف: مَن طلب العلم بالكلام تزندق! ولذلك قال النبي ( صلعم ): هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! هلك المتنطعون! أي المتعمقون في البحث والاستقصاء )) .

وأَنت ترى، بحسب الغزالي نفسه، أن (( جميع أهل الحديث )) وأَن ثلاث مذاهب من المذاهب الأربعة في فقه السُّنّة تحرّم علم الكلام.

أمّا الغزالي نفسه فيقول فيه: (( نعود إلى علم الكلام ونقول: إن فيه منفعة وفيه مضرة. فهو باعتبار منفعته، في وقت الانتفاع، حلال أو مندوب إليه أو واجب كما يقتضيه الحال. وهو باعتبار مضرته، في وقت الاستضرار ومحله، حرام. أَمّا مضرّته فإِثارة الشبهات أو تحريك العقائد وإِزالتها من الجزم والتصميم )) . والغزالي نفسه يعتبره من فروض الكفايات: (( والآن قد ثارت البدع، وعمّت البلوى، وأرهقت الحاجة، فلا بدّ أن يصير القيام بهذا العلم من فروض الكفايات )) .

ولم تمنع محاولة الغزالي وتأليفه كتاب ( إحياء علوم الدين ) ـ وهو أفضل كتب الكلام في الإسلام ـ مَن أتى بعده بتحريم الكلام مثل تحريم الفلاسفة، لأن المتكلمين، في نظر أهل السُّنّة والجماعة وعلى رأسهم أهل الحديث وأَهل الفقه، قد مزجوا كلامهم بأقوال الفلاسفة.

وكان ذاك التحريم للفلسفة والكلام نفسه بدء دور الجمود وغلق باب الاجتهاد مدى أجيال، حتى جاء عهد النهضة العصرية، وعاد لعلم الكلام منزلته. ويرجع الفضل في ذلك أيضاً إلى الأستاذ الإمام محمد عبده1، في تعليقه على (( العقائد العضدية )) ، التي كانت فاتحة لاعتماد (( السنوسية )) للإمام السنوسي المتوفّى عام 892 هـ في علم الكلام بالمدارس السنيّة في الإسلام2.

مع ذلك فلا يشتغلون بعلم الكلام لذاته، بل لردّ البدع، دفاعاً عن العقيدة الإسلامية، لا تفصيلاً لها بأصول وفصول، ومقدمات ونتائج. فالكلام الإسلامي من طبيعته جدال للدفاع عن العقيدة لا عرض لها. مع أن الغزالي قد حدّده: (( تحقيق لعلم التوحيد، ونضال عن دين الله تعالى )) .

لذلك لا يصح الحوار، مع أهل القرآن، على أساس علم الكلام، وعلى مقابلة الكلام الإسلامي بعلم اللاهوت المسيحي، لأن الحوار عَرْض لا جدل.

3ـ مع أهل القرآن، لا يقوم الحوار الصحيح على أساس الصوفية الإسلامية

هو مذهب العلامة الكبير ماسّنيون ومدرسته الحديثة الذين يعتبرون التصوف الإسلامي، لقربه من المسيحية، القنطرة الذهبية بين الإسلام والمسيحية. وفاتهم أن التصوّف الإسلامي موضع شبهات، عند أهل السنة والجماعة، منذ ظهوره حتى اليوم.

من هذه الشبهات انتساب الصوفية إلى الإمام علي، في فهم القرآن فهماً باطنياً قد لا ينسجِم، في نظر أهل السنة، مع ظاهر الشريعة. وقد أَعلن ذاك الانتساب المشبوه ابن الفارض بتائيته:

(1) قابل العقاد: محمد عبده 250 و258 و269.

(2) قابل عبد الرحمان البدوي: التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية 166 ـ 167.

وأوضح بالتأويل ما كان مشكلاً

عليٌّ بعلم نالـه بالوصيّةِ

فإن عليّاً في نظرهم إمام التصوّف الإسلامي1: فعلى الصوفية لذلك شبهة شيعية. ونحن نسجل واقعاً، ولا ندخل طرفاً بين السنّة والشيعة.

ومن هذه الشبهات أيضاً قول الصوفية بالفيض الإِلهي، وبوحدة الوجود، كما تقول بها الأفلوطينية الحديثة التي عمّت الشرق قبل الإسلام. والقول بالفيض ينقض القول بالخلق، والقول بوحدة الوجود ينقض القول بالتنزيه في التوحيد. ومن قولهم في ذلك: (( لم تكن روحاناً في الأصل سوى روح واحدة، كذا كان ظهوري وظهورك! فمن الخطل الكلام عني وعنك! فقد بطل فيما بيننا كلمة أنا وأنت2)) !

ومن هذه الشبهات أيضاً شبهة الزهد الصوفي التي تقوم على فساد البشرية في الإنسان. والإسلام السني لا يعترف بفساد فطري في الإنسان كما تقول به المسيحية في عقيدة (( الخطيئة الأصلية )) الموروثة عن آدم. والإفراط في الزهد على طريقة الصوفية، هو مذهب رهباني، ولا رهبانية في الإسلام، كما يقول حديث شريف. والقرآن صريح في إباحة الطيبات: (( يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيّبات ما أحلّ الله لكم! ولا تعتدوا ( أمر الله ) إن الله لا يحب المعتدين! وكلوا ممّا رزقكم الله حلالاً طيّباً، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )) (المائدة 90 ـ91). فتحريم الطيّبات على النفس اعتداء على شريعة الله.

ومن هذه الشبهات أيضاً شبهة الحلول التي تتجلـّى في شعر ابن الفارض، وابن العربي، وقد بلغت ذروتها عند الحلاّج الذي كان يقول في شطحاته الصوفية:

(1) قابل جولدتسيهر: العقيدة والشريعة في الإسلام 140.

(2) آمالي القالي 2 : 267.

(( أنا الحق، والحق أنا )) ! (( ما في الجبّة إلا الله )) ! (( سبحاني ما أعظم شأني )) ! فكفـّروه وقتلوه مصلوباً.

ومن هذه الشبهات أيضاً شبهة الوصال بالله والغناء في الله. وهذا الهدف الصوفي يتعارض، عند أهل السنة والجماعة، مع التجريد والتنزيه في التوحيد، فإن الله (( يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار )) ( الأنعام 103 ).

ومن هذه الشبهات شبهة شرب الخمر للاستعانة بها، عند الصوفية، على أحداث النشوة الروحية التي تستهلّ الاتصال بالله. لذلك فهم يسمونها (( بنج الأسرار )) . ومعروف تحريم الخمرة في القرآن والسنّة.

ومن هذه الشبهات شبهة تشبيه الحب الإلهي بالغزل الحسي، بتعابير حسية كالغزل بالحبيبة عند الشعراء. لذلك يأنف أهل السنة من هذا الغزل الصوفي الهجين. وكان ابن تيميّة يشنّع عليه ويصفه بالغزل الشهواني لا الروحاني.

ومن هذه الشبهات شبهة رؤية الله في هذه الدنيا، ويسميها الصوفية (( الحقيقة )) أي رؤية ذات الله. ومشهور الجدل الكلامي في إمكان رؤية الله في الجنة: فكيف لا يتورّعون من القول بها في هذه الفانية!

ومن هذه الشبهات أخيراً شبهة وحدة الأديان عند الصوفي، كقول ابن العربي:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورةٍ :

فمرعى لغزلانٍ، ودير لرهبانِ

وبيت لأوثانٍ ، وكعـبة طايفٍ ،

وألواح توراة، ومصحف قرآنِِ

أَدين بـدين الحب أنّى توجّهت

ركائبه، فالحب ديني وإيماني!

وهذا الدين الصوفي، عند أهل السنة والجماعة، يناقض قول القرآن: (( إن الذين عند الله الإسلام )) .

وقد حاول الغزالي أن يحرّر التصوف من تلك الشبهات، ويعطيه صفة الشرعية، ويوطـّنه عند أهل السنّة والجماعة. لكنه لم يُفلح، لأن عقيدة وحدة الوجود، وعقيدة الحلول كانتا غالبتين على التصوف الإسلامي: فظل موضع شبهة قائمة لا تزول.

ومصير الحلاج، الصوفي الكبير، دليل على الخطل الأكبر في اعتبار التصوّف الإسلامي أسـاساً صالحاً للحوار بين الإسـلام والمسيحية. فالمرحوم الأستاذ ماسنيون يعتبره (( شهيد الإسلام )) ، بينما أهل السنّة والجماعة اعتبروه كافراً فقتلوه!

لذلك لا تصح الصوفية أساساً للحوار الصحيح بين الإسلام والمسيحية.

4ـ مع أهل القرآن، لا يقوم الحوار على أساس التاريخ المقارن بين الأديان

كثيرون يتّخذون من نشأة المسيحية والإسلام، ومن أحوال السيرة والرسالة ما بين الإنجيل والقرآن سبيلاً إلى الحوار في مقارنة تاريخية موضوعية.

إِن علم مقارنة الأديان جليل ومفيد في ذاته. لكنه لا يصلح سبيلاً إلى الحوار المقبول. فكل ما يُشتمُّ منه رائحة الطعن في النبوة والقرآن باسم التاريخ، ينفّر ولا يقرّب، ويحمل المسلم الصحيح على التنكر لدين المسيح، من هذا السبيل القبيح! كذلك كل طعن في الإنجيل والمسيحية منقول عن الملحدين الذين لا يؤمنون بالتنزيل والدين، هو طعن في كل دين، ما دام في الدنيا دين!

وقد كانت الردود بين المسلمين والمسيحيين قائمة حتى اليوم على هذا التاريخ المقارن بين الأديان. فالمسلمون يطعنون بصحة الأناجيل وصحة تعليم المسيحية إلهية المسيح؛ والمسيحيون يطعنون بصحة القرآن والنبوة، تصريحاً أو تلميحاً

من طرف خفي. وهذا كله باسم التاريخ المقارن. فهذا جدال الأخصام، لا حوار الإخوان.

وبما أنه لا يمكن التجرّد من التاريخ والواقع حتى اليوم، فقد أخذ كثيرون يقولون: إن الحوار بين الإسلام والمسيحية غير ممكن. وإنهم لمخطئون، وإذا اعتُمدت الأسس الصحيحة.

بحث ثان

الحوار الصحيح من وجهة النظر المسيحية

إِنه لا يقوم حوار صحيح بين فريقين متقابلين إلا على أساس مقبول من الطرفين. وهذا الأساس المقبول في الحوار الإسلامي المسيحي هو الإنجيل والقرآن. فقد جاء القرآن نفسه: (( ومن الناس من يجادل في الله، بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) ( الحج 8 ؛ لقمان 20 )؛ (( ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً )) ( الأحقاف 12؛ هود 17 ). فالقرآن يجادل بهدى الكتاب الإمـام وعلم الإنجيل الحكيم، في تعليم العرب (( الكتاب والحكمة )) .

فالحوار الإسلامي المسيحي الصحيح إنما يُبنى على التوراة والإنجيل والقرآن (( وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) ( التوبة 113 )، لأن (( الله ـ لا إله إلا هو ـ الحي القيوم نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 2 ـ3 ).

لذلك، من وجهة النظر المسيحية، لا يقوم حوار صحيح مع المسلمين إلا على أساس الإنجيل والقرآن، ومن ورائهما التوراة والنبيين. ولا يمكن أن تقوم له قائمة مع أهل الإنجيل على أساس السيرة ولا الحديث ولا التفسير ولا علم الكلام.

1ـ مع أهل الإنجيل، لا يقوم حوار صحيح على أساس السيرة النبوية الموضوعة

يقبل أهل الإنجيل الحوار بين المسيح والنبي العربي على أساس الإنجيل والقرآن، أو على أساس القرآن وحده؛ لكنهم لا يقبلون المقارنة على أساس السيرة النبوية الموضوعة، لأنها مظنة شبهات.

قال السيد محمد عبد الله السمان1: (( إن الكثيرين، حين يحاولون دراسة شخصية الرسول، يعمدون إلى كتب السيرة ليأخذوا منها جزافاً بكل ما ورد فيها. وهذه الكتب على كثرتها لا يجوز أن تكون مرجعاً أصيلاً في هذا الصدد، لأنها كتبت في عصور لم يكن النقد مباحاً فيها؛ ومعظمها كان يدوّن لغاية تعبّدية؛ والخلافات الكثيرة في رواياتها تحتـّم على الباحث أن يقف منها موقف الحذر والحيطة. وقد استوعبت كتب السيرة هذه سيلاً من الخوارق والمعجزات التي تزيد وتنقص تبعاً لاختلاف الأزمان التي دوّنت فيها ... وكتب

(1) عبد الله السمان: محمد الرسول البشر 11 ـ 12.

السيرة مزدحمة بالرواة القصَّاصين الذين عرفوا بالصناعة القصصية في ما يروون. وهؤلاء لا يتحرّون الدقة في سند الرواية أو متنها، لأنهم يعنيهم ـ فحسب ـ صياغة الأسلوب وعنصر التشويق )) .

وما يقوله الأستاذ السمان بدأ القوم يجهرون به منذ (( حياة محمد )) لحسين هيكل؛ لأن السيرة النبوية، كما وردت في كتب السيرة، لا تستقيم للنقد الحديث إِلا في خطوطها العامة التي تتّفق مع القرآن المصدر الوحيد للعقيدة والسيرة.

فبسبب تلك الشبهات القائمة، لا يقوم الحوار الصحيح على أساس السيرة النبوية.

2ـ مع أهل الإنجيل، لا يقوم أيضاً حوار صحيح على أساس الحديث

لا شك أن الصحابة نقلوا عن النبي العربي بعض الأحاديث الصحيحة. لكن تلك الأحاديث النبوية ضاعت في زحمة الأحاديث الموضوعة. وعلى كل حال ليس الحديث قرآناً.

يقول الأستاذ محمد عبد الله السمان أيضاً1: (( وإذا تركنا كتب السيرة إلى كتب الحديث ألفينا أنفسنا إِزاء مشكلة معقّدة تجعل الباحث في حيرة لا تنتهي ولا تقف عند حد ... ولم يكد يتولى الخليفة الثالث عثمان حتى بدأت تتولـّد الخلافات السياسية بين بني هاشم وبني أمية (بل رجعت إلى عهدها الأول كما كانت قبل البعثة). وقُتل عثمان وتولـّى علي ثم قُتل؛ وآلت الخلافة

(1) محمد الرسول البشر 12 ـ 13.

بالقهر إلى معاوية. فظهر وضع آلاف الأحاديث ونسبتها إلى النبي لتكون مؤيداً لحزب سياسي، أو ناقضاً لحزب آخر. وانتهز اليهود والزنادقة فرصة هذه الخلافات التي تدثرت بالدماء، في معظم الأحايين وراحوا يختلقون الأحاديث ليهدموا بها الإسلام ويشغلوا العامة عن أصوله لتنصرف إلى شكلياته. كما تطوع كثير من السذّج والبسطاء فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب، ظنّاً منهم أن في هذا خدمة للدين. ولو عقلوا لأدركوا أنهم أساءُوا إلى الدين أكبر إِساءة ... ولم يبدإِ التدوين إلا في عهد المأمون، وذلك بعد أن اختلط النقيّ بالدخيل وأصبح الحديث الصحيح في الحديث الكذِب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، كما يقول الدارقطني أحد جامعي الحديث المعروفين ... وحسبك أن تعلم أن البخاري، وهو شيخهم، قد وجد أن الأحاديث المتداولة تزيد على ستماية ألف حديث، ولكنه لم يعتمد منها في صحيحه إِلا قرابة أربعة آلاف )) .

وجاء مِن بعده في جامعي الحديث مَن زاد عليه. ويعتقد العلماء في الحديث اليوم أنه حتى في صحيح البخاري وصحيح مسلم لا يزال (( الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود )) . ويذهب بعض العلماء إلى أن الأحاديث التاريخية لا تتجاوز الستة عشر حديثاً.

لذلك لا يصح الحديث، في علم النقد الحديث، أساساً سليماً صحيحاً للعقيدة والشريعة والسيرة، خصوصاً ما يتعارض منها مع حرف القرآن وروحه.

لهذه الشبهات القائمة على صحة الحديث لا يقوم الحوار الصحيح على أساس الحديث.

3ـ مع أهل الإنجيل، لا يقوم أيضاً حوار صحيح على أساس التفسير

إنه يحسن، في فهم القرآن، الاعتماد على أئمة المفسرين. ويصح الحوار على

أساس إجماع المفسرين، مع إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً لأنه في إجماع المفسرين نفسه تظل رواسب البيئة تتفاعل فلا يجرؤ أحد على تخطـّيها؛ واختلاف المفسرين، في مذاهب التفسير، قد لا يوجد إجماعاً يحمل على اليقين.

فالطبري، إِمام المفسرين بالمأثور، يفسّر القرآن بالحديث. وهو ينقل من الأحاديث أكثر من الصحيحين. وقد رأينا الشبهات القائمة على أكثر الحديث.

والزمخشري، وهو ذروة التفسير الاعتزالي، ينكر فيه على الأشاعرة، قادة السُنّة والجماعة, مواقفهم استناداً إلى تفسير القرآن بالرأي واللغة والبيان.

والفخر الرازي يحشو تفسيره بالاستطرادات الكلامية. وتحوم على الكلام والمتكلمين شبهات عند أهل السنّة والجماعة.

والبيضاوي والجلالان يمثلان أَهل السُنّة والجماعة، لكن على جمود القرون المتأخرة، ويعتمدان اللغة والحديث في التفسير، ويفوتهم أحياناً اصطلاح القرآن.

ناهيك عن التفسير بحسب الصوفية أو بحسب الباطن، أو بحسب الفرق الإسلامية التي تجد لها جميعاً ما يبرّرها. وكل تفسير على أساس المذاهب الكلامية أو الفقهية أو الصوفية أو الفرقية لا يمثل التفسير الأمثل.

وفي العصر الحديث يتأثر رشيد رضا في (( تفسير المنار )) بالخصومة بين الإسلام والمسيحية، فيشحن تفسيره بحملات على المسيحية ليست من روح القرآن في شيء.

ففي التفسير رأي ونقل وحديث واجتهاد، ومذهب وكلام وفقه وجهاد، لذلك لا يصح الحوار بين الإسلام والمسيحية على أساس المطلق، واعتماد أقوال

المفسّرين بدون إجماع. إنما يصح الاستئناس بها استئناساً لا يقتضي اليقين إِلاَّ في إجماع المفسرين من فوق شبهات الحديث والكلام.

4ـ مع أهل الإنجيل، لا يقوم حوار صحيح على أساس الكلام الإسلامي.

نشأ الكلام في الإسلام للدفاع عن العقيدة الإسلامية. وبدأ به المعتزلة. وكما تشعب الفقه مذاهب، تنوع الكلام مدارس.

فعلى الكلام عند أهل السنّة والجماعة شبهات: لذلك لا يرضاه أهل الإنجيل أساساً صحيحاً للحوار، ولو قال بذلك بعضهم وحاوله.

والكلام هو تحكيم العقل في القرآن: فإن اتحد النقل والعقل صحّ اعتمادهما في الحوار؛ وإن نبا النص فلا حوار إِلا بالقرآن مع اعتماد القرائن القريبة والبعيدة فيه لجلاء الدعوة والسيرة فيه.

فلا يقوم حوار صحيح على أساس الكلام المقارن وحده، من دون الكتاب. فأساس الحوار الصحيح بين الإسلام والمسيحية هو الإنجيل والقرآن. وعلى هذا الأساس نفهم الحوار المسيحي الإسلامي، من دون النظريات الكلامية وحدها.

فعلى أَساس الإنجيل والقرآن يصح الحوار، مع التسليم بصحتهما التاريخية الجوهرية من قبل المتحاورين أَجمعين، وإِلا فلا سبيل إلى حوار صحيح. وعلى هذا الأساس فالحوار ممكن ومفيد.

بحث ثالث

إن الحوار بين الإسلام والمسيحية ممكن، على أساس الإنجيل والقرآن

إن الحوار بين الإسلام والمسيحية ممكن على أساس الإنجيل والقرآن؛ وهو مفروض بالقرآن والإنجيل، متى صحت شروطه.

1ـ إِِن الحوار بين المسيحية والإسلام ممكن ومفيد

يقول كثيرون من المسلمين والمسيحيين: إِن تاريخ الصلات بين الإسلام والمسيحية حتى اليوم شاهد عدل على أن الحوار بينهما غير ممكن وعقيم. لكن فاتهم أنه قام حتى اليوم، من قبل الفريقين، على أسس غير صحيحة، وعلى نوايا غير طيّبة من كلا الطرفين.

ويقول بعضهم: إن بين المسيحية والإسلام اختلافاً جوهرياً ما بين التوحيد والتثليث، وبنوّة المسيح لله وإلهيته، واستشهاد المسيح على الصليب. ناهيك عن القول بالتجسد مع التنزيه والتجريد في التوحيد، والقول بالفداء للبشر بصلب المسيح أو القول بالإيمان وحده للخلاص، فالخلاص قدر وقضاء، ومِنّة وعطاء لا شفيع فيه ولا وسطاء.

ونحن لا ننكر ما في تلك المواقف الجوهرية من تعارض. لكن الحوار على أساس قرآني سمح، وعلى عرْض إنجيلي صحيح، يتخطّى ظواهر الفروق إلى بواطن الأمور، وإلى ما بين الإنجيل والقرآن من انتساب ونسب حتى وحدة الأمة: (( وان أمتكم هذه أمة واحدة )) (المؤمنون 53؛ الأنبياء 92) ـ هو حوار ممكن مقبول مرضي.

وهو، على أساس العرْض النزيه، مفيد لأنه يبين النسب الأصيل بين القرآن والكتاب، كما في قوله: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إِلاَّ بالتي هي أحسن ـ إِلاَّ الذين ظلموا منهم ( أي اليهود ) ـ وقولوا: آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 45 ). فلا جدال مع أهل الإنجيل إِلاَّ بالحسنى، والحسنى هي الشهادة بأن الإله واحد، والتنزيل واحد والإسلام واحد.

فالحوار ممكن ومفيد مهما قال المتشائمون، متى صحّت شروط الحوار الصحيح.

2ـ إن الحوار بين الإسلام والمسيحية يصح على أساس الإنجيل والقرآن

هذا ما رأيناه في البحثين السابقين. فأهل الإنجيل لا يرضون بالحوار إِلا على أساس القرآن؛ وأهل القرآن لا يرضون بالحوار إِلا على أساس الإنجيل. فالأمتان متفقتان على أساس الحوار الصحيح.

إِن القرآن دعوة كتابية لعرض التوحيد الكتابي المنزل على العرب. فهو يشرع للعرب دين إبراهيم وموسى وعيسى ديناً واحداً بلا تفريق ( الشورى 13 ): (( لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136؛ آل عمران 84 ).

وهو جاء ليعلم العرب (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل، بحسب لغة القرآن ( البقرة 129 و150؛ آل عمران 164؛ الجمعة 2 ).

إن القرآن أيضاً دعـوة نصرانية لأهل الكتاب أنفسـهم إلى إقامـة التوراة والإنجيل: (( قلْ: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل )) ( المائدة 71 ).

فالقرآن يدعو أولاً للتوحيد الكتابي، ثم للمسيح وأمه (( آية للعالمين )) . ( الأنبياء 92؛ المؤمنون 53 ). وهذا هو الجامع الأساسي للحوار الإسلامي المسيحي. وسنرى أن تكفيرات القرآن لبعض الفرق المسيحية، قد كفرتها المسيحية الصحيحة من قبله، فليست المسيحية الصحيحة المسيطرة اليوم على العالم بالمقصودة في تكفيرات القرآن، وإن وهم ذلك بعض المسلمين وبعض المسيحيين.

فصفة القرآن المتواترة أنه (( تفصيل الكتاب )) ، الكتاب كله، وتصديقه بين العرب. وهو يحاور الجميع بالكتاب الإمام لموسى ( الأحقاف 13؛ هود 17 ) والكتاب المنير لعيسى (لقمان 20؛ الحج 8).

لذلك فالقرآن هو الأساس الوحيد الصحيح للحوار بين الإسلام والمسيحية الصريح، في عرْض صحيح على الإنجيل.

3ـ إن الحوار بين الإسلام والمسيحية مفروض بالإنجيل والقرآن

إن الإنجيل والقرآن دعوة؛ وكل دعوة تدعو الناس للحوار؛ وكل دعوة من أصل واحد، مثل (( كتاب الله )) ، هي دعوة للحوار الداخلي والنقد الذاتي قبل أن تكون للعالمين.

ودعوة المسـيح في الإنجيل هي لجمع المؤمنين في العالم (( رعية واحـدة )) ( يوحنا 10 : 17 ) وختم رسالته قبل استشهاده بصلاة لوحدة المؤمنين في العالم ( يوحنا 17 كله ). وقيل رفعه إلى السماء كانت كلمات المسيح الأخيرة الأمر بالدعوة والحوار مع الخليقة كلها في العالم أجمع: (( لقد أوتيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض: فاذهبوا وتلمذوا الأمم جميعها )) ( متى 28 : 18 ـ19 )؛ (( ثم قال لهم: اذهبوا في العالم أجمع وادعوا بالإنجيل الخليقة كلها )) ( مرقس 16 : 15 ). فكيف لا يكون الحوار مفروضاً على أهل الإنجيل مع أهل القرآن الذين يؤمنون معهم بالمسيح وأمه (( آية للعالمين )) ( الأنبياء 92؛ المؤمنون 53 ).

والقرآن يشهد لنفسه: (( إِن هو إِلاَّ ذكرى للعالمين )) ( الأعراف 90 )، (( إِلاَّ ذكر للعالمين )) ( القلم 52 )؛ (( إِن هو إلاَّ ذكر للعالمين )) (12 : 104؛ 38 : 87؛ 81 : 27).

ويوجه القرآن الدعوة للعرب بقوله: (( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن )) ( النحل 125 )؛ لأن (( من الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) ( الحج 8؛ لقمان 20 ).

ويوجه الدعوة إلى أهل الكتاب أنفسهم: (( قلْ: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم )) ( آل عمران 64 ). والكلمة القرآنية السواء هي في قوله: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 46 ). فالقرآن يبني الحوار مع أهل الكتاب عامة على وحدة الإله ووحدة التنزيل ووحدة الإسلام؛ ويبنيه مع أهل الإنجيل خاصة على الإيمان بالمسيح أنه (( كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ) وهو بذلك مع أمه (( آية للعالمين )) .

فالحوار بين الإسلام والمسيحية مفروض بالإنجيل والقرآن على المسيحيين والمسلمين (( بالحكمة والموعظة الحسنة )) ، فهو جدال (( بالتي هي أحسن )) أي حوار أخوي، بهدى وعلم وكتاب منير، للوصول (( إلى كلمة سواء )) .

بحث رابع

لكن للحوار الصحيح بين المسيحية والإسلام شروطاً

شرط أول: الحوار جدال (( بالتي هي أحسن )) .

لقد حدّد القرآن الحوار الصحيح تحديداً وافياً: إنه جدال (( بالتي هي أحسن )) (العنكبوت 46)، ودعوة (( بالحكمة والموعظة الحسنة )) ( النحل 125 ). وهذا الحوار ليس خصاماً أو كبتاً للحرية الدينية في التعبير والتفكير.

والجدال الذي هو خصومة مذموم، يضر ولا ينفع. وقد فصّل الغزالي1 ذم الجدل وحمل على عزل الناس عنه: (( وينبغي أن يتحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة: فإِن ما يشوشه الجدل أكثر مما يمهّده، وما يفسده أكثر مما يصلحه ))

(1) الغزالي: إحياء علوم الدين 1 : 83.

شرط ثانٍٍ: الحوار عرْض لا تبشير.

والحوار عرْض سمح لموقف المتحاورين: (( وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن )) ( النحل 125 ). فليس الحوار تبشيراً لاصطياد الخصم؛ والتبشير هو نشر العقيدة بكل وسيلة لاقتناص المؤمنين.

إنما الحوار الصحيح عرْض ودود لعقيدة الفريقين للتعارف والتفاهم، ومن ثمّ للتقارب والاتحاد في سبيل الله.

شرط ثالث: الحوار الصحيح تعارف لا تجاف، مناظرة لا مهاترة.

إن الحوار الحق اطّلاع موضوعي ودّي على تعليم الفريقين، يفترض التسامح والتفاهم، والاحترام والتقدير بين المتحاورين.

فالبحث الموضوعي الرصين النزيه يقوم على العرض الكامل المكشوف لمواقف المتباحثين. ولا يكون ذلك مناظرة أخوية إِلا بالتقدير لعقيدة الآخرين، لا مهاترة بين متخاصمين.

شرط رابع: الحوار حديث مودة، لا حديث بغضاء.

إن شرْعة اللاعنف التي نادى بها الزعيم غاندي في السياسة, إنما هي شرعة الحوار الصحيح في الحقيقة الدينية. وما هي إلا شرْعة الإنجيل والقرآن: (( لا إكراه في الدين )) !

يجب احترام المحاور مهما كان رأيه فينا. ويجب تقدير عقيدته الدينية لا تكفيرها، وإن كنَّا لا نأخذ بها. بدون ذلك يُعدّ الحوار حرباً باردة، كما يقولون في لغة السياسة؛ بينما الحوار في حد ذاته حديث مودة، لا حديث بغضاء.

شرط خامس: الحوار حديث إيمان، لا حديث تكفير.

لقد علمنا الخطيب الشهير لاكوردير قاعدة الحوار الذهبية: (( إني لا أقصد بالحوار إِفهام محاوري بالخطإِ، إنما أبغي الاتصال به في سبيل حقيقة أسمى )) .

إن الإيمان يدفع إلى الغيرة والدعوة، لكنه يُبنى ويَبني على المحبة والوداعة، لا على التحقير والتكفير. فما أسهل شتم الآخرين! وما أسرع تكفيرهم! لكن ذلك يهدم ولا يبني. فالحوار حديث مودة، لا حديث تكفير!

شرط سادس: الحوار الصحيح يقتضي فهم الغير قبل الحكم عليه.

شرط كل حوار صحيح أن نفهم غيرنا كما نريد أن يفهمنا غيرنا؛ ولا نتسرّع في الحكم عليه: فالحوار الصحيح يقتضي فهم الغير قبل الحكم عليه.

ولا يصح أن يصدر حكمنا على محاورنا بالاستناد إلى ما عندنا وحده، فقد يكون ما عنده صحيح كما نعتقد صحة ما عندنا. والحقيقة تنشد الحقيقة.

لا بدّ من اختلاف وجهات النظر بين الأديان عند بني الإنسان. والحوار الصحيح يقضي بفهم وجهات النظر المختلفة في سبيل التقارب بينها، للوصول إلى الأصول المشتركة فيما بينها لأن الحق واحد، والحقيقة منه وإليه واحدة، مهما اختلفت السبل والوسائل. فشرعة فهم الغير سبيل إلى التفاهم معه.

شرط سابع: الحوار الصحيح يجمع ولا يفرّق، ييسّر ولا يعسّر، بدون خيانة للحقيقة.

إِن صحّت هذه القاعدة في كل حوار صحيح، فهي أصحّ ما تكون بين الإسلام والمسيحية، لأن الجامع الأساسي بينهما هو الإيمان بالتوحيد المنزل، مهما تباين فيه التأويل. فالقرآن إنما هو (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37 )،

والكتاب (( أمام )) القرآن في الهدى والبيان ( هود 17؛ الأحقاف 12 )؛ والقرآن يجادل بهدى وعلم الكتاب المنير أي الإنجيل ( لقمان 20، الحج 8 )، (( وقد شهد شاهد من بني إسرائيل (النصارى) على مثله )) ( الأحقاف 10 ).

فعلى المسلمين والمسيحيين أن يتحاوروا على (( علم وهدى وكتاب منير )) . فالحوار فيما بينهم، من دون خيانة للحقيقة، يجب أن يجمع ولا يفرّق، وأن ييسّر ولا يعسّر. فقد (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) ( البقرة 212 ).

هذا هو (( كتاب الله )) ( 2 : 101؛ 3 : 33؛ 5 : 47؛ 8 : 75؛ 9 : 37؛ 30 : 56؛ 33 : 6 )؛ وهو الحكَم بين الناس في كل حوار صحيح: (( قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما أتّبعه، إن كنتم صادقين )) ( القصص 49 ).

تلك هي بعض الشروط للحوار الصحيح بين المسيحية والإسلام.

* * *

فصل الخطاب : مثل الحوار الصحيح في (( رسالة الهاشمي إلى الكندي )) .

تلك هي أسس الحوار الصحيح بين المسلمين والمسيحيين. وقد فشل كل حوار في ما بينهم حتى اليوم، لأنه لم يُبنَ عليها. ونفتح صفحة جديدة في التاريخ ببناء الحوار الودّي على تلك الأسس الصحيحة.

ولنا في الحوار الصحيح بين المسلمين والمسيحيين مثالاً رائعاً في (( رسالة الهاشمي إلى الكندي )) ـ والهاشمي هو ابن عم الخليفة الأموي. قال في صفة الحوار المطلوب مع المسيحيين:

(( ورأيت أيضاً مطارنة وأساقفة، مذكورين بحسن المعرفة وكثرة العلم، مشهورين بشدة الإغراق في الديانة النصرانية، مظهرين غاية الزهد في الدنيا، فناظرتهم مناظرة نصفة، طالباً للحق، مسقطاً بيني وبينهم اللجاج والمراء والمكابرة بالسلطة، والصلف والبذخ بالحسب. وأوسعتهم أمناً أن يقولوا بحجتهم، ويتكلموا بجميع ما يريدونه، غير مؤاخذ لهم بذلك ولا متعنت بشيء، كمناظرة الرعاع والجهّال والسقاط والعوام والسفهاء من أهل ديانتنا، الذين لا أصل لهم ينتهون إليه، ولا عقل فيهم يعوّلون عليه، ولا دين ولا أخلاق تحجبهم عن سوء الأدب، وإنما كلامهم العنف والمكابرة والمغالبة بسلطان الدولة، بغير علم ولا حجة )) .

ثم يطلب الأمير الهاشمي من الكندي المسيحي، (( فاكتب بما عندك من أمر دينك، والذي صحّ منه في يدك، وما قامت به الحجة عندك، منّا مطمئناً، غير مقصّر في حجتك، ولا مكاتم لما أنت معتقده، ولا فـَرِق ولا وجـِل. فليس عندي إِلا الاستماع للحجة منك، والصبر والإقرار بما يلزمني منه، طائعاً غير منكر، ولا جاحد، ولا هائب، حتى نقيس ما تأتينا به وتتلوه علينا، ونجمعه إلى ما في أيدينا، ثم نخبرك بعد ذلك. على أن تشرح لنا علته، وتدعَ الاعتلال علينا بقولك: إن الفزع حجبك وقطعك عن بلوغ الحجة، واحتجتَ أن تقبض لسانك ولا تبسطه لنا ببيان الحجة. فقد أطلقناك وحجتك، لئلا تنسبنا إلى الكبرياء، وتدّعي علينا الجور والحيف، فإِن ذلك غير شبيه بنا: فاحتج، عافاك الله، بما شئت وتكلـَّم بما أحببت، وانبسط في كل تظن أنه يؤيدك إلى وثيق حجتك، فإِنك في أوسع الأمان.

ولنا عليك، أصلحك الله، إذ أطلقناك هذا الإطلاق، وبسطنا لسانك هذا البسط، أن تجعل بيننا وبينك حكَماً عادلاً لا يجور ولا يحيف في حكمه وقضائه، ولا يميل إلى غير الحق، إذا ما تجنّب دولة الأهواء، وهو العقل الذي

يأخذ به الله، عزّ وجل، ويعطي. فإِننا قد أنصفناك في القول، وأوسعناك في الأمان. ونحن راضون بما حكم به العقل لنا وعلينا، إذ لا إكراه في الدين )) .

فعلى مثل هذا الانصاف والتحكيم يقوم الحوار الصحيح الحكيم، بين الإنجيل والقرآن، والمسيحية والإسلام.

وقد أعطى اغسطين، أحد قادة الفكر في الإنسانية، القاعدة المثلى للحوار: (( إِن قارئي، إذا شاطرني عقائدي، فليماشِني؛ وإذا شاطرني شكوكي فليبحث معي؛ وإذا وجد نفسه على خطإٍ فليرجع عنه معي؛ وإذا وجدني، أنا نفسي، على خطإٍ فليردّني عنه ))

المبدأ العام:

الإنجيل والقرآن يدعوان إلى الحوار

كل دعوة موجهة للناس هي بحدّ ذاتها دعوة للحوار؛ والإنجيل والقرآن دعوة للناس، فهما دعوة للحوار.

والقرآن نفسه ينتسب دائماً إلى الكتاب وأهله: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر )) ( النحل 43 ـ44 ) ـ ويدعو نبيّه نفسه لمحاورة أهل الكتاب: (( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 ). وفي مثل هذه الأوامر إرشاد لنا وتحريض وترغيب. فالقرآن، والإنجيل كذلك، يدعوان إلى الحوار.

أولاً: الإنجيل يدعو جميع الناس إلى الحوار

1ـ باختيار ميدان دعوته بين بني إسرائيل

أجمع الإنجيل بأحرفه الثلاثة، حرف متى ومرقس ولوقا، على أن دعوة يسوع المسيح بالإنجيل كان ميدانها الأساسي في الجليل: (( وبعد ما أُلقي يوحنا المعمدان في السجن، أتى يسوع إلى الجليل يدعو بإنجيل الله. قال: لقد تمَّ الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل )) ( مرقس 1 : 14 ـ15 ).

واختار السيد المسيح الجليل ميدان دعوته الأكبر لأنه (( جليل الأمم )) حيث يمتزج المشركون بأهل الكتاب، فيسمعون كلام الله من فمه. فيحقق التاريخ نبوة أشعيا العظيم في دعوة المسيح: (( ولمّا سمع ( يسوع ) أن يوحنا قد قُبض عليه، انطلق إلى الجليل. ثم ترك الناصرة، وأتى فسكن في كفرناحوم على شاطئ البحر ... ليتم ما قيل في أشعيا النبي قال:

أرض زبولون ونفتاليم، على طريق البحر،

عبـْر الأردن ، جليــل الأمـم

الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً

والمقيمون في بقعة الموت وظله أشرق عليهم النور

ومنذئذٍ شرع يسوع يدعو ويقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات )) ( متى 3 : 12 ـ15 ).

فالنبوة والإنجيل يسميان ميدان دعوة المسيح (( جليل الأمم )) . فالأمميون يسمعون الإنجيل من يسوع نفسه مثل أهل الكتاب.

2ـ المشركون يتبعون يسوع

هذه لوحة عامة عن حركة الدعوة: (( وكان يطوف الجليل كله يعلـّم في جوامعهم، ويدعو بإنجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. فذاع خبره في سوريا كلها ... وتبعته جموع غفيرة من الجليل والمدن العشر وأورشليم واليهودية وعبر الأردن )) (متى 10 : 23 ـ 25).

فهو يذكر بين اتباع المسيح جموعاً من سوريا الكبرى كلها. ويخص بالذكر (( المدن العشر )) وهي عشر مدن أنشأها الاستعمار السوري والروماني في شرق

الأردن، ما بين عمان ودمشق، يستعمرها المشركون. فالمشركون من المدن العشر يتبعون يسوع.

3ـ رحلات يسوع إلى أرض المشركين

يتوهم كثيرون أن السيد المسيح اقتصر دعوته على بني إسرائيل. وفاتهم أن المشركين في سوريا الكبرى وخصوصاً في المدن العشر أتوا إلى يسوع يسمعون دعوته. وفاتهم خصوصاً أن يسوع نفسه قام بأربع رحلات إلى أرض المشركين للدعوة بالإنجيل: رحلة أولى إلى شرق بحيرة طبرية في منطقة جرش ( مرقس 4 : 35 ـ 5 : 43)؛ رحلة ثانية إلى نواحي صور وصيدا ( مرقس 7 : 24 ـ30 )؛ رحلة ثالثة ما بين المدن العشر الوثنية في شرق الأردن ( 7 : 31 ـ 8 : 26 )؛ رحلة رابعة إلى أرض المشركين في منطقة بانياس وجبل الشيخ، حيث كشف لصحابته سر شخصيته وسر رسالته (مرقس 8 : 27 ـ 9 : 30). فقد قسم يسوع دعوته بين أهل الكتاب والمشركين المجاورين شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاًَ. أما قول المسيح: (( لم آتِ إِلا للخراف الضالة من بيت إسرائيل )) فهو قول مخصوص، بظرف مخصوص، لمعنى مخصوص، تدل عليه قرائن النص، فلا يصح فيه التعميم، كما تدل أحداث الإنجيل وتلك الرحلات.

4ـ المسيح يدعو لتأسيس ملكوت الله في العالم كله

كان بنو إسرائيل يظنون أن المسيح يخصهم وحدهم، وأن ملكوت الله الذي يؤسسه هو دولتهم القومية العالمية. فكشف لهم (( أسرار ملكوت

السماوات )) ( متى 13 : 11 ) بأمثال كاشفة من الأدب الرفيع الذي عزّ نظيره في الآداب والأديان ( متى 13 كله ).

ففي مثل الزؤان بين القمح، يرينا أن ابن البشر ـ وهو لقب يسوع في الإنجيل ـ يزرع في العالم قمحاً جيداً؛ لكن عدو الله، إبليس، يندسّ ويزرع بينه زؤاناً. ويفسر هذه الاستعارة التمثيلية بقوله: (( الذي يزرع الزرع الجيّد هو ابن البشر أي يسوع؛ والحقل هو العالم؛ والزرع الجيّد هم بنو الملكوت؛ والزؤان هم بنو الشرّير ( أي إبليس )؛ والعدو الذي زرعه هو الشيطان؛ والحصاد هو منتهى الدهر؛ والحصادون هم الملائكة: فكما أن الزؤان يُجمع ويُحرق في النار، كذلك يكون في منتهى الدهر )) (متى 13 : 24 ـ30 ثم 36 ـ43). إن حقل الدعوة المسيحية هو العالم كله.

فالدعوة الإنجيلية موجهة للعالم أجمع، وإن قامت بين بني إسرائيل. فالمسيح يدعو لتأسيس ملكوت الله في العالم كله.

5ـ صحابة المسيح، يأمر منه، سيشهدون بالإنجيل للمشركين كلهم

اقتصر يسوع تدريب صحابته بالرسالة على بني إسرائيل ( متى 10 : 5 ). لكنه أخبرهم بما ينتظرهم عندما سيرسلهم إلى العالم كله ينقلون دعوته بين أَهل الكتاب في مهاجرهم، وبين الأمميين في مواطنهم: (( احذروا من الناس! فإنهم سيسلمونكم إلى المحافل (الوثنية) ويجلدونكم في جوامعهم ( اليهودية )! وستساقون إلى الولاة والملوك من أجلي لتشهدوا أمامهم، وأمام الوثنيين )) ( متى 10 : 17 ). فدعوة المسيح موجهة من أصلها إلى المشركين أيضاً في العالم كله.

6ـ المسيح يربط الشهادة العالمية لدعوته باستشهاده

قبل استشهاده ـ وكل دعوة سماوية تتم في الاستشهاد، على أنواع ـ يعلن يسوع للجماهير المحتشدة في الهيكل، للحج الأكبر في فصحهم، معنى استشهاده في دعوته: (( الآن دينونة هذا العالم! الآن رئيس هذا العالم ( إبليس ) يُلقى خارجاً! وأنا متى رفعتُ عن الأرض اجتذبت إِليَّ الجميع ـ قال يسوع هذا ليدل على أية ميتة كان مزمعاً أن يموتها )) (يوحنا 12 : 31 ـ 32). يربط السيد المسيح الشرك والكفر في العالم بعمل إبليس. ويعلن أن استشهاده دينونة للعالم الكافر، ونهاية لسلطان إبليس عليه. لذلك يكون استشهاده شهادة تجتذب العالم إلى الإيمان.

وأول من اعترض على صلب المسيح لمَّا تنبّأ لهم عنه كان اليهود أنفسهم؛ (( فأجابه الجمع: لقد علمنا من الشريعة أن المسيح يحيا إلى الأبد: فكيف تقول أنت: ينبغي أن يُرفع (يُصلب) ابن البشر؟ مَن هو هذا ابن البشر؟ فقال لهم يسوع: إِن النور معكم بعد حين ... فما دام النور معكم فآمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور )) ( يوحنا 12 : 34 ـ 36 ). إِن سر صلب المسيح نور، يكشفه المسيح النور، لأن الاسـتشهاد أعظم شهادة للدعوة؛ وشهادة الدم لا تُرد: (( وأنا متى ارتفعت عن الأرض ( بالصلب ) اجتذبت إلي الجميع )) . فالاعتراض على صلب المسيح سير في الظلام، لا سلوك في النور ( يوحنا 12 : 35 ـ 36 )، لأن المسيح يربط الشهادة العالمية الفعلة لدعوته باستشهاده.

7ـ بعثة رسل المسيح بالإنجيل إلى العالم كله

بعد قيامته من الموت والقبر، وقبل ارتفاعه حيّاً إلى السماء، (( دنا يسوع

منهم وكلمهم. قال: لقد أوتيتُ كل سلطان في السماء وعلى الأرض: فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم ... وها أنا معكم كل الأيام إلى نهاية الدهر )) ( خاتمة متى ).

وفي حرف مرقس نقرأ: (( ثم قال لهم: اذهبوا في العالم أجمع، وادعوا بالإنجيل الخليقة كلها؛ فمن آمن واعتمد يخلص، ومَن لا يؤمن يهلك )) .

(( وها هي ذي المعجزات التي تشهد للمؤمنين: باسمي يخرجون الشياطين! وبألسنة جديدة ينطقون! والحيات بأيديهم يأخذون! وإذا شربوا سمّاً قاتلاً فلا يتضرّرون! ويضعون أيديهم على المرضى فيُبرأون! ))

(( ومن بعد ما كلمهم الرب يسوع، ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله )) .

(( وأمّاهم فخرجوا ودعوا في كل مكان؛ والرب يؤازرهم، ويؤيد الدعوة بالمعجزات التي تصحبها )) ( خاتمة مرقس ).

وهكذا بعد أن سلم يسوع صحابته الإنجيل، ودربهم على الرسالة بين بني إسرائيل، وأعطى دعوته شهادة الدم، المعجزة الكبرى التي لا تُرد، بعثهم في (( العالم أجمع يدعون بالإنجيل الخليقة كلها )) .

فالإنجيل يدعو جميع الناس إلى الحوار.

ولوقا، تابع الصحابة بإِحسان، يُتبع الإنجيل بسيرة رسل المسيح في دعوتهم، في سفر (( أعمال الرسل )) . ويرينا كيف اكتسحت المسيحية، في ظرف عشرين سنة، العالم الإسرائيلي والسوري واليوناني والروماني، لأنه تحقق ذلك بنفسه واشترك فيه. ولم يذكر شيئاً عن دعوة رسل المسيح في العوالم الشرقية والإفريقية، لأنه لم يطلع عليها بنفسه، بل ذكرها جملة في انتشار الرسل الحواريين في العالمين. وفي مطلع تاريخه يذكر سر نجاح دعوتهم، بتأييد الروح

القدس لهم، وقد أرسله عليهم المسـيح نفسه من السـماء، فملأهم قوة ونوراً، فسبوا العالم إلى (( طاعة الإيمان )) بسلطان (( الكلمة والمعجزة؛ وبالروح القدس، وبكمال اليقين )) ( أفسس 1 : 5 )؛ (( والله يؤيد شهادتهم بالآيات والخوارق وأنواع المعجزات، وبتوزيع مواهب الروح القدس على حسب مشيئته )) ( عبر 2 : 4 ).

فتمت على يد جماعة من الأميّين ـ ما عدا بولس ـ معجزة انتشار المسيحية في العالم، يأمر المسيح نفسه، وقد وصفها الأديب الكبير العقاد، بقوله:

(( وبعد، فمن الحق أن نقول: إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن: رجل ينشأ في بيت نجار، في قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً تضيع في أضوائها دولة الرومان! ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاها الجبابرة في ضم إقليم واحد، قد يخضع إلى حين، ثم يتمرّد ويخلع النير؛ ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة، بالقلوب والأجسام )) ( حياة محمد ص 197 ).

* * *

ثانياً: القرآن يدعو أهل الكتاب خصوصاً إلى الحوار

القرآن دعوة عامة للمشركين العرب إلى الإيمان بالتوحيد الكتابي، دين إبراهيم وموسى وعيسى، الذي شرعه للعرب ( الشورى 13 ـ 15 ). وهذه هي الوحدة الجذرية بين أهل القرآن وأهل الكتاب.

1ـ والقرآن أيضاً دعوة خاصة لأهل الكتاب إلى الحوار: (( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون )) ( النمل 76 ).

أهل الكتاب هم اليهود والنصارى: ففيمَ هم يختلفون؟

أليس خلافهم في المسيح وأمه اللذين جعلهما الله (( آية للعالمين )) ؟ فالقرآن يدعو أهل الكتاب من اليهود إلى الإيمان بالمسيح: (( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى، ابن مريم، البيّنات، وأيّدناه بروح القدس: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقاً كذبتم، وفريقاً تقتلون )) ! ( البقرة 87 ).

والقرآن يدعو أيضاً أهل الكتاب من المسيحيين للكفّ عن (( الغلو )) في شأن المسيح: (( يا أهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلاّ الحق! إنما المسيح عيسى، ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ( النساء 170 ).

فالقرآن دعوة خاصة لأهل الكتاب إلى الحوار.

2ـ الحوار هو (( الجدال بالتي هي أحسن )) مع أهل الإنجيل

يحدّد القرآن الحوار بأنه (( الجدال بالتي هي أحسن )) : (( ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن )) ( النحل 125 ).

لكن هذا الجدال بالحسنى هو مخصوص بأهل الإنجيل، من دون اليهود من أهل الكتاب، الذين ظلموا بكفرهم بالمسيح، وبمحمد، (( النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته )) (الأعراف 157): (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إِلا بالتي هي أحسن ـ إإِلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) (العنكبوت 46)، فهو يجيز الجدال

مع اليهود بغير الحسنى، لأنهم ظلموا فلعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم ( المائدة 81 ). لكن القرآن لا يجيز الجدال مع أهل الإنجيل إِلا بالحسنى. وهذا الجدال بالحسنى مع أهل الإنجيل هو الأمر للمسلمين بالقول بوحدة التنزيل، ووحدة الإله، ووحدة الإسلام، فيما بينهم وبين أهل الإنجيل.

3ـ القرآن يشهد مع أهل الإنجيل المقسطين بالإسلام

الإسلام قائم قبل القرآن، بنص القرآن القاطع: (( هو سماكم المسلمين من قبلُ، وفي هذا )) القرآن ( الحج 78 ). والنصارى يعلنون لمحمد عند دعوتهم للإيمان: (( إِنـّا كنـّا من قبله مسلمين )) ( القصص 53 ). إِنهم مسلمون منذ إعلان الحواريين، صحابة المسيح، إسلامهم، لمّا سأل عيسى: (( مَن أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله! واشهد بأَنـّا مسلمون )) ( آل عمران 52 ).

والقرآن نفسه يشهد بالإسلام، بشهادتهم نفسها: (( شهد الله أنه لا إِله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط، لا إِله إلا هو العزيز الحكيم، إنَّ الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ـ19 ). سنرى أن القرآن يرادف بين أهل الكتاب، وأهل الذكر، وأولي العلم؛ ويقسمهم إلى فريقين: اليهود الظالمين ( العنكبوت 46 ) والنصارى المقسطين. فهؤلاء النصارى المقسطون هم الذين يشهدون مع الله وملائكته (( إن الدين عند الله الإسلام )) ؛ والقرآن يشهد بشهادتهم.

4ـ القرآن مع أولئك النصارى (( أمة واحدة ))

يختم القرآن ذكر أنبياء الكتاب بقوله: (( والتي أحصنت فرجها، فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين: إنَّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدونِ )) ( الأنبياء 91 ـ92 ). فالذين يؤمنون بالمسيح وأمه آية للعالمين هم أهل القرآن وأهل الإنجيل.

إنهم (( أمة واحدة )) مع أنبياء الله، منذ نوح إلى ابن مريم؛ والقرآن يختم أيضاً ذكرهم بقوله: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية! وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات، واعملوا صالحاً، إِني بما تعملون عليم. وإِن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون )) ( المؤمنون 51 ـ53 ).

فالإيمان بالمسيح وأمه ـ بعد التوحيد الكتابي الواحد ـ هو الذي يجعل أهل القرآن وأهل الإنجيل، في عرف القرآن نفسه، أمة واحدة.

5ـ الأمم الثلاث الكتابية، في عرف القرآن

إن القرآن صريح كل الصراحة في التمييز بين اليهود والنصارى من أهل الكتاب، وفي طريقة الحوار بالحسنى مع كل فريق، فهو بعد أن يذكر أمة محمد بأنها (( خير أمة أُخرجت للناس )) ( آل عمران 110 )، ويذكر اليهود بأنهم ضربت عليهم الذلّة والمسكنة لأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء بغير حق ( آل عمران 111 ـ112 )؛ يقول في النصارى: (( ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون؛ يؤمنون بالله واليوم الآخر؛ ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر؛ ويسارعون في

الخيرات. وأولئك من الصالحين. وما يفعلوه من خير فلن يكفروه. والله عليم بالمتقين )) ( آل عمران 113 ـ114 ). (( فالصالحون )) من أهل الكتاب هم في الإيمان والإحسان جماعة واحدة مع (( المتقين )) من العرب الذين آمنوا بالدعوة القرآنية. فهم في الإسلام أمة واحدة.

6ـ تكفيرات القرآن لأهل الكتاب مخصوصة لا يصح تعميمها

عندما يقول القرآن: (( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، في نار جهنم خالدين فيها، أولئك هم شرّ البرية )) ( البينة 6 )، فالتكفير للمشركين مطلق، بينما هو مخصوص بحق أهل الكتاب، كما ينضح من حـرف التبعيض: (( الذين كفـروا من أهل الكتاب )). فهو يقصد اليهود من دون النصارى، لأن القرآن في سورة المائدة، وهي من أواخر السور نزولاً إن لم تكن الأخيرة، يعلن اشتراك اليهود والمشركين في الكفر بالدعوة القرآنية وعداوة المسلمين؛ بينما يعلن إيمان النصارى ومودتهم: (( لتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا! ولتجدنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إِنا نصارى! ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع، ممّا عرفوا من الحق، يقولون ربنا آمنّا، فاكتبنا مع الشاهدين! )) ( المائدة 84 ـ86 ). هذه شهادة صريحة بإِيمان النصارى (( بما عرفوا من الحق )) في الدعوة القرآنية.

لذلك فتكفيرات القرآن لبعض النصـارى القائلين (( بالثلاثة )) ( النساء 170 ) أو بأن (( الله هو المسيح، عيسى ابن مريم )) ( النساء 19 و75 )، هي تكفيرات مخصوصة بفئات منهم، كفرّتها المسيحية قبل القرآن.

فهو لا يأخذ على أهل الإنجيل إلا (( الغلو )) في شأن المسيح: (( يا أهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح عيسى، ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ( النساء 170 ).

وهذا الإعلان لإيمان القرآن بالمسيح هو موضوع الحوار بين أهل القرآن وأهل الإنجيل.

7ـ الشهادة الواحدة الجامعة لأهل القرآن وأهل الإنجيل

إنهم متفقون جميعاً على هذه الشهادة الواحدة الجامعة:

(( أشهد أن لا إله إلا الله، وأن المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) .

إِنهم يتفقون جميعاً على حرف هذه الشهادة، ويختلفون في تأويلها. والخلاف في التأويل كان قائماً بين (( النصارى )) والمسيحيين في عهد (( الفترة )) بين المسيح ومحمد.

ولما جاء وفد نجران المسيحي ـ وهم من أهل (( الغلو )) في شأن المسيح ـ وكان أعظم الوفود وأخطرها، ليفاوض النبي العربي في نبوة المسيح من الله، كان ختام الحوار معهم بالحسنى، قول القرآن: (( قلْ: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله! فإن تولوا، فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون )) ( آل عمران 64 ).

فالكلمة السواء بين أهل القرآن وأهل الإنجيل تنحصر في تأويل تلك الشهادة الواحدة الجامعة، التي يتفقون جميعهم على حرفها.

والخلاف بين أهل الإنجيل وأهل القرآن على تأويل تلك الشهادة الواحدة الجامعة، لا يمنع أنهم (( أمة واحدة )) في أصل الإسلام، بنص القرآن القاطع: (( وقولوا: آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 46 )، أي الإله واحد، والتنزيل واحد، والإسلام واحد، بين أهل القرآن وأهل الإنجيل.

فالدعوة القرآنية لأهل الإنجيل (( إلى كلمة سواء )) ؛ والأمر بجدالهم (( بالتي هي أحسن )) ؛ هو الحوار بعينه، المفروض بالقرآن نفسه.

وبما أن الإنجيل والقرآن يدعوان معاً إلى الحوار؛ وأقرب الحوار ما قام بين أهل القرآن وأهل الإنجيل، لأنهم (( أمة واحدة )) في أصل الإسلام القرآني الكتابي؛ فما على المسيحيين والمسلمين جميعـاً إلا إِقامة هذا الحـوار ـ لا بلغة الماضي، بل (( بالتي هي أحسن )). وهذه الصفة القرآنية للحوار الإسلامي المسيحي المطلوب والمفروض معاً، هي الشرط الأساسي للحوار الصحيح فيما بينهم. وكل حوار ليس (( بالتي هي أحسن )) ـ من كلا الطرفين ـ هو حوار فاشل، وغير صحيح.

الفصْل الأوّل

الإسلام في عرف القرآن

بحث أول : إسـلام القرآن هو إسـلام الكتـاب ، في (( أمة واحدة ))

   بحث ثان : إسلام القرآن هو الإسلام (( النصراني )) في (( أمة واحدة ))

توطئة

(( الإسلام )) اصطلاح لدين الله المنزل في الكتاب

دين القرآن، بل دين الله على الإطلاق، هو الإسلام: (( إن الدين عند الله الإسلام )) (آل عمران 19). لذلك (( ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً، فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 85 ).

يظن الجاهلون أو المتجاهلون أن هذا (( الإسلام )) هو إسلام آل محمد من دون سواهم. لكن القرائن القرآنية، في الآيتين، وفي القرآن كله، تشهد بأن إسلام القرآن هو إسلام الكتاب الذي يبلغه النبي العربي لبني قومه ( الشورى 13 )؛ وهو إسلام (( النصارى )) على الخصوص. هذا هو الركن الأساسي للحوار الإسلامي المسيحي.

بحث أول

إسلام القرآن هو إسلام الكتاب

( القاعدة الأولى للحوار الإسلامي المسيحي )

1ـ الإسلام بين القرآن والكتاب واحد

1) في عرف القرآن، (( إن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 19 ).

لكن هذا الإسلام هو إسلام الكتاب نفسه، بنص القرآن القاطع: (( أفغير دين الله يبغون، وله أسلمَ مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وإليه يرجعون. قلْ: آمنّا بالله وما أُنزل علينا، وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون: ومَن يبتغي غير الإسلام ديناً، فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 83 ـ 85 ). فالإسلام هو دين إبراهيم وموسى وعيسى، (( لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون )) . وإسلام القرآن هو إسلامهم، أي إسلام الكتاب، لا إسلام غيره.

2) والقرآن يشرع للعرب إسلام الكتاب نفسه: (( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه أكبر على المشركين ما تدعوهم إليه )) ( الشورى 13 ). فالدين الذي يشرعه الله في القرآن للعرب هو دين إبراهيم وموسى وعيسى؛ وهذا هو إسلام الكتاب: فإسلام القرآن هو إسلام الكتاب.

3) والقرآن أخذ الإسلام اسماً ومعنى من الكتاب: (( هو سماكم المسلمين من قبلُ وفي هذا )) ( الحج 78 ) أي (( من قبل القرآن في الكتب المتقدمة، وفي هذا القرآن، والضمير لله؛ ويدل عليه أنه قُرِئ: الله سماكم؛ أو لإبراهيم. وتسميتهم مسلمين في القرآن لم يكن منه )) (البيضاوي). فالله تعالى منذ إبراهيم يسمّي المؤمنين بالتوحيد الكتابي المنزل مسلمين. فورث القرآن إسلام الكتاب اسماً ومعنى: فإِسلام القرآن هو إسلام الكتاب.

4) محمد نفسه، في هدايته وبعثته، يُؤمر بأن ينضم إلى المسلمين من قبله: (( إِنما أُمرتُ أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرَّمها، وله كل شيء؛ وأُمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) ( النمل 91 ـ92 ). فالمسلمون موجودون من قبل محمد، وهو يُؤمر بأن ينضم إليهم ويتلو معهم (( القرآن )) . وما قاله محمد عن نفسه، قاله نوح عن نفسـه من قبله: (( واتل عليهم

نبأ نوح إذ قاله لقومه: ... وأُمرت أن أكون من المسلمين )) ( يونس 71 ـ72 ). فالإسلام من نوح إلى محمد واحد، وهو إسلام الكتاب.

5) وفرعون عند غرقه يعلن إسلامه بحسب إسلام بني إسرائيل: (( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، فاتبعهم فرعون وجنوده، بغياً وعدواً، حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت أنه لا إِله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين )) ( يونس 90 ). فبنو إسرائيل، ورثة نوح وإبراهيم وموسى، هم المسلمون، لأنهم أوتوا الكتاب: (( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم ( الحكمة ) والنبوة، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على العالمين )) (الجاثية 15)؛ ولأنهم ورثوا الكتاب: (( ولقد آتينا موسى الهدى، وأورثنا بني إسرائيل الكتاب )) (المؤمن 53). فالإسلام هو إسلام الكتاب قبل إسلام القرآن. وما إسلام القرآن سوى إسلام الكتاب الذي شرعه الله للعرب ( الشورى 13 ).

2ـ وحدة الكتاب المنزل في التوراة والإنجيل والقرآن

1) لذلك يعلن القرآن وحدة الكتاب المنزل في التوراة والإنجيل والقرآن: (( كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأَنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) ( البقرة 212 ). وهذا الكتاب الواحـد نزل توراةً وزبوراً وإنجيلاً وقرآناً: (( نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه ( قبله ). وأنزل التوراة والإنجيل من قبلُ ... وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 3 ). قال الزمخشري: إن الله تعالى بتنزيل التوراة والإنجيل والقرآن أنزل الفرقان كله أي (( جنس الكتب السماوية، لأنها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل )) . وقال البيضاوي: (( وأنزل الفرقان: ذكر

ذلك بعد الكتب الثلاثة ليعم ما عداها. وقد يراد به الزبور؛ أو القرآن، كرّره مدحاً )) . ورأي الزمخشري أقرب إلى الصواب. الفرقان تفصيل القرآن.

2) وهذه الكتب المنزلة يصدّق بعضها بعضاً: (( وقفينا على أثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه ( قبله ) من الكتاب ومهيمناً عليه )) ( المائدة 46 ـ 51 ) ـ (( مهيمناً عليه أي شاهداً له )) ( الجلالان ).

3) وما القرآن نفسه سوى نسخة عربية للكتاب: (( والكتاب المبين، إِنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )) ( الزخرف 1 ـ2 ). فكتاب موسى هو الإمام، وقرآن محمد تصديق له: (( ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربيّاً )) ( الأحقاف 12 )، كأنه لشـدة مطابقته لا يختلف عنه إلاَّ باللسـان العربي. فالقرآن تصديق للكتـاب وتفصيل: (( أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً ( في القرآن )؛ والذين أتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين )) ( الأنعام 114 ). لاحظ من تعريف (( الكتاب )) في الموضعين أن المنزل على محمد والمنزل من قبل واحد؛ وما القرآن سوى تفصيل الكتاب.

4) فليس القرآن سوى تصديق وتفصيل للكتاب، بلسان عربي مبين: (( وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه ( قبله ) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) ( يونس 37 ).

فوحدة الكتاب بين التوراة والإنجيل والقرآن شاهد عدل على وحدة الدين ووحدة الإسلام، في عرْف القرآن.

3ـ وحدة الإيمان من وحدة الإسلام

1) ويعلن القرآن أيضاً وحدة الإيمان بين القرآن والإنجيل والتوراة: (( يا أيها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزَّل على رسوله، والكتاب الذي أَنزل من قبل! ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً )) ( النساء 135 ).

2) إيمان واحد وإسلام واحد: (( قولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا، وما أُنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم؛ لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136 ).

3) فلا تفريق في الإيمان والإسلام ما بين موسى وعيسى ومحمد: (( قلْ: آمنا بالله وبما أُنزل علينا، وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) ( آل عمران 83 ـ85 ).

4ـ وحدة الإيمان والإسلام تقوم على وحدة الوحي

1) وإن وحدة الكتاب والإسلام والإيمان تقوم على وحدة الوحي: (( إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده؛ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان؛ وآتينا داود زبوراً؛ ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل، ورسلاً لم نقصصهم عليك؛ وكلّم الله موسى تكليماً؛ رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلا نقصصهم عليك؛ وكلـّم الله موسى تكليماً؛ رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلا

يكون للناس على الله حجة بعد الرسل! وكان الله عزيزاً حكيماً )) ( النساء 162 ـ164 ).

فوحدة الإسلام بين أهل القرآن وأهل الكتاب تقوم على وحدة الكتاب المنزل، ووحدة الدين الكتابي، ووحدة الإيمان الإسلامي، وحدة الوحي الإلهي.

2) لذلك لما تلا محمد القرآن على أهل الكتاب، أجابوه بأنهم مسلمون من قبله: (( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم يؤمنون به؛ وإذا يُتلى عليهم قالوا: آمنا به، إنه الحق من ربنا! إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين )) ( القصص 52 ـ54 ).

فكان جواب القرآن لتصريح أهل الكتاب بأنهم مسلمون من قبل القرآن: أن لهم أجرين لإيمانهم بإسلام الكتاب وإسلام القرآن، أو كما يقول البيضاوي. (( لكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن أو تلاوته عليهم )) .

فإسلام القرآن هو إسلام الكتاب في (( أمة واحدة )) .

وهكذا اتضحت لنا القاعدة الأولى من الحوار الإسلامي المسيحي: إسلام القرآن هو إسلام الكتاب؛ ومن يبتغ غير هذا الإسلام الكتابي القرآني ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ( آل عمران 83 ـ85 ).

بحث ثان

إسلام القرآن والإسلام (( النصراني ))

توطئة: (( الأمة الواحدة )) و (( الأمة الوسط )) في القرآن

إسلام القرآن هو إسلام الكتاب أي دين إبراهيم وموسى وعيسى الذي يشرعه القرآن للعرب ديناً واحداً بلا تفرقة ولا تفريق ( الشورى 13 )، في (( أمة واحدة )) تؤمن بالمسيح وأمه (( آية للعالمين )) ( الأنبياء 92؛ المؤمنون 53 ).

وهذه (( الأمة الواحدة )) هي (( أمة وسط )) ( البقرة 143 ) بين اليهودية التي تكفر بالمسيح وأمه، وبين المسيحية التي (( تغلو )) في شأن المسيح وأمه.

وهذه (( الأمة الوسط )) كانت قائمة في عهد (( الفترة )) ما بين المسيح ومحمد. فقد انقسم أتباع المسيح، بعد العهد الرسولي إلى سُنة وشيعة، وكان الفاصل بينهما مؤتمر صحابة المسيح في أورشليم عام 49 م. الذي حرر المسيحيين من الأمميين من شريعة موسى والختان، وترك النصارى من بني إسـرائيل أحـراراً في إقامـة التوراة والإنجيل: فتشـيّع (( النصارى )) من بني إسرائيل إلى التوراة فأقاموها مع الإنجيل، فكانوا (( شيعة النصارى )) (1ع 24 : 5)؛ وتبع المسيحيون من الأمميين شرعة الرسل فكانوا السُنة المسيحية.

والفارق الجوهري بين الشـيعة والسـنة من أهل الإنجيل، هو في الإيمان بالمسـيح، (( كلمة الله )) . فقد فسرها (( شيعة النصارى )) على ضوء الكلام الفيلوني.

وكان فيلون، المتكلم اليهودي الأكبر في عصر الميلاد، يفهم (( كلمة الله )) بأنه (( ملاك كلمة الله ))1؛ فهو عنده (( أقدم الملائكة )) ، و (( أول الملائكة ))2، أي (( أول خلق الله )) وواسطة الخلق كله. فقال (( النصارى )) من بني إسرائيل بأن المسيح هو (( كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه )) كما سيأتي أيضاً في القرآن. وقال أهل السُنة المسـيحيون بأن المسيح، (( كلمة الله )) أي نطقه الذاتي الذي يتسلسل فيه كتسلسل ابن عن أبيه في عالم المخلوق، ولله المثل الأعلى ( فاتحة الإنجيل بحسب يوحنا ).

فكان (( النصارى )) من بني إسرائيل بعقيدتهم في المسيح (( أمة وسطاً )) بين اليهودية الكافرة، والمسيحية المغالية في نظرهم.

وهذه هي (( الأمة الوسط )) في الإسلام القرآني.

1ـ إسلام القرآن هو إسلام أولي العلم المقسطين

هذه هي شهادة القرآن للإسلام:

(( شهد الله أنه لا إله إلاّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ـ إن الدين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياُ بينهم. ومن يكفر بآيات الله، فإِنه سريع الحساب. فإن حاجوك فقل: أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا؛ وإن تولوا،

(1) فيلون: في الأرواح 1 : 239.

(2) فيلون: في بلبلة الألسن 146 ـ147.

فإنما عليك البلاغ، والله بصير بالعباد. إن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فبشرهم بعذاب أليم )) ( آل عمران 18 ـ21 ).

فمن هم (( أولو العلم )) القائمون بالقسط، الذين يشهدون مع الله وملائكته (( إن الدين عند الله الإسلام )) ؟ والقرآن يشهد بشهادتهم: فإسلامه من إسلامهم.

هنا لا بدّ لنا من استطراد نستقرئ فيه القرآن لنرى من هم (( أولو العلم )) في لغته واصطلاحه.

يأخذ القرآن تعبير (( العلم )) عادة بمعناه اللغوي، كمرادف للمعرفة، وذلك في عشرات الآيات. لكنه يستخدم أيضاً تعبير (( العلم )) بمعنى اصطلاحي عندما يذكر اختلاف أهل الكتاب من يهود ونصارى: (( وما اختلف أهل الكتاب إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم )) ( آل عمران 19، الشورى 14، الجاثية 16 ). فإِن (( العلم )) هنا اصطلاح: وله معنى عام ومعنى خاص، يظهران من اسم (( أولي العلم )) ومن الصفة المتواترة (( قائماً بالقسط )) .

واصطلاح القرآن يقسـم الذين يخاطبهم في مكـة والمدينة إلـى (( أهـل الكتاب )) و(( الأميين )) العرب الذين ليس لهم كتاب منزل ( آل عمران 20 ). ويسمّي أهل الكتاب على العموم (( الذين يعلمون )) تجاه المشركين الأميين الذين يسميهم (( الذين لا يعلمون )) ( البقرة 113 و119 ). فأولو العلم في اصطلاحه هم أهل الكتاب. وهو يتحدى المشركين الكافرين به بإِيمان أولي العلم، أهل الكتاب: (( قلْ آمنوا به أولا تؤمنوا: إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجّداً )) ( الإسراء 109 ).

(( فالعلم )) في اصطلاح القرآن هو (( العلم )) المنزل في الكتاب؛ (( وأولو

العلم )) هم أهل الكتاب؛ وقد (( أوتوا العلم من قبله )). فالعلم الذي يستشهد به القرآن موجود معهم من قبله.

ونلاحظ أيضاً أن القرآن يُرادف بين أهل الكتاب، وأولي العلم، وأهل الذكر في انتسابه واستشهاده: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43 ـ44 ). فالذكر الحكم، والعلم المنزل مترادفان.

والقرآن يقسم أيضاً (( أولي العلم )) من أهل الكتاب، إلى فريقين: اليهود الظالمين، والنصارى المقسطين، ويأمر بمعاملة مختلفة للفريقين: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم )) ( العنكبوت 46 ). فاليهود ظالمون بكفرهم بالمسيح ثم بمحمد، فتحق معاملتهم بغير الحسنى؛ أما النصارى فلا يصح جدالهم إلاّ بالحسنى لأنهم مقسطون في إيمانهم ( الإسراء 109 ـ110؛ المائدة 85 ـ86 ).

والقرآن عندما يعدّد المخاطبين يميّز النصارى بصفة أولي العلم: (( والذين سعوا في آياتنا معاجزين ( اليهود ) أولئك لهم عذاب من رجز أليم! ويرى الذين أوتوا العلم (النصارى) الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد؛ وقال الذين كفروا ... أم به جنّة ( المشركون ) ( سبأ 5 ـ 8 ).

وفي هذه الآية الأخرى يجمع المخاطبين كلهم، ويميز النصارى بصفة (( أولي العلم )) فهم مختصون به من دون العالمين، ومن دون جماعة محمد: (( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ( المنافقين )؛ والقاسية قلوبهم ( المشركين )؛ وإن الظالمين ( اليهود ) لفي شقاق بعيد؛ وليعلم الذين أوتوا العلم ( النصارى ) أنه الحق من ربك، فيؤمنوا به، فتخبت له قلوبهم؛ وإن الله لهاد الذين آمنوا ( جماعة محمد ) إلى صراط مستقيم )) ( الحج 53 ـ 54).

فصفة ( أولي العلم المقسطين ) ميزة النصارى في القرآن كلما استشهد بهم:

(( قال الذين أوتوا العلم )) ( النحل 27؛ الروم 56 ). وكفى بهم مع الله شهداء للدعوة القرآنية: (( وقال الذين كفروا: لست مرسلاً! قلْ: كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب )) ( الرعد 25). فعلم الكتاب هو (( العلم )) في اصطلاح القرآن؛ وهذا العلم موجود عند (( الذين يتلون الكتاب حق تلاوته )) ( البقرة 121 ) أي النصارى، في عرْف القرآن، لأنهم (( الراسخون في العلم منهم ( من أهل الكتاب )، والمؤمنون ( جماعة محمد ) يؤمنون بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قبلك )) ( النساء 161 ).

(( الراسخون في العلم )) صفة ثانية (( لأولي العلم قائماً بالقسط )) ؛ وهم الذين يؤمنون أيضاً بالمحكم والمتشابه في آيات القرآن، بخلاف اليهود (( الذين في قلوبهم زيغ، فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كلٌّ من عند ربنا؛ وما يذكّر إلا أولو الألباب: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا )) ( وهم جماعة محمد ) ( آل عمران 7 ـ 8 ). لذلك يجمع أولي العلم المقسطين، الراسخين في العلم أي النصارى، في منزلة واحدة مع الذين آمنوا من العرب: (( يرفع الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات )) ( المجادلة 11 ).

فالنصارى هم العلماء الذين يشيد بهم في قوله: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )) (فاطر 28)، لأن منهم (( مَن هو قانت آناء الليل ساجداً قائماً يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربه! قلْ: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )) ( الزمر 9 ). فالتعبيران (( العلماء )) ، الذين يعلمون )) اصطلاح قرآني مخصوص، لا يصح فهمه بحسب اللغة كما تفعل العامة.

ففي اصطلاح القرآن، إن أولي العلم على التخصيص، أولي العلم المقسطين، الراسخين في العلم، هم (( النصارى )) وحدهم. وتعبير (( العلم )) اصطلاح يعني

(( علم الكتاب )) ( الرعد 45 ) بحسب تلاوة الكتاب حق تلاوته كما عند (( النصرانية )) .

بعد هذا الاستطراد، نعود إلى الشهادة القرآنية بالإسلام.

فالذين يشهدون مع الله وملائكته (( إن الدين عند الله الإسلام )) هم (( أولو العلم قائماً بالقسـط )) أي النصارى. والقرآن يشهد بالإسـلام على شهادتهم: فإِسلام القرآن هو الإسلام (( النصراني )) .

وقد شذّ عن هذا الإسلام القرآني، (( النصراني )) ، اليهود من أهل الكتاب: (( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءَهم العلم بغياً بينهم )) ( آل عمران 19 ). هذا تعميم يُراد به التخصيص، كما تدل قرائن الآية كلها. فاليهود ليسوا مقسطين في (( العلم )) فهم (( يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس: فبشرهم بعذاب أليم )) ( آل عمران 21 ). وما أجمل هذه الشهادة القرآنية: إن اليهود على عهد النبي العربي كانوا يقتلون النصارى (( الذين يأمرون بالقسط )) ، بسبب شهادتهم لصحة الدعوة القرآنية.

فإسلام القرآن هو إسلام النصارى، (( أولي العلم قائماً بالقسط )) . فهم مع الله وملائكته يشهدون (( أن الدين عند الله الإسلام )) . والقرآن يشهد بشهادتهم.

2ـ القرآن و (( النصارى )) أمة واحدة

إن الإسلام هو صفة النصارى منذ الحواريين صحابة المسيح: (( فلما أحسّ عيسى منهم الكفر ( من اليهود )، قال: مَن أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون:

نحن أنصار الله، آمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون. ربنا آمنا بما أنزلت (في الإنجيل) واتّبعنا الرسول (عيسى) فاكتبنا مع الشاهدين )) (آل عمران 53). كأن القرآن يعرّب هنا (( نصارى )) بأنصار. وما يقوله الحواريون للمسيح، يقوله النصارى اتباعهم لمحمد: (( ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين )) ( المائدة 86 ). فما بين الحواريين وأتباعهم، ومحمد وأتباعه إيمان واحد، وإسلام واحد، وأمّة واحدة.

2) ان أهل الإنجيل، وأهل القرآن، هم في عرْف القرآن نفسه، (( أمة واحدة )) من دون العالمين، سواء من أهل الكتاب أو من الأميّين، لإيمانهم بالمسيح وأمه (( آية للعالمين )) . فهو يختم ذكر الأنبياء بقوله: (( والتي أحصنت فرجها، فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين. إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدونِ )) ( الأنبياء 91 ـ92 ). فليس محمد و(( المتقون )) معه من العرب أمة واحدة مع أهل الكتاب على الإطلاق؛ إنما هم أمة واحدة مع النصارى المؤمنين بالمسيح وأمه آية للعالمين.

ويختم أيضاً ذكر الأنبياء، من نوح إلى ابن مريم بقوله: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية؛ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ... وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقونِ )) (المؤمنون 51 ـ 53). فالإيمان بالله، والإيمان بالمسيح وأمه آية للعالمين، هو الذي يجعل أهل القرآن وأهل الإنجيل (( أمة واحدة )) في عرْف القرآن، وعلى إسلام واحد.

3) وهذا الإسلام (( النصراني )) هو الإسـلام الذي أمـِر محمد بأن ينضم إلى أهله: (( وأُمرتُ أن أكون من المسلمين )) ( النمل 90 ). فالمسلمون موجودون قبل محمد، هو يؤمر بأن ينضم إليهم. إن محمداً في هدايته ينضم إلى (( النصارى )) .

(( فالنصارى )) هم المسلمون الأوائل حقاً، والقرآن نفسه يميّزهم باسم (( المسلمين )) عن جماعة محمد، (( الذين آمنوا )) من العرب: (( قلْ: نزّله روح

القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين )) ( النحل 102 ). إنه يميز بين فريقين، ولا يرادف، لاختلاف الهدف بينهما: القرآن تثبيت لجماعة محمد، و(( بشرى للمسلمين )) . نلاحظ دقة التعبير في قوله: (( هدى وبشرى للمسلمين )) . فالهدى كناية عن التوراة: (( ولقد آتينا موسى الهدى )) ( المؤمن 53 )؛ والبشرى ترجمة حرفية لكلمة الإنجيل. فالقرآن العربي هو توراة وإنجيل للمسلمين والنصارى.

إنه (( بشرى للمسلمين )) ، أوَ بُشرى للمحسنين )) ( الأحقاف 12 )؛ كما أنه (( هدى وبشرى للمؤمنين )) من العرب ( البقرة 97؛ النحل2 )، أو (( رحمة وبشرى للمؤمنين )) المتقين من العرب ( النحل 89 ).

4) وبسبب هذه الوحدة بين القرآن والنصارى، فالقرآن يحيل أهله إلى أهل الذكر المقسطين، النصارى من أهل الكتاب، في أمر الدين والنبوة والتنزيل: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43 ـ44 ).

5) والقرآن يحيل النبي العربي نفسه، حين شكه من صحة التنزيل الذي يبلغ إليه، إلى (( الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )) و(( يتلونه حق تلاوته )) ( البقرة 121 ) أي النصارى، أولي العلم المقسطين:

(( فإِن كنت في شك ممّا أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك: لقد جاءَك الحق من ربك، فلا تكونَنّ من الممترين )) ( يونس 93 ـ 94 ).

فعلى محمد، حين الشك من أمره أن يطمئن لدى (( الذين يقرؤون الكتاب من قبلك ))، أولي العلم المقسـطين الذين يشهدون للإسـلام مـع الله وملائكته ( آل عمـران 18 ). فهم (( الراسخون في العلم )) لا اليهود (( الذين في قلوبهم زيغ )) ويبتغون الفتنة ( آل عمران 7 ).

تلك الأمثولة المزدوجة للنبي وآله معاً بالرجوع إلى النصارى، أولي العلم المقسطين، هي تلقين خالد في الحوار بين الإسلام والمسيحية: إذا تشابه علينا شيء في مقابلة القرآن بالكتاب والإنجيل، فالقرآن يأمر أهله، كما يأمر نبيه، بسـؤال أهل الكتاب، (( الراسخين في العلم )) ، أئمة النصارى. هذا صراط مستقيم في الحوار لا يجوز أن نجهله أو نتجاهله.

3ـ الدعوة القرآنية (( تأييد )) للدعوة النصرانية بين العرب

1) يكشف لنا القرآن عن سر دعوته في قوله: (( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل؛ وكفرت طائفة: فأيدينا الذين آمنوا على عدوهم، فأصبحوا ظاهرين )) ( الصف 14 ).

فالقرآن يقسم بني إسرائيل، تجاه دعوة المسيح، إلى طائفتين: طائفة كفرت بالمسيح، وهم اليهود؛ وطائفة من بني إسرائيل آمنت بالمسيح، وهم النصارى، أنصار الله. والقرآن يعلن أنه تأييد للنصارى من بني إسرائيل على عدوهم اليهود، حتى الظهور عليهم في جزيرة العرب.

2) يؤيد ذلك قوله: (( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق، وبه يعدلون )) ( الأعراف 158 ). فهم الطائفة من بني إسرائيل التي آمنت بالمسيح، ويؤيد القرآن دعوتها (الصف 14). فهو يخاطب جميع الناس ويدعوهم بدعوة هذه الأمة الهادية العادلة من قوم موسى، الطائفة منهم المؤمنة بالمسيح: (( قلْ: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ... فآمنوا بالله ورسوله، النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته، واتبعوه لعلكم تهتدون )) ( الأعراف 157 ).

هناك قراءتان للفظ: (( الله وكلمته )) أَو (( كلماته )) . والقراءة الصحيحة هي (( كلمته )) لأن إيمان القرآن (( بكلماته )) بالجمع وعلى الإطلاق لا يحدّد إيمانه، بل يذيبه في أديان الكتاب جميعاً. أمّا قراءة (( كلمته )) بالمفرد فتحدد إيمان القرآن بالله والمسيح، كلمة الله (النساء 170). وقد نقل الطبري والزمخشري والبيضاوي عن مجاهد أنه (( أراد عيسى، ابن مريم )). يؤيد ذلك الآية التالية التي تذكر أمة من قوم موسى (( يهدون بالحق وبه يعدلون )) (158). فالحق الذي فيه الهدى والعدل هو الإيمان (( بالله وكلمته )) على مثال الأمة الهادية العادلة من قوم موسى، الطائفة من بني إسرائيل التي آمنت بالمسيح.

فالقرآن يدعو إلى الإيمان بالله والمسيح، كلمة الله، بدعوة (( النصرانية )) ذاتها. فإِيمانه هو إيمانها. والدعوة به تأييد لهذه (( النصرانية )) .

هذا هو الهدى الذي يجب على النبي العربي أن يقتدي به في دعوته: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم1 والنبوة ـ فإِن يكفر بها هؤلاء، فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين ـ أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدهْ )) ( الأنعام 89 ـ90 ).

فسره الزمخشري: (( ( هولاء ) يعني أهل مكة. ( قوماً ) هم الأنبياء المذكورون ومَن تابعهم ... ( أولئك ) الثانية بدل من الأولى. فاختص هداهم بالاقتداء، ولا تقتدِ إلا بهم ... والمراد ( بهداهم ) طريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده )) . فلا يدعو القرآن محمداً إلى الاقتداء بطريقة اليهود في الإيمان والإسلام، لأنهم لُعنوا على لسان داود وعيسى ابن مريم لكفرهم بالمسيح ( المائدة 81 )، بل إلى الاقتداء بطريقة النصارى في الإيمان (( بالله وكلمته )) (الأعراف 157). فهم (( أولو العلم قائماً بالقسط )) الذين يشهدون مع الله

(1) ينقل القرآن التعبير العبري بحرفه: (( الحكـم )) أي الحكمة. وبهذا التعبير الثلاثي (( الكتاب والحكم والنبوة )) كان أهل الكتاب يقسمونه إلى ثلاثة أقسام.

وملائكته (( إن الدين عند الله الإسلام )) . وهذا الإسلام هو الإيمان (( بالله وكلمته )) ، الإسلام القرآني (( النصراني )) .

فالقرآن (( يقتدي بهدى )) النصرانية، ويؤيد دعوتها بين العرب.

4) هذه (( النصرانية )) تقيم التوراة والإنجيل معاً، لا التوراة من دون الإنجيل، ولا الإنجيل من دون التوراة. والقرآن يدعو بدعوتها: (( قلْ: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وما أنزل إليكم من ربكم. وليزيدَنّ كثيراً منهم ( اليهود ) ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأس ( تحزن ) على القوم الكافرين )) ( المائدة 71 ). سيزداد اليهود طغياناً وكفراً على القرآن ومحمد لدعوتهما بدعوة عدوهم، (( النصرانية )) .

5) فالقرآن يشـرع للعرب دين إبراهيم وموسـى وعيسى معاً ديناً واحداً، على مثال (( النصرانية )) التي تقيم التوراة والإنجيل معاً:

(( شرع لكم من الدين ما أوصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) ( الشورى 13 ) إلى دين إبراهيم، ودين موسى، ودين عيسى.

فالقرآن يركّز دعوته على وحدة الدين بين إبراهيم وموسى وعيسى، وعلى عدم التفريق فيه: (( لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136: آل عمران 85 ). فالإسلام الحق هو دين موسى وعيسى معاً؛ هو إقامة التوراة والإنجيل معاً؛ هذه هي دعوة القرآن و (( النصارى )) .

6) لقد أُمـر محمد أن (( يقتدي بهداهم )) في الدعـوة القرآنية ( الأنعـام 90 ) لأنهم (( يهدون بالحق وبه يعدلون )) ( الأعراف 158 )، فهم (( الأئمة الذين

يهدون بأمر الله إلى هدى (( الكتاب كله )) ( آل عمران 119 )، فلا يكن محمد في مرية من لقائه:

(( ولقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه. وجعلناه هدى لبني إسرائيل؛ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا، لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. إن ربك يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )) ( آلم السجدة 23 ـ 24 ).

فالأئمة الذين يهدون بأمر الله إلى هدى الكتاب كله هم (( من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون )) . فهم أئمة النصارى من بني إسرائيل، الذين يبلّغون محمداً الكتاب: (( فلا تكن في مرية من لقائه )) ؛ (( فبهداهم اقتدهْ )) ( الأنعام 90 )؛ كما تؤمن (( بالله وكلمته )) (الأعراف 157). هؤلاء هم النصارى (( أولو العلم قائماً بالقسط )) الذين يشهدون مع الله وملائكته (( إن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 19 ). فما على محمد، إلا أن يشهد بشهادتهم، ويدعو بدعوتهم.

فالدعوة القرآنية تأييد للدعوة النصرانية )) بين العرب.

4ـ فالقول الفصل: إن إسلام القرآن هو الإسلامي (( النصراني ))

هذا القول الفصل هو قول موضوعي، بمعزل عن قضية النبوة والوحي. ولنذكرْ بالمناسبة قول المسيح: (( لا تظنوا أني أتيت لأنسخ التوراة أو النبيّين إني ما أتيت لأنسخ، بل لأتمّم )) ( متى 5 : 17 ). فالوحدة في النبوة والكتاب والإيمان والإسلام شعار القرآن.

ونقدر أن نوجز وحدة الإسلام القرآني والإسلام (( النصراني )) بهذه الآيات الأربع، كما فصلناها:

1) (( شهد الله أَن لا إله إِلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ... إن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ـ 19 ). فالقرآن يشهد للإسلام بشهادة (( النصارى )) أولي العلم المقسطين، الراسخين في العلم، المحسنين في الإيمان.

2) وشهادتهم تكفي محمداً في دعوته: (( ويقول الذين كفروا: لست مرسلاً! قلْ: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم، ومَن عنده (( علم الكتاب )) ( الرعد 45 ).

3) لذلك فالحوار بين أهل القرآن وأهل الإنجيل يجب أن يكون وديّاً وأخويّاً، بالحسنى المطلوبة، لأن الإله واحد، والتنزيل واحد، والإسلام واحد فيما بينهم: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إِلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 46 ). فأهل الإنجيل وأهل القرآن هم جميعاً (( المسلمون )) .

4) فالحوار بين الإسلام والمسيحية تأييد بعضهما لبعض، كما جاءت الدعوة القرآنية تأييداً للدعوة النصرانية: (( فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة: فأيّدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين )) ( الصف 14 ).

فإسلام القرآن هو الإسلام (( النصراني )) بنص القرآن القاطع (آل عمران 8 ـ 19)، وشهادته المتواترة المؤتلفة.

وهذه هي القاعدة الثانية للحوار الصحيح بين المسيحية والإسلام.

الفصل الثاني

الإنجيل في القرآن

بحث أول : قيمة الكتاب والإنجيل في نظر القرآن

بحث ثانٍ : هل من تحريف في الكتاب والإنجيل ؟

بحث ثالث : صحة الكتاب والإنجيل عقيدة في القرآن

بحث رابع : هل نسخ القرآن التوراة والإنجيل

بحث خامس : الإنجيل الواحد والإنجيل الرُباعي

توطئة

اتهامات خطيرة

للإنجيل والكتاب كله، في القرآن، منزلة القرآن نفسه.

ففي آخر سورة من سوره، وفي آخر آية تقريباً من آياته، يجعل القرآن التوراة والإنجيل والقرآن في منزلة واحدة: (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله، فيَقتلـُون ويُقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) ( التوبة 111 ).

ودرس (( الإنجيل في القرآن1)) يطلب كتاباً كبيراً لنوفيه بعض حقه. ونقتصر في هذه الأبحاث على المواضيع التي تهم الحوار بين المسيحية والإسلام.

قد يُسلم أهل القرآن بأن للإنجيل والكتاب كله، في عرْف القرآن، منزلة القرآن نفسه. لكنهم لأسباب معروفة ينكرون أن القرآن يشهد للكتاب والإنجيل في وضعهما، في عهد محمد؛ وإنما هو يشهد للتوراة والإنجيل كما نزلا على موسى وعيسى.

والقرآن، على حدّ قولهم، يشهد بتحريف الكتاب والإنجيل. لذلك مع تطور الوحي نسخ القرآن التوراة والإنجيل. والقرآن يذكر الإنجيل بالمفرد المُعْلـَم، والمسيحيون لديهم أربعة أناجيل، فلا يصح أن تكون كلها الإنجيل الذي نزل على عيسى ابن مريم.

(1) راجع كتابنا (( الإنجيل في القرآن )) من سلسلة: دروس قرآنية.

