دِرَاسات إنجيلية (2)

The Evangelical Studies ( 2 )

تَاريخ المَسيحيَّة

 في سِفْر أعمَـال الرّسـُل

The History of the Christianity

 In the Book of Acts

الأرشمِندريْت يُوسف درّة الحدّاد

Archimandrite Youssef Durrah alـHaddad

www.muhammadanism.org
January 3, 2005
(Arabic)

2

تَاريِخ المَسيحيّة

 في سِفْر أعمَـال الرّسـُل

طبعة ثانية

جونيه 1990

أعاد النظر فيها ونقّحها

الأب جورج باليكي البولسي

مَنشورَات المَكتَبة البُولسِيّة

 

دِرَاسَاتٌ إنجيلية

2

تَارِيخ المَسيحيَّة

 في سِفْر أعمَـال الرّسـُل

الأرشمِندريْت يُوسف درّة الحدّاد

مَنشورَات المَكتَبة البُولسِيّة

تقــْديم

صدر (( تاريخ المسيحيّة )) للأرشمندريت يوسف درّة الحداد، عام 1968، بثلاثة كتب في جزء واحد. وكان يشمل في الكتاب الأول : الإنجيل بحسب لوقا؛ وفي الكتاب الثاني : أعمال الرسل؛ وفي كتاب ثالث مستقلّ أنزله ما بين الاثنين : (( سيرة السيّد المسيح في الإنجيل بحسب أحرفه ( أي نصوصه ) الأربعة )) .

وفي طبعة عام 1989 هذه، فُصل الكتابان الأول والثاني تسهيلاً لاقتنائهما ومساعدة لطلاب اللاهوت والكتاب المقدّس في دراستهما. واحتفظنا بالكتاب الثالث المستقلّ مع الكتاب الأول، فيشكل هكذا خاتمةً للإنجيل المقدّس.

وبذلنا جهداً في تصحيح ما ورد من أخطاء في الطبعة الأولى، وزدنا ما يلزم من عناوين تسهّل الرجوع إلى دراسة الفصول.

وبهذه الطريقة سوف تظهر أجزاء سلسلة (( مصادر الوحي الإنجيلي )) كلٌّ في كتابين، فتشكل في مجموعها ثمانية كتب :

الجزء الأول

: الدفاع عن المسيحيّة :

1) في الإنجيل بحسب متى

   

2) في الإنجيل بحسب مرقس.

الجزء الثاني

: تاريخ المسيحيّة :

1) في الإنجيل بحسب لوقا

   

2) في سفر أعمال الرسل.

الجزء الثالث

: فلسفة المسيحيّة :

1) الرسول بولس

   

2) رسائل بولس.

 

6 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تقديم

الجزء الرابع

: صوفيّة المسيحية :

1) في الإنجيل بحسب يوحنا

   

2) في سفر الرؤيا

 

وأملنا أن تسهم هذه السلسلة في إخراجها الجديد في نشر الكلمة، ليس فقط في الأوساط الإكليريكيّة بل في المجتمع المسيحيّ فيقبل الجميع على قراءة الإنجيل المقدّس والتعمّق في دراسته.

 

جونيه، في 21 أيار 1989.

الأب جورج باليكي البولسي

 

فهرس

تَاريخ المَسيحيّة

 في سِفْر أعمَـال الرّسـُل

تقديم

 

5

الكتاب الثاني

: أعمال الرسل أو تاريخ نشأة المسيحيّة

17

توطئة

: منزلة سفر (( الأعمال )) في مصادر الوحي الإنجيليّ

19

الفصل الأول

: تمهيد في سفر الأعمال وكاتبه

21

بحث أول

: لوقا هو كاتب سفر الأعمال

23

أولاً

: شهادة السنّة المسيحية المتواترة

23

ثانياً

: الشهادة الذاتية في سفر الأعمال

26

 

1 ـ شهادة الكتاب نفسه

26

 

2 ـ مقارنة سفر الأعمال بالإنجيل تُظهر وحدة الكاتب

27

 

3 ـ مقارنة القسم الثاني الشخصي بالقسم الأول تُظهر

 
 

وحدة الكاتب

29

ثالثاً

: شبهات على صحة النسبة إلى لوقا

31

بحث ثانٍ

: غاية لوقا في سفر الأعمال : تاريخ ودعوة ودفاع

34

 

غاية لوقا الأولى تاريخيّة

34

 

غاية لوقا الثانية تعليميّة

34

 

غاية لوقا الثالثة دفاعيّة

35

بحث ثالث

: زمن التدوين ومكانه

39

بحث رابع

: نص سفر الأعمال : الشرقي والغربي

43

8 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

الفصل الثاني

: تحليل سفر الأعمال

45

الفصل الثالث

: أسلوب سفر الأعمال

65

بحث أول

: الأسلوب اللغويّ

67

 

