الفصل السادس

هاجر وإسماعيل

صار عمر سارة زوجة إبراهيم خمساً وسبعين سنة، وبلغ إبراهيم الخامسة والثمانين، ولم تلد سارة لإِبراهيم ابناً. وكانت سارة تعلم أن اللّه وعد إبراهيم أن يكون له نسل كثير، لكن اللّه لم يكن قد قال إن هذا النسل الكثير سيكون من سارة. كان الوعد الواضح أن إبراهيم سيكون أباً لجمهور من الأمم. وقد أعطى اللّه هذا الوعد عندما كان في أور الكلدانيين، ولم تكن له زوجة في ذلك الوقت سوى سارة، لأن التوراة تحكي لنا أن الذين خرجوا من أور الكلدانيين إلى كنعان كانوا: تارح أبا إبراهيم، وإبراهيم وزوجته سارة، ولوط.

ولما تأخرت سارة عن الولادة، ووصلت السن الذي لا تستطيع فيه أن تلد، فكرت في تحقيق ذلك الوعد القديم: أن يكون لإِبراهيم نسل ووارث. وكان عند سارة جارية مصرية اسمها هاجر، ربما جاءتها هدية من فرعون عندما أخذها إلى بيته. وقالت سارة لإِبراهيم: »الرَّبُّ قَدْ أَمْسَكَنِي عَنِ الْوِلَادَةِ. ادْخُلْ عَلَى جَارِيَتِي لَعَلِّي أُرْزَقُ مِنْهَا بَنِينَ« (تكوين 16:2). ولم يكن هذا التصرف غريباً في ذلك الوقت، فقد كانت عادة ذلك الزمان أن الزوجة التي لا تلد تعطي جاريتها لزوجها. وعندما تلد الجارية كانت تلد على ركبتي سيدتها، ويحسبون الطفل المولود طفل السيدة وليس طفل الجارية. ولا شك أن هذا العمل كان صعباً على سارة. كان تضحية من جانبها، لأنها أعطت جاريتها زوجة لزوجها. كما كان في طلب سارة أن يتزوج إبراهيم من هاجر إيمان منها بوعد اللّه لإبراهيم، أنه سيكون أباً لجمهور من الأمم. وقد أرادت سارة أن يكون إبراهيم أباً لجمهور من الأمم، ولو كان ذلك من جاريتها هاجر.

لكن هذا العمل كان خطأ. كان خاطئاً ضد هاجر، فقد كان من الممكن أن تتزوج خادماً مثلها، تعيش معه في سعادة، لأنها تتزوج ممن هو نظيرها، لكنها صارت أماً لابن إبراهيم دون أن تكون زوجة لإِبراهيم. لقد جعل هذا العمل هاجر تقف في موقف شاذ.. ضاعت شخصيتها ولم يكن الذنب ذنبها. لقد وضعوها في هذا المكان الغريب الشاذ.

ثم إن هذا العمل الخاطئ كان ضد سارة نفسها. كانت سيدة البيت الأولى، ولكنها نزلت عن مكانها، وحرمها هذا العمل الخاطئ من حقها العظيم في البيت، وفي نفس الوقت اشتركت مع إبراهيم في العصيان.

ولا يجب أن نلوم سارة، فنحن نقابل مشكلة مشابهة عندما نرى الناس من حولنا يرتكبون عملاً خاطئاً، فنشترك معهم في هذا العمل، بدون تفكير. كان الرجال زمن إبراهيم يتزوجون الجواري، ليكون هناك نسل للزوجات. وبدون تفكير عميق وبدون صلاة، عملت سارة كما يعمل أهل العالم من حولها. فلنحترس لئلا نتصرف التصرف الخاطئ، لأن المحيطين بنا يعملون هذا الخطأ كشيء طبيعي.