إنها اتهامات خطيرة. ويزيد في خطرها أنها تستند في نظر أصحابها إلى القرآن نفسه. وهذا ما يحول بينهم وبين الاستشهاد بالإنجيل الرُباعي كلما قام حوار بين المسلمين والمسيحيين.

فهل في القرآن أساس لتلك الاتهامات؟

بحث أول

قيمة الكتاب والإنجيل، في نظر القرآن

قلنا ونقول: للإنجيل والكتاب كله، في نظر القرآن، منزلة القرآن نفسه؛ وهذه عقيدة راسخة متواترة في السور كلها.

1ـ للتوراة والإنجيل والقرآن، أسماء واحدة

فالثلاثة هي الكتاب المنزل: (( بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق )) ( البقرة 213 ). والقرآن نفسه وحي من هذا الكتاب الإمام، بدون تبديل: (( واتلُ ما أوحي إليك مـن كتاب ربك: لا مبدّل لكلماتـه )) ( الكهف 27 ). لذلك فالقرآن (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37 )، وتصديق له يهيمن على حراسته: (( وأنزلنا إليك الكتاب، مصدقاً لما بين يديه ( قبله ) من الكتاب، ومهيمناً عليه )) ( المائدة 51 ). فعلى المسلمين أن يؤمنوا بالكتاب والقرآن إيماناً واحداً: (( يا أيها الذين آمنوا، آمِنوا بالله ورسوله،

والكتاب الذي نزّل على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل )) ( النساء 136 ). فالكتاب المنزل في الثلاثة واحد، وله فيها جميعاً قيمة واحدة.

والثلاثة هي جميعاً الذكر الحكيم: (( هذا ذكر من معي وذكر مَن قبلي )) (الأنبياء 23). والذكر هو أصلاً عند أهله: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43 ـ 44 ). فما القرآن سوى بيان للتنزيل في الكتاب: (( وأنزلنا إليك لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم )) ( النحل 44 ) فالذكر واحد في الثلاثة.

والثلاثة هي الفرقان: (( نزّل عليك الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 301 ): فالتوراة والإنجيل والقرآن هي كلها الفرقان. وما القرآن نفسه سوى (( بينات من الهدى والفرقان )) الذي يفصل الهدى ( البقرة 185 ). لذلك (( تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده )) ( الفرقان 1 ) كما (( آتينا موسى وهارون الفرقان )) ( الأنبياء 48 ). فالكتب الثلاثة هي الفرقان.

والثلاثة هي القرآن، قبل أن يصير اسماً خاصاً بالكتاب العربي. فمنذ مطلع الدعوة، ولمّا ينزل من القرآن العربي سوى آيات معدودات، يُؤمر محمد: (( قم الليل إلا قليلاً ... ورتـّل القرآن ترتيلاً )) ( المزمّل ) فمن الواضح أنه قـرآن الكتاب. هذا ما يتضح من قوله: (( وأُمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) ( النمل 90 ـ91 ) أي قرآن الكتاب الذي يتلوه مع المسلمين من قبله الذين أُمِر بأن ينضم إليهم ويكون (( من المسلمين )) . وفي مطالع السور يُرادف بين (( تلك آيات الكتاب )) ( الشعراء1 القصص1 يونس1 نعمان1 )، وبين (( تلك آيات القرآن )) ( النمل 1 ). فالقرآن اسم للكتاب كله مثل القرآن العربي:

(( تلك آيات القرآن وكتاب مبين )) ( طس 1 ) وهذا الترادف يجعل للثلاثة قيمة واحدة.

2ـ فالكتاب المنزل واحد في التوراة والإنجيل والقرآن

(( كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) ( البقرة 213 ). فكل الأنبياء يُبعثون بالكتاب الواحد، ولو تنوّعت لغته. لذلك فالقرآن وحي من الكتاب نفسه، دون تبديل: (( واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك: لا مبدّل لكلماته )) ( الكهف 27 ).

فالتوراة والإنجيل والقرآن هي كلها الكتاب الواحد المنزل: فلها جميعاً منزلة واحدة.

3ـ تنزيل الكتاب، في التوراة والإنجيل والقرآن، عقيدة واحدة.

(( آلم. الله لا إله إلا هو، الحي القيوم، نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدّقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 1 ـ3 ). فالتنزيل واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، من الحي القيوم نفسه.

والقرآن (( تنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين )) ( الشعراء 193 ـ

195 ) فلا يميّزه عنها سوى اللسان العربي وحده: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً )) ( الأحقاف 12 ).

4ـ أصل الكتاب المنزل في التوراة والإنجيل والقرآن واحد

أصل الكتب المنزلة كلها هو (( اللوح المحفوظ )) (البروج 22). ويسميه (( أم الكتاب )) ( الزخرف 4؛ الرعد 41 ) أي (( أصله الذي لا يتغير منه شيء؛ وهو ما كتبه في الأزل )) (الجلالان)؛ (( أصل الكتب، وهو اللوح المحفوظ )) ( البيضاوي ).

فبما أن أصل التوراة والإنجيل والقرآن واحد؛ فهي كلها واحدة، ولها قيمة واحدة، في نظر القرآن نفسه.

5ـ التوراة والإنجيل والقرآن تعلم جميعاً ديناً واحداً

هذا ما وصى به الله زعماء الأنبياء والرسل، نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد: (( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين، ولا تتفرّقوا فيه )) ( الشورى 13 ). لذلك (( لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون )) .

6ـ وهذا الدين الواحد في الثلاثة هو التوحيد الكتابي

فالتوحيد المنزل هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وهذا ما تنادي به الكتب

الثلاثة. لذلك: (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين1: مَن آمن بالله واليوم الآخر، وعمل صالحاً، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون )) ( البقرة 62؛ قابل الحج 17 و67؛ المائدة 69 ).

وبوحدة التوحيد والدين في الكتب الثلاثة، يتحدّى المشركين: (( قلْ: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتّبعه، إن كنتم صادقين )) ( القصص 49 ).

وهذا التوحيد الكتابي المنزل هو واحد في الكتب الثلاثة: (( هذا ذكر مَن معي، وذكر مَن قبلي: وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدونِ )) ( الأنبياء 24 ـ 25 ). فسره الجلالان: (( ذكر من معي أي أمتي، وهو القرآن؛ وذكر من قبلي أي من الأمم، وهو التوراة والإنجيل وغيرهما مـن كتب الله؛ فليس في واحـد منها أن مع الله إلهاً آخر )).

فالتوحيد الكتابي واحد في الثلاثة؛ فلها جميعها منزلة واحدة.

7ـ وهذا التوحيد الكتابي المنزل هو الإسلام

إن (( الإسـلام )) موجود اسـماً وديناً قبل محمد والقرآن، وذلك بنص القرآن القاطع: (( هو سماكم المسلمين من قبلُ وفي هذا )) ( الحج 78 ): ( من قبل ) في الكتاب كله؛ ( وفي هذا ) القرآن، كما أجمع على تفسيره الطبري والزمخشري والبيضاوي والجلالان.

(1) الصابئون هم جماعة يوحنا المعمدان، الموجودون إلى اليوم في شط العرب.

لذلك يؤمر محمد في بعثته أن ينضم إلى (( المسلمين )) الموجودين من قبله: (( وأُمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) معهم ( النمل 90 ـ91 ).

وجميع الأنبياء علـّموا إسلام الكتاب، فلا دينَ غيره، لأنه دين الفطرة، ودين الكتاب: (( أفغير الله أبتغي حكماً، وله أسلم مَن في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً، وإليه يُرجعون. قلْ: آمنا بالله، وما أُنزل إلينا، وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط؛ وما أُوتي موسى وعيسى والنبيّون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون: ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 83 ـ85). إن إسلام القرآن هو إسلام الكتاب نفسه. والإسلام الذي لا دين غيره هو إسلام الكتاب، من إبراهيم إلى موسى إلى عيسى، قبل إسلام القرآن؛ وما إسلام القرآن إِلا إسلام الكتاب الذي شرعه الله للعرب ( الشورى 13 ).

لكن هذا الإسلام هو على التخصيص إسلام النصارى (( أولي العلم قائماً بالقسط )) الذين يشهدون مع الله وملائكته (( أن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ـ19 ). فالإسلام حصراً هو الإسلام (( النصراني )) قبل أن يكون الإسلام القرآني. هذا ما أَعلنه الحواريون، صحابة المسيح، مراراً: (( آمنا بالله، واشهد بأنا مسلمون )) ( آل عمران 55 الصف 14 )؛ وهذا ما أعلنه النصارى لمحمد حين تلا عليهم إسلام القرآن: (( إنَّا كنَّا من قبله مسلمين )) ( القصص 53 ). وكما شهد الحواريون للمسيح بالإسلام: (( ربنا آمنا ... فاكتبنا مع الشاهدين )) ( آل عمران 53 )؛ يشهد القرآن بالحرف الواحد للنصارى بالإسلام: (( ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين )) ( المائدة 86 ).

وميزة هذا الإسـلام (( النصراني )) القرآني هو التوحيد بين الرسل والكتب المنزلة: (( لا نفرّ‍ق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136 آل عمران

84 ). وبما أن هذا الإسلام واحد في الكتب المنزلة كلها، فالإيمان (( بكتب الله ورسله )) واحد، وهو ركن من أركان دين الله: (( ليس البرّ أن تولـّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب؛ ولكن البـِرّ مَن آمن بالله واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب والنبيين ... )) ( البقرة 177 ). فآمنوا بالله (( وكتبه ورسله )) ( النساء 136 )، (( فآمنوا بالله ورسله )) ( آل عمران 179 النساء 151 و170 الحديد 19 و21 ). فقد آمن الرسول بما أُنزِل إليه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله: لا نفرّق بين أحد من رسله )) ( البقرة 285 ).

هذا هو أساس الحوار الذي يفرضه القرآن على أمته: فلا ينسَ أهل القرآن هذا التلقين في حوارهم مع أهل الإنجيل.

8 ـ الإنجيل هو كلام الله على لسان (( كلمة الله ))

إن الله يستجمع الوحي كله في السيد المسيح: (( ويعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) ( آل عمران 48 ). في الترادف تظهر (( الحكمة )) مرادفاً للإنجيل؛ والمسيح نفسه يعلن، (( قال: قد جئتكم بالحكمة )) ( الزخرف 63 ). وهذا الجمع المعجز للوحي في المسيح عقيدة راسخة في القرآن، فهو يردّد: (( وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل )) (المائدة 113).

وميزة محمد والقرآن إيمانهما بالمسيح أنه (( كلمة الله )) : (( إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسى ابن مريم )) ( آل عمران 45 ). وهذه هي البشرى نفسها للمعمدان ( آل عمران 39 ). فتعريف القرآن بالمسيح، عيسى، ابن مريم، رسول الله، أنه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ). وهذا التعريف، مهما اختلف التأويل، فإنه

يرفع المسيح من عالم البشر، إلى عالم الروح، عالم الملاك والله. فكلام الله على لسان (( كلمة الله )) هو ختام الوحي والنبوة؛ لأنـه ليس من رسـول عند الله مثل الذي هو (( كلمته وروح منه )) . قال الرازي: (( سمّي كلمة الله: كأنه صار عين كلمة الله ... أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان )) ( آل عمران 45 ).

وميزة محمد في دعوته أنه (( النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلمته )) (الأعراف 157). قرأنا (( كلمته )) بدل (( كلماته )) على قراءة أصح تفرضها القرائن.

لذلك جاء القرآن (( تصديقاً للكتاب )) ( البقرة 41 و89 و91 و77 و101؛ آل عمران 3؛ النساء 46؛ المائدة 47؛ الأنعام 92؛ يونس 37؛ يوسف 111؛ فاطر 31؛ الأحقاف 12 و30 ).

و (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37؛ الأنعام 114 ).

بل تعريب الكتاب: فهو (( تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب فُصّلت آياته قرآناً عربيّاً )) (فصلت 1)؛ (( كتاب أُحكمت آياته، ثم فُصلت من لدن خبير حكيم )) (هود 1). لذلك (( والكتاب المبين: إنا جعلنا، قرآناً عربيّاً )) ( الزخرف 1 ): (( تلك آيات الكتاب المبين: إنا أنزلناه قرآناً عربيّاً )) ( يوسف 1 ). فتفصيل الكتاب هو في لغة القرآن تعريبه مفصلاً: (( ولولا جعلناه قرآناً أعجميّاً لقاموا: لولا فُصلت آياته )) ( فصلت 44 ).

فالقرآن ينتسب جملة وتفصيلاً إلى الكتاب الإمام: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة )) ( هود 17؛ الأحقاف 12 )؛ وخصوصاً إلى الكتاب المنير: (( فإن كذبوك فقد كُذّب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير )) ( آل عمران 184 ). فلا ينتسب إلى كتاب سماوي عند الله، بل إلى كتاب الله على الأرض: (( قل: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين )) ( آل عمران 93 )؛ والقرآن (( تنزيل رب العالمين )) لأنه (( في زبر الأولين )) (الشعراء 193 ـ

195 ). وهو يفخر أنه (( يؤمن بالله وكلمته )) ( الأعراف 157) لأن الإنجيل كلام الله على لسان كلمة الله: ففي المسيح توحد كلام الله وكلمة الله؛ فصار كلمة الله كلام الله عينه الذاتي والمنزل.

9ـ الإنجيل (( هدى وموعظة )) للمسلمين، كما هو للمسيحيين

هذا هو موجز النبوة والكتاب: (( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم، مصدّقاً لما بين يديه ( قبله )؛ وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين )) ( المائدة 49 ).

(( المتقون )) ، في اصطلاح الكتاب والقرآن، هم المؤمنون من الأميّين بالكتاب المنزل، كما في قوله: (( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ... الذين يؤمنون بما أُنزل إليك، وما أنزل من قبلك )) ( البقرة 1 ـ4 )؛ (( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )) ( آل عمران 138 ).

فالقرآن (( هدى وموعظة للمتقين )) من العرب، كما أن الإنجيل (( هدى وموعظة للمتقين )) منهم ( المائدة 49 ).

والقرآن هو تعليم (( الكتاب والحكمة )) اللذين استجمعهما المسيح، للعرب: (( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون )) ( البقرة 151 )، كما طلب إبراهيم وإسماعيل لهم من ربهم ( البقرة 123 ). وبتعليم القرآن العرب الكتاب والحكمة، التوراة والإنجيل، أنقذهم من ضلال مبين: (( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) ( آل عمران 164 قابل الجمعة

2 ). فالقرآن هو تعليم (( الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) كما نزلت على المسيح ( آل عمران 48؛ المائدة 113 ).

10ـ فالمسيح، في عرْف القرآن نفسه، خاتمة النبوة والكتاب

أولاً: لأن المسيح وحده (( كلمة الله )) كأن كلام الله تجسد فيه، فصار (( كلمة الله )) عين كلام الله. فالمسيح هو (( كلمة الله )) الذاتية والمنزلة جميعاً.

ثانياً: لأن القرآن في تعاقب الأنبياء يجعل المسيح خاتمة الرسل: (( ولقد آتينا موسى الكتاب؛ وقفينا من بعده بالرسل؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 ). وميزة الختام معه تأييد الروح القدس له على الدوام في سيرته ودعوته، لا في حال الوحي فقط كما عند سائر الأنبياء والرسل. فهو (( لم يفارقه ساعة )) (( يسير معه حيث سار )). وفي المفاضلة بين الرسل يجعل تأييد المسيح بالمعجزات وبروح القدس ( البقرة 253 ) سبب فضله على غيره: (( وجعل معجزاته سبب تفضيله لأنها آيات واضحات، ومعجزات عظيمة لم يستجمها غيره )) ( البيضاوي ). فهذان التفضيل بالمعجزات، والتخصيص بتأييد روح القدس برهان الختام في المسيح.

ولا نصّ في القرآن يقول (( بتقفية )) رسول على المسيح.

يقولون: إن القرآن يصف محمداً بأنه (( خاتَم النبيين )) ( الأحزاب 40 ). لكن نلاحظ دقة التعبير: فهو يقول (( خاتـَم )) لا (( خاتمة )) . والخاتـَم هو ختم الصدق والتصديق. هذا هو المعنى المتواتر في القرآن بأنه (( تصديق الكتاب )) ، وفي محمد بأنه يصدّق الكتاب في تفصيله للعرب ( البقرة 41 و98 و91 و77

و101؛ آل عمران 3؛ النساء 46؛ المائدة 47؛ الأنعام 92؛ يونس 37؛ يوسف 111؛ فاطر 31؛ الأحقاف 12 و30 ).

وعلى كل حال، فالمسيح هو ختم الأنبياء والأولياء في اليوم الآخر: (( وإنه لعلم للساعة )) ( الزخرف 61 ). فهو (( عَلـَم )) يشير إلى دنوها؛ وهو (( علـْم )) لها تعرف به. ومن يكون كذلك حين الساعة الأخيرة من تاريخ البشرية فهو بالحقيقة خاتمة النبوة والكتاب.

تلك هي قيمة الكتاب عامة, والإنجيل خاصة، في نظر القرآن. وهو في آخر سورة، وفي آخر آية منه تقريباً، يضع الكتب الثلاثة في منزلة واحدة، (( وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) ( التوبة 111 ). لكنه ينتمي إلى (( الأمة الواحدة )) التي تؤمن بالمسيح وأمه (( آية للعالمين )) . وهي (( الأمة الوسط )) التي تؤمن بالمسيح أنه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 )، وأنه (( من المقربين )) ( آل عمران 45 ) أي (( الملائكة المقربين )) ( النساء 171 ). فالمسيح من عالم الروح أكثر ممّا هو من عالم البشر. والإنجيل، كلام الله، على لسان (( كلمة الله )) له في القرآن القيمة الأولى على (( كتب الله )) .

تلك هي القاعدة الثالثة في الحوار الإسلامي المسيحي.

بحث ثان

هل من تحريف في الكتاب والإنجيل؟

( القاعدة الرابعة في الحوار المسيحي الإسلامي )

نفتح هذا البحث، كما سنختمه، بعد استقراء القرآن، بهذا التحدي الصارخ: إننا نتحدّى أيّا كان أن يرينا في القرآن آية واحدة تتهم النصارى بالتحريف أو تلقي على الإنجيل شبهة التحريف، وذلك تصريحاً أو تلميحاً!

قد يذكر القرآن لليهود، ولليهود وحدهم (( تحريفاً )) في الكتاب. وسندرس هنا معناه ومداه. لكنه لا ينسب للنصارى والإنجيل أية شبهة من تحريف.

وشبهة التحريف عند اليهود تأتي في المدينة، ولا ذكر لها في القرآن المكي: فهي من زمن الصراع بين محمد واليهود في العهد المدني الأول، لأن تصفية اليهود من المدينة كانت قد تمّت في مطلع العهد الثاني بالمدينة.

وسنرى أن (( التحريف )) المذكور إنما هو تأويل فساد لآية (( النبي الأمي )) أو نعت النبي في التوراة، ولآية جلد الزاني بدل رجمه.

تأخذ شبهة التحريف في القرآن ثلاثة أشكال: كتمان بعض الكتاب عن الناس، واللـّي بالألسن طعناً في الدين، وتحريف الكلِم عن مواضعه.

أولاً: تهمة كتمان بعض الكتاب عن الناس

السورة الأولى من المدينة هي البقرة. وفيها صور للصراع الذي نشب بين محمد واليهود على زعامة المدينة. وبالتالي على صحة نبوة محمد، التي ظلّ اليهود يكفرون بها طيلة عهد الدعوة القرآنية. وفيها يتهم اليهود بكتمان الحق الذي في التوбاة:

(( يا بني إسرائيل ... آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، ولا تكونوا أول كافر به! ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، وإِياي فاتقونِ! ولا تلبسوا الحق بالباطل؛ وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ... أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون )) ؟! ( البقرة 40 ـ44 ).

فالقرآن يردع اليهود عن الكفر به قبل الجميع؛ مع أنه (( مصدق لما معهم )) : فالقرآن إذن يصدّق ما هو مع بني إسرائيل من الكتاب، وهذا التصديق شاهد أَنه لا تحريف عندهم.

ويقول: (( ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً )) : فآيات الكتاب الذي مع اليهود لم تزل آيات الله، (( آياتي )) ، في زمن محمد.

ويقول: (( وأنتم تتلون الكتاب )) : فالكتاب الذي معهم لم يزل كتاب الله؛ ولو دخله تحريف لـَمَا نوّه بتلاوته شاهداً عليهم.

ثم يتهمهم (( بتلبيس الحق بالباطل )) أي كما قال الجلالان: (( لا تخلطوا الحق الذي أنزلت عليكم بالباطل الذي تفترونه )) . فتلبيس الحق بالباطل هو أدق تحديد للتأويل الباطل. فالقرآن إذن يشهد هنا أن بني إسرائيل يتلون في الكتاب الحق المنزل، وإن فسروه على هواهم: فالكتاب الذي مع بني إسرائيل هو الحق، في زمن محمد.

ثم يقرن تلبيس الحق بالباطل، بكتمان الحـق: والإثنان يفسـر بعضهما بعضاً. يقول: (( ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون )) . أي لا تكتموا الحق الذي في الكتاب. فما هو هذا الحق الذي يكتمونه؟ قال الجلالان: (( لا تكتموا نعت محمد وأنتم تعلمون أنه حق )). فقد كان محمد يستشهد بالتوراة على صحة نبوته، فينكر اليهود عليه ذلك. فالخلاف في التأويل، لا في كتمان النص أو تحريفه.

(( أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً ـ أو نصارى ـ قلْ: أَأَنتم أعلم أم الله؟ ومن أظلم ممّن كتم شهادة عنده من الله! وما الله بغافل عمّا تعملون )) ( البقرة 140 ).

الجدال قائم بين محمد واليهود على الهدى (135 ـ141). كان اليهود يشتقون الهدى من اسمهم فيقولون: (( كونوا هوداً تهتدوا )) (135). فرد عليهم القرآن أن الهدى في الإسلام الذي يؤمن (( بما أُوتيَ موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين احد منهم ونحن له مسلمون )) (136). فيردّون عليه: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كانوا هوداً (140). فيرد عليهم أن اليهودية من موسى؛ لذلك فالآباء والأسباط لم يكونوا يهوداً (بالمعنى الديني). هذه هي شهادة التوراة: (( ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله )) (140). فالقرآن يستشهد بالتوراة التي معهم في زمن محمد، ويتهم اليهود بكتمان شهادة التوراة، كتماناً لفظيّاً، أو بالحري معنويّاً، بالتأويل المغلوط. واستشهاد القرآن بالتوراة دليل على صحتها، كما هي في أيديهم.

(( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون )) (146).

الجدال مع اليهود على نبوة محمد. قال الجلالان: أهل الكتاب (( يعرفون محمداً كما يعرفون أبناءَهم بنعته في كتبهم. وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق

أي نعت محمد ، وهم يعلمون)) . فظاهر أن الكتمان المقصود هو التأويل الفاسد للتوراة التي تشهد لمحمد. وما يكتمه فريق، يفضحه الفريق الآخر: فلا خوف على النص لا من الكتمان المادي ولا من الكتمان المعنوي أي التأويل.

فمناورة الكتمان، بالتأويل المغلوط، هي من فريق فقط. فهي فاشلة، لا تمس التوراة بشيء.

4 ـ (( إِن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى، من بعد ما بيناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون)) ( البقرة 159 ).

إن القرآن يلعن الفريق من اليهود الذي يكتم معنى الكتاب عن الناس. وهب أَنهم يكتمون النص نفسه، فلا خوف على تحريفه. فالفريق الآخر بالمرصاد.

5 ـ (( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، ويشترون به ثمناً قليلاً ... أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى، والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار! ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق، وأن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ! )) ( البقرة 174 ـ 176 ) .

هنا يظهر شقاق الفريقين على اختلافهم في فهم الكتاب. ففريق منهم بتأويلهم الفاسد اشتروا الضلالة بالهدى. والفريق الآخر بقي على الهدى في حفظ الكتاب وتأويله. وفي الآية شـهادة مزدوجـة على صحة الكتاب المتداول في الحجاز على زمن محمد: إن فريقـاً منهم (( يكتمون ما أنزل الله من الكتاب )) : فالقرآن يشهد بأن الكتاب في زمنه منزل من الله، ويشهد أيضاً (( بأن الله نزّل الكتاب بالحق )) كما وصل إلى زمان محمد والقرآن.

وفي سورة آل عمران يظل الجدل قائماً بين محمد واليهود على صحة رسالته: يستشهد محمد بالكتاب فينكرون عليه صحة شهادته:

(( ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ... يا أهل الكتاب لِمَ تلبسون الحق بالباطل، وتكتمون الحق، وأنتم تعلمون )) (69 ـ71).

قال الجلالان: (( لِمَ تخلطون الحق بالباطل وتكتمون الحق أي نعت محمد، وأنتم تعلمون أنه حق )) . فالخطاب كله بحق اليهود، وهم ينكرون تأويل محمد لشهادة الكتاب له. فتهمة الكتمان تدور كلها حول صفة محمد النبوية في الكتاب.

(( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب: لَتبيننّه للناس ولا تكتمونه؛ فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، أفبئس ما يشترون )) (187).

الآية في خطاب بحق اليهود أيضاً: إن كتمان حقيقة الكتاب، خصوصاً في صفة محمد النبوية، هو ضدَّ الميثاق الذي أخذه الله في التوراة على اليهود، أن يظهروا الحقيقة ولا يكتمونها بتأويلهم. وهذا شهادة على صحة الكتاب.

وفي سورة النساء هذه الآية خطاب اليهود أيضاً: (( الذين يبخـَلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فصله، واعتدنا للكافرين عذاباً مُهيناً )) (36). قال الجلالان. (( يكتمون ما آتاهم الله من فضله، من العلم والمال، وهم اليهود )) . فاليهود يمنعون علمهم ومالهم عن محمد: تلك هي التهمة.

وفي سورة المائدة هذه الآية في نفاق اليهود: (( وإذا جاؤوكم قالوا: آمنا! وقد دخلوا بالكفـر، وهم قد خرجـوا به! والله أعلم بما كانوا يكتمـون )) (64) فقد اتخذوا دعوة محمد (( هزوءاً ولعباً )) هم (( الذين جعل منهم القردة والخنازير )) (60 ـ63).

تلك هي تهمة الكتمان في دعوة القرآن: إنها تقتصر على خلاف محمد واليهود في دلالة الكتاب على صحة نبوة محمد. إِنها قضية تفسير وتأويل. فليس فيها ما يمس نص الكتاب الذي يعلن القرآن مراراً صحته في عهد القرآن.

* * *

ثانياً: تهمة اللي باللسان في تلاوة الكتاب

ترد التهمة في آيتين يفسر بعضهما بعضاً:

(( وإِن منهم لفريقاً يَلْوُون ألسنتهم بالكتاب، لتحسبوه من الكتاب! ـ وما هو من الكتاب؛ ويقولون: هو من عند الله؟ ـ وما هو من عند الله. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )) ( آل عمران 78 ).

(( من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه، ويقولون: سمعنا وعصينا! واسمَعْ غير مُسْمَعٍ! وراعنا! ليّا بألسنتهم، وطعناً بالدين )) ( النساء 45 ).

النص صريح بأن فريقاً (( من الذين هادوا )) يلوون ألسنتهم في تلاوة الكتاب، أي يقرؤون بغير القراءة الصحيحة، ويعتبرون قراءتهم هي المنزلة، وما هي بالمنزلة. ويعطي مثالاً على تلاعبهم في الكلام قولهم: (( راعنا )) ؛ فإذا لفظوها (( راعْنا )) عنت بلغة اليهود: أرعن.

فالتهمة هي قراءة مشبوهة لآيات في الكتاب يقصدون بها غير ما قصده الله بها في كتابه العزيز. واختلاف القراءات، سواء كانت صحيحة أو مشبوهة، شيء مألوف في التوراة والإنجيل والقرآن؛ واختلاف القراءات لا يمس حرف النص، فهو سالم.

وهذا اللّي باللسان في تلاوة الكتاب، أي القراءة المختلفة، يجمعها في الآية إلى تحريف الكلم عن مواضعه ( النساء 45 ) فيكون التحريف المقصود بالتهمة القرآنية هو القراءة المختلفة.

وهذه شهادة سلبية على سلامة نص الكتاب من التحريف. ونلاحظ أن من يقوم بذلك التلاعب في قراءة الكتاب إِنما هو فريق من الذين هادوا، لا كلهم، ولا دخل للنصارى في التهمة كلها على الإطلاق.

* * *

ثالثاً: تهمة التحريف نفسها

ترد تهمة التحريف في خمسة مواضع:

1ـ في سورة البقرة: (( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون )) (75).

قال الجلالان: (( أفتطمعون أيها المؤمنون أن يؤمن لكم اليهود وقد كانت طائفة منهم يسمعون كلام الله في التوراة ثم يحرفونه أي يغيّرونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون )) .

قال البيضاوي: (( أفتطمعون أن يصدقونكم ـ يعني اليهود ـ وقد كانت طائفة من أسلافهم يسمعون كلام الله أي التوراة ثم يحرفونه كنعت محمد ص. وآية الرجم، أو تأويله ويفسرونه بما يشتهون. وقيل: هؤلاء من السبعين المختارين ( على زمن موسى ) ... من بعد ما عقلوه أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة. ومعنى الآية أن أحبار هؤلاء ومقدّميهم كانوا على هذه الحالة، فما ظنّك بسـفلتهم وجهالهم، وأنهم إن كفروا وحرّفوا فيهم سابقة في ذلك )) .

ما معنى (( يلوون ألسنتهم بالكتاب )) ؟ قال البيضاوي: (( يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب... أو يعطفونها بشبه الكتاب )) . قال الجلالان: (( يعطفونها بقراءَته عن المنزل إلى ما حرفوه من نعت النبي )) . قال الزمخشري: (( يفتلون ألسنتهم بقراءة الكتاب ... ويجوز أن يُراد: يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشَبه من الكتاب )) . فالكلمة لها معنيان: الأول فتل اللسان في التلاوة نفسها؛ والثاني: تعقيب التلاوة بشَبَهٍ عليها. فالمعنى الثاني تفسير لا يمس النص. والمعنى الأول قراءة مغلوطة للنص نفسه، فهي إذن لا تمس النص.

فالحديث هنا عن تحريف فريق من اليهود للتوراة على زمن موسى. وهب أنه يقصد تحريفهم على زمن محمد فالتحريف واقع من فريق، لا يقرهم الفريق الآخر عليه.

والفريق المنافـق، لا يغيّر النص نفسـه بل يغيّر معنـاه أي، كما يقول البيضـاوي (( يؤولونه ويفسرونه بما يشتهون )) . وأنّى لهم أن يغيّروا النص والفريق الآخر لهم بالمرصاد!

وتهمة التحريف أي التأويل تنحصر كلها، بإِجماع المفسرين، في أمرين: (( نعت محمد وآية الرجم )) . فمحمد يرى صفة نبوته في الكتاب، واليهود لا يرونها. فالخلاف في التأويل لا في تغيير النص. وقد فسّر بعض اليهود رجم الزاني والزانية بالتحميم والضرب، بدل الرجم، كما سنرى، فالخلاف أيضاً بين محمد وفريق من اليهود في تأويل التوراة، لا في تحريف نصّها، كما تدل القرينة في قوله: (( يحرّفونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون )) أي من بعد ما فهموه حقّ فهمه.

فليس في (( التحريف )) المذكور في آية البقرة من تحريف للحرف والنص، وذلك بنص القرآن القاطع في الآية (121) (( الذين آتيناهم الكتاب، يتلونه

حقَّ تلاوته، أولئك يؤمنون به )) . قال الجلالان: (( يتلونه حقّ تلاوته أي يقرؤونه كما أنزل )) وهذه الآية ( البقرة 121 ) تقطع قطعاً مبرماً كل تهمة بتحريف. وعلى كل حال فالكلام في اليهود وتوراتهم، لا في النصارى وإنجيلهم.

2ـ في سورة النساء: (( من الذين هادوا، يحرّفون الكَلِم عن مواضعه! ويقولون: سمعنا وعصينا! واسمع غير مُسْمَعٍ! وراعنا! ليَّا بألسنتهم وطعناً في الدين. ولو أنهم قالوا: سمعنا وأطعنا! واسمع وانظرنا! لكان خيراً لهم. ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً )) (45).

أوجز البيضاوي موقف المفسرين جميعاً بقوله: (( من الذين هادوا قوم ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها بإِزالته عنها وإثبات غيره فيها. أو يؤولونه على ما يشتهون فيميلنه عمّا أنزل الله فيه )) .

فالتحريف إذن إِمَّا تغيير النص، وإِمَّا تأويله: فما هو المقصود؟

كل القرائن القرآنية تدل على أن التحريف المقصود هو تأويل المعنى لا تغيير النص: فالفاعلون بعضهم: (( من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه )) ؛ فالبعض الآخر لا يقرونهم في ذلك، لأنهم، بنصّ القرآن القاطع: (( يتلون الكتاب حق تلاوته )) أي (( كما أنزل )). ثم إن المفسرين يتردّدون بين تغيير النص، أو تأويل المعنى، فلا أحد يجزم بتغيير حرف النص. والقرآن يقول: (( عن مواضعه )) ؛ ويسمّي ذلك: (( ليّا بألسنتهم )) ؛ ويعطي على ذلك ثلاثة أمثلة: (( سمعنا وعصينا؛ واسمع غير مسمع؛ وراعنا )) . من هذه الأمثلة نفهم أن التحريف لا يقع على حرف التوراة نفسه، بل يقع في كلام اليهود أنفسهم في مخاطبة النبي: فهم يتلاعبون في كلامهم ما بين لغتهم والعربية، كقولهم في (( راعِنا )) : (( رَعْنا )) أي (( يا أرعن )) في لغتهم. فالتحريف يقصد كلام اليهود مع النبي لا كلام التوراة، بدليل قوله: (( طعناً في الدين )) .

وهب أن التحريف المقصود يقصد التوراة نفسها، فالآية تفسر التحريف، بقولها: (( ليّاً بألسنتهم )) أي يقرؤون التوراة، في المواضع المقصودة، بقراءة غير صحيحة. فالتحريف إذن يعني القراءة غير الصحيحة، والنص يبقى سالماً بلا تغيير.

لذلك كله فتفسير التحريف المقصود بأنه تغيير في النص ذاته تنفيه كل القرائن القرآنية القريبة والبعيدة.

لذلك أيضاً يرفض الرازي، المفسـر الكبير تفسير التحريف بمعنى تغيير النص ذاته: (( لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ )) ( في تفسير المائدة 44 ).

وهذا هو موقف صحيح البخاري: (( يحرّفون الكلم عن مواضعه أي يزيلونه وليس أحد يزيل لفظ كتاب من الله تعالى؛ ولكنهم يتأولونه على غير تأويله )) .1 فليس من تحريف في التوراة، ولا مَن يفرحون، أو يحزنون. والنصارى وإنجيلهم براء من ذلك.

3ـ في سورة المائدة: (( ولقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ... فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه! ونسوا حظّاً ممّا ذُكروا به! ولا تزال تطلَع على خائنة منهم! فاعف عنهم واصفح، إن الله يحب المحسنين )) (13 ـ14).

في آية المائدة (14) نجد تعبير آية النساء نفسه (45). فتعليقنا عليه واحد. ونلاحظ أن التهمة منسوبة إلى اليهود، لا إلى النصارى وإنجيلهم.

والرازي الكبير يفهمها مثل صحيح البخاري، فيقول: (( إِن المراد

(1) أحمد أمين: ضحى الإسلام: 346 و 358.

بالتحريف إِلقاء الشبه الباطلة، والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل، بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعل أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم. وهذا هو الأصح )) .

ولنا هنا قرينة على صحة تفسير البخاري والرازي، من الآية (16) التي تليها في الخطاب نفسه لليهود: (( يا أهل الكتاب قد جاءَكم رسولنا، يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب، ويعفو عن كثير )) . فالقرآن يقرن التحريف بالإخفاء، إِخفاء المعنى المقصود، لأن النص كان شائعاً متوتراً في العالمين، قبل بعثة محمد. وهب حاول ذلك بعضهم في الحجاز، فهل ينطلي ذلك على اليهود كلهم في دولة الفرس، وفي دولة الروم؟

وموضوع التحريف في آية المائدة (14) هو دائماً صفة محمد في التوراة. قال الجلالان: (( يحرّفون الكلم الذي في التوراة من نعت محمد ص. وغيره ... وتركوا نصيباً ممّا أُمروا به في التوراة من اتّباع محمد ص. )) .

فالنبي العربي يتهم اليهود، أو بالحري فريقاً منهم بتأويل شهادة التوراة بحقه تأويلاً غير صحيح. فالخلاف بين محمد واليهود على تفسير النبي الموعود. تقول التوراة (( بالنبي الآتي )) مثل موسى؛ فقرأها محمد: (( النبي الأمي )) فأنكروا ذلك عليه، كما أنكروه من قبل على عيسى ابن مريم. وفي الحالين، أن تفسير اليهود للآية في التوراة لا يمس حرفها.

والنصارى في ذلك كله براءٌ من التهمة؛ فلا يعنيهم القرآن على الإطلاق.

4ـ في سورة المائدة، النص الأخير في التحريف المزعوم: (( ومن الذين هادوا، سمّاعون للكذب، سمَّاعون لقوم آخرين لم يأتوك. يحرّفون الكلم من بعد مواضعه. يقولون: إن أُوتيتم هذا فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا )) (44).

فالتحريف هنا مقرون بقصة يشير إليها النص. فسّره الزمخشري: (( روي أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة، وهما محصنان، وحدّهما الرجم في التوراة. فكرهوا رجمهما لشرفهما. فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله ص. عن ذلك. وقالوا: إن أمركم محمد بالجلد والتحميم فاقبلوا؛ وإن أمركم بالرجم، فلا تقبلوا. وأرسلوا الزانيين معهم. فأمرهم بالرجم. فأبوا أن يأخذوا به. فجعل بينه وبينهم حَكَماً ابن صوريا، من فدك. فشهد بالرجم )) . وقالوا في ختام القصة، إن النبي، بعد شهادة الحبر اليهودي من فدك، أمر برجمهما، فرجموهما عند باب المسجد، لإقامة حدّا التوراة عليهما.

وأسباب النزول كلها، والمحدّثون، والمفسرون كلهم يقرنون التحريف المذكور في سورة المائدة بقصة الزانيين من خيبر. فالتهمة مقصورة على آية في التوراة؛ والتحريف المقصود هو تفسير الرجم بالجلد، وليس تغيير النص. وهو من فريق (( من الذين هادوا )) لا من جميعهم بشهادة فتوى ابن صوريا؛ وإِقامة محمد الحد على الزانيين، بدون اعتراض ولا قتال؛ لكن في اعراض ظاهر.

ولنا على معنى التحريف المقصود قوله: (( ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) ( آل عمران 23 ). قال الجلالان: (( نزل في اليهود: زنى منهم اثنان. فتحاكموا إلى النبي ص. فحكم عليهما بالرجم. فجيء بالتوراة، فوجد فيها. فرجما. فغضبوا )) . فلو كان في التوراة نفسها تحريف لما سمَّاها (( كتاب الله )) . واستشهاد محمد بتلاوة التوراة شاهد على أنه يعتبرها (( كتاب الله )) في زمانه. والتحريف المقصود هو في تأويل مغرض لآية واحدة. وهذه هي قصة التحريف التي تملأ القرآن من ( آل عمران ) إلى ( المائدة ).

لذلك ينقض الرازي معنى التحريف بتغيير اللفظ، ويفسر التحريف المقصود

بالتأويل الباطل: (( التحريف يحتمل التأويل الباطل، ويحتمل تغيير اللفظ. وقد بينّا فيما تقم أن الأول أولى، لأن الكتاب المنقول بالتواتر لا يتأتى فيه تغيير اللفظ )) ( المائدة 44 ).

فمن تأويل فريق من اليهود لآية الرجم بالجلد ـ آية واحدة ـ أطلق القوم تهمة التحريف اللفظي على التوراة كلها: فما أظلمهم بحق كتاب من كتب الله!

والخلاف الآخر في موضوع التحريف هو قراءة نبؤة موسى في (( النبي الآتي )) بمعنى (( النبي الأمي )) ، كما قرأها محمد ومن معه فأنكر اليهود ذلك.

وهكذا تنحصر تهمة التحريف، الوارد لفظها في القرآن، بحق فريق من اليهود، في لفظين من آيتين في التوراة: تأويل اليهود الرجـم بالجلد؛ وقراءة محمد (( النبي الأمي )) بدل (( النبي الآتي )) .

تلك هي التهمة الضخمة التي تملأ الكتب وصحف التفسير، والتي بها يتشدّقون. إِنهم يعملون، بحسب المثل الدارج، من زبيبة خمارة! ومن الحبة قبة!

وفاتهم أسلوب القرآن في البيان: التخصيص في مظهر التعميم. يذكر القرآن بعض آية من التوراة بلفظ التعميم: (( يحرفون الكلم عن مواضعه )) ( النساء 45 ) أو (( يحرفون الكلم من بعد مواضعه )) ( المائدة 44 ) وهو يقصد التخصيص كما تدل القرائن كلها؛ فأخذها القوم بمعنى التعميم. وهذا تفسير خاطئ مغرض لبيان القرآن. فهو يقول مثلاً: (( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله )) ( النساء 53 ) قال الجلالان: (( يحسدون الناس أي النبي ص. (على ما آتاهم الله من فضله) من النبوة وكثرة النساء )) . فالتخصيص في معرض التعميم أسلوب قرآني فات القوم في تفسير القرآن.

وهذه الشـهادة القرآنية في (( الذين يتلون الكتاب حق تلاوته )) أي (( يقرؤونه كما أنزل )) ( الجلالان ) شهادة قاطعة على نفي التحريف، وعلى استحالته في (( كتاب الله )) كما يسميه أيضاً على أيامه.

وهذا ما يراه أيضاً أحمد أمين في ( ضحى الإسلام 1 : 358 ): (( وذهبت طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام إلى أن التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل ... ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ( قبل ظهور محمد والقرآن )، ولا يعلم عدد نسخها إِلا الله، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، بحيث لا تبقى في الأرض نسخة إِلا مبدّلة، والتغيير على منهاج واحد. وهذا ما يحيله العقل، ويشهد ببطلانه. قالوا: وقد بين الله تعالى لنبيّه عليه السلام محتجّاً على اليهود بها: فأتوا بالتوراة فاتلوها، إن كنتم صادقين )) .

فالقول بتحريف الكتاب أي التوراة والإنجيل، استناداً إلى متشابه القرآن في استخدام لفظ (( التحريف )) على التعميم في موضع التخصيص، هو تحدٍ مفضوح للمنطق والتاريخ والقرآن نفسه.

وهذه هي النتيجة الحاسمة التي نصل إليها بعد استقراء القرآن في التحريف المزعوم وتفسيره:

أولاً: لا يقول القرآن بتحريف لفظي في التوراة.

ثانياً: على كل حال إن شبهة التحريف السخيفة لا تقصد النصارى وإنجيلهم على الإطلاق.

وكما استفتحنا البحث نختمه: إِنَّا نتحدّى أيّاً كان أن يرينا آية واحدة من القرآن تتهم المسيحيين تصريحاً أو تلميحاً بتحريف الإنجيل أو بعضه.

وسلامة الإنجيل من التحريف هي القاعدة الرابعة في الحوار الإسلامي المسيحي.

بحث ثالث

صحة الكتاب والإنجيل عقيدة في القرآن

( القاعدة الخامسة في الحوار الإسلامي المسيحي )

إن القرآن يشهد بصحة الكتاب، وصحة التنزيل في التوراة والإنجيل، على زمان محمد، في الحجاز. وهذه الصحة المزدوجة عقيدة راسخة متواترة في القرآن.

الشهادة الأولى: (( يتلونه حق تلاوته ))

قد يكون التحريف الذي يتهم به القرآن بعض اليهود عدم تلاوة الكتاب حق تلاوته أي تلبيس حق الكتاب بباطل تفسيرهم وتأويلهم. ويمنع من ذلك وجود فريق من أهل الكتاب يتلونه حق تلاوته، ويفوّتون على ذلك الفريق تأويلهم الباطل:

أولئك الذين آتيناهم الكتاب، يتلونه حق تلاوته، أولئك يؤمنون به! ومَن يكفر به فأولئك هم الخاسرون )) ( البقرة 121 )

فسره الجلالان: (( يتلونه حق تلاوته أي يقرؤونه كما أُنزِل ))

فالكتاب يقرؤه كثيرون من أهله، في زمن محمد، في الحجاز، كما أنزل.

وهذه هي شهادة القرآن القاطعة بصحة الكتاب وصحة تنزيله وصحة تلاوته. وهذه الشهادة القاطعة تثبت أَن التحريف المذكور في القرآن هو التأويل الباطل لا تغيير اللفظ؛ وهي تقطع كل تهمة أو شبهة لتحريف في الكتاب كله.

الشهادة الثانية: الكتاب المقدس كله في زمن محمد هو (( كتاب الله )) .

إن القرآن يسمي مراراً الكتاب الذي مع أهل الكتاب في زمانه (( كتاب الله )) .

(( ولما جاءهم رسول من عند الله، مصدق لما معهم، نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون )) ( البقرة 101 ).

فالقرآن يستشهد بالكتاب، ويسميه (( كتاب الله )) ويعلن أن القرآن (( مصدق لما معهم )) أي للكتاب الذي بين أيديهم. ثلاث شهادات لصحة الكتاب في آية واحدة، وأعظمهن تصريحه أن الذي معهم هو (( كتاب الله )) .

(( إِنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور؛ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا؛ والربانيون والأحبار بما استُحفِظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء )) ( المائدة 47 ).

هذه شهادة جامعة مانعة لصحة التوراة والكتاب كله من زمن موسى حتى عهد محمد. وهي شهادة في خمس:

إِن التوراة فيها هدى ونور؛ ولم تزل هدى ونوراً.

إِن التوراة حكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا: فظلت صحيحة طيلة عهد النبوة وظل الإسلام بها صحيحاً.

وظل أهل الكتاب (( شهداء )) على الكتاب حتى زمن محمد.

وفي زمن محمد يحكم الربانيون والأحبار (( بما استحفظوا من كتاب الله )) ، فهو لم يزل في عهد القرآن (( كتاب الله )) .

فالتوراة، والكتاب كله الذي نزل مع (( النبيين الذين أسلموا )) ، هو (( كتاب الله )) بنص القرآن القاطع. ولا يسميه (( كتاب الله )) لو أن عليه شبهة تحريف!

(( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله )) ( الأنفال 75 ).

في سورة الأنفال، ( الآية 72 ) شرع القرآن الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وشرع النصرة والإرث بالموالاة؛ وفي ( الآية 75 ) ينسخ الإرث بالموالاة كما شرعها القرآن، بشرعة الرحم كما شرعها (( كتاب الله )) : فنسخ القرآن بالكتاب.

ويسمي الكتاب (( كتاب الله )) ، ويتقيد بأحكامه قبل أحكام القرآن.

(( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، في كتاب الله، يوم خلَقَ السماوات والأرض؛ منها أربعة حُرْمٌ، ذلك الدين القيّم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم )) ( التوبة 27 ).

ـ القرآن يستشهد بالكتاب أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً؛ ويسميه (( كتاب الله )) ، ويشير بنوع مخصوص إلى سفر التكوين، (( يوم خلق الله السماوات والأرض )) . فالتوراة، والكتاب كله، في زمن محمد هو (( كتاب الله )) . قال بعضهم كالجلالين (( كتاب الله أي اللوح المحفوظ )) ـ هذا تكلّف ظاهر مفضوح، لأنه لا يمكن أن يستشهد بكتاب في السماء لا يستطيع أهل الأرض أن يتحققوا منه. فالقرآن يستشهد بكتاب الله الذي على الأرض، كما يتضح من كل الشهادات التي نتلوها.

(( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون: ما لبثوا غير ساعة! كذلك كانوا يُؤفَكون! وقال الذين أوتوا العلم والإيمان: لقد لبثتم، في كتاب الله، إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون )) ( الروم 55 ـ56 ).

ـ (( الذين أوتوا العلم والإيمان )) في هذه الآية هم أهل الكتاب، خصوصاً النصارى، بدليل مقابلتهم (( للذين لا يعلمون )) أي المشركين (59). فأهل الكتاب يشهدون يوم الدين أن الأموات لبثوا في قبورهم حتى يوم البعث، لا ساعة واحدة.

فهم يستشهدون (( بكتاب الله )) ، كما يستشهد القرآن معهم به، ويسميه (( كتاب الله )) . وهو كتاب الله إلى يوم البعث.

(( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم؛ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض، في كتاب الله، من المؤمنين والمهاجرين، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً )) ( الأحزاب 6 ).

ـ قال الجلالان: (( ذوو القربات بعضهم أولى ببعض في الإرث، من الإرث بالإيمان، كما كان أول الإسلام، ونُسخ: نسخ الإرث بالإيمان والهجرة بإِرث ذوي الأرحام. وأريد بالكتاب في الموضعين اللوح المحفوظ )) .

ـ هذا تكلف ينقضه النص والواقع: فالقرآن لا يسمي كتاب الله المنزل اللوح المحفوظ، فهذا تناقض في التعبير؛ ولا يستشهد القرآن لأهل الأرض باللوح المحفوظ في السماء، ولا سبيل إلى تحقيق الشـهادة منه. فالقرآن يستشهد بالكتاب المنزل ويسميه (( كتاب الله )) : فهو ينسخ بالكتاب ما شرعه أولاً بالقرآن.

(( إن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة وأنفقوا ممّا رزقناهم سرّاً وعلانية، يرجون تجارة لن تبور ... والذي أوحينا إليك من الكتاب هو

الحق مصدقاً لما بين يديه ( قبله ) ... ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ( فاطر 29 ـ32 ).

ـ سياق النص يدل أن الكتاب الذي يذكره القرآن هو الكتاب الذي نزل من قبله، وهو موجود مع (( الذين اصطفينا من عبادنا. فمنهم ظالم لنفسه )) ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات )) (32)، فهم أهل الكتاب، لأنه لا يصف المسلمين بهذه الأوصاف. فالكتاب الذي هو بين أيدي أهل الكتاب هو (( كتاب الله )) الذي جاء القرآن مصدقاً له.

فتلك سبع شهادات على أن الكتاب الذي يتلوه أهل الكتاب، في زمن محمد، ويستشهد به القرآن نفسه، هو (( كتاب الله )) .

والنتيجة الحاسمة: يستحيل أن يسمي القرآن هذا الكتاب الذي يصدقه (( كتاب الله )) لو كان محرفاً!

الشهادة الثالثة: القرآن يشهد بتنزيل الكتاب الذي يتلوه أهله على زمانه.

إيمان القرآن بتنزيل الكتاب، كما وصل إليه في زمانه وفي الحجاز، يشع من كل سور القرآن، بأنوار متعددة:

(( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق )) ( البقرة 213 ).

فالكتاب الـذي نزل مع جميع الأنبياء هو منزل من الله بالحق. وعندما يستعمل القرآن (( الكتاب )) معرفاً على الإطلاق، فهو يعني الكتاب المقدس، ما لم يكن هناك قرينة تقيّد المعنى المقصود.

(( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ... ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق، وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )) ( البقرة 174 ـ175 ).

هذه شهادة قاطعة على صحة تنزيل الكتاب الذي وصل إلى الحجاز وإلى محمد؛ إن صحة تنزيله قائمة في عهد النبي العربي، مهما اختلف أهل الكتاب في تأويله، ومهما كتم بعضهم منه على العرب.

(( الله ... نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه؛ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس )) ( آل عمران 1 ـ3 ).

الله أنزل التوراة والإنجيل؛ وهما لم يزالا هدى للناس حتى عهد محمد، وفي الحجاز، فلو كان فيهما تحريف لما نعتهما بالهدى للناس في زمانه، ولَمَا كان القرآن تصديقاً للتحريف! فلو صدّق القرآن الكتاب محرفاً، لشملت تهمة التحريف القرآن المصدّق للكتاب المحرَّف.

(( يا أيها الذين آمنوا، آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله، والكتاب الذي انزل من قبل: ومَن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، فقد ضلّ ضلالاً بعيداً )) ( النساء 135 ).

القرآن يعلن أن التنزيل واحد في القرآن (( والكتاب الذي أنزل من قبل )) ؛ وهو يخاطب أهل زمانه، لا الزمان الغابر، ويطلب الإيمان الواحد بالقرآن والكتاب: فلا يطلب الإيمان بكتاب محرف، ولا يعلن التنزيل في كتاب محرف!

(( قلْ: يا أهل الكتاب هل تنقمون منا، إِلاَّ أن آمنا بالله، وما أُنزِل إلينا وما أُنزل من قبلُ )) ؟ ( المائدة 61 ).

القرآن يعلن إيماناً واحداً بالقرآن، وبما أُنزِل من قبل: فهل يؤمن بكتاب محرف؟

(( قلْ: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم )) ( المائدة 71 ).

فهل يصح أن يحمل القرآن أهل الكتاب على إِقامة التوراة والإنجيل، لو كان فيهما تحريف؟

(( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله )) ؟ ( المائدة 46 ).

فالقرآن يشهد أن التوراة التي مع مخاطبيه من أهل الكتاب فيها حكم الله: فهل يصح ذلك لو كانت محرفة؟

8 ـ (( وآتينا الإنجيل فيه هدى ونور! ... وليحكم بما أنزل الله فيه! ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) ( المائدة 49 ـ50 ).

فهل أصرح من هذا التصريح على صحة تنزيل الإنجيل الموجود في زمان النبي العربي، إِذ هو يطلب إلى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه، ومَن لم يحكم بما أنزل الله في الإنجيل فأولئك هم الفاسقون؟!

(( ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء، وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون! وهذا كتاب أنزلناه مبارك ... أن تقولوا: إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإن كنّا عن دراستهم لغافلين )) ( الأنعام 154 ـ 156 ).

فالقرآن ومخاطبوه من العرب يؤمنون بتنزيل الكتاب على اليهود

والنصارى ويأسف العرب لأنهم كانوا عن (( دراستهم لغافلين )) . فهل هذا الإيمان يتحمل شبهة تحريف في التوراة والإنجيل؟

10ـ (( وما قدروا الله حقّ قدره، إِذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء! ـ قلْ: مَن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً هدى للناس، تجعلونه قراطيس تبدونها، وتخفون كثيراً، وعُلّمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم؟ قلْ: الله! ثم ذرهم في خوضهم يلعبون! وهذا كتاب أنزلناه مصدقُ الذي بين يديه )) ( الأنعام 91 ـ92 ).

ينكرون على محمد تنزيل القرآن، فيستشهد بتنزيل الكتاب؛ وهذا التنزيل قائم على زمانه في القراطيس التي يبدونها منه؛ وعلى تنزيل الكتاب يقوم فضل أهل الكتاب على الأميين، فقد تعلّم أهل الكتاب فيه ما لم يعلموه هم ولا بنص القرآن القاطع.

11ـ (( وقالوا: سِحْران ( الكتاب والقرآن ) تظاهرا! وقالوا: إِنا بكل كافرون! ـ قلْ: فاتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه، إن كنتم صادقين )) ( القصص 48 ـ49 ).

القرآن يرد على المشركين الذين جمعوا الكتاب والقرآن في تكفير واحد بهما، أن يأتوا بكتاب من عند الله أهدى منهما: فالكتاب الذي في عهد محمد في الحجاز، فيه وفي القرآن هدى من الله واحد. فهل يصح مثل هذا التصريح مع شبهة التحريف؟

12ـ (( شرع لكم من الدين ... ما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ... فلذلك فادع واستقم كما أُمرت، ولا تتّبع أهواءهم! وقلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب )) ( الشورى 13 ـ 15 ).

إن الله شرع للعرب في القرآن دين إبراهيم وموسى وعيسى؛ ويؤمر محمد بأن يستقم على الدعوة لهذا الدين، وأن يقول: (( آمنت بما أنزل الله من كتاب )) .

فمحمد يؤمن بكل كتاب أنزله الله من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى، أي يؤمن بالكتاب المقدس كله: فهل يصح مثل هذا الإيمان العارم، مع شبهة التحريف؟!

فالذين يفترون على القرآن بقولهم أنه شهد بتحريف في التوراة والإنجيل، يجعلون القرآن يناقض بعضه بعضاً! وتكذبهم شهادة القرآن المتواصلة بصحة تنزيل الكتاب كله، كما يؤمن به في زمانه.

الشهادة الرابعة: إيمان القرآن بالكتاب.

إن إيمان القرآن المطلق بالكتاب الذي نزل من قبله برهان قاطع على صحته. فشبهة تحريف الكتاب إهانة لإيمان القرآن بالكتاب.

1ـ مبدأه العام: (( وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب )) ( الشورى 15 ).

محمد يؤمن بالكتاب الذي يعلم دين إبراهيم وموسى وعيسى: فهو من عند الله.

2ـ القرآن يستفتح بالإيمان بالكتاب: (( ألم. ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين... الذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك ... أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون )) ( البقرة 1 ـ5 ).

مطلع القرآن إيمان بالكتاب، فهو هدى للمتقين من العرب، لا ريب فيه؛ وهؤلاء المتقون (( يؤمنون بما أنزل إليك، وما أُنزل من قبلك )) . فهم يؤمنون مع محمد أن الكتاب هدى لهم، لا ريب فيه: فكيف يكون محرفاً؟!

(( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض )) ! ( البقرة 85 ).

لإيمان القرآن بصحة الكتاب كله، يلوم اليهود على إيمانهم عمليّاً ببعض الكتاب وكفرهم ببعض: فهل يصح ذلك لو كان القرآن يشك في صحة الكتاب أو بعضه؟

(( وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم: لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136 ).

فالقرآن يؤمن بكل أجزاء الكتاب المقدس، ويأمر أَتباعه أن يؤمنوا هذا الإيمان: فهل يصح هذا الإيمان بالكتاب في زمانه مع شبهة تحريف فيه؟

5ـ هذا الإيمان بالكتاب الذي بين أيديهم هو قضية مبدإٍ، وقضية أمر واقع: (( آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه، والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرّق بين أحد من رسله )) ( البقرة 285 ).

فالمسلمون يؤمنون على عهد النبي، بإرشاده، يكتب الله ورسله جميعاً: فهل يصح مع ذلك تحريف أو شبهة تحريف!؟

(( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم، وتؤمنون بالكتاب كله )) (آل عمران 119).

فالمسلمون، على عهد النبي، يؤمنون بالكتاب كله؛ فلو فيه تحريف لما سمح النبي العربي لقومه بالإيمان به! وهذا التصريح ينفي عن (( الكتاب كله )) كل شبهة تحريف!

7ـ لذلك يعلن بتكرار: (( قلْ آمنا بالله وما أُنزل علينا وما أُنزل على

إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) ( آل عمران 84 ).

فهم لا يؤمنون بكتب الله كما نزلت في الماضي، بل يؤمنون بها كما وصلت إليهم في الحجاز. وهذا الإيمان المتواتر ينقض كل شبهة تحريف.

8 ـ ودونكم هذا التصريح الضخم بالإيمان بصحة الكتاب كله، في كل كتبه:

(( يا أيها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزّل على رسوله، والكتاب الذي أُنزل من قبل: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فقد ضلّ ضلالاً بعيداً )) ( النساء 135 ). لاحظ قوله: (( أنزل من قبل )) .

فالإيمان بكتب الله ورسله هو ركن من أركان الإسلام، لا يصح إسلام بدونه. وإيمان القرآن بصحة تنزيل الكتاب هو إيمانه بصحة تنزيل القرآن.

9ـ وهذا الإيمان بكتب الله ورسله له أجره عند الله:

(( والذين آمنوا بالله ورسله، ولم يفرّقوا بين أحد منهم، سوف يؤتيهم أجورهم، وكان الله غفوراً رحيماً )) ( النساء 151 ).

فهل الإيمان بكتاب محرف له أجر عند الله؟

10ـ فالكتاب في كل أجزائه هو وحي الله مثل وحي القرآن:

(( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأَيوب ويونس وهارون وسليمان؛ وآتينا داود زبوراً ... وكلم الله موسى تكليماً؛ رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) ( النساء 162 ).

فلو كان جزء من الكتاب محرفاًً، لكان للناس حجة على الله أن لا يؤمنوا به. والقرآن يعلن أن وحيه من وحي الكتاب: فلو كان على وحي الكتاب شبهة لطالت الشبهة القرآن نفسه.

11ـ إيمان القرآن بصحة تنزيل الكتاب كما وصل إليه يحمل المسلمين على عتاب أهل الكتاب في نقمتهم عليهم:

(( قلْ: يا أهل الكتاب هل تنقمون منّا إلاّ أن آمنّا بالله، وما أُنزل إلينا، وما أُنزل من قبل! )) ( المائدة 62 ).

فالمسلمون في عهد محمد يؤمنون بالكتاب إيمانهم بالقرآن: وهذه هي الشهادة على صحة الكتاب كما وصل إلى الحجاز.

12ـ (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ـ إلاّ الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) (العنكبوت 46).

القرآن يخاطب أهل الكتاب في زمانه، ويأمر المسلمين أن يقولوا لهم إنهم يؤمنون بما أنزل إلى أَهل الكتاب: فالتنزيل واحد في الكتاب والقرآن، والإسلام واحد، والإله واحد. فالقرآن يأمر المسلمين بالتسليم بصحة التنزيل في الكتاب كما في القرآن؛ في الكتاب الموجود مع أهله في زمن القرآن.

لذلك فالقول بشبهة التحريف في الكتاب إهانة لإيمان القرآن به.

الشهادة الخامسة: القرآن يصدق الكتاب: فهل يصدّق محرَّفاً؟!

إيمان القرآن بالكتاب، وأمر القرآن للمسلمين أن يؤمنوا بالكتاب، شاهد

مزدوج على صحته كما وصل إلى محمد والمسلمين. وكذلك هدف القرآن تصديق الكتاب شاهد آخر على صحة الكتاب: فلا يصدق القرآن كتاباً محرَّفاً:

(( وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم )) ( البقرة 41 ).

(( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم ... )) ( البقرة 89 ).

(( ويكفرون بما وراءه، وهو الحق مصدقاً لما معهم )) ( البقرة 91 ).

(( قلْ: من كان عدواً لجبريل، فإِنه نزَّله على قلبك، بإذن الله ، مصدقاً لما بين يديه )) أي قبله (97).

(( نزّل عليك الكتاب مصدّقاً لما بين يديه )) ( آل عمران 3 ).

(( يا أيها الذين أُوتوا الكتاب، آمنوا بما نزَّلنا مصدقاً لما معكم )) ( النساء 46 ).

(( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومُهيمِناً عليه )) (المائدة 47) أي (( شاهداً له )) ( الجلالان ).

8 ـ (( وهذا كتاب أنزلناه مصدّق الذي بين يديه )) ( الأنعام 92 ).

(( وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه )) (يونس 37).

10ـ (( ما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه )) ( يوسف 111 ).

11ـ (( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق، مصدقاً لما بين يديه )) (فاطر 31).

12ـ (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا الكتاب مصدق لساناً عربيّاً )) (الأحقاف 22).

فالقرآن يعلن بتكرار أنه تصديق الكتاب: فلا يصدق القرآن كتاباً محرفاً، وإلاّ تلبّس هو أيضاً بشبهة التحريف، لتصديقه التحريف.

يردون على ذلك: القرآن يؤمن ويشهد للكتاب الذي كان نزل على الأنبياء، لا الكتاب الذي كان في زمانه محرفاً. وفاتهم، ويحهم، تصريح القرآن، بأنه (( مصدق لما معكم، لما معهم )) أربع مرات ( البقرة 41 و89 و91 النساء 46 ) وأنه (( مصدق لما بين يديه )) أي قبله، سبع مرات: فالقرآن يشهد للكتاب الذي مع أهل الكتاب في زمانه.

وهذه الشهادة لا معنى لها، إذا كان في الكتاب تحريف؛ لا بل، إذا كان في الكتاب تحريف، فشهادة القرآن للكتاب شهادة زور! حاشا، وكلاّ!

ومن هذه النصوص الأربعة: (( مصدق لما معكم )) نجزم بأن القرآن يقصد دائماً الكتاب الذي مع أهل الكتاب في الحجاز على عهد محمد.

الشهادة السادسة: القرآن يستشهد بالكتاب: فهل يستشهد بمحرّف؟

إن القرآن يستشهد على صحة دعوته بالكتاب وأهله: فهل يستشهد بكتاب محرّف، وبأهل كتاب محرّفين؟ لو وقع للقرآن ذلك لكان القرآن شاهد زور على التحريف!

(( قلْ: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين )) ( آل عمران 93 ).

إن القرآن يصرّح بأن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل، من قبل أن

تنزَّل التوراة! ويستشهد على اليهود في ذلك بالتوراة نفسها. فلو كانت محرفة لما استشهد بها.

(( ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله، ليحكم بينهم؛ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) ( آل عمران 23 ).

إذا اختلف محمد مع أهل الكتاب في حكم، فهو يستشهد عليهم بالكتاب الذي (( معهم ))؛ وهذا دليل إيمانه به وبصحته.

(( الذي آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم! وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق، وهم يعلمون، الحق من ربكم، فلا تكونن من الممترين )) ( البقرة 146 ).

إن القرآن يعتدّ بشهادة الكتاب ويسميها (( الحق )) : (( الحق من ربكم )) : كيف تكون شهادة الكتاب (( حقاً )) وهي محرفة؟ وكيف يستشهد القرآن بكتاب محرف؟ وإذا كان الكتاب محرفاً، وشهادته مزورة، فكيف يستشهد القرآن بالتحريف والتزوير؟!

4ـ اختلف محمد مع اليهود لقولهم: (( لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودات! )) ( آل عمران 24 )؛ فدعاهم إلى شهادة الكتاب وحكمه: (( ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم؛ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) ( آل عمران 23 ).

محمد يحتكم إلى الكتاب الذي مع أهل الكتاب في زمانه، ويسميه (( كتاب الله )) : فهذه التسمية وهذا التحكيم لكتاب الله، برهانان على صحة الكتاب الذي بيد أهل الكتاب في عهد محمد.

(( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله )) ( المائدة 46 ).

فالقرآن يرضى لمحمد في حكم التوراة بدل حكمه لأن فيها (( حكم الله )) . قال البيضاوي: (( يتعجب من تحكيم اليهود محمداً، والحال أن الحكم منصوص عليه في الكتاب الذي هو عندهم )) .

(( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة )) ( الأحقاف 12 هود 17 ).

فالكتاب هو إِمام القرآن في الهدى والبيان: فهل يجعل القرآن الكتاب إمامه لو أن فيه شبهة تحريف؟!

(( وإنه ( القرآن ) لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين )) ( الشعراء 193 ـ195 ) أي (( كتبهم كالتوراة والإنجيل )) ( الجلالان ). فالتنزيل القرآني هو في (( زبر الأولين )) الذين سبقوا عهد محمد.

هل يصح للقرآن، تنزيل رب العالمين، أن يشهد بأنه في زبر الأولين لو كان على تلك الزبر شبهة تحريف؟!

8 ـ (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم ( الحكمة ) والنبوة ... وأولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده )) ( الأنعام 90 ).

هل يأمر الكتاب محمداً أن يقتدي بهدى الكتاب وأنبيائه، لو كان الكتاب محرفاً؟

(( وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43 ).

ان القرآن يحيل المشركين في خلافه معهم إلى أهل الذكر أي أهل الكتاب؛ فهل يستشهد بمحرفين، أو بكتاب محرّف؟

10ـ (( ويقول الذين كفروا: لست مرسـلاً! قلْ: كفى بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب )) ( الرعد 40 ).

القرآن يجعل شهادة أَهل الكتاب لرسالته من شهادة الله، لأنها مبنية على الكتاب. فلا يستشهد بمحرَّف ومحرّفين.

11ـ (( شهد الله أنه لا إله إلاَّ هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ... إن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ).

أولو العلم المقسطون هم في اصطلاح القرآن النصارى، فهل يستشهد القرآن على صحة الإسلام بشهادة أولي العلم، لو لم تكن شهادتهم من شهادة الله؟ ولو لم يكونوا قائمين بالقسط في (( علم الكتاب )) ، لما استشهد بهم على صحة إسلامه!

12ـ والقرآن يحيل محمداً نفسه، في حال الشك من صحة القرآن إلى أهل الكتاب ليستيقن:

(( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذي يقرؤون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 ).

وما كان القرآن ليحيل نبيه إلى محرفين وكتاب محرّف.

فليس الكتاب محرّفاً، وذلك بنص القرآن القاطع، الذي يقطع كل شبهة في تحريف الكتاب.

الشهادة السابعة: القرآن يأمر أهل الكتاب بإقامة التوراة والإنجيل

إن دعوة القرآن أهل الكتاب لإقامة التوراة والإنجيل، لا معنى لها إذا كان التوراة والإنجيل محرّفين! فدعوته لإقامتهما دليل صحتهما على زمانه في الحجاز.

(( قلْ: يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل،

وما أنزل إليكم من ربكم. وليزيدنَّ كثيراً منهم ( اليهود ) ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً، فلا تأس على القوم الكافرين )) ( المائدة 71 ).

إن القرآن يدعو أهل الكتاب إلى إقامة التوراة والإنجيل، لأنهما كتاب الله: ويشير إلى أن التنزيل في: (( ما أنزل إليكم من ربكم ... ما أنزل إليك من ربك )) واحد.

2 ـ (( ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل، وما أُنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة، وكثير منهم ساء ما يعملون )) ( المائدة 69 ).

بما أن التوراة والإنجيل (( كتاب الله )) ، فإن إقامتهما، بالعمل بأحكامهما، مصدر سعادة لأهلهما. ويقرن الدعوة بالشـهادة أن الكتاب في زمن محمد هو (( ما أنزل إليهم من ربهم )) . فلو كان في الكتاب تحريف، لما كان لدعوة القرآن وشهادته من معنى.

3 ـ (( إِنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا؛ والربانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء: ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) ( المائدة 47 ).

إن التوراة، في عقيدة القرآن، كتاب الله، في زمانه. وبالتوراة (( بحكم النبيون الذين أسلموا )) أي (( أنبياء بني إسرائيل )) (البيضاوي)، للذين هادوا: فالتوراة صحيحة طيلة عهد الأنبياء؛ والتوراة ظلت صحيحة طيلة عهد الربانيين والأحبار حتى زمن محمد، فهم شهداء على التوراة ويحكمون لبني إسرائيل، في عهد محمد، (( بما استُحفظوا من كتاب الله )). والقرآن يشـهد لأهل زمانه أن (( من لم يحكم بما أنزل الله (في التوراة)، فأولئك هـم الكافرون )). فهو يكفّر من لا يحكم (( بما أنزل الله )) في التوراة: فهي تنزيل الله في زمانه.

4 ـ (( وكيف يُحكّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله )) ( المائدة 46 ).

يستغرب القرآن تحكيم اليهود للنبي العربي، (( وعندهم التوراة فيها حكم الله )) . فالقرآن يؤمن ويعلن أن التوراة في زمانه، في الحجاز، عند أهل الكتاب، (( فيها حكم الله )) . فهي ليست محرّفة، وان اختلفوا في تأويل أحكامها، كتأويل رجم الزاني والزانية بالجلد، واحتكموا إلى محمد فى التأويل الصحيح. فأتهم القرآن تأويل الرجم بالجلد أنه (( تحريف )) لمعنى حكم الله. فتهمة التحريف المذكور في القرآن كله، لهذه المناسبة وحدها، تعني التأويل الباطل، لا تغيير اللفظ، لأن لفظ التوراة هو (( حكم الله )) حتى القرآن.

5 ـ (( وآتينا ( عيسى ) الإنجيل فيه هدى ونور ... وهدى وموعظة للمتقين: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، ومَن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الفاسقون )) ( المائدة 49 ـ 50 ).

في عقيدة القرآن، إن الإنجيل نور وهدى لأهله، وهدى وموعظة للمتقين من العرب. ويأمر أهل الإنجيل بالحكم بما أنزل الله فيه، ويفسق في دينه مَن لم يحكم بما أنزل الله في الإنجيل. فالإنجيل في زمن محمد تنزيل من الله فيه الهدى للعالمين، من أهل الكتاب والأميين.

أَتصح شبهة تحريف مع هذه العقيدة القرآنية؟

6 ـ ومن الدعوة لإِقامة التوراة الاحتكام إلى أحكامها: (( قلْ: فاتوا بالتوراة فاتلوها، إن كنتم صادقين )) ( آل عمران 93 ).

فلو كانت أحكامها محرفة، لما احتكم محمد في خلافه مع اليهود إليها.

7 ـ القرآن يحتكم إلى الكتاب في إِقامة الأحكام، وفي تقييم العقيدة أيضاً، مثل مكوث المؤمنين في النار: (( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب،

يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون )) ( آل عمران 23 ).

فالكتاب لم يزل في زمن الدعوة القرآنية (( كتاب الله )) في العقيدة والشريعة؛ والنبي العربي في خلافه مع اليهود على عقيدة أو شريعة يحتكم إليه بما أنه (( كتاب الله )) ويحجّهم به.

8 ـ القرآن يحتكم إلى الكتاب، بصفة كونه (( كتاب الله )) في زمانه، جملة وتفصيلا: (( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه مَن قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً؛ ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً. ولقد جاءَتهم رسلنا بالبينات، ثم أن كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون )) ( المائدة 35 ).

جاء رسل الكتاب بالبينات دليلاً على صحته؛ وهو لم يزل حتى القرآن الذي يستشهد به (( كتاب الله )) ؛ وإن أسرف أهله في الأرض وما أقاموا أحكامه حقّ إقامتها.

9ـ والقرآن يطلب إقامة التوراة في أحكامها لأنها أحكام الله لأهل زمانه أيضاً:

(( وكتبنا عليهم فيها ( التوراة ) أَن النفس بالنفس، والعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسن بالسن؛ والجروح قصاص: فمن تصدّق به فهو كفأرة له: ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الظالمون )) ( المائدة 48 ).

فأحكام التوراة لم تزل على عهد القرآن (( ما أنزل الله )) : ومَن لم يحكم بها فأولئك هم الظالمون.

10ـ ويخاطب يهود زمانه في تربيبهم الملائكة والأنبياء، وخصوصاً الربانيين منهم في السماح للشعب بتربيبهم:

(( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ( الحكمة ) والنبوة، ثم يقول للناس: كونوا عباداً لي من دون الله! ولكن كونوا ربَّانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون! ولا يأمركم أن تتخذوه الملائكة والنبيين أرباباً! ـ أيأمركم بالكفر، بعد إِذ أنتم مسلمون )) . ( آل عمران 79 ـ80 ).

فاليهود، في عهد القرآن، لم يزالوا مسلمين: (( بعد إذ أنتم مسلمون )) ؛ وأهل الكتاب في زمانه هم الذين آتاهم الله أيضاً (( الكتاب والحكم والنبوة )) . وهم ربّانيون أي (( منسوبون إلى الرب، بزيادة ألف ونون تفخيماً )) ( الجلالان ) لأنهم يدرسون كتاب الرب ويُعلّمونه. فهل في هذا القول من ريبة أو شبهة في تحريفهم الكتاب؟

11ـ ويلوم اليهود، في زمانه، بالإيمان ببعض الكتاب والكفر عملياً ببعضه بسبب إقامتهم لبعض أحكام التوراة من دون بعض، وكلها أحكام الله:

(( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، ثم أقررتم وأنتم تشهدون. ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتُخرجون فريقاً منكم من ديارهم، تَظاهرون عليهم بالإثم والعدوان؛ وإِن يأتوكم أسارى تفادوهم؛ وهو محرّم عليكم إخراجهم: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء مَن يفعل ذلك منكم إلاّ خزيٌ في الحياة الدنيا، ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب! وما الله بغافل عما تعملون )) ( البقرة 84 ـ85 ).

فالقرآن يكفر اليهود، إذا لم يعملوا بأحكام التوراة؛ ويلومهم لأنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وجميعها أحكام الله؛ وينذرهم بعذاب الآخرة إذا لم يقيموا أحكام التوراة كلها. وهذا كله لإيمانه بأن أحكام التوراة كلها أحكام الله. فلا مجال للتحريف، في عقيدة القرآن؛ بل كله شهادة متواصلة بصحة الكتاب كما وصل إلى زمانه في الحجاز.

نلاحظ أن ما يسميه القرآن هنا (( الكفر ببعض )) أحكام التوراة، يسميه أيضاً (( نسوا حظاً ممّا ذكروا به )) ( المائدة 14 و15 ).

12ـ كتمان اليهود لبعض الكتاب في زمن القرآن، واختلاف أهل الكتاب من يهود ونصارى في تأويل الكتاب، ونسيان اليهود والنصارى ( المائدة 14 ـ15 ) حظاً ممّا ذكروا به، كل ذلك لا يمنع أن الكتاب الذي بين أيديهم في زمن محمد هو (( كتاب الله )) :

(( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً، أولئك ما يأكلون في بطونهم إِلاَّ النار ... ذلك بأن الله نزّل الكتاب بالحق؛ وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد )) ( البقرة 175 ـ176 ).

فالله (( نزّل الكتاب بالحق )) الذي يختلف فيه اليهود والنصارى؛ والله (( أنزل من الكتاب )) ما يحاول بعض اليهود كتمانه عن الناس في عهد محمد.

فالقرآن كله شهادة متواصلة بصحة الكتاب الذي بين أيدي أهل الكتاب في الحجاز، على عهد محمد. فلا مجال مع هذه الشهادة المتواصلة لشبهة تحريف في الكتاب، (( الكتاب الذي نزّله الله بالحق )) ، محفوظاً إلى زمن القرآن.

الشهادة الثامنة: أهل الكتاب في زمن محمد يتلون كتاب الله، وآيات الله.

(( وإِن يكذبوك فقد كذّب الذين من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات، والزُّبر والكتاب المنير )) ( فاطر 29 ).

(( الكتاب المنير )) (( هو التوراة والإنجيل )) ( الجلالان )؛ (( كالتوراة والإنجيل، على إرادة التفصيل دون الجمع؛ ويجوز أن يُراد بهما واحد، والعطف

لتغاير الوصفين )) ( البيضاوي ). وعليه نقول: تدل القرائن أن (( البينات )) كناية عن التوراة، (( والزبر )) كناية عن الزبور أي المزامير؛ (( والكتاب المنير )) كناية خاصة عن الإنجيل.

وسواء كان (( الكتاب المنير )) كناية عن الكتاب كله، أو عن الإنجيل خاصة، ما كان القرآن ليسميه في زمانه (( الكتاب المنير )) لو كان فيه تحريفاً!

2ـ و (( الكتاب المنير )) يسميه في آية لاحقة (( كتاب الله )) كما يتلوه أهل الكتاب:

(( إِن الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا ممّا رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور )) ( فاطر 29 ).

فأهل الكتاب في زمان محمد (( يتلون كتاب الله )) : فلو كان في تلاوتهم شبهة تحريف، لما أسماه (( كتاب الله )) .

3 ـ ويلوم اليهود على تعليم البرّ للناس، وعدم العمل به، وهم الذين يتلون الكتاب:

(( أتأمرون الناس بالبرّ، وتنسون أنفسكم، وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون )) !؟ (البقرة 44).

فأهل الكتاب الذين يخاطبهم القرآن يتلون كتاب الله.

4ـ ويستغرب القرآن خلاف اليهود والنصارى وهم يتلون كتاب الله الواحد:

(( وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء! وقالت النصارى: ليست

اليهود على شيء! وهم يتلون الكتاب. كذلك قال الذين لا يعملون مثل قولهم! فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )) ( البقرة 113 ).

(( الذين لا يعلمون )) هم في اصطلاح القرآن المشركون الذين لا كتاب منزلاً لهم، بإزاء أهل الكتاب، (( الذين يعلمون )) ، (( أولي العلم )) ، لأنهم أهل كتاب الله. والكتاب لم يزل واحداً قائماً كما نزل، وإن اختلف فيه أهله. فخلافهم في تأويل الكتاب هو دليل على صحته، في نظر القرآن، لأنهم يتلونه واحداً.

5ـ قيام الليل للصلاة وتلاوة الكتاب عادة نصرانية رهبانية، لا يهودية ولا عربية، ولا إسلامية إذ هي (( نافلة للنبي )) . لذلك فعندما يصف القرآن قوماً من أهل الكتاب بقيام الليل للصلاة و (( تلاوة آيات الله )) فهو يقصد النصارى ورهبانهم، فهم (( عباد الرحمان ... الذين يبيتون لربهم سُجّداً وقياماً )) ( الفرقان 63 ـ64 ). فهم في صلاتهم أيام محمد (( يتلون آيات الله )) .

القرآن يذكر المسلمين (( خير أمة أُخرجت للناس )) ( آل عمران 110 )، ثم اليهود الذين (( يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق )) ( آل عمران 112 )، وأخيراً يميز من أهل الكتاب النصارى:

(( ليسوا سواءً: من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون! يؤمنون بالله واليوم الآخر! ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر! ويسارعون في الخيرات! وأولئك من الصالحين )) ( آل عمران 113 ـ114 ).

فاليهود، في زمن محمد، (( يتلون آيات الله )) وإن كفروا بها!

والنصارى، في زمن محمد، (( يتلون آيات الله، آناء الليل، وهم يسجدون )) .

فالتوراة والإنجيل، والكتاب كله، كما يتلوه أهله في الحجاز، على أيام على أيام محمد هو (( آيات الله )) : فكيف تكون محرفة؟

(( وأشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الكتاب، وجيء بالنبيين والشهداء ... وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً ... وقال لهم خزنتُها: ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ )) ( الزمر 69 ـ71 ).

(( ويتلون عليكم آيات ربكم )) أي (( القرآن وغيره )) ( الجلالان ). والآية تقصد كل الكتب المنزلة، لقوله (( رسل منكم )) فإلى يوم القيامة يظل الكتاب كله (( آيات الرب )) . فكيف يدخله تحريف؟

7ـ في مطالع بعض السور؛ استفتاح: (( تلك آيات الكتاب )) والقرآن يقصد بها آيات الكتاب لأنه يميز في مطالع أخرى بين الكتاب والقرآن، بالتعبير عينه: (( تلك آيات الكتاب وقرآن مبين )) ( النمل 1؛ الحجر 1 )؛ أو بقوله: (( تلك آيات الكتاب المبين: إنا أنزلناه قرآنا عربيَّاًً )) ( يوسف 1 ). وبسبب قوله (( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن خبير حكيم )) (هود 1) ـ ومهمة التنزيل للكتاب، والتفصيل للقرآن ـ فذكر الكتاب في هذه المطالع يعني الذي بين أيدي أهل الكتاب: فالقرآن يشهد في مطالع سوره بتنزيل الكتاب وصحته يوم نزول القرآن المبيّن للكتاب والمفصّل له:

(( تلك آيات الكتاب المبين )) ( الشعراء 1 ).

(( تلك آيات الكتاب وقرآن مبين )) ( النمل 1 ).

(( تلك آيات الكتاب المبين )) ( القصص 1 ).

(( تلك آيات الكتاب الحكيم )) ( يونس1 لقمان1 ).

(( كتاب أحكمت آياته، ثم فُصلت من لدن خبير حكيم )) ( هود 1 ).

(( تلك آيات الكتاب المبين، إنا أنزلناه قرآناً عربيّاً )) ( يوسف 1 ).

(( تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب فصلت آياته قرآناً عربيّاً )) ( فصلت 1 ).

(( والكتاب المبين، إنا جعلناه قرآناً عربياً ( الزخرف 1 ).

(( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم )) ( الجاثية1 الأحقاف1 ).

في هذه المطالع يشـهد القرآن بأن الكتاب تنزيـل من الله العزيز الحكيم، وأن القرآن (( تفصيل )) له أي تعريب. وقد جمع ذلك في مطلع سورة البقرة:

(( ألم. ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين ... الذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك )) (1 ـ3).

فالكتاب هـو ما أنزل إلى محمد قرآنـاً عربياً، وما أُنزِل من قبله. وما أنزل من قبله (( هو الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين )) من العرب، كما هو هدى لأهل الكتاب.

8 ـ ففي الكتاب الذي في الحجاز على زمن محمد (( البينات والهدى )) : فمن كتم آياته عن الناس يلعنه الله:

(( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله، ويلعنهم اللاعنون )) ( البقرة 159 ).

فالكتاب في زمن محمد فيه (( البينات والهدى )) كما بيّنه الله للناس من قبل.

9ـ واليهود (( ضُربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير الحق؛ ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون )) (البقرة 61).

فاليهود، بما عصوا وكانوا يعتدون، (( كفروا بآيات الله )) . ومع كفرهم بها، فهي لم تزل في زمن محمد (( آيات الله )) .

10ـ لقد شهد الله والملائكة وأولو العلم من أَهل الكتاب: (( إن الدين عند الله الإسلام؛ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( اليهود )، إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم: ومن يكفر بآيات الله، فإن الله سريع الحساب ... إِن الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ( النصارى )، فبشرهم بعذاب أليم )) ( آل عمران 18 ـ21 ).

فالكفر عمليّاً بكتاب الله الذي معهم، طيلة تاريخهم، يجعل اليهود موضع وعيد لهم بعذاب أليم، لأنهم (( يكفرون بآيات الله )) . فالكتاب مع شذوذ اليهود عنه لم يزل منذ موسى حتى محمد (( آيات الله )) ، بشهادة مكررة، متواترة.

11ـ ففي زمن محمد لم يزل الكتاب (( آيات الله )) كما نزلت:

(( وإنّ من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل إليكم، وما أُنزل إليهم، خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إن الله سريع الحساب )) ( آل عمران 199 ).

إِن أَهل الكتاب في زمن محمد يؤمنون بالله وبما أُنزل إليهم، فما يزال كتابهم تنزيل الله، لا تحريف فيه؛ (( ولا يشترون بآيات الله )) ـ (( التي عندهم في التوراة والإنجيل )) (الجلالان) ـ (( ثمناً قليلاً )) : فالتوراة والإنجيل في زمن محمد والقرآن هما (( آيات الله )) .

12ـ فالقرآن في سورة آل عمران، يختتم السورة ويستفتحها بإعلان إيمانه بتنزيل التوراة والإنجيل والقرآن، التي فيها جميعاً (( آيات الله )) .

(( الله ... نزّل عليك الكتاب مصدّقاً لما بين يديه، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ... إِن الذين يكفرون بآيات الله لهم عذاب شديد، والله عزيز ذو انتقام )) ( آل عمران 1 ـ4 ).

فالكتاب المقدس لم يزل، حين تنزيل القرآن، تنزيل الله وفيه ( آيات الله ). وهذه العقيدة القرآنية الشاملة تقضي على كل شبهة تحريف في الكتاب.

ومَن يقل، باسم القرآن، إِن في الكتاب المقدس تحريفاً، فهو يشهد على القرآن شهادة زور.

الشهادة التاسعة: المبدأ القرآني العام: (( لا مبدّل لكلماته ))

1ـ إِن القرآن يردّد مراراً: لا مبدّل لكلمات الله في كتابه، سواء في أصلها كما وردت في الكتاب، أو بتفصيلها في القرآن، لأن القرآن هو (( الكتاب مفصلاً )) :

(( أفغير الله أبتغي حكماً، وهو الذي أَنزل إليكم الكتاب مفصلاً؛ والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، فلا تكوننَّ من الممترين. وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدّل لكلماته، وهو السميع العليم )) ( الأنعام 114 ـ115 ).

القرآن تفصيل الكتاب: هذه عقيدة راسخة متواترة في القرآن. وما القرآن أيضاً سوى (( الكتاب مفصلاً )) : فالتنزيل فيهما واحد، في عرف القرآن. وتفصيل الكتاب في القرآن صدق وعدل، لأنه (( لا مبدّل لكلماته )) . فلو كان الكتاب محرفاً، كان تفصيله في القرآن مبدلاً لكلماته، لا صدق فيه ولا عدل. فهو يقرّر مرّتين أن الكتاب (( كلمات الرب )) لا تبديل لها. فكيف يشهدون على القرآن زوراً وبهتاناً أنه يقول بتحريف في الكتاب.

2ـ لا تبديل لكلمات الله، ما بين الكتاب والقرآن:

(( واتلُ ما أوحي إليك من كتاب ربك: لا مبدّل لكلماته )) ( الكهف 27 ).

3ـ لا تبديل لكلمات الله في حرفها، ولا في معناها ومواعيدها:

(( ولقد كُذّبت رسل من قبلك، فصبروا على ما كُذّبوا وأُوذوا، حتى أتاهم نصرنا، لا مبدّل لكلمات الله )) ( الأنعام 34 ).

فكلمات الله التي نزلت مع الرسل، وإن كذّب بها الناس، لا مبدّل لها، في حرفها أو في معناها: (( لا مبدّل لكلمات الله )) ، حتى زمن محمد.

4ـ لا تبديل لكلمات الله في وعدها ولا في وعيدها:

(( لهم ( أولياء الله ) البشرى في الحياة الدنيا، وفي الآخرة: لا تبديل لكلمات الله، ذلك هو الفوز العظيم )) ( يونس 64 ).

وهكذا إذا وقع في كتاب الله تحريف، كما يزعمون، يسقط مبدأ القرآن نفسه: (( لا مبدّل لكلماته )) ، فالله نفسه يحفظ (( ذكره )) .

الشهادة العاشرة: المبدأ القرآني الثاني: الله يحفظ كتابه

الذكر، في لغة القرآن، كناية عن الكتاب؛ وهي صفة يطلقها القرآن على نفسه وعلى الكتاب: (( هذا ذكر من معي وذكر من قبلي )) ( الأنبياء 24 )؛ (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43 الأنبياء 7 )؛ (( لقد كتبنا في الزبور، من بعد الذكر، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون )) ( الأنبياء 105 ). لذلك عندما يشرع القرآن المبدأ:

(( إنّا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون )) ( الحجر 9 ).

فلا يقصر قوله على القرآن، كما يزعمون، بل يعني (( الذكر )) على الإطلاق، أي كل كتاب منزل، خصوصاً الكتاب الذي مع (( أهل الذكر )) ، أي أَهل الكتاب؛ فهم (( أَهل الذكر )) المحفوظ قبل غيرهم؛ و (( الذكر )) على الإطلاق هو عند (( أهل الذكر )) .

ونوجز موقف القرآن من صحة الكتاب كله، كما وصل إلى الحجاز، على زمن الدعوة القرآنية، بهذا المبدإِ الذي شرعه القرآن: (( إِنا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون )) (( من التبديل والتحريف والزيادة والنقص )) ( الجلالان )؛ وبهذا الواقع الذي يشهد له القرآن شهادة مطلقة مانعة: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب، يتلونه حق تلاوته )) أي (( يقرؤونه كما أُنزل )) (الجلالان) فلا تحريف في الكتاب على الإطلاق، ينص القرآن القاطع، ولا من يفرحون، ولا من يحزنون، ولا من يفترون.

فصحة الكتاب كله، وصحة الإنجيل خاصة، وصحة التنزيل فيهما، عقدية راسخة متواترة في سور القرآن كله.

والنتيجة المحتومة أنه في الحوار بين المسلمين والمسيحيين يصح الاستشهاد بالإنجيل؛ وشهادته هي شهادة الله في وحيه وتنزيله.

وتلك هي القاعدة الخامسة للحوار الإسلامي المسيحي.

بحث رابع

هل نسخ القرآن التوراة والإنجيل؟

( القاعدة السادسة في الحوار المسيحي الإسلامي )

توطئة: النسخ ميزة القرآن وحده في الناسخ والمنسوخ منه.

قال جلال الدين السيوطي في ( الإتقان 2 : 22 ): (( النسخ ممّا خصّ الله به هذه الأمة )) .

فالنسخ في القرآن من خصائص القرآن في أحكامه من الناسخ والمنسوخ. أمّا فكرة نسخ القرآن للتوراة والإنجيل فهي غريبة عن القرآن ولا يقول بها على الإطلاق.