1 ـ لغة فصيحة غنيّة

67

 

2 ـ مع استخدام مصادره على حرفيّتها في القسم الأول

68

بحث ثانٍ

: الأسلوب الإنشائيّ

69

 

1 ـ إنشاء من الأدب اليوناني الرفيع

69

 

2 ـ كل قصة، وكل خطبة، وحدة فنية قائمة في عقد

 
 

الجمان

69

 

3 ـ لوقا خطيب في إيجاز خطب بولس الدفاعية عن نفسه

70

 

4 ـ يعرف أن يحدث الأبعاد الفكرية أو النفسية بأسلوبه

70

بحث ثالث

: الأسلوب البيانيّ

71

 

1 ـ التاريخ يتّسع من حلقة ضيّقة إلى دائرة أوسع

71

 

2 ـ التعليم موزّع في الخطب العشرين

73

 

3 ـ بلاغة الدفاع تظهر خصوصاً في خطب بولس الدفاعية

74

بحث رابع

: الأسلوب التاريخيّ

77

أولاً

: مصادر سفر الأعمال

78

ثانياً

: أمانة لوقا في نقل مصادره

80

ثالثاً

: نزاهة لوقا في عرض الأحداث

84

بحث خامس

: الصحة التاريخيّة في سفر الأعمال

87

أولاً

: الصحة التاريخيّة جملةً

87

ثانياً

: الصحة التاريخيّة تفصيلاً

91

فهرس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 9

 

1 ـ في الخوارق التي تملأ سفر الأعمال

91

 

2 ـ في الخطب العشرين

91

 

3 ـ البيان والتعليم في قصَصه

93

 

4 ـ بعض الشبهات على تاريخيّة سفر الأعمال

94

 

1) جماعة الرسل وجماعة قمران

94

 

2) الأخطاء التاريخيّة في خطاب جمالئيل

95

 

3) التعارض في رواية آخرة يهوذا

95

 

4) التعارض في الفترة الممتدة ما بين القيامة والصعود

96

 

5) التعارض ما بين خطاب اسطفان والتوراة

97

 

6) خطاب بولس في ندوة أثينا

100

 

7) الخلاف بين روايات هداية بولس

100

 

8) مجمع أورشليم ما بين لوقا وبولس

101

 

9) أسفار بولس ما بين لوقا وبولس نفسه

103

 

10) الآثار التاريخية تثبت صحة تاريخية لوقا

104

الفصل الرابع

: شهادة سفر الأعمال

107

توطئة

: قيمة سفر الأعمال الفريدة، في شهادته

109

تمهيد

: العنصرة ما بين تنزيل الشريعة وتنزيل الروح

112

بحث أول

: (( الإنجيل قبل الأناجيل )) في سفر الأعمال

116

أولاً

: هذا هو (( الإنجيل قبل الأناجيل ))

117

ثانياً

: مسيح القيامة والإيمان هو يسوع التاريخ نفسه

119

بحث ثانٍ

: سفر الأعمال هو (( إنجيل القيامة ))

121

أولاً

: البلاغ الرسولي بقيامة المسيح ورفعه حيّاً إلى السماء

122

ثانياً

: جدليّة القيامة في الدعوة الرسولية الأولى

124

10 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

 

1 ـ دعوة الرسل تقوم على الشهادة بالمشاهدة العيان

124

 

2 ـ تلكما المشاهد والشهادة تزكيهما شهادة كتاب الله

125

 

3 ـ وهذه الشهادة الرسولية والكتابيّة يؤيّدها الروح القدس

126

ثالثاً

: الشك الأكبر في صلب المسيح تبرّره نبؤة الكتاب به

128

 

1 ـ (( شك الصليب )) زال بقيامة المسيح

129

 

2 ـ استشهاد المسيح برهان مسيحيته

129

 

3 ـ فصول الاستشهاد مصوّرة في الكتاب

130

 

4 ـ استشهاد المسيح صلباً مصوَّر في الكتاب

130

رابعاً

: نبؤات الكتاب تمّت في سيرة المسيح ورسالته

130

 

1 ـ تتميم النبؤات في يسوع الناصري

131

 

2 ـ قيامة المسيح تكشف سر شخصيّته وسرّ رسالته

132

بحث ثالث

: سفر الأعمال هو إنجيل الدعوة المسيحية الأولى

134

توطئة

: مسيح الإيمان فيها هو يسوع الناصري المصلوب

134

 

1 ـ في خلوة العلّية الصهيونيّة

135

 