وهناك تحذير آخر نراه لنا في هذه القصة: إن نصيحة الصديق ليست دائماً صحيحة. سمع إبراهيم كلام سارة. لو جاءه الكلام من شخص آخر غير سارة لتردَّد. أما وقد جاء الكلام من سارة فقد أطاع. ولهذا السبب يجب أن نحترس من الأصحاب والأحباب. فقد يقدمون لنا نصيحة نقبلها لأنها جاءت من صديق، وتكون النصيحة خاطئة. جاءت وصية اللّه في سفر التثنية تقول: »وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرّاً أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ، أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ أَوِ امْرَأَةُ حِضْنِكَ، أَوْ صَاحِبُكَ الَّذِي مِثْلُ نَفْسِكَ... فَلَا تَرْضَ مِنْهُ وَلَا تَسْمَعْ لَهُ وَلَا تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَلَيْهِ وَلَا تَرِقَّ لَهُ وَلَا تَسْتُرْهُ« (تثنية 13:6 - 8).

على أننا يجب أن نذكر هنا أن إبراهيم يحترم سارة زوجته. لقد سمع كلامها وأطاع نصيحتها. كانت تدعوه سيدها. لكنه كان يعاملها بمحبة كاملة واحترام كامل، فسمع نصيحتها. وفي هذا درس لنا أن لا نسمع كلام أصحابنا مهما احترمناهم، بل نسمع كلمة اللّه مهما بدت صعبة وغريبة، فلا طاعة في معصية، و»يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللّهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ« (أعمال 5:29).

ثمن الخطأ:

تزوج إبراهيم من هاجر جارية سارة. ولما حبلت هاجر، بدأت الأمور تتغيَّر. لقد كانت النتيجة مصيبة على ذلك البيت الصغير. بدأت هاجر تتكبر حتى صغرت مولاتها في عينيها. لقد عرفت هاجر أن طفلها سيكون وارث البيت، وهذا معناه أنها ستصير سيدة البيت الأولى، فتكبَّرت على سارة.

ثم ملأ الحسد قلب سارة. دفع الحب والتضحية سارة لأن تطلب من زوجها أن يتزوج هاجر، ولكن لما حبلت هاجر امتلأت سارة بالغيرة، فقالت لإِبراهيم: »ظُلْمِي عَلَيْكَ! أَنَا دَفَعْتُ جَارِيَتِي إِلَى حِضْنِكَ، فَلَمَّا رَأَتْ أَنَّهَا حَبِلَتْ صَغُرْتُ فِي عَيْنَيْهَا. يَقْضِي الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ« (تكوين 16:5).

وواجه إبراهيم نفسه مشكلة: سارة طلبت منه أن يتزوج هاجر، والآن تقول له: »ظلمي عليك«. كيف يصنع إبراهيم سلاماً بين سارة وبين هاجر؟ سارة زوجته وهاجر ستكون أم ابنه. كان يجب أن يعرف إبراهيم كل هذا قبل حدوثه ويمتنع عن الزواج من هاجر، لكن عندما جرى هذا الذي جرى، أدرك إبراهيم الخطأَ الذي وقع فيه. فقال لسارة: »جَارِيَتُكِ فِي يَدِكِ. افْعَلِي بِهَا مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ« (تكوين 16:6). وهنا بدأت سارة تذل هاجر.