والنسخ يقع في العقيدة أو الشريعة؛ والعقيدة تسمي في القرآن الهدى؛ والشريعة تسمى الدين. والمبدأ العام في القرآن أن الهدى في التوراة والإنجيل والقرآن واحد، لذلك يأمر القرآن نبيه: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ... أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدهْ )) (الأنعام 91): فلا نسخَ في العقيدة ما بين القرآن والكتاب كله. والمبدأ العام في القرآن أيضاً أن الدين في التوراة والإنجيل والقرآن واحد، لذلك يقول: (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ... والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى

وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) ( الشورى 13 ): فلا نسخ في الشريعة والدين منا بين توراة موسى وإنجيل عيسى وقرآن محمد.

فمن أين جاؤوا ببدعة نسخ القرآن للتوراة والإنجيل؟

أولاً: النسخ في لغة القرآن

ترد لفظة ( نسخ ) في أربع آيات قرآنية لا غير:

(( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق: إِنا كنا نستنسخُ ما كنتم تعلمون )) (الجاثية 28).

فسره الجلالان: (( هذا كتابنا: ديوان الحفظة ـ الملائكة الحفظة ـ كنا نستنسخ: نثبت ونحفظ ما كنتم تعملون )) . فالأمر هنا يتعلق بملائكة الله الذين يسجلون أعمال البشر ليوم الدين.

(( ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح في نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون )) ( الأعراف 153 ) ـ النص صريح، لا يحتاج إلى تعليق.

(( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنّى ألقى الشيطان في أمنيّته، فينسخ الله ما يلقي الشيطان، ثم يُحكم الله آياته، والله عليم حكيم )) ( الحج 52 ).

فسره الجلالان: (( تمنى: قرأ؛ أمنيته: قراءَته. وقد قرأ النبي ص. في سورة النجم، بمجلس من قريش، بعد ( أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى ) بإلقاء الشيطان على لسانه من غير علمه ص. ( تلك الغرانيق العلى، وإن

شفاعتهنّ لتُرتجى ). ففرحوا بذلك. ثم أخبره جبريل لما ألقاه الشيطان على لسانه من ذلك فحزن. فسلي بهذه الآيات )) . فالنسخ المذكور هو إذن من خصائص القرآن في تنزيله، ولا يعني نسخ كتاب بكتاب، أو شرع بشرع. والنسخ عند كل (( رسول أو نبي )) من قبل يتعلق بنسخ ما يلقيه الشيطان في الوحي، لا بأحكام الكتاب.

(( ما ننسخ من آية أو نُنسها ) ( ننسِئْها )، نأت بخير منها أو مثلها: ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير )) ؟ ( البقرة 106 ).

تلك هي آية النسخ الشهيرة. وهي صريحة أنها تحصر نسخ آية بآية في القرآن نفسه. فسرها الجلالان: (( نزلت لما طعن الكفار في النسخ وقالوا؛ إن محمداً يأمر أصحابه اليوم بأمر، وينهى عنه غداً )) ! فالنسخ إذن من خصائص القرآن في تنزيله، ولا علاقة له على الإطلاق بنسخ كتاب منزل بكتاب آخر منزل، أو ينسخ شرع منزل بشرع آخر منزل.

هذا هو الواقع القرآني في لغة النسخ: إن القرآن بحصر مبدأ النسخ في آياته وأحكامه، ولا ينظر في تطبيق مبدإِ النسخ على كتاب غيره.

فالاستناد إلى آية النسخ للقول بنسخ كتاب بكتاب أو شرع بشرع هو فرية على القرآن، والقرآن منها براء.

ثانياً: النسخ، في علوم القرآن

يذكر السيوطي في ( الإتقان 2 : 20 ـ21 ) معاني النسخ، فيقول:

(( يرد النسخ 1) بمعنى الإِزالة، ومنه قوله: (( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم

يحكم الله آياته )) ( الحج 52 ). 2) وبمعنى التبديل، ومنه: (( وإذا بدّلنا آية مكان آية، والله أعلم بما ينزل، قالوا: إنما أنت مفترٍ! بل أكثرهم لا يعلمون )) ( النحل 101 ). 3) وبمعنى التحويل، كتناسخ المواريث من واحد إلى واحد1. 4) وبمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه ( نسخت الكتاب ) إذ نقلت ما فيه حاكياً للفظه وخطه ... يشهد قوله تعالى ( إِنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) ... النسخ ممّا خص الله به هذه الأمة لحِكم منها التيسير. وقد أجمع المسلمون على جوازه. وأنكره اليهود ظناً منهم أنه بَدَاء )) .

وفي هذه المعاني كلها يحصر القرآن أَنواع النسخ وأسماءه وأشكاله بنفسه، لا ينظر فيها إلى غيره.

وقد ألـَّفوا كتباً في (( الناسخ والمنسوخ )) من القرآن، تنحصر فيه، ولا تطال سواه.

ثالثاً: القول بنسخ القرآن للتوراة والإنجيل في العقيدة ينقض القرآن نفسه.

1ـ الكتاب في الثلاثة واحد.

القرآن يعلن وحدة الكتاب في التوراة والإنجيل والقرآن: (( كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) ( البقرة 212 ). فالكتاب واحد في التوراة والإنجيل والقرآن، فلا نسخ بينها.

والقرآن ينذر بعذاب النار من يكفر بأحد الكتب الثلاثة لأنها كلها

(1) في آخر سورة الأنفال نسخ الإرث بالموالاة. بالإرث بالرحم، في آيتين متقاربتين.

الكتاب: (( الذين كذّبوا بالكتاب، وبما أرسلنا به رسلنا، فسوق يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل، يُسحبون في الحميم، ثم في النار يُسجرون )) ( غافر 72 ).

2ـ التنزيل في الثلاثة واحد: (( الله ... نزّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه؛ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس؛ وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 1 ـ3 ).

فالكتب الثلاثة تنزيل الله، فلا ينسخ بعضها بعضاً، بل، في نظر القرآن، يصدّق بعضها بعضاً: (( وقفينا على إثرهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة. وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين ... وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه )) أي شاهداً له ( المائدة 46 ـ 51 ). فالكتاب الذي يصدّق كتاباً لا ينسخه.

3ـ الإسلام في الثلاثة واحد: (( قل: آمنا بالله وما أنزل علينا، وما أنزِل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون: ومّن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 83 ـ85 ).

فالإسلام، في نظر القرآن، واحد من إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد؛ ولا دين عند الله غير هذا الإسلام التوراتي الإنجيلي القرآني: فهل ينسخ الإسلام نفسه بنفسه؟!

4ـ ومن الإسلام الإيمان بكتبه تعالى ورسله بلا تفريق: (( يا أيها الذين آمنوا، أمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزَّل على رسوله، والكتاب الذي

أنزل من قبلُ: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فقد ضل ضلالاً بعيداً (النساء 135). والمسلمون مأمورون بالإيمان (( بالكتاب كله )) ( آل عمران 119 ).

وهذا الإيمان لا يضيره اختلاف طرق العبادة: (( ليس البرّ أن تولوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب! ولكن البر مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين )) ( البقرة 177 ).

فالكتاب واحد، والنبوة واحدة، والإسلام واحد، والإيمان واحد: فهل من نسخ مقبول معقول، بعد هذا كله، في نظر القرآن؟

5ـ إِن الكتاب هو إِمام القرآن في الهدى والبيان، فكيف ينسخه؟

قال: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربياً (الأحقاف 12). فالكتاب هو إِمام القرآن، وما القرآن سوى نسخة عربية مصدّقة للكتاب الإِمام، فكيف تنسخه؟

6ـ إعلان القرآن أنه لا يفرّق بين كتب الله ورسله شاهد أنه لا ينسخها: (( لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136 آل عمران 85 ).

7ـ إعلان القرآن المتواتر أنه (( تصديق )) الكتاب كله برهان قاطع على عدم نسخه:

(( وآمنوا بما أنزلتُ مصدّقاً لما معكم )) ( البقرة 41 ).

(( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدّق لما معهم )) ( البقرة 81 ).

(( وهو الحق مصدق لما معهم )) ( البقرة 91 ).

(( نزله على قلبك بإذن الله مصدّقاً لما بين يديه )) ( البقرة 97 ).

(( ولما جاءهم رسول من عند الله مصدّق لما معهم )) ( البقرة 101 ).

(( الله ... نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه )) ( آل عمران 3 ).

(( يا أَيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا مصدقاً لما معكم )) ( النساء 46 ).

(( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه )) ( المائدة 47 ).

(( وهذا كتاب أنزلناه بالحق مبارك مصدّق لما بين يديه )) ( الأنعام 92 ).

(( وما كان حديثاً يُفترى، ولكن تصديق الذي بين يديه )) ( يوسف 111 ).

(( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه )) ( فاطر 31 ).

(( ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدق لساناً عربيّاً )) (الأحقاف 12).

(( إِنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه )) ( الأحقاف 31 ).

(( وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) ( يونس 37 ).

فسر البيضاوي هذه الآية الأخيرة: جاءَ تصديقاً أي مطابقاً لما تقدمه من الكتب الإِلهية المشهودة على صدقها ... ( فهو ) شاهد على صحتها. وتفصيلاً للكتاب أي تفصيل ما أثبت وحقق من العقائد والشرائع )) .

فالقرآن تصديق للكتاب أي مطابق له: فكيف يتجاسر أحدهم ويزعم أنه نسخه؟!

فالقول بأن القرآن نسخ التوراة والإنجيل هو نقض لتعليم القرآن كله. وما يقول بذلك إلاّ جاهل بالقرآن أو متجاهل لتعليمه.

صفة القرآن أنه (( تصديق )) التوراة والإنجيل: والقول بالتصديق والنسخ نقيضان لا يتفقان.

فليس في القرآن تعليم لنسخ التوراة والإنجيل؛ بل (( تصديق الذي بين يديه )) أي قبله (يونس 36).

رابعاً: والقول بنسخ شرع القرآن لشرع التوراة والإنجيل ينقض القرآن نفسه.

في هذا الباب للقرآن ثلاثة مواقف. وفيها جميعاً لا ذكر لنسخ شرع بشرع.

1ـ في الموقف الأول يعلن أنه ينقل للعرب شرع الكتاب وسننه:

1) (( شرع لكم في الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه )) ( الشورى 13 ).

فسره البيضاوي: (( أي شرع لكم من الدين، دين نوح ومحمد وما بينهما من أرباب الشرع، وهو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله ( أقيموا الدين ) وهو الإيمان بما يجب تصديقه والطاعة في أحكام الله )) . فالدين يعني الشريعة أو الشرع، لأنه الطاعة في أحكام الله.

ففي هذه الآية ثلاثة تصاريح: الأول إن الشرع من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد هو واحد؛ الثاني إن القرآن يشرع للعرب شرع

الكتاب؛ الثالث إنه لا يصح تفريق في الشرع بين شرع إبراهيم وشرع موسى وشرع عيسى وشرع محمد.

فالقرآن الذي يشرع للعرب شرع الكتاب لا ينسخ شرعه شرع الكتاب.

2) (( يريد الله ليبيّن لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم )) ( النساء 25 )

فسره الجلالان: (( سنن الذين من قبلكم: طرائق الأنبياء في التحريم والتحليل )) .

فالقرآن الذي يهدي العرب ويبين لهم طرائق الأنبياء في التحريم والتحليل، كيف ندّعي أنه ينسخ شرائع الأنبياء في التحليل والتحريم؟

2ـ في الموقف الثاني يعلن استقلال كل أمة في شرعها:

1) (( إِنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها ... الربانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء ... ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) (المائدة 47).

(( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ... وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون )) ( المائدة 49 ـ50 ).

(( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه: فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أَهواءَهم عمّا جاءك من الحق )) .

(( لكلٍ جعلنا منكم شِرْعة ومنهاجاً! ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة )) ( المائدة 51 ).

فالقرآن يأمر أهل التوراة بشرعها؛ وأَهل الإنجيل بشرعه؛ وأَهل القرآن

بشرعه. ثم يعطي المبدأ العام في الشرع: (( لكل جعلنا منكم شِرْعة ومنهاجاً )) ؛ وهو مبدأ استقلال الأمم الثلاثة بشرع كتابهم. وقد فسره الجلالان: (( لكل جعلنا منكم، أيها الأمم، شريعة وطريقاً واضحاً في الدين تمشون عليه، ولو شاء الله لجعلكم على شريعة واحدة؛ ولكن فرَّقكم ليختبركم فيما آتاكم من الشرائع المختلفة، لينظر المطيع منكم والعاصي، فسارعوا إلى الخيرات )) .

2) ولما فارق محمد قبلة أَهل الكتاب جاء: (( ولكل وجهة هو مولّيها: فاستبقوا الخيرات )) ( البقرة 148 ). قال البيضاوي: (( والمعنى: كل وجهة، الله مولـّيها أهلها )) . قال الجلالان: (( ولكل من الأمم قبلة هو مولـّيها وجهة في صـلاته، فبادروا إلى الطاعات وقبولها )).

لكل أمة إِذن قبلة مستقلة: فلا تنسخ قبلةٌ قبلةً. والقبلة عنوان الدين.

3) ولما شرع الحج إلى مكة، بدل بيت المقدس، جاء: (( لكل أمة جعلنا منسكاً ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام: فإِلهكم إله واحد فله أَسلموا )) ( الحج 34 )؛ (( لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه: فلا ينازعنّك في الأمر )) ( الحج 67 ).

تحويل الحج من بيت المقدس إلى مكة ليس تحويلاً في الإسلام: فلا داعي للنزاع في الأمر. والمبدأ العام: لكل أمة منسك وحج، كما لكل أمة شرع مستقل.

فسّره الجلالان: (( لكل أمة جعلنا شريعة هم عاملون بها: فلا تنازعنّهم في الأمر! وادعُ إلى دين ربك إنك لعلى دين مستقيم )) . وكل أمة من الثلاثة على دين مستقيم في الإسلام الواحد لأن لكل أمة منسكاً أَو شريعة.

وهكذا يشرع القرآن جملة وتفصيلاً استقلال الأمم الثلاثة في شرعها. وفي هذا الموقف أيضاً لا ينسخ القرآن شرعاً بشرع!

3ـ وفي الموقف الثالث يقرّ أَهل الكتاب على أحكام شريعتهم:

1) المبدأ القرآني العام: (( لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً )) ( المائدة 51 ).

2) وتحريضه: (( قلْ: يا أَهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم )) ( المائدة 71 ).

ويعدهم بخيرات الأرض إذا أقاموها: (( ولو أَنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )) ( المائدة 69 ).

إن القرآن يحرّض أهل التوراة وأهل الإنجيل على إقامة شريعتهم، فكيف نفتري على القرآن بأنه نسخ هذه الشريعة؟!

ونلاحظ أن هذا التحريف يأتي بعد قوله: (( فاحكم بينهم أَو اعرض عنهم )) ( المائدة 45 )؛ (( فاحكم بينهم بما أَنزل الله ولا تتبع أهواءَهم عما جـاءَك من الحق )) ( المائدة 51 )؛ (( وإن احكم بينهم بما أَنزل الله ولا تتبع أهواءهم )) ( المائدة 52 ). لذلك تلك الأقوال السابقة لا تنسخ استقلال أَهل الكتاب على شريعتهم، مهما اختلف الفقهاء في ذلك. قال الزمخشـري: (( قيل: كان رسول الله ص مخيراً إذا تحاكم إليه أهل الكتاب بين أن يحكم بينهم، وبين أن لا يحكم. وعن عطاء والنخعي والشعبي أنهم إذا ترافعوا إلى حكام المسلمين فإِن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أَعرضوا. وقيل هو منسوخ بقوله: (( واحكم بينهم بما أنزل الله )) . وعند أبي حنيفة: (( إن احتكموا إلينا حُملوا على حكم الإسلام )) ( في تفسير المائدة 46 ).

فالمبدأ العام: (( لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً )) ؛ وتحريض القرآن لأهل الكتاب بإِقامة التوراة والإنجيل الذي ورد بعد الآية المشبوهة في نسخ المبدإِ العام ( المائدة 52 )، يجعلان مبدأ استقلال الشرائع محكماً لا نسخ فيه. فلا يصح، بنص القرآن القاطع في المبدإِ العام والتحريض، حمل أَهل الكتاب

على حكم المسلمين. فإذا احتكموا إلى المسلمين، يُحملون على حكم كتابهم: (( وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله؟ )) ( المائدة 46 )؛ والإنجيل (( هدى وموعظة للمتقين: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه؛ ومن لا يحكم بما أنزل الله فيه، فأولئك هم الفاسقون )) ( المائدة 50 ) فالحكم بشرع الإنجيل مطلق. ولا شيء في الآية التالية: (( وأن احـكم بينهم بما أنزل الله )) ( المائدة 52 ) يدل على أنها ناسخة لما قبلها؛ ويفسرها تنفيذ هذا الحكم، فقد حكم محمد على الزانيين من خيبر بالرجم وهو حكم التوراة.

وفي هذا الموقف الثالث أيضاً الذي يقر مبدأ استقلال أَهل التوراة وأهل الإنجيل وأَهل القرآن، في شرعهم، لا شبهة على الإطلاق لنسخ شرع بشرع.

وهكذا كيفما تأملنا القرآن في مواقفه كلها من الشرع ما بين القرآن والكتاب والإنجيل، لا نجد أَساساً لشبهة النسخ لشرع بشرع آخر.

والمقالة بذلك بدعة في الإسلام، وفرية على القرآن.

فليس في القرآن نسخ عقيدة بعقيدة، ولا شريعة بشريعة: فالكتاب إمام القرآن في العقيدة والشريعة؛ والقرآن تصديق الكتاب والإنجيل في العقيدة والشريعة.

تلك هي القاعدة السادسة في الحوار المسيحي الإسلامي.

بحث خامس

الإنجيل الواحد، والإنجيل الرباعي

( القاعدة السابعة في الحوار الإسلامي المسيحي )

تهمة شائعة على صحة الإنجيل الذي بين أيدي المسيحيين اليوم: أنَّ القرآن يذكر الإنجيل الذي نزل على عيسى بصيغة المفرد المُعلـَم، ولا يعرف له تعدّداً؛ فالإنجيل واحد، بنظر القرآن. ونحن نرى عند المسيحيين، كما يقرون هم أنفسهم أن عندهم أربعة أناجيل. لذلك على حد قولهم، من المحال أن تكون هي الإنجيل الذي نزل على السيد المسيح: فهي منحولة إذن ومحرّفة؛ واقعان يتناقضان، ما بين الإنجيل والقرآن.

على رسلكم، يا قوم: الواقعان لا يتناقضان؛ والتاريخان يتشابهان؛ وعلى ضوء البرهان يقوم اليقين والإيمان.

أولاً: الواقع القرآني والإنجيل

أَجل إِن القرآن لا يذكر الإنجيل إِلا مفرداً، فهو في عرْفه واحد.

والأناجيل الأربعة تذكر أيضاً أن الإنجيل واحد: (( وبعدما أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل يدعو بإنجيل الله. قال: (( لقد تم الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل )) ( مرقس 1 : 14 ـ 15 )؛

(( وكان يطوف في الجليل كله، يعلـّم في جوامعهم ويبشّر بإنجيل الملكوت )) (متى 4 : 23)؛ وفي محسنة ليسوع قال: (( الحق أقول لكم: إنه حيثما دُعي بالإنجيل في العالم كله يُخبر أيضاً بما فعلت هذه تذكاراً لها )) ( متى 25 : 13 ). وقبل رفعه إلى السـماء أوصى تلاميذه: (( اذهبوا في العالم أجمع، وادعوا بالإنجيل الخليقة كلها )) ( مرقس 16 : 15 ).

وبولس في الدعوة بالمسيحية يدعو للإنجيل الواحد: (( فإني لا أستحي بالإنجيل، لأنه قدرة الله لخلاص كل مَن يؤمن، من أهل الكتاب أولاً، ثم من الأميين )) ( رو 1 : 16 ). وفي معيشة رسل الإنجيل يقول: (( هكذا رتب الرب: إن الذين يدعون بالإنجيل، يعيشون من الإنجيل )) ( 1 كو 9 : 14 ). وفي وصيته الأخيرة لتلميذه تيموتاوس يقول: (( لا تستحي بالشهادة لربنا، ولا بي أنا أسيره بل اشترك في مشقات الإنجيل، على حسب قوة الله )) ( تيم 1: 8 ).

هذا هو الواقع الإنجيلي: فالأناجيل الأربعة، مع رسائل الرسل الذين يدعون بالإنجيل، تذكر الإنجيل دائماً بالمفرد المعْلم! فهو في عرْف الأناجيل الأربعة، ودعاة المسيحية، إنجيل المسيح الواحد، وإن دوّنوه بأربعة (( أحرف )) أو نصوص، باتفاق المعاني واختلاف الألفاظ، بسبب اختلاف البيئات الأربع التي دُون الإنجيل فيها، ولها قبل غيرها.

عن شهادة الأناجيل الأربعة، نعرف إذن أن الإنجيل واحد بأربعة أحرف.

فهل في ذلك التعدّد شبهة على صحة إنجيل المسيح الواحد؟

ثانياً: نزول الإنجيل على أربعة أحرف، ونزول القرآن على سبعة أحرف.

من القدر الذي يربط تاريخ تدوين القرآن، بتاريخ تدوين الإنجيل، نصل إلى هذه المقارنة اللطيفة.

1ـ مشهور الحديث الشريف في نزول القرآن (( على سبعة أحرف )) .

1) نقل السيوطي في ( الإتقان 1 : 46 ): (( ورد حديث ( نزل القرآن على سبعة أحرف ) من رواية جمع من الصحابة ... فهؤلاء أحد وعشرون صحابيّاً. وقد نص أبو عبيد على تواتره. وأخرج أبو يعلى في ( مسنده ) أن عثمان قال على المنبر: اذكر الله رجلاً سمع النبي ص قال: ( إن القرآن أُنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف )؛ لمّا قام فقاموا حتى لم يُحصوا، فشهدوا بذلك فقال: (( وأنا شهد )) .

وعلق على هذا الحديث بقوله: (( اختُلف في معنى هذا الحديث على نحو أربعين قولاً... ( منها ) أن المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة، نحو أقبلْ وتعالَ وهلمّ وعجّل واسرع ... وإلى هذا ذهب سفيان ابن عُيينة وابن جرير ( الطبري ) وابن وهب وخلائق. ونسبه ابن عبد البرّ لأكثر العلماء ... قال ابن عبد البرّ: الحروف التي نزل عليها القرآن، إنها معانٍ متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شيء منها معنى وضده، ولا وجه يخالف معنى وجه خلافاً ينفيه ويضاده كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده )) .

وينهي السيوطي بحثه بقوله: (( وقد ظن كثير من العوام أن المراد بها ( الأحرف السبعة ) القراءات السبع لمصحف عثمان، وهو جهل قبيح )) (1 : 51).

2) والطبري، شيخ المفسرين، يصدر تفسيره1 بشرح الحديث الشهير. يبدأ فيعرّف به: (( إن اختلاف الأحرف السبعة هو اختلاف الألفاظ باتفاق المعاني )) (1 : 48). ثم يرد على من فسّره غير هذا التفسير، كما نقل السيوطي. ويرد خصوصاً على مَن تذرّع بالآية: (( أفلا يتدبرون القرآن، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )) ( النساء 82 )، ليرفض تفسيره؛ فقال:

(1) نشر الأخوين شاكر، بيروت.

إنها تقصد اختلاف المعاني والأحكام، لا اختلاف الألفاظ والتعابير، بدليل اختلاف الصحابة كل في قراءَته، وتصويب النبي لهم جميعاً (1 : 48). إذن قبل تدوين عثمان، كان للقرآن سبعة أحرف أي سبعة نصوص، باتفاق المعاني.

ويعرض الطبري للسؤال البديهي: (( فإِن قال قائل: ما بال الأحرف الستة غير موجودة، إِن كان الأمر على ما وصفت، وقد أقرهن رسول الله ص. وأمر بالقراءة بهنّ الأمة، وهي مأمورة بحفظها: فذلك تضييع ما قد أمِروا بحفظه؟ أم ما القصة في ذلك؟ ـ قيل له: لم تنسخ فترفع؛ ولا ضيعتها الأمة؛ ولكن الأمة أُمرت بحفظ القرآن، وخيّرت في قراءَته وحفظه بأي تلك الأحرف شاءت. فرأت ـ لعلـَّة من العلل أوجبت عليها الثبات على حرف واحد ـ قراءته بحرف واحد، ورفض القراءة بالأحرف الستة الباقية )) (1 : 59).

والعلة التي أوجبت إتلاف الأحرف أو النصوص القرآنية الستة، كانت اختلاف المسلمين واقتتالهم على أفضلية حرفهم، من مكة بحضرة الخليفة إلى الثغور في معارك القتال والفتح (1 : 62). ويقول: (( إن الأحرف الستة الأخر أسقطها عثمان ومنع من تلاوتها، ولا حاجة بنا إلى معرفتها )) (1 : 66).

3) ومن الذين تابعوا الطبري في تفسيره الصحيح لحديث الأحرف السبعة المتواتر، الزنجاني، قال: (( المراد بالأحرف السبعة أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة ))

4) وأبو جعفر النحاس في ( كتاب الناسخ والمنسوخ ) يقول: (( يفهم من سلف الأمة، وخيار الأئمة أن معنى ( نزل القرآن على سبعة أحرف ) من أنه نزل بسبع لغات، وأُمر بقراءته على سبعة ألسن، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. ومن الروايات الثابتة عن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، وسائر مَن قدّمنا الرواية عنهم، أنهم تماروا في القرآن، فخالف بعضهم بعضاً في نفس التلاوة، دون ما في ذلك من المعاني. وانهم احتكموا

إلى النبي ص. فاستقرأَ كل رجل منهم، ثم صوّب جميعهم في قراءتهم على اختلافها، حتى ارتاب بعضهم لتصويبه إِياهم، فقال رسول الله ص. للذي ارتاب منهم عند تصويبهم جميعاً: إن الله أمرني أن أقرأ القرآن على سبعة أحرف )) .

من هذا العرض الصريح لحديث الأحرف السبعة وجمع القرآن العثماني نستخلص الحقائق التالية:

الأولى: كان للقرآن قبل عثمان سبعة أحرف أو نصوص، متفقة المعاني، مختلفة الألفاظ.

الثانية: أَتلف الخليفة عثمان بن عفان ستة نصوص مختلفة للقرآن الواحد واحتفظ بنص واحد فرضه على الأمة، وهو النص الوحيد الذي نقرأ به القرآن حتى اليوم.

الثالثة: لم تكن لجان عثمان معصومة في اختيار النص الأفضل: إنما عملت برأيها.

ونعرف من الأناجيل الأربعة القائمة في المسيحية حتى اليوم، وبشهادة التاريخ المسيحي كله، إن الإنجيل الواحد دوّن بأربعة أحرف أو نصوص: الإنجيل بحسب متى، الإنجيل بحسب مرقس، الإنجيل بحسب لوقا، الإنجيل بحسب يوحنا. وبحسب تعبير لغة الحديث الإسلامي نترجم هذا الواقع بقولنا:

(( نزل الإنجيل على أربعة أحرف )) ، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.

ولم يختلف فيها المسيحيون، ولم يقتتلوا عليها، مع أن كل واحد منها ظهر في مكان وفي زمان غير الآخرين. بل قبلوها جميعهم بسبب (( رسوليتها )) التي تشهد بصحتها، وصحة وحيها، وصحة تدوينها لإنجيل المسيح.

وصدور تدوينها عن الرسل أو كتبتهم شاهد لعصمتها، لتأييدهم بالروح القدس.

لذلك لم يكن المسيحيون بحاجة إلى إتلاف حرف من تلك الحروف الأربعة للإنجيل، لأن الأحرف الأربعة رسولية قدسية موحى بها؛ فهي تتمتع بعصمة الوحي.

وبعد عهد الرسل، وتداول الأحرف الأربعة المنزلة، حاول بعض المسيحيين، عن تقى أو عن هوى، وضع (( أناجيل منحولة )) باسم الرسل، وشاعت بين المسيحيين، لكنهم لم يعترفوا بها أناجيل صحيحة؛ ومع ذلك لم يتلفوها، لأنه ليس في وجودها خطر على الإنجيل الصحيح في أحرفه الأربعة.

من هذا الواقع التاريخي نستنتج:

أولاً: إِن الإنجيل الواحد نزل بأربعة أحرف أو نصوص، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني.

ثانياً: إن صحابة المسيح وكنيسته من بعدهم حفظت (( الذكر )) المسيحي بنصوصه الأربعة، فكانت وفيه أكثر من صحابة محمد وجماعته الذين أتلفوا ستة نصوص أو أحرف للقرآن، واكتفت بتدوين ونقل وحفظ الحرف العثماني وحده. ففي المسيحيين أكثر من المسلمين تصح الآية: (( إنا نحن نزّلنا الذكر، وإنّا له لحافظون )) ( الحجر 9 ).

ثالثاً: لم تكن لجان عثمان معصومة في اختيار الحرف الأفضل للقرآن؛ بينما أحرف الإنجيل الأربعة تحوي الشهادة فيها لعصمتها.

رابعاً: الأحرف الأربعة للإنجيل الواحد، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، هي شهادة قاطعة لصحة الوحي الإنجيلي، لأن أربع شهادات، مختلفة الألفاظ متفقة المعاني، أفضل من شهادة واحد تقوم على نص واحد، لا له ولا عليه،

لمعرفة الوحي القرآني معرفة علمية. وفي الشرع العام: (( على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل حجة )) .

وهكذا يقول الإيمان والعلم:

نزل القرآن على سبعة أحرف، فلم يُحفظ منها إلا حرف واحد.

ونزل الإنجيل على أربعة أحرف، فحُفظت جميعاً.

فالإنجيل واحد، بأربعة أحرف، باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. فليس في تعدّد نصوص الإنجيل الواحد أيّ شبهة على صحته؛ بل هي أربع شهادات للوحي الإنجيلي تثبت صحته.

تلك هي القاعدة السابعة في الحوار الإسلامي المسيحي.

وتلك هي بعض المواقف الراهنة (( للإنجيل في القرآن )) ، والقواعد الصحيحة المنبثقة من صميم شهادات القرآن للكتاب عامةً وللإنجيل خاصة، في بناء الحوار الإسلامي المسيحي الصحيح.

  
الفصل الثّالث

المسيح في القرآن

بحث أول

: سيرة المسـيح في القرآن

بحث ثانٍ

: رسالة المسيح في القرآن

بحث ثالث

: آخرة المسـيح في القرآن

بحث رابع

: ميزات المسيح في القرآن

بحث خامس

: شخصية المسيح في القرآن

توطئة

منزلة المسيح في القرآن

أعاظم الرسل، في القرآن، هم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد. وليس في القرآن لواحد منهم صورة تداني صورة المسيح في القرآن.

يتميز المسيح، في القرآن، عن العالمين باسمه وصفته.

في التعريف الجامع المانع، الشامل الكامل، الذي يعطيه القرآن للمسيح، يميّزه باسم مزدوج لا يطلقه على أحد من العالمين والمرسلين: (( إنما المسيح عيسى، ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ). فهو كلمة الله، وروح الله.

والقرآن يصف المسـيح، عيسى، ابن مريم، بأنه (( آيـة )) الله في العالمين مـع أمه: (( وجعلناها وابنها آية للعالمين )) ( الأنبياء 91 )؛ (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية )) (المؤمنون 51).

إنه آية الله في أَحواله وأَعماله وأَقواله، كما أنه وحده انفرد على العالمين والمرسلين بتأييد روح القدس له في جميع أحواله وأعماله وأقواله.

لذلك، وإن استعمل القرآن (( آية للناس )) أو (( آية للعالمين )) بحق عزير (البقرة 259) وبحق فرعون الغارق الناجي ببدنه ( يونس 92 )، وبحق قوم نوح ( الفرقان 37 ) وبحق نوح نفسه ( العنكبوت 29 ) فهو إنما يأخذ من ظرف

في حياتهم آية أي عبرة للذكرى والتاريخ. بينما القرآن يجعل المسيح نفسه في سيرته كلها وفي شخصيته كلها (( آية للعالمين )) ؛ ويظهر القرآن المعنى المقصود، بالميزة الثانية التي انفرد بها على العالمين والمرسلين: (( وأيدناه بروح القدس )) ، فسّره الجلالان (( لا يفارقه ساعة )) . فلا نجعل من المشاكلة اللفظية، مقابلة شخصية.

باسمه وصفته ينفرد المسيح، ويستعلي في القرآن، على العالمين وعلى المرسلين أجمعين.

* * *

بحث أول

سيرة المسيح في القرآن

( القاعدة الثامنة للحوار المسيحي الإسلامي )

يرد ذكر المسيح في القرآن في ست عشرة سورة.

ويرد ضمنا في حوار القرآن مع أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.

فالمسيح، بعد الدعوة للتوحيد، هو الموضوع الثاني للدعوة القرآنية: (( إِن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون )) ( النمل 57 )؛

وقد اختلف بنو إسرائيل إلى نصارى ويهود بإيمان طائفة منهم بالمسيح وكفر طائفة أخرى فجاء القرآن يؤيد (( الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين )) ( الصف 14 ).

أجل يدعو القرآن إلى الشهادتين. أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. لكن القرآن يدعو إلى الإيمان بمحمد رسولاً لله، تأييداً لدعوته، لا موضوعاً لدعوته، كما هو الحال مع المسيح، إذ يحاور أهل الكتاب على خلافهم في شخصية المسيح ( النمل 57 ).

أولاً: أسماء المسيح الحسنى في القرآن

يرد اسم المسيح في القرآن مراراً وعلى أشكال1:

1ـ باسم (( عيسى )) وحده في ( 2 : 136؛ 3 : 52 و55 و59 و84؛ 4 : 162؛ 5 : 46 و81؛ 6 : 85؛ 33 : 7؛ 42 : 13؛ 43 : 63 ) أي اثنتي عشرة مرة.

2ـ باسم (( المسيح )) وحده في ( 4 : 171؛ 5 : 75؛ 9 : 31 ) أي ثلاث مرات.

3ـ باسم (( ابن مريم )) وحده في ( 23 : 51؛ 43 : 57 ) أي مرتين.

4ـ باسم (( عيسى ابن مريم )) فقط في ( 2 : 87 و253؛ 5 : 113 و115 و117 و119؛ 19 : 34؛ 57 : 27؛ 61 : 6 و14 ) أي عشر مرات.

(1) قابل: محمد فارس بركات: المرشد إلى آيات القرآن الكريم وكلماته ـ دمشق: المطبعة الهاشمية 1957. والمستشرقون يعتمدون:

Flùgel: Concordancae Coran aracae, Lepzg 1842.

5ـ باسم (( المسيح ابن مريم )) فقط في ( 5 : 19 مرتين و75 و78؛ 9 : 32 ) أي خمس مرات.

6ـ باسم (( المسيح، عيسى، ابن مريم )) ـ وهو الاسم الكامل ـ في (3 : 45؛ 4 : 156 و170) أي ثلاث مرات.

7ـ باسم كلمة الله: يرد صفة ولقباً في قوله: (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته )) ( النساء 170 )؛ وعَلَماً في قوله: (( يبشرك بيحيى مصدّقاً بكلمة من الله )) ( آل عمران 39 )، وفي آيتين مختلف في قراءتهما: (( وصدّقت بكلمة ربها )) أي مريم (التحريم 12)؛ (( يؤمن ( النبي الأمي ) بالله وكلمته )) ( الأعراف 157 )؛ وعلى الصفة والعلمية معاً في قوله: (( إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، ( آل عمران 45 )، وفي قوله على الترادف: (( ذلك عيسى ابن مريم، قول الحق1،الذي فيه يمترون )) ( مريم 34 ).

وهكذا يرد خبر المسيح في ست عشرة سورة، من بينها ثلاث من السور الكبار اتخذت اسمها من سيرته: مريم وآل عمران والمائدة. بينما إبراهيم لا تحمل إلا سورة واحدة اسمه؛ ومحمد لا تحمل إلا سورة واحدة اسمه، مع سورة أخرى على الترادف: طه. كما تحمل سورة اسم نوح ولقمان وهود ويوسف ويونس.

فالقرآن يميّز المسيح بالأسماء والألقاب والسور على سائر الأنبياء.

(1) الزمخشري: (( قول الحق ... وقرئ: قول الحق بالنصب على المدح، إن فُسر (( بكلمة الله )) ، وإنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق. وإنما قيل لعيسى ( كلمة الله ، وقول الحق ) لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها )) . البيضاوي: (( وقيل صفة عيسى أو بدله أو خبر ثان، ومعناه: كلمة الله )) .

وهناك مشكلان في أسماء المسيح.

من أين جاء القرآن بصيغة: عيسى؟

في الأصل الاسم هو (( يشوع )) بالعبرية. وفي نقل الاسم من العبرية إلى العربية يصير (( يسوع )) بتحويل الشين ( بالنقط ) إلى سين ( بدون نقط ).

لكن نقل اسم (( يشوع مشيحو )) إلى العربية لم يتم من العبرية أو الأرامية إلى العربية مباشرة، بل تمَّ بواسطة اليونانية، فالسريانية.

فالإنجيل دوّن باليونانية حتى في العالم السـوري، ودرج اسـم (( إيسوسْ )) وبالمنادى (( إِيسو )) في العالم كله، لأن (( المسكونة )) الرومانية كانت كلها تتكلم اليونانية.

فصار الاسم يُلفظ في اللغة الأرامية المحيطة بالجزيرة العربية: (( عيشو )) باللهجة الشرقية العراقية، و (( عيسى )) باللهجة الأرامية الغربية، أو السريانية على التخصيص.

وهذا هو سر عيسى. ولما رحل النصارى من بني إسرائيل إلى الحجاز هرباً من دين الدولة، كانوا يجمعون في التقديس والتسمية: موسى وعيسى، بلغتهم الأرامية الغربية السريانية. فشاع في الحجاز بهذه الصيغة ونزل به القرآن.

ولا ننسَ أسلوب التبديل والقلب بين الحروف الشائع في العربية: فصار (( إيسو )) اليونانية، و (( عيشو )) الأرامية: عيسى بالعربية.

ومن أين جاء لقب: ابن مريم؟ وما معناه في لغته؟

قبل معرفة الحبل المعجز كان مواطنو يسوع يسمونه (( ابن يوسف )) على حياة مربي المسيح، و (( ابن مريم )) بعد وفاته، كما نقل لنا الإنجيل بحسب مرقس (6 : 3).

وفي البيئة الشرقية ظل هذا اللقب قائماً كما تشهد أناشيد أفرام السرياني التي سرت بها الركبان حتى جاءت الحجاز ونزل به القرآن.

ومن عادة العرب، والشرقيين عموماً أن ينسبوا الابن إلى أبيه؛ ولا ينسبونه إلى أمه إلا في ظرف خاص؛ فكيف إذا كان هذا الظرف الخاص مولداً معجزاً لا مثيل له في تاريخ المرسلين؟!

ففي البيئة الأرامية كان اليهود يسمونه: (( ابن مريم )) ، (( بكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً )) ( النساء 155 )؛ وكان النصارى يسمونه أيضاً (( ابن مريم )) لإيمانهم بالحبل المعجز، رداً على اليهود.

والقرآن الذي يؤيد النصرانية على اليهودية (الصف 14) يسمي المسيح (( ابن مريم )) إعلاناً منه لإيمانه بالمولد المعجز؛ وليس لإعلان بشرية المسيح، لأن المسيح، وإن كان في نظر القرآن عبداً لا ربَّاً، فهو أكثر من بشر: (( كلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 )، إنه روح (( من المقربين )) ( آل عمران 45 النساء 171 ).

فعيسى ابن مريم هو في القرآن: مسيح الله، كلمة الله، وروح الله. وسنرى تفاسيرهم لهذه الألقاب التي ترفع المسيح على العالمين والمرسلين.

فالمسيح في القرآن، آية الله في أسمائه وألقابه.

ثانياً: نسب المسيح المعجز في القرآن

المسيح، بذاته وبواسطة أمه، هو خاتمة الذرية المصطفاة على العالمين.

يفتتح القرآن قصص المسيح بقوله: (( إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين: ذرية بعضها من بعض )) ( آل عمران 33 ).

فسره البيضاوي: (( إن الله اصطفاهم بالرسالة وبالخصائص الروحانية والجسمانية، ولذلك قووا على ما لم يقوَ عليه غيرهم، لما أوجب طاعة الرسل؛ ويبيّن أنها الجالبة لمحبة الله. وعقب ذلك ببيان مناقبهم تحريضاً عليها. وبه استدل على فضلهم على الملائكة ... وآل عمران موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث، بن لاوي، بن يعقوب. وعيسى، وأمه مريم بنت عمران، بن ماثان، بن اسعاذا، بن ابيود، بن يورن، بن زربايل، بن سالثان، بن يوحنا، بن أوشا، بن أموزون، بن مشكي، بن حارفار، بن آحاد، بن يوتام، بن عزريا، بن يورام، بن ساقط، بن ايشا، بن راحبعيم، بن سليمان، بن داود، بن ايشا، بن عريد، بن سلمون، بن ياعر، بن يخشون، بن عميار، بن رام، بن خضروم، بن فارض، بن يهوذا، بن يعقوب عليه السلام. وكان بين العمرانين ألف وثمانمائة سنة )) .

فالمسـيح عيسى ابن مريم هو ثمرة وختام الذرية المصطفاة على العالمين: أولاً بأمه: (( إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاكِ على نساء العالمين )) ( آل عمران 42 )؛ ثم بذاته لأنه ختامها، ومسك الختام: (( ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 )، (( يكلم الناس في المهد، وكهلاً، ومن الصالحين )) ( آل عمران 46 ).

فكأن الله، في نظر القرآن، ما فضّل بني إسرائيل على العالمين: (( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضلتكم على العالمين )) ( البقرة

47، 122 ) قابل الأعراف 139 الإسراء 70 الجاثية 15 ) إلا بسبب المسيح، ولأجله، لأنهم بعد المسيح صاروا (( شر البرية )) ( البينة 6 ).

فقبل المسيح فضل الله بني إسرائيل على العالمين؛ وفي بني إسرائيل فضّل آل عمران، ومريم بنت عمران، على المفضلين في العالمين.

فالمسيح، في نسبه، ذروة الفضل في العالمين، بنص القرآن القاطع. فهو آية الله في خلقه، بنسبه المعجز.

ثالثاً: أم المسيح في القرآن

يذكر القرآن مريم إحدى عشرة مرة. ولا يذكر القرآن اسم أنثى غيرها. وقد اختص (سورة مريم) باسمها. ولا يستنبئ القرآن انثى سواها: وحدها بين النساء خاطبها الملائكة وخاطبتهم.

فهي تهيئةً لابنها، ذروة الذرية المصطفاة على العالمين ( آل عمران 33 ـ 45 ).

في حين الحبل بها تقول أمها: (( وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم )) ( آل عمران 36 ). وأم مريم، (( امرأة عمران )) هي (( حنة بنت فاقوذا، جدة عيسى ... وزكريا كان معاصراً لابن ماثان، وتزوج بنته إيشاع. وكان يحيى وعيسى عليهما السلام ابني خالة من الأب )) ( البيضاوي ).

وتقول: (( إني سمعتها مريم )) . فسره البيضاوي: (( وإنما ذكرت ذلك لربها تقرباً إليه وطلباً لأن يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها. فإن مريم، في لغتهم بمعنى العابدة )) .

وينقل البيضاوي مثل سائر المفسرين، بياناً لعصمة مريم في الحبل بها، هذا

الحديث: (( وعن النبي ص. ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل (يصرخ) من مسه، إلا مريم وابنها. ومعناه: إن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه، إلا مريم وابنها، فإن الله عصمهما ببركة الاستعاذة )) .

فمريم أم المسيح، معصومة من مسّ الشيطان عند الحبل بها والولادة.

وهذا التلقين القرآني، الذي يؤيده ويفسره الحديث، دليل على عصمة مريم من الخطيئة في الحبل بها؛ ودليل على أن هذه العقيدة كانت شائعة بين الطوائف المسيحية في مطلع القرن السابع، كما نزل بها القرآن. فالقرآن حجة على مَن ينكر ذلك من المسيحيين في عصرنا.

فمريم، أم المسيح، مصطفاة على العالمين بنسبها؛ ومصطفاة على العالمين بعصمتها في خلقها ومولدها؛ ومصطفاة على العالمين في نشأتها.

فهي نذيرة الله منذ الحبل بها: (( رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً )) ( آل عمران 35 ). (( فتقبلها ربها بقبول حسن )) في نذرها (( وأنبتها نباتاً حسناً )) ، وهذا (( مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها )) ( البيضاوي ).

وانقطعت مريم للعبادة منذ صغرها في محراب الهيكل: (( وكفّلها ( الله ) زكريا )) ـ وفي قراءة: (( وكفِلها زكرياء )) . وتنافس الأحبار في كفالتها (( لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم )) ( البيضاوي ). وهكذا كان عمران، أو يواكيم كما يقول الإنجيل، من الأحبار. فهي مصطفاة على العالمين في انقطاعها صغيرة للعبادة.

وهي مصطفاة على العالمين في معيشتها في الهيكل: (( كلما دخل عليها زكريا المحراب1، وجد عندها رزقاً. قال: يا مريم أنى لكِ هذا؟ قالت: هو من عند الله، يرزق مَن يشاء بغير حساب )) ( آل عمران 37 ).

(1) المحراب كلمة حبشية تعني الهيكل ( السيوطي: الإتقان 1 : 136 ).

فسره البيضاوي: (( المحراب: الغرفة التي بنيت لها، أو المسجد؛ وأشرف مواضعه، ومقدمها ... كأنها وضعت في أشرف موضع، من بيت المقدس ... روي أنه كان لا يدخل عليها غيره، وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب. فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وبالعكس ... قيل: تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام، ولم ترضع ثدياً قط، وكان رزقها ينزل عليها من الجنة )) .

وتقضي مريم حداثتها في الهيكل، في حديث مع الملائكة: (( وإذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله اصطفاك، وطهّرك، واصطفاك على نساء العالمين. يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين )) ( آل عمران 42 ـ43 ).

فسره البيضاوي: (( كلموها شفاهاً، كرامة لها ... والاصطفاء الأول: تقبلها من أمها، ولم تُقبل قبلها أنثى ( في الهيكل )، وتفريغها للعبادة، واغناؤها برزق الجنة عن الكسب؛ وتطهيرها عمّا يستقذر من النساء ـ وبالعصمة أيضاً من الخطيئة ـ والاصطفاء الثاني: هدايتها وإِرسال الملائكة إليها، وتخصيصها بالكرامات السنية كالولد من غير أب، وتبرئتها مما قذفته اليهود بإنطاق الطفل وجعلها وابنها آية للعالمين )) .

وفسره الزمخشري: (( اصطفاك أولاً حين تقبلك من أمك ورباك، واختصك بالكرامة السنية. واصطفاك أخراً بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء )) .

وقال الرازي: (( الاصطفاء الأول: ما حصل لها من الأمور الحسنة في أول عمرها؛ والاصطفاء الثاني ما حصل لها في آخر عمرها.

(( أما النوع الأول من الاصطفاء فهو أمور: إنه تعالى قبل تحررها (نسكها في الهيكل) مع أنها كانت أنثى، ولم يحصل مثل هذا المعنى من الإناث

ـ قال الحسن: إن أمها لما وضعتها ما غذَتْها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة ـ إنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف والهداية والعصمة ـ إنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله ـ إنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاهاً، ولم يتفق ذلك لأنثى غيرها.

(( والاصطفاء الثاني: هدايتها ـ وإرسـال الملائكة إليها وتخصيصها بالكرامات السنية، كالولد من غير أب ـ وتبرئتها مما قذفته اليهود بإنطاق الطفل ـ وجعلها وابنها آية للعالمين )).

فمريم، أم المسيح، معجزة في ذاتها وفي سيرتها: (( وجعلناها وابنها آية للعالمين )) (الأنبياء 91)1.

فالمسيح، في أمه أيضاً، آية للعالمين، بحسب القرآن الكريم.

رابعاً: مولد المسيح المعجز بحسب القرآن.

هذه هي النصوص القرآنية فيه:

1ـ سورة مريم 15 ـ32.

(( واذكر في الكتاب مـريم

إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً

(1) يلاحظ المستشرقون أن القرآن يأخذ برواية بعض الأناجيل المنحولة؛ ويأتي المفسرون فيستزيدون منها. ولكن فاتهم أن ما نسميه (( الأناجيل المنحولة )) هي منحولة بسبب نسبتها إلى الرسل، وليس منحولاً بما تنقله عن أوساط آل المسيح من سيرة المسيح وأمّه التي لم ترد في الأناجيل الصحيحة الرسمية. فما في القرآن هو من تلك الرواية التي لم يسجلها الإنجيل.

فاتخـذت من دونـهم حجـابـاً

فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويا

قالت : إِني أعـوذ بالرحمان

منـك إِن كـنت تقيّاً!

قـال : إني رسول ربك

لأهب ( ليهب ) لك غلاماً زكيّاً

قالت : أنّى يكـون لي غـلام

ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيّاً!

قال : كذلك ! قـال ربك هـو علي هين!

و لنجعــله آيـة للناس ورحمـة منـّا!

وكان أمـراً مقضيـَّاً !

فحملته . فانتبذت به مكاناً قصِيّا.

فأجاءَها المخاض إلى جذع النخلة

قالت : يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسـيّاً !

فناداها من تحتها: ألاّ تحزني

قد جعل ربك تحتك سـريّا !

وهزي إليك بجذع النخـلة

تساقط عليـك رطبـاً جنيّا!

فـكلي واشربي وقـرّي عينـاً

فإِمَّا ترين من الناس أحدا

فقولي: إني نذرت للرحمان صوماً

فلـن أكلـّم اليـوم إنسيا

فأتت بـه قومها تحمـله.

قالوا: يا مريم لقد جئت شيئاً فريّا

يا أخت هارون ، ما كان أبوك

أمره سوء! وما كانت أمكم بغيّا!

فأشـارت إليـه . قـالوا :

كيف نكلم مَن كان في المهد صبيّاً ؟

قـال : إنـي عبد الله

آتاني الكتاب وجعلــني نبيـّا

وجعلـني مبـاركاً أينما كنت

وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً

وبـرّاً بوالــدتي

ولم يجعلـني جبّاراً شقيـا

والسـلام عـليَّ يوم ولـدت

ويوم أموت ويوم أبعث حيّا ))

2ـ من سورة آل عمران (45 ـ48 )

(( إذ قالت الملائكة : يا مـريم

إن الله يبشرك بكلمـة منـه

اسمـه المـسيح ، عيسى )) بن مريم

وجيها في الدنيا والآخـرة ، ومن المقـربين

ويكـلم الناس فـي المهـد

وكــهلاً ، ومن الصالحـين.

قالت: أنّـى يكون لي ولـد ،

ولم يمسسني بشر ؟ قال : كذلك!

الله يخلق ما يشـاء! إذا قضى أمراً

فإنما يقـول له: كن! فيـكون!

ويعلمـه الكـتاب والحكمـة

والتــوراة والإنجيـل ... ))

3ـ من سورة الأنبياء:

(( والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا

وجعلـناها وابنـها للعالمـين )) (91)

4ـ من سورة التحريم:

(( ومريم ابنت عمران ، التي أحصنت فرجها

فنفخنا فيـه ( فيها ) من روحنا

وصدّقت بكلمات ( بكلمة ) ربهــا

وكتبه ( كتابه ) وكانت من القـانتين )) (12)

تلك هي النصوص القرآنية في البشرى بعيسى ومولده. يترتب عليها مسائل ومشاكل، نقتصر منها على ما تيسّر.

المسألة الأولى: كان الحبل بالمسيح معجزة أي من غير أبٍ. وإجماع النصوص، وإجماع المفسرين المسلمين يدفع تخرصات بعض المستشرقين الذين زعموا أن جبريل قام مقام الأب في مولد المسيح، استناداً إلى بعض المفسرين المسلمين.

استند هذا البعض الفاجر إلى قوله: (( لأهب لك )) ( مريم 18 )!

وفاتهم قراءة (( ليهب لك )) ، والقرائن القريبة والبعيدة: فالملاك نفسـه يفسـّر قوله: (( قال: كذلك! قال ربك هو عليَّ هين ولنجعله آية للناس )) (مريم 20). فسره الجلالان: (( قال: كذلك أي الأمر كذلك من خلق غلام منك من غير أبٍ )) .

وما حمل بعض المستشرقين على الشطط هو قول القرآن: (( فنفخنا فيها من

روحنا )) (الأنبياء 91)، (( فنفخنا فيه من روحنا )) (التحريم 12)، كما فسره الجلالان (( فنفخ جبريل في جيب درعها فأحسـت بالحمل في بطنها مصوراً )) ( مريم 20 )؛ والبيضـاوي: (( فحملته بان نفخ في درعها فدخلت النفخة في جوفها )) .

وفات هؤلاء وأولئك صريح آية آل عمران: (( قالت: أنى يكون لي ولد، ولم يمسسني بشر؟ قال: ( هو ) كذلك: الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن! فيكون )) (47). فالمسيح كوّن في مريم بأمر خلاّق من دون واسطة على الإطلاق، حتى نفخة جبريل في درع مريم! ويؤيد قوله في آية النساء (( وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) (170): فالله ألقى مباشرة إلى مريم كلمته الذي هو روح منه تعالى، بدون واسطة.

وآية النساء: (( روح منه )) تجعل الملقى إلى مريم (( روحاً منه )) تعالى. وهذا يفسر الغموض الذي في آية الأنبياء وآية التحريم: (( فنفخنا فيها من روحنا )) ، حيث التعبير قد يكون على الفاعل أو على المفعول: على الفاعل هو جبريل النافخ، وعلى المفعول هو المسيح، روح الله، الملقى إلى مريم. وبما أن الملقى إلى مـريم هو (( روح منه )) تعالى، فيكون قوله: (( فنفخنا فيها من روحنا )) على المفعول: أي نفخ الله روحه أي كلمته في مريم، بدون واسطة جبريل.

وهكذا تنسجم كل القرائن القرآنية، وتتضح عقيدة القرآن في الحبل المعجز بالمسيح، بدون واسطة مخلوق على الإطلاق: (( إذا قضى أمراً فإنما يقول له. كن! فيكون )) . ومعجزة تكوين المسيح تشبه معجزة تكوين آدم: (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب، ثم قال له: كن! فيكون )) ( آل عمران 59 ). ففي الحالين تكوين بلا واسطة.

قال الزمخشري في تفسير ( المؤمنون 51 ): (( إِن مريم ولدت من غير مسيس؛ وعيسى روح من الله ألقي إليها )) .

المسألة الثانية: مدة الحمل.

ظاهر القرآن يجعل الحمل والولادة متلاحقين كأنه لا زمن بينهما: (( فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً، فأجاءها المخاض )) ( مريم 21 ـ22 ).

فقال المفسرون: (( والحمل والتصوير والولادة في ساعة )) ! ( الجلالان )؛ (( وكانت مدة حملها سبعة أشهر، وقيل سنة، وقيل ثمانية، ولم يعش مولود وُضع لثمانية غيره، وقيل ساعة )) ( البيضاوي ). وقال غيرهم: ثلاث ساعات.

ولا حاجة لهذه التخرصات؛ فإن أسلوب الإيجاز في القرآن يختصر القصص، فتذوب فيه الأوقات والمسافات. فالأصح أن نقول: ‘ن القرآن لا يذكر مدة الحمل. وبحسب ظاهره، فمدة الحمل القصيرة معجزة أخرى.

المسألة الثالثة: ولادة المسيح.

هل كانت طبيعية أم معجزة مثل الحمل؟ المفسرون المسلمون الذين يجعلون مع ابن عباس ترجمان للقرآن. (( الحمل والتصوير والولادة في ساعة )) يجعلون الولادة معجزة مثل الحمل.

قال البيضاوي: (( كما حملته نبذته )) ( مريم ) أي بمعجزة، فظلت مريم بتولاً في الحمل.

يظن بعضهم أن الولادة كانت طبيعية لقوله: (( فأجاءها المخاض )) ( مريم 22 ). يفسره الجلالان: (( وجع الولادة )) . وتفسير البيضاوي أصح: (( المخاض مصدر مخضت المرأة، إذا تحرك الولد في بطنها للخروج )) . فليس في أصل اللغة معنى وجع الولادة في المخاض، لكنه العرف والعادة، ونحن في مولد المسـيح مع عالم المعجـزة: (( كما حملنه نبذته )). والقرائن تدل على أن مريم لم تقاس وجع الولادة: فهي حال الولادة (( تهز بجذع النخلة )) ( مريم 24 )؛ وتأكل وتشرب

وتقرّ عيناً ( مريم 25 )؛ وللحال أتت به قومها تحمله ( مريم 26 ) ـ فكلها إِشارات إلى حال لا تدل على وجع الولادة.

وفي الحديث عن عدم صراخ المسيح الوليد عند ولادته: (( ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل ( صارخاً ) من مسه، إِلا مريم وابنها )) . دليل على أن المسيح في مولده لم يقاسِ مع أمه المخاض، ولا وجع الولادة.

المسألة الرابعة: نطق المسيح منذ مولده.

في سورة مريم: (( قالوا: كيفت نكلم مَن كان في المهد صبيّاً؟ قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) (28 ـ 29).

وفي آل عمران: (( يكلم الناس في المهد وكهلاً )) (46).

فسره البيضاوي: (( إني عبد الله: أنطقه الله به ... قيل أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً )) ( مريم 29 ). نطق المسيح في المهد صريح بنصّ القرآن القاطع. وولادة المسيح نبيّاً صريحة أيضاً بنص القرآن القاطع: (( آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) . ونطقه المعجز معجزة نبؤته؛ ونبؤته في المهد (( يكلم الناس في المهد )) ( آل عمران 46 ) دليل نطقه المعجز. البيضاوي: (( يكلمهم حال كونه طفلاً، وكهلاً، كلام الأنبياء، من غير تفاوت )) ( آل عمران 46 ). فنبؤة المسيح في المهد، مثل نبؤته في كهولته ورسالته. معجزتان انفرد بهما على الرسل.

المسألة الرابعة: (( مثل عيسى كمثل آدم ))

كان مسيحيو نجران يجعلون من مولد المسيح المعجز دليلاً على إلهيته وبنوته لله فأجابهم القرآن: (( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: كن! فيكون )) (آل عمران 59).

فقارن القرآن، في الرد عليهم، الغريب بالأغرب: المسيح وُلد بدون أب، وآدم كان بدون أب ولا أمّ! فكما أن مولد آدم لا يجعله إلهاً، كذلك مولد المسيح لا يجعله ابن الله. هذا منطق القرآن ومنطوقه.

فالقرآن لا ينكر فضل المسيح على المرسلين، بمولده المعجز الذي انفرد به على العالمين. إنما ينكر برهنته على إلهية المسيح.

لذلك نستغرب قول الذين لا يرون للمسيح فضلاً على المرسلين أجمعين بمولده المعجز، ونستغرب استشهادهم بهذه الآية. فإِن خلق آدم بدون أَب ولا أمّ ليس معجزة، إذ المعجزة خرْق العادة: فخلق آدم بدء لناموس الطبيعة البشرية، ولا خرْق فيه لهذا الناموس؛ أما مولد المسيح من أم بلا أب، فهو خرْق العادة وهو المعجزة عينها. وبما أن الله قد خص المسيح بمعجزة مولده من دون المرسلين أجمعين، فقد فضله فيها عليهم أجمعين. لا ينكر القرآن ذلك، بل يستنكر البرهنة به على بنوته أو إلهيته.

فختم قصص مولد المسيح المعجز باستجماع المعجزات التي تمت فيه:

1ـ تمثل جبريل، رئيس الملائكة، لمريم بشراً سوياً وكلمها شفاهاً وعياناً (مريم 16).

2ـ بشرها (( بغلام زكي )) أي (( طاهر من الذنوب )) (البيضاوي) منذ الحبل به (مريم 18).

3ـ يتم الحمل بالمسيح بمعجزة إلهية، بدون واسطة مخلوق.

4ـ مدة الحمل بالمسيح معجزة، بإِجماع المفسرين المسلمين.

5ـ كيفية المولد معجزة أيضاً: (( كما حملته نبذته )) ( البيضاوي ).

(( فناداها من تحتها ألا تحزني )) ( مريم 13 ) ـ من المنادي؟ (( جبريل كان يقبل الولد )) ( البيضاوي ). فالمسيح وحده في العالمين، قام جبريل مقام القابلة في مولده. أو كان المولد الوحيد الذي حضره جبريل.

7ـ معجزة النخلة: (( وهزي إليك بجذع النخلة تُساقط عليك رطباً جنيّاً )) (مريم 25). (( روي أنها كانت نخلة يابسة، لا رأس لها ولا ثمر، وكان الوقت شتاء، فهزتها، فجعل الله تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً )) ( البيضاوي ).

8 ـ معجزة النهر السري: (( قد جعل ربك تحتك سرياً )) . قال الجلالان: (( ناداها جبريل وكان أسفل منها: ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريّا أي نهر ماء كان قد انقطع )) . وقال الزمخشري: (( لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنهما من أهل العصمة )) .

9ـ نطق المسيح منذ مولده، ولم يحصل ذلك لأحد من العالمين.

10ـ نبؤة المسيح منذ مولده ( مريم 30، آل عمران 46 ). وحده ولد نبيّاً.

11ـ هذه النبؤة تقتضي كمال العقل في المهد: (( أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً )) (البيضاوي).

12ـ ينال كمال الوحي والتنزيل منذ مولده: (( ويعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) ( آل عمران 48 ). (( يكلم الناس في المهد وكهلاً )) على حدٍّ سواء.

13ـ معجزة التكليف بالفرائض الدينية وهو طفل (( وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً )) ( مريم 30 )، يقولها المسيح في مهده.

14ـ معجزة القداسة والعصمة منذ مولده: (( وجعلني مباركاً أينما كنت )) (مريم 30). فهو وحده (( المبارك )) في زمان ومكان.

15ـ معجزة نبوءته بموته وبعثه، حين مولده: (( والسلام علي يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أبعث حيّاً )) ( مريم 32 ).

فهل جرى شيء من ذلك لأحد من العالمين، وأكابر المرسلين مثل إبراهيم وموسى ومحمد؟ حقاً لقد انفرد المسيح بمولده، وبمعجزات مولده على العالمين وعلى المرسلين أجمعين.

فالمسيح آية الله الكبرى في مولده.

خامساً: حداثة المسيح في القرآن

رواها القرآن في آية: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية! وآويناهما إلى ربوة ذات قرار معين: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، إني بما تعملون عليم )) ( المؤمنون 51 ـ52 ).

فسرها البيضاوي: (( ربوة: أرض بيت المقدس، فإِنها مرتفعة أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر، فإِن قراها على الربى )) .

ولماذا لا نقول مع الإنجيل: تلك الربوة الغناء هي الناصرة.

فهي (( ذات قرار ومعين )) . القرار يعني أنها ذات ثمار وزروع، فإن ساكنيها يستقرون فيها لأجلها. ومعين: ظاهر جار ... وصف ماؤها بذلك لأنه الجامع لأسباب التنزه وطيب المكان )) .

(( يا أيها الرسل: خطاب لجميع الأنبياء ... أو حكاية لعيسى وأمه عند إيوائها للربوة، ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا. وقيل: النداء له، ولفظ الجمع للتعظيم )) .

(( كلوا من الطيبات: إن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم! ... والطيبات ما يُستلذ من المباحات. وقيل: الحلال الصافي القوام، فالحلال ما لا يُعصى الله فيه، والصافي ما لا يُنسى الله فيه، والقوام ما يُمسك النفس بحفظ العقل )) .

حداثة معجزة في السكينة والطمأنينة، وفي طيبات الحياة. وفيها صدى لحياة المسيح في الناصرة، ولقول الإنجيل: (( وجاء ابن البشر يأكل ويشرب )) ( لوقا 7 : 34 ).

فالمسيح آية أيضاً في حداثته على (( ربوة ذات قرار ومعين )) .

سادساً: رسالة المسيح في القرآن

نمهِّد هنا لما نفصّله في البحث التالي.

المسيح وحده من دون المرسلين أجمعين وُلد نبيّاً؛ نطق في المهد وقال: (( إني عبد الله، آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) ( مريم 29 ).

تنبّأ في المهد، وكهلاً ( آل عمران 46 )، وهذه ميّزة أخرى انفرد بها على المرسلين.

وقد استجمع الله فيه الوحي كله: (( ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل )) ( آل عمران 48 ) وهذه أيضاً ميّزة انفرد بها على الرسل أجمعين.

وكانت رسالته بالكلمة والقدوة والمعجزة؛ فرسالته صورة لسيرته؛ وسيرته مثال لرسالته؛ وهو في كليهما معجزة: (( ورسولاً إلى بني إسرائيل: أني قد جئتكم بآية من ربكم )) (آل عمران 49). وفي هذا الاجتماع ميّزة خاصة به على المرسلين.

وميّزه الله وفضّله على العالمين والمرسلين أجمعين بتأييد روح القدس له في سيرته ورسالته: (( وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 و53، المائدة 113 ).

فكانت رسالة المسيح معجزة الرسالات.

فالمسيح آية الله في رسل الله.

سابعاً: آخرة المسيح بحسب القرآن

كما دخل المسيح العالم بمعجزة لا مثيل لها في تاريخ المرسلين، خرج من العالم بمعجزة لا مثيل لها في تاريخ الرسل والعالمين: إِنه رُفع حيّاً إلى السماء.

نصوص القرآن في آخرة المسيح كلها صريحة في هذا المعنى؛ إنما الخلاف قائم بينها في تعارض آية النساء (156) مع آيات ( مريم 33 وآل عمران 55 والمائدة 120 ).

فالمسيح منذ مولده يتنبّأ عن آخرته: (( والسلام عليَّ يوم وُلدتُ! ويوم أموتُ! ويوم أبعث حيّاً! )) ( مريم 33 ). فالمسيح وحده دون المرسلين أجمعين عرف مصيره منذ مولده.

وهو الآن وحده، دون العالمين والمرسلين، حيٌّ خالد في السماء عند الله، بينما هم أجمعون ينتظرون يوم يبعثن!

فآخرة المسيح أيضاً معجزة المعجزات.

فالمسيح برفعه حيّاً إلى السماء آية الله في المرسلين والعالمين.

ثامناً: رجوع المسيح في اليوم الآخر

وهذه أيضاً ميّزة أخرى ينفرد بها المسيح على العالمين والمرسلين أجمعين: (( وإنه لعِلـْم ـ لعَلـَم ـ للساعة )) ( الزخرف 61 ): أي (( شرط من أشراطها ... أو علامة )) لها ( الزمخشري ). سيرجع المسيح إلى الدنيا، ورجوعه علامة على قيام الساعة. فعلم الساعة من خصائص الله: (( تبارك الله الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وعنده عِلم الساعة، وإليه تُرجعون )) ( الزخرف 85 )؛ والمسيح عنده عِلـْم الساعة وهو علـَمٌ لها.

رجوع المسيح قبل يوم الدين عقيدة قرآنية، توسع فيها الحديث، كما سنرى في بحث لاحق.

وهذا الدور الفريد للمسيح في العالمين يجعله آية المرسلين أجمعين، وخاتمهم.

تاسعاً: دور المسيح في يوم الدين

لا يعترف القرآن بالشفاعة في يوم الدين إِلاّ لمن ارتضى من الملائكة، وللمسيح وحده من دون العالمين والمرسلين أجمعين.

1) الشفاعة في يوم الدين لله وحده: (( لله الشفاعة جميعاً )) ( الزمر 44 )، (( يومئذٍ لا تنفع الشفاعة )) ( طه 109 )؛ (( ولا تنفع الشفاعة عنده )) ( سبأ 23 ). ففي يوم الدين: (( لا يُقبل منها شفاعة )) ( البقرة 48 )؛ (( ولا تنفعها شفاعة )) ( البقرة 123 )، (( يوم لا بيع فيه ولا خلـّة ولا شفاعة )) ( البقرة 254 ). فيوم الدين (( يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً، والأمر يومئذٍ لله )) ( الإنفطار 7 ).

وبحسب القرآن لا يسمح الله بشفاعة إلاّ للملائكة المقربين، ضمن حدود

وقيود: (( وكم من ملاك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً، إِلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )) ( النجم 26 )، (( يوم يقوم الروح والملائكة صفّاً، لا يتكلمون إلاّ مَن أذِن له الرحمان وقال صـواباً )) ( النبأ 37 )، (( ولا يشفعون إِلاّ لمن ارتضى، وهم من خشيتة مشفقون )) ( الأنبياء 28 )؛ (( الذين يحملون العرش، ومَن حوله، يسبحون بحمد ربهم، ويؤمنون به، ويستغفرون للذين آمنوا: وسعت كل شيء رحمةً وعلماً، فاغفر للذين تابوا وقهم عذاب الجحيم )) ( غافر 7 ).

فالذين يحملون العرش، ومن حوله من الملائكة، لهم وحدهم السماح بالشفاعة لمن يرضى: وهم الملائكة المقربون. فوحدهم لهم شفاعة مشروطة.

2) ويستند أهل السنة والجماعة إلى ثلاث آيات ليثبتوا الشفاعة لمحمد في يوم الدين:

(( ومن الليل فتهجد به نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، وقل: رب، أدخلني مدخل صدق، وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً )) (الإسراء 79). فالآية تعني المقام المحمود في الدنيا بنصرة الله له. وهبها تعني المقام المحمود في الآخرة، فلا شيء يوحي بالشفاعة.

(( والضحى والليل إذا سجى، ما ودّعك ربك وما تلى! وللآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى )) ( الضحى 1 ـ 5 ). القرائن كلها تدل على أن الآخرة المذكورة هي الآخرة في سيرة النبي ودعوته، لا الآخرة في يوم الدين. وهب أنها تعني الآخرة في يوم الدين، فعطاء الله للنبي فيرضى لا يقتضي حكماً بالشفاعة لأن صريح القرآن ينفيها عن الخلق، إلاّ الملائكة المقربين.

(( يوم لا يُخزي الله النبي والذين آمنوا معه، نورهم يسعى بين أيديهم

( قدامهم ): ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا، إنك على كل شيء قدير )) ( التحريم ). فالنبي ومَن معه يستغفرون لأنفسهم في يوم الدين حتى يُتم الله لهم نوره فيعبرون الصراط إلى الجنة فكيف يشفعون بالآخرين؟!

ولجوء القوم إلى هذه الآيات المتشابهات لإثبات الشفاعة للنبي في يوم الدين، دليل على أن محكم القرآن وصريحه لا يقول بشفاعة لمحمد في يوم الدين: (( أفمن حقّ عليه كلمة العذاب، أفأنت تنقذ من في النار؟! )) ( الزمر 19 ) ـ وبعد القرآن، لا عبرة بما جاء في الحديث.

3) فهل يقول القرآن بالشفاعة للمسيح؟

في البشارة بالمسيح تقول الملائكة: (( يا مريم إن الله يبشرك بكلمةٍ منه، اسمه المسيح، عيسى، ابن مريم: وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين )) ( آل عمران 45 ). أي (( ذا جاه عند الله في الدنيا بالنبوة، وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العُلا! )) هكذا فسره جميع المفسرين من الزمخشـري إلى البيضاوي إلى الـرازي إلى الجلالين. ولنـا في الآيـة قرينة على صحة التفسـير، من جعل المـسيح (( من المقـربين )) أي المـلائكة الذين يحفون بعرش الله، (( ويستغفرون لمن في الأرض )) .

وفي محاكمة الرسل يوم الدين يستجوب الله عيسى في عبادة الناس له وتأليهه، فينكر بأدب جم نسـبتها له، ويقول: (( إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم )) ( المائدة 113 ـ121 ). هذا مثال حي من القرآن على شفاعة المسيح في يوم الدين. ولا نرى في القرآن أحداً من الملائكة ولا من الرسل يقف هذا الموقف الاستغفاري الاستشفاعي إلاّ المسيح وحده.

فالمسيح الشفيع في يوم الدين آية للعالمين والمرسلين.

عاشراً: سيرة المسيح تتخطى الزمن وتملؤه

تلك هي سيرة السيد المسيح في القرآن، لا تدانيها سيرة من سير الأنبياء ولا سيرة نبي القرآن.

فقد استجمع الله آياته في سيرة مسيحه. سيرة الأنبياء، تقوم على دعوتهم ولا تتخطاها إلى ما قبلها وما بعدها في الزمن إلى يوم الدين. فالمسيح وحده، في نظر القرآن، كانت سيرته معجزة في مولده من الذرية المصطفاة على العالمين، وفي رفعه حيّاً إلى السماء، وفي رجوعه لليوم الآخر علماً للساعة، وفي دوره في يوم الدين. وحده يتخطى دوره رسالته في زمانها. وحده استجمع الله في سيرته عظيم معجزاته، حتى كانت سيرته (( آية للعالمين )) من دون المرسلين أجمعين.

وسيرته المعجزة دليل رسالته المعجزة، وشخصيته المعجزة.

وهذه هي القاعدة الثامنة للحوار المسيحي الإسلامي في نطق القرآن ومنطقه.

بحث ثان

رسالة المسيح بحسب القرآن

( القاعدة التاسعة في الحوار الإسلامي المسيحي )

بحسب القرآن تنفرد رسالة المسيح على رسالة الأنبياء أَجمعين بسبع ميّزات هي سبع آيات لها ترفعها على الرسالات كلها.

أولاً: وُلد المسيح على الهدى والنبوّة

أعاظم الأنبياء، من إبراهيم إلى موسى إلى محمد، لم يصيروا أنبياء إلاّ في الكهولة. ولا شيء قبل هدايتهم ودعوتهم للنبوّة والرسالة يميّزهم عن بني قومهم. ومحمد نفسه، نبي القرآن: (( وجدك ضالاً فهدى )) ( الضحى 7 )؛ وما دُعي للرسالة إلا في الأربعين.

المسـيح وحده في العالمين والمرسلين وُلد على الهدى، ووُلد نبيّاً: فقد نطق في مهده (( قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) ( مريم 29 ) ونطقه في مهده معجزة نبوته منذ مولده. قال البيضاوي مفسراً آية مريم (29)؛ (( أكمل الله عقله واستنبأه طفلاً )) .

وبالفعل فهو (( يكلم الناس في المهد وطفلاً )) ( آل عمران 47 )، (( إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً )) ( المائدة 113 ). فسّره

الرازي: (( قوله ( تكلم الناس في المهد وكهلاً ) من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين. وهذه خاصية شريفة كانت حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده )) .

ثانياً: المسيح في نبوّته استجمع الوحي والتنزيل كله منذ مولده

منذ مولده قال: (( آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) ( مريم 19 )، فمنذ مولده: (( يعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) ( آل عمران 48 ). قال البيضاوي: (( الكتاب جنس الكتب المنزلة، وخص الكتاب ( التوراة والإنجيل ) لفضلهما )) . وكرّره في تعداد نعمة الله على عيسى، وميزته على المرسلين: (( وإذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) (المائدة 113). فسره الرازي: (( الكتاب أي الكتابة وهي الخط ـ ( لا يرد هذا المعنى على الإطلاق في القرآن ) ـ أو جنس الكتب، وأما الحكمة فهي عبارة عن العلوم النظرية والعلوم العلمية. وخص التوراة والإنجيل بالذكر على سبيل التشريف، أو إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلاّ أكابر الأنبياء )) .

وهذه ميزة مزدوجة. لقد علم الله المسيح الوحي والتنزيل كله؛ ولا يقول ذلك بحق أحد المرسلين؛ وعلم الوحي والتنزيل كله منذ مولده، ولا يقول القرآن ذلك بحق إبراهيم ولا بحق موسى ولا بحق محمد، (( خاتم النبيين )) .

ومن يخصه الله بالتنزيل كله، منذ مولده، ألا يكون سيد المرسلين؟

ثالثاً: استجمع المسيح طرق الرسالة الإلهية كلها

كانت رسالة المسيح بالكلمة المعجزة، والمثل المعجز، والآيات المعجزة. قد يشبهه الأنبياء في واحدة منها؛ لكن أحداً منهم لم يستجمعها مثله، بشهادة القرآن.

1) كانت رسالته بالكلمة المعجزة. والقرآن يردّد مراراً على لسان المسيح إعلان التوحيد الكتابي المنزل: (( وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم )) (المائدة 75). هذا هو الصراط المستقيم الذي جاء به عيسى: (( ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه؛ فاتقوا الله وأطيعون: إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم )) (الزخرف 63 ـ 64). وهذا هو الإسلام الحق الذي دعا إليه عيسى: (( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي، قالوا: آمنا وأشهد بأنا مسلمون )) (المائدة 111). هذا هو عهد الله، (( وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن )) (التوبة 111).

ومن دعوة عيسى تبيان ما كانوا يختلفون فيه من الكتاب: (( ولأبيّن لكم بعض الذي تختلفون فيه )) ( الزخرف 63 )؛ وتحليل بعض ما حرَّم عليهم: (( ولأحل لكم بعض الذي حرّم عليكم )) ( آل عمران 50 ).

ومن دعوته أنه مصدّق لما بين يديه من التوراة ( المائدة 46 الصف 6 )؛ كما هو مفصّل لها، فيما كانوا فيه يختلفون.

وكان أيضاً (( مبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )) ( الزخرف 6 ) ـ آية وحيدة فريدة في القرآن، سنرى معناها في بحث لاحق.

ومع الدعوة للتوحيد، كان المسيح يُظهر (( كلمة الله )) في ذاته ( النساء

170 )؛ وينفرد بتأييد روح القدس له في سيرته كلها، كما في رسالته وتنزيله ( البقرة 87 و253 المائدة 113 ). وكلمة الله الملقى إلى مريم (( روحاً منه )) تعالى، وروح القدس، هما روحان من الملا الأعلى يظهران في ظهور المسيح ( البقرة 87 و253، النساء 170 ) .

فما هو سر (( كلمة الله )) ؛ وما هو سر (( روح القدس )) من الله؟ سنرى ذلك أيضاً في بحث لاحق.

هذا هو الإنجيل الذي أوتيه عيسى: (( وآتيناه الإنجيل، فيه هدى ونور ... هدى وموعظة للمتقين )) ( المائدة 15 )، فهو هدى ونور لأهل الكتاب؛ وهدى وموعظة للمتقين من الأميين، كالعرب الذين آمنوا (( مع محمد )) .

2) وكانت رسالته بالمثل الحي

ضرب القرآن للناس (( مثلاً من الذين خلوا )) ( النور 34 )؛ (( وتلك الأمثال نضربها للناس )) ( العنكبوت 43، الحشر 21 ). وأعطى القرآن إبراهيم والذين معه (( أسوة حسنة )) في براءَتهم من بني قومهم الظالمين ( الممتحنة 4 و6 ). وأعطى القرآن محمداً أيضاً (( أسوة حسنة )) في الجهاد ( الأحزاب 21 ) كما فسره الجلالان: (( اقتداءً به في القتال والثبات في مواطنه )) .

أما المسيح فكان مثلاً لبني إسرائيل مطلقاً: (( إنْ هو إلا عبد أَنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )) ( الزخرف 59 )؛ ومثلاً للأميين على السواء: (( ولما ضرب ابن مريم مثلاً، إذا قومك منه يصدون )) ( الزخرف 57 ).

3) وميزة رسالة المسيح البينات والمعجزات التي لم يستجمعها غيره، ولم يبلغ شأوها أحد من المرسلين.

فالقرآن يصف رسالة المسيح جملة بانفرادها بالبينات: (( وآتينا عيسى ابن

مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 و253 )؛ (( فلما جاءَهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين )) ( الصف 6 )؛ (( وإذ كففت بني إسرائيل عنك، إذ جئتم بالبينات، قال الذين كفروا منهم: إن هذا إلا سحر مبين )) ( المائدة 113 )؛ (( ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة )) ( الزخرف 63 ).

ثم يفصّل مرتين بإيجاز بعض تلك المعجزات:

(( ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم: إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير، فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله ـ وابرئ الأكمه ( الأعمى منذ مولده ) والأبرص ـ وأحيي الموتى بإذن الله، وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم: إِن في ذلك لآية لقوم يعقلون )) ( آل عمران 49، قابل المائدة 113 ).

فسره البيضاوي: (( إِنه حكى هنا خمسة أنواع من معجزات عيسى. وروي أنه عليه السلام ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى. وما كانت مداواته إلا بالدعاء )) . ونحن نعتبرها أربعة أنواع. هذا النوع الأول من الأشفية المعجزة. والنوع الثاني هو الاطلاع على الغيب: فعيسى يعلم الغيب، وليس كغيره لا يعلم الغيب ( الأنعام 50، هود 31 الأعراف 187 ). والنوع الثالث هو (( خلق )) الطيور. لاحظ قوة التعبير: (( إني أخلق لكم )) ؛ ولا يستعمل القرآن كلمة (( خلق )) بحق أحد من المخلوقين والمرسلين، إلا بحق عيسى، على لسانه ( آل عمران 49 ) وعلى لسان الله نفسه بحق عيسى ( المائدة 113 ): فقد أشركه في حق الخلق مع الخالق سـبحانه، وإِن قيده بقوله: (( بإِذن الله )) أو (( بإِذني )) ؛ فإِطلاق الفعل الإلهي الخاص على عيسى يكفيه ليرفعه فوق المخلوقين إلى الخالق. وكما وصفه بصفة إلهية لا تليق إلا بالله، (( الخلق )) ، فهو يؤيدها بصفة إلهية ثانية، في النوع الرابع، هي إحياء الموتى؛ ولم يسند القرآن هذه الصفة الإلهية لأحد من المخلوقين إلا لعيسى. ولم يشترك أحد من الرسل

والأنبياء مع عيسى إلا بنوع الأشفية؛ أما الخلق ومعرفة الغيب والأحياء، فقد انفرد بها شهادة له على شخصيته. نعرف من الكتاب والإنجيل أن إيليا واليشع أقاما ميتاً بالدعاء إلى الله، أمّا المسيح فقد أقام الموتى بكلمته الشخصية وإن كان (( بإِذن الله )) ، لأن ذات المسيح السامية وقدرتها من الله ذاته، فهو (( روح منه )) تعالى.

وآية الآيات البينات هي معجـزة المائدة ينزّلها على الرسـل الحواريين من السماء: (( قال عيسى ابن مريم. اللهمّ ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا، وآية منك، وارزقنا، وأنت خير الرازقين )) ( المائدة 117 ).

قال الرازي في تفسيرها: (( إِن جميع تلك المعجزات التي طلبتها كانت أرضية وهذه معجزة سماوية، وهي أعجب وأعظم ... وقالوا بالإجماع: إنها نزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيداً )) .

وهذه الإشارات: مائدة، عليها رزق من السماء، تكون عيداً دائماً لهم، نزلت يوم الأحد، كلها تشير إلى قول المسيح في الإنجيل: (( أنا الخبز الحي النازل من السماء ... والخبز الذي سأعطيه أنا هو جسدي ... مَن يأكل جسدي، ويشرب دمي، فله الحياة الأبدية )) (الإنجيل بحسب يوحنا، الفصل 6 كله). فمعجزة المائدة في القرآن هي عند النصارى القربان.

وأسمى ما انفرد به المسيح على الرسل أجمعين هو اختصاصه بتأييد روح القدس له على الدوام في سيرته ورسالته وشخصيته.

رابعاً: اختصاص المسيح، دون الرسل أجمعين، بتأييد روح القدس له

إن القرآن لا يذكر تأييد روح القدس للأنبياء والرسل مطلقاً. وبحق محمد يقول: (( قل: نزَّله روح القدس )) ( النحل 102 )، وبمقارنتها مع آية البقرة (97) نعرف أن روح القدس، في تنزيل القرآن، هو كناية عن جبريل. فروح القدس جبريل، يحصر القرآن دوره مع محمد في تنزيل القرآن، وخارجاً عن تنزيل القرآن، لا يذكر القرآن له تأييداً لمحمد.

أمّا السيد المسيح فميزته تأييد روح القدس له الشامل المطلق، في السيرة والرسالة والمعجزة والشخصية، كما نرى من النصوص الآتية:

ـ (( ولقد آتينا موسى الكتاب؛ وقفينا من بعده بالرسل؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 ).

ظاهر الآية يدل على اختصاص المسيح بتأييد الروح القدس من دون المرسلين أجمعين، وظاهرها أيضاً يدل على التأييد الدائم المطلق.

ـ (( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: منهم من كلم الله؛ ورفع بعضهم درجات؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 252 ).

ظاهر الآية يدل على اختصاص المسيح بتأييد روح القدس له، في باب المفاضلة بين الرسل: فقد فُضّل المسيح على الرسل أجمعين بتأييد روح القدس له.

ـ (( إذ أيّدتك بروح القدس، تكلم الناس في المهد وكهلاً )) ( المائدة 113 ).

هنا يجعل القرآن تأييد روح القدس للمسيح في علاقة مع سيرته المعجزة ورسالته المعجزة وشخصيته المعجزة: فبسبب تأييد روح القدس له، يكلم المسيح الناس في المهد وكهلاً. ومنذ المهد ينطق المسيح بمعجزة ليبرّئ أمه،

ويعلن نبوته: (( قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً ( مريم 30 ). من الآيتين ( مريم 30، المائدة 113 ) يظهر أن التأييد بروح القدس يشمل سيرة المسيح ورسالته وشخصيته.

فمن هو (( روح القدس )) الذي أيد الله به عيسى؟ وما معنى هذا التأييد؟

قال الطبري في تفسير البقرة (87): اختُلف في تأويله: فقال بعضهم هو جبريل؛ وقال آخرون: هو الإنجيل؛ وقال آخرون هو الاسم الذي كان عيسى به يحيي الموتى )) . وهو يفضل القول إنه جبريل بسبب سورة المائدة (113) التي تقرن التأييد بالنبوة في المهد وكهلاً. لكن فات الطبري أن التأييد المقيد في سورة المائدة هو مطلق في سورة البقرة (87) وفي باب المفاضلة بين الرسل ( البقرة 253 ).

والرازي ينقل قول الحسن في تفسيره البقرة (87): (( والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى: (( قلْ: نزّله روح القدس )) . لكنه ينقل أيضاً قول ابن عباس: (( إن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى الموتى )) . وينقل أيضاً قول أبي مسلم: (( إن روح القدس الذي أيده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وأبانه بها عن غيره )) وإلى هذا الرأي يذهب الرازي في تفسير ( المائدة 113 ): (( قوله: إذ أيدتك بروح القدس أي جبريل، فالروح هو جبريل، والقدس هو الله، إضافة إلى نفسه تعظيماً له؛ أو روح عيسى؛ فالله خصّه بالروح الطاهرة التوراتية المشرفة العلوية الخيّرة )) .

ويقول الرازي هنا أيضاً: وكان روح القدس (( لا يفارقه ساعة، وهو معنى قوله: وأيدناه بروح القدس )) . وقال الجلالان: (( يسير معه حيث سار )) ، في تفسير البقرة (83 و253) وهذان القولان يدلان على أن التأييد بروح القدس كان في السيرة والرسالة والشخصية.

ومن تعارض وتنوع أقوال المفسرين، نرى أن تفسير روح القدس في تأييد المسيح، بجبريل هو من باب المشاكلة، لا من باب المطابقة بين محمد والمسيح؛ والتعبير الفارق صريح: فعند محمد التنزيل، وفي المسيح تأييد مطلق. وتفسير روح القدس بجبريل هو قول من ثلاثة.

والقولان الآخران هما الصحيحان: أمّا الاسم الأعظم الذي كان به عيسى يحيي الموتى؛ وأما الـروح العلوية النورانية التي نفخها الله تعالى في عيسـى (( وأبانه بها على غيره )) كما يقول أبو مسلم والرازي. وفي كلا القولين نرى في القرآن صدى لمقالة الإنجيل في الروح القدس، الذات القائمة في الله مع كلمة الله؛ وفي عيسى كلمة الله، (( وروح منه )) (النساء 170) نفخها الله منه في عيسى، فأبانه على غيره من المخلوقين والمرسلين؛ ففي عيسى ذات نوارنية روحية غير ذاته البشرية: فهو عيسى ابن مريم وهو أيضاً (( كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ).

بهذه الذات النورانية الروحانية، المسماة (( كلمة الله )) ، التي نفخها الله في عيسى، وأيده بها، رفع الله عيسى ابن مريم فوق المخلوقين إلى صلة خاصة به تعالى من دون العالمين والمرسلين أجمعين.

خامساً: انفراد المسيح بالرفع إلى السماء، من دون العالمين ( النساء 156 )

يذكر القرآن في لغته رفع السماوات بغير عمد ( الرعد 2 ) ورفع الطيور وأشياء أخرى ( البقرة 65 و93؛ النساء 153 )، ورفع الناس بعضهم فوق بعض ( الأنعام 165 ) ورفع بعض الأنبياء درجات ( البقرة 253 ).

ويخص القرآن محمداً بهذه الكلمة الوحيدة، في لغة الرفع: (( ورفعنا لك ذكرك )) (الانشراح 4). وبديهي أن رفع الذكر لا يعني رفع الشخص إلى غير الأرض، كما تدل أيضاً قرائن السورة كلها.

وإدريس ( أخنوخ في الكتاب ) (( كان صديقاً نبيّاً، ورفعناه مكاناً عليّاً )) ( مريم 57 ). فهو رفع فوق الأرض لا يحدّد القرآن مكانه ولا زمانه ولا كيفيته.

واختص القرآن المسيح بالرفع إلى السماء، إلى الله نفسه، من دون العالمين والمرسلين أجمعين.

(( إذ قال الله: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ )) ( آل عمران 55 ).

(( وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه )) ( النساء 157 ).

فظاهر الكلام أن الرفع إلى الله كان عقب وفاة المسيح، قتله اليهود شبهةً، أم لم يقتلوه يقيناً.

ومكان الرفع هو في النصين إلى الله تعالى نفسه. فالمسيح وحده، من دون المخلوقين أجمعين، رفعه الله إليه حيّاً.

قال الرازي في تفسيرهما: (( رفع عيسى عليه السلام ثابت بهذه الآية ( النساء 157 ). ونظير هذه الآية قوله في آل عمران: ( رافعك إلي ). ودلّ ذلك على أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية. وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادة الروحانية )) .

واختصاص الله المسيح برفعه حيّاً خالداً إلى السماء، إلى قرب الله، من دون العالمين والمرسلين أجمعين، بينما جميعهم ينتظرون يوم يبعثون، برهان على سمو رسالته على الرسالات كلها، وعلى سمو شخصيته على المخلوقين أجمعين.

فكما أن الله خص عيسى ابن مريم في تكوينه بروح منه تعالى هو كلمة الله ( النساء 170 )، خصه في مصيره وخلوده حيّاً في السماء، لدى الله، بميزة

تدل على سمو شخصيته على المخلوقين أجمعين. فالملائكة المقربون هم (( حول العرش )) ؟ أما المسيح فهو مع الله: (( رافعك إِليَّ )) ، (( رفعه الله إليه )) .

وهذا الرفع الفريد في القرآن تفضيل لرسالته على كل الرسالات، وتمييز لسمو شخصيته على العالمين أجمعين.

سادساً :المسيح وحده علـَمٌ وعِلـْم للساعة ( الزخرف 61 )

هذا أيضاً دور فريد للمسيح في القرآن يدل على سمو رسالته وعلى سمو شخصيته. سيرجع المسيح ثانيةً إلى الأرض لقيام الساعة.

فهو وحده بين الأنبياء والأولياء له دور في قيام الساعة. قال الجلالان: (( وإنه ـ عيسى ـ لَعِلـْم للساعة تُعلم بنزوله )) .