2 ـ في البلاغ الرسولي الأول للشعب

135

 

3 ـ في البلاغ الرسولي الثاني للشعب

136

 

4 ـ في البلاغ الرسولي الأول للسنهدرين

137

 

5 ـ في صلاة المسيحيين الأولى

138

 

6 ـ الشهادة المسيحيّة الأولى كانت (( الشهادة بقيامة الرب

 
 

يسوع ))

139

 

7 ـ في البلاغ الرسولي الثاني للسنهدرين

140

 

8 ـ شهادة الدم والكشف في استشهاد أسطفان

140

 

9 ـ في البلاغ الرسولي الأول للوثنيّين الأمميّين

141

 

10 ـ في هداية بولس المعجزة، ودعوته الأولى

142

فهرس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 11

ختام

: فدعوة بولس ودعوة بطرس والرسل واحدة في موضوعها

143

بحث رابع

: سفر الأعمال هو (( إنجيل الرب يسوع ))

144

توطئة

: شعار الدعوة الرسولية الأولى هو (( الرب يسوع ))

144

أولاً

: يسوع هو (( المسيح الرب )) في الدعوة الرسولية الأولى

145

 

1 ـ المسيح المشهود أفضل من المسيح الموعود

146

 

2 ـ المسيح الرب هو (( الرب يسوع )) في الدعوة الرسولية

 
 

الأولى

147

ثانياً

: يسوع (( ابن الله )) في الدعوة الرسولية الأولى

151

توطئة

: بولس يشهد (( لابن الله )) بشهادة الرسل أنفسهم

151

 

1) شهادة العماد (( باسم الآب والابن والروح القدس ))

 
 

سبقت بولس

151

 

2) الصيغ العديدة المتواترة للشهادة (( لابن الله )) قبل بولس

 
 

وبعده

152

 

3) وقائع واعتبارات أربعة لمناداة بولس بالمسيح (( ابن

 
 

الله ))

153

 

1 ـ الدعوة الرسولية الأولى تنسب للمسيح أسماء الله

 
 

الحسنى وصفاته

156

 

2 ـ الدعوة الرسولية الأولى تنسب للمسيح أحوالاً إلهية

161

 

3 ـ الدعوة الرسولية الأولى تنسب للمسيح أعمالاً إلهية

164

بحث خامس

: سفر الأعمال هو (( إنجيل الروح القدس ))

168

توطئة

: الظاهرة الكبرى للعهد المسيحي هو عهد الروح القدس

168

أولاً

: العهد المسيحي هو عهد الروح القدس

168

 

1 ـ يوم العنصرة يستولي (( الروح )) على جماعة المسيح

169

12 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

 

2 ـ دخول (( الروح )) في البشرية، بواسطة الكنيسة ـ

 
 

ورسالته

169

 

3 ـ مظاهر الروح القدس الخارقة في الكنيسة

170

 

4 ـ مظاهر الروح القدس العاديّة في الكنيسة

171

 

5 ـ الروح القدس يحيا في الكنيسة، فتحيا به ومنه

173

ثانياً

: مَن هو الروح القدس ؟

173

 

1 ـ الروح القدس ـ لا (( روح القدس )) بالإضافة

173

 

2 ـ في العهد القديم يظهر الروح القدس قدرة إلهية أكثر

 
 

منه ذاتاً إلهيّة

174

 

3 ـ الروح القدس ذاتٌ إلهية في الله نفسه

174

     
 

1) أعماله أعمال ذات، لا أعمال قوّة معنوية

175

 

2) هذه الأعمال الذاتية هي أعمال إلهية

175

 

3) فالروح القدس ذاتٌ إلهية في الله الواحد الأحد

176

بحث سادس

: التثليث والتوحيد، في الدعوة الرسولية الأولى

180

توطئة

: دعوة رسل المسيح هي التثليث في التوحيد

180

أولاً

: التوحيد التوراتي الإنجيليّ

180

ثانياً

: التثليث المسيحيّ في التوحيد

183

 

1 ـ فالله هو الآب

183

 

2 ـ و (( الرب يسوع )) هو (( فتى الله القدوس )) أي (( ابن الله ))

184

 

3 ـ والروح القدس هو ذاتٌ إلهيّة مع الله الآب والرب

 
 

يسوع

185

خاتمة

: هذا هو واقع الدعوة الرسولية الأولى

186

     

بحث سابع

: (( إنجيل الخلاص )) في دعوة الرسل الأولى

187

     

أولاً

: الخلاص المسيحي، في لغته وتعابيره

187

فهرس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 13

 

1 ـ (( كلمة الرب )) تعطي (( الخلاص ))

