الفصل السابع

تشجيع جديد لإبراهيم

مضت ثلاث عشرة سنة على ولادة إسماعيل دون أن يسمع إبراهيم فيها إعلاناً إلهياً، فالتوراة لا تسجل لنا شيئاً من ذلك. لا شك أنها كانت سنوات جافة لم يسمع فيها إبراهيم صوت الله صديقه المحب. وعندما كان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب له، وكان بينهما حديث صداقة حار. قال الله: »أَنَا اللّهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً، فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيراً جِدّاً« (تكوين 17:1 و2). وهذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها الله لإبراهيم عن نفسه أنه الله القدير. لقد كان إبراهيم محتاجاً أن يسمع عن »الله القدير« أن يتمم وعده له. ومع أن السنوات تمضي إلا أن الله أمين في تحقيق الوعد، وساهر على كلمته ليجريها. وطول أناة الله لا تعني أن الله لا ينفذ وعوده، أو أنه بطيء في تنفيذ الوعد، فإن الله وإن تأنى يستجيب ما يعِدُ به، ويتمّمه. الله القدير لا يصعب عليه أمر، قادر أن يفعل أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر. لقد أراد الله أن يقول لإبراهيم: »أنا الذي أُحيي الموتى، وأدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة. أنا أستطيع أن أُقيم من الحجارة أولاداً لك. أنا الله القدير الذي لا يعسر عليه شيء«.

قال الله لإبراهيم: »سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً« (تكوين 17:1). وليس المقصود بالكمال هنا أن إبراهيم لا يخطئ، فإنه لا يوجد إنسان لا يخطئ، وليس أحدٌ صالحاً إلا واحد وهو الله. لكن المقصود بالكمال هو كمال الثقة.. فيكون الله القدير وحده موضوع ثقة إبراهيم. ثم أن الله يعني بقوله: »كن كاملاً« كمال العزم والرغبة في إبراهيم على أن يعمل مشيئة الله الصالحة. ثم أن الله يقصد أن يكون إبراهيم كاملاً في إخلاصه لله، لأن عيني الرب تجولان في كل الأرض ليتشدد مع الذين قلوبهم كاملة نحوه. وكل من يسير مع الله يصبح كاملاً.

سر مع الله لتكون كاملاً.كن مستعداً أن تعمل مشيئته بكل قلبك. كن مخلصاً راغباً أن تفهم مشيئته وإرادته الصالحة.

ثم قال الله لإبراهيم: »أجعل عهدي بيني وبينك«. ومن هذا القول نرى كيف أن الله هو الذي يصنع العهد. ليس العهد من إبراهيم، ولا بفضل إبراهيم، لكنه عهد من الله بنعمة الله وفضل الله وإحسانه. لقد كان عهد الله مع إبراهيم تأكيداً للعهود الماضية. كان العهد مع إبراهيم عهداً شخصياً: »أجعل عهدي بيني وبينك«. إنه شخص مهم في نظر الله. وكان العهد أيضاً عن النسل: »أَجْعَلُكَ أَباً لِجُمْهُورٍ مِنَ الْأُمَمِ. وَأُثْمِرُكَ كَثِيراً جِدّاً... وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ عَهْداً أَبَدِيّاً، لِأَكُونَ إِلهاً لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ« (تكوين 17:5-7).

هذه الكلمات تشملنا نحن المؤمنين، فإن كل مؤمن بإله إبراهيم هو ابن إبراهيم في الإيمان. والله يحقق له الوعد. ويقول رسول المسيحية بولس: »الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِ« (غلاطية 3:9). ويقول لنا رسول المسيحية بطرس: »لِأَنَّ الْمَوْعِدَ هُوَ لَكُمْ وَلِأَوْلَادِكُمْ« (أعمال 2:39). كما يقول الإنجيل أيضاً: »فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذاً نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ، وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ« (غلاطية 3:29). إن هذه العهود جميعاً قد أُعطيت لنسل إبراهيم الروحي، الذين يؤمنون إيمان إبراهيم، ولم تُعْطَ لنسل إبراهيم الجسدي، فما أكثر الذين وُلدوا من إبراهيم جسدياً لكنهم لم يكونوا مؤمنين.