والمسيح (( عِلم )) للساعة، وعِلم الساعة من خصائص الله عزّ وجلّ: (( وأن الله عنده علم الساعة )) ( لقمان 24 ). وهنا يظهر أَنه يشـرك المسيح في عِلم الساعة. قال البيضاوي: (( وإنه لعلـْم للساعة لأن حدوثها ونزوله من أشراط الساعة، يُعلم به دنوُّها. وقرئ ( لَعَلـَمٌ ) وهو العلامة )) .

والمسيح (( علـَمٌ )) للساعة أي علامة ( الزمخشري والبيضاوي ). فقد جعل الله رجوع المسيح في اليوم الآخر علامة لحضور الساعة. قال الزمخشري: (( وإنه ( لعلم ) للساعة أي شرط من أشراطها يُعلم بها، فسمّي الشرط علماً لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس ( لـَعلمٌ ) وهو العلامة )) .

نلاحظ أنهم في تفسيرهم يميلون إلى قراءة ( لعلـْمٌ ) بمعنى شرطها؛ ولا يستنبطون معنى القراءة الفضلى ( لعلْم ). وقول القرآن إن المسيح ( علـْم ) للساعة يجعله يعلمها كما يعلمها الله.

ففي المعنى ( لعَلـَمٌ ) يكون المسيح برجوعه علامة لقيام الساعة. وهذا دور فريد لا يعطيه القرآن إلا للمسيح وحده من دون المرسلين أجمعين؛ وفي هذا المعنى برهان سمو رسالته على الرسالات كلها: فهي الخاتمة في يوم الدين نفسه.

وفي المعنى ( لَعِلـْم ) يشترك المسيح مع الله في علم الساعة الذي هو من غيب الله وحده، فلا يطّلع على غيب الله إلا المسيح وحده من دون المخلوقين أجمعين. وفي هذا المعنى برهان سمو شخصية المسيح على خلق الله كلهم.

وقد نقلوا في الحديث عن النبي هذه الأقوال:

ـ (( يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكَماً عدلاً1)) .

ـ (( ولا مهدي إِلا عيسى ابن مريم )) في يوم الدين2)) .

ـ (( ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها3)) .

وعن أبي هريرة: (( ألا أن ابن مريم، ليس بيني وبينه نبي ولا رسول. ألا أنه خليفتي في أمتي من بعدي4)) .

بحسب هذين الحديثين الآخرين، سيد أمة محمد في آخر الزمان هو المسيح نفسه. فكما يدعو القرآن، مع التوحيد، للمسيح؛ كذلك ستكون أمة محمد أمة للمسيح قبل يوم الدين.

(1) الثعلبي: عرائس المجالس 403.

(2) ابن ماجه: السنن 2 : 275.

(3) الترمذي: نوادر الأصول 156؛ وفي صيغة أخرى: (( وعيسى ابن مريم آخرها )) .

(4) السيوطي: الإعلام بحكم عيسى.

ـ (( يدرس الإسلام كما يُدرس وشي الثوب ... ويسري على كتاب الله ( القرآن ) في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية1)) .

ـ (( لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء2)) .

(( بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ3)) ـ عن أبي هريرة، وأنس ابن مالك.

ـ (( ليس بيني وبين عيسى نبي، وذلك من قبل ومن بعد )) .

ـ (( إن المسيح ابن مريم خارج يوم القيامة، وليستغنِ به الناس عن سواه4)) .

نتساءل: بحسب هذه الأحاديث النبوية هل يُدرس القرآن والإسلام القرآني قبل يوم الدين، فلا يبقى إلا المسيح ودينه، فتتبعه أمة محمد أيضاً؟

وقد استنبط الصوفية من ميزة المسيح هذه أقوالاً تدل على دور المسيح في تاريخ البشرية والنبوة.

قال ابن العربي: (( وإنه سيد الأولياء5)) .

(1) الهندي: منتخب كنز العمال 6 : 11؛ ابن ماجة: السنن 2 : 259؛ الشعراني: مختصر تذكرة الإمام القرطي 170.

(2) الهندي: منتخب كنز العمال 6 : 15 .

(3) ابن ماجة: السنن 2 : 248 ـ 249؛ الشعراني: الكتاب نفسه 179؛ الحلبي: إنسان العيون 2 : 77 .

(4) ابن حنبل: المسند 2 : 240 و272 و493 و 538؛ والهندي: منتخب كنز العمال 6 : 55 ـ57.

(5) ابن العربي: عنقاء مغرب 76.

وله في الفتوحات المكية (4 : 215): (( فالختم ختمان: ختم واحد في العالم يختم به الله الولاية المحمدية، فلا يكون في الأولياء المحمديين أَكبر منه. ومن ثمّ ختم آخر يختم به الله الولاية العامة من آدم إلى آخر ولي: وهو عيسى عليه السلام؛ وهو ختم الأولياء )) .

فالمسيح هو سيد الأولياء، وختم الأولياء.

وابن العربي يرى في المسيح ختم الولاية وختم الملك وختم النبوة:

قال1: (( الختم ختمان: ختم يختم به الله الولاية المطلقة، وختم يختم به الولاية المحمدية. ( ختم الولاية المحمدية هو ابن العربي نفسه ). فأما ختم الولاية على الإطلاق فهو عيسى عليه السلام: فهو الولي بالنبوة المطلقة. فينزل في آخر الزمان وارثاً خاتماً، لا وليَّ بعده بنبوة مطلقة، كما أن محمداً خاتمة النبوة، لا نبوة تشريع بعده، فكان أول هذا الأمر نبي وهو آدم، وآخره نبي وهو عيسى. وهو عليه السلام من هذا الوجه خاتم الأنبياء. فجمع الله له بين ختم الولاية والنبوة )) . وهذه ميزة للمسيح وحده على الرسل أجمعين.

وقال2: (( وأَما خاتمية عيسى عليه السلام، فله ختام دورة الملك، فهو آخر رسول يظهر، ويظهر بصورة آدم في نشئه ... ثم إن عيسى إذا نزل إلى الأرض في آخر الزمان، أعطاه الله ختم الولاية الكبرى من آدم إلى آخر نبي. ومن ثمّ فله ختم دورة الملك، وختم الولاية العامة، فهو من الخواتم في العالم )) .

فالمسيح، عند الصوفية المسلمين وإمامهم ابن عربي، هو ختم وختام الولاية، وختم وختام الملك، وختم وختام النبوة والرسالة.

(1) الفتوحات المكية 2 : 55.

(2) الفتوحات المكية 3 : 568 ـ 569.

فالمسيح هو سيد الملوك، وسيد الأولياء، وسيد الأنبياء.

فإذا كان محمد (( خاتم النبيين )) نسبيّاً، فالمسيح هو خاتمة الأنبياء على الإطلاق، كما هو خاتمة الأولياء على الإطلاق.

هذا هو دور المسيح (( عِلماً )) و (( عَلماً )) للساعة.

سابعاً: المسيح وحده هو (( الوجيه )) الوحيد في يوم الدين

لقد رأينا أنه بحسب القرآن ـ لا الحديث ـ لا شفيع في يوم الدين إِلا الملائكة المقربون، ضمن حدود وقيود.

فلا شفاعة، في نص القرآن، لرسول إِلا المسيح، فقد جاء (( وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين )) ( آل عمران 45 ).

وأجمع المفسرون أن الوجاهة في الدنيا هي النبوة، والوجاهة في الآخرة هي الشفاعة.

وبما أن القرآن جمع الوجاهة في الآخرة للمسيح مع الملائكة المقرّبين، ففي ذلك دليل على شفاعته معهم في يوم الدين.

وفي استجواب الله له في يوم الدين ( المائدة 120 ) يستنكر المسيح نسبة الناس الإلهية له، ثم يستشفع بأدب جم بأمته التي تؤلهه. فهذا مشهد شفاعة المسيح في يوم الدين.

ظن بعضهم أن هذا الموقف موقف شهادة عليهم، لا موقف شفاعة لهم

لقوله: (( وان من أَهل الكتاب إِلا ليؤمننَّ به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً )) (النساء 158).

إن القرآن يستعمل تعبير أهل الكتاب إمّا على الإطلاق، وحينئذٍ يشمل اليهود والنصارى، وإما على التخصيص، كما يظهر من القرائن، وحينئذٍ قد يعني اليهود، أو النصارى، بحسب دلائل القرائن. وفي الآية (158) من سورة النساء جاء تعبير أهل الكتاب على العموم وهو يقصد به التخصيص. والفقرة كلها ( النساء 149 ـ161 ) حملة على اليهود لكفرهم بالمسيح وأمه؛ ومنها كفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً، وادعائهم قتل المسيح (النساء 155 ـ 158). فأهل الكتاب الذين يكون المسيح شاهداً عليهم يوم القيامة هم اليهود، لا النصارى، لأن الله (( جاعل الذين اتبعوك ( النصارى )، فوق الذين كفروا ( اليهود ) إلى يوم القيامة )) (آل عمران 55)، هؤلاء النصارى الذين قالوا مع الحواريين في المسيح: (( ربنا آمنا بما أُنزلت واتبعنا الرسول ( المسيح ) فاكتبنا مع الشاهدين )) ( آل عمران 53 )؛ وقالوا في القرآن: (( ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ... فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، وذلك جزاء المحسنين )) ( المائدة 86 ـ 88 ).

فشهادة المسيح في يوم الدين ليست على أمته؛ بل هي شفاعة لهم لغلوّهم في أمره.

فالمسيح هو الوجيه الأوحد في يوم الدين مع الملائكة المقربين.

تلك هي رسالة المسيح في القرآن.

سبع ميزات ترفع رسالة المسيح على الرسالات كلها؛ فهو وحده وُلد على الهدى والنبوة؛ وهو وحده استجمع الوحي والتنزيل كله؛ وهو وحده استجمع

أنواع الرسالة كلها بالكلمة والقدوة والمعجزة؛ وهو وحده في رسالته وفي شخصيته انفرد بتأييد روح القدس له؛ وهو وحده رفعه الله إليه؛ وهو وحده عِلم للساعة؛ وهو وحده الوجيه الشفيع في يوم الدين.

وهذه الميزات السبع دلائل وبراهين على سمو شخصية المسيح على المخلوقين أجمعين. فرسالته تتخطى الزمن؛ فهي تسيطر على تاريخ البشرية والنبوة منذ اختيار الذرية المصطفاة على العالمين، حتى قيام الساعة ويوم الدين. وشخصية فيها (( كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه )) تعالى ( النساء 170 ) يؤيده في ذاته وفي سيرته وفي رسالته ( البقرة 87 و203 )، ويجعله وجه الدنيا والآخرة ( آل عمران 45 ) هي شخصية أسمى من المخلوق، وفي صلة خاصة بالخالق.

تلك هي القاعدة التاسعة في الحوار الإسلامي المسيحي.

بحث ثالث

آخرة المسيح، بحسب القرآن

( القاعدة العاشرة في الحوار المسيحي الإسلامي )

يختلف المسلمون والمسيحيون في قتل المسيح وصلبه، وينسبون هذا الاختلاف إلى الإنجيل والقرآن.

فالإنجيل صريح، لا شبهة على موقفه ومقالته التي بها يتقيد المسيحيون.

فما هو موقف القرآن الصحيح؟

في كل تفسير ديني أو غيره، لا يؤخذ موقف معلم من عقيدة على قول أو آية؛ بل تؤخذ العقيدة من مجموعة الأقوال فيها.

فما هي أقوال القرآن في آخرة المسيح؟

أولاً: النصوص القرآنية

في القرآن أربعة نصوص صريحة، ونصّان تلميحاً، في آخرة المسيح، نوردها بحسب ترتيب نزولها:

(( والسلام عليّ يوم ولدت! ويوم أموت! ويوم أبعث حيّاً )) ( مريم 33 ).

هذه نبؤة من المسيح في مهده عن آخرته بعد رسالته.

(( ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفّينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقاً كذبتم، وفريقاً تقتلون!؟ )) ( البقرة 87 ).

فالمقابلة قائمة في موقف اليهود من موسى وعيسى، والنتيجة ظاهرة: كذّبوا موسى، وقتلوا عيسى، إذ لا ذكر لسواهما، وصلة (( وقفينا من بعده بالرسل )) صلة ما بين موسى وعيسى. على كل حال نعتبر النص تلميحاً إلى قتل عيسى.

(( إذ قال الله: يا عيسى، ابن مريم، إني متوفيك، ورافعك إليّ!

ومطهّرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة )) ( آل عمران 55 ).

هذه الآية تفسر آية ( مريم ): الرفع إلى السماء يأتي بعد الوفاة، في ختام رسالته.

(( وقالوا ( اليهود ): إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار. قلْ: قد جاءكم رسل قبلي بالبينات وبالذي قلتم، فلمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين )) ( آل عمران 183 ).

عهد الله لليهود بقربان الذبائح في التوراة على يد موسى؛ وجميع أنبياء الكتاب على شريعته. فالرسول الذي جاء بالبينات وقربان المائدة هو بحسب القرآن المسيح وحده، فهو الذي قتلوه، واستعمال العام للخاص أسلوب عربي وقرآني. على كل حال نعتبر النص تلميحاً إلى قتل المسيح.

(( وقولهم ( اليهود ): إِنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله! ـ وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شُبّه لهم! وإِن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍ منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً )) ( النساء 156 ).

ظاهر هذا النص ـ لا باطنه ـ هو مصدر الخلاف.

6ـ وإذ قال الله: يا عيسى، ابن مريم، أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟! ـ قال: سبحانك، ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق ... وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم: فلمّا توفيتني، كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد )) ( المائدة 116 ـ 120 ).

هذا النص آخر ما نزل من القرآن في آخرة المسيح.

فالظاهرة الكبرى في هذه النصوص أنها كلها تقول بموت ووفاة وقتل المسيح، تصريحاً أو تلميحاً، ما عدا آية النساء، بحسب ظاهرها.

فما هو التفسير السوي لمقالة القرآن في آخرة المسيح، وما هو معنى آية النساء الصحيح؟

ثانياً: التفسير الصحيح لتعليم القرآن في آخرة المسيح

موقف أهل السنة والجماعة أنهم يأخذون آية النساء على ظاهرها، وبها يفسرون سائر القرآن في تعليمه عن آخرة المسيح. وبعضهم أخذ من آية النساء أسطورة الشبه الذي ألقاه الله على أحدهم فقتل بدل المسيح. وبهذا التفسير ينقضون قتل المسيح والصلب والصليب.

ينتج عن ذلك أنهم يقيمون تناقضاً بين آية النساء وسائر القرآن، ويفسرون الكل بالجزء. ويجعلون تناقضاً ظاهراً بين القرآن والإنجيل المبني كله على صلب المسيح. ويخلقون تناقضاًَ بين التاريخ الذي تبدؤه آية النساء وبين التاريخ العام قبلها بمدة ستماية سنة ونيف، كما يقول به الرومان واليهود والنصارى.

وتلك المتناقضات الثلاث الضخمة، مع مجموع الآيات القرآنية في آخرة المسيح، تفرض حلاً عادلاً غير مقالة العامة من المسلمين حتى اليوم.

1ـ الرد على الشبهات

الشبهة الأولى: قصة الشبه: (( ولكن شبّه لهم )) .

فسره الجلالان (( ولكن شبه لهم المقتول والمصلوب وهو صاحبهم، بعيسى أي ألقى عليه شبهه فظنوه إياه. ( وإن الذين اختلفوا فيه ) أي في عيسى ( لفي شك منه ) من قتله، حيث قال بعضهم لمّا رأوا المقتول: الوجه وجه عيسى، والجسد ليس بجسده، فليس به؛ وقال آخرون: بل هو هو )) .

فسره البيضاوي: (( روي أن رهطاً من اليهود سبوه وأمه فدعى عليهم فمسخهم الله قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء. فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويُصلب ويدخل الجنة. فقام رجل منهم، فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب. وقيل: دخل طيطاوس اليهودي بيتاً كان هو فيه فلم يجده، وألقى الله عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى فأخذ وصلب. وأمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوة. وإِنما ذمهم الله تعالى بما دلّ عليه الكلام من جرأتهم على الله، وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات القاهرة، وتبجّحهم به لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم.

(( و ( شبّه ) مسند إلى الجار والمجرور، وكأنه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى والمقتول، أو في الأمر على قول من قال: لم يُقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس؛ أو إلى ضمير المقتول لدلالة ( إِنا قتلنا ) على أن ثمّ قتيلاً.

(( فإِنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود: إنه كان كاذباً فقتلناه حقاً. وتردّد آخرون، فقال بعضهم: إِن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى، والبدن بدن صاحبنا. وقال مَن سمع منه: ( إن الله يرفعني إلى السماء ) أنه رفع إلى السماء. وقال قوم: (( صلب الناسوت وصعد اللاهوت )) .

ـ وهنا يخلط البيضاوي مقالة النصارى: (( صلب الناسوت وصعد اللاهوت )) ، بمقالات اليهود؛ وما كان أحد من اليهود يقول بلاهوت في المسيح.

والاختلاف بين المفسرين في: هل قتل أحد بدل المسيح أم لم يقتل، بل أرجف بذلك فشاع بين الناس؟ هذا الاختلاف، وقول القائلين لم يقتل أحد، بل هي إشاعة، ينقض قصة الشبه.

وفسره الزمخشري: (( ما معنى قوله: شبّه لهم؟ ( شبّه ) مسند إلى ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلى المسيح، فالمسيح مشبه به وليس بمشبه، وإن أسندته إلى المقتول ـ وقد زعموا أن اليهود قتلوا رجلاً آخر شبيهاً بعيسى ـ فالمقتول لم يجرِ له ذكر. قلت: هو مسند إلى الجار والمجرور ( لهم )، كقولك خيّل إليهم، كأنه قيل: وقع لهم التشبيه. ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول )) .

ونحن نقول: إن الصعوبة اللغوية في إسناد ( لهم ) تجعل الضمير في ( لهم ) لا يعني المسيح، ولا المقتول المزعوم بدلاً عنه. وهذه حجة لغوية ضد قصة الشبه. والمعنى ما قاله الزمخشري: (( خيّل إليهم )) الأمر.

والقول الفصل في تفسير الرازي: (( اختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضوع ( قُتل أحد بدل المسيح ) وذكروا طرقاً: ( الأول ) قال كثير من المتكلمين إن اليهود لمّا قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء، فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة من عوامهم فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس أنه المسيح. ( الثاني ) أنه تعالى ألقى شبهه على إنسان آخر؛ ثم فيه وجوه: 1) دخل طيطاوس اليهودي بيتاً كان المسيح فيه فلم يجده، وألقى الله عليه شبهه، فلمّا خرج ظنّ أنه عيسى فأخذ وصلب. 2) وكلوا بعيسى رجلاً يحرسه، فرفع عيسى إلى السماء وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه، وهو يقول: لست بعيسى! 3) تطوع أحد أصحابه، فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل،

ورُفع عيسى. 4) نافق أحد تابعيه ودلهم على عيسى ليقتلوه، فلما دخل مع اليهود لأخذه، ألقى الله شبهه عليه فقُتل وصلب. ـ وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور )) .

فمقالات الذين يقولون إن ثمّت قتيل بدل عيسى (( متعارضة متدافعة )) ينقض بعضها بعضاً، وبالتالي ينقض وجود قتيل بدل المسيح.

بقيت أسطورة الشبه؛ والرازي يفنّدها تفنيداً محكماً في ( آل عمران 55 ).

(( فكيفما كان، ففي إلقاء شبهه على الغير إشكالات:

الإشكال الأول: إنه إن جاز أن يقال إن الله تعالى يُلقي شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة، وأيضاً يفضي إلى القدح في التواتر: ففتح هذا الباب أوله سفسطة، وآخره أبطال النبوءات بالكلية.

والإشكال الثاني: إن الله أيده بروح القدس، جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده؟ وهو كان قادراً على إحياء الموتى، فهل عجز عن حماية نفسه؟

والإشكال الثالث: إنه تعالى كان قادراً على تخليصه برفعه إلى السماء، فما الفائدة بإلقاء شبهه على غيره؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟

والإشكال الرابع: بإلقاء الشبه على غيره اعتقدوا ( اليهود ) أن هذا الغير هو عيسى، مع أنه ما كان عيسى: فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله.

والإشكال الخامس: إن النصارى ( واليهود ) على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره ( أو شدة بغض اليهود له )

شاهدوه مقتولاً مصلوباً: فلو أنكرنا ذلك، كان طعناً فيما ثبت بالتواتر، والطعن بالتواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء.

والإشكال السادس: ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنه ليس بعيسى ـ ؟ والمتواتر أنه فعل. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلف هذا المعنى. فلما لم يوجد شيء من ذلك علمنا أَن الأمر ليس على ما ذكرتم ...

(( وبالجملة الأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه )).

ويختار الرازي مقالة الإشاعة الكاذبة التي انطلقت على الناس. فهو يردُّ رداً مبرماً قصة الشبه.

وآن للقوم أن يتخلّصوا من هذه الخرافة التي ينقضها العقل، ولا تستند إلى النقل، فلا يعني قوله: (( شبه لهم، قصة الشبه، بل (( خيّل إليهم )) كما يقول أصح العارفين في لغة القرآن، الزمخشري. فإن فلسفة القرآن، وعلم الكلام، والتفسير الصحيح تنقض نقضاً مبرماً تلك الأسطورة السخيفة.

الشبهة الثانية: معنى (( الوفاة )) في لغة القرآن

بسبب التعارض الظاهر بين آية النساء وسائر القرآن يجتهد القوم في تفسير معنى الوفاة على ثلاثة معانٍ إِلا الموت.

1) قال بعضهم: إِن الوفاة في لغة القرآن لا تعني الموت بل وفاة النوم استناداً إلى آيتين: (( وهـو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه )) ( الأنعام 60 )، (( الله يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في

منامها؛ فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى )) ( الزمر 42 ). فالقرآن، على حدّ قولهم، يأخذ الوفاة بالمعنى المجازي، لا بالمعنى الحقيقي.

وفات هؤلاء أن القرآن يستعمل كلمة (( الوفاة )) بمعنى الموت الحقيقي نحو خمس وعشرين مرة؛ ولا يعدل إلى المعنى المجازي إلا لقرينة لفظية كما في الآيتين اللتين ذكروهما: (( يتوفاكم بالليل )) ، (( والتي لم تمت في منامها )) .

منها بالمعنى الحقيقي:

ـ (( وكنت شهيداً عليهم ما دمت فيه، فلما توفيتني )) ( المائدة 12 ) فالوفاة هنا عكس الحياة، فهي تعني الموت الحقيقي.

ـ (( خلقكم ثم يتوفاكم )) ( النحل 70 ) فالوفاة عكس الولادة، فهي تعني الموت.

ـ (( يتوفاكم ملاك الموت )) ( آلم السجدة 11 )؛ القرينة الظاهرة تعني الموت.

ـ (( حتى يتوفاهن الموت )) ( النساء 14 )؛ القرينة الظاهرة تعني أيضاً الموت.

ـ (( الله يتوفى الأنفس حين موتها )) ( الزمر 42 )؛ القرينة الظاهرة تعني وفاة الموت.

ـ (( ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة، يضربون وجوههم وأدبارهم! وذوقوا عذاب الحريق )) ( الأنفال 51 ). هنا القرينة المعنوية تعني وفاة الموت.

ـ (( فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم )) ( يونس 104) أي (( يقبض أرواحكم )) ( الجلالان ): فالقرينة المعنوية تعني وفاة الموت.

ـ (( الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقـَوا السلم )) ( النحل 28 ) أي (( انقادوا واستسلموا عند الموت )) ( الجلالان ): فالقرينة المعنوية تعني وفاة الموت.

ـ (( الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون: سـلام عليكم، ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون )) ( النحل 32 ) أي (( يقولون لهم عند الموت )) ( الجلالان ): فالقرينة المعنوية تعني وفاة الموت.

ـ (( حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله؟ ... قال: ادخلوا ... في النار، كلما دخلت أمة لعنت أختها! )) ( الأعراف 36 ـ37 ) أي (( شهدوا على أنفسهم عند الموت )) ( الجلالان ): فالقرائن المعنوية واللفظية تعني وفاة الموت.

ـ وإِمّا نرينك بعض الذي نعدهم، أو نتوفينك فإلينا مرجعهم )) ( يونس 46 ): إن قرينة ( فإلينا مرجعهم )، دليل على أن الوفاة بمعنى الموت.

ـ (( وإنْ ما نرينك بعض الذي نعدهم، أو نتوفينك، فإنمـا عليك البلاغ وعلينا الحساب )) ( الرعد 42 ): إن قرينة ( وعلينا الحساب ) دليل على وفاة الموت.

ـ (( فاصبر إن وعد الله حق: فأما نرينك بعض الذي نعدهم، أو نتوفينّك فإلينا يرجعون )) ( المؤمن أو غافر 77 ) أي ( نتوفينك قبل تعذيبهم فإلينا يرجعون فنعذبهم أشد العذاب )) ( الجلالان ): فالقرائن اللفظية والمعنوية تعني وفاة الموت.

ـ (( توفني مسلماً والحقني بالصالحين )) ( يوسف 101 ): القرينة الظاهرة تعني وفاة الموت.

ـ (( فآمنا بربنا فاغفرْ لنا ذنوبنا وكفرْ عنَّا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار )) ( آل عمران 93 ) أي (( اقبض أرواحنا في جملة الصالحين )) ( الجلالان ): فقرينة ( مع الأبرار ) تعني وفاة الموت.

ـ (( وقالوا: إنّا إلى ربنا منقلبون؛ وما تنقم منا ( يا فرعون ) إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا! ربنا افرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين )) ( الأعراف 124 ـ125 ): فالقرائن اللفظية والمعنوية تدل على وفاة الموت.

ـ (( يا أيها الناس، إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ... ثم نخرجكم طفلاً، ثم لتبلغوا أشدكم، ومنكم من يتوفى، ومنكم من يُرد إلى أرذل العمر )) ( الحج 5 ) قال الجلالان: (( ومنكم من يتوفى: يموت قبل بلوغ الأشد )) . فالقرائن اللفظية والمعنوية كلها تؤيد معنى وفاة الموت.

ـ (( هو الذي خلقكم ... ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً؛ ومنكم من يُتوفّى من قبل )) ( المؤمن أو غافر 67 ): إن القرائن اللفظية والمعنوية كلها تؤكّد أن معنى الوفاة الموت.

ـ (( والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربَّصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً )) (البقرة 234). قال الجلالان: (( يُتوفون: يموتون )) . وهذا ما تدل عليه القرائن.

ـ (( والذين يُتوفون منكم، ويذرون أزواجاً، وصية لأزواجهم، متاعاً إلى الحول )) (البقرة 240) أي (( إلى تمام الحول من موتهم الواجب عليهن تربصه )) ( الجلالان ) كما تدل عليه القرائن.

تلك هي الآيات التي ترد فيها الوفاة. وأنت ترى أنها في كلها تعني الموت، إلا في الآيتين المذكورتين ( الأنعام 60؛ الزمر 42 ) لقرينة لفظية ظاهرة صريحة تحمل الوفاة من المعنى الحقيقي الذي لها في كل القرآن، إلى معنى مجازي.

فتفسير الوفاة بمعنى النوم هو افتراء على القرآن، لأنه ليس في الآيات التي تذكر موت المسيح أية قرينة لفظية أو معنوية تحولها من المعنى الحقيقي الذي لها في كل القرآن، وفي آيات وفاة المسيح، إلى معنى مجازي.

2) وقـال بعضهم، كمـا ذهب إليه الزمخشـري والبيضاوي: إن (( الوفـاة )) بمعنى (( الاستيفاء )) ، من ( استوفي الشيء ) و ( توفي الشيء ) أي أخذه كاملاً.

قال البيضاوي: (( إني متوفيك ( آل عمران 55 ) أي مستوفي أجلك، ومؤخرك إلى أجلك المسمّى عاصماً إياك من قتلهم. أو قابضك من الأرض، من ( توفيت مالي ). أو متوفيك نائماً إِذ روي أنه رفع نائماً. أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل: أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء؛ وإليه ذهبت النصارى )) .

ينقل البيضاوي خمسة تفاسير، منها معنى الموت الذي لا مفر منه. وأنت ترى أن التفاسير الأربعة الأخرى تمحلات على اللفظ لاستدراج المعنى إلى ما يقصدون لا إلى ما يعنيه ظاهر اللفظ وباطنه.

وفي الواقع القرآني لا يرد اسم ( الوفاة ) على الإطلاق بمعنى الاستيفاء. إنما يرد فعل ( وفّى ) وحده بهذا المعنى، أو بمعنى الوفاء ( 53 : 37؛ 24 : 39، 11 : 15؛ 3 : 57؛ 4 : 172؛ 24 : 25؛ 35 : 30؛ 46 : 19؛ 11 : 112؛ 3 : 25؛ 39 : 70؛ 39 : 10؛ 2 : 272؛ 8 : 61؛ 2 : 281؛ 3 : 161؛ 16 : 111؛ 3 : 185؛ 3 : 76؛ 9 : 112؛ 48 : 10؛ 12 : 59؛ 2 : 40؛ 13 : 22؛ 76 : 7؛ 22 : 29؛ 12 : 88؛ 2 : 40؛ 5 : 1؛ 6 : 152؛ 7 : 84؛ 11 : 84؛ 16 : 91؛ 17 : 34 و35؛ 26 : 181 ).

وليس من قرينة لفظية أو معنوية في آيات وفاة المسيح تعني الاستيفاء أو الوفاء؛ بل كل القرائن اللفظية والمعنوية فيها تعني وفاة الموت.

3) وبعضهم فسّر وفاة المسيح بمعنى النوم، إذ رفعه الله في حالة نوم إلى السماء، في سِنّة الكرى.

وقد رأينا أن الوفاة بالمعنى المجازي، أي النوم، أو المنام، لم ترد إلا في موضعين (الأنعام 60؛ الزمر 42) بقرينة لفظية تحولها من المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي، من أصل خمسة وعشرين موضعاً تعني كلها وفاة الموت، بالمعنى الحقيقي.

وما نقله البيضاوي وغيره: (( رُوي أنه رفع نائماً )) لا أصل له في الإنجيل ولا في القرآن.

فتفسير الوفاة بمعنى النوم في موت المسيح تهريج، لا تخريج. فالوفاة في لغة القرآن تعني الموت الحقيقي، كما تشهد به آيات القرآن كلها كما نقلناها.

وفي تفسير (( متوفيك )) في ( آل عمران 55 ) قال الرازي: (( متوفيك أي مميتك، وهو مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق؛ قالوا مع وهب: توّفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه )) . ونقل السيوطي في ( الإتقان 1 : 116 ): (( متوفيك: مميتك )) .

ومن جمْع آية النساء إلى آية آل عمران يتضح أن المسيح مات، ولم يشتبهوا في موته، ولم يمت أحد بدلاً عنه. وما نفي القتل والصلب في آية النساء إلا لإثباته في حقيقته، بحسب الأسلوب البياني كما سنرى: (( نفي الشيء لإيجابه )) .

الشبهة الثالثة: آية النساء نسخت سائر آيات وفاة المسيح

بسبب التعارض الظاهر في آية النساء مع سائر آيات القرآن عن موت المسيح لجأ بعضهم إلى مبدإ الناسخ والمنسوخ، فقالوا: إن آية النساء نسخت سائر آيات القرآن في وفاة المسيح.

وفات هؤلاء المتخرصون أن النسخ ـ إِن قبل كمبدإٍ في تفسير كلام الله ـ لا يقع إلاّ في الأحكام التشريعية، ولا يجري على الأخبار التاريخية. فما جرى قد جرى (( وكان أمر الله مفعولاً )) . فبعد أن تنبأ المسيح منذ مولده أنه سيموت وسيبعث حياً ( مريم 33 ) ، وأنه مات ورُفع إلى الله ( آل عمران 55 ) ، لا يصح أن تنسخ آية النساء: (( وما قتلوه وما صلبوه ... )) ( 156 ) خبر موته .

وهب أن آية النساء هذه تنسخ ما قبلها من خبر موت المسيح في سورة مريم وسورة آل عمران، فكيف تنسخ ما بعدها من سورة المائدة: (( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم: فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم )) ( 120) ؟ وأية المائدة حيث الوفاة عكس الحياة هي آخر ما نزل من القرآن في آخرة المسيح، هي تؤكد بصراحة موت المسيح قبل رفعه إلى السماء.

ففي مذهب هؤلاء ليس النسخ إِلاّ من باب المسْخ!

الشبهة الرابعة: آية النساء تنفي القتل والصلب، لا الموت

إنها تصرح: (( وما قتلوه وما صلبوه ... وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه )) (156).

نقول: كل التفاسير تذهب إلى أن المسيح لم يمت ـ مهما كان نوع موته ـ بل رُفع حياً إلى السماء. وليس من تفسير أو تعليم في الإسلام يقول بموت المسيح وبعثه ثم رفعه إلى السماء، مع أن هذا هو ظاهر آية مريم (33).

وهب أن ما يدعيه هؤلاء من موت المسيح ورفعه حيا إلى السماء هو موقف القرآن والإسلام: فهذا هو موقف المسيحية في الصميم، مهما كانت الكيفية؛ ولا خلاف إذن، بحسب هذا المذهب، بين الإسلام والمسيحية، في موت المسيح وقيامته ورفعه حيا إلى الله. فسواء مات المسيح ثم قام وارتفع إلى السماء؛ أو قُتل وصلب ثم رفُع إلى السماء حيا، فالحقيقة الجوهرية واحدة، والطريقة عرَضٌ، في منطق القرآن.

وإذا كان المسيح قد مات ثم قام وارتفع إلى السماء، فما قتله إلا استشهاداً يرفع من معنى موته؛ وقتل النبيين بغير حق، سُنّة عند اليهود، بحسب القرآن. فمن قال بموت المسيح قبل رفعه، يقول باستشهاده لأن الشهادة بالموت برهان الشهادة للحق، في دعوة الأنبياء؛ وهذا معنى قوله: (( ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً، بل أحياء عند ربهم يرزقون )) ( آل عمران 169 ).

الشبهة الخامسة: آية النساء تكذّب شبهة شائعة عن قتل المسيح.

يقول فريق من علماء المسلمين: لم يُقتل أحد بدل المسيح، بل هي إشاعة كاذبة أرجف بها اليهود وصدقها قومهم، فكذبها القرآن في آية النساء.

هذا القول ينقض قصة الشبه التي اختلقها الفريق الآخر.

والقول بأن المسيح لم يقتل ولم يمت، بل هي إِشاعة كاذبة أطلقها اليهود،

هو قول ينقض صريح القرآن الذي يؤكد موت المسيح قبل رفعه إلى السماء في آيات مريم وآل عمران والمائدة.

ولا تجوز فرية على شعوب مختلفة كالرومان واليهود والنصارى الذين يشهدون جميعهم بموت المسيح وقتله واستشهاده، وذلك مدة مئات السنين، حتى جاءت آية النساء تفتح فتحاً جديداً في التاريخ المتواتر، إذا ما فهمها القوم حسب ما يشتهون.

لكن فهم آية النساء حق فهمه يبدّد كل تلك الشبهات.

2ـ التفسير الصحيح لآية النساء في قتل المسيح

إن تعارض آية النساء مع سائر القرآن بشأن آخرة المسيح تحملنا على تدبّر ظاهرها، ليتضح باطنها، كما أمرنا القرآن: (( أفلا يتدبرون القرآن؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً )) ( النساء 81 قابل 47 : 28؛ 23 : 69؛ 38 : 29 ).

يزول التعارض بين آية النساء وسائر القرآن، إذا ما تدبرنا هذه الآية المتشابهة في أسلوبها اللغوي، والموضوعي، والبياني، والكلامي.

الأسلوب اللغوي يقوم على معنى (( شـبّه لهم )) أنهم قتلوه وصلبوه. فالتعبير (( شبّه لهم )) لا يعني، كما رأينا، أن المسيح أُلقي شبهه على غيره فقتل هذا الغير المشبوه. بل تعني كما قال الزمخشري، أفضل مَن فسر لغة القرآن وبيانه: (( خيّل إليهم )) أي توهموا أو وهموا أنهم قتلوه وصلبوه، فهو ميت لا حي؛ بل هو حي لأن الله رفعه إليه.

الأسلوب الموضوعي: ما هي غاية القرآن في هذه الآية؟ بما أن القرآن قبلها وبعدها يؤكد موت المسيح ثم رفعه حيا إلى السماء، فليس المقصود نفي القتل والصلب بل الرد على تبجّج اليهود به، وإفحامهم بتأكيد رفعه حيا إلى الله. قال البيضاوي: (( وإنما ذمهم الله تعالى بما دلّ عليه الكلام من جرأتهم على الله، وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات القاهرة، وتبجحهم به )) !

وما تشابه من قصد القرآن في آية النساء، يظهر في آية آل عمران: (( ومكروا (اليهود) ومكر الله، والله خير الماكرين: إذ قال الله يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة )) (54 ـ55 ). فقد مكر اليهود لقتل المسيح والقضاء عليه نهائياً قضاءً مبرماً، فكان مكر الله أكبر، إذ توفاه ثم رفعه إليه. ومن انسجام آية النساء وآية آل عمران في الموضوع الواحد، يظهر جلياً أن موضوع آية النساء ليس نفي القتل والصلب، بل الرد على مكرهم بمكر الله الذي إذ رفع المسيح حيا إلى السماء بعد قتله وصلبه، فوّت عليهم مكرهم وقتلهم له. فالمسيح حي خالد في السماء، مهما تبجّحوا بقتله وصلبه!

وسياق التعابير في آية النسـاء يؤيد ما نذهب إليه: (( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه )) : فاليهود أنفسهم مختلفون في القضاء النهائي على المسيح. (( ما لهم به من علم إلا اتباع الظن )) : فالذين منهم يؤكدون القضاء المبرم على المسيح انْ هم إلا يظنون، وبعض الظن إثم. (( وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه )) : فبرفع المسيح إلى الله، ما قتلوه يقيناً، ذلك القتل الذي يجعله معدوماً؛ بل هو حي عند الله، فكأنهم ما قتلوه وما صلبوه، وما تخلصوا منه. إنه حي يشهد بفشل مكرهم وقدرة الله وحكمته: (( وكان الله عزيزاً حكيماً )) برفع المسيح إليه بعد موته.

الأسلوب البياني على نوعين:

أسلوب المقابلة الصحيحة بين أمرين قابل الخصم بينهما خطأ، فيصدر أحدهما بأداة نفي، لا لنفي حقيقته، بل لإظهار فضل الآخر على الأول: فالقرآن يقابل بين قتل المسيح وصلبه، وبين رفعه حيا إلى الله، فيصدر القتل والصلب بشكل نفي، لإثبات فضل رفع المسيح على مكرهم بقتله وصلبه. يؤيد ذلك قوله: (( وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه )) .

وهذا أسلوب سامي، عبري، عربي متواتر في القرآن والكتاب. جاء في التوراة ( سفر التكوين 45 : 8 ): في خطاب يوسف لإخوته: (( ليس أنتم أرسلتموني إلى ههنا، بل الله )) . فهل ينكر يوسف أن إخوته قد باعوه إلى تجار عابرين؟ كلاّ، بل يقابل بين قصدهم وعملهم، وقصد الله وعمله، ليظهر فضل الله على عمل العبد. وفي الأنبياء قول هوشع (6 : 6): (( لا أريد ذبيحة، بل رحمة )) . فالله يفرض عليهم الذبيحة، فكيف لا يريدها؟ إنما يقابل بين الذبيحة وبين الرحمة، فتصدر الذبيحة بشكل نفي، والرحمة بشكل توكيد، لإظهار فضل الرحمة على الذبيحة.

هكذا يقابل القرآن بين تبجح اليهود بقتل المسيح وصلبه، وبين إيمانه برفع المسيح حيا إلى السماء، فيصدر تبجحهم بشكل نفي، وإيمان القرآن برفع المسيح حياً إلى الله بشكل توكيد، لإظهار فضل الله برفع المسيح على مكر اليهود بقتله وصلبه، لا لإنكار قتله وصلبه. وأسلوب المقابلة هذا يظهر من قوله: (( وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه )) .

وهناك أسلوب آخر: الإثبات في معرض النفي، كالمدح في معرض القدح، حيث ظاهر الكلام يكون قدحاً، وباطنه مدحاً، أو ظاهره نفياً، وباطنه إثباتاً.

وبما أن القرآن قبل آية النساء وبعدها يؤمن بموت المسيح ورفعه حيّاً إلى السماء، ففي رده على تبجح اليهود بقتل المسيح وصلبه، يرد القرآن عليهم بأسلوب النفي والإثبات، فيظهر نفي ما يقولون ليعلن فضل إيمانه برفع المسيح حياً إلى السماء؛ فيكون ظاهر الكلام نفياً، وباطنه إثباتاً: (( وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه )) ؛ فما قتلهم للمسيح قتلاً، بل استشهاداً لأن الله رفعه إليه. فالقرآن في آية النساء، انسجاماً مع القرآن كله، يثبت الموت بالقتل والصلب، في معرض النفي.

وهذا الأسلوب البياني يسمّي أيضاً: (( نفي الشيء لإيجابه )) .

الأسلوب الكلامي يفضح التعارض الذي يخلقه ظاهر آية النساء بين آي القرآن، وبين القرآن والإنجيل، وبين آية النساء والتاريخ العام.

آية واحدة من آي القرآن الست يظهر أنها تنفي ما يثبته آي القرآن كله عن آخرة المسيح، من أَنه مات ثم رفع حيّاً إلى السماء. فمن الخطل تفسير آي القرآن كله الصريح في موت المسيح ورفعه حياً، بآية متشابهة؛ ومن الخطإِ تفسير الكل بالجزء‍! فالمنطق يقتضي تفسير الجزء بالكل، وتفسير متشابه القرآن بمحكمه. وتفسير القوم آي القرآن في موت المسيح ورفعه على ضوء ظاهر آية النساء يخلق تفاسيرهم المتعارضة التي يظهر تهافتها على ضوء الواقع القرآني. وهذا الواقع يشهد بتعارض ظاهر آية النساء مع سائر آي القرآن في موت المسيح. فالأحرى التدقيق بباطن آية النساء على ضوء قرائنها وقرائن سائر الآيات لاتقاء التناقض في تفسير القرآن. وهذا ما فعلناه استناداً إلى الوقع القرآني كله.

إن الإنجيل بأحرفه الأربعة مبني على قتل المسيح وصلبه، وموته ورفعه إلى السماء: أفنخلق تعارضاً بين الإنجيل والقرآن، والمسيحية والإسلام، بتفسير مغرض لآية متشابهة يوضح معناها سائر آي القرآن؟ وبما أَن القرآن ينقل ذكر وفاة المسيح ورفعه، عن (( الذكر الحكيم )) في الإنجيل ( آل عمران 58 )؛

ويقول: (( هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي )) ( الأنبياء 21 )؛ ويحيلنا مراراً إلى أهل الذكر للتثبيت من صحة الذكر في القرآن: (( واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 53 قابل الأنبياء 7 )؛ فمن التجني على القرآن خلق التعارض بينه وبين الإنجيل، وهو منه براء: (( قل: كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومَن عنده علم الكتاب )) ( الرعد 45 ). وعلم الكتاب يؤكد قتل المسيح وصلبه، فموته ورفعه، والقرآن تصديق له وتفصيل.

وإن التاريخ العام الذي تمثله الوثنية الرومانية، واليهودية المجرمة في قتل المسيح، والمسيحية المؤمنة بقتله، مدة ستماية سنة ونيف قبل القرآن والإسلام، لا يطعن في تواتر شهادتها بالإجماع قول آية متشابهة في ظاهرها. يقول الرازي: (( فلو أنكرنا ذلك، كان طعناً فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسى وسائر الأنبياء )) . وهذا خبر لا يصح فيه نسخ؛ وخبر متواتر في التاريخ العام لا تنقضه آية متشابهة وتفسير لها مشبوه.

لهذا كله نرى أن التفسير الصحيح لتعليم القرآن في آخرة المسيح هو ما يقيم الانسجام بين آي القرآن، وبين الإنجيل والقرآن، والتاريخ العام والقرآن.

لهذا كله، بناء على الواقع القرآني نفسه، نقول إِن القرآن يعلـِّم تعليم الإنجيل في قتل المسيح وصلبه، فموته ورفعه.

وهذه هي القاعدة العاشرة في الحوار الإسلامي المسيحي.

بحث رابع

ميزات المسيح في القرآن

( القاعدة الحادية عشرة للحوار المسيحي الإسلامي )

ميزات المسيح في القرآن تنبع من سيرته ومن رسالته ومن شخصيته. والقرآن لا يعطي أحداً من الرسل، حتى محمداً (( خاتم النبيين )) شيئاً من ميزات المسيح التي ترفعه على العالمين والمرسلين أجمعين.

كتاب كامل لا يكفي لتعداد ميزات المسيح في القرآن؛ نكتفي منها بالميزات الظاهرة في نص القرآن، من دون مضمونه. وقد يكون في ما نذكره بعض الإعادة لما تقدّم، نردده لاستجماع الصورة التي تسمو على صور المخلوقين أجمعين.

أولاً: المولد من بتول اصطفاها الله على نساء العالمين

هذا ما يؤكده القرآن في سورة مريم (19 ـ20):

(( قالت: أَنى يكون لي غلام

ولم يمسسني بشر ولم أكُ بغيّاً!

(( قال: ( هو ) كذلك! قال ربك: هو عليَّ هين!

ولنجعله آية للناس، ورحمة منا، وكان أمراً مقضيّاً ))

ويردّد في آل عمران (47):

(( قالت: رب أنّى يكون لي

ولد، ولم يمسسني بشر !

(( قال: ( هو ) كذلك! الله يخلق ما يشاء!

إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن! فيكون ))

والقرآن يكفّر اليهود في كفرهم ببتولية مريم في مولد المسيح:

(( ويكفّرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً )) ( النساء 155 ).

وتلك ميزة انفرد بها المسيح على العالمين والمرسلين. قال البيضاوي في (البقرة 87): (( لم تضمه الأصلاب، ولا الأرحام الطوامث )) : وهذا لم يجرِ لبشر!

ثانياً: نطق المسيح عند مولده

يؤكد القرآن ذلك في سورة مريم (29 ـ30).

(( فأشـارت إلـيه ! قالـوا:

كيف نكلم من كان في المهد صبيّاً !!

قـال : إنـي عبد الله

آتاني الكتـاب وجعلني نبيّاً ))

ويردّده في سورة آل عمران (46):

(( يكلـّم الناس في المهد وكهلاً )) (46):

كما يكرّره في سورة المائدة (113):

(( تكلـِّم الناس في المهد وكهلاً ))

وهذا النطق الطبيعي منذ مولده ميزة انفرد بها المسيح على العالمين والمرسلين.

ثالثاً: نبؤة المسيح منذ مولده

في الكتاب والقرآن استنبأ الله الأنبياء رجالاً في سن الكهولة. وانفرد المسيح على الأنبياء والمرسلين أنه وُلد على الهدى وتنبأ منذ مولده:

(( قال: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) ( مريم 30 ).

(( ويكلـِّم الناس في المهد وكهلاً )) ( آل عمران 46 ).

والقرآن يجعل نطق المسيح المعجز منذ مولده، برهاناً على نطقه النبوي في المهد:

(( إذ قال الله : يا عيسى ابن مريم

اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك

إذ أيدتك بـروح القـدس

تكلم الناس في المهد وكهلاً ))

 

( المائدة 113 )

وميزة المسيح في هذه الميزة مزدوجة: تنبأ منذ مولده، وكانت نبؤته في المهد مثل نبؤته كهلاً، بدون تفاوت. قال الرازي أيضاً: (( من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين. وهذه خاصية شريفة حاصلة له، وما حصلت لأحد من الأنبياء قبله ولا بعده )) .

رابعاً: عصمة المسيح في سيرته، مثل عصمته في رسالته

يتوهم بعضهم أن العصمة في الرسالة تشمل العصمة في السيرة؛ وصريح القرآن ينقض هذا الوهم. فقبل رسالة محمد يُقال له: (( ألم نشرح لك صدرك

ووضعنا عنك وزرك الـذي أنقض ظهرك )) ( الشرح 1 ـ 3 ). وفي أوج رسـالته يقال له: (( إِنـّا فتحنا لك فتحاً مبيناً، ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر )) ( الفتح 1 ).

قال محمد عبد الله السمّان1: (( والذي لا مرية فيه أن محمداً كان بشراً ... بكل ما في هذه اللفظة من معنى، وبكل ما ينطبق عليها من سنن الكون وظروف الطبيعة؛ وُلد كما يولد البشر ... وعاش كما يعيش البشر ... ومات كما يموت البشر. لم يشذّ عن سنن الطبيعة، ولم يقدر له أن يمتاز عن مجريا أحوالها. وما امتاز به عن البشر قد انحصر في تكليف الله إياه مهمة الوحي، ليكون مبلغاً عن الله وداعياً إليه بإِذنه )) .

وفي تركيز القرآن على إعلان بشرية محمد دليل على أن عصمته في رسالته لم تعصمه في سيرته: (( قلْ: إنما أنا بشر مثلكم يُوحي إِليَّ أنما إلهكم إله واحد )) ( الكهف 111، فصّلت 6 )؛ (( قلْ: سبحان ربي هل كنت إِلاّ بشراً رسولاً )) ( الإسراء 93 ).

أما المسيح فكانت عصمته في سيرته مثل عصمته في رسالته:

فهو (( غلام زكي )) منذ مولده ( مريم 18 ) كان (( طاهراً من الذنوب، أَو نامياً على الخير، أَي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح )) ( البيضاوي )؛ (( وجعلني مباركاً أينما كنت )) ( مريم 30 )، وبركة الله الدائمة دليل العصمة في السـيرة. فهو في المهد وكهلاً (( من الصالحين )) ( آل عمران 46 ). لذلك اسـتحق سلام الله في سـيرته كلها منذ مـولده: (( والسلام عليَّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حيّاً )) ( مريم 30 ). وهذه النبؤة في سيرته كلها دليل عصمته في سيرته، كما في رسالته.

(1) محمد ... الرسول البشر ص 10 .

وبهذه العصمة في السيرة، كما في الرسالة، انفرد المسيح على المرسلين أجمعين.

خامساً: تأييد روح القدس للمسيح في سيرته وفي رسالته وفي شخصيته

لم يؤيد روح القدس أحداً من الرسل إِلاّ في التنزيل، لضمان عصمته؛ ولا يذكر القرآن لروح القدس جبريل من صلة بمحمد إِلاَّ في تنزيل القرآن: (( قلْ: نزّله روح القدس )) ( النحل 102 )، (( فإنه نزّله على قلبك )) ( البقرة 97 ).

فقد فضّل الله المسيح على الرسل أجمعين في سيرته بتأييد روح القدس له: (( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض: فمنهم من كلّم الله؛ ورفع بعضهم درجات؛ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 253 )، قال الجلالان: (( أيدناه: قويناه، بروح القدس، جبريل، يسير معه حيث سار )) .

وفضّل الله المسيح على الرسل أجمعين في رسالته بتأييد روح القدس له: (( ولقد آتينا موسى الكتاب، وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 ). قال الجلالان: (( قويناه بروح القدس أي الروح المقدسة، جبريل، لطهارته يسير معه حيث سار )) . وبما أن الكلام عن تنزيل الكتاب، فروح القدس يسير مع المسيح في رسالته كلها حيث سار بها. قال البيضاوي. (( بروح القدس: الروح المقدسة. أراد به جبريل؛ أو روح عيسى عليهما السلام، ووصفهما به لطهارته من مسّ الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى، ولذلك أضافها إلى نفسه تعالى ( والقدس هو الله )، أو لأنه لم تضمه الأصلاب، ولا الأرحام الطوامث؛ أو الإنجيل؛ أو اسم الله الأعظم الذي كان يُحيي به الموتى )) . فتأييد روح القدس للمسيح كان في سيرته كلها كما في رسالته كلها، لا في تنزيل الإنجيل وحده، كما عند جميع الرسل.

والتأييد في السيرة والرسالة أظهر في قوله: (( إِذ قال الله، يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك: إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلاً )) (المائدة 113). فذكر والدته معه يوحي بتأييد روح القدس للمسيح في سيرته؛ وذكر النطق النبوي في المهد وكهلاً يشير إلى تأييد روح القدس له في نبوته ورسالته. قال البيضاوي أيضاً: (( بروح القدس: بجبريل عليه السلام، أو بالكلام الذي يحيي به الدين أو النفس بحياة أبدية وتطهيره من الآثام. ويؤيده قوله: (( تكلم الناس في المهد وكهلاً: أي كائناً في المهد وكهلاً. والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على السواء. والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل )) .

وفضّل الله المسيح على الرسل بتأييد روح القدس له في شخصيته ذاتها. ففي المواضع الثلاثة ( البقرة 87 و253 المائدة 113 ) التعبير واحد؛ فإِذا جمعنا من كلام البيضاوي قولين: (( روح القدس: روح عيسى، والاسم الأعظم الذي كان به يحيي الموتى )) ، اتضح لنا أن الله أعطى عيسى في ذاته روحاً منه تعالى، صادرة منه كما قال في ( النساء 170 ): (( كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروح منه )) . ففي عيسى روح من الله ذاته، اسمه كلمة الله، يؤيد عيسى في شخصيته؛ كما قال ( على المفعول ): (( ونفخنا فيه من روحنا )) ( التحريم 12 ).

وهذه خاصية لم تحصل لأحد من العالمين والمرسلين أجمعين.

سادساً ـ ميزة رسالة المسيح على الرسالات كلها: (( بالبينات ))

كما انفردت رسالة المسيح على الرسالات كلها بتأييد روح القدس لها في جميع أحوالها، لا في تنزيلها فقط؛ انفردت رسالة المسيح على الرسالات جميعها بالبينات، وباستجماعها كما لم تجتمع لغيره.

قال: (( وآتينا عيسى ابن مريم البينات )) ( البقرة 87 ) أي (( المعجزات الواضحات كإِحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والإخبار بالمغيبات وإحياء الموتى )) . ( البيضاوي ).

كررها: (( وآتينا عيسى ابن مريم البينات )) ( البقرة 253 ). قال البيضاوي: (( خصه بالتعيين ... وجعل معجزاته سبب تفضيله ( على الرسل ) لأنها آيات واضحة ومعجزات عظيمة لم يستجمعها غيره )) .

قد يقولون: إِن محمداً جاء أيضاً بالبينات: (( من بعد ما جاءتكم البينات )) ( البقرة 219 )؛ (( من بعد ما جاءَتهم البينات )) ( البقرة 213 )؛ (( وجاءهم البينات )) ( آل عمران 86 )؛ (( لما جاءني البينات من ربي )) ( غافر 66 ) ...

وفاتهم أن بينات محمد ليست معجزات، بل آيات قرآنية: (( أنزلنا إليك آيات بينات )) (البقرة 99)؛ (( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات )) ( مريم 73 قابل 22 : 34 و72؛ 43 : 45؛ 24 : 24؛ 46 : 7 )؛ (( أنزلناه آيات بينات )) ( الحج 16 )؛ (( هو الذي ينزل على عبده آيات بينات )) ( الحديد 9 )؛ (( وقد أنزلنا آيات بينات )) ( المجادلة 5 ). فكلها بينات من (( الهدى والفرقان )) ( البقرة 185 ).

فالبينات أي المعجزات العظيمة التي تصل إلى الإحياء والخلق والتي (( لم يستجمعها غيره )) ( البيضاوي ) تميز بالتفضيل رسالة المسيح على الرسالات كلها.

سابعاً: رفع المسيح حيا إلى السماء من دون العالمين والمرسلين أجمعين

القرآن يؤكد مرتين رفع المسيح حياً إلى الله في السماء:

(( إِذ قال الله، يا عيسى ابن مريم إني متوفيك ورافعك إلي )) ( آل عمران 55 ).

(( وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه )) ( النساء 157 ).

وقد جمع الرازي موقف المفسرين فقال: (( ورفع عيسى عليه السلام إلى السماء ثابت بهذه الآية ( النساء 157 ). ونظير هذه الآية قوله في آل عمران: إني متوفيك ورافعك إلي )) .

فالمسيح وحده رُفع حيّاً إلى السماء، بينما العالمون أجمعون، والمرسلون أجمعون ينتظرون يوم يبعثون.

وهذه ميزة الميزات على المخلوقين أجمعين: المسيح يُرفع إلى الله تعالى نفسه، لا إلى السماء فقط.

ثامناً: المسيح وحده علـْم وعَلـَم للساعة من دون الرسل أجمعين

في حديث عن ضرب ابن مـريم مثلاً ( الزخرف 57 ـ 66 ) يقول فيه: (( وإنه لعِلـْمٍ ـ لعلـَمٌ ـ للساعة فلا تمترنّ بها )) ( الزخرف 61 ).

أجمعوا أن الضمير في ( إنه ) لعيسى ( البيضاوي )؛ (( وقيل: الضمير للقرآن فإن فيه الإعلام بالساعة والدلالة عليها )) ( البيضاوي ). إن المفسر الكبير يشير إلى القول الثاني، ولا يتبناه. وهو قول لا سند له في القرآن، فالضمير في الآيات كلها ( 58 و59 و61 و63 ) يعود إلى عيسى.

في سورة الزخرف نفسها ينفرد الله عن خلقه بأنه وحده عنده علـْم الساعة: (( تبارك الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما، وعنده علـْم الساعة، وإليه

تُرجعون )) (85). وهو الذي جعل المسيح ابن مريم (( عِلـْماً للساعة )) و (( عَلـَماً )) لها (61).

فعيسى (( علـْم للساعة )) ، ولا يعلم الساعة إلا الله وحده ( لقمان 24 )، وقد أشرك المسيح في غيبه وعلمه من دون المخلوقين. وهو (( عَلمٌ للساعة )) (( لأن حدوثه أو نزوله من أشراط الساعة يُعلم به دنوها )) ( البيضاوي ).

وفي رجوع المسيح في آخر الزمان رسولاً نبيّاً في علْم الساعة يكون المسيح، كما قال ابن العربي: ختم وختام النبوة، ختم وختام الملك؛ ختم وختام الولاية؛ فهو من الخواتم في اليوم الآخر.

بهاتين الميزتين، العلْم والختم، في قيام الساعة، يفضل القرآن المسيح على الرسل أجمعين، لأنه انفرد وحده من دونهم بهذا الدور الفريد.

تاسعاً: المسيح وحده مع الملائكة المقربين شـفيع في يوم الدين، لأنه (( من المقربين )) .

إِن القرآن، من دون الحديث، يحصر الشفاعة في يوم الدين بالله تعالى وحده: (( ولله الشفاعة جميعاً )) ( الزمر 44 )؛ وقد يأذن بها للملائكة المقربين ضمن حدود وقيود، كما رأينا.

وفي القرآن بحق محمد آيتان رأى بعضهم فيهما حق الشفاعة المحفوظ له: (( عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً )) ( الإسراء 79 )، (( وللآخرة خير لك من الأولى )) (الضحى 4). وقد رأينا أن القرائن اللفظية والمعنوية تدل على أن المقام المحمود هو في هذه الدنيا، في رسالة محمد التي ستكلل بالنجاح. وهب أن

الآيتين تعنيان الآخرة، فليس في مبناهما ولا في معناهما ما يدل على الشفاعة في يوم الدين، وهو يقول صريحاً: (( أفمن حق عليه كلمة العذاب، أفأنت تنقذ مَن في النار )) ( الزمر 19 ):

فاستعاضوا عن القرآن بالحديث. وهل يقوم حديث ضد صريح القرآن؟

أما المسيح فيذكر له القرآن شفاعة في يوم الدين تلميحاً في قوله: (( وجيهاً في الدنيا والآخرة، ومن المقربين )) ( آل عمران 45 ). فقد أجمع المفسرون أن الوجاهة في الدنيا هي النبوة، والوجاهة في الآخرة هي الشفاعة. ومَن كان وجيهاً عند ربه، لا يرد له شفاعة. وبما أن القرآن يجعل المسيح (( من المقربين )) أي الملائكة المقربين ( النساء 171 )، وقد حصر فيهم قبول الشفاعة المشروطة، فجمْع المسيح مع الملائكة المقربين، دليل على الشفاعة مثلهم. قال الرازي: (( وجيهاً: ذا جاه )) ، دليلاً على المكانة والشفاعة.

ويعطينا القرآن مشهداً صريحاً لشفاعة المسيح في يوم الدين: (( يوم يجمع الله الرسل )) يستجوب عيسى في تأليه أمته له بأسلوب استفهام إنكاري، فيرد التهمة بأدب جم، ويقول: (( إِنْ تعذبهم فإنهم عبادك، وإِن تغفر لهم فإِنك أنت العزيز الحكيم )) ( المائدة 121 )، فيطلب لهم الغفران، بلطيف البيان، وهذه هي الشفاعة، مثل الملائكة: (( يستغفرون لمن في الأرض )) (42 : 5).

فالمسيح وحده، مع الملائكة المقربين، شفيع في يوم الدين، من دون العالمين، والمرسلين أجمعين.

عاشراً: المسيح وحده (( وجيه في الآخرة، ومن المقربين ))

نعود إلى النص الذي يوجز ميزات المسيح في القرآن: (( إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهاً في

الدنيا والآخـرة، ومن المقربين، يكلم الناس في المهد وكهلاً ومن الصالحين )) ( آل عمران 45 ـ 46 ).

فالمسيح على الأرض (( من الصالحين )) ؛ وهو أيضاً كان ويكون وسيكون (( وجيهاً في الدنيا )) أي ( ذا جاه )) ( الجلالان، الرازي )؛ (( والوجاهة في الدنيا، النبوة والتقدم على الناس )) ( الرازي ). فالمسيح في الدنيا وجه الدنيا: لم يقل القرآن ذلك بحق أحد من العالمين والمرسلين.

والمسيح سيكون (( وجيهاً في الآخرة )) : (( بالشفاعة والدرجات العلا )) ( الجلالان )، (( الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة )) ( الزمخشري ). فالمسيح في الآخرة وجه الجنة: لم يقل القرآن ذلك بحق أحد من العالمين والمرسلين.

وهذه الوجاهة في الآخرة تجعله مع الملائكة (( المقربين )) فوق سائر الملائكة، والبشر أجمعين. قال البيضاوي: (( ومن المقربين من الله؛ وقيل إِشارة إلى علو درجته، أو رفعه إلى السماء ( وفي السماء ) وصحبته الملائكة )) المقربين، ويؤيده الزمخشري.

وإذا كان الله تعالى منذ هذه الدنيا قد (( رفعه إليه )) ( النساء 156 )، فوق المخلوقين، فكم بالأحرى في الآخرة، حيث يكون (( وجيهاً )) . فالرفعة إلى قرب الله والوجاهة أمامه تعالى، على المخلوقين أجمعين، تجعل المسيح في جنة الخلد وجْه الخلق إلى الأبد.

تلك هي بعض ميزات المسيح في القرآن، وهي لا تقاس بشيء تجاه ميزات شخصيته: مسيح الله، كلمة الله، روح الله.

تلك هي القاعدة الحادية عشرة للحوار المسيحي الإسلامي.

* * *

بحث خامس

شخصية المسيح في القرآن

( القاعدة الثانية عشرة في الحوار الإسلامي المسيحي )

المسيح في القرآن عبد لا رب، لكنه (( كلمتُه وروح منه )) تعالى، (( ومن المقربين )) : وفي هذه الازدواجية لغز المسيح في القرآن، وسر شخصيته.

نرى أولاً الواقع القرآني؛ ثم نحاول تحليله وتفسيره، بتمحيص أقوال المفسرين.

أولاً: المسيح، بحسب ظاهر القرآن، عبد لا رب

الواقع القرآني قائم على حقيقتين تحملان لغزاً وسرّاً في شخصية المسيح. الحقيقة الأولى أَن المسيح، بصفة كونه (( ابن مريم )) ، هو (( عبد الله )) . هذه هي الكلمة الأولى التي ينطق بها المسيح في القرآن. (( قال: إني عبد الله، آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً )) ( مريم 30 ).

وكلمة (( عبد الله )) في لغة الكتاب والقرآن تعني (( بشراً رسولاً )) .

وفي جدال القرآن لليهود يجعله عبداً وعلماً للساعة: (( إنْ هو إلاّ عبد أَنعمنا عليه، وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل ... وإِنه لعِلْم ـ لَعَلـَم ـ للساعة ))

( الزخرف 59 و61 ). فمهما علا دور المسيح في الخلق، فهو (( عبد )) ميّزه الله على الخلق، لا رب.

ولكن هذه العبودية لله لا تنفي أنه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170)، فالازدواجية ظاهرة في هذا التعريف الجامع: (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ... لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقربون )) ( النساء 171 ). فهو (( عبد الله ))، من (( الملائكة المقربين )) لأنه (( روح منه )) . هذا هو الحق القرآني، لذلك (( يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم، ولا تقولوا على الله إلاّ الحق )) ( النساء 170 ).

وانطلاقاً من هذا التعريف بالمسيح يعلن القرآن إِخلاصه للتوحيد الذي لا يقبل في الله ولادة ولا بنوة: (( قلْ هو الله أحد، الله الصمد، لم يلدْ ولم يُولد ولم يكن له كفوءاً أحد )) ( سورة الإخلاص ).

لا ولد من ذاته، ولا ولد له من خلقه: (( وقالوا: اتخذ الرحمان ولداً! ـ لقد جئتم شيئاً إدّا، تكاد السماوات يتفطرون منه، أو تنشق الأرض، وتخر الجبال هدّاً: أَنْ دعوا للرحمان ولداً! وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولداً: إِنْ كل ما في السماوات والأرض إلاّ آتى الرحمان عبداً )) ( مريم 88 ـ93 ). كل خلق الله عبد للرحمان.

إنها استحالة واقعية ومبدئية معاً! (( وقالوا: اتخذ الله ولداً! ـ سبحانه، بل له ما في السماوات والأرض كلٌ قانتون! بديع السماوات والأرض، وإذا قضى أمراً فإِنما يقول له: كن! فيكون )) ( البقرة 116 ـ 117 ).

وتقوم جدلية القرآن في استنكار البنوة منه وله تعالى على ثلاث نظريات:

نظرية (( الأخذ )) من خلقه: (( وقالوا: اتخذ الرحمان ولداً )) ( مريم 88 )؛ (( وقالوا: اتخذ الله ولداً )) ( البقرة 117 )؛ (( ذلك عيسى ابن مريم، قول الحق، الذي فيه يمترون: ما كان لله يتّخذ من ولد! سبحانه! )) ( مريم 34 ).

قال البيضاوي في تفسير آية البقرة (117): (( وقالوا: اتخذ الله ولداً ـ نزلت لما قالت اليهود: عزيز ابن الله! والنصارى: المسيح ابن الله! ومشركو العرب: الملائكة بنات الله. (سبحانه!) تنزيه له عن ذلك، فإِنه يقتضي التشبيه والحاجة وسرعة الفناء ... ( حجة أولى ). ( بل له ما في السماوات والأرض ): رد لما قالوه واستدلال على فساده. والمعنى إنه تعالى خالق ما في السماوات والأرض ( حجة ثانية ). ( كلٌ له قانتون ) منقادون لا يمتنعون على مشيئته وتكوينه؛ وكل ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكوّنه الواجب لذاته، فلا يكون له ولد، لأن من حق الولد أَن يجانس والده. أي كل ما فيها، ويجوز أن يُراد كل من جعلوه ولداً، له مطيعون مقرون بالعبودية ... والآية مشعرة على فساد ما قالوه من ثلاثة أوجه ( حجة ثالثة ). ( بديع السماوات والأرض ) أي مبدعهما، أو بديع سماواته وأرضه من بدع فهو بديع ( وهو حجة رابعة ). وتقريرها أن الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادته عنه، والله سبحانه وتعالى مبدع الأشياء كلها، فاعل على الإطلاق، منزه عن الانفعال، فلا يكون والداً. ( وإذا قضى أمراً ) أي أراد شيئاً، وأصل القضاء إتمام الشيء قولاً كقوله تعالى: (( وقضى ربك )) ؛ أو فعلاً كقوله تعالى: (( فقضاهن سبع سماوات )) . وأطلق على تعلق الإرادة الإلهية بوجود الشيء من حيث أنه يوجبه. ( فإنما يقوله له: كن! فيكون ): فيه تقرير لمعنى الإبداع، وإيماء إلى ( حجة خامسة )، وهو إنّ إيجاد الولد مما يكون بأطوار ومهلة، وفعله تعالى يستغني عن ذلك )) .

نقلنا هذا التعليق لبيان معنى استحالة الأخذ ولداً لله.

نظرية ضم (( جزء )) لله من خلقه. القول بابن لله تعالى معناه ضم جزء لله من خلقه: (( وجعلوا له من عباده جزءاً! إن الإنسان لكفور مبين )) ( الزخرف 15 ) فسـره البيضاوي: (( وجعلوا له من عباده ولداً ولعله سماه جزءاً، كما سمّى بعضاً لأنه بضعة من الوالد، دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته )) .

فالقول بالابن لله هو ضم جزء له من خلقه، وذلك ممتنع بين الخالق والمخلوق لأنه لا نسبة بينهما، ولا صلة كيانية.

نظرية البنوة الجسدية، والولادة التناسلية. وهذه هي النظرية السائدة لامتناع الابن أو الولد على الله: (( وجعلوا لله شركاء، الجن! ... وخلقهم! وخرقوا له بنين وبنات بغير علم! سبحانه وتعالى عما يصفون! بديع السماوات والأرض! أني يكون له ولد ولم تكن له صاحبة! وخلق كل شيء، وهو بكل شيء، وهو بكل شيء عليم )) ( الانعام 101 ).

فسره البيضاوي: (( أنى يكون له ولد: أَي من أين؟ أو كيف يكون له ولد؟ ( ولم تكن له صاحبة ) يكون منها الولد ... وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه: الأول من مبدعاته السماوات والأرضون، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرّأة عنها لاستمرارها وطول مدتها، فهو أولى بأن يتعالى عنها. والثاني أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة. والثالث أن الولد كفوء الوالد، ولا كفء له بوجهين: الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه؛ والثاني أنه لذاته عالم بكل المعلومات، ولا كذلك غيره، بالإجماع )) .

فلا يفهم القرآن ولا مفسروه البنوة إلا من ذكر وأنثى، فلا ولد إلا من (( صاحبة )) ، وتعالى الله عن الصاحبة والولد منها علواً كبيراً! فحتى الجن نفسها تعلن: (( وأنه تعالى جدُّ ربنا: ما اتخذ صاحبة ولا ولداً )) ( الجن 3 ). فسره

البيضاوي: (( تعالى جدُّ ربنا أي عظمته، من جدَّ فلان في عيني أَي عظم ملكه وسلطانه أو غناه. والمعنى: وصفه بالتعالى عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أَو لغناه، وقوله: ( ما اتخذ صاحبة ولا ولداً ) بيان لذلك،وقرِئ جَدّاً أو جِدّ بالكسر أَي صدق ربوبيته )) .

فاستحالة الأبوة والبنوة في الله قائمة على أنه تعالى ربنا عن الزوجة والصاحبة. فلا ولد أو ابن، في نظر القرآن، بدون صاحبة! فلا يفهم القرآن الولادة والبنوة في الله، أيّاً كانت، إلا بزوجة وزواج: فهي بنوة جسدية تناسلية.

تلك هي جدلية القرآن في نسبة البنوة إلى الله تعالى. ولا وجود لبنوة من هذا النوع، أو ما يشبهه، في الإنجيل والمسيحية، فهما إذ يقولان ببنوة في ذات الله، يجعلونها فوق الحسّ وفوق الروح وفوق المخلوق كله. إنها من ذات الله، في ذات الله، لصلة ذاتية في الله، كتسلسل النطق من الناطق في تفاعل الذات الإلهية: (( في البدء كان الكلمة، والكلمة كان في الله، والله كان الكلمة )) . فهي بنوة روحية نطقية ذاتية في ذات الله.

لذلك، بسبب جدلية القرآن في البنوة والولادة بالنسبة لله تعالى، فالمسيح، في نظره، عبد لا رب.

ثانياً: مع ذلك فعيسى ابن مريم هو أيضاً كلمة الله ومسيح الله وروح الله

جمع القرآن عقيدته في المسيح بهذا التعريف الشامل: (( يا أَهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا الحق: إنما المسيح، عيسى، ابن مريم، رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ... لن يستنكف المسيح

أن يكون عبداً لله )) ( النساء 170 ـ171 ) فالقرآن يعرّف بعيسى ابن مريم أنه مسيح الله وكلمة الله وروح الله ـ وإن كان رسول الله، وعبد الله.

1ـ عيسى ابن مريم هو أيضاً (( كلمة الله ألقاها إلى مريم )) .

القرآن يعرّف دائماً بالمسيح أنه كلمة الله: ملاك الله بشر به زكريا وهو يبشره بابنه يحيى: (( إن الله يبشرك بيحيى، مصدّقاً بكلمة من الله )) ( آل عمران 39 ).

والملائكة تبشر مريم أن مولودها المعجز هو كلمة الله: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح، عيسى، ابن مريم )) ( آل عمران 45 ).

ومريم (( صدّقت بكلمة ربها وكتابه )) ( التحريم 12 ) ـ على قراءة ثابتة.

ومحمد، النبي الأمي، (( يؤمن بالله وكلمته )) ( الأعراف 157 ) ـ على قراءة ثابتة.

والقرآن، في التعريف الشامل الكامل للمسيح، يعرّف به أنه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ).

فالقرآن يرادف بين ( كلمة الله ) وبين ( روح منه ): وبهذا الترادف يفسّر اللقبان بعضهما بعضاً، ويمنعان من تهوّر المفسرين.

فسره الجلالان: (( مصدقاً بكلمة كائنة من الله أي بعيسى أَنه روح الله. وسمي (كلمة) لأنه خُلِق بكلمة: كن )) ( آل عمران 39 ).

وفسّره البيضاوي: (( مصدقاً بكلمة من الله: أَي بعيسى، سمي بذلك لأنه وُجد بأمره تعالى دون أب، فشابه البدعيات التي هي عالم الأمر )) ( آل عمران 39 ).

وفسّره الرازي ( آل عمران 39 ): (( واختيار الجمهور أن المراد ( بكلمة من الله ) هو عيسى. وسمّي عيسى ( كلمة الله ) من وجوه: 1) إنه خلق بكلمة الله وهو قوله: كن! من غير واسطة الأب، كما يسمّى المخلوق خلقاً، وهو باب مشهور في اللغة. 2) إنه تكلّم في الطفولية، وآتاه الله الكتاب في زمن الطفولية، فكان في كونه متكلماً بالغاً مبلغاً عظيماً، فسمّي كلمة أي كاملاً في الكلام. 3) إن الكلمة، كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك عيسى كان يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية، كما سمّي القرآن روحاً ( الشورى 52؟ ). 4) لأنه حقّق كلمة بشـارة الأنبياء به كما قـال ( وحقت كلمة ربك ). 5) إن الإنسـان يسمّي (فضل الله) و (لطف الله)، فهكذا عيسى عليه السلام كان اسمه العلم: (( كلمة الله )) ... واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنّة: صفة قديمة قائمة بذاته )) .

وأضاف الرازي ( آل عمران 45 ): (( سمّي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله الخالقة له، بوجوده المعجز؛ أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان )) .

وفي ( النساء 170 ) يختار الرازي ما أجمع عليه القوم: (( المعنى أنه وجد بكلمة الله وأمره من غير وساطة ولا نطفة )) .

وعليه نقول: من البديهي أن الاسم دليل المسمّى؛ فلماذا سمّى القرآن، بعد الإنجيل، المسيح (( كلمة الله )) ؟

أمّا قولهم: (( سمّي ( كلمة ) لأنه خلق بكلمة: كن )) ( الجلالان )! (( لأنه وجد بأمره تعالى دون أب )) ( البيضاوي )؛ (( المعنى أنه وجد بكلمة الله وأمـره من غير واسطة ولا نطفة )) ( الرازي )، فينقضه مرادفة القرآن بين (( كلمة الله وروح منه )) في التعريف الشامل للمسيح ( النساء 170 ): فروح الله ليس مجرد أمرٍ: كن! بل هو ذات قائمة بذاتها. ثم إن آدم أولى بهذا الاسم لأنه وُجد

بكلمة الله بدون أَب ولا أم، والقرآن لا يطلق هذا الاسم على آدم، ولا على أحد من العالمين والمرسلين، إنما خصّ به المسيح وحده دليلاً على شخصيته.

وليس (( كلمة الله )) مجرّد اسـم، مثل (( فضل الله )) ، لأن القرآن يرادف به (( روح الله )) مبرهناً على معناه: إنه (( كلمة الله أَلقاها إلى مريم )) فهو (( روح الله )) قبل أن يلقى إلى مريم. فهو صفة ذاتية، لا مجرد اسم علم.

و (( كلمة الله )) اسم علم اصطلاحي، تفسيره باشتقاق لغوي يقصّر في معناه: فقول الرازي عن بعضهم: (( سمّي ( كلمة ) أي كاملاً في الكلام )) ، أو (( لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان )) وهو تفسير بياني يجسّم الإعجاز المطلق في المسيح واسمه، لكنه لا يعني اصطلاحه. وقول الرازي أيضاً عن بعضهم: (( إن الكلمة كما أنها تفيد المعاني والحقائق، كذلك كان عيسى يرشد إلى الحقائق والأسرار الإلهية )) فسمّي كلمة الله، هو تفسير كلامي يجعل الإعجاز المطلق بالتنزيل المسيحي في المسيح واسمه كلمة الله، لكنه لا يعني الاصطلاح الموروث. وقول الرازي أيضاً عن بعضهم: (( لأنه حقق كلمة بشارة الأنبياء به )) هو تفسير نبوي يجعل نبوة المسيح خاتمة النبوات ومعجزة الرسالات، لكنه لا يفسر اصطلاح اسم العلم الذي ورثه القرآن عن الإنجيل.

فالمسيح سمّي في الإنجيل (( كلمة الله )) ؛ وكان هذا الاسم محور العقيدة المسيحية حتى القرآن. فجاء القرآن وأخذ بالاصطلاح الموروث، كما يصرح في آخر خبر آل عمران، مريم ويحيى وعيسى ( آل عمران 33 ـ 58 ): (( ذلك نتلوه عليك مـن الآيات والذكر الحكيم )) (58).

والمعنى الوحيد الذي يعلقه القرآن على اسم (( كلمة الله )) موجود في تعريف القرآن: (( كلمته أَلقاها إلى مريم، وروح منه )) ( النساء 170 ). قال البيضاوي: (( ألقاها إلى مريم: أوصلها إليها وحصلها فيها. ( وروح منه ) أي ذو روح صدر

منه، لا يتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. وقيل: سمّي روحاً لأنه كان يحيي الأموات والقلوب )) . فكلمة الله هو روح صدر منه تعالى وألقاه الله إلى مريم؛ بهذا الروح كان كلمة الله يحيي الأموات والقلوب: فعمله دليل على ذاته. فذات كلمة الله هو روح صادر من الله كنطق الله في ذاته؛ وهذا ما ألجئ إليه الرازي بقوله: (( سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمة الله )) ، (( واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه، على قول أهل السنة: صفة قديمة قائمة بذاته )) . هذا هو التفسير الصحيح، لا تفسير سواه.

فمن ذات الله، نزل كلمة الله إلى مريم وحل في عيسى ابن مريم روحاً منه تعالى. فاللقبان: (( كلمة الله )) و (( روح الله )) يفسر بعضهما بعضاً. (( فهو (( روح منه )) تعالى، لا روح الله على النسبة فقط مثل الملائكة. وهذا (( الروح منه )) تعالى هو (( كلمته )) أي نطقه الذاتي، (( صفة قديمة قائمة بذاته )) .

2ـ عيسى ابن مريم هو أيضاً روح الله

إِن القرآن يصف عيسى ابن مريم إنه (( روح منه )) ( النساء 170 ) أي (( ذو روح صدر منه )) ( البيضاوي ).

ولغة الروح متشابهة في القرآن. فهو يطلق كلمة ( روح ) على الإنسان وعلى الملاك، وعلى (( الروح )) الذي فوق الملاك، وذلك على طريق المشاكلة، لا على طريق المقابلة.

معنى أول: روح الإنسان: (( ونفختُ فيه من روحي )) (الحجر 29 ص 72)، (( ونفخ فيه من روحه )) ( آلم السجدة 9 ).

معنى ثان: (( يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه، ولا تيئسوا من روح الله: إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) ( يوسف 87 ). روح الله هنا (( رحمته )) (الجلالان). قال البيضاوي: (( من رَوح الله ( بالفتح ) أي من فرجه وتنفيسه. وقرِئ: ( من روح الله ) بالضم أي من رحمته التي يحيي بها العباد )) . نقول: يريد ملاك الله الذي يهدي عباد الله.

(( وأولئك كتب الله في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه )) (المجادلة 22) أي (( بنور منه )) ( الجلالان )، (( بروح منه أي من عند الله، وهو نور القلب، أو القرآن، أو النصر على العدو، وقيل نور الإيمان فإنه سبب حياة القلب )) ( البيضاوي ). فالله يؤيد المؤمنين بروح منه، قد يكون نوراً، وقد يكون ملاكاً، وهذا هو الأصح.

معنى ثالث: الروح والقرآن

(( قل: نزَّله روح القدس )) ( النحل 102 ).

(( نزل به الروح الأمين )) ( الشعراء 193 ).

(( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا )) ( الشورى 52 ).

هنا الروح، والروح الأمين وروح القدس هو جبريل منزّل القرآن.

وقريب منه قوله: (( يلقي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده لينذر يوم التلاقِ )) ( المؤمن 15 )، فهو روح النبوة والوحي.

معنى رابع: الروح والملائكة

(( يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون )) في يوم الدين ( النبأ 38 ).

(( تنزَّلُ الملائكة والروح فيها ( ليلة القدر ) بإِذن ربهم من كل أمر )) ( القدر 4 ).

(( تعرُج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة )) ( المعارج 4 ).

(( ينزّل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن انذروا )) ( النحل 2 ).

هنا يجعل الروح في صلة مع الملائكة بمناسبة يوم الدين. ونلاحظ أنه بمناسبة الوحي والتنزيل (( ينزل الملائكة بالروح )) كأنه سيدهم بأمر الله.

فما معنى (( الروح )) في هذه الآيات التي تجمعه مع الملائكة؟

(( الروح )) معرّف، ومميّز عن الملائكة: فليس هو واحداً منهم، وإِن جُمع إليهم بالمعراج والتنزيل وتوزيع الأقدار. وقوله: (( ينزل الملائكة بالروح )) يدل على أنه سيدهم، والواسطة بين الله والملائكة.

فما هي هويته؟ لا يقول القرآن شيئاً.

معنى خامس: (( روح القدس )) ـ (( روح الله )) ، عيسى ـ (( من روحنا )) . هنا ثلاثة تعابير متقاربة، في صلة مع المسيح:

(( وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 و 253 ).

(( إذ أيدتك بروح القدس )) ( المائدة 113 ).

(( فنفخنا فيها من روحنا )) ( الأنبياء 91 ).

(( فنفخنا فيه من روحنا )) ( التحريم 12 ).

(( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 17 ).

ما معنى قوله: (( أيدناه بروح القدس )) ؟ فسره البيضاوي مستجمعاً أقوالهم: (( بروح القدس: بالروح المقدسة .. أراد به جبريل؛ أو روح عيسى عليهما السلام، ووصفها به لطهارته من مسّ الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى؛ ولذلك أضافها إلى نفسه تعالى؛ أو لأنه لم تضمه الأصلاب ولا الأرحام الطوامث؛ أو الإنجيل؛ أو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به الموتى )) .

أما قولهم (( روح القدس، جبريل )) فهو على المشاكلة مع جبريل، روح القدس الذي نزَّل القرآن على محمد. وهنا ليس المقصود التنزيل المخصوص في لغة القرآن بجبريل، بل التأييد الدائم للمسيح. فهو ليس جبريل هنا. وليس الإنجيل.

وروح القدس المؤيد للمسـيح على الدوام على نوعين: إما (( روح عيسى عليهما السلام )) : فروح القدس مقيم في عيسى، فهو تعبير آخر قريب من قوله (( كلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ؛ ففي عيسى روح من الله هو روح القدس، وهذا يجعل المسيح في صلة خاصة ذاتية مع الله نفسه. وإِما (( الاسم الأعظم الذي كان يحيي به الموتى )) ، وهنا روح القدس غير روح الله في المسيح، بل هو روح من الله، في الله، يتمتع مع الله بالاسم الأعظم.

فسواء كان روح القدس روح الله في المسيح، أو الروح، الاسم الأعظم، فهو روح تميزه نسبته إلى الله ـ والقدس هو الله ـ عن سائر الأرواح المخلوقة. فروح الله في المسيح، وروح القدس في الله يصدران من الله بالصدور لا بالخلق، كما يؤيده الترادف بين كلمة الله وروح من الله في آية ( النساء 170 ).

وما تسمية جبريل بروح القدس ( النحل 102 ) أو (( روحنا فتمثل لها بشراً سوياً )) (مريم 16)، إلا على سبيل المشاكلة.

وما معنى قوله: (( فنفخنا فيها ( فيه ) من روحنا )) ؟ فسره البيضاوي: (( فنفخنا فيها: بعيسى فيها أي أحييناه في جوفها؛ وقيل: فعلنا النفخ فيها؛ ( من روحنا ): من الروح الذي هو بأمرنا وحده، أو من جهة روحنا جبريل )) .

فقوله إذن (( من روحنا )) قد يكون على الفاعل، فيكون الروح النافخ هو جبريل؛ وقد يكون على المفعول، فيكون الروح المنفوخ في مريم.

والروح (( المنفوخ )) أو (( الملقى )) إلى مريم هو روح الله في عيسى.

أخيراً ما معنى قوله: (( كلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ( النساء 170 )؟

فسره البيضاوي: (( روح منه: ذو روح صدر منه تعالى، لا يتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. وقيل: سمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات والقلوب )) . فروح الله الذي ألقي إلى مريم في عيسى هو روح صدر منه تعالى مباشرة، ودليل مصدره الإلهي الذاتي أنه قادر مثل الله على إحياء الأموات والقلوب.

وفسره الرازي، مستجمعاً كل التفاسير: (( أما قوله ( روح منه ) ففيه وجوه: 1) إنه جرت عادة الناس أنهم إذا وصفوا شيئاً بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح! فلما كان عيسى لم يتكون من نطفة الأب، وإنما تكون من نفخة جبريل (؟) عليه السلام، لا جرم وصف بأنه روح. والمراد من قولهم ( منه ) التشريف والتفضيل.

2) إنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم. ومن كان كذلك وُصف بأنه روح.

3) روح منه: أي رحمة منه. فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم، لا جرم سُمي ( روحاً منه ).

4) إن الروح هو النفخ في كلام العرب، فإن الروح والريح متقاربان: فالروح عبارة عن نفخة جبريل؛ وقوله (( منه )) يعني أن ذلك النفخ من جبريل كان بأمر الله وإذنه فهو (منه)؛ وهذا كقوله ( فنفخنا فيها من روحنا ).

5) قوله: ( روح ): أدخل التنكير ليفيد التعظيم، فكان المعنى؛ روح من الأرواح الشريفة العلوية القدسية؛ وقوله ( منه ) إِضافة لذلك الروح إلى نفسه تعالى لأجل التشريف والتعظيم )) .

وعليه تقول: إن هذه الأقوال الثلاثة، الأول، روح الطهارة؛ الثالث، معنى الرحمة؛ الرابع، نفخة جبريل؛ كلها بعيدة عن نص القرآن، لأن روح الله الذي حل في عيسى اسمه كلمة الله، فليس نفخة، ولا رحمة، ولا طهارة؛ إنه ذات روحية صادرة من الله.

بقي المعنيان الآخران: إنه (( روح من الأرواح العلوية الشريفة القدسية )) ، (( سبب لحياة الخلق )) . هذا هو المسيح في القرآن. فالمسيح ليس فقط بشراً، بل فيه أيضاً روح سماوية قدسية اسمها كلمة الله. وهذا التعريف يجعل المسيح أعظم من بشـر، فهو (( روح الله )) حلَّ في المسيح.

ومَن يعتبر روح الله الذي حل في عيسى أحد الملائكة المقربين فإنه يجعل المسيح بشراً وملاكاً روحانيّاً نورانيّاً معاً. ومن يقول بتجسد ملاك من الله في عيسى، أليس الأولى به أن يقول بتجسد كلمة الله، الذي ألقاه إلى مريم، في عيسى؟ تلك هي الازدواجية في شخصية المسيح بحسب القرآن.

وهكذا يلتقي القرآن والإنجيل: (( والكلمة صار بشراً وسكن في ما بيننا )) بمريم (الإنجيل بحسب يوحنا 1 : 4). وتعبير الإنجيل هو تعبير القرآن (( كلمته ألقاها إلى مريم )) .

والقرآن إذ يجمع (( كلمة الله )) و (( روح الله )) في شخص المسيح، فإنه يفسّر اللقبين أَحدهما بالآخر؛ ويجمع في شخصية المسيح، فوق بشريته الكاملة من مريم (( روحاً صادراً من الله )) ذاته، اسمه كلمة الله.

فمسيح الله هو كلمة الله وروح من الله.

3ـ عيسى ابن مريم هو أيضاً مسيح الله

المسيح، لقب صار اسماً، كما بشرت به الملائكة:

(( إذ قالت الملائكة: يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه، اسمه المسيح، ( آل عمران 45 ). والقرآن يعرّف بعيسى ابن مريم أنه المسيح.

(( إنما المسيح، عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) (النساء 170).

والقرآن يتصديقه لعيسى ابن مريم أنه المسيح يشهد كما شهد الإنجيل بأن عيسى ابن مريم هو النبي الموعود في الكتاب، المسيح المعهود والمشهود.

فالتوراة تسميه (( النبي الآتي )) مثل موسى.

والزبور يدعوه: الرب والملك والكاهن. وداود في الزبور أول مَن يسميه المسيح.

والأنبياء يصفه كل واحد منهم بصفة. فالمسيح عند اشعيا، هو (( عمانوئيل )) أي بحسب حرفه العبري: (( الله معنا )) . ودانيال يرى في المسـيح (( ابن البشر ـ أو ابن الإنسان ـ آتيا على سحاب السماء )) ملك يوم الدين.

والإنجيل بتسمية يسوع (( المسيح )) شهد بأنه يحمل آمال الأنبياء.

والقرآن، إذ يصدّق لعيسى ابن مريم، اسم (( المسيح )) يشهد لما ورد عنه في الكتاب والإنجيل.

يقول القرآن: (( اسمه المسيح )) : فما معناه؟

قال البيضاوي ( آل عمران 45 ): (( المسيح لقبه. وهو من الألقاب المشرفة. وأصله بالعبرية (( مشيحا )) ومعناه المبارك. سمّي كذلك:

ـ لأنه مسح بالبركة.

ـ أو مُسِح بما طهره من الذنوب.

ـ أو مسح الأرض ولم يقم في موضع.

ـ أو مسحه جبريل صوناً له من مس الشيطان )) .

فمسحة الله التي جعلته المسيح كانت مسحة البركة، ومسحة العصمة من مس الشيطان عند مولده، ومن الذنوب في حياته. يمثل هذه المسحة الإلهية كان (( يمسح الأرض ولم يقم في موضع )) .

فاسم مسيح الله يجعله أسمى من البشر وأعلى من المخلوق.

وقال الرازي، مستجمعاً تفاسيرهم:

(( المسيح: هل هو اسم مشتق أو موضوع؟ ـ أَصله بالعبرية (( مشيحا )) فعربته العرب وغيّروا لفظه. وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق؛ والأكثرون أنه مشتق1 موضوع.

(1) قال الزمخشري: (( ومشتقهما ( المسيح، عيسى ) من المسح والعيس كالراقم في الماء )) . وقال البيضاوي: (( واشتقاقهما من المسح والعيس تكلـّف لا طائلة تحته )) . وكيف يكون مشتقاً موضوعاً وهو موروث عن العبرية ثم الأرامية ؟ والعربية أختهما.