ولا نعرف كيف أذلت سارة هاجر، لكن الإِذلال كان قاسياً حتى هربت هاجر من البيت، وسارت في طريق يقود إلى مصر. لعلها أرادت أن ترجع إلى بلادها. ولما تعبت من السير جلست على عين ماء في الصحراء، وجاء ملاك الرب وسألها: »مِنْ أَيْنَ أَتَيْتِ، وَإِلَى أَيْنَ تَذْهَبِين؟«. فَقَالَتْ: »أَنَا هَارِبَةٌ مِنْ وَجْهِ مَوْلَاتِي سَارَايَ«. فَقَالَ لَهَا مَلَاكُ الرَّبِّ: »ارْجِعِي إِلَى مَوْلَاتِكِ وَاخْضَعِي تَحْتَ يَدَيْهَا«. وَقَالَ لَهَا مَلَاكُ الرَّبِّ: »تَكْثِيراً أُكَثِّرُ نَسْلَكِ فَلَا يُعَدُّ مِنَ الْكَثْرَةِ«. وَقَالَ لَهَا مَلَاكُ الرَّبِّ: »هَا أَنْتِ حُبْلَى، فَتَلِدِينَ ابْناً وَتَدْعِينَ اسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ، لِأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ«. وحين طلب الرب من هاجر أن تخضع، أعطاها وعداً بالمكافأة، فقال لها إن ابنها سيكون إسماعيل بمعنى: اللّه يسمع. في كل مرة تنادي هاجر ابنها إسماعيل تذكر الرب الذي سمع لمذلتها. ثم قال الملاك عن إسماعيل: »يَكُونُ إِنْسَاناً وَحْشِيّاً، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ« (تكوين 16:7 - 12). وهذا يعني أن إسماعيل سيحب الحرية، ويعيش متبدِّياً، ينتقل من مكان إلى مكان في حرية كاملة، لا يحدها قيد يمنعها من القتال والخصومة في طلب الماء والعشب لرعي المواشي.

الرب يرى:

عزيزي القارئ، التقى الملاك بهاجر وشجعها، فكان مكان لقائها بالملاك بركة لها، فأطلقت عليه إسم »إيل رُئي« بمعنى الرب يرى. ألا ترى معي كيف أن اللّه يرى ويلاحظ ويعتني؟ دعت هاجر اسم عين الماء بئر »لَحَي رُئي« ومعناها بئر الحي الذي يراني. عند تلك البئر حفظ الرب حياتها بعد أن التقت به، وأعادها إلى البيت الذي خرجت منه. ورجعت هاجر إلى بيت إبراهيم في خضوع، وولدت ابنها إسماعيل عندما كان إبراهيم في السادسة والثمانين من عمره (تكوين 16:13 - 16).

إسماعيل ابن الصلاة:

يرتبط اسم إسماعيل بالصلاة، فإن معنى اسمه »الله يسمع«. ويقول لنا الكتاب المقدس كيف أن الله سمع صلاته عندما كان طفلاً. لم يكن إسماعيل مرغوباً فيه في أسرته، فبعد ولادته حدثت معجزة: ولدت سارة ابناً لإبراهيم وهي في شيخوختها بحسب وعد الله لإبراهيم، وسمَّت طفلها إسحق، بمعنى »ضحك«. وأقاموا احتفالاً كبيراً يوم فطامه. وحدثت غيرة في نفس إسماعيل من أخيه غير الشقيق إسحق، فضايقه واستهزأ به. وأثار هذا الاستهزاء غضب سارة، فأصرَّت على أن يطرد إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل. ولم يعجب إبراهيم كلام سارة، لكن الله كلَّمه في حلم وقال له: »لَا يَقْبُحُ فِي عَيْنَيْكَ مِنْ أَجْلِ الْغُلَامِ وَمِنْ أَجْلِ جَارِيَتِكَ. فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لِأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وَابْنُ الْجَارِيَةِ أَيْضاً سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً لِأَنَّهُ نَسْلُكَ« (تكوين 21:12 و13). فأخذ إبراهيم خبزاً وقربة ماء وأعطاهما لهاجر، وصرفها هي وابنها.