187

 

2 ـ والخلاص بالمسيح هو الحياة

188

 

3 ـ فالمسيحية هي (( الصراط المستقيم ))

188

 

4 ـ الصراط والخلاص هي (( البشرى )) أي الإنجيل

190

 

5 ـ الإنجيل هو (( كلمة الله )) على الإطلاق

190

ثانياً

: كيفيّة الخلاص المسيحيّ

193

     
 

1 ـ يقوم أولاً على غفران الخطايا ـ الناحية السلبيّة

193

 

2 ـ ميزته أنه يعطي الروح القدس ـ الناحية الإيجابيّة

193

 

3 ـ التوبة لله، والإيمان بالمسيح، والعماد بالروح هي

 
 

الشروط

194

 

4 ـ والطريقة العادية للاتصال بالله الثالوث هي الصلاة

195

 

5 ـ والطريقة الفضلى هي (( كسر الخبز ))

196

ثالثاً

: مصدر الخلاص المسيحيّ

198

 

1 ـ مصدر الخلاص في إنجيل الصليب وإنجيل القيامة

198

 

2 ـ لكن بولس يركّز دعوته على الفداء بالصليب، مع

 
 

ذكر القيامة

199

بحث ثامن

: سفر الأعمال هو (( إنجيل الكنيسة ))

200

أولاً

: المسيحية عقيدة

200

ثانياً

: المسيحية جماعة منظمة أي (( كنيسة ))

201

 

1 ـ فالكنيسة الرسولية جماعة منظمة، تحت قيادة شرعيّة

 
 

قائمة

201

 

2 ـ كنيسة المسيح وملكوت الله

203

 

3 ـ كنيسة الرسل لها قيادة قائمة، رئاسيّة

207

بحث تاسع

: كنيسة الرسل وجماعة (( يسوع الناصري ))

209

14 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

 

1 ـ في الإنجيل : تأسيس

209

 

1) رسالة المسيح تقيم دعوة، وتنشئ جماعة تحملها

209

 

2) عند لوقا هذه الجماعة من ثلاث طبقات

210

 

3) وقد ميّز المسيح بطرس في السلطان

211

 

2 ـ في سفر الأعمال : تحقيق التأسيس

212

 

1) قيادة الدعوة

212

 

2) تنظيم الجماعة

212

بحث عاشر

: السلطة الدينية في كنيسة الرسل

214

 

1 ـ الواقع التاريخي : الرسل شهود وقادة

214

 

2 ـ قيادة الرسل ليس خدمة فقط، إنما هي سلطان خاص

215

 

3 ـ ممارسة السلطان الرسولي هي بيد الرسل

216

 

4 ـ مكانة يعقوب وأورشليم من السلطان الرسولي

217

 

5 ـ زعامة بطرس هي الظاهرة الكبرى في السلطان الرسولي

222

بحث حادي عشر

: الحياة المسيحية في كنيسة الرسل

228

 

1 ـ ثلاث ظواهر روحية تميّز المسيحية عن سواها

228

 

1) الظاهرة الكبرى الأولى : حياة روح الله والمسيح في

 
 

الجماعة

228

 

2) الظاهرة الكبرى الثانية : الشهادة، بالروح القدس

 
 

للرب يسوع

228

 

3) الظاهرة الكبرى الثالثة : الحياة في المسيح، بالروح،

 
 

لله الآب

229

 

2 ـ ثلاثة مظاهر دينية للحياة المسيحية

229

 

1) المظهر الأول : العماد : وتنزيل الروح القدس

229

 

2) المظهر الثاني : الصلاة باسم الرب يسوع

230

 

3) المظهر الثالث : (( كسر الخبز )) للاشتراك بالمسيح

230

فهرس ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 15

 

3 ـ ثلاثة مظاهر اجتماعيّة للحياة المسيحيّة

232

 

1) المظهر الاجتماعيّ الأول : (( المواظبة على تعليم الرسل ))

232

 

2) المظهر الاجتماعيّ الثاني : الوحدة المسيحيّة

232

 

3) المظهر الاجتماعيّ الثالث : الحياة الاشتراكيّة

232

بحث ثاني عشر

: تعليم الرسل ودعوة المسيح

234

أولاً

: ملكوت الله في الإنجيل وفي الأعمال

234

 

1 ـ في الإنجيل، يسوع يوحّد تدريجيّاً بينه وبين الملكوت

234

 

2 ـ لذلك في سفر الأعمال يدعو الرسل للملكوت بالدعوة

 
 

للمسيح

237

 

3 ـ وبولس بالدعوة (( لابن الله )) يدعو للمسيح ولملكوت

 
 