ـ (( قال ابن عباس: إنه سمّي مسيحاً لأنه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلا برئ من مرضه.

ـ قال أحمد بن يحيى: لأنه كان يمسح الأرض، أي يقطعها في المدة القليلة.

ـ (( قال غيره: لأنه كان يمسح رأس اليتامى لله.

ـ لأنه مُسح من الأوزار والآثام.

ـ لأنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به الأنبياء، ولا يُمسح به غيرهم.

ـ لأنه مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون له ذلك صوناً من مس الشيطان.

ـ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن )) .

فقد سمّي (( المسيح )) بسبب مسحة العصمة من الخطيئة في مولده، وفي حياته من الأوزار والآثام: عصمة مبدئية وفعلية؛ وبسبب مسحة النبوة؛ وبسبب مسحة التبريك والتقديس للناس؛ وبسبب مسحة المعجزة؛ وبسبب مسحة أسمى من المخلوق تجعله يمسح الأرض في مدة قليلة.

تلك هي مسحة المسيح التي تميزه على العالمين والمرسلين أجمعين.

فعيسى ابن مريم هو إذن مسيح الله، وروح الله، وكلمة الله.

إذا استجمعنا تفاصيل القرآن في تلك الأسماء الحسنى للمسيح، مع تفاسير

العلماء المسلمين لمعانيها، تجلت لنا شخصية المسيح في سرّها الذي يسمو على بشريته كعيسى ابن مريم.

فالمسيح، بحسب ظاهر القرآن، بشر، هو عيسى ابن مريم.

والمسـيح، بحسب باطن القرآن، كما يبدو من أسـمائه الحسنى، أكثر من بشـر: إنه (( روح الله )) .

تلكما هما الناحيتان المتعارضتان في شخصية المسيح بحسب القرآن. والنتيجة الحاسمة المحتومة، لهذا الواقع القرآني، هي الازدواجية في شخصية المسيح.

وفي هذه الازدواجية القرآنية، سرّ المسيح في شخصيته.

ثالثاً: تلك الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح دليل سرها

الواقع القرآني، الذي لا مناص منه، أَن في شخصية المسيح ازدواجية:

فبحسب ظاهر القرآن إنَّ المسيح، عيسى ابن مريم، هو بشر، أي عبد لا رب.

ومع ذلك فهو أيضاً، بنص القرآن القاطع، وبالإجماع: (( روح الله )) . و (( روح الله )) يعني في أدنى معانيه أنه ملاك: فهل يكون المسيح بشراً وملاكاً معاً؟ أي ملاكاً متأنساً؟ هذا حرف القرآن.

على كل حال فالمسيح بشر، وأسمى من بشر معاً. وهذا برهان قاطع على الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح.

إنما المسيح، روح الله، أسمى من ملاك مخلوق:

لروح الله، بالنسبة للمسيح ثلاثة تعابير:

1) (( فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سويّاً )) ( مريم 16 )، يعني روح الله الذي بشر مريم بالمسيح، أي جبريل. وقوله (( روحنا )) إضافة للتشريف، لا للمصدرية. ولاحظ الفرق في التعبير بين (( روحنا )) للملاك، وبين (( روح منه )) للمسيح.

2) (( فنفخنا فيها من روحنا )) ( الأنبياء 91 )، (( فنفخنا فيه من روحنا )) ( التحريم 12 ). قد يكون التعبير على معنى الفاعل، فيعني قوله (( من روحنا )) الملاك النافخ، وهذا المعنى ينقضه قوله: (( ... إذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن! فيكون )) ( آل عمران 47 )؛ وقد يكون على معنى المفعول، فيعني قوله (( من روحنا )) الروح المنفوخة في عيسى، مثل الروح البشرية المنفوخة في آدم: (( ونفخت فيه من روحي )) ( الحجر 29 ص 72 )، (( ونفخ فيه من روحه )) ( آلم السجدة 9 ). لاحظ الفرق العظيم، بالنسبة للمسيح، بين التعبيرين: (( من روحنا )) و (( روح منه )) . ففي المسيح، عيسى ابن مريم، روح (( من روحنا )) ذاته، روح إلهية بصفته (( كلمة الله وروح منه )) تعبيران يفسر بعضهما بعضاً.

3) بقي التعبير الثالث (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ) في تحديد شخصية المسيح. وهو تعبير فريد، خاص بالمسيح وحده، لا مثيل له في القرآن كله. وقوله: (( روح منه )) يدل على المصدرية، كما فسره البيضاوي: أي (( صدر منه )) : وهذا الصدور يفسره الاسم الثاني المرادف له: (( كلمته )) . إِن المسيح (( روح من الله )) يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة. وهذا القيد والتخصيص يميز المسيح، (( روحاً منه )) تعالى بالصدور،عن كل روح من الله بالخلق والإبداع.

ولا يُرد عليه بقوله: (( إِن مثل عيسى عند الله، كمثل آدم: خلقه من تراب ثم قال له: كنْ! فيكون )) ( آل عمران 59 )، لأن التمثيل يقع على طريقة التكوين من التراب أو من مريم، لا على الذات نفسـها الملقاة من الله في عيسـى ابن مريم. لاحظ أيضـاً أنه هنا يذكر (( عيسى )) ابن مريم في صلته بمريم وولادته المعجزة منها، لا المسيح (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ، أي المسيح في صلته المصدرية بالله.

ويؤيـد معنى المصـدرية في (( روح منه )) تأييد المسـيح بروح القدس، في قـوله: (( وأيدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 و253؛ المائدة 113 ).

ولهذا التعبير (( وأيدناه بروح القدس )) معنيان في تفاسيرهم: فقد يعني روح المسيح القدوسة في تكوينه عند إلقائه إلى مريم؛ وقد يعني (( روح القدس )) المتميز عنه شخصياً، والمؤيد له، (( يسير معه حيث سار )) ، (( لا يفارقه ساعة )) ، وهو الاسم الأعظم الذي كان به المسيح يحيي الموتى ويخلق طيراً؛ والإحياء والخلق من صفات الله وأفعاله؛ فهو (( الروح )) المطلق ( الإسراء 85 )، لا جبريل.

وروح القدس الذي يؤيد المسيح، في كلا المعنيين، أسمى من المخلوق ـ ولا عبرة بتسمية جبريل (( روح القدس )) على طريقة المشاكلة، في التعبير، لا على طريقة المقابلة لأن (( روح القدس )) جبريل له صلة بمحمد في التنزيل، لا في (( التأييد )) المخصوص بالمسيح، في ذاته وسيرته.

فإِذا اعتبرنا (( أيدناه بروح القدس )) أنها روح المسيح (( الشريفة العالية القدسية )) (الرازي ـ النساء 170) التي تؤيد المسيح في ذاته وشخصيته، كان المسيح روح الله القدس، فهو أسمى من المخلوق.

وإذا اعتبرنا (( أيدناه بروح القدس )) أنها روح القدس،الذات القائمة بنفسها، والتي تؤيد المسيح في سيرته ورسالته، كان المسيح أيضاً أسمى من المخلوق.

وفي كلا الحالين تأييد المسيح بروح القدس يرفعه فوق المخلوق. قال الإمام ابن حنبل1 (( وهو أئمة السنة الأربعة: مَن قال إن روح القدس مخلوق بدعة أي ضلالة ))

ففي قوله: (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) يمتاز التعبير عن سائر التعابير القرآنية، ويحدّد ذات المسيح أنها (( روح منه )) تعالى أي صادر منه، لا عن طريق الخلق، بل على طريق الصدور، كما يدل عليه ترادف الاسـمين: (( كلمته وروح منه )) . فهو (( روح منه )) تعالى، يصدر منه صدور الكلمة من الذات الناطقة، في حديثها النفسي؛ وإذ لا حدوث في الله، فكلمته في ذاته غير محدثة؛ و (( روح منه )) غير محدث.

فكلمة الله هو روح من الله ـ لا مجرد أمر تكوين، بكلمة: (( كن )) .

و (( روح منه )) تعالى هو (( كلمة الله )) أي كلام الله في ذاته، بما أنه (( روح منه )) .

ترادف الاسـمين يفسر بعضهما بعضاً: كلمة الله هو (( روح منه )) ؛ وهذا (( الروح منه )) هو كلمة الله.

فالمسيح هو (( روح الله )) في ذاتـه، من ذات الله: فليس هو روح بشـر فقط؛ وليس (( روح الله )) روح ملاك فقط. إِنه (( روح منه )) تعالى أسمى من المخلوق، لأنه كلمة الله أي كلام الله الذاتي النفسي. قال الرازي: (( واعلم أن كلمة الله هي كلامه، وكلامه، على قول أهل السنة، صفة قديمة قائمة بذات الله )) ( على آل عمران 39 ).

فالمسيح في ذاته السامية من ذات الله: (( كلمته وروح منه )) .

(1) عن الأستاذ محمد كامل شعيب، في مجلة المسرة ص 181 عدد آذار سنة 1966.

إِن المسيح في ذاته السـامية (( روح منه )) تعالى، يصـدر منه صدوراً، كما تصدر (( الكلمة )) من الذات الناطقة في حديثها النفسي. وبما أن الذات الناطقة في (( كلمة الله )) هي الله نفسه؛ فالمسيح، كلمة الله، هو نطق الله في ذاته؛ (( فكلمته )) تعالى الذاتية: من ذاته، مثل ذاته، في ذاته.

فالمسيح، بحسب باطن القرآن، وأسمائه الحسنى في القرآن، هو أيضاً رب.

فالمسيح في القرآن عبد ورب معاً؛ أو بشر وملاك معاً.

هذه الازدواجية القرآنية في شخصية المسيح قائمة لا تُنقض.

فالمسيح بصفته عيسى ابن مريم بشر مخلوق؛ لكن المسيح بصفته (( كلمة الله وروح منه )) فهو فوق المخلوق، من ذات الله، في ذات الله، يصدر فيه روحاً منه، صدور كلمته من ذاته، في ذاته. وهذا أصحّ من كونه بشراً وملاكاً معاً.

هذه هي شخصية المسيح في ازدواجيتها القرآنية. وفي هذه الازدواجية سر شخصية المسيح، التي تحيّر العقول في القرآن.

ونلمس حيرة القرآن نفسه في قوله: (( ويسألونك عن الروح؟ ـ قلْ: الروح من أمر ربي! وما أُوتيتم من العلم إلا قليلاً )) ( الإسراء 85 ). فسره البيضاوي: (( الروح من أمر ربي: معناه من وحيه ... وقيل: ممّا استأثر الله يعلمه )) .

وقوله: (( وما أوتيتم من العلم إِلاّ قليلاً )) دليل على أن العلم (( بالروح )) في القرآن قليل. قال أحدهم: (( مضى محمد ولمّا يدرِ ما الروح )) !

لذلك ليس من الغريب التشابه والازدواجية في شخصية المسيح بحسب القرآن، سواء كان (( روح الله )) في عيسى ملاكاً، أو كلمة الله الذاتية.

والقاعـدة القرآنية في مثل هذه الحالة هي هذا الأمـر المكرر في القرآن، أولاً للنبي: (( فإِن كنت في شك بما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 )؛ وثانياً لأهل القرآن: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( الأنبياء 23 ـ 24 ).

فعلى أهل القرآن أن يسألوا أهل الإنجيل في معنى (( الروح )) وفي معنى (( روح القدس )) وفي معنى (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) كما وردت في الإنجيل؛ ما القرآن سوى تفصيل الكتاب )) ( يونس 36 ).

وعلى ضوء مقارنة القرآن بإِمامه (( الكتاب المنير )) تتجلى شخصية المسيح على حقيقتها في القرآن. فالعلم والهدى هما في (( الكتاب المنير )) الذي به يجادل النبي العربي بني قومه ( لقمان 20 الحج 8 )، وبالقرآن (( يعلمهم الكتاب والحكمة )) ( الجمعة 2 آل عمران 164 ) أي التوراة والإنجيل ( آل عمران 48 المائدة 113 ). فلنسأل أهل الذكر والكتاب المنير في معنى الكلمة، والروح، لأن العلم بهما في القرآن (( قليل )) ( الإسراء 85 ): فعيسى ابن مريم هو مسيح الله، وكلمة الله، وروح منه. بهذه الصفات الذاتية يرفعه القرآن حتماً فوق البشر؛ ويجعله في صلة ذاتية مع الله نفسه.

تلك هي شخصية المسيح في القرآن.

تلك هي القاعدة الثانية عشرة في الحوار الإسلامي المسيحي.

الفصل الرَّابع

التوحيد والتثليث ما بين الإنجيل والقرآن

بحث أول

: حرف التوحيد واحد في التوراة والإنجيل والقرآن

بحث ثانٍ

: التوحيد في الإنجيل والقرآن

بحث ثالث

: التثليث ما بين الإنجيل والقرآن

توطئة

الخلاف الأكبر

إِن الخلاف الأكبر، في الحوار بين الإسلام والمسيحية، يقوم على صلة التثليث المسيحي بالتوحيد الإسلامي.

يظن بعض أهل القرآن أن التثليث الذي ينكره القرآن هو التثليث الذي يعلمه الإنجيل والمسيحية.

ويقرأ المسيحيون القرآن فيتحققون أن التثليث الذي ينكره القرآن ليس بالتثليث الذي تدعو إليه المسيحية في الإنجيل.

فيقول بعض من أهل القرآن: إِن التوحيد الخالص في القرآن ينفي كل فكرة تثليث في الله.

ويرد أهل الإنجيل: إن التثليث المسيحي هو من صلب التوحيد المنزل، وإِنْ هو إلا كشف منزل لحياة الحي القيوم في ذاته.

ويقول أهل الإنجيل أيضاً: إِن القرآن الذي يعلَم التوحيد الخالص، وينكر تثليثاً لا يعرفه الإنجيل ولا المسيحية، يحوي في باطنه عناصر التثليث الصحيح الذي تقول به المسيحية في التوحيد الخالص.

هذا هو الخلاف الأكبر في الحوار الإسلامي المسيحي.

فما هو الواقع القرآني؟ وهل يحسم الخلاف الأكبر.

بحث أول

حرف التوحيد المنزل واحد في التوراة والإنجيل والقرآن

( القاعدة الأساسية في الحوار الإسلامي المسيحي )

لا يصح حوار بين متحاورين، ما لم يعودوا إلى قواعدهم راضين. ولا يقوم حوار صحيح إذا ما اختلفت قاعدة الحوار الأساسية.

وقاعدة الحوار الأساسية ما بين الإسلام والمسيحية هي في صحة التوحيد الخالص المنزل ما بين الإنجيل والقرآن.

وهل وعى أهل الإنجيل وأهل القرآن أن حرف التوحيد المنزل هو واحد في التوراة والإنجيل والقرآن؟

أولاً: حرف التوحيد في التوراة

في السفر الرابع من التوراة، سفر ( التثنية ) أي ( تجديد الشريعة ) يبلغ عرض التوحيد الخالص ذروته. وفي ( سفر التثنية ) نقرأ حرف التوحيد المنزل على موسى؛ وننقله بحسب حرفه العبراني الذي لا يؤدونه في الترجمات؛ والأصح أن نتركه على صيغته العبرية: (( يهوه أحد )) أي الله أَحد. قال:

(( اسمع، يا إسرائيل: الله ( يهوه ) إِلهنا هو الله أحد: فتحب الله إلهك بكل قلبك وكل نفسك، وكل قدرتك.

(( ولتكن هذه الكلمات التي أَنا آمرك بها اليوم في قلبك. وكرّرها على بينك )) وكلمهم بها إذا جلست في بيتك، وإذا سرت في طريقك! إذا نمت، وإذا قمت! وأعقدها علامة على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك! واكتبها على عضائض بيتك، وعلى أبوابك )) (6 : 4 ـ9).

فحرف التوحيد التوراتي هو: (( الله، إِلهنا، هو الله أحد )) (6 : 4).

وذهبت شهادة لهم في توحيدهم، وفاتحة في صلاتهم أبد الدهر.

وقد روّج الأنبياء وأصحاب الزبور صفة الله الكبرى في التوحيد التوراتي: الصمدانية؛ فوصفوا الله أنه (( يهوه صبئوت )) . والتعبير يعني حرفيّاً (( إِله الجنود )) الفلكية والملائكية؛ واصطلاحاً: الله الصمد ( قابل أشعيا 6 : 3؛ أرميا 5 : 14؛ مز 24 : 10؛ مز 89 : 9).

هذه هي عقيدة التوحيد الموسوية الكاملة: الله أحد، الله الصمد.

وكم من إسـرائيلي، في اضطهاد الأميين لدينه، كان يسـتشهد وهو يردّد: (( أَحد! أحد! )).

ثانياً: حرف التوحيد في الإنجيل

ظهر المسيح في بني إسرائيل، وصلى صلاتهم، وبدأ بدعوة التوحيد التوراتي. ثم أعلن صفة الله الكبرى: أبوته تعالى؛ وكان يسمى الله (( الآب الذي في السماوات )) ؛ وصرح تجاه الشريعة: (( لا تظنوا أني أتيت لأنسخ الشريعة والنبيين: ما أتيت لأنسخ، بل لأكمل )) (متى 5 : 17)، وأظهر في خطابه التأسيسي على الجبل أن هذا التكميل هو تطوير شريعة موسى الأساسية في

الوصايا العشر، من الظاهرية إلى الباطنية، ومن الحرفية إلى الروحية، ومن المادية إلى الصوفية.

وذات يوم سأله أحد علماء الشريعة: (( أيُّ وصية هي أولى الوصايا جميعاً؟ ـ قال يسوع: الأولى هي (( أسمع، يا إسرائيل: الله إلهنا هو الله أحد: فأحبب الله إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك وكل قدرتك. والثانية هي هذه: أحبب قريبك كنفسك. وليس من وصية أخرى أعظم من هاتين )) ( مرقس 12 : 28 ـ 31 ).

وأنت ترى أن يسوع أعلن التوحيد الإنجيلي بحرف التوراة نفسه، مستشهداً بفاتحة صلاتهم وشهادتهم في توحيدهم: (( الله إلهنا هو الله أحد )) ( مرقس 12 : 29 ). هذا هو التوحيد الإنجيلي بحرفه.

وطوّر محبة الله إلى محبة القريب أيضاً. هذا هو تفصيل الإنجيل وتصديقه للتوراة.

ثالثاً ـ حرف التوحيد في القرآن

إن القرآن يشرع للعرب دين إبراهيم وموسى وعيسى ( الشورى 13 )؛ وهذا الدين هو إسلام الكتاب والنبوة والحكمة، (( ما أًوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم )) ( آل عمران 83 ـ 85 )؛ (( هذا ذكر مَن معي وذكر مَن قبلي )) ( الأنبياء 21 ) لأن محمداً أُمر أن يقتدي بهدى الكتاب وأهله: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ... أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدهْ )) ( الأنعام 90 ).

لذلك جاء إسلام القرآن من إسلام الكتاب؛ وتوحيد القرآن هو التوحيد الكتابي نفسه.

فعند إعلان الإخلاص للتوحيد، جاء القرآن بحرف التوحيد الإنجيلي التوراتي نفسه:

(( قلْ: هو الله أحد، الله الصمد )) ( سورة الإخلاص ).

فسرها البيضاوي: (( الضمير للشأن ... وارتفاعه بالابتداء، وخبره الجملة ... ( أحد ) بدل أو خبر ثان ... ( الله الصمد ) السيد المصمود إليه في الحوائج، من ( صمد ) إذا قصد... وتعريفه لعلمهم بصمديته، بخلاف أحديته )) .

كيف يعرفون صمديته وهم يجهلون أحديته؟ إنهم يفسرون القرآن لغةً ويفوتهم أن القرآن ينتسب إلى الكتاب، ويجب تفسيره باصطلاح الكتاب.

لاحظ أن ( أحد ) لا يأتي عادة إلا في النفي؛ وفي الإثبات تقول العرب ( واحد ). ولماذا إظهار ضمير الشأن في ( هو الله أحد ) من دون ( الله الصمد )؟ ولماذا ( أحد ) نكرة؛ و ( الصمد ) معرفة؟

ليس من جواب قاطع في اللغة والبيان؛ إنما الجواب في نقل القرآن حرف التوحيد التوراتي الإنجيلي. فسرُّ ( هو ) ليس أنه ضمير الشأن؛ بل التعبير ترجمة حرفية لحرف التوحيد التوراتي: (( يهوه أحد )) . فترجمة (( يهوه )) هي حرفياً: (( هو الله )) . وإِذ نقل ( أحد ) بدل واحد، فقد نقل القرآن حرف التوحيد التوراتي بحرفه، فقال: (( هو الله أحد )) . ونرى أيضاً أن ( الصمد ) وإِن صحت عربيّاً، لا تستوى بياناً، إذ ما فضلها في إعلان التوحيد على سائر صفات الله؟ وهي لا ترد في القرآن كله إِلا في هذه الآية اليتيمة! فما اختارها إلا لتواترها عن أَهل الكتاب: (( يهوه أحد، يهوه صبئوت )) . فقام أهل الكتاب بنقل حرفي إلى العربية، وقال القرآن: (( هو الله أحد، الله الصمد )) .

وهكذا نرى أن حرف التنزيل في التوراة والإنجيل والقرآن واحد. فالمعبود المصمود المقصود واحد، والتوحيد فيه وله واحد.

هذا هو الجامع الجوهري بين أَهل الإنجيل وأهل القرآن.

وهذه هي القاعدة الأساسية في كل حوار إسلامي مسيحي.

بحث ثان

التوحيد المنزل واحد ما بين الإنجيل والقرآن

( القاعدة الثالثة عشرة في الحوار المسيحي الإسلامي )

بما أن حرف التوحيد واحد ما بين الإنجيل والقرآن، فالتوحيد نفسه واحد ما بين الإسلام والمسيحية.

يقول الإسلام في الشهادة: (( أشهد أن لا إله إلاّ الله )) .

وتقول المسيحية في الشهادة: (( أو من بإِله واحد )) .

فالمسلمون يتشهدون ويشهدون بصيغة النفي؛ والمسيحيون يتشهّدون ويشهدون بصيغة الإيجاب؛ والمعنى واحد ما بين النفي والإيجاب.

وقد رأينا في بحث سابق أن إسلام القرآن من إسلام الكتاب، وأن شهادة القرآن للتوحيد هي شهادة النصارى (( أولي العلم )) كما يسميهم في اصطلاح القرآن. فالنصارى يشهدون مع الله وملائكته: أَن لا إله إلا الله، وأن الدين عند الله هو هذا الإسلام:

(( شهد الله أَنه لا إله إلا هو! والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط ـ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ـ أن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ـ19 ).

وهذا الإسلام القرآني (( النصراني )) هو الدين عند الله، لا يقبل سواه، كما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: (( قل: آمنا بالله وما أُنزل علينا وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون. ومَن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 84 ـ85 ).

هذا هو إسلام عيسى وإسلام النصارى من بعده، بنص القرآن القاطع.

ولما تلا محمد قرآنه على النصـارى الوافدين عليه أجابوه بأنهم مسـلمون من قبله: (( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنا به، إنه الحق من ربنا، إِنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا، ويدرؤون بالحسنة السيئة، ومما رزقناهم ينفقون. وإذا سمعوا اللغو اعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم؛ سلام عليكم، لا نبتغي الجاهلين )) ( القصص 52 ـ 55 ).

قال الجلالان: (( نزلت في جماعة أسلموا من اليهود كعبد الله بن سلام، وغيره من النصارى قدموا من الحبشة والشام )) .

عبد الله بن سلام يهودي فرد أسلم، وبعده وبعد السورة كعب الأحبار؛ فلا يُخاطبان بصيغة الجمع. فالخطاب للنصارى. يدل عليه أن المخاطبين (( يدرؤون بالحسنة السيئة )) وهذه شرعة الإنجيل، بينما شرعة اليهود: العين بالعين، والسن بالسن ( المائدة 48 ). وقد يكون الخطاب لوفود من نصارى الحبشة والشام؛ لكن النصارى كانوا في مكة، ورئيسهم ورقة بن نوفل، عم السيدة خديجة، وهو الذي أزوجها محمداً. ولا تذكر السيرة وفداً إلى محمد في مكة.

فالنصارى يشهدون في القرآن بالإسلام والتوحيد، والقرآن يؤيد شهادتهم إذ ينقلها. فهم المسلمون، من قبل القرآن.

لذلك أمر محمد نفسه بأن يكون على إسلامهم: (( وأمرتُ أن أكون من المسلمين )) (النمل 90).

وأمرَ بأن يقتدي بهداهم: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة! .. أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده )) ( الأنعام 90 ).

وأمر بأن يكون معهم أمة واحدة تؤمن بالمسيح وأمه آية للعالمين: (( والتي أحصنت فرجها، فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين: إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدون )) ( الأنبياء 91 ـ92 ). فمن توحيد القرآن وإسلامه أَن يكون أمة واحدة مع المؤمنين بالمسيح وأمه آية للعالمين، لا مع سواهم من الكتابيين ( قابل المؤمنون 51 ـ53 ).

ولإيمان القرآن بتوحيد النصارى شرع هذا المبدأ العام: (( إِن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين1: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) ( البقرة 62 ). قالها في

(1) أتباع يوحنا المعمدان، يحيى بن زكريا.

أول العهد بالمدينة، وكررها في آخر العهد المدني: (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى: مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً، فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون )) (المائدة 72). إن صح ذلك من اليهود والصابئة، فكم بالأولى من النصارى أولي العلم الذين شهدوا مع الله وملائكته: (( أن الدين عند الله الإسلام )) ؟

وانتهى القرآن المكي بهذه الشِرعة: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إِلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ( كناية عن اليهود ) ـ وقولوا: آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 86 ). فالقرآن يشرع في حوار المسلمين مع النصارى التسليم معهم بأن التنزيل واحد، والإله واحد، والإسلام واحد.

وانتهى القرآن المدني بهذه الشهادة للنصارى: (( لتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأَنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع ممّا عرفوا من الحق، يقولون: ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق، ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين؟ فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء المحسنين )) ( المائدة 85 ـ 88 ). فالقرآن يشهد في آخر أمره بوحدة التوحيد بين النصارى والمسلمين. ويرجع الفضل في مودة النصارى للمسلمين إلى القسيسين والرهبان. ويعدهم بالجنة خالدين فيها لأنهم المحسنون.

والصورة التي ظلت عالقة بذهن النبي العربي هي مشهد النصارى ورهبانهم في قيام الليل للصلاة وتلاوة الكتاب، فرأى فيهم (( عباد الرحمان )) الذين جعلهم الله (( للمتقين إماماً )) (الفرقان 63)، فصورهم بهذه اللوحة الرائعة:

(( ليسوا سواءً: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون! يؤمنون بالله واليوم الآخر! ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر! ويسارعون في الخيرات! وأولئك من الصالحين! وما يفعلوه من خير فلن يُكفَروه! والله عليم بالمتقين )) ( آل عمران 113 ـ115 ). صلاة النصارى وسيرتهم هي القرآن كله. هذه هي شهادة القرآن لتوحيد النصارى المثالي: (( يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر )) . إنهم (( من الصالحين )) .

ثلاث صفات مترادفات (( للنصارى )) : إنهم أولو العلم المقسطون، المحسنون، الصالحون، في إيمانهم وتوحيدهم.

فالقرآن يشهد للنصارى بالتوحيد المثالي، مهما ندَّد (( بغلوّهم )) في الدين بشأن المسيح وأمه. فلا ينس أهل القرآن هذه الشهادة.

تلك هي القاعدة الثالثة عشرة في الحوار المسيحي الإسلامي.

بحث ثالث

الخلاف الأكبر: التثليث ما بين الإنجيل والقرآن

( القاعدة الرابعة عشرة في الحوار الإسلامي المسيحي )

إن المسلمين يتهمون المسيحيون في صحة توحيدهم، بسبب التثليث الذي فيه. والمسيحيون يستنكرون منهم هذه التهمة، وينكرون باطلها لأن التثليث الذي يكفّره القرآن ليس بالتثليث المسيحي الذي به يؤمنون.

ويعلن المسيحيون على رؤوس الإشهاد: لو أنَّ في التثليث المسيحي الذي به يدينون شبهة صحيحة على التوحيد الخالص، لأنكروا التثليث في سبيل التوحيد.

فأهل الإنجيل، في دستور إيمانهم، يشهدون بالإله الواحد الأحد، قبل الشهادة بأن الإله الواحد الأحد هو، في حياته الذاتية، الآب والابن والروح القدس، بلغة شعبية؛ أو الآب والكلمة والروح، بلغة كلامية.

وأهل القرآن يفهمون هذا التثليث المسيحي على ضوء الآية: (( أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) ؟ (المائدة 119)؛ وعلى نور قوله: (( ولا تقولوا: ثلاثة )) ( النساء 170 ).

هذا هو الخلاف الأكبر بين الإسلام والمسيحية.

فما هو الواقع القرآني؟ وهل هو التثليث المسيحي المتواتر؟ ومن جهة ثانية هل لهذا التثليث في التوحيد من أساس في القرآن نفسه؟

أولاً: التثليث الذي يكفّره القرآن

نورد النصوص القرآنية بحسب ترتيب النزول؛ ثم نفصل جدلية القرآن في تكفير التثليث الذي يذكر.

1ـ نصوص القرآن التي تكفّر القول (( بالثلاثة ))

1) من سورة النساء (170 ـ171):

(( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم، ولا تقولا على الله إلا الحق. إنما المسيح، عيسى، ابن مريم، رسول الله وكلمته أَلقاها إلى مريم وروح منه. فآمنوا بالله ورسله؛ ولا تقولوا: ثلاثة! اتنهوا، خيراً لكم. إنما الله إله واحد، سبحانه أن يكون له ولد: له ما في السماوات وما في الأرض؛ وكفى بالله وكيلاً. لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله، ولا الملائكة المقرّبون؛ ومَن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً. فأمَّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله؛ وأمَّا الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذاباً أليماً، ولا يجدون من دون الله وليّاً ولا نصيراً )) .

2) من سورة المائدة ـ خمسة نصوص:

(( لقد كفر الذين قالوا: إِن الله هو المسيح، ابن مريم! قلْ: فمن يملك من الله شيئاً، إن أراد أَن يهلك المسيح، ابن مريم، وأمه ومَن في الأرض جميعاً. ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما؛ يخلق ما يشاء؛ والله على كل شيء قدير )) (19).

(( لقد كفر الذين قالوا: إِن الله هو المسيح، ابن مريم! ـ وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم: إنه مَن يُشرك بالله، فقد حرَّم الله عليه الجنة! ومأواه النار! وما للظالمين من أنصار! )) (75).

(( لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة! وما من إِله إِلا إِله واحد؛ وإِن لم ينتهوا عمّا يقولون، ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم )) (76).

(( قلْ: يا أهل الكتاب، لا تغلوا في دينكم غير الحق، ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلـّوا من قبل، وأضلـّوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل )) (80).

(( وإِذ قال الله: يا عيسى، ابن مريم، أأنت قلت للناس اتّخذوني وأمي إِلهين من دون الله؟ قال: سبحانك، ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق؛ إن كنتُ قلتُه فقد علمتَه؛ تعلم ما في نفسي، ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علاَّم الغيوب )) (169).

3) من سورة التوبة ( براءة ) (30 ـ32):

(( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر؛ ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله؛ ولا يدينون دين الحق، من الذين أوتوا الكتاب حتى يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون )) .

(( وقالت اليهود: عزير ابن الله! وقالت النصارى: المسيح ابن الله! ذلك قولهم بأفواههم، يُضاهئون قول الذين كفروا من قبل! قاتلهم الله أنّى يؤفكون! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم. وما أُمروا إِلاّ ليعبدوا الله إلهاً واحداً، لا إإِله إلا هو، سبحانه عمّا يشركون)) .

تلك هي النصوص القرآنية في وصف التثليث الذي يكفره القرآن، وبالتالي في تكفير تأليه المسيح، ابن مريم.

كلمات ثلاث، متى جُمعت توضح معنى التثليث الذي يستنكره القرآن: (( ولا تقولوا: ثلاثة )) ( النساء 170 )؛ (( قالوا: إن الله ثالث ثلاثة )) ( المائدة 76 )؛ (( أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) ( المائدة 119 ).

فالحقيقة الأولى الصارخة إن التثليث في القرآن يعني ثلاثة آلهة: الله والمسيح وأمه. فالله تعالى بينهم (( ثالث ثلاثة )) ؛ والإلهان الآخران مع الله هما المسيح وأمه.

والمسيحية مدى أجيالها تصرخ قبل القرآن وبعده: هذا تثليث كافر لا نعرفه! وما دخل مريم أم المسيح في التثليث؟ إنها حكاية القرآن عن بعض جهَّال النصارى من عرب الجاهلية؛ وليست حكاية المسيحية العالمية على الإطلاق.

والحقيقة الثانية الصارخة في ذلك التثليث الكافر إن المسيح وأمه قد (( اتخذا )) إِلهين مع الله، فصاروا (( ثلاثة )) ( النساء 170 ). فالقضية القرآنية كلها في إلهية المسيح هي قصة (( اتخاذ )) أَي تأليه المسيح ـ ولا تذكر أمـه. فالمسـيح، ابن مريم، قد (( اتخذ )) إلهـاً، كما (( قالت اليهود: عزيز ابن الله )) ( التوبة 31 )؛ وكما (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) ( التوبة 31 ).

ومشهور توحيد اليهود الخالص وإسلامهم، كما يعاتبهم القرآن: (( ولا يأمركم أَن تتخذوا الملائكة والنبيّين أرباباً: أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) ( آل عمران 80 ). فقولهم ببنوة عزيز وبعض أحبارهم من الله، إنما هو على

سبيل المجاز، لا على الحقيقة. وكذلك قول النصارى في بعض رهبانهم القديسين: فكل مؤمن صادق هو عندهم ابن الله على المجاز، لا على الحقيقة والطبيعة.

فلا تقاس بنوة المسيح الحقيقية، من حيث هو (( كلمته وروح منه )) ، بالبنوة المجازية المنسوبة مجازاً لأولياء الله. وعدم التفريق بين البنوة الحقيقية النطقية الروحية في ذات الله، والبنوة المجازية في المخلوق للخالق، كان سبب تكفير بنوة المسيح مثل بنوة عزير ( التوبة 31 ). وشتان ما بين الحقيقة والمجاز!

وبسبب قياس البنوة الحقيقية على البنوة المجازية، يرى القرآن في المسيح، من حيث هو (( عيسى ابن مريم )) ، تأليه بشر مع الله كما (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) .

ففي ظاهر القرآن، قضية المسيح قضية تأليه مخلوق، عيسى ابن مريم، مع الخالق.

لكن في نظر الإنجيل، قضية المسيح قضية إِلهية (( كلمته وروح منه )) قبل أن يُلقى إلى مريم من ذات الله ـ بلا تجزؤ ولا انفصال ـ وبعد تجسّده منها.

وليس من تعارض بين الموقفين، لاختلاف وجهات النظر، كما يظهر من جدلية القرآن.

2ـ جدلية القرآن في تكفير المقالة (( بالثلاثة ))

للقرآن خمس نظريات لتكفير القول (( بالثلاثة )) وببنوة المسيح من الله تعالى.

نظرية أولى في تكفير هذين التأليه والتثليث هي نظرية (( الاتخاذ )) . (( ذلك عيسى، ابن مريم، قول الحق، الذي فيه يمترون: ما كان لله أن يتخذ من ولد! سبحانه! )) ( مريم 34). لذلك يثور القرآن على هذا الاتخاذ والتأليه الكافر: (( وقالوا: اتخذ الرحمان ولداً! ـ لقد جئتم شيئاً إدّاً، تكاد السماوات يتفطـّرون منه، وتنشق الأرض، وتخرّ الجبال هدّا؛ أنْ دعوا للرحمان ولداً! وما ينبغي للرحمان أن يتّخذ ولداً: إنْ كلّ ما في السماوات والأرض إِلا آتى الرحمان عبداً )) ( مريم 88 ـ93 ).

فالاتخاذ فالتأليه مستحيل على الخالق والمخلوق جميعاً: لا يصير العبد ربّاً معبوداً، ولا الرب المعبود عبداً مسـوداً. هذا قول الفطرة والبديهة: (( فأنى يؤفكون )) ( التوبة 31 )! (( وسبحانه عمّا يشركون )) ( التوبة 32 ).

والمسيحيون جميعاً يقولون: إن (( الأخذ )) أو (( الاتخاذ )) أو التأليه إفك وشرك وكفر! ولكن في عقيدتهم ليس ذلك شأن المسيح، فهو (( كلمته ألقاها إلى مريم )) ، لا اتخاذ ابن مريم ولداً له.

نظرية ثانية أن نسبة بنوة إلى الله ضم (( جزء )) إلى الله من خلقه: (( وجعلوا له من عباده جزءاً: إن الإنسان لكفور مبين )) ( الزخرف 15 ). وأية نسبة بين الخالق والمخلوق، حتى يضموا (( جزءاً )) من المخلوق إلى الخالق! يستحيل ذلك فطرة وعقلا: (( وقالوا: اتخذ الله ولداً! سبحانه، بل له ما في السماوات والأرض، كلّ له قانتون! بديع السماوات والأرض، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له: كن! فيكون )) ( البقرة 117 ). فبراهين الاستحالة الفطرية والعقلية ظاهرة حاسمة: (( له ما في السماوات والأرض )) أي مُلكاً مملوكاً، والمملوك لا يملك مع المالك؛ (( كلٌ له قانتون )) أي منقادون بالطاعة والعبودية، فلا يصير العبد ربّاً؛ والله (( بديع السماوات والأرض )) أي بدعها وخلقها، والمخلوق لا يصير خالقاً؛ أو أنه تعالى بديع منها لا يجانس معها حتى تصير بضعة

منه أو جزءاً ينضم إليه. أخيراً كل الكائنات خلقه، كانت بأمره الخلاق، (( يقول: كن! فيكون )) ( عن تفسير البيضاوي ).

فنظرية ضم (( جزء )) إلى الله من خلقه إفك وشرك وكفر، يقول المسيحيون جميعاً. ولكن في عقيدتهم ليس ذلك شأن المسيح. والقرآن يقول فيه إنه (( كلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) : فهو إِلقاء من الله، لا ضم جزء من العبد إليه تعالى.

نظرية ثالثة أن الولد أو الابن لا يكون إلا بولادة من ذكر وأنثى. وهنا الطامة الكبرى. يقول القرآن: (( أنى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة )) ؟ ( الأنعام 102 ). أيها الناس ليس لله (( صاحبة )) حتى يستولدها، ويكون له منها ولد !؟ وقد أحسن البيضاوي في تأويل فكر القرآن: (( إِن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين، والله تعالى منزه عن المجانسة )) . فليس لله من صاحبة يستولدها ـ ربّاه عفوك ـ وأي صاحبة من خلقه تجانسه تعالى حتى يكون له منها ولد؟!

فالجن أنفسهم يشهدون: (( أنه تعالى جدّ ربنا: ما اتخذ صاحبة ولا ولداً )) ( الجن 3 ). فاستحالة الولد لله تعالى واقعية: (( ما اتخذ صاحبة ولا ولداً! ومبدئية: (( أنى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة )) ؟

هذه هي ذروة فلسفة القرآن في استحالة الولد على الله، فإنه لا (( صاحبة )) له، ولا يمكن أن تكون له صاحبة. والولد لله لا يكون إلا (( بصاحبة )) . فالولادة، في الله، لا تكون إِلا جسدية تناسلية. أما الأبوة والبنوة الروحية النطقية فلا ذكر لها في القرآن، كما هو الحال في الإنجيل بالنسبة للمسيح من حيث هو (( كلمة الله وروح منه )) ، لا من حيث هو (( عيسى، ابن مريم )) . فالثنائية في شخصية المسيح من حيث هو (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ومن حيث هو (( عيسى ابن مريم )) تسمو على الولادة التناسلية.

نظرية رابعة: (( كانا يأكلان الطعام )) .

استحالة الإلوهية على المسيح وأمه ظاهرة من بشريتها، كما ينص القرآن: (( ما المسيح ابن مريم إِلا رسول قد خلت من قبله الرسل. وأمه صديقة. كانا يأكلان الطعام! انظر كيف نبيّن لهم الآيات، وانظر أنى يؤفكون )) ( المائدة 78 ). فمن يأكل الطعام كالحيوان كيف يكون إِلهاً؟ والمسيح وأمه (( يفتقران إليه افتقار الحيوانات )) ( البيضاوي ). وأي شيء أدل على البشرية الصحيحة الوضيعة مثل الحاجة إلى الطعام وما ينشأ عنه؟! هذا برهان قاطع باللامعقول.

والمسيحيون يقرون ذلك بالنسبة لأم يسوع. ويقرون ذلك أيضاً بالنسبة للمسيح نفسه من حيث هو (( ابن مريم )) ؛ لكن من حيث هو (( كلمة الله وروح منه )) فليس فقط بشراً ليصح فيه ذلك البرهان البشري المحسوس. فالمسيح الذي هو (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) يأكل الطعام بحسب بشريته! لكن بشريته لا تمنع أنه (( كلمته وروح منه )) أسمى من البشرية والطعام. هكذا يجب أن (( نتدبر القرآن )) كما أمرنا ( النساء 82 ).

نظرية خامسة: عجز المخلوق عن الضر والنفع. يقول: (( ما المسيح ابن مريم إلا رسول ... وأمه صديقة ... قلْ: أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرّا ولا نفعاً؟ ( المائدة 78 ـ79 ). فسره البيضاوي: (( يعني أن عيسى وإن ملك ذلك بتمليك الله إِياه، لا يملكه من ذاته؛ ولا يملك ما يضر الله تعالى به من البلايا والمصائب، وما ينفع به من الصحة والسعة. وإنما قال ( ما ) نظراً إلى ما هو عليه في ذاته، توطئة لنفي القدرة عنه رأساً، وتنبهاً على أنه من هذا الجنس: ومن كان له حقيقة تقبل المجانسة والمشاركة فمُعْزَل عن الإلوهية )) .

هنا أيضاً يجب أن (( نتدبر القرآن )) . والجواب في ثنائية الشخصية في المسيح بحسب القرآن. فالمسيح من حيث هو (( ابن مريم )) لا يملك من ذاته ضرّاً ولا

نفعاً؛ ولكن من حيث هو (( كلمة الله وروح منه )) فهو يملك الضر والنفع من ذاته، لذلك يُسند إليه القرآن أعمال الله من خلق وإِحياء، وإِن قيدها بقوله (( بإذني )) ، استناداً إلى وحدة الله وكلمته: فكلمة الله أو كلام الله فعال بذاته لما يريد.

تلك هي جدلية القرآن ونظرياته الخمس في تكفير المقالة (( بالثلاثة )) . وهذه الجدلية تهدم تثليثاً ليس بالتثليث المسيحي على الإطلاق.

3ـ موقف القرآن الحاسم من النصارى: (( لا تغلوا في دينكم )) .

لتلك الحجج الخمس، يدعو القرآن النصارى على العموم إلى الكف عن (( الغلو )) في دينهم ( النساء 80 ) بشأن المسيح وأمه، في نظرية جامعة تُظهر موقف القرآن منهم. فالملاحظة الظاهرة الواجبة أن القرآن لا يكفّر النصارى جملة، بل إنما هو يكفّر بالتفصيل ثلاث مقالات لبعضهم ـ وهي مقالات كافرة في نظر المسيحية!

المقالة الأولى: (( لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح، ابن مريم )) ( المائدة 19 و75 ). فسره الجلالان: (( هم اليعقوبية، فرقة من النصارى )) . وقال البيضاوي: (( شرع ههنا في الكلام مع النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالوا: (إن الله هو المسيح ابن مريم). وهذا هو قول اليعقوبية )) .

ويعلم الجميع أن اليعقوبية تمثّل رأياً ضئيلاً جداً في المسيحية العالمية. وقد حكمت المسيحية الرسمية في المجمع المسكوني الرابع عام 451 بأن مقالة اليعقوبية بدعة وحرمتها.

وهذه المقالة هي سبب الخصومة الأكبر في تكفير القرآن فالمتكلمين من

بعده. ولو عرفوا أنها منكرة مستنكرة في المسيحية لما استرسلوا في تكفير التثليث الصحيح. لكن المقالة كانت سائدة في شمال الجزيرة العربية حين الدعوة القرآنية، ولم تزل سائدة بمصر حيث جامعة الأزهر، حصن القرآن. ومقالة اليعقوبية ساقطة في المسيحية من قبل القرآن، فما كان لهم أن يأخذوا بها، ويبنوا عليها فهمهم لصحة المسيحية والإنجيل.

المقالة الثانية: (( لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة )) ( المائدة 76 ). نقل الرازي إجماع المفسرين بقوله: (( وهو أنهم أرادوا بذلك أن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة؛ وأن الذي يؤكد ذلك قوله: ( أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )؟ ( المائدة 119 ). فقوله ( ثالث ثلاثة ) أي أحد ثلاثة آلهة، أو واحد من ثلاثة آلهة. والدليل أنه المراد قوله في الرد عليهم: وما من إله إلا واحد )) .

كانت المقالة الأولى كلامية من سوريا؛ وهذه المقالة الثانية شعبية من زمن الجاهلية في الجزيرة العربية. وتاريخ المسيحية أجمع، خارج الجزيرة العربية، يشهد ببطلانها واستهزاء المسيحيين بها مدى أجيالهم. وكان على علماء المسلمين أن يردّوها إلى أصلها العربي الجاهلي فلا يظلمون بها المسيحيين، وهم أنفسهم يظلمون. فلم يقل أحد من المسيحيين بأن أم المسيح (( ثالث ثلاثة )) في الأقانيم الإلهية الثلاثة في الإله الواحد الأحد: الله والكلمة والروح. فتلك المقالة افتراء محض على المسيحية. كانت في القرآن حكاية مقالة جاهلة جاهلية؛ فاعتمدها الناس تهمة شائعة بحق المسيحية جمعاء، وهاذان هما الجهل والظلم بعينهما.

المقالة الثالثة توضح مضمون المقالة الثانية. أشار إليها في ( المائدة 78 )، وأوضحها في ( المائدة 119 ): (( أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) ؟

ويظهر الرازي فساد اتخاذ المسيح وأمه (( إلهين من دون الله )) بقوله:

(( المقصود من ذلك الاستدلال على فساد قول النصارى من وجوه: 1) إن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن؛ وكل من كان كذلك كان مخلوقاً، لا إلهاً. 2) إنهما كانا محتاجين لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أشد الحاجة: والإله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء: فكيف يعقل أن يكون إلهاً )) ؟

هذا الاستدلالان ـ وغيرهما كثير ـ على فساد قول النصارى يصحان لو صحت حكاية القرآن عن بعض نصارى الجاهلية العربية في المسيحية من قبله ومن بعده، كما في المقالتين الثانية والثالثة. وجميع العارفين يشهدون بأنهما لا تصحان على المسيحية في تاريخها كله. ومن ينسبهما إلى المسيحية يشهد على نفسه بجهله وظلمه. فأم المسيح ليست من التثليث المسيحي بشيء! وليس المسيح نفسه (( ثالث ثلاثة )) من حيث هو (( عيسى ابن مريم )) ؛ بل من حيث هو (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) . فهو (( كلمته وروح منه )) قبل أن يُلقى إلى مريم. فهو (( كلمته وروح منه )) قبل الولادة من مريم، وفي الولادة، وبعد الولادة، لذلك لا يصح الاستنتاج العام فيه: (( إن كل من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن )) . لأن مريم أعطت بشرية (( لكلمة الله وروح منه )) الذي كان قبلها وقد (( ألقي إليها )) . وهذه البشرية هي التي تحتاج إلى الطعام في (( عيسى ابن مريم )) لا (( كلمة الله وروح منه )) الملقى إليها.

ففي تعريف القرآن بالمسيح: (( إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ـ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ) ثنائية في شخصيته فاتتهم، وهي تفسر كل المشاكل والمسائل.

فتلك المقالات الثلاث تفسّر أن القول (( بالثلاثة )) يعني (( ثلاثة آلهة )) . وهذا هو الكفر بعينه. لكن المسيحية يراء منه على الإطلاق. نلاحظ أن القرآن يكفر القول (( بالثلاثة )) ؛ لا بتثليث في التوحيد. ويعلن بصراحة أنها

مقالات بعض النصارى (( الذين كفروا منهم )) ( المائدة 76 )، وأنها (( أَهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً، وضلوا عن سواء السبيل )) ( المائدة 80 ).

فليست المقالات الثلاث في (( الثلاثة )) التي يكفرها القرآن ـ وقد كفّرتها المسيحية من قبله فحكى تكفيرها بدوره ـ عقيدة المسيحية على الإطلاق؛ إنما هي مقالات بعض المبتدعة المنحرفة منهم. وقد زالوا من الوجود مع مقالاتهم. والشبهة الضاغطة على التفكير الإسلامي كله ان مقالة اليعقوبية هي السائدة في مصر، حول جامعة الأزهر. وفاتهم أن مقالة اليعقوبية قد كفّرتها المسيحية قبل القرآن والإسلام؛ والمليار من المسيحيين يكفرونها اليوم. فمن الجهل والظلم المتاجرة بها في الحوار الإسلامي المسيحي1.

وموقف القرآن الحاسم من النصارى على العموم ليس التكفير! بل التحذير من الغلو في الدين: (( قل: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق )) ( المائدة 80 ).

* * *

ثانياً: ذاك التثليث الذي يكفره القرآن ليس بالتثليث المسيحي

إن الوحي الإنجيلي في العهد الجديد كله، والتعليم الرسمي للمسيحية في أجيالها كلها، المدون في محاضر مجامعها المسكونية، شاهد عدل على الإسناد والتواتر والإجماع في العقيدة. وهو يكفر البدع التي نشأت في فهم التثليث المسيحي الصحيح، على غير حقيقته، مثل تلك البدع التي يكفّرها القرآن، بعد المسيحية.

(1) نعتذر إلى الإخوان الذين يسميهم التاريخ الإسلامي (( يعاقبه )) . ونحن على علم يقين بأن خلافهم مع جميع المسيحيين شكلي: إنه خلاف في التعبير، لا في العقيدة والتفكير.

والتعليم المسيحي القائم في مدارس المسيحيين بالعالم ـ ولا نقول في كلياتهم وجامعاتهم ـ يثبت بلا شبهة على الإطلاق:

أن (( الثلاثة )) التي يكفرها القرآن ليست بالتثليث المسيحي!

وأن المسيحية، قبل القرآن، كفـّرت التثليث الذي كفره القرآن!

وأن الخلاف الأكبر بين المسيحية والإسلام، على التثليث الصحيح في التوحيد، لا وجود له في الإنجيل ولا في القرآن: فكلاهما يقولان معاً بالله والكلمة والروح.

1ـ مقالات القرآن في (( الثلاثة )) ليست بالتثليث المسيحي.

إِن السيد المسيح قبل ارتفاعه إلى السماء أوصى رسله الحواريين، قال: (( لقد أوتيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض: فاذهبوا وتلمذوا لي جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس؛ وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به؛ وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر )) ( متى 28 : 18 ـ20 ).

تلك هي كلمة الوحي الإنجيلي الأخيرة.

وتلك هي الوصية الأخيرة للمسيح قبل ارتفاعه إلى السماء.

ورفع المسيح إلى السماء بعد الأمر بتعميد الأمم جميعها (( باسم الآب والابن والروح القدس )) ـ أي الله والكلمة والروح ـ شهادة من الله نفسه على صحة تعليمه وعلى صدق وحيه.

يؤيد ذلك برهان ثان، سلطانه الإلهي المطلق (( في السماء وعلى الأرض )) : فمن له سلطان الله يقول قول الله نفسه.

يؤكـد ذلك برهان ثالث، حضـوره الدائم على الأرض (( مع تلاميذه إلى انقضاء الدهر )).

فشهادة المسيح الأخيرة قبل رفعه إلى السماء، بالتثليث في التوحيد، يثبتها واقع حاله وسلطانه؛ ويؤيدها الله نفسه برفع المسيح حيّاً إلى السماء.

والوحي الإنجيلي كله، في العهد الجديد كله، يردّد هذا التثليث في التوحيد الخالص؛ والمسيحية تقول به من بعده جيلاً بعد جيل.

1) فهل في هذا التثليث الإنجيلي من ذكر فيه لمريم أم المسيح؟ لا ذكر لها في التثليث المسيحي على الإطلاق. وهي (( ثالث ثلاثة )) في القرآن.

لذلك فليس التثليث الذي يكفره القرآن بالتثليث الذي يشهد به الإنجيل.

2) إن (( روح القدس )) في القرآن ( النحل 102 ) هو جبريل الذي نزّل القرآن (البقرة 97). فليس هو (( الروح القدس )) في ذات الله بحسب الإنجيل ( متى 28 : 19 ). فهناك ترادف في الاسم على طريق المشاكلة، لا على طريق المقابلة.

فإِن كان روح القدس جبريل، فليس من ذكر لجبريل على الإطلاق في التثليث المسيحي.

فليس التثليث الذي يؤكده الإنجيل بالتثليث الذي ينكره القرآن.

3) إِن القرآن يكفّر تأليه المسيح من حيث هو (( ابن مريم )) : (( وقالت اليهود: عزير ابن الله! وقالت النصارى: المسيح ابن الله!ّ ـ ذلك قولهم

بأفواههم، يضاهئون قول الذين كفروا من قبل: قاتلهم الله أنّى يُؤفكون! اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم، وما أُمروا إِلاّ ليعبدوا إِلهاً واحداً، لا إِله إلا هو، سبحانه عمّا يشركون )) ( التوبة 31 ـ32 ). هذا تأليه البشر (( عيسى ابن مريم )) وتربيبه على شاكلة تربيب الأحبار والرهبان. وهو كفر محض بحسب الإنجيل نفسه.

لكن القرآن يشهد أيضاً بأن المسيح هو أيضاً (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) (النساء 170)، فهو كلمة الله وروح منه في ذاتـه تعالى قبل إِلقائـه إلى مريم. فهذا تعريف (( الابن )) في لغة الإنجيل. فالمسيح هو (( الابن )) ، ابن الله ، ليس من حيث هو (( ابن مريم )) بل من حيث هو (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) : فهي بنوة نطقية روحية في ذات الله قل الإلقاء إلى مريم؛ فهي أسمى من المخلوق، وفي ذات الخالق.

فليس المسـيح (( ابن الله )) على طريقة الاسـتيلاد من (( صاحبة )) ـ هذا كفر محض! ـ بل على طريق الصدور في الوجود الإلهي، من ذات الله ، في ذات الله ، بصفة كونه (( كلمته وروح منه )) ، في كامل التجريد والتنزيه.

فليس إذن التثليث الذي يكفره القرآن بالتثليث الذي تقول به المسيحية عن الإنجيل.

4) إِن الله تعالى هو (( الآب )) بحسب الإنجيل والمسيحية. وأبوّة الله هي في ذاته، لذاته؛ إنها روحية نطقية، يصدر فيها كلمة الله من ذاته، صدور الابن عن أبيه في عالم المخلوق، على طريق المقابلة، لا على طريق المطابقة. فهي أبوة وولادة وبنوة في مطلق الذات الإلهية، فوق المحسوس والمخلوق، ومن قبل المكان والزمان، فوق الخليقة والخلق، منذ الأزل، في ذاته تعالى. فهو (( الآب )) بدون أدنى صلة بالمخلوق على الإطلاق.

والمسيحية تؤمن بتحديد التوحيد كما تعلنه سورة الإخلاص: (( قل: هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يُولد، ولم يكن له كفوءاً أحد )) . لأن الولادة المستنكرة لا تكون إلا بصاحبة: (( أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة )) ( الأنعام 102 ). وجلّ الله تعالى عن الصاحبة والمخلوق. إن الولادة فيه تعالى ذاتية روحية نطقية فوق المخلوق على الإطلاق.

فليست هي الولادة المذكورة في القرآن. قال الجلالان: (( لم يلد، لانتفاء مجانسته. (ولم يولد) لانتفاء الحدوث عنه. ( ولم يكن له كفوءاً أحد ) أي مكافئاً ومماثلاً له )) من خلقه. وقال البيضاوي: (( لم يلد، لأنه لم يُجانس ولم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة والفناء عليه ... ( ولم يولد ) وذلك أنه لا يفتقر إلى شيء، ولا يسبقه عدم )) . فالولادة، حتى في الله، بحسب القرآن، لا تكون إِلاّ جسدية تناسلية. فإِذا رجعنا إلى استحالة الولادة على الله، في جدلية القرآن ومفسّريه، نجدنـا أمام المبدأ المطلق: (( أنى يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة )) ( الأنعام 102 ). فالولادة لا تكون إِلا بصاحبة! وتنزّه الله تعالى عن الصاحبة والولد المتّخذ: (( ما اتخذ صاحبة ولا ولداً )) ( الجن 3 ). إن مجرد القول بالصاحبة والولد منها أكفر الكفر بحق الجلال الإلهي.

وهكذا ليست الولادة التي يقول بها القرآن، بالولادة التي يعلمها الإنجيل في ذات الله، فوق المخلوق. وليس الأبوة ولا البنوة الناجمة عنها في ذات الله كالتي في عالم المخلوق.

إن الأبوة في القرآن عمل المخلوق البشري؛ وفي الإنجيل عمل الله الذاتي الروحي النطقي. لأن (( الابن )) في الله هو (( كلمته وروح منه )) ( النساء 170 )، أو بحسب الإنجيل: (( منذ الأزل كان الكلمة، والكلمة كان في الله، و الله كان الكلمة، فهو منذ الأزل في الله )) (يوحنا 1 : 1 ـ 2). فهي أبوة وولادة وبنوة إِلهية ذاتية روحية نطقية فوق المخلوق على الإطلاق.

لذلك كله ليس التثليث الذي يكفره القرآن في مقالاته الثلاث لتفصيل (( الثلاثة )) ، بالتثليث الذي تقول به المسيحية بشهادة الإنجيل.

لذلك أيضاً ليس من تعارض على التثليث في التوحيد، ما بين الإنجيل والقرآن، لاختلاف وجهات النظر بينهما اختلافاً شاملاً. فاعتمادهم على القرآن لتكفير المسيحية في عقيدة التثليث في التوحيد اعتماد باطل ظالم لا أساس له في القرآن نفسه.

2ـ جدلية القرآن لا تنطبق على التثليث المسيحي

في جدلية القرآن لتكفير القول (( بالثلاثة )) ( النساء 170 ) ست نظريات، لا تنطبق في شيء على التثليث المسيحي.

1) نظرية الاتخاذ ( الجن 3؛ التوبة 31 ـ 32 ). إن الألوهية المنسوبة في القرآن للمسيح وأمه، بحسب مقالة بعض جهّال النصارى، هي (( اتخاذ )) مخلوق إِلها من دون الله.

وتأليه مخلوق أَيّا كان، حتى (( عيسى ابن مريم )) بصفة كونه (( عيسى ابن مريم )) ـ لا بصفة كونه (( كلمته وروح منه )) ـ هو كفر محض في نظر الإنجيل والمسيحية.

فمن هذا الباب ليس التثليث الذي يكفره القرآن بتثليث الإنجيل.

2) نظرية الجزء ( الزخرف 15 ). إن الإلهية المنسوبة (( للمسيح ابن مريم )) أو لسواه بحسب القرآن تقوم على ضم (( جزء )) لله من خلقه. وليس بين

الخالق والمخلوق من تكافؤ: (( ولم يكن له كفوءاً أحد )) ، ولا من تشابه: (( ليس كمثله شيء )).

وليس التثليث المسيحي في الله بضم (( جزء )) إليه تعالى من خلقه: فهو تعالى فوق المخلوق؛ والتثليث الصحيح فيه إنما هو تثليث خواصه الكيانية أو صفاته الذاتية، في وحدة جوهره، قبل الخلق والمخلوق.

فمن هذا الباب أيضاً ليس التثليث الذي يكفره القرآن بتثليث الإنجيل.

3) نظرية (( الصاحبة )) والاستيلاء منها. إن مجرد البحث فيها كفر محض في حق الله سبحانه. فنمتنع عنه.

فكم يظلم جهال المسلمين إخوانهم المسيحيين عندما يتهمونهم بأن عقيدتهم تقضي بأن الله استولد عيسى من مريم. هذا كفر! وظلم! وجهل!

فمن هذا الباب أيضاً ليس التثليث الذي يكفره القرآن بتثليث الإنجيل.

4) نظرية (( كانا يأكلان الطعام )) ( المائدة 78 ). يستدل الرازي من هذا القول على (( أنهما كانا محتاجين لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام أَشد الحاجة. والإِله هو الذي يكون غنياً عن جميع الأشياء، فكيف يُعقل أن يكون المحتاج إلهاً؟ )) .

هذا الاستدلال يصح في السيدة مريم، أم المسيح. ويصح أيضاً في المسيح نفسه من حيث كونه (( ابن مريم ))، لا من حيث كونه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) . فإلهية المسيح، بحسب الإنجيل، إنه (( كلمة الله )) أَي نطق الله في ذاته قبل إِلقائه إلى مريم، فهو في كامل التجريد والتنزيه عن حاجات البشرية والمخلوق. والحاجة في بشريته لا تمس ذاته من حيث هو (( كلمة الله )) أي نطق الله في ذاته.

فمن هذا الباب أيضاً ليست إلهية المسيح في ذاته السامية، بتأليه عيسى ابن مريم؛ وليس التثليث الذي يكفره القرآن بتثليث الإنجيل.

5) نظرية (( أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضُرّاً ولا نفعاً )) ( المائدة 79 ). لا شأن لمريم أم المسيح في بحث التثليث الإنجيلي. والمسيح نفسه، من حيث بشريته، (( لا يملك ضرّاً ولا نفعاً )) . ولكن من حيث كونه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ، أَي من حيث ذاته السامية، فهو يملك في بشريته ضرّاً ونفعاً. وذلك بشهادة القرآن نفسه حيث ينسب إليه الخلق: (( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإِذني، فتنفخ فيها فتصير طيراً بإذني )) ( المائدة 114؛ قابل آل عمران 48 ) ـ ولا ينسب القرآن لفظ (( الخلق )) إِلا لله والمسيح ـ وينسب إليه الإحياء، وهو عمل إلهي: (( وإذ تخرج الموتى بإذني )) ( المائدة 114 )، (( وأُحيي الموتى بإذن الله )) ( آل عمران 48 )؛ كما ينسب إليه الإبراء زرافات ووحدانا، والأنباء بالغيب. ولا يحد من النفع والضر قوله (( بإذن الله )) أو (( بإذني )) ، لأننا لا نجد مثل معجزات المسيح عند الأنبياء والأولياء؛ ولا ينسب لهم الخلق والإحياء بإِذن الله. وبشهادة الإنجيل أيضاً: (( قد آتاني أبي كل شيء؛ فما من أَحد يعرف الابن إِلا الآب، ولا من أحد يعرف الآب إِلا الابن، ومن شاء الابن أَن يكشف له )) ( متى 11 : 26 ـ27 ). إن قدرة الابن من قدرة الآب، وبرهان ذلك المعرفة المتساوية المتبادلة بين الآب والابن. فالمسيح قادر بقدرة الله ذاتها كما يقول في سلطانه وسعته الإلهية بوصيته الأخيرة: (( إِني أوتيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض ... وها أَنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر )) ( متى 28 : 18 و20 ). فصفاته برهان ذاته.

فمن هذا الباب أَيضاً ليس التثليث الذي ينكره القرآن بتثليث الإنجيل.

6) نظرية الولادة من أمٍّ. في تفسير الرازي لآية (( كانا يأكلان الطعام ))

( المائدة 78 ) يقول: (( إن كل من كان له أمّ فقد حدث بعد أن لم يكن؛ وكل من كان كذلك كان مخلوقاً، لا إلهاً )) .

أجل هذا قول الحق. لكنه لا ينطبق على المسيح في كونه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ، لأنه كلمة الله، قبل إلقائه إلى مريم، فهو موجود قبل أمه، قائم في ذات الله ككلمته أي نطقه الذاتي. ففي إلقائه إلى مريم وولادته منها، لم يجر عليه في ذاته حدوث، بل تدرّع ببشرية من أمه.

فمن هذا الباب أخيراً ليس التثليث الذي ينكره القرآن بتثليث الإنجيل.

وهكذا نشاهد أن جدلية القرآن في نظرياته الست لتكفير القول (( بالثلاثة )) لا ينطبق في شيء على التثليث المسيحي.

فمن الظلـم، ومـن الجهل، تكفير المسيحية، باسـم القرآن، بالتثليث في التوحيد؛ لأن (( الثلاثة )) التي يكفرها القرآن، ليست بالتثليث المسيحي.

* * *

ثالثاً: إن المسيحية كفّرت قبل القرآن مقالاته (( بالثلاثة ))

وقد يستغرب بعضهم هذا التصريح، مع أن التاريخ شاهد عدل. فإن مقالات القرآن في تكفير (( الثلاثة )) قد كفّرتها المسيحية قبل القرآن، ووصمتها بأنها بدع منحرفة في المسيحية الصحيحة. وبسبب تكفير المسيحية الرسمية لتلك المقالات الثلاث في تفصيل (( الثلاثة )) التي يكفرها القرآن أيضاً على غرارها، فإنها لم تعمّر طويلاً، أو تقوقعت في بقعة، شعاراً لقومية.

لذلك فإننا نرى في التكفير المشترك لها من المسيحية والإسلام، تعاوناً بينهما لتكفير بدع التثليث المنحرف.

1ـ المقالة (( بالثلاثة )) ( النساء 170 )

لها صيغتان: عربية وأجنبية.

1) الصيغة العربية حكاها القرآن في آية ( النساء 170 ): (( ولا تقولوا: (( ثلاثة )) . وفصّلها في آية ( المائدة 119 ): (( أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله )) ؟ فيظهر أن المقصود (( بالثلاثة )) : الله والمسيح ومريم أمه.

هكذا فسّرها جميعهم. قال الجلالان: (( أي الآلهة ثلاثة: الله وعيسى وأمه )) . وقال البيضاوي: (( أي الآلهة ثلاثة )) : الله والمسيح ومريم. ويشهد عليه قوله: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله )) ؟!

وفصّلها الزمخشري بقوله: (( إِن صحت الحكاية عنهم ( النصارى ) أنهم يقولون: هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس. وأنهم يريدون بأقنوم الآب الذات، وبأقنوم الابن العلم، وبأقنوم الروح القدس الحياة ـ فتقديره (( الله ثلاثة )) . وإلا فتقديره (( الآلهة ثلاثة )) . والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة، وأن المسيح وَلدُ الله من مريم؛ ألا ترى إلى قوله: ( أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )؟ وحكاية الله أوثق من حكاية غيره )) .

أجل (( حكاية الله أوثق من حكاية غيره )) . لكن الزمخشري خلط بين مقالة لبعض الجهال من نصارى عرب الجاهلية التي حكاها القرآن؛ وبين عقيدة المسيحيين التي ينقلها ويرفضها بسبب حكاية القرآن لمقالة الجهَّال. فالقرآن يكفر

(( الآلهة الثلاثة )) أَي الله والمسيح ومريم؛ ولكنه لا يذكر على الإطلاق عقيدته المسيحيين (( الله ثلاثة )) في تثليث صفاته الذاتية الكيانية المسمات (( أقانيم )) ، تمييزاً لها من سائر الصفات.

2) وهناك صيغة أجنبية قالت: (( الآلهة ثلاثة )) .

وعلى ضوء التاريخ يصح أَن نعتبر الآيتين ( النساء 170 مع المائدة 119 ) مقالتين في التثليث المنحرف. فقد ظهرت مقالة (( الآلهة الثلاثة )) في القرن السادس على أيام الإمبراطـور يستنيانس (527 ـ 565) أي قبيل الإسـلام. ويسـمونها في التاريخ المسيحي (( بدعة المثلثة )) القائلة: إن الآب والابن أي المسيح والروح القدس هم ثلاثة أقانيم أي ثلاثة جواهر تجمعهم وحدة الألوهية، لكنهم في الحقيقة ثلاثة آلهة. طلع بهذه البدعة الكافرة يوحنا الأسكوناجي في القسطنطينية؛ وفلسفها في مصر يوحنا فيليبـُّنْ؛ ورعاها في الإمبراطورية أثناسيوس، ابن أخت للإمبراطورة ثيودورة. فعشّش المثلّثون في سوريا، وتظاهروا في مصر أكثر فأكثر. وعن طريق الحيرة توغلت البدعة بين العرب حتى وصلت إلى الحجاز، ملجإِ الهاربين من دين الدولة. ولمّا نزل القرآن كفّرها، كما كفّرتها المسيحية كلها من قبله.

فلا الصيغة الأجنبية، ولا الصيغة العربية، تمثلان العقيدة المسيحية في شيء. لذلك فكل تفاسير المفسرين للقرآن، وكل كلام المتكلمين المبني على حكاية القرآن لمقالة جاهلة كافرة، هو هراء بهراء، لأنه لا يمثل العقيدة المسيحية في شيء. وجهلهم المتواتر أنهم ينسبون إلى المسيحية كلها ما حكاه القرآن عن بعض جهَّال النصارى العرب في جاهليتهم، حتى خلص الزمخشري ـ وهو شيخ من أئمة المعتزلة العقلانيين ـ إلى قوله: (( وحكاية الله أوثق من حكاية غيره )) . وفاته أنها

ليست (( حكاية الله )) على الإطلاق، بل (( حكاية الله )) لمقالة عربية جاهلية، أو أجنبية كافرة، لا تمت إلى العقيدة المسيحية بصلة.

2ـ مقالة: (( إن الله ثالث ثلاثة )) ( المائدة 76 ).

وهذه أيضاً لها صيغتان: عربية وأجنبية.

1) حكى القرآن الصيغة العربية في هذا التكفير لها: (( لقد كفر الذين قالوا: (( إن الله ثالث ثلاثة )) ( المائدة 76 ).

فسّره الجلالان: (( ثالث أي أحدها، والآخران عيسى وأمه. وهم فرقة من النصارى )). تقول له بعد أجيال: هذه الفرقة لم توجد خارج عرب الجاهلية المتنصرين. فحكى القرآن حكايتهم ولم يحكِ حكاية المسيحية كلها على الإطلاق. فالمقالة تفسير جاهل لقضية (( الثلاثة )) كما رأينا مراراً.

وعلق عليه البيضاوي: (( ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة. وهو حكاية عمّا قاله النسطورية والملكانية منهم، القائلون بالأقانيم الثلاثة، وما سبق من قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد )) .

نقول للبيضاوي بعد مئات السنين: ما من أحد من الملكانية ولا النسطورية ولا اليعقوبية قال بأن الله ثالث ثلاثة مع المسيح وأمه. ولم يكن اختلافهم في التثليث؛ وإنما في كيفية اتحاد الطبيعتين اللاهوت والناسوت في شخصية المسيح. فخلط البيضاوي بين عقيدتين مختلفتين، ونسب المقالة جهلاً وظلماً للفئات الثلاث المسيحية المتفقة في عقيدة التثليث.

فالإجماع عند المفسرين إِن المقالتين: (( الثلاثة )) ، (( ثالث ثلاثة )) ترجعان إلى تأليه عيسى وأمه مع الله. وهذا افتراء على المسيحية التي تعتبر كل تأليه شركاً وكفراً؛ ولا دخل لأم المسيح على الإطلاق في التثليث.

2) وهناك صيغة أجنبية ظهرت في القرن الرابع الميلادي، وقضى عليها المجمع المسكوني الأول (325) والثاني (381).

قبل تحديد عقيدة التثليث الصحيح بالإجماع كان المبتدعة يقولون: بأن الكلمة والروح إِلهان من دون الله؛ فقد صدرا منه تعالى قبل الكون صدور خلق، لا صدور تفاعل ذاتي كياني كما تقول المسيحية الرسمية. فهما، على قول المبتدعة، إِلهان بالنسبة للخلق، لكن تابعان لله بالنسبة إليه تعالى. لذلك كانوا يعبّرون عن التثليث المسيحي بمثل هذه الصيغة المنحرفة: إِن الله ثالث ثلاثة، الله، والكلمة، والروح؛ مختصين الله الآب بالألوهية، والكلمة والروح بالتبعية له كواسطة في الخلق والتقديس. فأثبت المجمع المسكوني الأول (325) إِلهية الكلمة، والمجمع الثاني (381) إلهية الروح القدس، في وحدة الطبيعة الإلهية. تلك هي بدعة الأريوسية التي لعنتها المسيحية.

لكن رواسب البدعة، بعد سحقها، تسربت إلى الحجاز مأوى جميع الهاربين من دين الدولة.

ولمّا جاء القرآن كفـّرها، كما كفـّرتها المسيحية من قبله، لأنها ليست صيغة التثليث المسيحي الصحيح.

3ـ مقالة: (( إن الله هو المسيح ابن مريم )) ( المائدة 19 و75 ).

لقد أجمع المفسرون على أنها مقالة (( اليعقوبية1)) . قال الجلالان: (( لقد كفروا وقد جعلوه إإِلهاً: وهم اليعاقبة فرقة من النصارى ( المائدة 19 ). قال الرازي: (( وهذا هو قول اليعقوبية. لأنهم يقولون: إِن مريم ولدت إِلهاً. ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله تعالى حلّ في ذات عيسى، واتحد بذات عيسى )) .

إِن المسيحيين جميعهم يقولون بإِلهية المسيح، لكن من حيث هو (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) لا من حيث هو (( ابن مريم )) .

وخلاف اليعقوبية أنهم لا يميّزون بين الذات ( الأقنوم ) والطبيعة في المسيح كما يميّز سائر المسيحيين. لذلك قالوا: المسيح ذات واحدة وطبيعة واحدة بعد الاتحاد. فنسبوا إليهم المقالة: (( إن الله هو المسيح ابن مريم )) . لكن اليعقوبية لا تقول ما قوّلها إياه الرازي: (( إن الله تعالى حلّ في ذات عيسى واتحد بذات عيسى )) . فليس لعيسى من ذاتين، بل هو ذات واحدة، (( كلمته ألقاها إلى مريم )) ؛ فالذي أُلقي إلى مريم ذات كلمة الله، لا ذات الله مطلقاً.

وفسّره البيضاوي: (( هم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل: لم يصرّح به أحد منهم. ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتاً، وقالوا: ( لا إله إلا واحد )، لزمهم أن يكون هو المسيح. فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحاً لجهلهم وتفضيحاً لمعتقدهم. وتخريج البيضاوي أقرب إلى موقف (( اليعاقبة )) ، بأنه (( نسب إليهم لازم قولهم )) . ووفد نجران إلى النبي العربي يجادله في دعوته وفي عيسى، وكانوا من

(1) وهي على الأصح مقالة أهل الأحوال الإلهية Modalsme . ظهرت أيضاً في القرنين الثاني والثالث م. وهي على صيغتين. الأولى أن الله هو المسيح وُلد وصلب وقام. والثانية أن الله الواحد الأحد ظهر أولا بصفة الآب، ثم بصفة الابن، ثم بصفة الروح القدس. ولكن المسيحية نبذت البدعة في صيغتيها منذ ظهورهما، من قبل ظهور ما تسميه المصادر الإسلامية: اليعقوبية.

اليعقوبية، يؤيد أن تكفير القرآن يعنيهم. وتلك المجادلة هي التي توزعت في سور القرآن، فكانت سبب تكفيراته.

ونعلم أن مذهب اليعقوبية قد كفّرته المسيحية في المجمع المسكوني الرابع عام 451. واليوم أيضاً لا تقوم مقالة بضعة ملايين أمام عقيدة مليار المسيحيين1.

فالمسيح، في عقيدة المسيحيين، إله من حيث هو (( كلمته ألقاها إلى مريم )) . وكلمة الله ليس الله على الإطلاق، لأن الله هو الآب والكلمة والروح في وحدة الطبيعة الإلهية. فتكفير القرآن لا يطال المسيحية مطلقاً.

وما يكفره القرآن بتلك المقالة قد كفرته المسيحية من قبله.

4ـ مقالة: (( اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله )) ( المائدة 119 ).

1) هذه المقالة تعني تأليه المسيح وتأليه أمه.

إن تأْليه المسيح لم يقل به أحد من المسيحيين على الإطلاق2، ولا تأليه في المسيحية، لأن تأليه مخلوق مع الله شرك وكفر.

والمسيحية في كل فرقها تقول بإِلهية المسيح من حيث هو (( كلمته ألقاها

(1) نعلن مرة أخرى أن خلاف اليعقوبية مع المسيحية كلها كان شكلياً، لفظياً، أكثر منه موضوعياً، بعد أن تحدّدت التعابير واتضح معناها. ولكن إن أصرّ بعضهم حتى اليوم على أنه موضوعي فتلك مصيبة المسيحية والإسلام بهم.

(2) الاتخاذ adoptansme مقالة ظهرت في القرنين الثاني والثالث بتأثير الأبيونية (( النصرانية )) : المسيح بشر محض، لكن اتخاذ الله له كابن على العالمين أعطاه صفة الألهوية فصار إلهاً مع الله . لكن أصحاب هذه المقالة نبذتهم المسيحية على أيامهم.

إلى مريم )) ، لا من حيث هو (( ابن مريم )) . ومن حيث هو (( كلمته ألقاها إلى مريم )) فهو معاً ابن مريم، وابن الله أي كلمته الذاتية؛ في وحدة الذات وثنائية الطبيعة؛ كما يؤمن جميع المسيحيين. ولا عبرة بالقلائل من رواسب الماضي، أو طلائع الإلحاد.

فليس في المسيحية من اتخاذ المسيح إِلهاً من دون الله. إنما هي حكاية مقالة لبعض جهَّال النصارى حكاها القرآن عنهم.

وتأْليه مريم لم يقل به أيضاً أحد من المسيحيين على الإطلاق. ولا ذكر أبداً لمريم في التثليث المسيحي.

لكن اپيفان، من فلسطين في القرن الرابع، في كتابه ( الشامل في الهرطقات ) يذكر بدعة عربية، يسـميها بدعة (( الكليريين )) ـ من (( كُلـّيرس )) : قرص خبز من طحين الشعير ـ كانت تتعاطاها بعض نساء العرب النصارى، فيقدمن من تلك الأقراص قرابين عبادة لأم المسيح، على مثال ما كان يلته نساء العرب الجاهليات للإلهة اللات. وتقديم تلك القرابين الكلّيرية لأم المسيح، مع تقديم القرابين المسيحية لله، جعل تلك البيئة البدائية تظنّ بعبادة مريم والمسيح إِلهين مع الله، كأن هذا هو التثليث المسيحي. ولكن تلك العبادة العربية الشركية لمريم أم المسيح لم تنتشر في الأقطار المسيحية، بل ظلت محصورة لدى بعض نساء النصارى العرب.

وقد يكون لقب (( أم الله )) المجازي الذي أطلقه المجمع المسكوني الثالث عام 431 على (( أم المسيح )) تكريماً لها ـ لا تأليهاً، ولا عبادة، ولا تربيباً لها ـ إنما على اعتبار المولود منها (( كلمة الله ألقاها إلى مريم )) . فظن نصارى العرب البدائيون المجاز حقيقة، وشُبّه لهم أن (( أم الله )) إِلهة مع الله والمسيح؛ فبدّلوا التثليث المسيحي، بهذا التثليث المشبوه. لكنه لم يتخطّ الجزيرة إلى ديار المسيحية.

2) لكنه كان للنصارى من بني إسرائيل ـ الذين يسمونهم (( الفرقة الإسرائيلية )) بين أهل الإنجيل ـ مقالتان كلاميتان في تفسير التثليث الإنجيلي. الأولى تقول بأن الكلمة والروح القدس عند الله هما ملاكان من الملائكة المقرّبين؛ ويسمون الابن ملاك كلمة الله، وهو ميكال؛ والروح القدس ملاك الروح القدس، وهو جبريل. وقد تبنّى القرآن هذه المقالة؛ وبها جادل وفد نجران المسيحي. والثانية، على قول بعضهم المنحرفين، تقول بأن (( الروح )) أنثى وهي تبنّت المسيح في مولده أو في عماده ـ على قولين ـ فكان ابن الله على المجاز؛ فيكون روح القدس بمنزلة أم المسيح. فصار التثليث الإنجيلي عندهم: الله والمسيح وأمه ( روح القدس ). هذه عقيدة الفرقة الإسرائيلية المنحرفة.

ولمّا جاء القرآن كفّر تلك المقالة (( اتخذوني وأمي إلهين من دون الله )) ، كما تكفرها المسيحية من قبله ومن بعده.

تلك هي المقالات الأربع في التثليث المشبوه المحسوب على المسيحية؛ وهي منه براء. إنها بدع أربع خارجة على التثليث المسيحي الصحيح.

والنتيجة الحاسمة الأولى أن التثليث الذي يكفّره القرآن، ليس بالتثليث الصحيح الذي تقول به المسيحية في جميع فرقها، قبل القرآن وبعده.

والنتيجة الحاسمة الثانية أن إطلاق مفسري القرآن تكفيراته الأربع في (( الثلاثة )) ، على التثليث المسيحي الصحيح، إنما هو زور وبهتان. ودستور الإيمان الذي يردّده المسيحيون منذ القديم في كنائسهم شهادة لهم، إنما هو خير شاهد على ذينك الجهل والظلم.

فالمسيحية قد كفرت قبل القرآن مقالاته في (( الثلاثة )) .

رابعاً: التثليث الصحيح ما بين الإنجيل والقرآن

1ـ التثليث المسيحي الصحيح

نجده أولاً في البسملة المسيحية:

(( باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين ))

ونلاحظ في هذه البسملة أن التوحيد يفتتحها بالقول (( باسم )) على المفرد، ويختتمها بالتصريح (( الإله الواحد )) فالآب والابن والروح القدس هو الإله الواحد. فالتثليث هو في كيان الله نفسه، لا من خارجه. والتوكيد الأول والأخير هو على التوحيد، فيكون التثليث فيه تفسيراً منزلاً لحياة الله، الحيّ القيّوم، في ذاته.

ونجده ثانياً في الشهادة المسيحية، التي يرددها المسيحيون أجمعون من قبل القرآن والإسلام بمئات السنين، ويستظهرها طلاب المدارس منذ الحضانة في الدنيا كلها. والشهادة المسيحية تسمى أيضاً قانون الإيمان. وهما:

(( أومن بالله الواحد، الآب الضابط الكل، خلق السماء والأرض وكل ما يُرى وما لا يُرى.

وبالرب الواحد، يسوع المسيح، ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، النور من النور، الإله الحقيقي من الإله الحقيقي، مولود غير مخلوق، في جوهر واحد مع الآب. وهو الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء، وتأنس. وصلب لأجلنا على عهد بنطيوس بيلاطس، وتألم وقبر وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب. وارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الآب. وسيأتي بالمجد ليدين الأحياء والأموات، ولا نهاية لملكه.

وبالروح القدس، الرب المحيي، المنبثق من الآب، ( بالابن )، الذي هو مع الآب والابن معبود ومحمود، الناطق بالأنبياء.

وأشهد بمعمودية واحدة لغفران الخطايا.

وأرجو قيامة الموتى، والحياة في الدهر الآتي. آمين )) .

فالشهادة المسيحية في دستور إيمانها تقول أولاً بالتوحيد: (( أومن بالله الواحد )) ! وهي شهادة التوراة للتوحيد: (( يهوه أَحد )) أي الله الواحد.

ثم نفصّل سر الله في ذاته بأنه الآب، والابن، والروح القدس ( والصفة تمييز له عن الأرواح المخلوقة ). فما التثليث في ذات الله سوى تفسير منزل في الإنجيل لحياة الحي القيوم في ذاته الصمدانية. فالله في ذاته أبوّة وبنوة وروح حياة. ونعرف أن هذه البنوة فيه هي روحية نطقية، فالابن هو (( كلمة الله )) . فالله الآب، والكلمة، والروح، جوهر واحد هو الله تعالى، لا إله إلا هو.

وكشْف الإنجيل عن سر الله في ذاته هو فضله على كل كتاب منزل.

إن التوحيد العقلي، والتوحيد المنزل، يوحدان الله في إلهيته، بتجريده عن خلقه، وتنزيهه عن المخلوق. أما ما هو في ذاته الواحدة الصمدانية؟ يُجمع علماء الكلام في الإسلام على أن (( البحث في ذات الله إشراك )) ! فذات الله غيب محجوب عن المخلوق، ومحاولة البحث فيه من الشـرك. وهم في ذلك إنما يناقـدون إلى نصيحة القـرآن: (( ويسـألونك عن الـروح؟ ـ قـل: الـروح من أمر ربي؛ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) ( الإسـراء 85 ). (( والروح )) هنا هو عالم الله، فوق المخلوق؛ ومعرفته (( من أمر وحيه )) ( البيضاوي )؛ والعلم به تنزيل، لا استدلال وتدليل. ومن هذا العلم المنزل، (( ما أوتيتم إلا قليلاً )) . وقد يكون (( الروح )) هنا ذات في الله، من (( أمر ربي )) أي (( من علم ربي )) ( الجلالان )، لم يُؤتَ القرآن من علمه إلا القليل. وبقي (( علمه )) عندَ (( أولي العلم )) ، الذين عندهم (( علم الكتاب )).

فالسؤال عن (( الروح )) المطلق، وعن ذات الله، وعن (( العلم )) بحياة الحي القيوم في ذاته الصمدانية، جوابه في التنزيل الإنجيلي.

واختصرت الشهادة المسيحية، في دستور إيمانها، كشف الإنجيل عن سر الله في ذاته: فهو الله، والابن الكلمة، والروح.

ووصفت الشهادة كيفية صدور الابن الكلمة عن الله الآب، فإِذا به صدور (( النور عن النور )) ؛ فهو (( مولود غير مخلوق )) ، (( له وللآب جوهر واحد )) .

ثم تصف كيفية دخوله في خلقه، ونزول كلمة الله إلى البشر: فقد (( تجسّد بالروح القدس من مريم العذراء، وتأنس )) . فكان يسوع المسيح، عيسى ابن مريم. فليس في تجسّد كلمة الله من مريم تأْليه مخلوق، ولا تأْنيس الإله. إِنما هو (( كلمته وروح منه )) ببشرية تأنس فيها، من مريم، فصار كلمة الله ذاته ابن مريم. فشخصية (( الكلمة )) لم يطرأ عليها شيء، في ذاتيتها وفي إِلهيتها، عند التأنس. فليس في تجسد كلمة الله في عيسى ابن مريم من شبهة على إِلهيته: مَن قرن روح الإنسان بجسد، قرن كلمته، نطقه الذاتي، بجسد في مريم.

هذا ما أوجزه الإنجيل بحسب يوحنا في فاتحته: (( في البدء ( منذ الأزل ) كان الكلمة، والكلمة كان في الله، والله كان الكلمة، فهو منذ الأزل في الله ... والكلمة صار بشراً، وسكن في ما بيننا )) .

ففي البشرية التي تأنس فيها، أضاف كلمة الله إلى حال الله فيه، حال بشر، وعاش كبشر، (( يأكل الطعام )) ، (( ويمشي في الأسواق )) ، (( فصار في كل شيء شبيهاً بنا، ما خلا الخطيئة )) .

وهذه البشرية الشبيهة بنا، كما طرأ عليها الولادة، يصح أن يطرأ عليها الموت، دون مساس بإلهية الكلمة فيها: فاستشهد كبشر على الصليب، فمات وقام وارتفع حيّاً إلى السماء، وجلس على عرش الجلالة عن يمين الله، بما أنه في

ذاته كلمته، بحسب المجد الذي لكلمة الله، في ذات الله، قبل الخلق، وقبل التجسد، وقبل الاستشهاد والرفع إلى الله.

وكما أنه ليس من غضاضة على إِلهية الكلمة في التجسد، كذلك ليس من غضاضة على إلهية الكلمة المتجسد أن يستشهد. إذا كان استشهاد الأنبياء سُنّة الله في أنبيائه شهادةً منه تعالى لهم ـ وشهادة الدم أفضل الشهادات ـ فكم بالحري استشهاد كلمة الله المتأنس له أهداف تفوق أهداف كل نبؤة ورسالة، وقد كشف هو نفسه لنا عنها في إنجيله. إن أفضل عبادة لله هي الضحية، وذلك في كل دين. فكان استشهاد المسيح الضحية الكبرى لله، العبادة العظمى، والحب الأسمى؛ ثم الضحية الكبرى عن المخلوق، قرباناً شخصيّاً للجلال الإلهي.

فسرّ رسالة المسيح، كلمة الله وابن مريم معاً، الكشف عن سرّ الله في ذاته، وتكوين صلة ذاتية بين الله والإنسان في شخص المسيح نفسه، وتقديم العبادة والمحبة لله، في أسمى شعائرهما، الضحية والاستشهاد؛ لرفع الإنسان إلى مكانة تليق بالخالق والمخلوق معاً. لذلك استنتج أحد العلماء هذا القول: (( تأنس كلمة الله ليؤله الإنسان )) في كامل التجريد والتنزيه.

إذا كان ذلك كله ما أراده الله في (( علمه )) ، فليس في تجسد الكلمة، واستشهاد المسيح، إلا ما يأتلف مع النقل ومع العقل، وما ينسجم في الإنجيل مع التوراة والقرآن.

فالتثليث المسيحي هو: الله وكلمته وروحه، في وحدة الكيان الإلهي. إنه تثليث في التوحيد الخالص، يكشف عن سر الله في ذاته، وعن حياة الحي القيوم في صمدانيته.

وتأنس كلمة الله في المسيح، ابن مريم؛ ثم استشهاد المسيح في بشريته.

للضحية لله، والفداء للإنسان، هما أفضل كشف عن الله وعن الإنسان في كل وحي ونبؤة ورسالة.

هذا هو (( العـلم )) الكامل الذي نـزل في الإنجيل. وما وصـل منه إلى القـرآن إلا (( القليل )) بشهادته القاطعة: (( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) .

ولكن هذا (( القليل )) من (( العلم )) بسر (( الروح )) في الله تعالى، هو فخر القرآن في تصديق الإنجيل.

2ـ والسؤال الآن: هل من آثار لهذا التثليث في القرآن؟

إن التثليث المسيحي الصحيح هو: الله والكلمة والروح.

وهذه هي الأركان الثلاثة القائمة في القرآن: الله والكلمة والروح.

والخلاف، كل الخلاف، في تأويلها. وعند الخلاف أمر القرآن صريح، للنبي العربي: (( فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 )؛ ولأهل القرآن: (( فاسألوا أَهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) (النحل 43 ـ 44). وفي كلا الأمرين، (( قل: كفى بالله شهيداً ومن عنده علم الكتاب )) ( الرعد 45 ).

لقد رأَينا أن القرآن يكفّر تثليثاً منحرفاً في قولهم (( بالثلاثة )) . لكن القرآن يحفظ وينقل عناصر التثليث المسيحي الصحيح: الله والكلمة والروح. ومشكل القرآن أَنه لا يفصح عنها بما يزيل الغموض؛ ولمّا سألوه (( عن الروح ـ قل: الروح من أمر ربي؛ وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) ( الإسراء 85 )؛ حتى قال بعضهم: مضى محمد ولما يدرِ ما الروح.

والشبهة الأولى في وصف الكلمة بالروح: (( كلمته وروح منه )) .

والشبهة الثانية في وصف جبريل بأنه (( روح القدس )) ( النحل 102 )، ومشكلة هذا التعبير مع تعبير الإنجيل (( الروح )) ، (( الروح القدس )) ـ والقدس في الكتاب والقرآن صفة التنزيه، كناية عن الله ـ وهذا ما يحمل بعضهم على فهم الكلمة والروح بأنهما مخلوقين لله. وكلمة الله في ذاته، وروح الله في ذاته, لا يمكن أن يكونا مخلوقين؛ إنما هما من ذات الله، في ذات الله، لذات الله.