وضلت هاجر في صحراء بئر سبع، وانتهى الماء من قربتها. وضعف إسماعيل بسبب العطش، فطرحته هاجر تحت إحدى الأشجار، ومضت وجلست مقابله بعيداً، لأنها قالت: »لا أنظر ولدي يموت«. ولا شك أن السؤال يتبادر إلى أذهاننا: ألم يقدم الرب وعداً لإبراهيم قائلاً: ابن الجارية سأجعله أمة، لأنه نسلك؟ فهل يمكن أن يموت إسماعيل عطشاً؟ ألا يجب أن تتحقق مواعيد الله في كلامه لإبراهيم؟ نعم، لا بد أن تتحقق المواعيد الإلهية. لذلك يقول الكتاب المقدس: »فَسَمِعَ اللّهُ صَوْتَ الْغُلَامِ. وَنَادَى مَلَاكُ اللّهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: »مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لَا تَخَافِي، لِأَنَّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلَامِ حَيْثُ هُوَ. قُومِي احْمِلِي الْغُلَامَ وَشُدِّي يَدَكِ بِهِ، لِأَنِّي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً«. وَفَتَحَ اللّهُ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلَأَتِ الْقِرْبَةَ مَاءً وَسَقَتِ الْغُلَامَ. وَكَانَ اللّهُ مَعَ الْغُلَامِ فَكَبِرَ« (تكوين 21:17-20) وسكن صحراء فاران، وكان ينمو رامي قوس. ولما كبر، زوَّجتهُ أمه زوجة مصرية من جنسيتها هي. وأنجب إسماعيل أولاداً وبنات صاروا شعباً قوياً. وعندما مات إبراهيم دفنه ابناه إسماعيل وإسحق.

عزيزي القارئ، أود أن أسألك إن كنت مررت باختبار يشبه اختبار إسماعيل؟ هل شعرت أنك شخص غير مرغوب فيك من الذين تتوقع منهم العناية والحب؟ هل رأيت آخرين يتمتعون بامتيازات لا تتمتع بها أنت؟ هل كانت لك آمال كبيرة وانتهت فجأة؟ هل اختبرت معنى الحرمان من محبة الأم ومن طمان البيت؟ ربما أهملتك أمك وكأن أحداً لا يهتم بك.

عندما تركت هاجر إسماعيل تحت الشجرة صلى، فسمع الله صراخه وأنقذه في قلب الصحراء، وأرشد أمه لتجد الماء الذي بعث الحياة في جسده. نعم هناك من يهتم. إن الله يهتم. كان للرب قصد عظيم في حياة إسماعيل. لا شك أن إسماعيل ارتبك وهو يرى التعقيدات في حياته، فذات يوم كانوا يعاملونه باعتبار أنه وارث إبراهيم والابن الوحيد له. وفي يوم آخر عاملوه على أنه ابن الجارية غير المرغوب فيه. كان يرى سارة وأمه تتعاركان باستمرار وتشكوان إلى إبراهيم. في بعض الأحيان كان إبراهيم لطيفاً معه، وفي أحيان أخرى كان يتصرف معه بطريقة خشنة مزعجة مخيفة. ولكن الصدمة الكبرى جاءته عندما طرده إبراهيم مع أمه هاجر من بيته، ولم يعطه سوى قربة ماء وبعض الخبز. إن للرب قصداً في حياة إسماعيل، وتحقق هذا القصد عندما صلى إسماعيل، فكانت صلاته نقطة التحول في حياته. وعندما أطاعت أمه توجيهات ملاك الرب اكتشفت الماء الذي كانت تحتاج إليه هي وابنها. ولم يرجع إسماعيل إلى محل إقامة أبيه، لكنه أقام لنفسه مسكناً مستقلاً. إن هذا يذكرنا بقول نبي الله داود: »اتَّكِلْ عَلَى الرَّبِّ وَافْعَلِ الْخَيْرَ. اسْكُنِ الْأَرْضَ وَارْعَ الْأَمَانَةَ. وَتَلَذَّذْ بِالرَّبِّ فَيُعْطِيَكَ سُؤْلَ قَلْبِكَ. سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي« (مزمور 37:3 - 5).

عندما تنغلق في وجهك أبواب الأرض كلها، ستجد دوماً أبواب السماء مفتوحة!