الله معاً

238

ثانياً

: استشهاد المسيح كان فداءً في دعوة المسيح ورسله

240

 

1 ـ في الإنجيل موت المسيح استشهاد وفداء معاً

240

 

2 ـ في الأعمال أكمل الرسل تعليم المعلم

240

 

1) (( عار الصليب )) كان استشهاداً للشهادة

240

 

2) (( عار الصليب )) كان استشهاداً للفداء

242

ثالثاً

: معنى الفداء في الاستشهاد هو من تعليم المسيح نفسه

243

 

1) في تصاريح يسوع عن استشهاده

244

 

2) في تصاريح يسوع عن مجد قيامته

244

 

3) وقد تدرّج يسوع من الإشارة إلى التصريح

245

 

4) فلم يستنبط الرسل معنى الفداء لسَتر (( عار الصليب ))

246

بحث ثالث عشر

: مسيح الإيمان ويسوع التاريخ، في سفر الأعمال

248

أولاً

: في كل البلاغات الرسوليّة المسيح هو يسوع الناصري

 
 

المصلوب

249

ثانياً

: وفي الإنجيل يعلن يسوع عن نفسه أنه المسيح الرب

250

16 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فهرس

ثالثاً

: انفراد يسوع بتسمية الله (( أبـَّا )) أي (( يا أبي ))

253

بحث رابع عشر

: قمران والإنجيل

255

 

1 ـ اكتشاف المخطوطات

255

 

2 ـ جماعة قمران

256

 

3 ـ المعمدان وقمران

260

 

4 ـ قمران وكنيسة أورشليم

263

 

5 ـ هل كان لبولس علاقة بالدعوة القمرانيّة ؟

264

 

6 ـ ما هي صلة الإنجيل بحسب يوحنا بالأدب القمراني ؟

265

 

7 ـ يسوع والدعوة القمرانية

266

فصل الخطاب

: قيام المسيحية معجزة إلهية

269

أولاً

: المسيحية معجزة إلهية في قيامها

271

ثانياً

: المسيحية معجزة إلهية في وسائلها

274

 

1 ـ إعجاز الكلمة، هذه هي وسيلة المسيحيّة الأولى

275

 

2 ـ سلطان المعجزة يؤيّد سلطان الكلمة

277

 

3 ـ سلطان القداسة يؤيد الكلمة والمعجزة

278

 

4 ـ ويأتي الاستشهاد فتتمّ به الشهادة التي لا تردّ

280

 

5 ـ وسيلة الوسائل هي تأييد الروح القدس للدعوة

281

ثالثاً

: المسيحيّة معجزة إلهية في سرعة انتشارها

282

 

1 ـ انتشرت في العالم في مدة ثلاثين سنة

282

 

2 ـ ملحمة الدعوة المسيحية دليل إلهيّتها

282

 

3 ـ وذلك بسبب وسائلها الإلهية

282

 

4 ـ دور بولس في نشر المسيحية

283

 

5 ـ فالمسيحية ملحمة تاريخية، كما هي معجزة إلهية

284

 

6 ـ نشأتها معجزة المعجزات في تاريخ الأديان كلها

285

الكتاب الثاني

 

 

أعـْمَالُ الرُّسـُل

أو

تَاريخ نشأة المَسِيحيَّة

 

[ Blank Page ]

منزلة سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 19

 

توطئة

منزلة سفر (( الأعمال )) في مصادر الوحي الإنجيلي

 

لسفر (( أعمال الرسل )) ، في مصادر الوحي الإنجيلي، مكانة عظمى

فهو الذي يقص علينا نشأة المسيحية في العالم الإسرائيلي فالعالم الهلنستي، من إنطاكية إلى آسيا الرومانية، إلى اليونان، إلى رومة عاصمة الوثنية والسلطان. نرى فيه معجزة انتشار المسيحية بسلطان الكلمة والمعجزة والقداسة، بالاضطهاد والاستشهاد، لا بالفتح العسكري والجهاد، في فلسطين وسوريا مدى عشر سنوات، وفي مدى عشرين سنة، في أرجاء الدولة الرومانية، حتى رومة عاصمة (( المسكونة )) .

قال المرحوم الأستاذ العقاد في ( حياة المسيح ص 197 ) : (( وبعد فمن الحق أن نقول : إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن ولم تنقضِ بانقضاء أيامها في عصر الميلاد : رجل ينشأ في بيت نجار، في قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً تضيع في أطوائها دولة الرومان؛ ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذا الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضمّ أقليم واحد قد يخضع إلى حين، ثم يتمرّد ويخلع النير، ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام )) .