والقرآن في قوله بالكلمة والروح مع الله قد نقل عناصر التثليث الصحيح في الله الواحد الأحد، وصدّق الإنجيل في تثليثه، لو يعلمون. لذلك نتحدّى أيّاً كان أن يرينا في القرآن تكذيبـاً أو تكفيراً لهذا التثليث المسـيحي الصحيح. وتخبط المفسـرين في تفسير (( الكلمة )) و(( الروح )) دليل على الواقع القرآني الذي لا مهرب منه.

1) فمن هو (( كلمة الله )) في عرف القرآن؟

إن القرآن يمتاز بتعريف المسيح أنه (( كلمة من الله )) (آل عمران 39)، (( كلمة منه )) ( آل عمران 45 )، (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ). ومحمد نفسه، مثل يحيى ومريم، (( يؤمن بالله وكلمته )) ( الأعراف 157 )1.

وكلمة الله هو أيضاً (( ابن مريم )) . تلك هي الازدواجية القائمة في القرآن على شخصية المسيح. ولا سبيل إلى إنكارها.

أجل إن عيسى، بصفة كونه ابن مريم، هو عبد لا رب.

(1) قراءة (( كلمته )) أصح من (( كلماته )) ، لانسجامها مع السياق في الكلام.

ولكن في عيسى ابن مريم، (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ). وهذا اللقبان يفسر بعضهما بعضاً: فكلمة الله ليس مثل قوله (( وكلمة الله هي العليا )) (9 : 41)؛ أو قوله (( وتمت كلمة ربك )) (6 : 115؛ 7 : 136؛ 11 : 119)؛ أو قوله (( حقت كلمة ربك )) (10 : 33 و96؛ 40 : 6) ـ فهذه كلمة من (( كلمات ربي )) (18 : 110)، كلمة من (( كلمات الله )) (31 : 27؛ 6 : 34؛ 40 : 64). فهنا (( كلمة الله )) في الوحي والتنزيل، أو القضاء والقدر؛ وفي التعريف (( كلمته وروح منه )) نرى (( كلمة الله )) الذاتية، في ذاته، لأنه (( روح منه )) أي (( صدر منه )) ( البيضاوي ).

وبما أن (( كلمة الله )) في هذا التعريف هـو (( روح منه )) ، وهـذا الروح منه هـو (( كلمته )) ، فليس هو كلامـاً من الله، وأمـراً منه بتكوين عيسـى المعجز من مريم؛ بل هو (( روح منه )) تعالى، صادر من ذاته، في ذاته؛ واسمه (( كلمة الله )) للدلالة على أنه صدور ذاتي نطقي. فهو (( روح منه )) بصفة كونه نطقه الذاتي.

ويشهدون للحق الذي في القرآن عندما يفسرون (( مصدقاً بكلمة من الله )) ( آل عمران 39 ) أي (( بعيسى أنه روح الله )) ( الجلالان )؛ (( سمّي ( كلمة الله ) كأنه صار عين الله ... واعلم أن ( كلمة الله ) هي كلامه، وكلامه على قول أهل السنّة: صفة قديمة قائمة بذاته )) (الرازي).

وقول أهل السنّة هذا هو قول المسيحية كلها في تفسير اسم المسيح وشخصيته السامية: أنه (( كلمة الله )) ، فهو (( صفة قديمة قائمة بذاته )) .

فهذا التعريف بأن كلمة الله في المسيح (( صفة قديمة قائمة بذات الله )) هو قول الحق في القرآن والإنجيل معاً.

وكلمة الله، القائم في ذات الله (( روحاً منه )) قد ألقاه إلى مريم في عيسى ابن مريم. فعيسى ابن مريم هو (( كلمته وروح منه )) . تلك هي الثنائية القائمة، بحسب

القرآن نفسه، في شخصية المسيح. ولا سبيل إلى التهرّب من هذه الازدواجية القرآنية في المسيح.

فالمسيح، بصفة كونه ابن مريم هو عبد، لا رب.

لكن المسيح، بصفة كونه (( كلمته وروح منه )) هو رب لا عبد، لأنه (( صفة قديمة قائمة بذات الله )) قبل إلقائه إلى مريم، وبعده؛ من الأزل وإلى الأبد.

تلك هي الازدواجية القائمة في النصوص القرآنية، في شخصية المسيح، كلمة الله وابن مريم معاً. والمشكل يتخطى النص إلى ضمير النبي العربي كما نرى في سورة الزخرف. نرى فيها التصريح بأن ابن مريم عبد لا رب: (( ولما ضُرب ابن مريم مثلاً، إذا قومك منه يصدّون ... إن هو إِلاّ عبد أنعمنا عليه، وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل )) (57 ـ59). مع ذلك فالإنكار ليس مطلقاً: (( قل: إن كان للرحمان ولد، فأنا أول العابدين )) (81).

وهذه الثنائية في شخصية المسيح تظهر في هذا التعريف الخطير: (( إنما المسيح: 1) عيسى ابن مريم رسول الله. 2) وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) (النساء 171) أي (( ذو روح صدر منه )) ( البيضاوي ) ـ وروح يصدر من الله ليس بمخلوق، إذ الروح المخلوق لا (( يصدر منه )) تعالى، بل يخلق خلقاً.

فالمسيح ذات وحدة في شخصية ثنائية: إنه عيسى ابن مريم؛ ولكنه في ذاته (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ، أي كلمة الله الذاتية الروحية النطقية.

هذا هو (( الكلمة )) ، (( كلمة الله )) في عرف القرآن نفسه.

وإذا كانوا يقولون في القرآن، كلام الله المنزل، بأنه قديم في ذات الله ـ وهو يتضمن دعوة النبي العربي وجهاده وغزواته وخصوصياته ـ فكم

بالأحرى يجب التسليم بأن المسيح في ذاته هو كلمة الله، (( صفة قديمة قائمة بذاته )) ، قبل أن يُلقى إلى مريم.

فكلمة الله، في عيسى ابن مريم، هو فوق البشر، وفوق المخلوق: إنه (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) . فالقرآن يصدّق الإنجيل.

فمن الإخلاص للقرآن في تفسيره، الإقرار بتلك الازدواجية في تعريفه بالمسيح، التي يتضح منها الثنائية في شخصية المسيح، بحسب القرآن نفسه. وتلك الازدواجية القائمة فيه، لا ريب فيها، هي التي تفسّر معطيات القرآن كلها تفسيراً كاملاً صحيحاً؛ وهي التي تظهر سر المسيح الكامل في القرآن والإنجيل.

2) ومن هو (( الروح القدس )) ، بحسب القرآن؟

إن تعبير (( روح القدس )) متشابه في القرآن.

فقد يعني الملاك جبريل كما في قوله: (( قلْ: نزَّله روح القدس من ربك بالحق )) (النحل 102 )، (( قلْ: من كان عدوّاً لجبريل ـ فإنه نزَّله على قلبك بالحق )) ( البقرة 97 ). هذا بالنسبة للنبي العربي والقرآن.

وقد يعني (( روح القدس )) الذي أيّد المسـيح في شخصيته، أو في دعوته ومعجزاته: (( وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات، وأيّدناه بروح القدس )) ( البقرة 87 و253؛ المائدة 119 ). رأى فيه الجلالان: (( الروح المقدسة، جبريل، لطهارته، يسير معه حيث سار )) ( البقرة 88 و253 ). وغيرهما يرون فيه، ليس فقط الروح المؤيد له في دعوته ومعجزاته، بل الروح المؤيد له في شخصيته،

ولم يكن مستقلاً عن ذاته: (( روح عيسى، ووصفها به لطهارته من مسّ الشيطان، أو لكرامته على الله تعالى أو لأنه لم تضمه الأصلاب ولا الأرحام الطوامس. أو الإنجيل (؟). أو اسم الله الأعظم الذي كان يحيي به الموتى )) ( البيضاوي على البقرة 87 ). ونقل الزمخشري عن ابن عباس، ترجمان القرآن: (( إن روح القدس هو الاسم الذي كان يُحيي به عيسى عليه السلام الموتى. لا يفارقه ساعة )) . فروح القدس الذي أيّد به الله المسيح هو (( الاسم الأعظم )) . والاسم دليل الذات؛ والفعل برهان الذات: فإِحياء الموتى، والمقدرة على الخلق، هما خصائص الذات الإلهية والاسم الأعظم. فروح القدس المحيي إِمّا هو روح عيسى، وإِما هو (( الاسم الأعظم، ذات في الله غير الله والمسيح، كلمة الله؛ فهو (( مما استأثر بعلمه )) ( البيضاوي ).

وتلك المعاني المتعارضة في ذاتية (( روح القدس )) كانت مشكلاً في ضمير النبي العربي، قبل السامعين: (( ويسألونك عن الروح؟ ـ قلْ: الروح من أمر ربي؛ وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً )) ( الإسراء 85 ). قال البيضاوي: (( من أمر ربي معناه من وحي ربي )) . أي العلم القليل الذي أعلمه أن (( الروح )) من وحي الله. (( فالروح )) على الإطلاق ذات في الله، يتمتع معه بالاسم الأعظم. تلك هي الكلمة الأخيرة في القرآن عن (( روح القدس ))، (( الروح )) على الإطلاق: فلا هو جبريل، ولا هو القرآن، إنه (( أعظم من الملاك )) ( البيضاوي ).

فروح القدس، (( الروح )) على الإطلاق هو روح من الله، في الله، يتمتع معه بالاسم الأعظم. هذا هو تلقين الإنجيل أيضاً.

وتأييد الله للمسيح به، (( لا يفارقه ساعة )) ، (( يسير معه حيث سار )) دليل على صلة خاصة ذاتية بين روح القدس والله، وبين روح القدس والمسيح، كلمة الله. تلك هي صورة التثليث المسيحي تتجلى لنا من تعابير القرآن نفسها: الله والكلمة والروح.

وهكذا تتضح لنا، بتلقين القرآن والتفسير الصحيح له، شخصية كلمة الله في ذات الله؛ وشخصية الروح القدس، الروح على الإطلاق، الاسم الأعظم، في ذات الله.

فالله وكلمته وروحه، كما ورد في القرآن نفسه، هو الثالوث الأقدس، في الله الواحد الأحد، الذي نزل به الإنجيل.

فالقرآن إِذن، مع تكفيره لتثليث منحرف، بتعابيره الأربعة في (( الثلاثة )) ، يشير إلى تثليث صحيح، الله والكلمة والروح، كما نزل في الإنجيل وكما تقول به المسيحية.

هذا هو التثليث الصحيح، ما بين الإنجيل والقرآن.

فلا ننسَ أمره للنبي العربي: (( فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك )) ( يونس 94 )؛ وللمسلمين: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبيّنات والزبر )) ( النحل 43 ـ44 )، فإن عندهم (( علم الكتاب )) ( الرعد 45 )، وأنتم (( ما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً )) ( الإسراء 85 ).

* * *

خامساً: موقف المفسرين والمتكلمين من التثليث الصحيح

ذاك هو التثليث الصحيح، في التوحيد الخالص.

والمفسّرون يقرّون بذلك على مضض. وتراهم في حيرة من أمرهم إذا ما قابلوا التثليث الصحيح الذي يشير إليه القرآن في تعابيره المطلقة: الله والكلمة والروح، بالتثليث المنحرف الذي يكفره القرآن بصيغة (( الثلاثة )) .

وتجاه تكفير القرآن للقول (( بالثلاثة )) يُحمَلون على ظاهره، ويَحمِلون على التثليث الصحيح، باسم التوحيد، والقرآن. والتوحيد والقرآن براءٌ من حملاتهم.

وهذه هي تعليقاتهم على قوله: (( ولا تقولوا: ثلاثة )) ( النساء 170 ).

1ـ تفسير الزمخشري: (( يقولون: هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم )) .

(( إن صحت الحكاية عنهم أنهم يقولون: هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أقنوم الآب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس؛ وأنهم يريدون بأقنوم الآب: الذات؛ وبأقنوم الابن: العلم؛ وبأقنوم روح القدس: الحياة ـ فتقديره ( الله ثلاثة ). وإِلاّ فتقديره ( الآلهة ثلاثة ). والذي يدل عليه القرآن التصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة؛ وأن المسيح ولدُ الله من مريم. ألا ترى إلى قوله: ( أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله )! وحكاية الله أوثق من حكاية غيره )) .

أجل (( حكاية الله أوثق من حكاية غيره )) . لكـن القرآن حكى في تلك الآيـة لتفسير (( الثلاثة )) مقالة بعض النصارى من جهال العرب في تثليثهم الكافر الذي كفرته المسيحية قبل القرآن. فجاء الزمخشري وجعل من ذاك التثليث المنحرف تثليث المسيحية ظلماً وعدواناً؛ مع أنه ينقل التثليث المسيحي الصحيح بتعبيره الصريح: (( الله ثلاثة: جوهر واحد، ثلاثة أقانيم )) . ولِمَ يشك في صحة مقالتهم التي يوردها عنهم، وينسب إليهم مقالة كافرة هم منها براء؟ إنه يفتري على القرآن وعلى المسيحية إذ يقول: (( وحكاية الله أوثق من حكاية غيره )) .

2) تفسير البيضاوي: الله ثلاثة أقانيم: الآب والابن وروح القدس )) .

(( ولا تقولوا: ثلاثة! أي الآلهة ثلاثة: الله والمسيح وأمه. ويشهد عليه

قوله: ( أَأَنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) ـ أو ( الله ثلاثة )، إن صح أنهم يقولون: الله ثلاثة أقانيم، الآب والابن وروح القدس؛ ويريدون بالآب الذات، وبالابن العلم، وبروح القدس الحياة )) .

والمسيحيون يسألون البيضاوي وأَمثاله: لِمَ هذا الشك من مقالتهم التي بها يجهرون؟ ولِمَ الافتراء عليهم بنسبة مقالة كافرة من بعض جهال الجاهلية، إلى المسيحية جمعاء، وهي منها براء؟

فالبيضاوي ينقل أيضاً صيغة التثليث الصحيح، ولا يكفرها. بل يكذب عليها مثل غيره، اعتماداً على ظاهر القرآن في ما لا يعني المسيحية بشيء.

3) تفسير الرازي: (( صفات ثلاث ـ فهذا لا يمكن إنكاره )) .

الرازي مفسّر متكلـّم. وهو يتعرّض لصيغة التثليث المسيحي ويطبق عليها تكفير القرآن (( للثلاثة )) ، لتفسير منه خاطئ:

وقوله ( ثلاثة ) خبر مبتدإٍ محذوف. ثم اختلفوا في تعيين ذلك المبتدإِ على وجوه:

(( الأول: ما ذكرناه، أي ولا تقولوا ( الأقانيم ثلاثة ). المعنى لا تقولوا: إن الله سبحانه واحد بالجوهر، ثلاثة بالأقانيم. واعلم أن مذهب النصارى مجهول جداً، والذي يتحصل منه أنهم أثبتوا ذاتاً موصوفة بصفات ثلاث. إِلاّ أنهم سموها صفات، وهي في الحقيقة ذوات قائمة بأنفسها. فلهذا المعنى قال: (( ولو تقولوا: ثلاثة. انتهوا ): فأما إن حملنا ( الثلاثة ) على أنهم يثبتون صفات ثلاث فهذا لا يمكن إنكاره. وكيف لا نقول ذلك، ونحن نقول: ( هو الله الملك القدوس السلام العالم الحي القادر المريد ). ونفهم من كل واحد من هذه الألفاظ غير ما نفهمه من اللفظ الآخر. ولا معنى لتعدد الصفات إلاّ ذلك.

فلو كان القول بتعدد الصفات كفر، لزم ردّ جميع القرآن، ولزم ردّ العقل، من حيث نعلم بالضرورة أن المفهوم من كونه تعالى عالماً، غير المفهوم من كونه حيّاً.

(( الثاني: آلهتنا ثلاثة، كما قال الزجاج مستشهداً بآية المائدة (119).

(( الثالث: قال الفرّاء: ( هم ثلاثة ) كقوله ( سيقولون: ثلاثة ). وذلك لأن ذكر عيسى ومريم مع الله بهذه العبارة يوهم كونهما إِلهين )) .

ونحن لا يعنينا التفسير اللغوي للمبتدإِ المحذوف. إنما يهمنا تفسير الرازي لمقالة المسيحيين في التثليث. فهو يرد (( الأقانيم الثلاثـة )) لأنها (( في الحقيقة ذوات قـائمة بأنفسها )) . وهذا هو غلطه في فهم العقيدة المسيحية: فليست الأقانيم الثلاثة في الله (( ذوات قائمة بأنفسها )) ؛ إنما ذوات قائمة في جوهر الله الفرد.

والتثليث المسـيحي هو كما وصفه الرازي: (( إنهم أثبتوا ذاتـاً موصوفة بصفات ثلاث )). والمسيحيون يسمّون هذه الصفات الإلهية الثلاث: الأبوة والبنوة والروحانية في الله ، (( أقانيم )) ، لتمييزها عن سائر صفات الله . فتلك الأقانيم الثلاثة هي صلات ذاتية كيانية ـ لا محض صفاتية ـ وهي قائمة في الجوهر الإلهي الفرد. لذلك نرد على الرازي قوله: (( فأما أن حملنا الثلاثة ـ ويجب أن نحملها ـ على أنهم يثبتون صفات ثلاث، فهذا لا يمكن إنكاره ... فلو كان القول بتعدد الصفات كفر، لزم رد جميع القرآن، ولزم رد العقل )) .

فالمسيحيون يثبتون في الله ذاتاً موصوفة بصلات ذاتية كيانية ثلاث، يسمّونها الآب والكلمة والروح. هذا هو التثليث المسيحي الصحيح الذي لمحه الرازي وابتعد عنه لعقدة في نفسه.

وهذا ما يثبته المسيحيون من صلات ذاتية، أو صفات كيانية، في الله تعالى: فمن أنكرها لزمه ردّ القرآن، ولزمه رد العقل؛ لأن هذا التثليث الصحيح من صميم التوحيد.

4) تفسير الغزالي: وهو ينصف المسيحية في عقيدتها التثليثية.

قال حجة الإسلام1 في تحليل التثليث المسيحي: (( يعتقدون أن ذات الباري واحدة. ولها اعتبارات:

(( فإِن اعتُبرت مقيدة بصفة لا يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها كالوجود، فذلك المسمى عندهم بأقنوم الآب. وإن اعتُبرت موصوفة بصفة يتوقف وجودها على تقدم وجود صفة قبلها، كالعلم ـ فإن الذات يتوقف اتصافها بالعلم على إنصافها بالوجود ـ فذلك المسمى عندهم بأقنوم الابن أو الكلمة. وإن اعتُبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها، فذلك المسمى عندهم بأقنوم روح القدس.

(( فيقوم إذن الآب معنى الوجود، ومن الكلمة أو الابن معنى العلم، ومن روح القدس كون ذات الباري معقولة له. هذا حاصل هذا الاصطلاح فتكون ذات الإله واحدة في الموضوع، موصوفة بكل أقنوم من هذا الأقانيم.

(( ومنهم من يقول: إن الذات، إن اعتُبرت من حيث هي ذات، لا باعتبار صفة البتة، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن العقل المجرد؛ وهو المسمى عندهم بأقنوم الآب. وإن اعتُبرت من حيث هي عاقة لذاتها، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى العاقل، وهو المسمى بأقنوم الابن أو الكلمة. وإن اعتُبرت بقيد كون ذاتها معقولة لها، فهذا الاعتبار عندهم عبارة عن معنى المعقول، وهو المسمى بأقنوم روح القدس.

(( فعلى هذا الاصطلاح يكون العقل عبارة عن ذات الله فقط، والآب مرادفاً له؛ والعاقل عبارة عن ذاته بقيد كونها عاقلة لذاتها، والابن أو الكلمة

(1) الغزالي: الرد الجميل ص 43.

مرادف له؛ والمعقول عن الإله عبارة عن الإله الذي ذاته معقولة له، وروح القدس مرادف له.

(( هذا اعتقادهم في الأقانيم: وإذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ، ولا في اصطلاح المتكلمين )) .

فالغزالي يشهد للمسيحيين بالتوحيد. ويشهد لهم بصحة اصطلاحهم في تفسير التثليث في التوحيد، بناءً على الاعتبارين اللذين ساقهما عنهم: الأول على اعتبار الأقانيم في الله صفات ذاتية، في الذات الإلهية الواحدة؛ والثاني على اعتبار الأقانيم في الله أفعالاً ذاتية في الذات الإلهية الواحدة.

والقول الصحيح الذي يجمع الأفعال الذاتية والصفات الذاتية، في الله الواحد الأحد، كونها صلات كيانية بين الله الآب وكلمته وروحه، في الجوهر الإلهي الفرد.

وقد أنصف الغزالي التثليث المسيحي في هذا الحكم: (( إذا صحت المعاني فلا مشاحة في الألفاظ، ولا في اصطلاح المتكلمين )) . والمعاني قد صحت، بحسب التنزيل الإنجيلي، والكلام المسيحي الذي يفصّله.

القول الفصل، في مطابقة الأشعرية للمسيحية.

الأشعرية هي مذهب أهل السنّة والجماعة في الإسلام. ومقالتها في مشكل الذات والصفات في الله، هي أصح تعبير لحقيقة الأقانيم الثلاثة في الله.

كانت الصفاتية تقول: (( صفات الله هي غير ذاته )) ، ممّا يقود إلى القول بقديمين. فجاءت المعتزلة تقول: (( صفات الله هي عين ذاته )) ، ممّا يقود إلى

التعطيل في الله. وقامت الأشعرية تقول بمنزلة بين المنزلتين: (( الصفات في الله ليست هي عين الذات، ولا هي غيرها؛ إنما هي في منزلة بين المنزلتين )) . وكيف يكون ذلك؟ هذا سر الله في ذاته.

والتعبير الأشعري، وهو قول الإسلام في الذات والصفات، أصح تعبير للتثليث المسيحي: إِن الأقانيم الثلاثة في الله الواحد الأحد، صفات ذاتية، بل صلات كيانية، (( ليست هي عين الذات، ولا هي غيرها؛ إنما هي في منزلة بين المنزلتين )) .

وإذا قيل: كيف يكون ذلك؟ أجيب بما قاله الإمـام مالك في (( الله على العرش اسـتوى )). قال: (( الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والسؤال عنه بدعة )) .

فإِذا كان السؤال عن تعبير قرآني مجازي بدعة، فكم بالحري السؤال عن صلات الله الأقنومية في ذاته؟ لذلك يكفر من يحوّل الكلام في الذات والأقانيم إلى عملية حسابية، فيقول: كيف يكون الواحد ثلاثة؟ كلاّ ليس الواحد ثلاثة، على اعتبارها واحد، وعلى صعيد واحد، إنما الله واحد في ذاته مثلث في صفاته، أَو صلاته الذاتية أي أقانيمه الثلاثة. وليس في هذا ما يتعارض مع النقل الكريم، ولا مع العقل السليم.

هذا هو التثليث الصحيح، في التوحيد الخالص.

وهذا التثليث الإنجيلي، في التوحيد الكتابي، ليس بالتثليث المنحرف الكافر الذي يكفره القرآن بمقالته في (( الثلاثة )) ، وصيغها الأربعة؛ وقد كفرتها المسيحية من قبله.

لذلك فتكفير التثليث المسيحي، باسم التوحيد القرآني، هو افتراء على التوحيد وعلى القرآن؛ وجهل بالإنجيل والعقيدة المسيحية.

إن التثليث المسيحي في التوحيد الخالص هو تفسير منزل لحياة الحي القيوم في ذاته الصمدانية فلا خلاف على الإطلاق بين التوحيد القرآني والتثليث الإنجيلي، في التوحيد الكتابي، المتواتر في التوراة والإنجيل والقرآن.

تلك هي القاعدة الرابعة عشرة، في الحوار المسيحي الإسلامي.

الفصل الخامِس

ما بين القرآن والإنجيل

بحث أول

: ما بين القرآن، وما بين الكتاب

والإنجيل انتساب ونسب

بحث ثانٍ

: محمد في التوراة والإنجيل

بحث ثالث

: محمد في القرآن

بحث رابع

: القرآن في عرْف القرآن

توطئة

انتساب القرآن إلى (( الكتاب الإمام )) وإلى (( الكتاب المنير ))

في القرآن ظاهرة ثابتة متواترة هي محوره وأساسه: انتسابه الدائم إلى الكتاب عامة، وإلى الإنجيل وأهله خاصة.

لقد بحثنا نظرية القرآن في الإنجيل. والآن ندرس نظرية القرآن في نفسه، وفي نبيّه، وظاهرة انتسابه مع نبيّه إلى الكتاب وأهله، خصوصاً إلى الإنجيل وأهله، (( أولي العلم )) المقسطين.

فالقرآن، مع قوله بتنزيله، يعلن بتواتر انتسابه الدائم إلى الكتاب الذي نزل قبله؛ ويصرّح بتواتر نسبة من الكتاب وأهله، حتى أنه ليجعل من أتباعه (( المتقين )) ، ومن أهل الكتاب المقسطين (( أمة واحدة )) ( الأنبياء 91، المؤمنون 53 ).

وانتساب القرآن إلى الكتاب عامة، وإلى الإنجيل خاصة، هو حجر الزاوية في الحوار الإسلامي المسيحي. فقد جاء القرآن ليعلم العرب (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل، بحسب اصطلاحه.

فلا يصح إسلام بدون هذا الانتساب الذي يقرره القرآن.

ولا يصح حوار بين الإسلام والمسيحية إلاّ على أساس هذين الانتساب والنسب المقرّرين في القرآن.

فقواعد العقائد في الحوار الإسلامي المسيحي تقوم على هذا الانتساب وعلى هذا النسب.

ففي هذا الفصل، القول الفصل في الحوار.

بحث أول

ما بين القرآن، وما بين الكتاب والإنجيل، انتساب ونسب

( القاعدة الخامسة عشرة في الحوار الإسلامي المسيحي )

ظاهرة كبيرة، فريدة، في القرآن، إعلانه المتواتر بانتسابه وانتساب نبيّه إلى الكتاب عامة، وإلى الإنجيل وأهله خاصة. وهذا الانتساب في القرآن إلى الكتاب، وإلى الإنجيل خاصة، هو الذي يفرض الحوار على المسلمين مع أهل الكتاب، وخصوصاً مع أهل الإنجيل.

أولاً: انتساب القرآن إلى الكتاب كله

يظهر الانتساب في مبادئ القرآن العامة فالخاصة.

1ـ مبادئ القرآن العامة في انتسابه إلى الكتاب من قبله

1) وحدة الكتاب المنزل

إِنه لمبدأ قرآني عام أن الكتاب الذي نزّل الله على المرسلين أجمعين هو واحد: (( كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه )) ( البقرة 112 ).

لاحظ التعريف والإطلاق في وحدة الكتاب المنزل: (( الكتاب )) . فكل مرة يذكر القرآن انتسابه إلى (( الكتاب )) معرّفاً مطلقاً، فهو يعني الكتاب الذي نزل قبله، لا (( أم الكتاب )) في السماء.

وهذا الكتاب الذي نزل قبله، هو الذي أُنزل على محمد، تصديقاً لما قبله: (( الله ... الحي القيوم نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه ( قبله ) وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس، وأنزل الفرقان )) ( آل عمران 1 ـ3 ).

وقد أُنزل عليه الكتاب الأول مفصلاً: (( وهو الذي أَنزل إليكم الكتاب مفصلاً )) ، كما يشهد أهل الكتاب أنفسهم ( الأنعام 114 ). فالقرآن إنما هو (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 36 ).

فوحدة الكتاب المنزل على محمد وأنبياء الكتاب تدل على وحدة النسب.

2) وحدة الدين بين القرآن والكتاب:

إنه لمبدأ قرآني عام أيضاً أن الدين واحد، من نوح، إلى إبراهيم، إلى موسى، إلى عيسى، إلى محمد: (( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين، ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه )) ( الشورى 13 ): فوحدة الدين ما بين التوراة والإنجيل والقرآن تدل على وحدة النسب، لأن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى ديناً واحداً بلا تفرقة.

3) وحدة الإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن:

إنه لمبدأ قرآني عام أيضاً أن الإسلام واحد ما بين القرآن والكتاب:

(( قل: آمنا بالله، وما أنزل علينا، وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون. ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 84 ـ85 ).

فالإله واحد، والتنزيل واحد، والإيمان واحد، والإسلام واحد، في التوراة والإنجيل والقرآن، مع جميع الأنبياء من إبراهيم إلى محمد؛ فلا يصـح تفريق ما بين كتب الله وأنبيائه: (( لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )) .

فوحدة الإسلام بين القرآن والكتاب كله تدل على وحدة النسب.

4) وحدة الوحي من نوح إلى محمد:

إِنه لمبدأ قرآني عام أيضاً تقريره وحدة الوحي من نوح إلى محمد: (( إِنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده؛ وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ؛ وعيسى، وأيوب ويونس وهارون وسليمان. وأتينا داود زبوراً... رسلاً مبشرين ومنذرين، لئلاَّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وكان الله عزيزاً حكيماً )) ( النساء 162ـ 163 ).

فالوحي واحد من نوح إلى محمد. وهو مبدأ مزدوج: وحدة الرسل، ووحدة الوحي مع الرسل.

فوحدة الوحي، مع وحدة المرسلين به، تدل على وحدة النسب.

5) وحدة الشريعة المنزلة للعالمين:

إِنه لمبدأ قرآني عام أيضاً، وحدة الشريعة المنزلة، في أصولها، وإن اختلفت

الفروع فيها، بحسب أزمان نزولها: (( يريد الله ليبيّن لكم، ويهديكم سُنن الذين من قبلكم، ويتوب عليكم، والله عليم وحكيم )) ( النساء 25 )؛ أي (( طرائق الأنبياء في التحليل والتحريم، فتتبعوهم )) ( الجلالان ).

مع ذلك: (( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة )) ( المائدة 51 ). وحدة في الأصول، وتمييز واستقلال في الفروع.

فوحدة الشريعة المنزلة للعالمين، في أصولها، تدل على وحدة النسب.

تلك هي مبادئ القرآن العامة في انتسابه المطلق إلى الكتاب، وإلى أنبيائه، وإلى أهله.

2ـ مبادئ القرآن الخاصة في انتسابه إلى الكتاب من قبله

في القرآن مشاهد ومواقف ومبادئ خاصة تشهد بانتساب محمد والقرآن إلى الكتاب وأهله، وتفصّل معنى وأهداف البعثة المحمدية إلى العرب.

1) هداية محمد إلى الكتاب وإسلامه

يعلن: (( وجدك ضالاً فهدى )) ( الضحى 7 ). ويفسرها قوله: (( وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) ( النمل 91 ـ92 ). فالمسلمون موجودون من قبله، ويُؤمر بأن ينضم إليهم، ويتلو معهم قرآن الكتاب، (( بلسان عربي مبين )) ، لأن (( تنزيل رب العالمين )) إنما هو (( في زبر الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلَمه علماء بني إسرائيل )) ( الشعراء 113 ـ 197 ). لذلك (( قلْ: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأُمرت لأعدل بينكم )) ( الشورى 15 ).

كانت رسـالة النبي العربي أولاً هداية إلى الكتاب، مع الأمـر بالانضمام إلى أهـله (( المسلمين )) من قبله؛ ثم بعثةً إلى العرب (( ليعلمهم الكتاب والحكمة )) .

2) بعثة محمد كانت ليعلم العرب (( الكتابة والحكمة ))

(( هذا بيان للناس، وهدى وموعظة للمتقين )) ( آل عمران 138 ). (( الناس )) تعبير يعم العرب أجمعين؛ و (( المتقون )) اصطلاح مأخوذ عن أهل الكتاب يعني الأميّين الذين آمنوا بالكتاب، وهنا العرب المهتدين.

والبيان هو: (( لقد من الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم؛ يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإنْ كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) ( آل عمران 164 ).

فبعثة محمد كانت ليعلم العرب (( الكتاب والحكمة )) أي (( التوراة والإنجيل )) كما في عطف البيان الوارد في قوله: (( الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) ( آل عمران 48 المائدة 113 ). (( فالحكمة )) هنا اصطلاح، كنايةً عن الإنجيل، كما في قوله: (( ولما جاء عيسى بالبيّنات قال: قد جئتكم بالحكمة )) ( الزخرف 63 ).

بعض المفسرين يؤولون (( الكتاب )) في هذه المواطن بالقرآن؛ بينما القرائن العامة والخاصة تبيّن تحريفهم لمعناه، مثل قوله: (( وإن كنا عن دراستهم لغافلين )) ( الأنعام 156 ).

فتعليم الكتاب والحكمة أي التوراة والإنجيل للعرب، تلك هي بعثة محمد، كما تمنَّاها إبراهيم وإسماعيل للعرب: (( ربنا، وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنك أنت العزيز

الحكيم )) ( البقرة 129 ). فبتلاوة آيات الله عليهم (( بلسان عربي مبين )) يعلمهم الكتاب والحكمة.

وهذا ما جرى: (( هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وانْ كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين )) ( الجمعة 2 ).

وهذا ما تحققه بنفسه: (( كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون )) ( البقرة 151 )، لأنهم كانوا (( عن دراستهم لغافلين )) ( الأنعام 156 ).

فانتساب القرآن إلى الكتاب ظاهر من تعليم الكتاب والحكمة للعرب، بواسطة القرآن.

3) فسبب بعثة محمد للعرب غفلتهم عن دراسة الكتاب والحكمة

لقد درس محمد الكتاب كله، ليدرّسه للعرب، وذلك بنص القرآن القاطع. يقول في درس محمد للكتاب: (( وكذلك نصرّف الآيات ـ وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون )) (الأنعام 105). فسره الجلالان: (( دارست: أي ذاكرت أَهل الكتاب. وفي قراءة ( درست ) أي كتب الماضين وجئت بهذا منها )) . ونلاحظ أنه لا يرد التهمة، بل في الآية نفسها يبيّن الغاية من درس الكتاب ومدارسته أهله، فيقول: (( لنبيّنه لقوم يعلمون )) . وهو، بدرْس الكتب المقدسة، يستعلي على بني قومه الأمييّن: (( وما آتيناهم من كتب يدرسونها )) ( سبأ 44 ). ومنذ سورة القلم يفخر (( بالمسلمين )) الذين انضمّ إليهم، ويستعلي بالكتاب الذي يدرسه معهم: (( أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما بالكم، كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون )) ؟ ( القلم 35 ـ37 ).

فقد درس محمد الكتاب، بل الكتب المقدسة كلها، ليدرّسها للعرب الذين غفلوا عن دراسـتها: (( أَن تقولوا: إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وانْ كنا عن دراستهم لغافلين )) ( الأنعام 156 ).

فسورة الأنعام تشهد بأن بعثة محمد كانت درْس الكتاب والحكمة، وتدريسهما للعرب الغافلين عنهما ـ والدرس والتدريس لا يمنعان الوحي والتنزيل.

فانتساب القرآن إلى الكتاب ظاهر من تدريس الكتاب والحكمة للعرب، بواسطة القرآن.

4) غاية تنزيل الكتاب قرآناً عربياً إنما هي هداية العرب للكتاب

يصرح بذلك في قوله: (( فإِنما يسّرناه بلسانك لتبشّر به المتّقين، وتنذر به قوماً لدّاً )) (مريم 97). جاءه الكتاب بلسانه العربي يبشر به (( المتقين )) أي العرب المهتدين، وينذر به الكافرين. ويؤكد ذلك: (( وكذلك أنزلناه قرآناً عربيّاً، وصرّفنا به من الوعيد، لعلّهم يتّقون، أو يُحدث لهم ذكراً )) ( طه 113 ). والضمير المتواتر في (( أنزلناه )) يعود دائماً إلى الكتاب المنزل من قبله، لأن القرآن (( تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب )) ( يونس 36 ). يشهد على ذلك ويفرح به أهل الكتاب: (( وكذلك أنزلناه حُكماً ( حكمة ) عربيّاً ... والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أُنزل إليك )) ( الرعد 38 ـ36 ).

فتنزيل الكتاب قرآناً عربيّاً، وتيسيره بلسان محمد (( ذكراً لك ولقومك )) ، إنما هو دليل انتساب القرآن ونبيه إلى الكتاب الإمام.

5) القرآن بيان الكتاب

يعلن في مطالعه: (( تلك آيات الكتاب، وقرآن مبين )) ( النمل 1؛ الحجر 1 ).

فالقرآن يبيّن آيات الكتاب. وليس الكتاب الذي في السماء، بل المنزل من قبله، كما في هذا التصريح القاطع: (( أولم تأتيهم بيّنه ما في الصحف الأولى )) ؟ ( طه 133 ). يؤكد ذلك قوله: (( وإنه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين )) ( الشعراء 193 ـ197 ). هذا هو هدف بعثة محمد بالقرآن: (( وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم، ولعلهم يتفكرون )) (النحل 44). فالقرآن بيان التنزيل الذي في الذكر الحكيم من قبله، عقيدة وشريعة: (( ليهديكم سنن الذين من قبلكم )) ( النساء 25 ). لذلك فالقرآن (( بيان للناس )) ( آل عمران 138 )، من (( رسول مبين )) (42 : 29؛ 44 : 13)، أو (( نذير مبين )) (46 : 9؛ 51 : 50)، (( بلسان عربي مبين )) (26 : 195؛ 16 : 103).

فانتساب القرآن إلى الكتاب يظهر من كونه بيان الكتاب.

6) القرآن (( تفصيل الكتاب ))

هذا هو التعريف المتواتر فيه: (( تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيّاً لقوم يعلمون )) ( فصلت 1 ). فالتنزيل هو في الكتاب الذي فصّل قرآناً عربيّاً. والتفصيل اصطلاح قرآني يعني الترجمة على حدّ قوله: (( ولو جعلناه أعجميّاً لقالوا: لولا فصّلت آياته! أأعجمي وعربي؟ )) ( فصلت 44 ). وقام بالتعريب حكيم خبير، (( كتاب أُحكمت آياته، ثم فصّلت من لدن حكيم خبير )) ( هود 1 ـ2 ). وقد فعل ذلك باسم الله، كما يعلم ذلك أهل الكتاب: (( أفغير الله أبتغي حكماً، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً. والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، فلا تكوننَّ من الممترين )) ( الأنعام 114 ). فترجمة التنزيل لا ترفع عنه صفة التنزيل، لذلك (( فالكتاب المفصّل )) هو (( منزّل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين )) ، يا محمد. لذلك (( ما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله، ولكن تصديق

الذي بين يديه ( قبله )، وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) ( يونس 37 ). والقول الفصل في هذه الشهادة: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم )) (الأحقاف 9): إِن (( مِثل )) القرآن عندهم.

فانتساب القرآن إلى الكتاب يظهر من كونه (( تفصيل الكتاب )) .

7) القرآن تصديق الكتاب

إن القرآن في ذاته (( تفصيل الكتاب )) ؛ وغايته تصديق الكتاب المنزل قبله: (( ولكن تصديق الذي بين يديه )) أي قبله ( يونس 37 ): فهو (( مصدق الذي بين يديه )) ( الأنعام 92)؛ (( مصدق لمـا معهم )) ( البقرة 89؛ 101 )، (( مصدق لما معكم )) ( آل عمران 81 )؛ وجاء (( مصدقاً لما معكم )) (2 : 41؛ 4 : 46)، (( مصدقاً لما معهم )) (2 : 91)، (( مصدقاً لما بين يديه )) (2 : 97؛ 3 : 3؛ 5 : 49 و51؛ 35 : 31؛ 46 : 30). فليس فيه ما يميّزه عن الكتاب إمامه سوى التصديق له بلسان عربي: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة؛ وهذا كتاب مصدّق لساناً عربيّاً )) ( الأحقاف 12 ). فصفة القرآن إنه الكتاب المصدّق للكتاب الإمام: (( وهذا كتاب أنزلناه مصدّق الذي بين يديه، ولينذر أمّ القرى ومَن حولها )) ( الأنعام 92 ).

فانتساب القرآن إلى الكتاب يظهر من كونه (( الكتاب المصدّق )) له.

8) الكتاب إِمام القرآن

يعلن ذلك في قوله: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً ) ( هود 17 ). فالكتاب إِمام القرآن في الهدى والبيان: (( ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربيّاً )) ( الأحقاف 12 ): فليس ما بين

القرآن والكتاب إِمامه من فارق سوى اللسان العربي. وهذا التصريح الضخم يجعل انتساب القرآن إلى الكتاب كاملاً مطلقاً.

وكما ينتسب إلى كتاب موسى، فهو يجادل العرب بهدى وعلم الإنجيل، الكتاب المنير، كما يستعلي بذلك عليهم: (( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) ( الحج 8 لقمان20 ).

فالكتاب إِمام القرآن، وأهل الكتاب، (( عباد الرحمان ... الذين يبيتون لربهم سُجّداً وقياماً )) ـ بمعنى قائمين يصلون بالليل ( الجلالان )، وهي عادة رهبان النصارى من دون العالمين ـ هم أَيضاً إمام المتقين من العرب: (( واجعلنا للمتقين إماماً )) ( الفرقان 63 ـ74 ).

فإذا كان كتاب موسى إِمام القرآن، والكتاب المنير أي الإنجيل هو العلم والهدى اللذين بهما يجادل الناس، فانتساب القرآن ونبيّه إلى الكتاب مطلق.

9) القرآن يقتدي بهدى الكتاب وأهله

هذا هو الأمر الصريح، في تبليغ القرآن إلى العرب: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم ( الحكمة ) والنبوة ... أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتدهْ )) ( الأنعام 89 ـ90 ). ورد هنا تعبير الحكمة بحرفه العبري (( الحُكم )) ؛ والحكمة في اصطلاحه (( الكتاب والحكمة )) كناية عن الإنجيل: فعلى النبي العربي أن يقتدي في الدعوة القرآنية بهدى أهل الإنجيل، الذين يقيمون التوراة والإنجيل معاً. فهم (( أولو العلم )) المقسطون الذين يشهد القرآن بشهادتهم (( أن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ـ19 ).

فإِذا كان النبي العربي (( يقتدي بهداهم )) ، والقرآن يشهد للإسلام بشهادتهم، فانتساب القرآن ونبيّه إلى الكتاب شامل كامل.

10) تنزيل القرآن من زبر الأولين

أخيراً هذا هو القول الفصل: (( إنه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل )) ؟ ( الشعراء 193 ـ197 ). فتنزيل رب العالمين هو (( في زبر الأولين )) ، أي (( كتبهم كالتوراة والإنجيل )) ( الجلالان )؛ والقرآن هو تنزيل رب العالمين لأنه في زبر الأولين: هذا ما يشهد به (( علماء بني إسرائيل )) المقسطين أي النصارى منهم. فإِن (( مثل )) القرآن عندهم: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) (الأحقاف 9). هذا (( المثل )) هو الصحف المطهرة التي فيها كتب قيمة طلبها اليهود بيّنة: (( لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ( اليهود ) والمشركين منفكين حتى تأتيهم البيّنة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة، فيها كتاب قيّمة. وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب ( اليهود ) إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة )) ( البيّنة 1 ـ4 ).

فالتنزيل القرآني هو (( في زبر الأولين )) ؛ وعندهم (( مثله )) : فالانتساب نسب مطلق إلى الكتاب وإلى أهله المقسطين.

تلك هي مبادئ القرآن الخاصة في انتسابه إلى الكتاب وفي نسبه الشامل الكامل المطلق منه.

* * *

ثانياً: انتساب القرآن إلى الإنجيل وأهله على التخصيص

إن القرآن ينتسب بنوع خاص إلى الإنجيل وأهله؛ وما القرآن ـ بعد التوحيد ـ سوى دعوة للمسيح بين العرب، وضدّ اليهودية الظالمة بكفرها بالمسيح. وما تنكّر اليهود للقرآن ونبيّه إِلا لدعوتهما للمسيح.

1ـ محمد يُؤمر بأن ينضمّ إلى (( المسلمين )) النصارى

هذا هو تصريح القرآن القاطع: (( وأُمرتُ بأن أكون من المسلمين )) ( النمل 91 ). فالمسلمون موجودون من قبله، وهو ينضمّ إِليهم. وإِن كان تعبير (( المسلمين )) يدل على الموحدين أجمعين، المؤمنين بالتوحيد الكتابي المنزل؛ فهو على الخصوص اصطلاح قرآني يعني النصارى من أهل الكتاب، لا اليهود الظالمين ( العنكبوت 46 )، كما في قوله: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحُكم ( الحكمة ) والنبوة ... أولئك الذين هدى الله بهداهم اقتدهْ )) (الأنعام 90). فعلى محمد أن يقتدي بأهل (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل، كما رأينا، وهم النصارى. لذلك جاء القرآن نفسه هدى وبشرى للمسلمين النصارى: (( قل: نزّله روح القدس ( جبريل ) من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين )) (النحل 103). إن (( الذين آمنوا )) كناية متواترة عن جماعة محمد، وهو يميّزهم (( عن المسلمين )) تمييزاً صريحاً ـ والعاطف ليس فقط عطف بيان. فبعد أن انضم محمد إلى النصارى المسلمين، فصّل لهم التوراة والإنجيل1 قرآناً عربيّاً.

فمحمد في هدايته وبعثته إلى العرب ينضم إلى النصارى المسلمين، ويدعو بدعوتهم.

2) القرآن يشهد بشهادة (( أولي العلم )) المقسطين للإسلام

محور القرآن وشهادته الكبرى هما: (( شهد الله أنه لا إله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم: أَن الدين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( اليهود ) إِلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً

(1) الهدى في اصطلاحه كناية خاصة عن كتاب موسى؛ والبشرى ترجمة حرفية للفظ الإنجيل.

بينهم )) ( آل عمران 18 ـ19 ). لقد رأينا أن (( العلم )) على التخصيص هو العلم المنزل في الكتاب؛ وأن أولي العلم مرادف لأهل الكتاب. والقرآن يقسم أهل الكتاب، أو أولي العلم، إلى ظالمين، وهم اليهود؛ وإلى مقسطين أو محسنين، وهم النصارى. فالنصارى هم أولو العلم المقسطون الذين يشهدون مع الله وملائكته (( إن الدين عند الله الإسلام )) . والقرآن يشهد للإسلام (( النصراني )) بشهادتهم. لذلك (( اختلف الذين أوتوا الكتاب )) من اليهود؛ وأخذوا يضطهدون النبي العربي، ويقتلون النصـارى (( الذين يأمرون بالقسط، من الناس )) كما كانوا (( يقتلون النبيّين بغير حق )) ( آل عمران 21 ).

فالقرآن يشهد للإسلام بشهادة النصارى (( أولي العلم قائماً بالقسط )) .

3) والإسلام هو ما (( أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم ))

إن الإسلام الذي يدعو إليه القرآن هو إسلام الكتاب والإنجيل معاً، بدون تفريق بين كتب الله وأنبيائه. وهذا التوحيد بين التوراة والإنجيل، وبين موسى وعيسى، هو ميزة هذا الإسلام: (( قل: يا أهل الكتاب لستم على شيء، حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم )) ( المائدة 71 ). صحة الإسلام تقوم على عدم التفريق بين (( ما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم: لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون. ومَن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) ( آل عمران 84 ـ85 ). إن اليهودية تكفر بالمسيح والإنجيل! فقبول المسيح والإنجيل، شرطاً لصحة الإسلام، هو انتساب صريح إلى الإنجيل وأهله.

4) هذا الإسلام هو الدين الذي شرعه الله للعرب

أيَّ دين يحمل القرآن للعرب؟ وهل يأتي بدين جديد؟ إن دين القرآن هو

دين موسى وعيسى بلا تفريق بينهما: (( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرّقوا فيه )) (الشورى 13). ما وصى به الله نوحاً وإبراهيم انتهى إلى موسى ونزلت به التوراة؛ وما نزل مع عيسى هو الإنجيل . فالدين الذي يشرعه القرآن للعرب هو دين موسى وعيسى، دين التوراة والإنجيل، ديناً واحداً بلا تفرقة، ولا تفريق؛ وعدم التفريق هو أمر الله. فمن الإسلام الصحيح إقامة دين عيسى والإنجيل. هذا ما شرعه الله في القرآن. فلا يكون مسلماً صحيحاً مَن لا يقيم دين عيسى والإنجيل. هل فطن أهل القرآن إلى ذلك، وهل يعملون بأمر الله؟

6) فالقرآن يدعو إلى الإنجيل

تتصدر القرآن، في ترتيبه الحالي، هذه الآيات: (( ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين ... الذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون. أولئك على هدى من ربهم، وأولئك هم المفلحون )) ( البقرة 1 ـ5 )، فالقرآن يخبر بأن (( ذلك الكتاب )) الذي يتلوه محمد على مسامع العرب هو (( هدى للمتقين )) . وتعبير (( المتقين )) اصطلاح متواتر في القرآن عن أَهل الكتاب، للمهتدين من الأمميين، ومنهم العرب. فالكتاب، قبل القرآن، هو (( هدى للمتقين )) ، (( الذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك )) . فلا هدى لأهل القرآن بدون الكتاب.

وما جاء مجملاً في البدء، ينصّ على تخصيصه في الختام: (( وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدّقـاً لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين )) ( المائدة 49 ). صـار (( المتقون )) اصطلاحاً خاصّاً بجماعة محمد والقرآن. في هذا النص، يظهر الإنجيل محور التنزيل: فهو (( مصدّق لما بين يديه من التوراة )) ـ يكـرر ذلك مرتين؛ وهو في الوقت نفسه (( هدى وموعظة للمتقين )) من

العرب، جماعة محمد. لذلك فالإنجيل (( هدى ونور )) . وهذا صدى لقول المسيح في الإنجيل: (( أنا نور العالم، من تبعني لا يمشي في الظلام )) . فالإنجيل الذي في ذاته (( هدى ونور )) هو (( هدى وموعظة للمتقين )) ، جماعة محمد. فإِذا تركوا الإنجيل ليسوا على (( هدى )) ، لأنه دعوة لهم بنوع خاص. فالقرآن يدعو للإنجيل.

والقرآن يجـادل الناس في الله بالإنجيل، الكتاب المنير: (( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) ( الحج 8 ). يكـرر ذلك في سـورة لقمان، ويضيف: (( ومن يُسلم وجهه لله ، وهو محسن، فقد استمسك بالعروة الوثقى )) (20 و22). فالعروة الوثقى في الإيمان والدين هي إسلام الوجه لله، (( وهو محسن )) : ليس الإسلام على الإطلاق، بل الإسلام على التخصيص: (( وهو محسن )) . وهذا التعبير أيضاً اصطلاح قرآني، حيث (( المحسنون )) فيه صفة (( للمسلمين )) قبل القرآن: فقد نزل القرآن (( هدى وبشرى للمسلمين )) ( النحل 103 )، أي (( هدى ورحمة للمحسنين )) ( لقمان 3 )، (( وبشرى للمحسـنين )) ( الأحقاف 12 ). والمسـلمون المقسطون المحسـنون هـم، في اصـطلاحه، (( النصارى )) . فالإسلام على طريقة (( النصارى )) هو العروة الوثقى في الدين، والعلم والهدى هو في (( الكتاب المنير )) الذي معهم أي الإنجيل.

فالإحسان في الإسلام هو الإسلام المبني على الإنجيل، الكتاب المنير. فالقرآن يدعو إلى الإنجيل.

7) والقرآن يدعو إلى المسيح

لقد اختلف أهل الكتاب، من بني إسرائيل، إلى يهود ونصارى، بسبب كفر اليهود بالمسيح، عيسى ابن مريم، وإيمان النصارى به بواسطة تلاميذه الحواريين. فجاء القرآن انتصاراً للنصارى على اليهود في هذا الخلاف: (( إن

هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أَكثر الذي هم فيه يختلفون )) ( النمل 76 ). وما اختلفوا إلى نصارى ويهود إلا في المسيح والإنجيل. فالقرآن شهادة ودعوة للمسيح.

تلك هي الطريقة في أمر الدين، التي جعل الله عليها محمداً: (( ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين. وآتيناهم بينات من الأمر. فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها، ولا تتّبع أهـواء الذين لا يعلمون )) ( الجاثية 15 ـ17 ). تعبير (( الكتاب والحكم1 والنبوة )) مرادف لقوله: (( التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم )) ( المائدة 71 ). (( ولما جاءهم عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة )) أي الإنجيل ( الزخرف 62 ). فبواسطة الإنجيل (( آتيناهم بينات من الأمر ))، أي (( أمر الدين )) ( الجلالان ). فاختلف اليهود (( من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم )) . وصار النصارى منهم (( أولي العلم )) على التخصيص، وكانوا على (( بينات من الأمر )) في الدين المنزل. ولما جاء محمد، (( جعلناك على شـريعة من الأمر )) أي (( على طريقة من أَمر الدين )) ( الجلالان ). ووحدة التعبير تدل على أن الله جعل محمداً على طريقة من أَمر الدين، تلك التي عليها النصارى الذين يؤمنون (( بالكتاب كله )) ، (( الكتاب والحكمة والنبوة )) : فعليه أن يتبع هذه الطريقة (( النصرانية )) ، لا سـبيل اليهود المخالفين، ولا (( أهواء الذين لا يعلمون )) أي المشركين.

فالقرآن يؤمن بالمسيح والإنجيل، ويدعو إلى الإنجيل والمسيح.

(1) الحكم نقل حرفي للتعبير العبري، أي الحكمة.

8) والقرآن يعلم العرب (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل

إن القرآن يدعو خصوصاً إلى الإنجيل، من خلال دعوته العامة (( للكتاب والحكمة )) . فقد جاء محمـد (( يعلمهم الكتاب والحكـمة )) ( البقرة 129؛ آل عمـران 164؛ الحجة 2 )، (( يعلمكم الكتاب والحكمة )) ( البقرة 151 ). والتعبير كناية عن التوراة والإنجيل، كما تعلمها عيسى من الله: (( ويعلمه الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) ( آل عمران 48 )؛ (( إذ قال الله: يا عيسـى ابن مريم اذكر نعمتي عليك ... وإذ علمتك الكتاب والحكمة، والتوراة والإنجيل )) ( المائدة 113 ). فالتوراة والإنجيل عطف بيـان على (( الكتاب والحكمة )) ، لأن (( الحكمة )) في اصطلاح القرآن بهذه المواطن عن الإنجيل، كما في قوله: (( ولما جاء عيسى بالبينات قال: قد جئتكم بالحكمة )) ( الزخرف 62 ). والقرآن بعد أن يذكر الكلمات العشر بصيغة إنجيلية ( الإسراء 23 ـ 38 ) يختم بقوله: (( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة )) ( الإسراء 39 ). وهذا ما يُتلى في بيوت أمهات المؤمنين (( من آيات الله والحكمة )) (الأحزاب 34). فقد (( أُنزل عليك الكتاب والحكمة )) ( البقرة 231 ). والقرآن يعلم العرب (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل؛ ففيهما دين (( موسى وعيسى )) الذي شرعه الله للعرب (الشورى 13). وبما أن الله جعل محمداً (( على شريعة من الأمر )) ، فهو يعلم العرب خصوصاً الإنجيل، لأنه يقتدي بهدى أهـل (( الكتاب والحكمة والنبوة )) ، أي أهـل الإنجيل، (( النصارى )) ( الصف 14 ).

9) محمد يقتدي في دعوته بهدى أهل (( الكتاب والحكم والنبوة ))

إن القرآن يعلم العرب (( الكتاب والحكمة )) ، لكن (( على شريعة من الأمر )) هي هدى أهل (( الكتاب والحكم ( الحكمة) والنبوة )) ، أي على طريقة النصارى: (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة ... أولئك الذين

هدى الله، فبهداهم اقتدهْ )) ( الأنعام 89 ـ90 ). لا يقيم (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل معاً سوى (( النصارى )) . ومحمد يُؤمر صريحاً بالاقتداء في الدعوة القرآنية بهداهم. فهم (( المسلمون )) الذين أُمر بأن ينضم إليهم ويتلو قرآن الكتاب بتلاوتهم: (( وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) ( النمل 89 ـ90 ).

فالقرآن (( يقتدي )) بهدى هؤلاء (( النصارى )) ، أهل (( الكتاب والحكم ( الحكمة ) والنبوة )) .

10) محمد (( أمة واحدة )) مع هؤلاء (( النصارى ))

إن النبي العربي، (( والذين آمنوا معه )) من (( المتقين )) العرب هم (( أمة واحدة )) مع النصارى، لأنهم يؤمنون معهم بالمسـيح وأمه آية للعالمين. فهو يختم ذكر أنبياء الكتاب بذكر (( التي أحصنت فرجها، فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين: إن هذه أمتكم، أمة واحدة، وأنا ربكم فاعبدونِ )) ( الأنبياء 91 ـ92 ). ويختم أيضاً ذكر الأنبياء بالشهادة عينها: (( وجعلنا ابن مريم وأمه آية، وآويناهما إلى ربوة ذات قرار معين ... وإن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقونِ )) ( المؤمنون 51 ـ53 ).

فلا يؤمن بالمسيح وأمه آية للعالمين سوى النصارى: فمحمد (( أمة واحدة )) مع هؤلاء النصارى.

11) لذلك فالقرآن انتصار (( للنصرانية )) على اليهودية

لقد انقسم بنو إسرائيل إلى يهود ونصارى. وكان كلا الفريقين يسعى لهداية العرب إليه. فجاءت الدعوة القرآنية انتصاراً لهذه (( النصرانية )) ، الطائفة التي

آمنت بالمسيح من بني إسرائيل، انتصاراً لها على اليهودية في الجزيرة العربية. هذا هو سر القرآن، بنصه القاطع: (( يا أيها الذين آمنوا كونوا أَنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: مَن أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل، وكفرت طائفة: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين )) ( الصف 14 ).

إن (( الطائفة من بني إسرائيل )) التي آمنت بالمسيح هم الذين يسميهم القرآن على التخصيص: (( النصارى )) . والقرآن يعلن أن دعوته انتصار لهذه (( النصرانية )) على اليهودية: فأيدنا الذين آمنوا من بني إسرائيل، بالمسيح، على عدوهم اليهود، (( فأصبحوا ظاهرين )) ، غالبين.

فيفضل الدعوة القرآنية انتصرت (( النصرانية )) ، تحت اسم الإسلام، على اليهودية، في الجزيرة العربية.

والجلالان يحرفان المعنى بنقله إلى الاختلاف بين النصرانية الإسرائيلية والمسيحية الأممية: (( فآمنت طائفة من بني إسرائيل، بعيسى أنه عبد الله رُفع إلى السـماء ( وكفرت طائفة ) لقولهم: إنه ابن الله رفعه إليه. فاقتتلت الطائفتان ( فأيدنا ) قوّينا ( الذين آمنوا ) من الطائفتين ( على عدوهم ) الطائفة الكافرة، ( فأصبحوا ظاهرين ) غالبين )) ( الجلالان ). ولا أصل لهذا التخريج في النص.

فالقرآن انتصار (( للنصرانية )) على اليهودية في جزيرة العرب.

والنصرانية شيعة بالنسبة للسنة المسيحية. والأصل بينهما واحد، وهو الإيمان بالمسيح والإنجيل؛ والدعوة القرآنية انتصار للإيمان بالمسيح والإنجيل.

12) لذلك يمنع القرآن الجدل مع النصارى، ويأمر بالتسليم معهم.

إن شرعة الحوار مع النصارى في كل جيل، ومن كل أمة هي: (( ولا تجادلوا

أَهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ( اليهود ) ـ وقولوا: آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإِلهنا وإِلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 46 ). يصح الجدال مع (( الظالمين )) من أَهل الكتاب، أي اليهود بحسب اصطلاح القرآن، بغير الحسنى أي بالسيف؛ أَما مع النصارى من أهل الكتاب فلا يجوز جدال إِلا بالحسنى؛ وهذه الحسنى هي الأمر بالتسليم معهم أن الإله واحد، والتنزيل واحد، والإسلام واحد، بين أهل القرآن وأهل الإنجيل.

وهذا التسليم المأمور مع أهل الكتاب المحسنين، أي النصارى أولي العلم المقسطين، مفروض على المسلمين لأن النصارى عندهم (( علم الكتاب )) وبهم يكتفي القرآن شهداء لله (الرعد 45)؛ ولأن القرآن نفسه (( آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ( النصارى )، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون )) أي اليهود ( العنكبوت 49 )؛ ولأن أولي العلم المقسطين أي النصارى يشهدون مع الله وملائكته، والقرآن يشهد بشهادتهم: (( أن الدين عند الله الإسلام )) (آل عمران 18 ـ 19).

فما بين أَهل القرآن وأَهل الإنجيل وحدة الإِله، ووحدة التنزيل والكتاب، ووحدة الإسلام. وفي انتساب القرآن وأَهله إلى المسيح والإنجيل، (( على شريعة من الأمر )) هي النصرانية، (( العروة الوثقى )) ( البقرة 256 لقمان 22 ) في ضرورة قيام، وفي كيفية، الحوار بين المسيحية والإسلام. وشرعة هذا الحوار الواجب أن يكون بالحسنى، والحسنى تقوم على التسليم مع أَهل الإنجيل بأن الإله واحد، والتنزيل واحد، والإسلام واحد.

ففي انتساب القرآن الصريح إلى النصرانية والإنجيل والمسيح، قاعدة القواعد في الحوار الإسلامي المسيحي.

وتلك القاعدة الكبرى، و (( العروة الوثقى )) ، هي القاعدة الخامسة عشرة في الحوار المسيحي الإسلامي.

بحث ثان

محمد في التوراة والإنجيل

( القاعدة السادسة عشرة في الحوار المسيحي الإسلامي )

في القرآن آيتان تقولان بأن التوراة أنبأت (( بالنبي الأمي )) ( الأعراف 156 ـ157)، وأن الإنجيل سمَّاه باسمه (( أحمد )) ( الصف 6 ).

فما هو الواقع القرآني، بالنسبة للتوراة والإنجيل؟

جزء أول : (( النبي الأمي ))

في قصص موسى مع قومه، يقول: (( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة: أنا هدْنا إليك! قال: عذابي أصيب به مَن أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء!

(( فسأكتبها للذين يتقون، ويؤتون الزكاة، والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرّم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إِصرهم والأغلال التي كانت عليهم: فالذين آمنوا به وعزّروه ونطروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه، أولئك هم المفلحون.

(( قلْ: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً، الذي له ملك السماوات والأرض، لا إله إلا هو، يحيي ويميت: فآمنوا بالله ورسوله، النبي الأمي، الذي يؤمن بالله وكلمته ( كلماته)، واتبعوه لعلكم تهتدون.

(( ومن قوم موسى، أمة يهدون بالحق، وبه يعدلون.

(( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً، أمماً. وأوحينا إلى موسى ... ))

( الأعراف 155 ـ 159 )

1ـ تقويم (( التفسير الحديث )) ، للأستاذ محمد عزة دروزة (3 : 164 ـ171)

كثيراً ما نتبع الأستاذ دروزة في أَبحاثه القرآنية. ولكن وجدناه في (( التفسير الحديث )) يعود مع الرجعيين إلى المواقف الجامدة التي لا تثبت للعلم والنقد.

1) بدأ الاعتراف بأن (( الآيتين، وإن كانتا تبدوان معترضتين لتسلسل قصص بني إسرائيل، فإنهما منسجمتان مع السياق ونظمه. (( والمتبادر أَنهما جاءتا استطراديتين )) ( ص 164 ).

نقول: إن الآية (157) معترضة، بل ظاهر الإقحام بادٍ عليها، إذ ما معنى جواب الله لموسى بأن الحسنة في الهدى ليست لقومه بل لأهل (( النبي الأمي )) محمد؟ وما معنى جواب الله لموسى بأن (( النبي الأمي ( محمد ) يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل )) ؟ فهل الإنجيل قائم في عهد موسى، وهل أهل الإنجيل قائمون في عهد موسى، حتى يحدثه الله عنهم جميعاً؟ أن الآية مقحمة على السياق إقحاماً يسيء إلى إعجاز بيانه وتبيانه، وهذا أيضاً دليل إقحامها.

والآية (158) ينتقل فيها الله من خطاب موسى إلى خطاب محمد مباشرة:

(( قلْ: يا أيها الناس ... )) . فما دخل خطاب محمد، بخطاب موسى يوم الميقات، وما معنى الإعلان لموسى مداورة بأن محمداً، النبي الأمي (( يؤمن بالله وكلمته1)) أي المسيح؟ فهذا الإقحام الثاني أظهر من الأول على خطاب الله لموسى عبده، الذي يطلب إلى الله أن يكتب له ولجماعته حسنة في الدنيا والآخرة: (( أَنا هدْنا إليك )) . وفي التعبير (( هدْنا )) تورية ظاهرة بأن الهدى في اليهودية الموسوية. فيجيبه الله أولاً (( قال: عذابي أصيب به مَن أشاء ورحمتي وسعت كل شيء )) ؛ ثم يجيبه بأن الحسنة في الدنيا والآخرة ليست لقوم موسى، بل لجماعة النبي الأمي: إذن ليس من حسنة في اتباع موسى قبل المسـيح ومحمد! لا يصح أن يكـون هذا جواب الرحمـان لكليمه؛ إنما هـو جواب مقحـم عليه لا مبرر له في السياق ـ وقولنا (( بالإقحام )) ليس نفياً للتنزيل القرآني.

2) ثم يقول الأستاذ دروزة: (( ولقد كان ما احتوته الآية (157) من إِشارة إلى أن اليهود والنصارى يجدون صفات النبي ص وأَهداف دعوته، فيما بين أَيديهم من التوراة والإنجيل، موضوع جدل وتشاد في مجال الإنكار والإثبات بين المسلمين وأهل الكتاب.

(( ونقول: إن الآية تقول هذا بصراحة، وتوجه الخطاب بخاصة إلى اليهود والنصارى، ومنهم من كان يسمعه وجاها، ومنهم من آمن به نتيجة لذلك فليس مما يعقل ـ ونقول هذا من باب المساجلة ـ أن يكون ما تقوله الآية جزافاً لا يستند إلى حقيقة ما، أو أساس ما، فيما كان في أيدي اليهود والنصارى من أَسفار في عهد النبي ص. وكل ما يمكن فرضه ان هذا في بعض أسفار دون بعض ـ أو عند فريق دون فريق ـ أو من قبيل الإشارات والبشارات الرمزية، وأنها كانت من أجل ذلك موضع جدل بين النبي ص من جهة، وبين مكابري اليهود والنصارى من جهة أخرى. ولعلَّ مما يدعم هذا، ما احتواه

(1) على قراءة أصح من (( كلماته )) لأن إيمانه بكلمات الله لا نكتة بيانية فيه ولا تمييز لدعوته، كما هو الحال في قراءة (( كلمته )) .

القرآن من مشاهد وإشارات تدل على أن أهل الكتاب في مكة والمدينة، أو وفودهم ـ وفيهم الأحبار والرهبان والقسس والراسخون في العلم ـ مَن آمنوا بالرسالة النبوية، وصدقوا بما جاء في القرآن، وقرروا أَنه مطابق مع ما عندهم )) . ويستشهد بالآيات: الأعراف 157؛ آل عمران 113 ـ 114؛ آل عمران 199؛ النساء 162؛ المائدة 72 ـ84؛ الأنعام 20 و114؛ الرعد 36؛ الإسراء 107 ـ 109؛ القصص 52 ـ53، الأحقاف 10؛ العنكبوت 47. ويختم بقوله: (( وفي كل هذا شواهد عيانية مكية ومدنية حاسمة لا يسع منصفاً أن يكابر فيه حتى من الكتابيين أنفسهم، فيما نعتقد )) ( ص 166 ـ167 ).

كلا، يا فضيلة الأستاذ الذي نجل ونحترم، لا يكابر الراسخون في العلم من أهل الكتاب؛ إنما التخريج الضال هو المردود.

انك تفسّر قوله (( مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل )) بثلاثة افتراضات: (( إن هذا في بعض أسفار دون بعض ـ أو عند فريق دون فريق ـ أو من قبيل الإشارات والبشارات الرمزية )) . إن صفة (( النبي الأمي )) لا وجود لها على الإطلاق في التوراة والإنجيل ـ وسنرد على استدراكك الأخير ـ لا تصريحاً ولا تلميحاً. ونحن في ذلك لا نتهم القرآن ـ حاشا لنا وكلاّ. إنما نقول أن كلمة (( النبي الأمي )) قد تكون قراءة خاطئة (( للنبي الآتي )) في نبؤة موسى. كانت الكتابة بدون نقط: (( )) أي (( النبي الآتي )) فقـرؤوا (( النبي الأميّ )) . وأقحموا حديث (( النبي الأمي )) في القرآن. ونعرف أن القرآن يكرر ويردد تعليمه للترسيخ والتذيكر؛ وحديث (( النبي الأمي )) لا وجود له في القرآن على الإطلاق إلا في هذا الإقحام المزدوج.

والآية تنص على (( النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل )) . إنها كتـابة، لا إِشـارة. وليس في التوراة من كتابة ولا من إشـارة إلى نبي يأتي من الأمم، (( الأميّين )) ، إلى بني إسرائيل. إنما الله تعالى وعد بفم

موسى بالمسيح الموعود، (( النبي الآتي )) ؛ ولا يمكن أن يكون المسيح الموعود (( أميّاً )) أي من الأمم، غير بني إسرائيل.

واستشهادك بالآيات المذكورة فاتك كما فات غيرك مدلولها. إن الذين آمنوا بالدعوة القرآنية في أَوانها ليس اليهود، ولا المسيحيين؛ إِنما (( الذين قالوا: إنا نصارى ( المائدة 85 ). وهذا تقويم جديد لك ولغيرك. وهؤلاء (( النصارى )) تصفهم آية الأعراف بأنهم أمة من قوم موسـى: (( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون )) ( 158 )؛ وآية الصـف بأنهم (( طائفة من بني إسرائيل )) آمنت بالمسيح (14). هؤلاء هم (( أولو العلم )) ( الإسراء 107 ) أو (( الراسخون في العلم )) ( النساء 162 ) بحسب اصطلاح القرآن. هؤلاء هم في اصطلاح القرآن أيضاً المسلمون الأوائل قبل محمد والقرآن: (( وإذا يتلى عليهم قالوا: آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنّا كنا من قبله مسلمين )) ( القصص 53 ). فالذين (( قالوا: إِنا نصارى )) هم الذين آمنوا وحدهم بالدعوة القرآنية، لا اليهود ولا المسيحيون. فليس في القرآن من (( شواهد عيانية مكية ومدنية حاسمة )) تشهد بإيمان اليهود والمسيحيين بالقرآن، ليكون إيمانهم برهاناً على صحة كتابة (( النبي الأمي )) في التوراة والإنجيل. يشهد بذلك موقف وفد نجران، الوفد المسيحي الوحيد، الذي باحث النبي ووادعه ورجع خائباً. ونعرف أنه كان من أهل البدعة.

3) من هنا كان استداركك الغريب الذي لا يليق بعالم مثلك: (( ومما يصح أن يقال في هذا المقام: إِن ما في أيدي اليهود والنصارى اليوم من أسفار لا يمكن أن يُجزم بأنه هو نفسه ما كان في أيديهم في عهد النبي ص بدون نقص أو زيادة أو جميع ما كان في أيديهم ... ونشير خاصة في الإنجيل المعروف باسم ( إنجيل برنابا ) أحد الحواريين الذي فيه نصوص متفقة مع نصوص القرآن عن عيسى وحياته، ورسالة النبي وصفاته. ومهما يكن من المآخذ التي توجه إلى هذا الإنجيل فإِن نصوص القرآن الذي لا يشك أحد في أنه يرجع تاريخياً إلى ألف

وثلاثماية سنة ونيف دليل قاطع على أن في ما كان متداولاً في أيدي اليهود والنصارى من أسفار أشارت إلى صفة النبي ص ورسالته )) . ( ص 168 ).

يا ليتك لم تذكر ( إنجيل برنابا ). وجميع العلماء يعرفون أنه منحول باسم برنابا، وهذا لم يكن من الحواريين على الإطلاق. يا ليتك قرأت كتيّبي الذي أهديتك إياه: (( إنجيل برنابا شهادة زور على الإنجيل والقرآن )) . لكنت وجدت أن محور تعليمه أن المسيح ليس ابن مريم، بل محمد بن عبد الله! وهذا تكذيب للإنجيل والقرآن، للمسيحية والإسلام!

ثم إن الإنجيل اليوم ينقل عن المخطوطات الكبرى من القرن الرابـع الميلادي ـ أي قبل القرآن بمئتي سنة ونيف ـ الموجودة في متاحف موسكو ولندن وباريس والفاتيكان؛ والعلماء الملحدون أنفسهم يشهدون بصحتها وكتابتها في القرن الرابع. وليس فيها من نقص أو زيادة أو ضياع. فكيف يسمح لك علمك بأن تتهم أسفار الإنجيل بالنقص أو الزيادة أو الضياع. فكل تلك الحملات العشواء لتبرير آية مقحمة على القرآن، من قراءة مغلوطة!

4) وتعود للتأكيد (( على أن في أسفار العهد القديم والأناجيل المتداولة اليوم إشارات عديدة يمكن أن تكون من جملة ما ينطبق على صفات النبي ص ورسالته. وقد عقد السيد رشيد رضا في الجزء التاسع (230 ـ 300) فصلاً طويلاً على ذلك أورد فيه ثماني عشرة بشارة مستمدة من أَسفار العهد القديم والأناجيل وناقش الشبهات التي يوردها المبشرون، وأورد من الحجج والأقوال ما فيه المقنع لراغبي الحق والحقيقة في صواب استنتاجاته وقوة حججه، وفي عدم قيام شبهات المشتبهين على أسس قوية )) ( ص 168 ).

نقول: لقد قام بعمل رشيد رضا كثيرون من أمثاله. ونقلوا أكثر من (( ثماني عشرة بشارة )) . وليس في واحدة منها إِشارة إلى (( نبي أمي )) أَي من

الأمم غير بني إسرائيل، سوف يأتيهم. إنما كلها إشارات ونبؤات صريحة عن المسيح الموعود، (( ابن داود )) . وبهذا اللقب حيَّا الشعب عيسى ابن مريم لدى مشاهدتهم معجزاته ومواقفه الخارقة.

5) (( وبمناسبة ورود كلمتي التوراة والإنجيل لأول مرة في هذه السورة ( الأعراف 157 ) نقول: وهذا يجر إلى التساؤل عما عنى القرآن بالتوراة والإنجيل في هذا المقام. فالقرآن صريح في أن الله أنزل التوراة والإنجيل على موسى وعيسى عليهما السلام، وآتاهما إِياهما كما في البقرة 53؛ آل عمران 3؛ المائدة 43 ـ47. وهذه الآيات صريحة في أن المقصود بالتوراة والإنجيل الكتابان اللذان أُنزلا على موسى وعيسى عليهما السلام، واحتويا التعاليم والتشريعات الربانية.

(( هذا في حين أن المتداول اليوم في أيدي النصارى ليس إنجيلاً واحداً بل أربعة أناجيل ... وبين هذه الأناجيل اختلاف غير يسير في النصوص والأحداث ... وليس هناك ما يساعد بجزم كذلك على معرفة ما إذا كان في أيدي النصارى اليوم مما يطلق عليه اسم الإنجيل هو هذه الأناجيل المتداولة نفسها، وملحقاتها، أو بعضها أو غيرها ـ وإن كان في القرآن بعض القرائن التي تدل على أنه كان في أيديهم أسفار وقراطيس لم تصل إلى عهدنا: فليس في الأناجيل المتداولة نفسها اليوم أن عيسى عليه السلام تكلم في المهد، وليس فيها قصة طلب الحواريين من عيسى عليه السلام استنزال مائدة من السـماء. وهذا وذاك ممّا ذكره القرآن )) .

كلا، يا حضرة الأستاذ، ليست (( أربعة أناجيل )) ؛ إنما هي الإنجيل الواحد على أربعة أحرف. وهذا الواقع له مثيله قبل جمع القرآن، بحسب الحديث الشريف: (( نزل القرآن على سبعة أحرف )) باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. راجع تفسير الطبري، شيخ المفسرين. وهكذا يدل الواقع الإنجيلي: نزل

الإنجيل على أربعة أحرف باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني. فليس إذن في الإنجيل بأحرفه الأربعة (( اختلاف غير يسير في النصوص والأحداث )) .

وفاتك كما فات غيرك أن كتاب الله، بحسب اصطلاح اليهود، كان قرآناً مكتوباً وفرقاناً غير مكتوب ( وبالعبرية. مقرا ـ فرقة ) وبالسريانية ( قريانا ـ فرقونا ). وهذا هو أيضاً الواقع الإنجيلي، فإن الإنجيل صريح جداً بأنه لم ينقل جميع ما علم يسوع وعمل. وقد نقلت الأناجيل المنحولة أي الروايات التي سموها أَناجيل لتيسير إذاعتها، كلام المسيح في المهد، وقصة المائدة. فليس في ذكرها من غرابة على المسيحيين؛ كما ليس فيه من شبهة للمسلمين على الإنجيل بأحرفه الأربعة المتداولة. فالمكتوب غير المسموع كله ( يوحنا 21 : 20 ).

وإن التوراة والإنجيل هما اليوم كما كانا في زمن النبي العربي: قابلها في مخطوطات القرن الرابع الميلادي التي ينقلون عنها اليوم. وليس هناك من أسفار ولا قراطيس لم تصل إلى عهدنا. وما ذكره لوقا في فاتحته يدل على تدوينات فردية سبقت التدوين المعصوم بالوحي، كما في المصاحف التي أمر الخليفة عثمان بإِتلافها.

وفاتك أيضاً أنك تحصر البحث كله في جاهلية العرب ونصارى الحجاز. ألا أخرج إلى عالم النور والعلم في عواصم العالم المسيحي الفسيح خارج الحجاز، حيث كان المسيحيون في معزل مطلق عما يجري هناك، والقرآن بمعزل عنهم.

ولا تنس، بمناسبة أسطورة التحريف، أن القرآن يسمي التوراة والإنجيل اللذين كانا في زمانه: (( كتاب الله )) ( 2 : 101؛ 3 : 23؛ 5 : 47؛ 8 : 75؛ 9 : 37؛ 30 : 56؛ 33 : 6؛ 35 : 29 ).

وقول القرآن: (( إِنا نحن نزّلنا الذكر، وإِنا له لحافظون )) ( الحجر 9 )، ينطبق على التوراة والإنجيل والقرآن لأن (( الذكر )) مرادف (( الكتاب ))

في اصطلاحه. وفي إطلاقه (( الذكر )) قد يعني الكتاب قبل القرآن: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43 و44 ): فهم (( أهل الذكر )) قبل القرآن.

2ـ شبهات على النص من حديث (( النبي الأمي )) ذاته

بعد ذاك الاستطراد، نعود إلى درس حديث (( النبي الأمي )) .

إن حديث النبي الأمي يقطع مرتين متتاليتين (156 و157) حديث موسى (155 و159)، وهو لا ينسجم مع خطاب موسى لربه، لا في النسق ولا في الموضوع: فالإقحام ظاهر عليه.

1) في الموضوع، حديث النبي الأمي يناقض حديث موسى وخطابه لله. فموسى وقومه، في ميقاتهم أخذتهم الرجفة فأخذوا يصـلون إلى الله (154). وفي صـلاتهم يقولون: (( واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة، إنا هدْنا إليك )) (155). كان اليهود يشتقون اسمهم من الهدى ـ والهدى كناية عن كتاب موسى: (( ولقد آتنيا موسى الهدى )) (40 : 53) ـ أو يشتقون الهدى من اسمهم؛ فالتورية (( هدْنا )) بارعة. فموسى وقومه يطلبون إلى الله تسجيل يهوديتهم حسنة لهم. فأجاب الله أولاً بأن الحسنة لأهل التقى والزكاة والإيمان. ثم أجاب بأن الحسنة إنما هي في الإيمان بالنبي الأمي المكتوب في التوراة والإنجيل (156)؛ فما عليهم إلا أن ينتظر موسى وقومه ألفي سنة حتى تقوم لهم حسنة بالإيمان بمحمد! أمن المعقول أن يجيب الله على دعاء موسى وقومه لربهم بأن الهداية ليست في الموسوية، بل في اتباع محمد، (( النبي الأمي )) البعيد؟ وأن يقول الله في رده على صلاة موسى أن محمداً مكتوب في التوراة والإنجيل؟ ففي الجوابين تعارض في الموضوع، مما يشهد بأن حديث النبي الأمي مقحم على الخطاب.

2) وما معنى ذكر الإنجيل في تفضيل الهداية بمحمد والقرآن (156) على الهداية بالموسوية (155)؟ فإقحام الإنجيل في حديث موسى مع ربه كإِقحام حديث النبي الأمي.

3) وفي الجوابين على دعاء موسى وقومه (155 ـ 156) تعارض الأسلوب: جواب الله في الأول على الخطاب (155)؛ وفي الثاني على الغيبة: (( عندهم، يأمرهم، ينهاهم ... )) (156). ولا يصح فن الالتفات من المخاطب إلى الغيبة، في كلام متعارض يخرج عن الموضوع.

4) وما معنى دعوة الناس إلى الإيمان بمحمد، النبي الأمي، في دعاء موسى لربه؟ (157) وما معنى إعلان محمد إيمانه (( بالله وكلمته )) أي بالمسيح، في حديث موسى مع ربه، وفي قصة موسى مع قومه في يوم الميقات والرجفة؟ ( 157 مع 154 ).

5) وما معنى تصريحه، في حديث موسى من قومه بان (( من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون )) (158)، وهم (( الطائفة من بني إسرائيل )) التي آمنت بالمسيح ويظاهرها القرآن على اليهودية ( الصف 14 )؟ وما بين هذا التصريح، وبين حديث موسى يوم الميقات والرجفة نحو ألفي سنة؟

فكل هذه الاعتبارات من النص نفسه تثبت بلا ريب أن حديث (( النبي الأمي )) مقحم على النص.

3ـ وهناك شبهات من القرآن كله على حديث (( النبي الأمي ))

الشبهة الأولى: حديث (( النبي الأمي )) فريد غريب في القرآن.

إن حديث (( النبي الأمي )) لا وجود له على الإطلاق في القرآن كله، إِلا في

هذا النص الوحيد الذي ثبت إقحامه على دعاء موسى لربه. وفي أسلوب القرآن من تكرار الفكرة الواحدة بأساليب مختلفة للترسيخ في أذهان السامعين، ما يدل على أنه فريد غريب في القرآن، مقحم عليه في زمن الجمع. ولم يكن جامعو القرآن معصومين بالوحي.

الشبهة الثانية: إِنه إقحام مثل غيره.

الإقحامات المشبوهة في القرآن معدودات، واضحات من القرائن القريبة والبعيدة. وإقحامات معدودات دخلت النص عند جمع القرآن لا تطعن في صحته. ولم يكن الجامعون بمعصومين بالوحي حتى لا يجوز عليهم السهو. وعلى علم النقد النزيه أن يطهّر الوحي من كل دخيل عليه، كما يجري ذلك في التوراة والإنجيل.

من الإقحامات الظاهرة كلمة (( نصارى )) في قوله: (( كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا )) ( البقرة 135 )؛ والأصل الذي يفرضه الحرف والمعنى هو: (( كونوا هوداً تهتدوا )) . فالشعار اليهودي الذي أطلقوه في جزيرة العرب ويحكيه القرآن هنا، تورية رائعة لاشتقاق الهدى من اسم اليهود الذي رخموه إلى (( هود )) . ولا يمكن أن يقول النصارى واليهود عن بعضهما بعضاً: (( كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا )) ، والتورية المذكورة خير دليل.

استبق الجلالان الاعتراض المفروض فقالا: (( وقائل الأول يهود المدينة! والثاني نصارى نجران )) . إن وفد نجران كان مسيحيِّاً، وكانوا مثل جميع المسيحيين في العالم يأنفون من وصمهم باسم (( نصارى )) وكان هذا اللقب اسم شيعة منبوذة عندهم. ومعروف أن سورة البقرة من أول العهد المدني، وإن تخللها فصول من سائر العهود المدنية؛ ووفد نجران لم يفد على النبي إلا في عام الوفود، من آخر العهد. وكان قد طهّر المدينة قبل فتح مكة،

وطهر الحجاز كله منهم بعد الفتح: فلا يصح أن يحضروا المناظرة ويقولوا مقالتهم: (( كونوا هوداً تهتدوا )) . واقع حالهم يأبى ذلك.

ثم إن الخطاب كله في سورة البقرة جدال مع اليهود، ولا أثر فيها ولا في ظروف تنزيلها لجدال مع النصارى على الإطلاق، فقد كانوا (( أمة واحدة )) مع النبي وجماعته، قبل إعلانهم جميعاً (( أمةً وسطاً )) ( البقرة 143 ) بين اليهودية والمسيحية. فكلمة (( نصارى )) مقحمة على الآية ( البقرة 135 ) تتنافر معها نصاً وموضوعاً وواقع حال.

ومنها أيضاً إقحام (( النصارى )) في هذه الآية: (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء! بعضهم أولياء بعض! ومَن يتولّهم منكم فإِنه منهم! إن الله لا يهدي القوم الظالمين )) ( المائدة 54 ) ـ وقد كان لهذا الإقحام أسوأ الأثر في تاريخ المسيحية والإسلام، فهو الذي سمّم العلاقات لدرجة انقطع فيها سبيل الحوار بين الأمتين من أصل واحد. فكيف يصح في السورة عينها، وفي مقطعين متقاربين أن يحرم المولاة مع النصارى، وهو يشهد بأنهم (( أقرب مودة للذين آمنوا ... ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون: ربنا آمنا، فاكتبنا مع الشاهدين )) ( المائدة 84 ـ 86 ). فهذا إعلان بإِسلامهم: فهل يمنع القرآن الموالاة مع النصارى، وهو يفرضها في القرآن كله! وفي هذا النص يصف النصارى (( بالمحسـنين )) (88) مع مقابلته بوصف اليهود (( بالظـالمين )) (54). ووصفهم (( بالظالمين )) في القرآن كله يحصر منع الولاء مع اليهود وحدهم. ودليل آخر في مقابلة قوله (( ومَن يتولهم منكم، فإنه منهم )) (54) بقوله على لسان النصارى (( ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين )) (86). ومن مقارنة آية الولاء الممنوع (54) بآية المودة والشهادة بالإسـلام، حيث يظهر أن (( أشـد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشـركوا )) يتضح لنا أن كلمة (( المشركين )) سقطت في آية الولاء الممنوع، وأُبدلت بكلمة (( النصارى )) . فأصل الآية الذي ينسجم مع آية المودة هو: (( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود

والمشركين أولياء، بعضهم أولياء بعض )) ؛ وهذا ما تظهره السيرة النبوية. فالإقحام والإبدال ظاهر مكشوف لكل ذي عينين لم تطمسهما عبادة الحرف.

فهذان المثلان شاهدان على أن صفة (( الأمي )) نعتاً (( للنبي )) مقحمة عليه، ولا ذكر في (( النبي الآتي )) لصفة (( أمي )) في التوراة والإنجيل.

الشبهة الثالثة: القرآن يحصر النبوة والكتاب في ذرية إسحاق ويعقوب.

حديث (( النبي الأمي )) يتعارض مع موقف القرآن كله، حيث يحصر النبوة والكتاب في ذرية إبراهيم، من إسحاق ويعقوب والأسباط، لا من إسماعيل: (( ووهبنا له ( لإبراهيم ) إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب )) ( العنكبوت 27 )؛ (( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب. فمنهم مهتد، وكثير منهم فاسقون. ثم قفينا على آثارهم برسلنا، وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل )) ( الحديد 26 ـ27 ). بحسب منطوق ومنطق الآيتين معاً في تسلسل الوحي من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى، تكون ذرية النبوة والكتاب في إبراهيم من إسـحاق ويعقوب، لا من إسماعيل. ونلاحظ أن التقفية في النبوة تتسلسل إلى عيسى، وتنقطع معه، بحسب ظاهر اللفظ ومضمونه. فلا مجال لذكر النبي (( الأمي )) .

وحصر النبوة والكتاب في بني إسرائيل كان سبب تفضيلهم على العالمين حتى المسيح: (( يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأني فضلتكم على العالمين )) (البقرة 47 و122؛ قابل الأعراف 139؛ الجاثية 15؛ الإسراء 70). وهذا التفضيل يمنع حديث (( النبي الأمي )) في دعاء موسى لربه، حيث الحسنة ليست في الموسوية، بل في المحمدية بعد ألفي سنة.

فحصر النبوة والكتاب في بني إسرائيل، لا ينبئ عن مجال لنبي (( أمي )) يخرج من الأمم لهداية بني إسرائيل: فحديث (( النبي الأمي )) مقحم على القرآن.

قد يُردُّ على ذاك الحصر بهذه التصاريح: (( لكل قوم هاد )) ( الرعد 7 )؛ (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً )) ( النحل 36 )؛ (( ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( الحجر 10 )؛ (( وإِنْ من أمة إِلا خلا فيها نذير )) ( فاطر 24 ) ـ فطاهرة ينفي حصر النبوة في قوم أو أمة أو زمن.

نقول: إِن صح المعنى الظاهر لهذه التصاريح، فكيف يكون محمد (( خاتم النبيين )) ؟ (الأحزاب 33). ثم أليس من تعارض في حصر النبوة والكتاب في بني إسرائيل، وتفضيلهم بسببها على العالمين، مع تعميم النبوة والرسـالة على (( كل قوم )) ( الرعد 7 )، (( وفي كل أمة )) ( النحل 36 )؟ لا تعارض بين الموقفين كما يظهر من أسلوب القرآن المتواتر في استخدام التعميم والتخصيص طرداً وعكساً: فهنا تعميم يُراد به التخصيص: إن النبوة في أمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد، وكلها مبنية على وحدة الإله، ووحدة الوحي، ووحدة الإسلام ( العنكبوت 46 ). مع ذلك يظل الكتاب والنبوة ميزة بني إسرائيل على العالمين. فالموقف من المضائق في القرآن، الذي يحصر النبوة في ذرية إسحاق ويعقوب.

شبهة رابعة: في إطلاق صفة (( الأمي )) على محمد

لا يأخذ القرآن صفة (( الأمي )) هنا بمعناها اللغوي، أي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ إنما بمعناها الاصطلاحي، نقلاً عن أهل الكتاب، حيث (( الأمي )) كناية عن غير الإسرائيلي وغير الكتابي، فهو من الأمم، أو الأمة، التي ليس لها كتاب منزل (آل عمران 20 و76؛ الجمعة 2). فالنبي الأمي يعني النبي العربي، من الأمة العربية التي ليس لها كتاب منزل.

وعلى هذا الأساس وصف القرآن محمداً: (( وجدك ضالاً فهدى )) ( الضحى 7 ).

مع ذلك فإطلاق الاصطلاح (( النبي الأمي )) على محمد لا يصح.

أولاً لأنه بهدايته إلى الكتاب والإسلام لم يعد (( أميّاً )) ؛ (( وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب )) ( الشورى 15 ): كما أن النصارى من غير بني إسرائيل هم في عرْف القرآن من أهل الكتاب.

ثانياً لأن محمداً من ولد إسماعيل بن إبراهيم، جدّ النبوة والكتاب؛ وإسماعيل يعدّه القرآن من أنبياء الكتاب ( البقرة 136؛ آل عمران 84 ). وإبراهيم وإسماعيل يصليان عند تأسيس الكعبة: (( ربنا، وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة )) ( البقرة 129 ). وعليه يكون محمد ابن اسماعيل بن إبراهيم من أَهل الكتاب.

فكيف يكون محمد (( النبي الأمي )) أي من الأميين الذين لا كتاب لهم: و (( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ... ويعلمهم الكتاب والحكمة )) ( الجمعة 2 )؟

إنه (( أمي )) من (( الأميين )) العرب بنسبه ( الجمعة 2 )؛ لكنه ليس (( أميّاً )) بدعوته، فالقرآن (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37 )، (( أنزل إليكم الكتاب مفصلاً )) (6 : 114).

لذلك، إن صحت فيه صفة (( الأمي )) نسباً إلى العرب، فلا تصح فيه بالنسبة إلى الكتاب وأَهله؛ والنبوة نسبة إلى الكتاب: من هذه الناحية ليس محمد (( بالنبي الأمي )) ؛ إِنه بالدعوة القرآنية من أهل الكتاب.