علامتان للعهد:

أعطى الله لإبراهيم عهداً وجعل لهذا علامتين: علامة صغيرة هي تغيير اسم إبراهيم وتغيير اسم سارة. كان اسمه أبرام، ومعناه أب رفيع، فصار اسمه إبراهيم ومعناه أب لجمهور من الأمم. وكان اسم زوجته ساراي فجعل الله لها اسماً جديداً هو سارة بمعنى أميرة.

ثم كانت هناك علامة كبيرة دائمة هي علامة الختان. قال: »تُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلَامَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمُْ، فَيَكُونُ عَهْدِي فِي لَحْمِكُمْ عَهْداً أَبَدِيّاً« (تكوين 17:11 و13). لقد طلب الله من إبراهيم أن يختن كل ذكر في بيته من العبيد وأبناء البيت. وأطاع إبراهيم، وخُتن إسماعيل وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وخُتن إبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة، وخُتن كل الرجال والأولاد في بيته.

لم يكن الختان شيئاً جديداً رسمه الله لإبراهيم، فقد كان معروفاً في بلاد كثيرة، لكن الله جعل للختان معنىً جديداً، عندما طلب أن يكون الختان علامة العهد. هذا تماماً يشبه قوس القزح الذي كان موجوداً قبل الطوفان، لكن الله اتخذ منه علامة عهد بينه وبين نوح بعد الطوفان (تكوين 9:12 - 15).

نرى في الختان بعض المعاني:

 كان الختان علامة التخصيص. في الختان أفرز الله شعباً خاصاً، وجعل علامة هذا الفرز والتخصيص في لحم من يرضى أن يدخل في العهد معه. ونحن نعلم أن كل مؤمن مخصَّص لله ومفروز له. فهل تحيا مخصصاً لله الذي يحبك، علامة لذلك العهد.

 وهناك معنى آخر للختان، هو أنه علامة الطهارة. قال رسول المسيحية بولس: »خِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ ... الَّذِي مَدْحُهُ... مِنَ اللّهِ« (رومية 2:29). قال أيضاً »خَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ« (كولوسي 2:11). ويطلق نبي التوراة إشعياء على الشخص النجس أنه أغلف - أي غير مختون (إشعياء 52:1). وفي العامية المصرية نقول عن الختان »طهارة«. ومن علامة الختان ندرك أن الله يريد أن يطهر المؤمنين من خطاياهم، وأن يغسلهم من شرورهم كما قال السيد المسيح: »طُوبَى لِلْأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لِأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللّهَ« (متى 5:8).

 ثم أن الختان علامة طاعة، فقد ختن إبراهيم كل الذين معه كما كلَّمه الله. قال لنا السيد المسيح: »اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي« (يوحنا 4:21). وقال كليم الله موسى: »وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ، لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا« (تثنية 30:6). إن الختان يعني أن الإنسان يطيع االله ويضع ثقته فيه.

درسان لنا من الختان:

نرى في العهد بالختان أمرين: (1) كان العهد لإبراهيم ولنسله، والله يريد الكبار والصغار له. (2) ثم أننا لا يجب أن ندخل في عهد مع شخص آخر غير الله. وفي نور عهدنا مع الله ندخل في العهود مع الناس. كثيرون يدخلون في عهود مع الناس، ويدخل غيرهم في عهد مع الشيطان. ولكن العهد الذي يجب أن نرتبط به هو العهد مع الله وحده. قال واحد من المؤمنين: »أنا لا أسأل إن كان الله في جانبي، لكني أسأل دوماً إنْ كنت أنا في جانب الله«. ويجب أن يسأل كل واحد منا نفسه إن كان في عهد مع الله وحده.

ثم مضى يقول لإبراهيم: »سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْداً أَبَدِيّاً لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اِثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ، وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. وَلكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ« (تكوين 17:19 - 21).