ومن ناحية أخرى، يساعدنا سفر (( الأعمال )) على فهم أسفار العهد الجديد كلها تقريباً.

20 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ توطئة

فهو الإطار التاريخي لسائر أسفار الوحي الإنجيلي، نرى بواسطته مشاهد بيئاتها التاريخية والعنصرية والنفسية والكلامية.

وفيه صيغ الدعوة الرسولية الأولى، نرى منها كيف فهم الرسل السيد المسيح ودعوته، حالاً بعد قيامته ورفعه إلى السماء؛ وكيف بشّروا بالدعوة المسيحية في العالم الإسرائيلي والهلنستي.

وتظهر صحة تاريخيته في أنه لا يذكر لنا نشأة المسيحية إلا في العالم الهلنستي، لأن لوقا كاتبه عرفها بنفسه، أو تحقّق منها بنفسه؛ ولا ينقل لنا نشأَة المسيحية خارج العالم الهلنستي، لأنه لم يعرفها أو لم يتحقق منها بنفسه.

فسفر (( أعمال الرسل )) هو إنجيل الدعوة الرسولية الأولى للمسيحية وتأتي تاريخيّاً الأناجيل المؤتلفة في المرحلة الثانية من الدعوة الرسولية، حين شعر المهتدون بالحاجة إلى معرفة مصادر ايمانهم، وحين شعر رسل المسيحية بضرورة تدوين الإنجيل الشفوي الذي به يدعون.

وفي سفر الأعمال نرى نشأة الكلام المسيحي، وصيغه الابتدائية للعقيدة المسيحية، حين حاول الرسل أن يصوغوها في بلاغاتهم الأولى. تلك الصيغ البدائية، في البلاغات الرسولية، هي الجذور التي سينبت عليها الكلام الإنجيلي الذي نراه في تضاعيف الأناجيل المؤتلفة، والحكمة المسيحية في رسائل العهد الجديد، والصوفية المسيحية في مدرسة يوحنا الرسول.

تلك هي منزلة سفر (( أعمال الرسل )) في مصادر الوحي الإنجيلي.

 

 

d f

الفصْلُ الأول

تمهيدٌ في سِفْر الأعْمَال وَكَاتبِهِ

 

بحث أول

: لوقا هو كاتب سفر الأعمال

   

بحث ثانٍ

: غاية السفر : تاريخ ودعوة ودفاع

   

بحث ثالث

: زمن التدوين ومكانه

   

بحث رابع

: نص سفر الأعمال : الشرقيّ والغربيّ

 

[ Blank Page ]

لوقا هو كاتب سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 23

 

في هذا الفصل التمهيدي، نرى مَن هو كاتب سفر الأعمال، وصحّة نسبته إلى لوقا الإنجيلي تتمة لإنجيله، وأهدافه، وزمان تدوينه، ومكان وضعه وبيئته؛ ونختم ببحث صحّة النص.

بحث أول

لوقا هو كاتب سفر (( الأعمال ))

 

من شهادة السُنّة المسيحية المتواترة، ومن شهادة الكتاب الذاتية، نتحقق أن لوقا هو كاتب سفر (( أعمال الرسل )) .

أولاً : شهادة السنّة المسيحية المتواترة

لقد أجمعت السنّة المسيحية بالتواتر، والإسناد المتصل بالرسل، أن لوقا هو

24 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

كاتب (( الأعمال )) مثل الإنجيل. والشهادة للكتابين واحدة في الإجماع والتواتر والسند المتصل. يؤيد صحة النسبة إليه، تلاوة الكتاب باسمه في الكنائس المسيحية كلها من عهد الرسل إلى اليوم.

1 ـ فشهادة الكنيسة الرومانية المتواترة قد دوّنت في قانون ( موراتوري ) الذي يرتقي إلى أواخر القرن الثاني : (( وأعمال جميع الرسل كُتبت في كتاب واحد، وضعه لوقا للنبيل تيوفيل )) .

وهناك (( تصريح )) روماني من العهد ذاته، يشهد بأن (( لوقا لم يذكر استشهاد بطرس، ولا رحلة بولس إلى إسبانيا، لأن لـوقا لم يذكر إِلا ما عرفه بنفسه، أو تأكّده بذاته من مصادره )) .

وهكذا تجمع السنّة المتواترة بين الإنجيل الثالث وسفر الأعمال في وحدة المؤتلف، وتسمية لوقا، تلميذ بولس حتى الاستشهاد.