وهذه هي النتيجة الحاسمة: إن صفة (( الأمي )) ، من حيث النبوة والكتاب، لا تصح في محمد. لذلك فهي مقحمة على القرآن، من سهو الجامعين، وفي غفلة ساعة التدوين.

لا ننسى أن صحة نبوة محمد ليست موضوع بحث؛ إنما كلامنا في صفة (( الأمي )) التي لا تصح فيه من حيث النبوة والكتاب.

لذلك لا شبهة على التوراة والإنجيل إذا لم توجد فيهما صفة (( النبي الأمي )) ؛ ولا يطعن في صحة القرآن إقحام كلمة عليه سهواً وتقصيراً عند جمعه.

4ـ في الواقع ليس في التوراة والإنجيل صفة (( النبي الأمي ))1

إن المسيحيين يتلون الإنجيل اليوم عن مخطوطات القرن الرابع الميلادي. فهي فوق كل شبهة بالنسبة للقرآن والإسلام.

والكتاب في عهده القديم قد تُرجم إلى اليونانية من قبل المسيح، وإلى السريانية في عهد قريب من المسيح. فهو أيضاً فوق الشبهات بالنسبة للإسلام والقرآن.

وعلى أهل القرآن أن لا ينسوا هذا الواقع التاريخي في أبحاثهم، أو في حوارهم مع أهل الكتاب، خصوصاً مع أَهل الإنجيل.

وهذا هو الواقع التوارتي والإنجيلي: إن (( النبي الآتي )) الموعود في الكتاب، قد حدّده (( الكتاب والحكم والنبوة )) تحديداً شاملاً كاملاً، لا مجال للريب فيه متى ظهر. وقد أَكد المسيح ابن مريم في الإنجيل أنه هو النبي الموعود في الكتاب.

1) من قبل موسى، نعرف أن النبي الموعود لإبراهيم يكون ابن ابراهيم. ونعرف من التوراة أنه ابن إسحاق ويعقوب ويهوذا.

(1) في بحث لاحق يأتي تفصيل (( البشارات والإشارات )) الثمانية عشرة التي اكتشفوها في الكتاب.

فيعقوب الشيخ قبل وفاته ينشد في مصير أَسباط إسرائيل، فيقول في يهوذا: (( لا يزول صولجان من يهوذا، ومشترع من صلبه حتى يأتي (( يودو )) وتطيعه الشعوب )) . هذه الآية من سفر التكوين (49 : 10)، وهي تحصر الملك في يهوذا حتى مجيء النبي الموعود من يهوذا. وقد نقلنا اسمه بحرف العبري (( يودو )) أي (( الذي له )) ، إظهاراً للجناس اللفظي، والتورية المقصودة في نسبه من يهوذا.

2) وموسى، في شرعة النبوة، يقول:

(( يقيم لك الله إلهك نبيّاً، من بينكم، من أَخوتك، مثلي، له تسمعون ... أقيم لهم نبيّاً، من بين أَخوتهم، مثلك، وأقيم كلامي في فيه فيخاطبهم بجميع ما أمره به. وأي إنسان لم يطع كلامي الذي يتكلم به باسمي، فإني أحاسبه عليه. وأي نبي تجبّر، فقال باسمي قولاً لم آمره أن يقوله، أو تنبّأ باسم آلهة أخرى، فليقتل ذلك النبي! فإن قلت في نفسك: كيف يُعرف القول الذي لم يقله الله؟ ـ إن تكلم النبي باسم الله، ولم يتم كلامه، ولم يقع، فذلك الكلام لم يتكلم به الله. بل لتجبّره تكلم به النبي: فلا تخافوا )) ( التثنية 18 : 15 ـ22 ).

لقد أوّل السيد رشيد رضا وأمثاله هذه النبوة إشارة إلى محمد، لأنها تقول (( من إخوتهم )) أي من العرب، إخوة بني إسرائيل ( يعقوب )، من إسماعيل وهذا مثال على تحريف المعنى في إنطاق الألفاظ بغير معانيها.

والنص صريح: إنه يقصد سلسلة أنبياء بني إسرائيل، وخاتمتهم النبي الآتي الأعظم. فالنبوة سلسلة في بني إسرائيل حتى يأتي خاتمتهم المسيح. والنبي الموعود يقيمه الله (( لهم )) أي لبني إسرائيل لا لولد إسماعيل، يقيمه (( من بينكم )) لا من العرب. وهذا التحديد (( من بينكم )) يفسّر معنى (( من أَخوتك )) أو (( من أخوتهم )) . وهؤلاء الأنبياء المتعاقبون، مع خاتمتهم النبي الأعظم، مرسلون إلى

بني إسرائيل، لا إلى العرب. وهذا (( النبي الآتي )) يعلم الغيب؛ أما محمد فيصرح فيه القرآن: (( ولا أعلم الغيب )) ( 6 : 50؛ 11 : 31؛ 7 : 187 ). والسـيد المسيح يصرّح بأن موسى (( كتب عني )) ( يوحنا 5 : 46 ).

فكل القرائن في التوراة والإنجيل تدل على أَن أَنبياء الكتاب بعد موسى سيكونون كلهم من بني إسرائيل، وخاتمتهم النبي الأعظم، سيكون من بني إسرائيل، لا من غيرهم.

ففي شرعة النبوة الموسوية لا مجال لنبي (( أمي )) يأتي من الأمم، وتكون رسالته الأولى لغير أَهل الكتاب: فليس (( النبي الأمي )) مكتوباً في التوراة والإنجيل.

3) ويأتي الملك داود فينبؤه الله أن النبي الأعظم سيكون (( ابن داود )) ، له مع النبوة صفة الملك. يأتي ذلك تلميحاً في سيرة داود؛ قال الله للنبي ناثان: (( اذهب وقلْ لعبدي داود: هكذا يقول الله ... فقل الآن لعبدي داود: هكذا يقول الله الصمد: ... وقد أخبرك الله أنه سيقيم لك بيتاً. ومتى تمت أيامك وأضجعت مع أبائك، وأقمتُ من يليك من نسلك الذي يخرج من صلبك، وأقررت له ملكه، فهو يبني لي بيتاً لاسمي. وأنا أقرّ عرش ملكه إلى الأبد. وأنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً )) ( 2 ملوك 7 : 1 ـ14 ). فالنبؤة تذكر مباشرة سليمان بن داود؛ لكن المجاز ظاهر عليها من أبدية ملكه، ومن صفة البنوة التي سيتحلّى بها النبي الملك الموعود. وهذا النبي الآتي يكون من (( نسل داود )) و (( من صلبه )) . وفهم الجميع أنه سيكون (( ابن داود )) . وهكذا حيَّا الشعب يسوع في الأيام المشهودة ( متى 9 : 27؛ 15 : 22؛ 20 : 30 و31؛ مرقس 10 : 47 ـ 48؛ لوقا 18 : 38 ـ 39 ).

والزبور يصرّح بذلك النسب تصريحاً كاملاً:

(( لمـاذا ارتجت الأمم؟

والشعوب هذّت بالباطل؟

قام مـلوك الأرض والعظماء،

وائتمروا معاً على الله ومسيحه:

ـ لنقطـع ربطهما

ونلق عنّا نيرهما!

ـ الساكن في السماء يضحك!

والقـدير يستهزئ بهم!

حينئـذٍ ، بسخط يكلمهم

وبغضبـه يروّعهم:

إني مسحـتُ ملكـي

على صهيون جبلي المقدس!

لأخبرنَّ بحكم الله ؛ قال لي

أنت ابني ! أنا اليوم ولدتك

سلني فأعطيك الأمم ميراثاً لك،

و أطراف الأرض ملكاً لك! ))

 

( المزمور الثاني )

فالنبي الأعظم، والملك الأعظم، الموعود، سيكون (( المسيح )) ، (( ابن داود )) و (( ابن الله )) معاً، وسيملك على الدنيا كلها. فالنبي هو (( ابن داود )) ، لا غيره، ومن غير بني إسرائيل.

4) ويأتي الأنبياء، فيصفون شخصيته وسيرته ورسالته، قبل مئات السنين، حتى إذا ما ظهر يعرفه العالمون. ففي وقت واحد تقريباً ظهر ثلاثة أنبياء، عاموس وميخا وأشعيا، فذكر كل واحد أَصلاً من أصوله.

ختم عاموس نبوءته بقوله:

(( في ذلك اليوم أقيم مسكن داود الذي سقط، وأسدّ ثلمه، وأقيم ما تهدّم منه، وأبنيه كما كان في الأيام القديمة )) ( عا 9 : 11 ).

 365

فالنبي الآتي سيكون (( ابن داود )) ، وهو يجدّد (( مسكن داود )) ، كناية عن الأمة والدولة والدين، بالطريقة التي سيراها الله.

وميخا يحدّد مولده في بيت لحم، ويذكر أصله من يهوذا، قبل داود:

(( وأنت يا بيت لحم، أفراثا

الصغرى في عشائر يهوذا

منك يولد لأجـلي

الذي سيملك على إسرائيل

ونسبه يرتقي في الزمن

إلى الأيام القديمـة )) (5 : 1)

فالنبي الآتي هو ابن داود، ابن يهوذا، وسيولد من بلدة داود ويهوذا، في أفراثا، الاسم القديم لبيت لحم. وسيملك على إسرائيل، قبل غيرهم. ونسبه أقدم من أصله البشري.

وأشـعيا عظيم الأنبياء في النبؤة والبيـان، في أناشـيد ثلاثـة يسـمي النبي الآتـي (( عمانوئيل )) ، اسماً رمزيّاً يعني (( الله معنا )) ، فهو يدل على مصدره الإلهي؛ ويذكر ولادته من (( غلامة )) عذراء: (( وعاد الله فكلّم آحاز ( بلسان أشعيا ) قال:

(( سلْ لنفسك آية، من عند الله إِلهك

سلْها في العمق، أو من فوق، في العلاء ))

فقال آحاز: لا أسأل، ولا أجرّب الله إِلهي. قال:

(( اسمعوا يا بيت داود: يهون عليكم

أن تسئموا الناس ، ولا تسئمون إلهي!

لذلك يؤتيكم السيد نفسه آية: ها إِن الغلامة

تحبـل وتلد ابنـاً وتسميه عمانوئيل ))

( أشعيا 7 : 14)

ولئلا يظن أحد بأن (( عمانوئيل )) هو ابن آحاز، أو ابن أشعيا نفسه، عاد النبي في نشيد ثانٍ يصف (( عمانوئيل )) ، النبي الآتي، بصفات إلهية:

(( لقد وُلد لنـا ولد !

وأعطي لنـا ابن !

تدرّع السلطان على كتفه،

ودعي اسمـه :

المشير العجيب ! الإله الجبار!

أب الأبد ! سلطـان السلام!

لتدمْ رئاسته ! لسلام لا ينتهي

على عرش داود ومملكته!

كي يقرّها ، ويوطدّهـا

بالقسط والعدل ، من الآن وإلى الأبد !

إن غيرة الله الصمد صنعت هـذا

أرسل القدير كلمته فوقعت على إسرائيل ))

 

( أشعيا 9 : 6 ـ 8 )

تلك الصفات لا يطلقها الكتاب على مخلوق، نبيّاً كان أو رسولاً؛ فالنبي الأعظم المولود، اسمه (( عمانوئيل )) أي (( الله معنا )) ، وصفاته تدل عليه. إنه ينتسب إلى الله نفسه، كما ينتسـب إلى داود. فبتوليته وإِلهيته تمنعان أَن تتم النبوة، وأن تشــير إلى غير المسيح، (( عيسى ابن مريم، رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) .

وفي نشيد ثالث (( لعمانوئيل )) يصف تأييده بالروح القدس:

(( من جـذر يسّى1 ينبت قضيب

وفرع يَنْمِي من أصـوله

عليه يستقر روح اللـه :

روح الحكمـة والفهم

روح الرأي والقـدرة ،

روح العلم وتقوى الله ...

(1) يسّى اسم لداود.

(( في ذلك اليوم، أصل يسّى يكون آية للعالمين

ويكون مثواه مجيداً ))

( أشعيا 11 : 1 ـ 2 مع 10 )

فالنبي الآتي ميزته على الأنبياء أجمعين انه ابن داود، وأنه يتصف، من دونهم أجمعين، بتأييد روح القدس له، ويكون (( آية للعالمين )) . ويُجمع الإنجيل والقرآن أن هذه الصفات في (( النبي الآتي )) لا تتحقق إلا في المسيح، عيسى ابن مريم.

5) وتنتهي النبوة في بني إسرائيل مع النبي دانيال، قبل ظهور المسيح بقرن. ودانيال يعطي (( النبي الآتي )) ، المسيح الموعود، اللقب الغني بمدلولاته، ابن البشر، الذي لا يحمل المسيح ابن مريم سواه في رسالته ودعوته:

(( ورأيت في رؤى الليل، فـإذا بمثـل

ابن البشر آتيا على سحاب السماء

فبلـغ إلى القديم الأيـام

وقُـرّب في حضرتــه !

وأوتي سـلطاناً ومجدا وملْكاً

وجميع الشعوب والألسنة يعبدونه

وسلطانـه سـلطان أبدي

لا يـزول، وملكه لا ينقرض ! ))

 

( دانيال 7 : 13 ـ 14 )

فالنبي الآتي، هو ابن البشر، لكنه ينزل من السماء، حيث كان عند القديم، ومن المقربين. ينفرد بالسلطان، وبعبادة العالمين. ونحن في الإنجيل والقرآن أصداء لهذه الصفات في المسيح ابن مريم، ولا يصح أن تنسب لغيره. وسر شخصيته في أنه (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ، والسير على سحاب السماء، استعارة كتابية متواترة تصف الألوهية؛ وهذا ما تدل عليه سائر الصفات. والمسيح ابن مريم، في محاكمته لدى مجلس القضاء الأعلى عند اليهود، شهد أمام الأحبار والعلماء أنه (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) .

تلك بعض (( البشارات والإشارات )) في النبوة والكتاب، إلى (( النبي الآتي )) ؛ وكلها لا يمكن أن تنطبق إلا على المسيح، ابن داود، وابن البشر، وابن مريم، (( كلمة الله ألقاها إلى مريم، وروح منه )) . فليس فيها ما يدل من قريب أو من بعيد إلى (( نبي أمي )) يأتي من غير بني إسرائيل. فنستغرب تخريجهم لها، ونستهجن قول الأستاذ دروزة في تحليل رشيد رضا لها: (( أورد ثماني عشرة بشارة ... وأورد من الحجج والأقوال ما فيه المقنع لراغبي الحق والحقيقة في صواب استنتاجاته، وقوة حججه، وفي عدم قيام شبهات المشتبهين على أسس قوية )) ( التفسير الحديث 3 : 168 ).

إننا نرثي العلم والنقد والمنطق، في صواب تلك الاستنتاجات والحجج.

كلاّ، ليس في التوراة ذكر (( للنبي الأمي )) ، ولا في الإنجيل.

والإنجيل، في أحرفه الأربعة، يؤكد ويعلن تحقيق النبوءات كلها في المسيح ابن مريم، ابن دواد، ابن إبراهيم ( متى 1 : 1).

فهو وحده الذي يبشر به الملاك، وبولادته من أم بتول لم يمسسها بشـر، وبنسبه من (( داود أبيه )) ( لوقا 1 : 26 ـ 38 ).

وهو وحده تتم فيه نبؤة أشعيا في (( عمانوئيل )) ( متى 1 : 22 ـ23 ).

وهو وحده الذي أَيّده الروح القدس، فقد نزل عليه بهيئة حمامة يوم عماده، وسار معه لا يفارقه ساعة ( مرقس 1 : 9 ـ 11؛ متى 2 : 13 ـ 17؛ لوقا 3 : 21 ـ 22 ).

ويستفتح دعوته بجامع الناصرة. يتلو نبؤة أَشعيا في النبي الآتي الذي يؤيده

الروح القدس، ويصيح في الجماهير: (( اليوم تمت هذه الكتابة التي تليت على مسامعكم )) (لوقا 4 : 21).

ويعلن أن زمان النبؤات يتم معه، وأنه هو الذي يؤسس ملكوت الله الموعود. فاستهل دعوته بقوله: (( لقد تمّ الزمان! واقترب ملكوت الله! فتوبوا وآمنوا بالإنجيل )) ( مرقس 1 : 15 ).

ويعلن في هيكل أورشليم، يوم الحج: (( إبراهيم أَبوكم قد ابتهج في رؤياه ليومي، فرأى وفرح )) ( يوحنا 8 : 66 ).

وفي عيد اليهود يصيح بالسلطات والجماهير: (( لو كنتم تصدقون موسى، لصدقتموني أنا أيضاً، لأنه كتب عني )) ( يوحنا 5 : 46 ). فهو يعلن أن نبؤة موسى في (( النبي الآتي )) قد تمت فيه، فلا ينتظرون آخر.

وفي الجدل الأكبر على شخصيته وسلطانه، بعد احتلال الهيكل، قبل استشهاده، يستجمع النبؤات كلها ويعلن لهم أنه: ابن داود وربه معاً.

وفي محاكمته لتكفيره، يعلن لهم أَنه (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ( مرقس 14 : 62؛ متى 26 : 64 ). فرأوا في نسبته لنفسه تلك النبوة شهادة في إِلهيته، فكفّروه وحكموا عليه بالإعدام: (( ومكروا ومكر الله بهم والله خير الماكرين )) .

لا حاجة إلى سرد سائر التطبيقات النبوية التي يطبقها الإنجيل على سيرة المسيح وشخصيته. فكل النبؤات قد تمت في يسـوع المسيح، بشهادة الإنجيل. ولا تصح نبؤة منها في (( نبي أمي )) يأتي من غير بني إسرائيل. فالإنجيل كله في ذلك تفصيل الكتاب وتصديقه.

والقرآن نفسه، في الموضوع ذاته، تفصيل الكتاب وتصديقه؛ وبنصه

القاطع قد جعل الله (( الكتاب والحكم ( الحكمة ) والنبوة )) في بني إسرائيل حتى المسيح ( آل عمران 79؛ الأنعام 89؛ الجاثية 15 )؛ (( ولقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب )) ( الحديد 26 )، كما يوضح ذلك في قوله: (( ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب )) ( العنكبوت 27 ).

فالكتـاب والإنجيل والقرآن تحصـر (( النبوة والكتاب )) في بني إسـرائيل؛ ولا تقول (( بنبي أمي )) يأتي من غير بني إسرائيل فلا يصح أن ينقض طرف آية، (( النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل )) ، كل الكتاب والإنجيل والقرآن؛ ودلائل الإقحام بادية على تلك الآية الدخيل، في غفلة من الجامعين، في عهود التدوين.

لا ننس أن هذا البحث كله محصور في صفة (( الأمي )) ؛ ولا يمسّ مقام النبوة في شيء.

فبشهادة الكتاب والإنجيل والقرآن، إِنّ النبي الأعظم الموعود هو المسيح، عيسى، ابن مريم.

وليس في التوراة والإنجيل من ذكر (( للنبي الأمي )) ، العربي.

* * *

جزء ثانٍ : هل من بشائر وإشارات إلى محمد في الكتاب؟

نعود إلى قول الأستاذ دروزة ( التفسير الحديث 3 ص 168 ): (( وقد عقد السيد رشيد رضا في الجزء التاسع (230 ـ300) من ( تفسير المنار ) فصلاً طويلاً أورد فيه ثماني عشرة بشارة مستمدة من أسفار العهد القديم والأناجيل.

وناقش الشبهات التي يوردها المبشّرون، وأورد من الحجج والأقوال ما فيه المقنع لراغبي الحق والحقيقة، في صواب استنتاجاته وقوة حججه، وفي عدم قيام شبهات المشتبهين على أسس قوية )) .

ما لنا وللمبشرين، هذا الهاجس الدائم.

إن القضية قضية واقع وعلم ونقد نزيه.

وقد سبق رشيد رضا، صاحب (( إظهار الحق )) في إِيراد تلك البشائر أو الإشارات الثمانية عشرة.

وبحثها يقتضي كتاباً برمته، هو قيد التحضير. نجتزء منه بهذا المختصر المفيد. وفي البحث السابق درسنا صفة (( الأمي )) في الكتاب؛ وهنا نبحث (( قومية النبي )) .

البشارة الأولى: (( النبي، من أخوتك )) .

(( يقيم لك الله، إِلهك، نبيّاً من وسطك، من أخوتك، مثلي، له تسمعون ... أقيم لهم نبيّاً من وسط أخوتهم مثلك )) ( سفر التثنية 18 : 15 و18 ).

سبق بحثها. إن قوله (( من أخوتك )) يعني عندهم من العرب، لأن ولد إسماعيل هم أخوة بني إسرائيل. وفاتهم أن كل القرائن، (( لك )) ، (( لهم )) ، (( من وسطك )) ، (( من وسط أخوتهم )) تقطع بأن (( من أخوتك )) مقتصرة على بني إسرائيل.

والتوراة هنا تعطي شرعة النبوة عند بني إسرائيل، كما تعطي شرعة الملك فيهم (التثنية 17 : 14 ـ 16). فلا يصح بحال من الأحوال أن تكون شرعة النبوة شهادة لنبي موعود يأتي من العرب، لبني إسرائيل.

البشارة الثانية: (( هم أغاروني بما ليس إِلهاً! أغاظوني بأباطيلهم! فأنا أغيرهم بما ليس شعباً، بأمة غبية أغيظهم )) ( التثنية 32 : 21 ).

قالوا: المقصود (( بالأمة الغبية )) : العرب. فهنيئاً للقائلين القابلين بهذا اللقب. أما نحن فنرفضه قوميّاً ودينيّاً.

تاريخيّاً، لقد أَدّب الله بني إسرائيل بأمة بابل وأشور؛ ثم بأمة سوريا الهلينية، ثم بأمة الرومان. وبعد قتل المسيح، وبحسب نبؤة المسيح، دمر الرومان الأمة والدولة والهيكل، فلم يبق فيه حجر على حجر، وذلك عام سبعين م. ولما جدّدوا الثورة عام 133، سحقوهم ومنعوا أورشليم عليهم، وغيّروا حتى اسمها، فصارت (( ايلياء )) . وصارت بلاد اليهودية مسيحية قبل الفتح الإسلامي، الذي لم يفعل باليهود شيئاً في فلسطين، لأنهم كانوا مشردين. فالواقع التاريخي ينقض تخريجهم لهذه النبؤة.

دينيّاً، ان (( الأمة الغبية )) المقصودة عندها (( ما ليس إِلهاً )) ؛ ولها (( أباطيلها )) أَي أَصنامها، فهي أمة وثنية. والأمة العربية التي زحفت على فلسطين كانت الإسلام: فهل أمة محمد وثنية؟ يا لعار التخريج!

البشارة الثالثة: (( جاء الله من سيناء وأشرق لهم! من سعير! وتلألأ من جبل فاران! وأتى من ربوات القدس، وعن يمينه نار شريعة لهم )) ( التثنية 33 : 2 ).

قالوا: (( مجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى؛ وإشراقه من سعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى؛ وتلألؤه من فاران إنزاله القرآن، لأن فاران من جبال مكة )) ، ومنه أتت (( نار شريعة لهم )) .

هذا التخريج يسمّى: جرّ الجمل بشعرة!

1) ياقوت يقول في كتابه ( المشترك وضعاً، والمختلف صقعاً ): (( فاران اسم جبال مكة. وقيل اسم جبال الحجاز. وقال أبو عبيد القضاعي في كتاب ( خطط مصر ): وفاران والطور كورتان من كور مصر القبلية. وفاران أَيضاً من قرى صفد سمرقند، يُنسب إليها أبو منصور الفارابي )) . فهناك إذن أربعة أماكن تحمل اسم فاران، فلا يصح حصر النبوة بفاران الحجاز. هذا إذا صحّ أن العرب سمت جبال الحجاز، فاران.

2) والكتاب يفسر بعضه بعضاً، فلا يصح تفسيره بغيره. ومتى قامت الدلائل والقرائن في نص، فلا يصح تأويلها بغيرها.

إِن إشارات التوراة كلها تجعل فاران قرب سيناء ( تك 14 : 5 ـ 6؛ تك 21 : 21؛ العدد 10 : 12؛ 12 : 16؛ 13 : 3 )، على طريق هجرتهم من مصر إلى فلسطين؛ ولم يمرّوا على الإطلاق بالحجاز. وسفر التثنية يصف دخول أرض الموعد، بقيادة الله لشعبه، في مراحل الغزو: من سيناء، إلى سعير، إلى فاران، إلى الأرض المقدسة.

ويذكر الكتاب أن داود (( نزل إلى برية فاران )) ( 1 صمو 25 : 1؛ 1 ملو 11 : 18)، ولا يذكر الكتاب على الإطلاق أن داود غادر فلسطين إلى الحجاز.

3) النص المذكور يصف بطريقة شعرية مراحل غزو فلسطين: فلا يصح أن نرى فيها منازل الوحي التي يذكرون.

وبنص القرآن القاطع كان الوحي إلى محمد بواسطة جبريل ( البقرة 89 )، لا من الله مباشرة. والآية التوراتية تقول: (( جاء الرب )) أي الله نفسه؛ والكلام استعارة شعرية، فلا تسمح القرائن أن نحملها على الحقيقة والواقع.

فتخريجهم يأباه النص جملة وتفصيلاً.

البشارة الرابعة: (( وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه: ها أَنا أباركه، وأثمره، وأكثره جداً، فيلد اثني عشر ولداً. وأجعله أمة كبيرة )) ( التكوين 17 : 2 ).

قالوا: هذه النبوة تجعل من ولد إسماعيل نم سيكون سيد شعب كبير. وهذا لم يتحقق في ولد إسماعيل إلا بمحمد. فنبؤة الكتاب تذكره.

بل ظاهر النص يقضي على هذا التخريج. فكما أن التوراة تذكر لإسرائيل اثني عشر سبطاً؛ كذلك تذكر لإسماعيل اثني عشر ولداً، أجداداً لأمة كبيرة. ولا مكان في النص لفظاً أو معنى للنبوة أو للدولة وسيادتها. وكانت العرب المستعمربة من ولد إسماعيل تملأ الحجاز قبل ظهور محمد: فتمت النبؤة قبله.

البشارة الخامسة: (( لا يزول قضيب ( صولجان ) من يهوذا، ولا مشترع من بين رجليه، حتى يأتي شيلون، وله تخضع شعوب )) ( التكوين 49 : 10 ).

قالوا: (( شيلون )) هو لقب لمحمد الذي أتى وخضعت له شعوب.

نستغرب ونستهجن هذا التخريج: فكيف فاتهم أن (( شيلون )) هو من يهوذا، ومصدره من صلبه، (( من بين رجليه )) . وهو يأتي إلى بني يهوذا، لا إلى العرب. ويأتي حالما يزول السلطان عن يهوذا، لا بعد ستماية سنة من الاستعباد الروماني الرومي. وهذا ما تمّ مع المسيح، فإنه (( ابن داود )) ، ابن يهوذا.

وظهر لما خرج السلطان من يهوذا إلى يد الأمميين. ولا يصح شيء من عناصر النبوة في محمد؛ ولا إشارة فيها على الإطلاق إلى النبي العربي.

البشارة السادسة: (( فاض قلبي بكلام صالح! إني أنشد للملك: أنت أروع جمالاً من بني البشر! ... تقلّد سيفك على فخذك أَيها الجبار! ... كرسيك، يا الله، إلى دهر الدهور! قضيب استقامة قضيب ملكك! )) ( المزمور 45 ).

قالوا: إن النبي الجبار، نبي السيف والبيان، هو محمد؛ فهو المقصود بهذه البشارة التي لا تنطبق على غيره.

والنشيد قد يكون له معنى واقعي، أو مجازي. فمن حيث التاريخ، هو نشيد زفاف لأحد ملوك إسرائيل.

وقد يُحمل على المجاز، ويقصد في الملك المذكور رمز النبي الملك الآتي. لكن السيف المذكور هو سيف الحق، لا سيف القوة. وفي النشيد تعبيران يمنعان من استخدامه بحق محمد: فالنشيد يطلق عليه لقب (( الله )) ، أو بالحري لقب (( إله )) ـ بالعبرية أيلوهيم ـ؛ ومن الكفر إطلاق هذا اللقب المجازي على محمد. ثم إن الآية (8) تذكر (( مسحة )) الملك والنبوة، الدارجـة عند بني إسـرائيل، ولم يعرفها العرب، ولا يذكـر القرآن أو الحديث أو السـيرة (( مسحة )) بزيت لمحمد.

فتأمل كيف يشطون بالتخريج إلى التهريج.

البشارة السابعة: (( غنّوا للرب ترنيمة جديدة ... تعظيم الله في أفواههم،

وسيوف ذات حدين في أيديهم؛ لا جراء الانتقام من الأمم والتأديب للشعوب )) (المزمور 149).

قالوا: هذه البشارة نبؤة عن أمة محمد؛ إنها أمة الحمد والسيف معاً.

وفاتهم أن المزمور نشيد لبني إسرائيل أنفسهم، كما يتضح من فاتحته: (( ليبتهج بنو صهيون بملكهم )) ( مز 149 : 1 ). فهل كان محمد ملك صهيون؟ أم هل فرح بنو صهيون بمحمد؟‍! حملات القرآن المتواترة عليهم خير شاهد.

البشارة الثامنة: (( هوذا الأوليات قد أَتت؛ والحديثات أنا مخبر بها ... غنّوا للرب أغنية جديدة ... لترفع البريّة ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار )) (أشعيا 42 : 9 و11).

قالوا: إنها نبؤة على يقظة الصحراء التي سكنها قيدار، الابن الثاني لإسماعيل إلى طريقة جديدة لحمد الله. فهي تشير إلى محمد والإسلام في الحجاز.

والواقع النبوي يشهد بأن هذه البشارة نشيد من أناشيد الرجوع من جلاء بابل. والدعوة ليست فقط للصحراء (42 : 11)، بل قبلها للبحر وجزره (42 : 10)، ثم لأهل الجبل (42 : 11). فهي تعمّ البشرية لإعلان انتصار الله على الأصنام بتحرير أهل التوحيد من جلاء بابل (42 : 17). هذا هو نشيد الحمد لأيام في إسرائيل. فمن التعسف المفضوح اقتصار الحمد على (( الصحراء التي سكنها قيدار )) ، للاستنتاج منها أنها بشارة بهداية الجزيرة العربية إلى طريقة جديدة لحمد الله. والقرآن صريح بأنه ليس طريقة جديدة لحمد الله، إنما هو (( ذكر مَن قبلي )) ؛ ذكر من (( سماكم المسلمين من قبل

وفي هذا )) القرآن ( الحج 78 )؛ فيه يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً بلا تفريق (الشورى 13) فالاقتصار الثاني على إسلام القرآن ينقض القرآن كله.

والواقع التاريخي يشهد بأن اليهودية عمت الحجاز قبل الإسلام؛ وأن المسيحية سادت في أطراف الجزيرة كلها، ودخلت النصرانية مكة والمدينة قبل القرآن، بشهادة القرآن نفسه. فلا يصح اقتصار (( الحمد الجديد )) على الإسلام وحده. فقد سبح أهل قيدار، في شمال الحجاز، بالحمد التوراتي والإنجيلي، قبل القرآني، بمئات السنين؛ فلا تنحصر النبؤة في محمد والإسلام، حتى تكون بشارة بهما.

فالواقع التاريخي والواقع النبوي يأبيان ذلك التخريج الاعتباطي.

البشارة التاسعة: (( ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد! اندفعي بالترنيم واصرخي أيتها التي لم تتمخّض، فإن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل. قول الرب )) (أشعيا 54 كله).

قالوا: المراد بالعاقر هنا مكة لأنه لم يقم فيها نبي بعد إسماعيل؛ ولم ينزل فيها وحي. وتعبير (( بني المستوحشة )) إشارة إلى أولاد هاجر، أم اسماعيل، ومطلقة إبراهيم. و(( الحداد )) المذكور فيها (54 : 16) إشارة إلى محمد، قاتل المشركين بسيفه.

إن الواقع النبوي صريح بأن هذه البشارة من أناشيد رجوع بني إسرائيل من جلاء بابل إلى أورشليم، التي كانت بدونهم كالعاقر المستوحشة. إن الله سيعيد عن قريب بني صهيون من جلائهم إلى المدينة المقدسة، وتصير العاقر المهجورة أمّ بنين أكثر من ذات البعل، وأكثر من قبل الهجرة.

والنشيد يسمي أورشليم العاقر، والمهجورة، والمستوحشة، لأن صهيون في مجاز الكتاب عروس الله. ولم ترد فيه تلك الكناية بحق مكة على الإطلاق. ـ وكيف ترد وهي كانت على الشرك والكفر! والتنزيه القرآني يأبى مثل تلك الكنايات، فتخريجهم هو أيضاً ضدّ حرف القرآن وروحه.

والعهد الجديد قد اعتبر أورشليم الجديدة رمزاً للمسيحية النازلة من السماء: (( ورأيت المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، من عند الله، مهيأة كعروس مزينة لعريسها! وسمعت صوتاً جهيراً من العرش يقول: هوذا مسكن الله مع الناس! أجل سيسكن معهم، ويكونون له شـعباً، وهو (( والله ـ معهم1)) يكون إِلههم )) ( الرؤيا 21 : 2 ـ 3 ). فالنشـيد المذكور رمز للمسيحية المولودة من الموسـوية، التي أمست عاقراً فهجرها الله إلى (( أورشليم الجديدة )) .

وصار بنو المسيحية أكثر من بني الموسوية؛ وأكثر من أمة محمد؛ فلا تنطبق النبوة عليه وعلى أمته. وبما أَن العهد الجديد فسّر النبوة لصالحه، فعلينا أن نأخذ بوحيه؛ وليس في القرآن شيء من ذلك، فلا يصح لنا أن نجتهد برأينا بعد تصريح الوحي.

ومن المضحك المبكي تفسير (( الحداد )) في النشيد بمحمد، وهذه هي الآية:

(( ها إني أَنا خلقت الحداد الذي ينفخ الجمر في النار، ويُخرج أداة لعمله. وأَنا خلقت المفسد للتدمير. فكل أَداة أُنشئت عليكِ لا تنجح! وكل لسان يقوم عليكِ في القضاء تردينه مؤثـّماً. هذا ميراث عبيد الله، وبرهم مني. قول الرب )) .

(1) (( الله ـ معهم )) أي عمانوئيل، لقب للمسيح.

فالحداد الذي يسعى لتدمير إسرائيل مفسد: فهل يليق هذا بالنبي العربي!؟ ألا يفطنون لنتائج تخريجهم التي ترتد عليهم؟

البشارة العاشرة: (( إِني اعتلنت لمن يسألوا عني، ووجدت ممن يطلبوني ... وأَنتم الذين تركوا الله، ونسـوا جبلي المقدس، الذين يهيئون المائدة لجَدّ، ويعدّون الممزوج لمناة، إني أعيّنكم للسـيف! وتجثون جميعكم للذبح! ... ها إني أخلق أورشـليم (( ابتهاجاً )) وشعبها (( سروراً )) ... ( أشعيا 65 كله ).

قالوا: هذه نبؤة لاستبدال اليهود بالمسلمين شعباً لله: (( ويدعو عبيده باسم آخر (65 : 25)، كما يدل عليه ذكر (( مناة )) آلهة العرب (65 : 11).

يظهر أن القوم يقتصرون على بعض التعابير في نبؤة، فيتمسكون بها ليفسروا الكل على ضوء الجزء، فيؤولون النص تأويلاً تأباه قرائنه اللفظية والمعنوية. وليس هذا من النقد العلمي النزيه. رأوا في ورود اسم ( مناة ) إحدى (( الغرانيق العلى )) عند العرب، فحرّفوا النبؤة عن معناها؛ وفاتهم أن (( مناة )) مثل (( جدّ )) المذكور معها (65 : 11) كانا من آلهة الكنعانيين والأراميين، قبل مشركي العرب.

وفاتهم أن التجديد المشار إليه سيكون بفضل (( النسل الذي يخرج من يعقوب، والوارث من يهوذا )) (65 : 6). وأَن التجديد سيكون لأورشليم وإسرائيل: (( تهللوا وابتهجوا إلى الأبد بما أخلق: فإِني هاءنذا أخلق أورشليم ابتهاجاً، وشعبها سروراً؛ وأَبتهج بأورشليم، وأَسرّ بشعبي )) (65 : 18 ـ 19). وهكذا فإِن استبدال اليهودية سيكون بالمسيحية، بواسطة نسل يعقوب، ووريث يهوذا، كما صرّح به المسيح نفسه في مثل الكرّامين القتلة، بأنه هو نفسه ابن رب الكرم ووريثه ( متى 21 : 33 ـ 43 ).

إِنهم يتجاوزون صراحة النص، وتفصيل الإنجيل له، إلى اجتهاد ما أنزل الله من سلطان في القرآن والإنجيل والتوراة.

البشارة الحادية عشرة: نبؤة دانيال المزدوجة صورة التمثال ( كناية عن الشرك ) الذي يمثل أَربعة ممالك؛ وفي زمن المملكة الرابعة ينقطع حجر من جبل (( بغير يد قطعته )) فيسحق التمثال والممالك الوثنية التي تحمله (2 : 31 ـ 45)؛ وصورة ابن البشر الآتي على سحاب السماء لينشئ على الأرض ملكوت الله، على أَنقاض ممالك العالم (7 : 13 ـ37).

قالوا: إن الحجر الذي ضرب تمثال الشرك هو محمد، وملكوت الله هو الدولة الإسلامية التي قامت على أنقاض الفرس والروم.

إنها لطريقة غريبة في التفسير. يتعلقون بقشور بعض الكلمات، من دون الالتفات إلى لبانها وإلى قرائنها القريبة والبعيدة التي تنقض تخريجهم.

إِن الحجر المعجز الذي يسحق التمثال، ويبني على انقاضه مملكة أبدية يظهر على أيام ملوك الدولة الرابعة الوثنية أي الرومان، فإِنه (( في أيام هؤلاء الملوك يقيم إِله السماء مملكة لا تنقض إلى الأبد، وملكه لا يُترك لشعب آخر؛ فتسحق وتفني جميع تلك الممالك، أما هي فتثبت إلى الأبد )) (2 : 43). ومملكة الروم التي خلفت مملكة الرومان لم تكن وثنية، بل مسيحية، على دين الكتاب والإنجيل. والإسلام لم يقم بعد فناء مملكة بابل وأَشور، ومملكة فارس ومادي، ومملكة الاسكندر المقدوني، ومملكة الرومان التي (( في أيام ملوكها )) يفلت الحجر الرمزي المعجز، وينشئ على انقاضها جميعاً ملكوت الله؛ بل يظهر الإسلام بعد فناء تلك الممالك الأربعة بثلاثماية سنة.

وقد طبق المسيح نفسه رمز الحجر المعجز على ذاته: (( حينئذٍ قال لهم يسوع: أَما قرأتم قط أن الحجر الذي رذله البنَّاؤون هو صار رأساً للزاوية؛ من قبل الله كان ذلك وهو عجيب في أعيننا )) ( متى 21 : 42 )؛ فجمع نبؤة دانيال إلى نبؤة الزبور ( مز 107 : 22 ـ33 ).

ومتى فسّر كتاب منزل كتاباً منزلاً، فلا يحق لنا الاجتهاد في موضع النص. والإنجيل تبنى نبؤة دانيال؛ فبنى يسوع دعوته على أنه ابن البشر الآتي ليؤسس ملكوت الله، كما يتضح في كل فصول الإنجيل بأحرفه الأربعة. ففي محكم الإنجيل وصريحه، يسوع هو ابن البشر ـ وهو اللقب الوحيد الذي اعتاد أن يتسمّى به ـ ورسالته هي تأسيس ملكوت الله.

فالإنجيل، يدعمه التاريخ، يشهد بأن المقصود عند دانيال المسيح والمسيحية. ولا ذكر لشيء من ذلك في القرآن، لذلك فلا يصح أن نطبّق اعتباطاً نبؤة دانيال على محمد والإسلام.

البشارة الثانية عشرة: (( هوذا قد جاء الرب في ربوات قديسيه ليقيم دينونة على الجميع، ويعاقب جميع فجَّارهم على فجورهم )) ( رسالة يهوذا، العدد 14 و15 ).

قالوا: إن الرب هنا بمعنى السيد، وهو محمد؛ وربوات قديسيه الصحابة.

يا للعجب العجاب! يقودهم تخريجهم إلى الكفر ولا يشعرون. أجل إن كلمة (( رب )) بالنكرة، أو على الإضافة إلى مخلوق قد تعني مخلوقاً، لكن متى اقترنت بأل العهد والعلمية، كما في الكتاب كله، لا تعني إلا الله تعالى ـ فمن الكفر إطلاقها على محمد!

وتعبير (( ربوات قديسيه )) لا يمكن أن تعني صحابة محمد، فقد كانوا معدودين، ولم يكونوا جميعهم قديسين. وفي لغة العهد الجديد، تعبير (( القديسين )) كناية عن المسيحيين.

و (( الرب )) في الآية (( يصنع دينونة للجميع )) أي إنه ديَّان العالمين وملك يوم الدين. ومن الكفر أيضاً إطلاق هذه الصفة على محمد، والقرآن يشهد: (( إنما أنت مذكر! لست عليهم بمسيطر )) ( الغاشية 22 ). وفي الإنجيل يأخذ المسيح لنفسه صفة الديان للعالمين مثل الله (يوحنا 5 : 22) وصفة ملك يوم الدين ( متى 25 : 31 ـ33 ).

فلا ذكر في تلك الآية، ولا إشارة، إلى محمد وصحابته؛ إنما الآية والرسالة كلها حديث في المسيح والمسيحيين.

البشارة الثالثة عشرة: (( وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في بريّة اليهودية قائلاً: توبوا، لأنه قد اقترب ملكوت السماوات )) ( متى 2 : 1 ـ2 )؛ ويسوع نفسه يجدد الدعوة عينها ( متى 4 : 17 ).

قالوا: إن المسيح لم يؤسس دولة، وهو مع المعمدان سابقه يبشران بدولة الله في أرضه: فملكوت السماوات ( أي الله ) هو الإسلام دولةً وشريعة.

ونقول: إن التخريج قد بلغ هنا حدّ الوقاحة على الإنجيل. ومتى قام النص بطل الاجتهاد. والإنجيل كله يظهر أن ملكوت الله في عرْفه ليس دولة تقوم بحد السيف، إنما هو سلطان الله على النفوس والعقول والقلوب، دولة روحية.

وإن ملكوت الله يبنيه المسيح نفسه: (( ومن أيام يوحنا المعمدان حتى الآن،

ملكوت السماوات يُغتصب، والمغتصبون يأخذونه عنوة )) ( متى 11 : 12 ). ويصرّح أن انتصاره على الشيطان برهان قيام الملكوت بينهم: (( وأما أن كنت بروح الله أخرج الشياطين، فذلك أن ملكوت الله قد قام بينكم )) ( متى 12 : 28). قام بينهم بالحسنى على حياة المسيح؛ ولكن بعد قيامته ورفعه إلى السماء سيقوم بقوة: (( إن من القائمين ههنا مَن لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أَتى بقوة )) ( متى 16 : 28؛ مرقس 9 : 1؛ لوقا 9 : 27 ). فليس في الإنجيل من انتظار لملكوت الله بعد المسيح بمئات السنين ولا من معنى لدولة بحد السيف.

وفي درس جامع للإنجيل بأحرفه الأربعة، في معنى ملكوت الله، تظهر قباحة التحريف والافتراء على الإنجيل.

البشارة الرابعة عشرة: (( يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أَخذها إنسان وزرعها في حقله ... فصارت شجرة تؤمها طيور السماء، وتعشش في أغصانها )) ( متى 13 : 31 ـ 32 ).

قالوا: إن حبة الخردل التي تصير شجرة، صورةً لملكوت الله، هي كناية عن الإسلام، والنجاة فيه بشريعته.

تكفي قراءة الفصل كله، في تمثيل ملكوت الله بالأمثال، حتى يعرف الأمي نفسه معناه؛ وكيف طبقها المسيح كلها على نفسه: (( الذي يزرع الزرع الجيّد هو ابن البشـر ( لقب المسيح )؛ والحقل هو العالم؛ والزرع الجيد الملكوت وبنوه )) ( متى 13 : 37 ).

وقال يسوع لصحابته بمناسبة تلاوة أمثال الملكوت عليهم: (( لقد أُوتيتم

أَنتم أن تعرفوا أسرار ملكوت الله ... فطوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع! الحق أقول لكم: إن كثيرين من الأنبياء، والأولياء قد اشتهوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا )) ( متى 3 : 10ـ 17 ). فإن نبؤات الأنبياء، ورغبات الأولياء، تتم في مشاهدة صحابة المسيح لظهور الملكوت واطلاعهم على أسراره.

فكيف يقرؤون، وكيف يفهمون؟!

البشارة الخامسة عشرة: (( هكذا يكون الآخرون أولين، والأولون آخرين )) ( متى 20 : 1 ـ 16 ).

قالوا: هذا المبدأ الإنجيلي نبؤة عن الإسلام، دين الله في أرضه، فهو يبشر بأن المسلمين، آخر من ظهر الكتب المنزلة، سيكونون أولين، والأولين من اليهود والنصارى سيكونون آخرين.

ألا بورك التخريج والتهريج! إن تحريف الإنجيل يبلغ هنا حد التزوير الرخيص المفضوح.

فالمسيحي يعلن لتلاميذه: (( لا تخف أيها القطيع الصغير، فقد رضي أبوكم السماوي أن يعطيكم الملكوت )) ( لوقا 12 : 32 ).

ويقول لهم: (( أنتم أُوتيتم معرفة أسرار ملكوت الله )) ( لوقا 8 : 10 ).

وعند رفعه إلى السماء يأمرهم بالرسالة الإنجيلية في العالم أجمع، للخليقة كلها، ويصرح لهم: (( وها أَنا معكم طول الأيام إلى انقضاء الدهر )) ( آخر آية عند متى ).

فهل تعليم المسيح كاذب؟ وهل وعده أَكذب؟

ومن جهة أخرى، يعد المسيح أتباعه بتنزيل الروح القدس عليهم، للتأييد المطلق مدى الدهر: (( يقيم معكم، ويكون فيكم )) ( يوحنا 14 : 17 )، (( يعلمكم كل شيء، ويذكركم جميع ما قلت لكم )) ( يوحنا 14 : 25 )، (( روح الحق يشهد لي وأَنتم معه شاهدون )) (يوحنا 15 : 26 ـ 27)، ويفحم العالم على خطيئته، وعلى بركـم، وعلى دينونة الله ( يوحنا 16 : 8 )، (( روح الحق يرشدكم إلى الحقيقة كلها )) ( يوحنا 16 : 12 ).

فهل بعد تأييد الـروح القدس الدائم للمسيحية لتوطينها في العـالم (( إلى انقضاء الدهر )) ، يمكن تفسير المبدإ المذكور، على النحو الموتور؟

البشارة السادسة عشرة: قال المسيح لليهود: (( أما قرأتم قط في الكتب: إن الحجر الذي رذله البنَّاؤون صار رأساً للزاوية. من قبل الرب كان ذلك، وهو عجيب في أعيننا ! من أجل هذا أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع منكم، ويعطى لأمة تؤدّي ثماره )) ( متى 21 : 42 ـ43 ).

قالوا: إن ملكوت الله الذي يُنزع من أهل الكتاب ويعطى لأمة أخرى تؤدي ثماره، هو الإسلام؛ وإن الحجر رأس الزاوية فيه، هو محمد.

هذا مثال مفضوح على أسلوب التضليل في التأويل. فما أَسهل عزل آية أو قول عن نصه وبيئته البيانية، لصبغه بمعنى يناقضه !

يسوع تحدّى اليهود بمثل الكرامين القتلة، الذين يقتلون النبيين بغير حق، وهم يتآمرون على قتل المسيح نفسه ( متى 21 : 33 ـ 46 ). وردّ على مكرهم بالاستعارة النبوية في الحجر المرذول ( المزمور 117 : 22 ـ23 ) الذي سيكون حجر الزاوية في ملكوت الله، وطبقه على نفسـه بقوله: (( أما قرأتم قط في الزبـر ... (( وطلبوا أن يقبضـوا عليه )) لقتله ( 21 : 42 و46 ).

وفي المثل بصور المسيح نفسه أَنه (( ابني .. ابنه .. الوارث )) لملكوت الله، بينما الأنبياء جميعهم (( عبيد )) الله. فهو يجعل نفسه ابن الله، وبهذه الصفة، الوارث الشرعي الوحيد لملكوت الله أَبيه ـ أليس من الكفر بحق القرآن ونبيه وصف محمد بابن الله؟ ووارث لملكوت الله (( أبيه )) ؟

إِنهم يكفرون بحق القرآن ونبيه من حيث لا يدرون.

البشارة السابعة عشرة: (( من يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطاناً على الأمم )) ( الرؤيا 2 : 26 ـ 29 ).

قالوا: الغالب الموعود، الذي وحده أُعطي سلطاناً على الأمم، هو محمد.

هذا التصريح تفتيش أعمى، في زوايا الرؤيا، ليروا فيها إشارة. وفاتهم أن الرؤيا كلها كشف لسلطان المسيح على سير التاريخ في البشرية. فهو الذي أخذ من يد القديم سفر القضاء والقدر المختوم بسبعة أختام لحجبه عن المخلوق. يقول الرائي: (( فأخذت أبكي بكاءً كثيراً، لأنه لم يوجد أحد يستحق أن يفتح الكتاب، ولا أنه ينظر إليه. فقال لي أحد الشيوخ (المقربين): أمسك عن البكاء! فهوذا قد غلب الأسد، الذي من سبط يهوذا، فرعُ داود! فهو إذن يفتح الكتاب وختومه السبعة )) ، وأنشد أهل السماء نشيداً جديداً لأسد يهوذا، السيد المسيح: (( مستحق أنت أن تأخذ الكتاب، وتفض ختومه، لأنك ذُبحتَ وافتديت لله أناساً من كل قوم ولسان، وشعب وأمة؛ وجعلتهم لإلهنا ملكوتاً وكهنة؛ وسيملكون على الأرض )) ( الرؤيا ف 5 كله ).

فالغالب القهار هو المسيح نفسه، لا غيره.

والغالب معه، في الآية التي بما يستشهدون، هو أيضاً المسيحي الذي يغلب

الوثنية والشرك، ولا ينغلب لها، لأنه حفظ (( وصية ابن الله )) أي إنجيله ( 6 : 18 ).

فسفر الرؤيا كله، جملة وتفصيلاً، ينقض تفسيرهم المغرض المفضوح.

الشهادة الثامنة عشرة: النبؤة بالفارقليط، في الإنجيل بحسب يوحنا (14 : 16؛ 14 : 26؛ 15 : 26؛ 16 : 7 ـ 8؛ 16 : 12 ـ 14).

قالوا: إن الفارقليط الموعود هو (( أحمد )) المذكور في القرآن ( الصف 6 ).

سيأتي الجواب عليه، ومحوره أن الفارقليط ذات إلهية، بحسب الإنجيل؛ فمن الكفر بالإنجيل والقرآن نسبته إلى محمد.

تلك هي (( البشارات والإشارات )) التي رأوا فيها أن محمداً (( مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل )) .

وقد لمسنا لمس اليد أَنها نبؤات وشهادات للمسيح وحده.

والنتيجة الحاسمة أنه ليس في التوراة، ولا في الزبور، ولا عند النبيين، ولا في الإنجيل، إشارة إلى محمد، النبي العربي. فالمسيح فيها خاتمة النبوة والكتاب.

إِنها عقدة نفسية، على أهل القرآن أن يتخلصوا منها. إذا كان الله قد ميّز المسيح على الأنبياء بالإِنباء عنه قبل ظهوره ـ وليست الميزة الوحيدة ـ فلم يبشر الله بموسى ولا بإبراهيم، ولا بأحد من الأنبياء: وهذا لا ينقص من قيمة نبؤتهم وفضل دعوتهم؛ كما لا ينقص من كرامة محمد إذا لم يكن (( مكتوباً عندهم

في التوراة والإنجيل )) . والإنباء السابق بالمسيح من باب المفاضلة بين الأنبياء ( 2 : 253؛ 17 : 55 ) كفضل تأييد المسيح بالروح القدس ( 2 : 253؛ 17 : 21 و25 ): ولا يشكل ذلك نقصاً أو انتقاصاً في نبؤتهم.

* * *

جزء ثالث: الرسول (( أحمد )) في الإنجيل

توطئة: قصة (( أحمد )) في القرآن والسيرة

1) في سورة ( الصف ) هذه الآية اليتيمة:

(( وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل، إني رسول الله إليكم، مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة، ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. فلما جاءهم بالبيّنات قالوا: هذا سحر مبين )) (6).

2) تفسير الآية في السيرة النبوية1.

(( صفة رسول الله ص منا الإنجيل )) :

(( وقد كان، فيما بلغني، عما كان وضع عيسى ابن مريم، فيما جاءه من الله في الإنجيل، لأهل الإنجيل ممّا أثبت يُحَنّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل، عن عهد عيسى ابن مريم عليه السلام، في رسول الله ص أنه قال:

(( مَن أبغضني فقد أبغض الرب. ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أَحد قبلي، ما كانت لهم خطيئة. ولكن من الآن بطروا وظنوا أَنَّهم يُعزّونني

(1) ابن هشام: السيرة النبوية. الجزء الأول ص 248. إخراج مصطفى السقا ورفقائه.

( يغلبونني )، وأيضاً للرب. ولكن لا بدّ من أَن تتم الكلمة التي في الناموس: إنهم أبغضوني مجاناً ـ أي باطلا. فلو قد جاء المُنْحَمَنـّا، هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الرب، روح القدس، هذا الذي من عند الرب خرج، فهو شهيد عليّ، وأنتم أيضاً، لأنكم قديماً كنتم معي. في هذا قلت لكم، لكيما لا تشكوا )) .

أضاف ابن هشام على نص ابن إسحاق: (( المنحمنـّا: بالسريانية محمد؛ وهو بالرومية: البَرَقْلِيطـُسْ، صلى الله عليه وسلم )) .

فأهل السيرة يرشدونا في اسم (( أحمد )) الوارد في القرآن، إلى لفظه السرياني والرومي، (( مما أثبت يُحنّس الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل )) .

(( أحمد )) في القرآن

نوجز الواقع القرآني في هذه الاعتبارات.

1) اسم النبي العربي في القرآن هو (( محمد )) ، كما يرد في أربع آيات:

(( ما محمد إِلا رسول قد خلت من قبله الرسل )) ( آل عمران 144 ).

(( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم )) ( الأحزاب 40 ).

(( وآمنوا بما نزّل على محمد )) ( محمد 2 ).

(( محمد، رسول الله )) ( الفتح 29 ).

لذلك فوروده بلفظ (( أحمد )) مرة يتيمة مشبوه، ولا يعرفه الواقع التاريخي.

2) إن تغيير اسم (( محمد )) المتواتر إلى (( أحمد )) في لفظة يتيمة في القرآن كله، تغيير مقصود، لكي ينطبق على قراءة شـاذة، لا أصل لها في المخطوطات الإنجيلية كلها، في كلمة (( الفارقليط )) بحسب الإنجيل. فالتحريف ظاهر ومزدوج في القرآن، وفي الإنجيل كما سنرى.

3) في القرآن كله، في النصوص كلها التي يرد فيها ذكر المسيح، ظاهرتان:

الأولى: يقفّي القرآن على كل الرسل بالمسيح، ولا يقفّي على المسيح بأحد ( البقرة 87؛ المائدة 49؛ الحديد 47 ).

الثانية: المسيح نفسه، في ما ذكر القرآن عنه، لا يبشر بأحد من بعده على الإطلاق، إِلا في بعض تلك الآية اليتيمة.

وهذا يجعل تعارضاً ما بين الموقف المتواتر، والموقف الشاذ اليتيم فيه.

والعقيدة في كتاب منزل تؤخذ من المحكم فيه، لا من المتشابه.

4) وفي محكم نظم القرآن، إذا أُسقط بعض الآية المشبوه، لا يختل النظم ولا البيان ولا التبيين ولا السياق اللفظي أو المعنوي: (( يا بني إسرائيل، إني رسول الله إليكم، مصدّقاً لما بين يديَّ من التوراة. فلما جاءهم بالبيّنات قالوا: هذا سحر مبين )) .

يؤكد ذلك المعنى نفسه المتواتر في ( آل عمران 50؛ المائدة 46؛ الزخرف 63 ): ففيها جميعاً لا يبشر المسيح برسول من بعده.

فهذا الواقع المتواتر يشير إلى إقحام مكشوف في آية الصف (6).

5) سورة الصف كلها حملة على اليهود الذين كفروا بموسى (5) وبعيسى ( 7 ويكفرون بمحمد ( 8 ـ 9 ). ويختم السورة بإعلان تأييد الدعوة القرآنية

للنصرانية على اليهودية، حتى (( أصبحوا ظاهرين )) (14). فلا إشارة في السورة، ولا دليل، يقضي بهذه الإضافة: (( ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد )) (6).

فتأمل موقف اليهود من المسيح وهو يبشرهم برسول يأتيهم من العرب الوثنيين! فلو فعل لكفرّوه مرتين، ولقتلوه مرتين!

6) ليست قراءة (( اسمه أحمد )) ثابتة. فهي غير موجودة في قراءة أُبي1. وهذا دليل أثري على تطور الإقحام قبل التدوين الأخير.

فيحق لنا إسقاط قراءة (( اسمه أحمد )) . حينئذٍ يأتي التبشير (( برسول يأتي من بعدي )) متطابقاً في القرآن والإنجيل على الروح القدس.

7) الإنجيل يعتبر المسيح خاتمة النبوة والكتاب. والقرآن يصدق الإنجيل في ذلك، إذ أنه لا يقفي، في تسلل الرسل، على المسيح بأحد. والرسول الذي يبشر به الإنجيل، هو الروح القدس؛ وهو ليس ببشر؛ ولا يظهر لبشر حتى يكون (( رسولاً بشراً )) ، (( اسمه أحمد )) .

فكل تلك القرائن والدلائل تشير إلى إقحام (( اسمه أحمد )) على آية الصف؛ وقد أسقطت الإقحام قراءة أُبي.

(( الفارقليط )) في الإنجيل.

في الإنجيل بحسب يوحنا، الذي تقودنا إليه السيرة لابن هشام، لا كلمة

(1) lachère : le Coran . T  p. 909 .

(( الفارقليط )) تعني (( أحمد )) ؛ ولا أوصاف (( الفارقليط )) فيه يمكن أن تعني (( محمداً )) ، أو بشراً على الإطلاق.

وفي توحيد السيرة، نقلاً عن الإنجيل، بين الفارقليط والروح القدس ما كان يغنيهم عن ورطتهم. فالإنجيل يقول (( الروح القدس )) على العلمية، وسنرى معناه في الإنجيل. والقرآن يجعل (( روح القدس )) جبريل ( النحل 103؛ البقرة 92 ). فكيف يكون الفارقليط، روح القدس، جبريل، النبي (( أحمد )) ؟ وكيف خفي هذا عن أهل السيرة وأهل التفسير؟. وكيف يمكن لعاقل اليوم أن يدعي بأن (( أحمد )) هو الفارقليط، روح القدس؟ أكان ذلك بحسب قراءة القرآن، أم بحسب قراءة الإنجيل؟

والواقع الإنجيلي فيه مسألة أثرية، ومسألة موضوعية.

1) المسألة الأثرية. إن المخطوطات الكبرى التي ينقلون عنها الإنجيل، والموجودة في المتاحف الشهيرة، هي من القرن الرابع ميلادي، قبل القرآن بمئتي سنة ونيف.

وكل المخطوطات قرأت الفارقليط، البارقليطس: ParaklutόV أي المعين ـ وبعضهم ترجم: المعزّي، المحامي، المدافع ـ ولم يقرأ مخطوط على الإطلاق PerίklutoV أي محمود الصفات، أحمد الأفعال، كثير الحمد.

لكن في نقل الكلمة اليونانية بحرفها إلى العربية (( برقليطس )) ضاعت القراءة اليونانية الصحيحة؛ وجاز تحريف المعنى إلى (( أحمد )) . فقوّلوا الإنجيل ما لم يقل. وقد حاول تقويم التحريف الذين قرأوا (( فارقليط )) القريب في مخرجه من مطلع الحرف اليوناني.

فليس في الحرف اليوناني الصحيح، الثابت في جميع المخطوطات، من أثر لقراءة تعني (( أحمد )) .

2) المسألة الموضوعية. كذلك ليس في أوصاف الفارقليط، في الإنجيل، ما يصح أن ينطبق على مخلوق: فكيف يطبقونه على بشر رسول؟

في حديث أول، قال يسوع: (( وأنا أسأل الآب فيعطيكم فارقليط آخر، ليقيم معكم إلى الأبد، روح الحق، الذي لا يستطيع العالم أن يراه، ولا يعرفه. أما أنتم فتعرفونه، لأنه يقيم معكم، ويكون فيكم )) ( يوحنا 14 : 16 ـ17 ).

تلك الأوصاف تدل على إلهية الفارقليط:

الفارقليط يقيم مع تلاميذ المسيح إلى الأبد ـ وليس هذا في قدرة مخلوق.

الفارقليط هو (( روح الحق )) ، أي روح الله. وهو أيضاً روح المسيح لأن المسيح وصف نفسه: (( الحق )) ( يوحنا 14 : 6 ) ـ فهو روح الله وروح الحق. ومن الكفر نسبة هذه المصدرية إلى مخلوق.

الفارقليط يتمتع بطريقة وجود الله في كونه وعالمه: الوجود الخفي، لذلك (( لا يستطيع العالم أن يراه )) ـ ومن الكفر نسبة تلك الصفة إلى بشر.

الفارقليط يتمتع بسعة الله، وروحانيته، في إِقامته بنفوس المؤمنين (( يقيم معكم، ويكون فيكم )) ـ ومن الكفر إِسناد هذه الصفة لمخلوق.

فكيفي يكون الروح القدس، الفارقليط، النبي (( أحمد )) ؟ أو أي بشر رسول؟ أو أيّ مخلوق؟

ومن ناحية أخرى، فإن الفارقليط، الروح القدس، يبعث إلى الحواريين الذين يخاطبهم المسيح، مسلياً لهم في رفعه عنهم إلى السماء. فكيف يكون الفارقليط (( أحمد )) الآتي بعد ستماية سنة للعرب؟!

فكل القرائن اللفظية والمعنوية تدل على أن الفارقليط لا يمكن أن يكون

بشراً، ولا مخلوقاً. وصفاته الإِلهية وخلوده وعمله في المسيحيين (( إلى الأبد )) ، براهين ساطعة على إلهيته.

في حديث ثان، يقول يسوع: (( قلت لكم هذه الأشياء وأنا مقيم معكم والفارقليط، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو الذي يعلمكم كل شيء، ويذكركم بجيمع ما قلت لكم: ( يوحنا 14 : 25 ـ26 ).

هنا يسمي الفارقليط، باسمه المتواتر: (( الروح القدس )) . لاحظ التعبير المطلق، على العلمية: فهو (( الروح )) على الإطلاق ـ وهذه صفة إلهية؛ وصفة (( القدس )) تنزيه له عن المخلوق، لأن (( القدس )) في لغة التوراة والإنجيل والقرآن كناية عن الله، بصفة التجريد والتنزيه. ولاحظ الفرق العظيم مع التعبير القرآني، (( روح القدس )) ، مرادفاً لجبريل، فهنا إضافة للتشريف، لا للمصدرية. إنها تسمية، ما بين الإنجيل والقرآن، على طريقة المشاكلة، لا على طريق المقابلة. وبما أن (( روح القدس )) هو جبريل في القرآن، فقد كفر بمحمد نفسه مَن جعل محمداً الملاك جبريل، روح القدس، الفارقليط.

هذا في ذات الفارقليط. وفي صفاته يقول:

إن الفارقليط يرسله الله باسم المسيح ـ فهل أرسل (( أحمد )) باسم المسيح؟

إن الفارقليط يعلم الحواريين كل شيء ـ فهل تخطى (( أحمد )) الزمن وظهر للحواريين (( يذكرهم جميع ما قاله المسيح لهم )) ؟

والفارقليط يعلم رسل المسيح (( كل شيء )) : هذا هو العلم الرباني وسعته الإلهية ـ فهل ينطبق هذا على بشر؟ أم على مخلوق؟

فذات الفارقليط وصفاته تمنع من أن يكون (( أحمد )) ، الرسول البشر.

إن مصدر الفارقليط الإلهي، وعمله الإلهي، أسمى من المخلوق؛ ورسالته تتمة لرسالة المسيح، وهي مخصوصة برسل المسيح والمسيحية.

في حديث ثالث قال: (( ومتى جاء الفارقليط، الذي أرسله إليكم من لدن الآب، روح الحق، الذي ينبثق من الآب، فهو يشهد لي، وأنتم أيضاً تشهدون، بما أنكم معي منذ الابتداء )) ( يوحنا 15 : 26).

هذه الآية تعلن مباشرة إِلهية الفارقليط: إِنه (( ينبثق من الآب )) أي من ذات الآب. والتعبير (( ينبثق )) ينفي الصدور بالخلق.

فهو (( روح الحق )) ، يصدر من ذات الآب، في ذات الآب، لذات الآب.

وبما أن (( الحق )) هو أيضاً المسيح نفسه، فصفته (( روح الحق )) تدل على صدوره أَيضاً من المسيح، بصفة كونه (( الحق )) مع الله، أي كلمة الله.

ودليل صلته المصدرية بالمسيح، كلمة الله، كون المسيح هو الذي يرسله من لدن الآب: (( أرسله إليكم من لدن الآب )) .

فالفارقليط، (( روح الحق، الذي ينبثق من الآب )) هو روح الله الآب، والمسيح الكلمة، في آن واحد. فمن الكفر نسبته إلى مخلوق.

ورسالته هي الشهادة، مع الحواريين، للمسيح: فهل كان (( أحمد )) يشهد مع الحواريين في زمنهم للمسيح؟

في حديث رابع يقول: (( إني أقول لكم الحق، إن في انطلاقي لخيراً لكم، فإِن لم أنطلق لا يأتكم الفارقليط؛ وأما متى انطلقت، فإني أرسله إليكم. ومتى جاء فهو يفحم العالم على الخطيئة، وعلى البرّ وعلى الدينونة.

فعلى الخطيئة لأنهم لم يؤمنوا بي. وعلى البرّ، لأني منطلق إلى الآب ولا تروني من بعد. وعلى الدينونة، لأن زعيم هذا العالم قد دين )) ( يوحنا 16 : 7 ـ11 ).

يسلي المسيح حوارييه ببعثة الفارقليط إليهم، ويربط بين رفعه إلى السماء، وبين بعثة الروح الفارقليط. فهل من رابط شخصي أو زماني أو مكاني أو حياتي أو رسولي بين رفع المسيح وبعثة محمد؟ وهل يصح أن ينطبق ذلك على (( أحمد )) بعد مئات السنين؟

ورسالة الفارقليط، (( الذي لا يستطيع العالم أن يراه )) ، هي رسالة روحية، فلا يصح بحال بحال أن تنسب إلى (( أحمد )) . ورسالة الفارقليط هي تتمة متلاصقة لرسالة المسيح؛ وليست هكذا بعثة (( أحمد )) .

ورسالة الفارقليط هي الشهادة للمسيح وحده: فهو يفحم العالم على خطيئته لأنه لم يؤمن بالمسيح؛ ويفحم العالم بصحة الإيمان بالمسيح، وإن رفع إلى السماء؛ ويفحم العالم بنصر المسيح على إبليس، زعيم هذا العالم، الذي رفع المسيح سلطان إبليس عنه. وهذه رسالة لا يمكن أن يقوم بها (( أحمد )) ولا أي رسول بشر!

في حديث خامس يقول أخيراً: (( وعندي أيضاً أشياء كثيرة أقولها لكم، غير أنكم لا تطيقون حملها الآن. ولكن متى جاء هو، روح الحق، فإنه يرشدكم إلى الحقيقة كلها. فإنه لا يتكلم من عند نفسه، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما يأتي. إنه سيمجدني لأنه يأخذ ممّا لي ويخبركم. جميع ما هو للآب هو لي. من أجل هذا قلت لكم: إنه يأخذ مما لي ويخبركم )) (يوحنا 16 : 12 ـ 15).

علم الفارقليط إلهي: فهو يرشد المسيح (( إلى الحقيقة كلها )) ، (( ويخبرهم بما يأتي )) ـ فهل يستطيع هذا (( أحمد )) مع حواريي المسيح؟ وهو لا يعلم الغيب.

علم الفارقليط إلهي أيضاً في مصدره: ومصدره هو العلم الإلهي الواحد بين الله والآب والمسيح كلمته، (( فجميع ما للآب هو لي؛ من أجل هذا قلت لكم: إِنه يأخذ مما لي ويخبركم )) ـ فهل يستمد (( أحمد )) علمه، كما يستمد ذاته، من الله الآب نفسه، ومن كلمته ذاته؟

وعمل الفارقليط الإلهي يتم مسح صحابة المسيح أنفسهم: فهل كان (( أحمد )) فوق الزمان والمكان، مع صحابة المسيح؟

وفصل الخطاب : أن ذات الفارقليط، الروح القدس، إلهية؛ وصفاته إلهية؛ وأفعاله إلهية. تلك هي شهادة النصوص الخمسة في الفارقليط. أليس من الكفر القول بأن الفارقليط في الإنجيل هو (( أحمد )) ؟

ولا تصح هنا أيضاً فرية تحريف الإنجيل، لأن تلك النصوص الخمسة، مكتوبة على الرق، محفوظة إلى اليوم، من قبل القرآن بمئتي سنة ونيف. فهي شهادة تاريخية ـ إن لم نقل منزلة ـ على إلهية الفارقليط، الروح القدس. فمن الكفر تطبيقها على (( أحمد )) ، الرسول البشر.

فإِن ذكر (( أحمد )) لا أصل له لفظاً ولا معنى في الإنجيل.

والقول الفصل إِن كلمتي (( النبي الأمي )) و (( اسمه أحمد )) هما من متشابهات القرآن. وهما يتيمتان فيه، لا تؤيدهما نصوص أخرى، كعادة القرآن في تعليمه وبيانه.

وقرائن النصوص القريبة والبعيدة تدل جميعها على أن كلمتي (( النبي الأمي ))

و (( اسم أحمد )) هما مقحمتان على القرآن من زمن تدوينه. ولم يكن الجامعون للقرآن بمعصومين لمعرفة الصحيح من الدخيل. فالاتهام موجّه إلى جمْع القرآن، لا إلى تنزيله.

وإسقاط تلك الكلمتين من القرآن، لا ينقص منه شيئاً؛ ولا يطعن في صحة القرآن وحفظه؛ ولا يبدّل من موقف القرآن تجاه التوراة والإنجيل شيئاً: فوجودهما أو إسقاطهما لا يغير شيئاً في الحوار المطلوب.

وهل يُبنى حوار صحيح على كلمتين متشابهتين مشبوهتين؟

تلك هي القاعدة السادسة عشرة في الحوار المسيحي الإسلامي.

بحث ثالث

محمد في القرآن: (( خاتم النبيين ))

( القاعدة السابعة عشرة، في الحوار الإسلامي المسيحي )

توطئة: ألقاب محمد في القرآن

في القرآن ثلاثة أنواع من الألقاب لمحمد:

إن القرآن يخاطب محمداً باسم (( النبي )) نحواً من ثلاثين مرة؛ وباسم (( الرسول )) نحو ماية مرة.

قالوا: الرسول هو النبي الذي يأتي بشرع جديد؛ أما النبي، فهو الذي جاء على شرع من قبله من رسول1. لكن مرادفة القرآن بين اللقبين لمحمد دليل وحدة المعنى؛ وبرهانه أن القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً بلا تفريق ( الشورى 13 )؛ وإسلام القرآن هو إسلام الكتاب: (( هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا )) القرآن ( الحج 78 ).

والنوع الثاني من الألقاب، قد يفسر معنى (( النبي )) و (( الرسول )) في اصطلاح القرآن. من ذلك: النذير والبشير والشاهد والداعي.

(1) الأستاذ دروزة يشك في صحة هذا التفريق، ولا يجد له سبباً كافياً في القرآن، والمرادفة بين اللقبين لمحمد دليل ذلك. ( التفسير الحديث 2 : 152 ـ153 ).

ويختم المعاني كلها لقب (( خاتم النبيين )) .

تلك سبعة ألقاب توضحها أوصاف نبؤته ورسالته.

أولاً: مبعث النبوة

القرآن وحده هو الحكَم الفصل على نفسه. ولا يُقبل سواه في مسألة مبعث النبوة. فماذا يقول عن نبيه؟

1 ـ لا يذكر القرآن لمحمد اتصالاً بملاك الوحي سوى مرة واحدة، على نزلتين، في رؤيا غار حراء، كما يصف ذلك في هذه الرباعيات:

(( والنجـم إذا هوى

ما ضل صاحبـكم وما غوى

وما ينطق عن الهـوى

إن هـو إِلا وحي يوحـى

علّمـه شديد القوى

ذو مِرَّة فاستـوى

وهو بالأفق الأعـلى

ثم دنا فتـدلّى

فكان قاب قوسين أو أدنى

فأوحى إلى عبـده ما أوحى

ما كـذب الفؤاد ما رأى

أفتمارونه عـلى ما يرى

ولقـد رآه نزلة أخرى

عنـد سدرة المنتـهى

عندهـا جنّة المأوى

إذ يغشى السـدرة ما يغشى

ما زاغ البصر وما طغى

لقد رأى من آيات ربه الكبرى ))

 

( النجم 1 ـ 18 )

إنها رؤيا واقعية، لا مراء فيها. لكنها رؤيا (( بالفؤاد )) أي روحية، لا رؤية حسية: في النزلة الأولى (( أوحى إلى عبده ما أوحى )) ؛ وفي الثانية (( رأى من آيات ربه الكبرى )) .

فالنص لا يكشف عن موضوع الوحي والتنزيل.

2 ـ لكنه في سورة ( الشورى ) يكشف لنا عن موضوع الرؤيا وهدفها: لله ثلاث طرق في وحيه، اختار لمحمد إحداها، بل أدناها:

(( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً، أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء. وكذلك أوحينا إليك روحاً من أَمرنا: ما كنت تدري ما الكتاب، ولا الإيمان؛ ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، ألا إِلى الله تصير الأمور ( الشورى 51 ـ53 ).

الله يكلم الناس إِما بالوحي المباشر، كما جرى لعيسى بحسب القرآن، أو من وراء حجاب وهي طريقة موسى الكليم، أو يرسل رسولاً فيوحي بالواسطة. وكان نصيب محمد في رؤيا غار حراء أن أرسل الله إليه (( روحاً من أمرنا )) ، أي روحاً من عالم الأمر فهو مخلوق، لا (( روح منه )) تعالى.

فماذا أوحى إلى عبده؟ بنص القرآن القاطع، أوحى إليه الإيمان بالكتاب لأن الكتاب، والإيمان به، هو النور الذي به يهدي من يشاء من عباده. والإيمان بالكتاب هو الصراط المستقيم، صراط الله. قرأنا (( لتـُهدى )) ، وهي أصح من (( لتـَهدي )) لانسجامها مع السياق الذي يذكر هداية محمد إلى الإيمان بالكتاب.

وهذا ما يصرح به في السورة عينها: (( وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأمرت لأعدل بينكم )) ( الشورى 15 ).

فمبعث الوحي هو الإيمان بالكتاب، والدعوة له بين العرب.

3ـ هذا هو القرآن الذي نزل عليه في غار حراء، كما يردّد:

(( إنا أنزلناه في ليلة القدر )) ( القدر 1 )، (( في ليلة مباركة: إِنا كنا منذرين؛ فيها يفرق كل أمر حكيم، أمراً من عندنا، إِنا كنا مرسلين )) ( الدخان 1 ـ5 ).

ففي تلك الليلة المباركة، التي فيها يفرق كل أمر حكيم، جاءه الأمر من عند الله بالرسالة، للإيمان بالكتاب، فالقرآن الذي أوتيه هو أمر للإيمان بالكتاب والدعوة به وإليه بين العرب.

وليلة القدر، تلك الليلة المباركة، كانت في (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبيّنات من الهدى والفرقان )) ( البقرة 185 ). ففي ليلة من شهر رمضان أبلغه ملاك الله (( الأمر )) بالإيمان والدعوة بالكتاب. هذا هو القرآن هدى للناس؛ فهو (( بينات من الهدى والفرقان )) : وتعبير (( الهدى )) في اصطلاحه كناية عن الكتاب؛ وتعبير (( الفرقان )) تفصيل له. فهو يؤمر أن ينقل للعرب الكتاب وفرقانه المتواتر، بتشريعه لهم دين موسى وعيسى ديناً واحداً ( الشورى 13 ).

4ـ هذا ما يسميه (( القرآن )) . وما القرآن العربي إلا خبر متواتر لهذا (( القرآن )) . إِنه خبر عنه، لأن (( القرآن )) موجود قبل محمد، وهو قرآن الكتاب، في (( المثْل، الذي يشهد به النصارى من بني إسرائيل )) ( الأحقاف 10 ).

فهذا هو الأمر الذي تلقاه في غار حراء: (( وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) ( النحل 90 ). فالمسلمون موجودون قبل محمد، وهو يؤمَر بالانضمام إليهم، وتلاوة (( القرآن )) معهم.

هذا ما يشهد به مطلع السورة الثالثة، في تاريخ النزول:

(( يا أيها المزمّل قـم الليل إلا قليلا

نصفه ، أو انقص منـه قليلا

أو زدْ عليه، ورتّـل القرآن ترتيلا

إنّا سـنلقي عليك قولاً ثقيلاً ))

لم ينزل من القرآن العربي سوى عشر آيات، هن مطلع سورتي ( العلق ) و (القلم) ! فما هو هذا (( القرآن )) الذي يؤمر بترتيله هزيعاً من الليل، كعادة رهبان النصارى؟ التعبير معرّف على العلمية، فلا يصح أن يكون القرآن العربي الذي لم ينزل بعد. إنه قرآن الكتاب، الذي يتلوه مع (( المسلمين )) الذين انضم إليهم. ( النمل 91 ـ92 ).

فدرس الكتاب معهم: (( وليقولوا: درست ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون )) ( الأنعام 105 ). فهو لا يردّ مقالتهم، بل يبيّن الغابة من الدرس: إنها بيان الكتاب للعرب. وأخذ بالقرآن العربي (( يعلمهم الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل ( البقرة 129 و151؛ آل عمران 164؛ الجمعة 2 ).

هذا هو الوحي الذي ينذرهم به: (( قل: إنما أنذركم بالوحي ( الأنبياء 45 ) أي الوحي المعهود في الكتاب، بحسب تصريحه: (( بلاغاً من الله ورسالاته )) ( الجن 23 ). فبلاغ الله هو في (( رسالاته )) السابقة.

6ـ إن القرآن تنزيل رب العالمين، لأنـه في زُبر الأولين: (( وإنه لتنزيل رب العالمين ... وانه لفي زبر الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل )) من النصارى الذين يستشهد بهم ( الشعراء 193 ـ197 ).

إن القرآن (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37 ) أي تعريبه بحسب اصطلاحه. لذلك: (( إن هذا ( القرآن ) لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، ( الأعلى 18 ـ19 ). وجاءت بينته في القرآن العربي: (( وقالوا: لو لا يأتينا بآية من ربه ـ أولم تأتهم بيّنة منا في الصحف الأولى )) في القرآن؟ ( طه 133 ).

فالقرآن (( تفصيل الكتاب )) ، لأن (( مثله )) عند بني إسرائيل النصارى: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ). فمثله عندهم بناء على مصدره في الكتاب الإمام: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمةً؛ وهذا كتاب مصدق، لساناً عربيّاً )) ( الأحقاف 12 )، فليس فيه من فارق مع (( مثله )) سوى اللسان العربي.

7ـ وهكذا يتضح لنا مبعث النبوة. كان أمراً من الله، بواسطة ملاك في رؤيا غار حراء، لأجل (( تفصيل الكتاب )) بلسان عربي مبين، به (( يعلمهم الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل (2 : 129؛ 3 : 164؛ 62 : 2).

فالقـرآن العربي تنزيـل، لأنـه (( تفصيل وتصـديق )) التنزيل الكتـابي؛ على مثال (( المِثْـل )) الذي عندهم. هذا معنى قوله المتواتر: (( وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به )) (الأنعام 5).

ونبوة محمد قائمة على (( تفصيل الكتاب )) لكي (( يعلمهم الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل. وتلك رسالته.

ثانياً : صلة محمد بالغيب

النبي، بحسب اللغة، حامل نبإ.

وفي اصطلاح القرآن ليس (( النبي )) من يتصل بغيب الله؛ إنما هو مَن يأتي بنبإٍ أي خبر عنه: (( أم لم ينبّأ بما في صحف موسى )) (53 : 36). والمعنى متواتر: (( من أنباء ما قد سبق )) (20 : 99)؛ (( من أنباء الرسل )) (11 : 120)؛ (( ذلك من أنباء القرى )) (11 : 101).

لكنه يصرح ثلاث مرات بأن ما يتلوه هو (( من أنباء الغيب )) ( آل عمران

44؛ هود 49؛ يوسف 102 ). فهل كان محمد في نبؤته على صلة مباشرة بغيب الله؟

إن (( الغيب )) من علم الله المحجوب: (( ولله غيب السماوا ت)) (11 : 123؛ 16 : 77)؛ (( له غيب السماوات )) (18 : 26).

فلا يطلع على غيبه إلاّ من أرسله به: (( عالم الغيب، فلا يظهر على غيبه أحداً، إِلا من ارتضى من رسول )) ( الجن 36 ـ37 ). وبرسوله يطلع الناس عليه: (( وما كان الله ليطلعكم على الغيب؛ ولكن الله يجتبي من رسله مَن يشاء: فآمنوا بالله ورسله )) ( آل عمران 179 ). فغيب الله عند رسله.

لكن الله قد يطلع رسوله على الغيب مباشرة، أو مداورة بواسطة الغيب المنزل قبله. فكيف اطلع محمد على غيب الله ووحيه؟

1ـ يعلن مرتين: (( ولا أعلم الغيب )) ( الأنعام 50؛ هود 31 ). فمحمد لم يتصل بغيب الله مباشرة: (( ولو كنت أعلم الغيب، لاستكثرت من الخير وما مسني السوء )) (الأعراف 187).

2ـ إنما كان اتصاله بغيب الله المنزل في الكتاب من قبله، فهو يدعو ببلاغ من رسالاته السابقة: (( لمّا قام عبد الله يدعوه، كادوا يكونون عليه لبداً! قل: إنما أدعو ربي، ولا أشرك به أحداً! قلْ: إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً! قل: إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملتحداً، إلا بلاغاً من الله ورسالاته. ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً )) ( الجن 19 ـ 23 ). فنبؤة محمد بلاغ من رسـالات الله السابقة. والقرآن (( بيّنة ما في الصحف الأولى )) ( طه 333 )، (( وإنه لفي زبر الأولين )) ( الشعراء 196 ).

3ـ لذلك يسمي ما يتلوه من بشارة زكريا بيحيى، وبشارة مريم بالمسيح، المكتوبين في الإنجيل، من أنباء الغيب: (( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ))

( آل عمران 44 ) أي من الغيب الذي في كتاب الله. ويختم قصة يوسف بقوله: (( ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك )) ( يوسف 102 )؛ كما يختم قصة نوح: (( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك. ما كنت تعلمها أنت، ولا قومك من قبل هذا )) ( هود 49 ). وسـنرى أن تعبير (( الوحي )) من متشابهات القرآن، لا يقطع بمعنى محدود. فتلك الآيات الثلاث يجب فهمها على ضوء تصريحه في سورة ( القلم )، ثانية السور نزولاً: (( أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ ... أم عندهم الغيب فهم يكتبون )) (35 و 42). فهو يجعل كتابة الغيب مع دراسة الكتاب، اللتين يصرح بهما ( الأنعام 105 ).

4ـ إنه يتحدّى المشركين بالغيب الذي يدرسه في الكتاب، مع المسلمين من قبله: (( أم نجعل المسلمين كالمجرمين! ... أم لكم كتاب فيه تدرسون! .. أم عندهم الغيب فهم يكتبون )) (القلم 35 و37 و42). محمد يستعلي على المشركين المجرمين بالمسلمين من قبله، فهم عندهم الكتاب الذي فيه يدرس، وعنه يكتب غيب الله.

وهذا التحدي بالغيب المكتوب في الكتاب من قبله، متواتر عنده: (( أم عندهم الغيب، فهم يكتبون )) ( الطور 41 ).

والنتيجة الحاسمة أن محمداً يتصل بغيب الله المنزل في الكتاب من قبله: فهو يدرسه، وعنه يكتب. هذا نص القرآن القاطع.

فنبؤته تبليغ غيب الكتاب؛ ورسالته (( تعليمهم الكتاب والحكمة )) .

ثالثاً : صلة محمد بالكتاب الذي نزل من قبله

يتضح من ( الأنعام 105 و156 ) أن محمداً (( درس )) الكتاب، الذي نزل

على طائفتين من قبله لان بني قومه كانوا (( عن دراستهم لغافلين )) . هذا أمر الله له: (( أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده )) ( الأنعام 90 ).

وهذا السر يكشفه لنا منذ سورة ( القلم ) ، الثانية في تاريخ النزول. فقد رأينا أنه يتحدى المشركين المجرمين (( بالمسلمين )) من قبله، وبدراسة الكتاب معهم، وكتابة الغيب المنزل فيه: (( أم نجعل المسلمين كالمجرمين! أم لكم كتاب فيه تدرسون! ... أم عندهم الغيب فهم يكتبون! )) (35 و37 و42).

ويردّ على المشركين الكافرين بدعوته، بأنها من الكتب المقدسة التي يدرسها، وينذرهم بها: (( وإذا تتلى عليهم آياتنا بيّنات، قالوا: ما هذا إلا رجل يريد أن يصدّكم عمّا كان يعبد آباؤكم! وقالوا: ما هذا إلا إِفك مفترى! وقال الذين كفروا للحق لمَّا جاءهم: إن هذا إلا سحر مبين؛ ـ وما آتيناهـم من كتب يدرسونها! وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير! )) ( سبأ 43 ـ 44 ). فلا يحق لهم تكفير محمد، ولا اتهامه بالإفك المفترى، أو السحر، لأن الحق الذي جاءهم به هو (( من كتب يدرسها )) ويستعلي بها عليهم.

(( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) ( لقمان 20؛ الحج 8 )؛ أما محمد فهو يجادل المشركين بهدى الكتاب المنير وعلمه.

وقصة (( درس )) الكتاب المنزل قبله صريحة في قوله: وكذلك نصرّف الآيات ـ وليقولوا: درست! ـ ولنبيّنه لقوم يعلمون )) ( الأنعام 105 ). فهو لا يردّ التهمة، بل يبيّن الغاية من درس الكتاب: إنها بيان الكتاب المنزل للناس، كما ينضح من قوله في السورة عينها: (( وهذا كتاب أنزلناه مبارك، فاتبعوه لعلكم ترحمون؛ أن تقولوا: إنما أُنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، وإِن كنا عن دراستهم لغافلين )) ( الأنعام 155 ـ156 ). غفل بنو قومه عن دراسة الكتاب، أي التوراة والإنجيل، فدرسهما محمد، ونقل تنزيلهما في القرآن، بأمر ملاك الله له في رؤيا حراء.

فالقرآن العربي تنزيل، لأنه (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37 ) أي تعريب التنزيل الكتابي: (( وإنه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين )) كما يشهد النصارى من علماء بني إسرائيل ( الشعراء 193 ـ197 ).

فمحمد (( درس )) الكتاب، كما (( درسوا ما فيه )) ( الأعراف 168 )، ليبيّنه بتفصيله في القرآن العربي (( لقوم يعلمون )) ، أو لقوم كانوا عن دراسته غافلين.

يردّ بعضهم على هذا الاستنتاج المحكم بقوله: (( وما كنت تتلو من قبله من كتاب، ولا تخطه بيمينك، وإذاً لارتاب المبطلون )) ( العنكبوت 46 ). لكن فاتهم ما بعدها: (( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )) ( العنكبوت 47 ). وتعبير (( الذين أوتوا العلم )) اصطلاح عنده، كناية عن أهل الكتاب (( المقسطين )) ، (( المحسنين )) أي النصارى. فإِذا كان محمد لا يخط الكتاب بيده، ولا يتلو الكتاب بنفسه، فهذا لا يمنع أنه (( درسه )) على أهله وأئمتهم، (( فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا )) (السجدة 23 ـ 24)؛ لذلك فالقرآن (( هو آيات بينات في صدورهم )) ؛ لا بل (( شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ): إن (( مثْـل )) القرآن موجود قبله، وينقله للعربية (( حكيم خبير )) .

وقوله: (( ما كنت تتلو من قبله من كتاب )) ، يفسـره تصـريحه لليهود الذين طالبوه (( بالبينة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة ـ وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إِلا من بعد ما جاءتهم البينة )) ( البينة 1 ـ5 ). لقد أعطاهم البينة المطلوبة: فهو يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة!

فمن قرائن القرآن المتنوعة المتواترة يتضح أن صلة محمد بالكتاب الذي نزل قبله، كانت صلة (( درس )) ، وتدريس لكي (( يعلمهم الكتاب والحكمة )) .

رابعاً : صلة محمد بالنصارى (( أولي العلم )) المقسطين

في اصطلاح القرآن، أولو العلم مرادف، مثل أهل الذكر، لأهل الكتاب. وهم فئتان: المقسطون والظالمون. (( وأولو العلم قائماً بالقسط )) هم النصارى. فهو يميّزهم عن (( الذين آمنوا )) من العرب بالدعوة القرآنية: (( يرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أوتوا العلم درجات )) ( المجادلة 11 ).

فلفظ (( العلم )) في القرآن ليس تعبيراً لغوياً، بقدر ما هو تعبير اصطلاحي للعلم المنزل في الكتاب، خصوصاً على يد السيد المسيح.

والواقع القرآني المذهل، القائم على نص القرآن القاطـع، أن (( أولي العلم قائماً بالقسط )) أي النصارى هم الذين يشهدون مع الله وملائكته (( أن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ـ 19 ). والقرآن يشهد بشهادتهم، ويقول (( بعلم الكتاب )) على طريقتهم. (( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( من اليهود ) إِلا من بعد ما جاءهم العلم، بغياً بينهم )) ( آل عمران 19 ). لقد خالف الشهادة الواحدة بالإسلام، اليهود؛ لذلك فهو يسميهم (( الظالمين )) الذين يصح جدالهم بغير الحسنى ( العنكبوت 46 ). بينما (( هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )) ( العنكبوت 46 ). بينما (( هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )) ( العنكبوت 47 ) أي النصارى المحسنين، المقسطين، لذلك لا يصح جدالهم إلا بالحسـنى، والحسـنى هي الأمر، (( وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) : وحدة الإله، ووحدة التنزيل، ووحدة الإسـلام ( العنكبوت 46 ). فأهل القرآن وهؤلاء النصارى هم (( أمة واحدة )) ، يشهدون بأن المسيح وأمه (( آية للعالمين )) ( الأنبياء 92 المؤمنون 53 ). فالعلم الحق هو إذن العلم (( النصراني )) بالنبوة والكتاب، ومحمد والنصارى على (( علم )) واحد: (( قلْ: كفى بالله شهيداً، ومَن عنده علم الكتاب )) ( الرعد 45 ).

إن (( علم الكتاب )) ( الرعد 45 ) على طريقة (( النصارى )) هو العلم الذي يعتز به القرآن ويستعلي: (( بعد الذي جاءك من العلم )) ( البقرة 120 )، (( من

بعد ما جاءك من العلم )) ( البقرة 145؛ آل عمران 61 )، (( بعد ما جاءك من العلم )) ( الرعد 39 ). لذلك فهو يسميهم (( الراسخين في العلم )) ( آل عمران 7؛ النساء 161 ) تمييزاً لهم من اليهود.

فاليهود هم أولو العلم الظالمون، وما اختلفوا (( إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم )) ( آل عمران 19؛ الشورى 14؛ الجاثية 56 ). أما النصارى من بني إسرائيل فهم (( أولو العلم قائماً بالقسط )) الذين يحيل القرآن محمداً إليهم حين الشك من أمره: (( لقد بوّأنا بني إسرائيل مبوأَ صدق، ورزقناهم من الطيبات، فما اختلفوا حتى جاءهم العلم )) بالمسيح والإنجيل: (( فإِن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك، لقد جاءك الحق من ربك فلا تكوننّ من الممترين )) ( يونس 93 ـ94 ). فالحق هو العلم (( النصراني )) بالكتاب والإنجيل، وإليه يحيل القرآن نبيّه.

والقرآن يكتفي بشهادة (( مَن عنده علم الكتاب )) على صحة دعوته ( الرعد 45 ). ويتحدى المشركين بهؤلاء النصارى، أولي العلم المقسطين: (( قلْ: آمنوا به، أو لا تؤمنوا؛ إن الذين أوتوا العلم من قبله، إذ يُتلى عليهم يخّرون للأذقان سجداً )) ( الإسراء 107 ). وهم على استعداد دائم للشهادة له: (( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك هو الحق، ويهدى إلى صراط العزيز الحميد )) ( سبأ 6 ). وهذان التحدي والاستشهاد يقومان إلى يوم الدين ( النحل 27؛ الروم 56 ).

فصلة محمد بالنصارى أولي العلم المقسطين تقوم على الشهادة بوحدة الإله، ووحدة التنزيل، ووحدة الإسلام ( العنكبوت 46 ). لذلك (( يرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك من ربك الحق )) ( سبأ 6 )، والقرآن نفسه (( هو آيات بيّنات في صدور الذين أوتوا العلم )) (العنكبوت 47): فصلتهم بمحمد تمتد إلى

القرآن نفسه، لأن (( مثله )) بين أيديهم: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل ( النصارى ) على مثله )) ( الأحقاف 10 ).

وإذا كان الواقع يشهد بما بين الإنجيل والقرآن من تفاوت، فما ذلك إِلا لأنكم (( ما أوتيتم من العلم إلا قليلاً )) ( الإسراء 85 ). أما (( العلم )) كله فهو عند (( الذين أوتوا العلم من قبله )) ( الإسراء 107 )، عند (( الراسخين في العلم )) كما يسميهم، وإليهم يحيل القرآن النبي نفسه ( يونس 93 ) وبني قومه معه ( النحل 43 ).

تلك هي صلة محمد بالنصارى، أولي العلم المقسطين؛ إنها صلة قربى مصدرية أبوية: (( الذين آتيناهم الكتاب، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم )) ( الأنعام 20؛ البقرة 146 ).

خامساً : بالقرآن يعلم محمد العرب (( الكتاب والحكمة ))

نوجز ما فصلناه من قبل. إن محمداً (( درس )) الكتاب ( الأنعام 105 ) لأن بني قومه كانوا عن دراسته غافلين ( الأنعام 156 ). وقد درسه مع (( المسلمين )) من قبله، الذين أمر بأن ينضم إليهم ويتلو قرآن الكتاب معهم ( النمل 90 ـ91 ). وعن قرآن الكتاب ينقل إليهم في القرآن العربي ما يكتب من (( الغيب )) ( القلم 42؛ الطور 41 ).

وهكذا بالقرآن العربي، (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 36 )، (( يعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون )) ( البقرة 151 ). وهذه منة الله عليهم: (( لقد منَّ الله على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي

ضلال مبين )) ( آل عمران 164 ). هذا هو واقع نبوة محمد ورسالته: (( هو الذي بعث في الأميّين رسولاً منهم، يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )) ( الجمعة 2 ). وقد رأينا أن (( الحكمة )) في ذاك الاصطلاح كناية عن الإنجيل.

فبالقرآن العربي يعلم محمد العرب (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل؛ لا الكتاب الذي في السـماء، بل الكتاب الذي على الأرض: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة )) ( هود 17 ). وليس بين الكتاب الإمام والقرآن الذي يفصله من الفارق سوى اللسان العربي: (( ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً )) (الأحقاف 12) ـ تلك حاله وواقعه. ومع الكتاب الإمام، فهو يجادلهم (( بالكتاب المنير )) الإنجيل الذي يجمع العلم والهدى، وليس كغيره (( من الناس، من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) (لقمان 20؛ الحج 8). فالكتاب الإمام والكتاب المنير يسميها (( البينات والزبر، والكتاب المنير )) ( فاطر 25 ). فهما (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل ـ في اصطلاح عام ـ اللذين يعلمهم للعرب بالقرآن العربي، (( تفصيل الكتاب )) على الإطلاق.

ويستشهد على صحة مقالته بأهل الكتاب والذكر والعلم: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون )) ( الأنبياء 7 )؛ (( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر: وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم، ولعلهم يتفكرون )) ( النحل 43 ـ44 ). هكذا يقتدي بهدى الكتاب وأهله ( الأنعام 90 ).

فالذكر القرآني هو بيان الذكر الكتابي في التوراة والإنجيل، كما يشهد أهل الذكر أنفسهم. وفي بيانه، لساناً عربياً، يعلمهم بالقرآن العربي (( الكتاب

والحكمة )) . فليس من تنزيل جديد، إنما هو تعريب التنزيل، (( تفصيل الكتاب )) (يونس 37)؛ وبما أنه تعريب التنزيل، فهو أيضاً تنزيل.

سادساً : فنبؤة القرآن امتداد لنبؤة الكتاب

الواقع القرآني يشهد بأن محمداً لم يتصل بملاك الله إلا مرتين، في رؤياه بغار حراء: في النزلة الأولى هداه إلى الإيمان بالكتاب، هذا هو الصراط المستقيم، صراط الله ( الشورى 52 ): وأمرت أن أكـون من المسـلمين، وأن أتلو القرآن )) معهم ( النحل 90 ـ91 )؛ وفي (( نزلة أخرى )) أُمر أن يدعو العرب بالدعوة الكتابية إلى دين موسى وعيسى معاً بلا تفريق، لأن هذا هو الدين الذي شرعه لهم ( الشورى 13 )؛ قال: (( يا أيها المدثّر، قم فأنذر. وربك فكبّر، وثيابك فطهّر. والرجز ( الشرك ) فاهجر، ولا تمنن تستكثر. ولربك فاصبر )) ( المدثر 1 ـ 7 ). فقام ودعا بالإسلام الذي يشهد به النصارى، (( أولو العلم قائماً بالقسط .. أن الدين عند الله الإسلام )) ( آل عمران 18 ـ 19 ). وفي الدعوة لكتاب الله، بالقرآن العربي، عليه أن يقتدي بهدى الكتاب وأهله، (( أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة .. أولئك الذين هدى الله، فبهداهم اقتده )) ( الأنعام 89 ـ 90 ). ولا يشكّن محمد أنه بواسطتهم يتصل بالكتاب نفسه: (( فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا )) ( السـجدة 23 ـ 24 ). وهؤلاء الأئمة من (( الراسـخين في العلم )) عندهم (( مثل )) القرآن ( الأحقاف 10 ) لذلك فالقرآن نفسه (( هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )) ( العنكبوت 47 ). فنبؤة القرآن امتداد لنبؤة الكتاب، لكن بلسان عربي مبين، وعلى طريقة أئمة النصارى من بني إسرائيل ( الشعراء 197 ).

وهكذا فالنبؤة القرآنية هداية إلى الكتاب، بنص القرآن القاطع: (( وأمرتُ أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) معهم ( النحل 90 ـ91 ).

والرسالة القرآنية دعوة العرب بالدعوة الكتابية (( النصرانية )) ، دين موسى وعيسى معاً الذي شرعه لهم ( الشورى 13 ).

فهكذا محمد نبي ورسول باطلاعه على (( الغيب )) المنزل في الكتاب الإمام والكتاب المنير، أي التوراة والإنجيل؛ وبنقله إلى العـرب في (( تفصيل الكتاب )) بالقرآن العربي؛ وتعريب التنزيل يسمى تنزيلاً: (( أنزل إليكم الكتاب مفصلاً )) ( الأنعام 114 ).

هذا ما يظهر أيضاً في مرادفات النبي الرسول: (( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً، ومبشراً، ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً )) ( الأحزاب 45 ـ 46 ). مرادفات أربعة: شاهد وداع، بشير ونذير.

فهو نبي ورسول بمعنى (( نذير وبشير )) ( 2 : 119؛ 7 : 187؛ 11 : 2؛ 35 : 24؛ 34 : 28؛ 41 : 4 )، أو (( مبشر ونذير )) ( 17 : 105؛ 25 : 56؛ 33 : 45؛ 48 : 8 ). هذا ما يظهر بالقصر والحصر في قوله: (( فذكر، إنما أنت مذكر )) (الغاشية 21)؛ (( قل: إنما أنا منذر )) ( ص 65 )؛ (( إنْ يوحي إليّ إلا أنما نذير مبين )) ( ص 70 ) ـ لاحظ كثرة الحصر والقصر في هذه الآيـة لبيان معنى النبوة فيه؛ (( قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين )) ( الحج 49 )؛ (( وما أرسلناك إلا بشيراً ونذيراً )) ( الفرقان 56 )؛ (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً )) ، لتكفهم عن الشرك والشر ( سبأ 28 ). فهذا الحصر والقصر المتواتر في صفة نبوته يدل على معناها. وهذا المعنى يظهر أيضاً من مثل قوله: (( إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً: وإِن من أمة

إِلا خلا فيها نذير )) ( فاطر 24 )؛ فهو نذير كما في كل أمة نذير؛ ومن مثل قوله: (( إنما أنت منذر: ولكل قوم هاد )) ( الرعد 7 )، فهو نبي ورسول أي منذر، كما لكل قوم هاد يهديهم. وفضل محمد على المنذرين أنه يهدي إلى كتاب الله، في التوراة والإنجيل؛ إلى إسلام أولي العلم المقسطين، الذين يرون في المسيح وأمه (( آية للعالمين )) .

سابعاً : محمد (( خاتم النبيين ))

هذه هي صفة محمد الأخيرة في القرآن العربي: (( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله، وخاتم النبيين )) ( الأحزاب 40 ).

للفظ (( خاتم )) قراءتـان: على الكسـر ( خاتِم ) بمعنى خاتمة الأنبيـاء؛ وعلى الفتح ( خاتـَم ) بمعنى آلة الختم ( الجلالان ).

وليس في القرآن كله صفة لمحمد خاتمة الأنبياء. إنما يرد هذا المعنى للمسيح وحده، بلفظ (( قفينا بعيسـى )) ( البقرة 87؛ المائدة 49؛ والحديد 27 )، وليس من آيـة تقول بأنـه (( قفى )) على المسيح بأحد.

إنما الوصف المتواتر في القرآن لمحمد بأنه (( خاتـَم )) أي مصدّق، كما يصدق الختم رسالة أو كتاباً: فمحمد والقرآن هما (( مصدق لما معهم )) ( 2 : 89 و101 )، ومصدق لما معكم )) ( 3 : 81 )، (( مصدق الذي بين يديه ( 6 : 92 )، (( مصدق لما معكم )) ( 2 : 41؛ 4 : 46 )، (( مصدقاً لما معهم )) ( 2 : 91 )، (( مصدقاً لما بين يديه )) ، أي قبله ( 1 : 97؛ 3 : 3؛ 5 : 49؛ 5 : 51؛ 35 : 31؛ 46 : 30 ).

فالقرآن (( كتاب مصدق، لسـاناً عربياً )) ( الأحقاف 12 )؛ فهو ليس مفترى على الله، و (( لكن تصديق الذي بين يديد ( قبله ) وتفصيل الكتاب )) ( يونس 37 ). تلك هي صفة القرآن المتواترة؛ لذلك فهو (( بلاغ من الله ورسالاته )) السابقة ( الجن 23 ).

ومحمد هو (( خاتم النبيين )) بصفة كونه مصدقاً لهم، وذلك بنص القرآن القاطع: (( بل جاء بالحق وصدق المرسلين )) ( الصافات 37 ). وهو يجعل نفسـه مع المتقين في الصدق: (( والذي جاء بالصدق، وصدّق به، أولئك هم المتقون )) ( الزمر 33 )، وكل منهم قد (( صدّق بالحسنى )) ( الليل 6 ).

فنبؤة محمد ورسالته تقتصر على (( تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب )) ، بالقرآن العربي العربي الذي هو (( كتاب مصدق لساناً عربياً )) .

تلك هي القاعدة السابعة عشرة في الحوار الإسلامي المسيحي.

بحث رابع

القرآن في عرف القرآن

( القاعدة الثامنة عشرة في الحوار المسيحي الإسلامي )

نطلب من القارئ الكريم قراءة هذا البحث بنزاهة واهتمام، قبل الإسراع إلى الاتهام.

فما هو سر قوله: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ؟

( الأحقاف 10 )

أولاً: الوحي والتنزيل تعبيران متشابهان في القرآن

يعلن القرآن العربي عن نفسه بأنه وحي من الله، وتنزيل من رب العالمين. ولكن الوحي والتنزيل من المتشابهات في القرآن، فلا يقطع لفظهما بمعنى محدّد فيهما.

1ـ الوحي في لغة القرآن

الوحي تعبير يطلقه القرآن على أشياء متفاوتة، من الجماد، إلى الحيوان إلى الإنسان، إلى الشيطان، إلى الملاك، إلى الله.

فقد أوحى الله إلى الأرض: (( إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان: ما لها؟ يومئذٍ تحدّث أخبارها، بأن ربك أوحى لها )) ( الزلزال 1 ـ5 ).

(( وأوحى ربك إلى النمل )) ( النمل 68 ).

بل (( أوحى في كل سماء أمرها )) ( فصلت 12 ).

وفي تصرّف أمّ موسى بأمر ابنها: (( وأوحينا إلى أم موسى )) ( القصص 116 و159؛ يونس 87؛ طه 77؛ الشعراء 53 و46 ). ويؤكد: (( أوحينا إلى أم موسى ما يوحى )) ( طه 38 ) ـ وهو مثل قوله لفظاً: (( فأوحى إلى عبده ما أوحى )) ( النجم 10 ).

وزكريا (( خرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أَن سبّحوا بكرة وعشيا )) (مريم 11).

(( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا: شياطين الإنس والجن، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول )) ( الأنعام 112 ).

(( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم )) ( الأنعام 121 ).

لذلك، بسبب تلك المتشابهات في تعبير (( الوحي )) ، عندما يذكر القرآن العربي مراراً وتكراراً وحيه إلى محمد، لا نستبين طريقة الوحي إليه يقيناً، والتعبير لا يقطع بمعنى محدود.

2ـ التنزيل في لغة القرآن

إن تعبير (( التنزيل )) أيضاً متشابه في لغة القرآن.

(( أنزل من السماء ماء )) ( البقرة 22؛ قابل 13 : 19؛ 14 : 32؛ 16 : 65؛ 20 : 53؛ 22 : 63؛ 35 : 27؛ 39 : 21).

والتنزيل أيضاً على الأرض: (( فإِذا أنزلنا عليها الماء )) ( الحج 5 ).

(( وأنزلنا عليكم المنّ )) ( البقرة 57؛ قابل الأعراف 159 ).

(( وأنزل لكم من الأنعام )) ( الزمر 6 ): فالأنعام على أنواعها منزلة من الله.

(( وأنزلنا الحديد، فيه بأس شديد )) ( الحديد 25 ). كذلك الحديد منزل من الله.

(( أنزل الله سكينته )) ( التوبة 9 و41؛ الفتح 4 و18 و26 ).

(( وأنزل جنوداً لم تروها )) ( التوبة 9 ).

(( ربنا أنزل علينا مائدة )) ( المائدة 117 ).

(( لولا أُنزل عليه كنز )) ( هود 12 ).

(( لولا أنزل إليه ملاك ... لولا أُنزل علينا الملائكة )) ( الفرقان 7 و21 ).

(( أم أنزلنا عليهم سلطاناً )) ( الروم 35 ).

(( ما أنزل الله بها من سلطان )) ( 7 : 70؛ 12 : 49؛ 53 : 23).

(( وأنزل الذين ظاهروهم من صياصيهم )) ( الأحزاب 26 ).

وقد يكون للشياطين تنزيل: (( هل أنبئكم على مَن تنزّل الشياطين؟ ـ تنزّل على كل أفاك أثيم )) ( الشعراء 221 ـ 22 )؛ أما القرآن (( ما تنزلت به الشياطين )) ( الشعراء 210 ).

وقد يدس الشيطان تنزيله في تنزيل الله: (( وما أَرسلنا من قبلك من رسول، ولا نبي، إِلا إذا تمنّى ( قرأ ) أَلقى الشيطان في أمنيته؛ فينسخ الله ما يُلقي الشيطان، ثم يُحكم الله آياته، والله عليم حكيم )) ( الحج 52 ).

لتلك الاعتبارات كلها، والمتشابهات جميعها، في تعبير (( التنزيل )) ، فعندما يذكر القرآن العربي تنزيله من الله، لا نستبين طريقة التنزيل يقيناً كقوله: (( الله الذي نزّل الكتاب بالحق، والميزان )) ( الشورى 17 ): فالكتاب والميزان كلاهما تنزيل الله.

والقرآن نفسه، الذي يؤكد مراراً وتكراراً تنزيله، يجهل هو نفسه الطريقة: (( إنما أنزل بعلم الله )) ( هود 14 )؛ فقد (( أَنزله بعلمه )) ( النساء 165 ).

أَجل أن القرآن (( تنزيل العزيز الرحيم )) ( يس 5 )، (( وتنزيل من الرحمان الرحيم )) ( فصلت 2 )؛ (( وتنزيل من حكيم حميد )) ( فصلت 42 )؛ (( تنزيل من رب العالمين )) (الواقعة 80؛ الحاقة 43). لكن طريقة التنزيل مجهولة أو مطوية: (( إنما أُنزل بعلم الله )) (الشعراء 192؛ النساء 165).

فالتشابه قائم في معنى التنزيل، وفي طريقته: تلك هي النتيجة المحتومة الحاسمة لتلك القرائن القرآنية.

لذلك عندما يصرح: (( وأنه لتنزيل رب العالمين ... وأنه لفي زبر الأولين )) (الشعراء 193 ـ197) يصح أن نستنتج أن القرآن تنزيل من (( زبر الأولين )) ، أي (( تفصيل الكتاب )) الذي قبله ( يونس 37 ).

وعندما يؤكد: (( قلْ: نزّله روح القدس من ربك بالحق )) ( النحل 102 ) لا يزول الإبهام في طريقة التنزيل؛ ونتساءل ما سر قوله: (( وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم )) (النمل 2)؟ هل من جواب في تصريحه: (( فلا

لكن في مرية من لقائه، وجعلنا هدى لبني إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا )) ( السجدة 23 ـ24 )؟ ـ وبنو إسرائيل الذين يقتدى بهداهم ويستشهد بهم هم (( النصارى )) : (( ومن قوم موسى أُمة يهدون بالحق وبه يعدلون )) ( الأعراف 158 ). فهل (( الحكيم العليم )) الذي يلقي القرآن على محمد هو الذي ينوّه به في تصريحه: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 )؟

ذاك التساؤل، وذاك الاستنتاج، هما حق؛ لأن معنى التنزيل وطريقة التنزيل في القرآن هما من المتشابه فيه.

ثانياً : تعابير متشابهة عن مصدر القرآن العربي

هناك أربعة تعابير متشابهة عن مصدر القرآن العربي، لا ترفع الإبهام والغموض في معنى تنزيله.

تعبير أول: (( فلا! أقسم بمواقع النجوم ـ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ـ إنه لقرآن كريم، في كتاب مكنون، لا يمسه إِلا المطهّرون، تنزيل من رب العالمين )) ( الواقعة 75 ـ80 ).

إن القرآن الكريم هو (( في كتاب مكنون )) . ولكن أين هو هذا (( الكتاب المكنون )) ؟ يقول: (( لا يمسه إلا المطهّرون )) ؛ والطهارة في لغة القرآن تتعلق بجسد الإنسان أكثر من قلبه؛ (( والله يحب المطهّرين )) ( التوبة 109 )، (( ويحب المتطهّرين )) ( البقرة 222 )؛ فالتعبير ليس كناية عن الملائكة، بل عن البشر المتطهّرين، المطهّرين. وقوله: (( تنزيل من رب العالمين )) يدل على أن (( الكتاب المكنون )) قد نزل، وليس بعد في السماء؛ إنما هو على الأرض، لكن (( لا يمسه إلا المطهّرون )) .

تعبير ثان: (( بل هو قرآن مجيد، في لوح محفوظ )) ( البروج 21 ـ22 ). هاتان الآيتان هما ختام حديث طويل عن أهل الأخدود، شهداء نجران النصارى؛ وختام حديث مقتضب يقتصر على الإشارة: (( هل أتاك حديث الجنود، فرعون وثمود )) . فكفر أهل مكة بالحديثين: (( بل الذين كفروا في تكذيب )) حينئذٍ يردّ عليهم بقوله: (( والله من ورائهم محيط ))؛ ثم بقوله: (( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ )) . فسياق الحديث كله أنه لا يصح لأهل مكة التكذيب به لأنه (( في لوح محفوظ )) ؛ هذا الاستشهاد بمصدر الحديث برهان على أن اللوح المحفوظ الذي يحويه هو على الأرض، لأنه لا يعقل أن يحيلهم إلى لوح محفوظ في السماء، لا سبيل لهم إليه.

وليس من قرينة في الآية، ولا في السورة كلها، تدل على أن هذا اللوح محفوظ في السماء.

تعبير ثالث: (( لكل أَجل كتاب: يمحو الله ما يشاء ويثبت؛ وعنده أم الكتاب )) ( الرعد 40 ـ 41 ). قالوا: (( أُم الكتاب: أَصله الذي لا يتغير منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل )) (الجلالان). هذا تعريف متناقض: ففي الأزل، قبل الخلق، ليس الله بحاجة أن يكتب لذاته، وليس من خلق ليكتب لهم. وهب أن الله عنده (( لوح محفوظ )) هو (( أُم الكتاب )) الذي ينزل منه على خلقه: فكيف بمحو الله منه ما يشاء ويثبت، في كل أَجل، عند تنزيل الكتاب؟ هل يبدأ الله ويعيد؟ فليس (( عنده أُم الكتاب )) في السماء منذ الأزل، لأن قوله (( يمحو الله ما يشاء ويثبت )) من الكتاب بحسب كل أجل، دليل على كتاب على الأرض، لا على كتاب في السماء منذ الأزل، لأن ما كتبه الله في الأزل لا يتغير منه شيء: لذلك فإِن (( أُم الكتاب )) أي أصله الذي بموجبه (( يمحو الله ما يشاء ويثبت )) هو قابل للتبديل والنسخ، والمحو والإثبات؛ وهذا لا يصح إلا في كتاب الله الذي على الأرض. فلا صلة (( لأم الكتاب )) بالسماء ولا بالأزل؛ لأن هذا يقود إلى القول بقديمين: الله وكتابه الأزلي.

هذا ما يتضح من قوله أيضاً: (( حَمَ. والكتاب المبين: إنّا جعلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون! وإنه في أُم الكتاب لدينا، لعليٌّ حكيم )) ( الزخرف 1 ـ4 ). يقسم على طريقة أهل الكتاب (( بالكتاب المبين )) أَنه (( جعله )) قرآناً عربيّاً. فالقرآن العربي (( مجعول )) ؛ والكتاب المبين قد جُعل قرآناً عربيّاً. وبما أن القرآن العربي (( تصديق الذي بين يديه ( قبله ) وتفصيل الكتاب )) ( يونس 37 )؛ فالكتاب المبين الذي جُعل قرآناً عربيّاً هو (( الذي بين يديه )) أي قبله. وفي قوله: (( وأنه في أُم الكتاب لدينا، لعليٌّ حكيم )) ، إِن لفظ (( لدينا )) قد يكون في السماء، أو على الأرض، فلا يقطع بمعنى مكان وجوده. فالتصريح لا يعني إلا أنه جعل الكتاب المبين الذي عند أهل الكتاب قرآناً عربيّاً. ولئلا يُطالب بإبراز (( أُم الكتاب )) استدراك فقال: (( إنه لدينا، لعليٌّ حكيم )) ، مثل قوله: (( في لوح محفوظ )) ، ومثل قوله: (( لا يمسّه إلا المطهّرون )) أي أنه لا يحل للمشركين أن يلمسوه. ولمّا أحرجوه قال: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) : إن (( مثل )) القرآن عند أهل الكتاب، لا في السماء.

تعبير رابع: (( كلاّ! إنها تذكرة، فمن شاء ذكره، في صحف مكرمة، مرفوعة مطهّرة، بأيدي سفرة، كرام بررة )) ( عبس 11 ـ 16 ). في هذا الوصف، التصريح بالقرآن وأصله: إِنه ذكر من (( الصحف المكرمة )) . يقابله قوله: (( وإن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى )) ( الأعلى 18 ـ 19 )؛ ويؤكـده قـوله: (( أولم تأتهم بيّنة مـا في الصحف الأولى )) ( ص 133 ): فإن (( الصحف المكرمة )) هي التي بين أيدي أهل الكتـاب، (( مرفوعة )) عن الناس، (( مطهّرة )) من المشركين، أو من غير المتطهّرين من الكتابيين. وهو جواب لهم: (( بل يريد كل امرئ أن يؤتى صحفاً منشّرة! ـ كلاّ، بل لا يخافون الآخرة! كلاّ، إنه تذكرة، فمن شاء ذكره )) ( المدثر 53 ـ55 )؛ فهو يجيب بأن (( الصحف )) المذكورة التي ينقل عنها الذكر هي

(( مرفوعة مطهّرة )) . هذا جواب للمشركين. وجوابه لليهود الكتابيين، المطالبين (( بالبيّنة: رسول من الله يتلو صحفاً مطهّرة، فيها كتب قيمة )) ؛ فيجيب: (( وما تفرّق الذين أُوتوا الكتاب ( اليهود ) إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة )) ( البيّنة 1 ـ4 ). فمحمد (( يتلو صحفاً مطهّرة، فيها كتب قيمة )) ، والقرآن العربي (( تذكرة )) منها. ودليل ثالث من اسم (( السَفَرة )) : فهو نقل حرفي للكلمة العبرية (( سوفريم )) أي كتبة الكتاب؛ ومهنتهم المقدسة تجعلهم (( كراماً بررة )) .

فالقرآن العربي (( تذكرة )) من الصحف المكرمة، المرفوعة عن تداول العامة، المطهّرة من مسّ غير المطهّرين؛ وهي موجودة بأيدي (( سفرة بررة )) . فلا شيء من تلك الأوصاف كلها يوحي بأننا في السماء، منذ الأزل. واستخدام تعبيرين مكّرسين عند أهل الكتاب: (( الصحف المكرمة المرفوعة المطهّرة )) ثم (( السفرة الكرام البررة )) ، دليل، تؤيده البراهين الثلاثة السابقة، على أن القرآن العربي (( تذكرة )) من الكتاب الموجود عند أهل الكتاب.

ويقطع غموض تلك التعابير الأربعة تصريحه: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ): فمثل القرآن هو عند بني إسرائيل النصارى، لأن اليهود من بني إسرائيل هم مع المشركين (( شر البرية )) ( البينة 1 ) فلا يستشهد بهم.

وغموض تلك التعابير المتشابهة ينجلى من تصاريحه الصريحة في أصل القرآن العربي.

ثالثاً : التصاريح القرآنية عن مصدر القرآن العربي

التصريح الأول: إن القرآن من (( الصحف الأولى )) .

إنه تصريح ثلاثي، لا يدع مجالاً للشك في مصدره: (( إن هذا ( القرآن ) لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى )) ( الأعلى 18 ـ 19 ): (( أولم ينبأ بما في صحف موسى، وإبراهيم الذي وفّى )) ( النجم 37 ـ 38 )؛ (( أولم تأتهم بيّنة ما في الصحف الأولى )) ( طه 133 ). إن واقع نسبة القرآن العربي للصحف الأولى، هو نبأ عن ذلك، وهو بيّنة عليه.

وهذا التصريح الثلاثي يأتي في سورة ( النجم 37 ـ 38 ) بعد وصف رؤيا ملاك الوحي في نزلتين، مما يدل على أن القرآن العربي وحي من الصحف الأولى.

يؤيده قوله: (( هذا نذير من النذر الأولى )) ( النجم 56 ).

فالقرآن العربي هو (( من الصحف الأولى )) ، (( من النذر الأولى )) .

التصريح الثاني: تنزيل رب العالمين هو في زبر الأولين.

التصريح الضخم الذي يعلن أن تنزيل رب العالمين في القـرآن هو من زبر الأولين: (( وإِنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، بلسان عربي مبين، على قلبك لتكون من المنذرين، وإنه لفي زبر الأولين: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل )) ؟ ( الشعراء 193 ـ 197 ).

بمقارنة هذا النص بتصريح ( الشورى 52 ) يتضح أن الله أرسل إلى محمد (( روحاً من أمره )) يصفه (( بالروح الأمين )) تمييزاً عن غيره، فخاطبه بلسان عربي مبين، وأمره بالإيمان بالكتاب الذي جعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده. وهذا الأمر بالإيمان بالكتاب هو (( تنزيل رب العالمين، على قلبك لتكون من المنذرين )) . والتنزيل الذي ينذر به هو (( في زبر الأولين )) .

ويستشهد على أن القرآن العربي (( في زبر الأولين )) بشهادة (( علماء بني إسرائيل )) أي (( أولي العلم قائماً بالقسط )) ، وهم النصارى من بني إسرائيل،

(( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون )) ( الأعراف 158 قابل الصف 14 ). فشهادة هؤلاء النصارى بأن تنزيل رب العالمين، في القرآن العربي، هو من (( زبر الأولين )) أي (( كتبهم كالتوراة والإنجيل )) ( الجلالان ) هي (( آية لهم )) على صحة دعوة محمد بالقرآن العربي.

وهم يستطيعون أن يشهدوا على مطابقة القرآن العربي (( للمثل )) الذي عندهم، بين أيديهم؛ لا لكتاب في السماء، ما من سبيل لهم للوصول إليه.

فالقرآن العربي ينقل للعرب تنزيل رب العالمين من (( زبر الأولين )) ، كما أمره الروح الأمين، بلسان عربي مبين. هذا مصدره، ومصدر تنزيله.

التصريح الثالث: إِمامة الكتاب للقرآن العربي.

التصريح مزدوج في إِمامة الكتاب للقرآن العربي المبين: (( ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة: وهذا كتاب مصدّق لساناً عربيّاً )) ( الأحقاف 12 ). ومن قبله أيضاً (( الكتاب المنير )) الذي يجادل المشركين بعلمه وهداه ( لقمان 20؛ فاطر 25؛ الحج 8 ).

إِن إِمامـة الكتـاب، التوراة والإنجيل، للقـرآن العربي، كاملة فـلا يختلف عنه إِلا (( باللسان العربي )) . ويقتصر دور القرآن العربي على التصديق (( لساناً عربياً )) : هذه هي حاله. فالكتاب الذي عند أهل الكتاب هو مصدر القرآن: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ).

التصريح الرابع: إشراف أئمة الكتاب على تعريبه بالقرآن.

يقول: (( ولقد آتينا موسى الكتاب: فلا تكن في مرية من لقائه؛ وجعلناه هدى لبني إسرائيل؛ وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا )) ( السجدة 23 ـ24 ).

إن الله جعل الكتاب هدى لبني إسرائيل؛ وجعل منهم أئمة يهدون بأمره تعالى إلى هدى الكتاب؛ فما على محمد أن يشك في لقائه الكتاب، بواسطتهم.

وهؤلاء الأئمة هم (( الراسخون في العلم )) ، من (( أولي العلم قائماً بالقسط )) أي النصارى من بني إسرائيل ( الأعراف 158 مع الصف 14 ).

فهؤلاء الأئمة النصارى هم الذين يشرفون على لقاء محمد بالكتاب، وعلى نقل الكتاب إلى القرآن العربي: (( وإنه لتنزيل رب العالمين ... وإنه لفي زبر الأولين: أوَلم تكن لهم آية أَن يعلمه علماء بني إسرائيل )) ( الشعراء 193 ـ197 ). فالشهادات متواترة مؤتلفة.

ويدل على إشراف أئمة النصارى على نقل الكتاب إلى القرآن العربي تصريحه بأن القرآن نفسه (( هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )) ( العنكبوت 47 )؛ وتصريحه بأن (( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم )) ( الأنعام 20؛ البقرة 146 ) أي معرفة أبوية مصدرية.

التصريح الخامس: مرادفات (( التنزيل )) تفسر معناه.

رأينا أن تعبير (( التنزيل )) في لغة القرآن من متشابهاته، فلا يقطع بمعنى محدود.

والآن نرى أن مرادفاته لا تساعد على تحديد معناه.

1ـ التنزيل هو تيسير القرآن للعرب: (( ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مذكّر )) (القمر 17 و23 و32 و40). فهو تيسير عربي لذلك الكتاب: (( فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين، وتنذر به قوماً لدّاً )) ( مريم 97 )؛ (( فإنما يسرناه بلسانك، لعلهم يتذكرون )) ( الدخان 58 ). لاحظ دقة التعبير: (( يسرناه بلسانك )) .

2 ـ التنزيل هو تصريف الآيات في القرآن للعرب: (( ولقد صرّفناه بينهم ليذكروا )) (الفرقان 50). لقد صرّفه، وصرّف فيه: (( ولقد صرّفنا في هذا القرآن ليذكّروا )) ( الإسراء 41 ). وصرّف فيه من كل مثل: (( ولقد صرّفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل )) ( الكهف 55 ). وبيانه بالأمثال لم يحملهم على الهداية: (( ولقد صرّفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل، فأبى أكثر الناس إلا كفوراً )) ( الإسراء 89 )؛ كما (( صرّفنا فيه من الوعيد، لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً )) ( طه 113 ). فالتعريف دليل المقدرة البيانية، ولا يحمل معنى التنزيل: (( وكذلك نصرف الآيات )) ( الأنعام 105؛ الأعراف 57 ). فالتصريف في البيان والتبيين، ولا يقطع بمعنى الوحي والتنزيل: (( انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يَصْدفون )) (الأنعام 46).

3 ـ التنزيل هو تبيين آيات الله للعرب: (( يبيّن الله لكم الآيات )) (2 : 219 و266؛ 24 : 18 و58 و61)؛ (( يبين الله لكم آياته )) (2 : 242؛ 3 : 103؛ 5 : 92؛ 24 : 59). والتبيين يتعلق بلسان القوم أكثر منه بالتنزيل: (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم )) ( إبراهيم 4 ). وموضوع هذا البيان نوعان؛ الأول: (( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه )) ( النحل 64 )؛ والثاني: (( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزّل إليهم، ولعلهم يتفكرون )) ( النحل 44 ). فالقرآن هو بيان الكتاب الذي نزّل إليهم واختلفوا فيه إلى يهود ونصارى ( النمل 76 ). وهو أيضاً بيان للعرب: (( يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم )) ( النساء 25 ). فالقرآن هو تبيان الكتاب المنزل قبله، بلسان محمد، ولسان قومه.

4 ـ التنزيل هو (( تفصيل الكتاب )) المنزل من قبل: (( وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله؛ ولكن تصديق الذي بين يديه ( قبله ) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) ( يونس 37 ). وهو يفصّل جملة

وتفصيلاً: (( وكذلك تفصّل الآيات )) (6 : 55؛ 7 : 31 و173؛ 10 : 24؛ 30 : 28). فالصلة القائمة بين الكتاب والقرآن، هي صلة التنزيل في الكتاب بتفصيله في القرآن: (( تنزيل من الرحمان الرحيم، كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً )) أي عرّبت ( فصلت 2 ـ3 )؛ فالتنزيل (( كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن خبير حكيم )) ( هود 1 ). فالتفصيل في لغة القرآن يعني التعريب: (( ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا: لولا فصلت آياته )) ( فصلت 44 ).

وهذا هو القول الفصل في معنى التنزيل في القرآن: إنه (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37 ) أي تعريب الكتاب، بحسب (( المثْل )) ( الأحقاف 10 ).

فقوله: (( وكذلك أنزلناه قرآناً عربيـاً )) ( النحل 113 ) يعني: (( إنا جعلناه قرآناً عربياً )) ( الزخرف 2 ـ3 ).

فالقرآن العربي هو نقل الكتاب المنزل قبله إلى العربية بالتيسير، والتصريف، والتبيين، والتفصيل، أي بالتعريب؛ وقوله المتواتر (( أَنزلناه )) يعني (( جعلناه )) . هذا هو تنزيل القرآن بلغته واصطلاحه.

التصريح السادس: واسطة الهداية والبعثة، وواسطة القرآن.

في القرآن العربي ظاهرتان متقاربتان، لكنهما تختلفان معنى ومضموناً.

الأولى يصرّح فيها: (( إنا أنزلناه في ليلة القدر )) ( القدر 1 )؛ (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ... أمراً من عندنا، إنا كنا مرسلين )) ( الدخان 1 ـ5 )؛ (( شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس )) (البقرة 185 ). هنا يظهر أن القرآن نزل جملة واحدة.

ثم يصرّح أيضاً: (( وقرآناً فرّقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزّلناه

تنزيلاً )) ( الإسراء 106 ) أي (( نزلناه مفرقاً في عشرين سنة أو وثلاث ( لتقرأه على الناس على مكث ) مهل وتؤدة ليفهموه ( ونزلناه تنزيلاً ) شيئاً بعد شيء على حسب المصالح )) (الجلالان). يؤيد ذلك ردّه على الكفار: (( وقال الذين كفروا: لولا نزّل عليه القرآن جملة واحدة؟ ـ كذلك، لنثبت به فؤادك، ورتلناه ترتيلاً )) ( الفرقان 32 ) أي (( نزلناه ( كذلك ) متفرقاً ( لنثبت به فؤادك ) نقوي قلبك ( ورتلناه ترتيلا ). أتينا به شيئاً بعد شيء بتمهل وتؤدة لتيسير فهمه وحفظه )) ( الجلالان ). وهنا يظهر أن القرآن نزل منجماً، مفرقاً، مدى عشرين سنة وثلاث.

لتفسير تلك الظاهرة القرآنية الغريبة المتعارضة طلعوا بنظرية نزول القرآن جملة واحدة، ليلة القدر، من شهر رمضان، إلى بيت العزة، في السماء الدنيا؛ ثم نجّمه جبريل على محمد مدة عشرين سنة وثلاث. إنها نظرية متعارضة في ذاتها، ولا أساس لها في القرآن، وهي تكثر من الوسائط في تنزيل القرآن ممّا يعطل إعجازه في التنزيل. والجواب الصحيح هو في سورة الدخان: (( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ... أمراً من عندنا )) . فالذي نزل إلى محمد ليلة القدر من شهر رمضان هو الأمر بالإيمان بالكتاب ( الشورى 52 ). وهذا ما يصرّح به مراراً، كقوله: (( وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القرآن )) معهم (النحل 90 ـ 91). فهناك موقفان متباينان: ظهور ملاك في رؤيا غار حراء لمحمد يأمره بالإيمان بالكتاب والدعوة له بين العرب؛ ثم (( تفصيل الكتاب )) أي تعريبه بلسان قومه لكي يفهموه. والواسطة تختلف بين الموقفين.

وهذه هي الظاهرة الثانية. يعلن بتواتر: (( قل نزّله روح القدس، من ربك، بالحق )) (النحل 102)؛ (( نزل به الروح الأمين، بلسان عربي مبين، على قلبك لتكون من المنذرين )) ( الشعراء 194 ـ195 )؛ (( قول رسول كريم، ذي قوة عند ذي العرش مكين، ومطاع ثم أمين، وما صاحبكم بمجنون،

(( لقد رآه بالأفق المبين، وما هو على الغيب بضنين )) ( التكوير 19 ـ24 )؛ وإنه لقول رسول كريم، وما هو بقول شاعر! ... ولا بقول كاهن! )) ( الحاقة 40 ـ42 ). ففي هذه كلها، الرسول الكريم، الروح الأمين، هو الملاك الذي أتاه في رؤيا غار حراء يأمره بالإيمان بالكتاب ( الشورى 52 )، والدعوة له ( الشورى 15 ).

وهو غير الذي يتلقى القرآن عنه: (( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم )) ( النمل 6 ). يتضح معناها من قوله: (( كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم خيبر )) (هود 1). فقد تمّ (( تفصيل الكتاب )) أي تعريبه، بواسطة خبير حكيم، غير الروح الأمين الذي في غار حراء.

ويتضح السرّ بالتصريح التالي.

التصريح السابع: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) .

يتحدّى لإثبات صحته وإعجازه (( بحديث مثله )) ( الطور 34 )؛ (( لا يأتون بمثله )) (الإسراء 88)؛ (( فأتوا بعشر سور مثله )) ( هود 13 )؛ (( فأتوا بسورة مثله )) ( يونس 38 )، بل (( بسورة من مثله )) ( البقرة 23 ).

ولكن هذا التحدّي (( بمثله )) ساقط لأن (( مثله )) موجود قبله: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ).

وفي وجـود هذا (( المثل )) قبل القرآن العربي سـره، كما يظهر أيضاً من تصريحه: (( أفمن كان على بيّنة من ربه ـ ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة ـ أولئك يؤمنون به؛ ومن يكفر من به الأحزاب فالنار موعوده: فلا تك في مرية منه؛ إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون )) ( هود 17 ).

لقد تضاربت آراء المفسرين في فهم الآية لغموض الضمائر. والقرائن العديدة تشير بأنه يقسم الناس في موقفهم من القرآن إلى أهل الكتاب الذين يؤمنون به لأنهم على بينة من ربهم، وإلى الأحزاب الذين يكفرون به، وهم من اليهود والمشركين. فما على محمد أن يكون (( في مرية منه )) ، في شك وريب؛ لأنه (( يتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة )) . قيل الشاهد هو جبريل أو الملك أو على قول الشيعة علي بن أبي طالب. والأصح فهم قوله: (( ويتلوه شاهد منه )) تعالى، على ضوء قوله: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ... ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً )) ( الأحقاف 10 و12 ). وهكذا يفسر القرآن بعضه بعضاً، حيث الموقف واحد، والشاهد واحد.

قال البيضاوي: (( وقرئ ( كتاب ) بالنصب، عطفاً على الضمير في ( يتلوه ) أي يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة دالة على أنه حق، كقوله ( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )، ويقرأ من قبل القرآن التوراة ( إِماماً ) كتاباً مؤتماً به في الدين )) .

وهكذا فإن (( مثل )) القرآن موجود عند بني إسرائيل النصارى؛ وهذا (( المثل )) هـو (( القرآن )) الذي يذكره القرآن العربي؛ ويتلوه شاهد من بني إسرائيل النصارى على محمد؛ فما عليه أن يكون في مرية منه. وذلك مثل قوله: (( فلا تكن في مرية من لقائه )) ( السجدة 24 ): إنه يلقى الكتاب نفسه، بواسطة هذا (( المثل )) الذي يتلوه الشاهد الإسرائيلي النصراني. وهذا الشاهد هو (( الحكيم العليم )) الذي يتلقى محمد منه القرآن ( النمل 6 )، وهو (( الحكيم الخبير )) الذي يقوم بتفصيله قرآناً عربياً1 ( هود 1 ).

(1) كون الشاهد (( نصرانياً )) لا يدل على أنه غير عربي: فإن ورقة بن نوفل أستاذ محمد كان قسّ النصارى بمكة. لذلك فقوله: (( لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين )) ( النحل 103 ) لا ينطبق على الشاهد النصراني؛ إنما يقصد شخصاً آخر.

فذاك (( المثل )) الذي يتلوه الشاهد الإسرائيلي النصراني هو (( القرآن )) ، قرآن الكتاب الإِمام، والكتاب المنير، والذي يفصله القرآن العربي للعرب.

فسر القرآن العربي هو ذاك (( المثل )) ، الذي هو (( القرآن )) .

رابعاً : صفات القرآن الذاتية تؤيد نسبته إلى (( المثْل )) .

الصفة الأولى: القرآن العربي ذكر أو تذكرة من تلك (( الصحف المكرمة )) .

(( إن هو إلا ذكر للعالمين )) ( يوسف 104 قابل 38 : 87؛ 81 : 27 ). كذلك: (( ما هو إلا ذكر للعالمين )) ( القلم 52 ). ويكرر للتوضيح والترسيخ: (( ولقد يسرنا القرآن للذكر، فهل من مذكّر، )) (القمر 17 و22 و32 و40). فصفة القرآن العربي إنه ذكر، للذكر: (( وإنه لذكر لك ولقومك )) ( الزخرف 44 ) وهو ذكر من الذكر الذي مع (( أهل الذكر )) : (( هذا ذكر من معي وذكر من قبلي )) ( الأنبياء 24 ). بذلك يشهد أهل الذكر أنفسهم: (( فاسألوا أهل الذكر، إذا كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43 ـ 44 ).

(( ذلك ذكرى للذاكرين )) (11 : 115)، (( إن هو إلا ذكرى )) (6 : 90)، (( ذكرى للمؤمنين )) (7 : 1؛ 11 : 120)، (( ذكرى للعابدين )) (21 : 84)، (( ذكرى لقوم يؤمنون )) (29 : 50)، (( ذكرى لأولي الألباب )) (38 : 43؛ 40 : 54). وهذا التعبير يجعل صفة القرآن العربي تذكرة للعرب بذكر (( أهل الذكر )) .

(( وإنه لتذكرة للمتقين )) من العرب ( الحاقة 48 )؛ (( كلاّ ! إنه تذكرة، فمن شـاء ذكره )) ( المدثر 54 ـ55 )؛ (( كلاّ إنها تذكرة، فمن شاء ذكره )) ( عبس 12 ).

وهذه التذكرة (( في صحف مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة كرام بررة )) (عبس 11 ـ 16). فهذه (( الصحف المكرمة )) هي مصدر القرآن العربي؛ لأن محمداً (( يتلو صحفاً مطهّرة، فيها كتب قيّمة )) ( البيّنة 2 ـ3 )، ويستعلي عليهم بدراستها ( سبأ 44؛ القلم 37 ).

الصفة الثانية: القرآن العربي (( حديث )) من كتاب الله.

(( الله نزّل أحسن الحديث، كتاباً متشابهاً )) ( الزمر 23 ) يشبه (( المثل )) الذي (( يتلوه شاهد منه )) . لذلك، (( ما كان حديثاً يفترى )) ( يوسف 111 )؛ (( ومن أصدق من الله حديثاً )) ( النساء 86 ). فلا يحق لأحد أن (( يكذب بهذا الحديث )) ( القلم 44 ): (( أفبهذا الحديث أنتم مدْهنون )) ! ( الواقعة 81 ).

وهو يتحداهم: (( فليأتوا بحديث مثله، إن كانوا صادقين )) ( الطور 34 )؛ لأنه هو عنده (( مثل )) هذا الحديث الذي (( شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم )) (الأحقاف 10). فعلى محمد أن يدعهم (( حتى يخوضوا في حديث غيره )) ( النساء 139؛ الأنعام 68 ).

فالقرآن العربي (( حديث )) من كتاب الله، في (( المثل )) الذي عند أهله.

الصفة الثالثة: القرآن العربي (( بيّنة ما في الصحف الأولى )) .

نوجز ما فصلناه سابقاً. يعلن (( هذا بيان للناس )) ( آل عمران 138 ). لكنه ليس بياناً جديداً، إنما هو (( بيّنة ما في الصحف الأولى )) ( طه 133 )، (( لتبيّن للناس ما نزّل إليهم )) في الكتاب الإمام، والكتاب المنير ( النحل 44 ).

وقد جاء محمد بالبيّنة التي طلبها اليهود والمشركون: (( رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة. وما اختلفوا إِلا من بعد ما جاءتهم البيّنة )) ( البيّنة 1 ـ 4 ). فهو يصرّح بأن محمداً تلا (( صحفاً مطهرة، فيها كتب قيمة )) ؛ وقد (( درسها )) ( الأنعام 105 و156 ). وما القرآن العربي سوى (( ما في الصحف الأولى )) ( الأعلى 18 ).

الصفة الرابعة: القرآن العربي تصديق الكتاب المنزل قبله.

يؤكد اثنتي عشرة مرة أن القرآن العربي (( تصديق الذي بين يديه )) أي قبله ( يونس 37 )، (( وآمنوا بما أنزلتُ مصدقاً لما معكم )) (( مصدق لما معهم )) ، (( مصدق لما بين يديه )) ( البقرة 41 و89 و91 و97 ).

إن القرآن العربي تنزيل لأنه تفصيل التنزيل، وتصديق له: (( نزّل عليك الكتاب بالحق، مصدقاً لما بين يديه )) ( آل عمران 3 )، (( مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه )) ( المائدة 47 ) أي (( شاهداً له )) ( الجلالان ).

فقدسية القرآن العربي تقوم على صفة التصديق فيه: (( وهذا كتاب أنزلناه مبارك، مصدق الذي بين يديه )) ( الأنعام 92 ). لذلك (( هو الحق مصدقاً لما بين يديه )) ( فاطر 21؛ الأحقاف 30 ). فصفته الذاتية أنه (( تصديق الذين بين يديه )) ( يونس 37؛ يوسف 111 )، لا وحي جديد.

الصفة الخامسة: القرآن العربي (( تفصيل الكتاب )) عن (( المثْل )) النصراني.

لاستجماع اللوحة، نكرر ما سلف. القرآن (( تفصيل الكتاب )) الذي قبله (يونس 37)؛ فقد (( فصلناه تفصيلاً )) ( الإسراء 12 ). وهذا التفصيل كان جملة وتفصيلاً: (( وكذلك نفصل الآيات )) (6 : 55؛ 7 : 31 و173؛ 10 : 24؛ 30 : 28). وهذا (( التفصيل )) تصريف وبيان وتيسير.

فالقرآن العربي (( تفصيل الكتاب )) أي تعريبه، بحسب اصطلاحه. لكنه على الخصوص هو تعريب (( المثل )) الذي شهد به الشاهد الإسرائيلي النصراني كما يظهر من استخدام النكرة في (( كتاب )) يفصله القرآن العربي: (( تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب فُصلت آياته قرآناً عربيّاً )) ( حم السجدة 1 ـ3 ). فالقرآن العربي هو تفصيل (( كتاب )) : فما هو؟ والتصريح مكرر: (( آلر.

كتاب أُحكمت آياته، ثم فُصّلت من لدن حكيم خبير )) ( هود 1 ). فهناك تفاوت في الزمن بين القرآن العربي المفصّل، و (( كتاب )) محكم يجري تفصيله على يد حكيم خبير. والإبهام في استخدام النكرة في التصريحين، يزيله الإعلان الضخم: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ). فهذا (( المثل )) هو (( القرآن )) الذي يفصله القرآن العربي. ولا يزيد عليه سوى اللسان العربي: (( وهذا كتاب مصدّق، لساناً عربيّاً )) ( الأحقاف 12 ).

فالصفات الذاتية في القرآن العربي تدل على أنه (( تفصيل الكتاب )) ( يونس 37 ) على العموم، لأنه بنوع خاص تعريب (( المثل )) الذي يشهد به الشاهد الإسرائيلي النصراني.

خامساً : صفات القرآن الموضوعية دليل ذاته

هناك سبع صفات تحدد صلة القرآن الموضوعية بالكتاب.

1ـ القرآن العربي هو تعليم العرب (( الكتاب والحكمة )) أي التوراة والإنجيل ( 2 : 192 و151؛ 3 : 164؛ 62 : 2 ). وقد فصلنا ذلك من قبل. وهـو (( يعلمهم الكتاب والحكمة )) لأن فيهما الدين الذي شرعه للعرب، دين موسى وعيسى معاً بلا تفريق ( الشورى 13 ).

2ـ وهو يجادل العرب بعلم وهدى وكتاب منير، بينما (( من الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) ( الفرقان 20؛ الحج 8 ). فمع الكتاب المنير، يجمع القرآن العربي (( العلم )) و (( الهدى )) . والهدى في اصطلاحه ما آتى الله موسى: (( ولقد آتينا موسى الهدى )) (40 : 53)؛ وهو أيضاً كناية عن علم الكلام المبني عليه. و (( العلم )) كناية عن التنزيل الإنجيلي،

والكلام المبني عليه، بحسب اصطلاح النصارى من بني إسرائيل. فالقرآن العربي يجادل العرب بالكتاب المنير، ثم بكلام الهدى، وبكلام العلم، المبنيين عليه: (( بعد الذي جاءك من العلم )) (2 : 120 و145؛ 3 : 61).

وهناك تعبير آخر يشبهه: (( أرسـل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله )) (48 : 28؛ 61 : 9). فالهدى ودين الحق مرادف للهدى والعلم. ففي القرآن كلام الهدى، وكلام العلم، مع الكتاب المنير.

3 ـ في القرآن العربي، (( ما يقال لك إِلا ما قيل للرسل من قبلك )) ( فصلت:41 ). لذلك فقد جاء (( بلاغاً من الله ورسالاته )) ( الجن 23 ). فهو بلاغ من رسالات الله قبله. فمع الكتاب بلاغ من الرسالات المبنية عليه.

4 ـ (( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات، ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم، وموعظة للمتقين )) ( النور 34 ). ففي القرآن العربي آيات مبينات لكتاب الله؛ وفيه أيضاً قصص الذين خلوا من قبلهم، من أهل الكتاب، ومن العرب أيضاً؛ وذلك كله (( موعظة للمتقين )) من العرب.

5 ـ (( ولقد آتيناك سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم )) ( الحجر 87 ). لقد تعددت الروايات والأقوال في (( المثاني السبع )) . فروي أنها الفاتحة ـ ولكنها من القرآن نفسه، وتمييزها عنه يقتضي معنى آخر. روى بعضهم أنها السور السبع الطوال ـ وهي أيضاً من القرآن، فلا يصح تمييزها لولا معناها المستقل.

وعندنا أن التعبير القرآني من اصطلاح أهل الكتاب: فالقرآن العظيم هو الكتاب نفسه، يعبرون عنه بحرف (( مقرا )) ؛ ولفظ (( المثاني )) معدول عن (( المشنة )) العبرية، وهي كتاب السنّة، تفصيل كتاب الله. ففي القرآن العربي قرآن

الكتاب مع (( سبع )) من السنة، كالقصص السبع التوراتية فيه، ينقلها كما ترويها السنة في التلمود، لا كما ترويها التوراة.

فالقرآن العربي تفصيل من (( الكتاب والسنة )) .

(( شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن، هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان )) ( البقرة 185 ).

كان القرآن في اصطلاح أهل الكتاب كناية عن الكتاب نفسه. وهكذا ورد في القرآن العربي. وكان (( الفرقان )) عندهم كناية عن التفسير المتواتر بالحديث والسنة عن الآباء؛ وفي التلمود كتاب (( قرقة أبوت )) أي فرقان الآباء أي تفصيلهم الكتاب. وكان الفرقان عندهم كلام الله المنقول بالسماع. لذلك جاء: (( آتينا موسى الكتاب والفرقان )) ( البقرة 53 ). فكما آتينا موسى وهارون الفرقان )) ( الأنبياء 48 )، كذلك (( نزل على عبده الفرقان )) (25 : 1) مع قرآن الكتاب.

ففي القرآن العربي (( بينات من الهدى والفرقان )) أي من القرآن والفرقان، الكتاب والتفسير بالحديث.

فكل تلك الصفات الموضوعية تدل على مدى الصلة الموضوعية القائمة بين القرآن العربي والكتاب الإمام مع الكتاب المنير. فالقرآن العربي فيه، على غرار (( المثل )) الذي يفصله، من الفرقان والمشنة، وكلام الهدى، وكلام (( العلم )) ، ومن قصص الماضين. وهذا هو سبب الفوارق الظاهرة بين القرآن والكتاب، مع أن القرآن (( تفصيل الكتاب )) ، لكن عن طريق تفصيل (( المثل )) الذي شهد به الشاهد الإسرائيلي النصراني.

7 ـ وهناك صفة سابعة: القرآن العربي (( بشرى ))

يمتـاز بهذه الصفة المتواترة: (( هدى وبشـرى للمؤمنين )) ( البقرة 97؛ النمل 2 )؛ (( ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً، لينذر الذين ظلموا، وبشرى للمحسنين )) ( الأحقاف 12 )؛ (( قل: نزّله روح القدس من ربك بالحق، ليثبّت الذين آمنوا، وهدى وبشرى للمسلمين )) ( النحل 102 ). لاحظ التمييز بين جماعة محمد (( الذين آمنوا )) والمسلمين.

في اصطلاحه: (( الـذين آمنوا )) كنابة عن (( المتقين )) من العرب، جماعـة محمد؛ و (( الذين ظلموا )) مقرونة (( بالمحسنين )) كناية عن اليهود والنصارى. وبتمييزه بين (( الذين آمنوا )) وبين (( المسلمين )) ، يكون (( المسلمون )) كناية عن النصارى المحسنين.

وفي اصطلاحه أيضـاً: (( الهـدى )) كناية عن (( كتـاب موسى )) : التوراة؛ وتعبير (( البشرى )) ترجمة حرفية للفظ الإنجيل.

فالقرآن العربي، كما هو في (( بيان للناس، وهدى وموعظة للمتقين )) من العرب ( آل عمران 138 )؛ كما هو إنذار لليهود الذين ظلموا، وبشرى للنصارى والمحسنين ( الأحقاف 12 )؛ هو أيضاً تثبيت (( للذين آمنوا )) من جماعة محمد، (( وهدى وبشرى للمسلمين )) أي بحسب اصطلاحه، توراة وإنجيل للمسلمين النصارى.

فمن صفات القرآن العربي، ومن أهدافه إنه توراة وإنجيل (( للمسلمين )) النصارى، كما كان (( المثل )) الذي شهد به أحد علمائهم ( الأحقاف 10 ).

فسر القرآن، في عرف القرآن، نستبينه من آيتين:

الأولى: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ). فمثل

القرآن موجود مع النصارى من بني إسرائيل؛ وهذا (( المثل )) هو (( القرآن )) الذي يفصله القرآن العربي.

الثانية، في هدف الدعوة القرآنية: (( يا أيها الذين آمنوا، كونوا أنصار الله، كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسـرائيل ( وهم النصارى )؛ وكفرت طائفة ( وهم اليهود ): فأيدنا الذين آمنوا ( النصارى ) على عدوهم ( اليهود ) فأصبحوا ظاهرين )) ( الصف 14 ). فالدعوة القرآنية تأييد (( للنصرانية )) على اليهودية، في الجزيرة العربية، حتى النصر المبين.

فبعد دعوة العرب للتوحيد الكتابي، تلك غاية الدعوة القرآنية: فهي من أساس قيامها تأييد لأهل الإنجيل. هذه هو القرآن، في عرف القرآن.

تلك هي القاعدة الثامنة عشرة في الحوار المسيحي الإسلامي.

فصل الخطاب

(( تنزيل )) القرآن ـ ونزول (( كلمة الله ))

القرآن تنزيل. يصرح بذلك نحو 162 مرة، بصور شتى من فعل واسم وصفة؛ منها 14 مرة باسم (( تنزيل )) .

لكنه تنزيل بالواسطة: أمر به (( روح من أمر الله )) ( الشورى 52 )؛ وتم (( بتفصيل الكتاب )) ( يونس 37 ) للعرب. لذلك فالقرآن العربي ينتسب في تنزيله على الإطلاق إلى الكتاب، (( كتاب موسى الإمام )) ( هود 17؛ الأحقاف 12 )، و (( الكتاب المنير )) أي الإنجيل ( لقمان 20؛ فاطر 25؛ الحج 8 ).

والإنجيل هو نزول (( كلمة الله )) ؛ فالمسيح هو (( رسول الله ـ وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ( النساء 170 ).

فما هي الصلة بين (( تنزيل )) القرآن، ونزول (( كلمة الله )) ؟

أولا : (( تنزيل )) القرآن

( القاعدة التاسعة عشرة، في الحوار الإسلامي المسيحي )

في البحث السابق درسنا الصفات المتنوعة التي تفسر معنى (( التنزيل )) في

لغته واصطلاحه. والنتيجة الحاسمة منها كلها أن القرآن (( تنزيل )) لأنه من تنزيل الكتاب قبله؛ ومحمد نبي ورسول، لأنه بأمر من الله تلقاه في غار حراء، قام (( بتفصيل الكتاب )) ، عن (( المثل )) الذي مع النصارى من بني إسرائيل، أي بنقل نبؤته إلى العرب والدعوة برسالته.

1ـ القرآن هو الوحي الكتابي نفسه

هذا ما يصرح به في تضاعيف سوره: (( إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده )) ( النساء 162 )، (( بلاغاً من الله ورسالاته )) ( الجن 23 ). لذلك (( ما يقال لك إِلا ما قيل للرسل من قبلك )) ( فصلت 43 )؛ (( وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك )) ( هود 120 )؛ (( وما أرسلناك من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) ( الأنبياء 25 ). والنتيجة الحاسمة: (( إن هذا لفي الصحف الأولى )) (الأعلى 18)؛ (( أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى )) ( طه 133 ).

فالقرآن هو الوحي الكتابي عينه؛ وليس فيه من وحي جديد.

2ـ القرآن هو التنزيل الكتابي نفسه

إِنه (( تنزيل العزيز الرحيم )) (36 : 5)، (( تنزيل من الرحمان الرحيم )) ( 41 : 2 )، (( تنزيل من حكيم حميد )) ( 41 : 42 )، (( تنزيل من رب العالمين )) (56: 80؛ 69 : 43). وقد (( نزلنا عليك القرآن تنزيلاً )) (76 : 23)، (( ونزلناه تنزيلاً )) (25 : 25)، (( تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى )) (20 : 4).

لكنه (( تنزيل الكتاب )) (32 : 2؛ 39 : 1؛ 40 : 2؛ 45 : 1؛ 46 : 2).

وهذا التصريح لا يدع مجالاً لريب أو مرية: (( وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين؛ وإِنه لفي زبر الأولين: أولم تكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل )) ( الشعراء 193 ـ197 ).

فتنزيل القرآن هو من (( زبر الأولين )) أي (( كتبهم كالتوراة والإنجيل )) ( الجلالان )، وذلك بشهادة علماء بني إسرائيل النصارى ـ لا اليهود (( أول كافـر به )) ـ إنهم يعلمونه، إذ (( هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم؛ وما يجحد بآياتنا إِلا الظالمون )) ( العنكبوت 49 ): فأولو العلم المقسطون، أي النصارى، يعرفونه حق المعرفة؛ أما اليهود الظالمون فيستنكرن تلك الصلة المصدرية لأنها تفضح كفرهم؛ والنبي نفسه، (( الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم )) ( البقرة 146؛ الأنعام 20 ) أي معرفة الأب ابنه، معرفة مصدرية.

وهو (( تنزيل الكتاب )) في التشريع، كما في التوحيد: (( يريد الله ليبيّن لكم، ويهديكم سنن الذين من قبلكم )) ( النساء 25 ) أي (( سنن الذين من قبلكم من الأنبياء، في التحليل والتحريم، فتتبعوهم )) ( الجلالان ).

فالقرآن هو التنزيل الكتابي عينه في التوحيد، وفي التشريع: فليس فيه من تنزيل جديد.

2ـ القرآن هو الدين الكتابي عينه الذي يشرعه للعرب

التصريح به صريح لا مرية فيه: (( شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً ـ والذي أوحينا إليك ـ وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين، ولا تتفرّقوا فيه. كبر على المشركين ما تدعوهم إليه )) ( الشورى 13 ).

القرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً ديناً واحداً، هو دين الأنبياء من نوح إلى إبراهيم إلى موسى إلى عيسى إلى محمد. فلا تفرقة في هذا الدين الكتابي، ولا تفريق.

وبما أنه يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً، استكبر المشركون ذلك، واستنكروه لسبب سياسي أكثر مما هو ديني: (( وقالوا: إن نتبع الهدى معك، نتخطفْ من أرضنا )) ! (القصص 57). فهم يقفون على الحياد بين الفرس والروم؛ وإذا تبعوا الهدى الكتابي مع محمد كانوا عرضة للغزو من إحدى الإمبراطوريتين، من الفرس أنصار اليهود بين العرب، أو من الروم حماة المسيحية في الجزيرة العربية.

فالقرآن يشرع للعرب دين موسى وعيسى معاً (( لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون )) ( البقرة 136؛ آل عمران 84 )؛ (( لا نفرق بين أحد من رسـله، ونحن له مسلمون )) ( البقرة 285 ). فليس فيه من دين جديد.

4ـ إيمان القرآن هو الإيمان (( بالكتاب كله )) ، التوراة والإنجيل

كانت بعثة محمد هداية إلى الإيمان بالكتاب، وذلك بنص القرآن القاطع: (( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ( أي ملاكاً ): ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان؛ ولكن جعلناه ( الإيمان بالكتاب ) نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا، وانك لتـُهدى1 إلى صراط مستقيم، صراط الله )) ( الشورى 52 ). الهداية إلى الصراط المستقيم هي الهداية إلى الإيمان بالكتاب؛ وهذا ما يأمر به روح من أمر الله محمداً في غار حراء. فلبى الأمر والنداء واهتدى إلى الإيمان بكتاب موسى وعيسى، وأخذ يهدي العرب بهما: (( وقل: آمنت بما أُنزل الله من كتاب، وأُمرت لأعدل بينكم )) ( الشورى 13 ـ15 ).

(1) قراءة (( لتـُهدى )) أصح من قراءة (( لتـَهدي )) كما يقتضيها السياق: الإيمان بالكتاب.

وهو يعلن الإيمان برسل الله وكتبه: (( آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه، لا نفرّق بين أحد من رسله )) ( البقرة 275 ). ويدعو جماعته إلى هذا الإيمان عينه: (( يا أيها الذين آمنوا، آمنوا بالله ورسوله، والكتاب الذي نزل على رسوله، والكتاب الذي أُنزل من قبل: ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، فقد ضل ضلالاً بعيداً )) ( النساء 135 ).

ويستعلي مع جماعته على اليهود بالإيمان (( بالكتاب كله )) ( آل عمران 119 ). ثم يعلن وحدة الإله ووحدة التنزيل ووحدة الإسلام مع النصارى من أهل الكتاب؛ فلا جدال معهم إلا بالحسنى؛ أما مع اليهود الظالمين فيحق الجدال بغير الحسنى أي بالسيف: (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 46 ).

هذا هو إيمان القرآن: فليس فيه من إيمان جديد.

5 ـ القرآن هو (( الكتاب مفصلاً ))

يصرّح: (( أفغير الله أبتغي حكماً، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصّلاً. والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، فلا تكوننّ من الممترين )) ( الأنعام 114 ). إن القرآن هو (( الكتاب مفصّلاً )) ؛ فما على محمد أن يشك في ذلك؛ وليس للعرب أن يماروا، والله نفسه هو الحكَم، بشهادة أهل الكتاب أنفسهم. وهذا بنص القرآن القاطع: (( تصديق الذي بين يديه ( قبله ) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين )) ( يونس 37 ): فهو تفصيل الكتاب )) الذي من قبله.

فكتاب موسى هو إِمام القرآن في الهدى والبيان: (( ومن قبله كتاب موسى إِماماً ورحمة، وهذا كتاب مصدّق لساناً عربياً )) ( الأحقاف 12؛ هود 17 ).

ففي تفصيل ـ تعريب ـ القرآن للكتاب الإمام، (( تصديق الذي بين يديه )) ، لا جديد فيه سوى اللسان العربي.

والقرآن يستعلي على العرب، ويجادلهم بالعلم والهدى اللذين في الكتاب المنير: (( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير )) ( لقمان 20؛ الحج 8؛ قابل فاطر 25 ). إِن (( العلم )) كناية عن العلم المنزل في الإنجيل، كما يقول به (( أولو العلم قائماً بالقسط )) أي النصارى؛ فيكون (( الكتاب المنير )) كناية عن الإنجيل، الذي به يحاور العرب.

فالقرآن هو (( تفصيل الكتاب )) أي الكتاب الإمام لموسى، والكتاب المنير لعيسى؛ لكن على طريقة (( المثل )) للقرآن، كما يشهد عالم إسرائيلي نصراني: (( وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله )) ( الأحقاف 10 ). إن (( مثل )) القرآن موجود عند النصارى من بني إسرائيل، وهو (( يفصله )) للعرب. لذلك فالقرآن هو (( الكتاب مفصلاً )) ؛ وليس فيه من كتاب جديد.

6ـ إسلام القرآن هو إسلام (( النصارى ))

لقد رأينا أن (( أولي العلم )) مرادف لأهل الذكر، وأهل الكتاب. وعرفنا أن القرآن يقسمهم إلى (( أولي العلم )) الظالمين أي اليهود، و (( أولي العلم )) المحسنين أو المقسطين، أي النصارى. وها القرآن يشهد للإسلام بشهادة النصارى، أولي العلم القائمين بالقسط: (( شهد الله أنه لا إِله إلا هو، والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط، لا إِله إلا هو العزيز الحكيم: إِن الدين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( من اليهود ) إِلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم )) ( آل عمران 18 ـ19 ).

فالنصارى، أولو العلم المقسطون، هم الذين يشهدون (( ان الدين عند الله الإسلام )) ، وشهادتهم من شهادة الله وملائكته؛ والقرآن يشهد للإسلام بالشهادة (( النصرانية )) .

وهذا الإسلام (( النصراني )) هو الذي اختاره الله ديناً للعرب كما (( نزل يوم عرفة، في حجة الوداع )) ( الجلالان ): (( اليوم أكملت لكم دينكم! وأتممت عليكم نعمتي! ورضيت لكم الإسلام ديناً )) ( المائدة 4 ـ وهي جملة اعتراضية في الآية ).

فمحمد قد أُمر به منذ بعثته في غار حراء: (( وأمرت أن أكون من المسلمين، وأن أتلو القـرآن )) معهم ( النمل 90 ـ91 ) على حسـب (( المثل )) الذي معهم ( الأحقاف 10 ) كما (( يتلوه شاهد منه )) ، شاهد من بني إسرائيل النصارى.

فإِسلام القرآن هو إسلام (( النصارى )) ؛ وليس فيه من إسلام جديد.

7ـ لذلك فالقرآن تأييد للدعوة (( النصرانية ))

غاية القرآن الأولى هي الدعوة للتوحيد الكتابي بين العرب؛ دين إبراهيم وموسى وعيسى ديناً واحداً، هو الإسلام القرآني (( النصراني )) .

وغايته الأخرى هي تأييد (( النصرانية )) على اليهودية في الجزيرة العربية، باسم هذا الإسلام. فهو يقسم بني إسرائيل إلى طائفتين: (( فآمنت طائفة من بني إسرائيل، وكفرت طائفة )) بدعوة الحواريين للمسيح ( الصف 14 ). وهذه الطائفة من بني إسرائيل التي آمنت بالمسيح هي (( من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون )) ( الأعراف 158 ). فهذه الأمة، أو هذه الطائفة، هي (( النصارى )) حصراً في اصطلاح القرآن: هم (( يهدون بالحق وبه يعدلون )) ؛ وهم يؤمنون بالمسيح وأمه (( آية للعالمين )) . وهذه (( النصرانية )) هي التي يظاهرها

القرآن على اليهودية حتى النصر المبين: (( فأيدنا الذين آمنوا على عـدوهم فأصبحوا ظاهرين )) ( الصف 14 ). لقد انتصرت (( النصرانية )) على اليهودية، في الجزيرة العربية، بالدعوة القرآنية، تحت اسم جديد قديم هو (( الإسلام )) ( الحج 78 ).

هذا هو العدل القرآني بين اليهودية والمسيحية: (( وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب، وأُمرت لأعد بينكم. الله ربنا وربكم؛ لنا أعمالنا ولكم أعمالكم؛ لا حجة بيننا ( أي لا خصومة بيننا )؛ الله يجمع بيننا وإليه المصير )) ( الشورى 15 ) فالإله واحد، والكتاب واحد، فلا خصومة صحيحة بين أهل الكتاب. هذا ما يريد إفهامه لليهود: (( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون )) ( النمل 76 )، وهو الإنجيل والمسيح. فالقرآن دعوة للإنجيل والمسيح.

وما تكفير القرآن لإلهية المسيح، ولمقالة (( الثلاثة )) سوى تكفير للتثليث المنحرف، وللعقيدة المنحرفة في إلهية المسيح، كما كفرتها المسيحية من قبل القرآن. فهو إنما يردع بعض أهل الإنجيل عن (( الغلو )) في أمر المسيح وأمه. لكنه يتضامن مع النصارى في الإيمان بالمسيح والإنجيل ضد اليهودية، ويعلن أن دعوته تأييد للنصرانية على اليهودية حتى النصر المبين ( الصف 14 ).

هذه هي الخاتمة الحاسمة، والقاعدة الأساسية، في الحوار الإسلامي المسيحي.

فالمحور الأول للدعوة القرآنية هو التوحيد الكتابي ( الشورى 13 ).

والمحور الثاني فيها إنما هو الإيمان بالمسيح والإنجيل، على الطريقة (( النصرانية )). لذلك فأهل القرآن وأهل الإنجيل هم (( أمة واحدة )) ( المؤمنون 57؛ الأنبياء 92 ).

وهذا هو أساس الحوار بينهم، وقوامه، وهدفه، وحتميته، وإذا ما قلنا أنه ليس في القرآن من وحي جديد، أو تنزيل جديد، أو دين جديد أو إيمان جديد، أو كتاب جديد، أو إسلام جديد؛ فإنما ذلك لأن القرآن (( تصديق الذي بين يديه، وتفصيل الكتاب )) ( يونس 37 )، تأييداً للدعوة (( النصرانية )) حتى النصر المبين ( الصف 14 ). لذلك حسم القرآن كل جدل بين أهل القرآن وأهل الإنجيل بهذا الأمر الصريح: (( وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون )) ( العنكبوت 48 ) أي الإله واحد، والتنزيل واحد، والإسلام واحد.

والقرآن، بين أسماء المسيح الحسنى، يفضل اسم (( كلمة الله )) ، وهو الاسم ـ العقيدة الجامع بين الإسلام والمسيحية:

باسم (( كلمة الله )) صدق زكريا وابنه يحيى ( آل عمران 39 ).

باسم (( كلمة الله )) بشرت الملائكة مريم بالمسيح ( آل عمران 45 ).

باسم (( كلمة الله )) يمتاز إيمان النبي العربي (( بالله وكلمته )) ( الأعراف 156 ).

والخلاف الأكبر بين المسيحية والإسلام على تأويل معنى (( كلمة الله )) . والقرآن فسره تفسيراً واقعياً بمرادفته مع اسم (( روح الله )) : (( إنما المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله ـ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ). فكلمة الله ليس كلام الله، أو أمر الله بتكوين عيسى؛ إنما هو (( روح منه )) أي صادر منه قبل إلقائه إلى مريم، وهذا ما يميّزه عن سائر الأرواح المخلوقة. قال الرازي: (( سمي كلمة الله كأنه صار عين كلمه الله ... أو لأنه أبان كلمة الله أفضل بيان )) ( على آل عمران 45 ). فهو كلمة الله الذاتية والمنزلة معاً؛ وعلى حد قول أهل السنة، كما نقل الرازي أيضاً: (( وكلامه صفة قديمة قائمة بذات الله )) ( آل عمران 39 ).

وهذا الاسم الكريم هو صلة الوصل الجامعة المانعة بين التنزيل القرآني والتنزيل الإنجيلي، وما بين أهل الإنجيل وأهل القرآن.

فالقرآن هو تنزيل الكتاب، أي (( تفصيل الكتاب )) .

أما الإنجيل، وأما المسيح فهو نزول (( كلمة الله )) عينه.

تلك هي القاعدة التاسعة عشرة في الحوار الإسلامي المسيحي.

ثانياً: نزول (( كلمة الله )) في المسيح

( القاعدة العشرون في الحوار المسيحي الإسلامي )

الإنجيل هو تنزيل كلام الله على لسان (( كلمة الله )) ، المسيح.

أما المسيح نفسه فهو نزول (( كلمة الله )) في عيسى ابن مريم.

وفي فاتحة الإنجيل بحسب يوحنا، وهي آخر صفحة من صفحات الوحي الإنجيلي، نرى كيف يسوع المسيح هو (( كلمة الله )) ، وما هي منزلة (( كلمة الله )) من ذات الله:

(( في الأزل كان الكلمـة

والكلمـة كان فـي اللـه

والله كان الكلمـة :

فهو منـذ الأزل في الله

والكلمـة صار بشراً

وسكن في ما بيننــا

وقد شاهدنا مجـده

مجد الآب في ابنه الوحيد

فهو الممتلئ حقيقة ونعمة

ومن ملئِه أخذنا نعمة على نعمة

فإن الشريعة نزلت بموسى

وبيسوع المسيح الحقيقة والنعمة

إن الله لم يره أحـد قط

إِلا الإله ، الابن الوحيـد

إنـه قائم في حضن الآب

وهو نفسه قـد أظهره ))

الاسم في لغة الكتاب والإنجيل دليل الذات. ويسوع المسيح هو (( كلمة الله )) . وقد فسر الوحي الإنجيلي معنى هذا الاسم الذي يكشف عن ذات المسيح.

إن (( كلمة الله )) هو كلام الله في ذاته، نطقه الذاتي: (( والكلمة كان في الله )) . ونطق الله في ذاته، قديم في الله مثل ذاته: (( فهو منذ الأزل في الله )) . والنطق الذاتي، والذات نفسها، واحد في الله: (( والله كان الكلمة )) .

و (( كلمة الله )) ، نطق الله الذاتي، يصدر من ذات الله، في ذات الله، صدوراً ذاتياً نطقياً، يسمى في لغة المخلوق (( ولادة )) ، ينبثق عنها أبوة وبنوة؛ وفي الله هي ولادة روحية عقلية نطقية ذاتية تسمو على المخلوق وما يمت إلى المخلوق بصلة. لذلك فكلمة الله في ذات الله بمنزلة (( الابن الوحيد )) من ذات الله، فإنما هي بنوة إلهية ذاتية روحية نطقية. ولا يضيرها إذا سميت بلغة المخلوق ولادة، وأبوة، وبنوة.

و (( الكلمة صار بشراً )) ، أي (( كلمته ألقاها إلى مريم )) : وهذا يعني، بلغة الكلام، تأنس (( كلمة الله )) في عيسى، وتجسده من مريم. فلم يتحوّل (( كلمة الله )) إلى بشر، هذا مستحيل على الله نفسه؛ ولم يصر البشر، عيسى ابن مريم، (( كلمة الله )) : هذا تأليه، وهو يستحيل على المخلوق. إِنما تأنس (( كلمة الله )) من مريم، في عيسى؛ كما تتأنس روحنا في جسدنا من أمنا. مع الفارق الجوهري أن روح الإنسان مخلوق، وكلمة الله هو (( روح منه )) تعالى ألقاه إلى مريم.

فصار كلمة الله يسوع المسيح، ابن مريم، وكان يسوع ابن مريم كلمة الله. ذات واحدة في شخصية ثنائية.

وهذه الثنائية في شخصية المسيح هي واقع إنجيلي وواقع قرآني معاً. لا مجال لمرية في ذلك. قال الزمخشري: (( إن مريم ولـدت من غير مسيس؛ وعيسى روح من الله ألقي إليها )) ( المؤمنون 51 ). فهو روح ملائكي يتجسـد، لا روح بشـري يولـد. قال الرازي: (( فكان المعنى: روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية )) ( على النساء 170 ). فهو يفسر (( روح منه )) بمعنى ملاك (( من المقربين )) . ومن يقول بتأنس ملاك في عيسى، أليس أصح له أن يقول بتأنس (( كلمة الله )) الذاتية، من مريم؟ هذا ما يقول به عن الإنجيل علم الكلام المسيحي، لتفسير الثنائية في شخصية المسيح، بحسب الواقع الإنجيلي: أقنوم واحد في طبيعتين، الإلهية والإنسانية، اللاهوت والناسـوت. فلا ينطبق على هذه العقيدة تكفير القرآن: (( كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح، ابن مريم )) ( المائدة 17 و75 ).

لذلك يحمل السيد المسيح، كلمة الله المتأنس، (( مجد الآب في ابنه الوحيد )) ؛ فقد ظهر (( ممتلئاً حقيقة ونعمة )) ، (( ومن امتلائه أخذنا كلنا نعمة على نعمة )) ، فقد نزل (( بيسوع المسيح الحقيقة والنعمة )) .

فكلام الله، بواسطة كلمة الله، هو (( النعمة والحقيقة )) على الإطلاق: الحقيقة التي تكشف لنا سر الله في ذاته ـ وهذا فوق سلطان النبوة والكتاب ـ والنعمة التي (( تؤتينا السلطان أن نكون أبناء الله )) في (( الابن الوحيد )) : هو بالبنوة الذاتية، ونحن بالتبني، على مثاله ـ وهذا فوق طاقة المخلوق. وبما أن المسيح في ذاته السامية هو (( كلمة الله )) ، نطقه الذاتي؛ فبظهوره بشراً من مريم قد (( أظهر الله )) نفسه لنا، في ذاته؛ وهذا هو الكشف الذاتي لسر الله، وهو فوق طاقة المخلوق. وبما أن الله لم يره أحد قط، إلا الابن الوحيد، القائم في حضن الآب، فبكلامه يكشف لنا كشفاً ـ لا وحياً فقط أو تنزيلاً ـ سر الله؛ وهذا هو الكشف المنزل، وهو فوق طاقة النبوة والكتاب.

ففي إِلقاء (( كلمة الله )) إلينا بمريم، روحاً منه تعالى ( النساء 170 )؛ في تأنس

(( كلمة الله )) بشراً سكن في ما بيننا ( يوحنا 1 : 14 )، بلغ التنزيل الإلهي كل مداه، حتى الكشف المنزل، والكشف الذاتي: ففيه صار تنزيل كلام الله نزول (( كلمة الله )) . لقد تجسم التنزيل الإلهي في المسيح فصار شخصاً منزلاً، هو (( كلمة الله )) عينه.

ففي المسيح، كلام الله هو (( كلمة الله )) عينه؛ و (( كلمة الله )) هو كلام الله نفسه. ففي المسيح، تمّ نزول (( كلمة الله )) الذاتية والمنزلة معاً.

فالتنزيل المسيحي هو شخص منزل، أكثر مما هو كلاماً منزلاً.

هذا هو معنى نزول (( كلمة الله )) في المسيح، بحسب الإنجيل.

وتلك هي القاعدة العشرون في الحوار المسيحي الإسلامي.

فختام الوحي الإنجيلي هو إعلان المسيح (( كلمة الله )) .

وذروة الوحي القرآني، بعد التوحيد الكتابي، هو أيضاً إعلان المسيح (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) .

فحرف الإيمان في المسيح، (( كلمة الله )) ، واحد بين الإنجيل والقرآن. وهذا الإعلان الجامع المشترك لشخصية المسيح هو محور الحوار الواجب الوجود بين المسيحية والإسلام.

وبما أن الكتاب (( إمام )) القرآن ( هود 17؛ الأحقاف 12 )؛ والقرآن، بعلم الكتاب المنير وهداه، يجادل الناس ( لقمان 20؛ الحج 9 )؛ وعلى النبي العربي نفسه أن (( يقتدي )) بهدى الكتاب وأهله ( الأنعام 90 )؛ وعند الشك

ممّا أوحي إليه، أن (( يسأل الذين يقرأون الكتاب من قبله )) ( يونس 94 )؛ فعلينا أن نسترشد، في مشتبه القرآن وفي تأويل معنى الاسم الكريم (( كلمة الله )) ، بهدى الكتاب وأهله، عملاً بأمره: (( فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر )) ( النحل 43؛ الأنبياء 7 )؛ فالقرآن نفسه (( هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم )) ( العنكبوت 49 ) من أهل الكتاب والذكر الحكيم؛ بينما أهل القرآن، في سر (( الروح )) ـ وكلمة الله هو (( روح منه )) ـ (( ما أوتيتم من العلم إِلا قليلاً )) ( الإسراء 85 ).

ففي حقيقة الإنجيل والقرآن، إن المسيح من حيث هو (( كلمته وروح منه )) أسمى من بشر؛ إنه من عالم (( الروح )) المطلق.

وحول هذا الجامع المشترك، والمحور في الحوار الإسلامي، قد جمعنا في هذا الكتاب قواعد الحوار العشرين.

وهي اجتهاد مؤمن (( بالأمة الواحدة )) ( الأنبياء 92؛ المؤمنون 53 ): فإِن أصاب فله أجران، أَجر الإيمان وأَجر الاجتهاد؛ وإِن أخطأ فله أَجر الإيمان. ولا يُكفّر مؤمن مخلص في اجتهاده: (( وعلى الله قصد السبيل )) ( النحل 9 )؛ (( وقل: ربي زدني علماً )) ( طه 114 ).

تلك هي قواعد الحوار الإسلامي المسيحي.

خاتمة : والمدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي

هو هذه الشهادة الجامعة بين أَهل الإنجيل وأهل القرآن:

أشهد أن لا إله إِلا الله، وأن (( المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ـ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ).

وقد أعلناها على رؤوس الاشهاد، بحضور أئمة رجال الدين، من المسيحيين والمسلمين، في دار الإفتاء ببيروت، وسط عاصفة مدوية من التصفيق.

أجل يُجمع المسلمون والمسيحيون على حرف الشهادة؛ لكنهم قد يختلفون في تأويله.

ولا يصح تأويل (( كلمة الله )) بمعزل عن مرادفه (( روح منه )) فإن (( كلمة الله )) ليس كلام الله أو أمر الله، إنما هو (( روح منه )) : فهو ذات.

إن (( كلمة الله )) من حيث هو (( روح منه )) هو حديثه النفساني، نطقه الذاتي، الذي لا ينفصل عن ذاته. و (( كلمة الله )) الذاتية، في نظر المسلمين والمسيحيين على السواء، كما نقل الرازي على ( آل عمران 39 )، هي (( صفة قديمة قائمة في ذات الله )) .

وفصل الخطاب أن تلك الشهادة الجامعة بين أهل الإنجيل وأهل القرآن هي المدخل إلى الحوار الإسلامي المسيحي.

ملحق

خطاب حوار في دار الإفتاء ببيروت

فذلكة : لما انتخب غبطة البطريرك مكسيموس حكيم، زاره للتهنئة وفد من العلماء بمعية سماحة مفتي الجمهورية حسن خالد. وقد ردّ الزيارة صاحب الغبطة بصحبة بعض المطارنة والوزراء والنواب، في دار الإفتاء ببيروت. فاجتمع في حفل عائلي كريم، الرؤساء والعلماء والوزراء والنواب من الطائفتين. ولما استقر المقام بالحضور، طلب سماحة مفتي الجمهورية وغبطة البطريرك كلمة من الأستاذ الحداد في تلك المناسبة الكريمة. فارتجل هذا الخطاب (1) . ونحن نقدمه هنا مثالاً على الحوار الإسلامي المسيحي الذي يجمع أهل الملتين في (( أمة واحدة )) ، بالوطنية والقومية والدين.

سماحة مفتي الجمهورية، الشيخ حسن خالد

غبطة البطريرك مكسيموس حكيم

أيها الحفل الكريم

ما أحكم وأحسن أن تجتمع الحسنى، في قيادة الأمة، خصوصاً في عهد وعهدة الإمامين العظيمين المفتي الحسن والبطريرك الحكيم.

ومتى اجتمعت الحسنى والحكمة، في قيادة الأمة، أفلحت الأمة؛ وتغلبت على الأخطار المحيطة بها، والتي تهددها في وطنها وفي قوميتها وفي دينها.

وقيادة الأمة، على الحسنى والحكمة، تطيب متى كانت هذه الأمة مثلنا مبنية على وحدة لها وطنية وقومية، وأكاد أقول دينية.

(1) ونحن ننقله على قدر ما تعيه ذاكرتنا. وهذا عندنا أول تسجيل له بعد إلقائه.

قد لا يماري أحد في وحدة لنا وطنية وقومية. ولكن هناك من يماري في وحدة لنا دينية جذرية.

نحن جميعاً أهل التوحيد؛ وعلى إيمان واحد بالله واليوم الآخر. ولكن قد يجهل بعضنا أن حرف التوحيد نفسه واحد بيننا في التوراة والإنجيل والقرآن.

ففي التوراة، سفر التثنية، الفصل السادس، الآية الرابعة نقرأ: (( اسمع يا إسرائيل: إن الله إلهنا هو الله أحد )) ـ وبالعبرية (( يهوه أحد )) . وذهبت عندهم شهادة لهم في توحيدهم، وفاتحة لهم في صلاتهم.

ولما ظهر السيد المسيح، سأله علماء الشريعة عندهم: (( أية وصية هي أولى الوصايا جميعاً )) ؟ فأجابهم بحرف شهادتهم، وفاتحة صلاتهم: (( أجاب يسوع: الأولى هي (( اسمع يا إسرائيل: إن الله إلهنا هو الله أحد. فأحبب الله إلهك بكل قلبك، وكل نفسك، وكل ذهنك، وكل قوتك )) . ثم أضاف: (( والثانية هي هذه: أحبب قريبك كنفسك. على هاتين الوصيتين تقوم الشريعة كلها والنبيون. فليس من وصية أخرى أعظم منهما )) ( مرقس 12 : 28 ـ 31؛ متى 22 : 34 ـ40 ).

ونعلم جميعنا أن سورة الإخلاص في القرآن هي: (( قل: هو الله أحد )) .

فحرف التوحيد نفسه واحد بيننا في القرآن والإنجيل والتوراة.

لذلك آن لنا أن نمتنع عن اتهام بعضنا بعضاً بشرك أو بسواه؛ فنحن جميعنا أهل توحيد واحد، هو التوحيد الكتابي عينه بالحرف الواحد نفسه.

وأقول أكثر من ذلك: إن إيماننا بالمسيح هو أيضاً على حرف واحد، مهما اختلفنا في التأويل. المسيح هو (( كلمة الله )) في الإنجيل وفي القرآن.

ففي فاتحة الإنجيل بحسب يوحنا نتلو: (( في البدء كان الكلمة، والكلمة كان في الله، والله كان الكلمة، فهو منذ البدء في الله ... والكلمة صار بشراً وسكن في ما بيننا )) . أي كما يقول القرآن: (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) .

والآن، في هذا الحفل الكريم، تسمحون لي بهذه الشهادة الجامعة، وهي عنوان إيماننا جميعاً بالسيد المسيح:

أشهد أن لا إله إلا الله، وأن (( المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) ( النساء 170 ).

فليس السيد المسيح (( عيسى ابن مريم )) فقط؛ بل إِنما هو أيضاً (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) .

فحرف إيماننا جميعاً بالسيد المسيح واحد: إنه (( كلمة الله )) . ولكن قد نختلف في تأوليه.

ومهما اختلفنا في تأويل هذا الاسم الكريم، فلا يصحّ أن نفسّر (( كلمة الله )) بمعزل عن (( روح منه )) . إِنهما مترادفان يفسّر بعضهما بعضاً. فليس (( كلمة الله )) مجرد كلام الله، أو أمر الله؛ إنما هو (( روح منه )) تعالى: فهو ذات قائمة (( منه )) و (( فيه )) قبل إِلقائه إلى مريم.

فنحن على وحدة لنا جذرية في إيماننا نفسه بالسيد المسيح. وهذا محور إيماننا، وحوارنا بالحسنى والحكمة، في (( أمة واحدة )) .

ومتى بنيت الأمة على أساس هذه الوحدة الدينية والقومية والوطنية أفلحت، خصوصاً بقيادة البطريرك الحكيم والمفتي الحسن، على الحسنى والحكمة. والسلام على آل الحسنى والحكمة أجمعين.