2 ـ ومنذ أواخر القرن الثاني أيضاً وُضعت (( مقدمات )) قديمة للأناجيل والأعمال. وهذه المقدمات تنص على أن لوقا كان طبيباً، وتلميذاً للرسل، وتابعاً لبولس. وقد عاش نحو 84 سنة. وهو الذي كتب الإنجيل ومن بعده سفر الأعمال. فهذه المقدمات للكتب المقدسة تنقل السنّة المتواترة في المسيحية الأولى بالإجماع.

3 ـ ولنا على السند الصحيح المتصل بالرسل، في هذه السنّة المتواترة بالإجماع، شهادة الأسقف العلامة، ايريناوس، ابن الشرق، وأسقف ليون في فرنسا، وتلميذ بوليكربوس، تلميذ يوحنا الرسول، والذي رافق معلمه إلى رومة، في النصف الثاني من القرن الثاني. فهو يشهد بصحة نسبة (( الأعمال )) إلى لوقا، صاحب الإنجيل. يذكر السفر نحو خمسين مرة، وأحياناً كثيرة مع نسبته إلى

لوقا هو كاتب سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 25

لوقا. ويسمي (( الأعمال )) : (( شهادة لوقا للرسل )) ( الرد على الهرطقات ك 3 ف 12 د 1 ـ 10 )1 . فالسند محكم متصل من ايريناوس إلى معلمه بوليكربوس تلميذ يوحنا الرسول الذي على حياته كان الإنجيل والأعمال قد شاعا في المسكونة.

4 ـ ولمَّا بدأَ أهل البدعة، مع مرقيون، يتنكرون لصحة نسبة الأعمال إلى لوقا، كتب العلامة ترتليان، من إفريقيا، في أواخر القرن الثاني، يرد عليهم، ويؤكّد صحة النسبة إلى لوقا، وصحة رسولية شهادته وتاريخيتها، بمقارنتها برسائل بولس ( الرد على مرقيون ك 5 ف 2 )2 .

5 ـ ومن أواخر القرن الثاني، ومطلع القرن الثالث، نسمع شهادة علماء مدرسة الإسكندرية، أكليمنضوس الإسكندري، والعلامة أوريجين. يذكر أكليمنضوس خطاب بولس في أثينا، ويقدم له بقوله : (( ولوقا أيضاً، في أعمال الرسل، ينقل أن بولس ... )) ( السترومات ك 5 ف 12 )3 .

فنسبة سفر الأعمال إلى لوقا متواترة في الإسكندرية. فيقول أوريجين ( الرد على كلسوس ك 6 ف 11 ) : (( كما شهد لوقا في سفر الأعمال )) : فالقضية مسلّم بها لا تقبل جدلاً.

6 ـ وفي أواخر القرن الرابع يجمع أفسابيوس، أسقف قيصرية فلسطين العلامة، شهادة الأجيال الأولى في كتابه ( تاريخ الكنيسة ك 1 ف 5؛ ك 2 ف 8 و9؛ ك 3 ف 4؛ ك 6 ف 25 )؛ وهو ينسب الإنجيل الثالث وسفر الأعمال بكل صراحة إلى لوقا نفسه. كذلك شهادة جيروم.

ــــــــــــــــــ

(1) قابل مجموعة الآباء اليونان ك 7 ص 892 ـ 905؛ ك 13 ف 3 ص 912؛ ك 14 ف 1 ص 914.

(2) قابل مجموعة الآباء اللاتين ك 2 ص 472.

(3) قابل مجموعة الآباء اليونان ك 11 ص 124.

26 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

7 ـ أخيراً لم يشك أحد من العلماء الأولين بصحة نسبة سفر الأعمال إلى لوقا، إلا بعض أهل البدعة، لغرضهم : والغرض مرض. وهذا برهان الإجماع والتواتر والسند الصحيح.

ثانياً : الشهادة الذاتية، في سفر الأعمال

1 ـ شهادة الكتاب الذاتية تزكّي شهادة السنّة المسيحية المتواترة.

1) لغته الفصيحة، حيث يستقل عن مصادره الأرامية، وإِنشاؤه الرفيع، دليل على أن واضعه ذو ثقافة عالية، واسع الاطلاع على الأشخاص والأماكن والأحداث والأخلاق والخلافات الداخلية. وهذه الصورة تنطبق على لوقا. يؤيد ذلك أنه يميل إلى إعلاء شأن إنطاكية كمركز للرسالة المسيحية، يرجع إليه بولس، بعد رحلاته الرسولية يخبر بما جرى له. وهذا يوحي من طرف خفي أن كاتبه من إنطاكية. ولوقا وحده بين دعاة المسيحية المعروفين من إنطاكية1 .

2) والأديب كاتب سفر الأعمال طبيب أيضاً، كما يظهر من دقة تعابيره الطبية الكثيرة. وقد أجمع العلماء على ذلك مع هرنك : (( من المستحيل، كما يظهر لي، أن نشك في أن الإنجيل الثالث وأعمال الرسل قد كتبهما طبيب ))2 . ونعرف أن الطب والأدب كانا متلازمين عند الأقدمين. ولوقا، بين دعاة المسيحية، هو الوحيد الذي يجمع في شخصه بين الصفتين.

3) ويظهر من سفر أعمال الرسل أن هذا الطبيب الأديب كان تلميذ بولس ورفيقه في رحلاته الرسولية، كما يظهر من تخصيصه 15 فصلاً من أصل 28 لبولس.

ــــــــــــــــــ

(1) قابل أع 6 : 6؛ 11 : 20 و22 ـ 24 و25 ـ 26 و27 ـ 30؛ 13 : 1 ـ 3؛ 15 : 1 ـ 2 و36 ـ 39.

(2) هرنك : لوقا الطبيب ص 198.

لوقا هو كاتب سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 27

ويظهر أيضاً من سياق الرواية، حين الانتقال في الحديث من الغيبة إلى المتكلم، أن كاتبه شاهد عيان يشترك أحياناً في العمل الرسولي مع بولس.

ووحدة اللغة بين بولس وكاتب الإنجيل الثالث وسفر الأعمال ظاهرة. هكذا نجد 29 تعبيراً مشتركاً بين متى وبولس؛ و20 بين مرقس وبولس؛ و17 بين يوحنا وبولس؛ لكننا نجد 84 تعبيراً مشتركاً بين لوقا وبولس، منها 33 في سفر الأعمال. فالمشترك بين الجميع من التراث الرسولي نفسه؛ والمشترك بين لوقا وبولس من التراث البولسي وحده.

ووحدة العقيدة بين بولس وكاتب الأعمال ظاهرة في عقيدة التزكية بالإيمان من دون الأعمال1، وفي عقيدة عالمية الدعوة المسيحية 2.

وبولس يذكر لوقا بين رفاقه في رسالاته؛ ولوقا يذكر رفاق بولس مثله دون الإشارة إلى نفسه، إِلا الإشارة اللطيفة في نقل الخطاب، في سياق الحديث، من الغيبة إلى المتكلم. وهذا دليل له أيضاً مغزاه.

فكل تلك الأوصاف لا تنطبق، في العهد الرسولي، إِلاَّ على لوقا، كما نعرفه من رسائل بولس، ومن الآثار المسيحية الباقية.

2 ـ مقارنة سفر الأعمال بالإنجيل بحسب لوقا تظهر وحدة الكاتب

1) يظهر ذلك من وحدة اللغة في ما بينهما : فمن الألفاظ المستعملة أربع مرات في الإنجيل نجد 143 لفظة، منها 108 مكررة في سفر الأعمال. ولا يُرد على ذلك بأن في الأعمال ألفاظاً لا توجد في الإنجيل، لأن في الأعمال تعابير

ــــــــــــــــــ

(1) التزكية بالإيمان ( أع 10 : 43؛ 15 : 9؛ 13 : 39؛ 26 : 17 ـ 18؛ 16 : 31 ).

(2) عالمية الدعوة ( 2 : 9 ـ 11؛ 8 : 26 ـ 40؛ 9 : 15؛ 10 : 1 ـ 11 : 18؛ 11 : 19 ـ 30؛ 13 : 12 ـ 13؛ 46 ـ 47؛ 14 : 20 ـ 27؛ 15 : 3 و12 ).

28 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

جغرافية وعسكرية وإدارية ما كانت لترد في الإنجيل، لاختلاف البيئات.

2) ويظهر ذلك من وحدة الإنشاء والتعبير بين الإنجيل والأعمال1. ولا يردّ على ذلك بأن إنشاء الأعمال، في القسم الثاني منها، أرفع من القسم الأول منها، ومن الإنجيل نفسه، لأن مردّ ذلك إلى ترجمة المصادر الأرامية في الموضعين، بينما لوقا يستقل شاهد عيان في القسم الثاني من سفر الأعمال، فهو متحرر فيه من مصادره.

3) ويظهر ذلك من وحدة وكثرة الألفاظ الطبية ما بين الإنجيل والأعمال، كما لاحظ ذلك العلامة هرنك نفسه.

4) ويظهر ذلك من وحدة العقيدة والتفكير ما بين الإنجيل والأعمال، كما رأينا في التزكية بالإيمان من دون أعمال الشريعة الموسوية، وفي عالمية الدعوة المسيحية.

5) ويظهر ذلك من الارتباط أسلوباً وموضوعاً بين مطلع الأعمال، وختام الإنجيل : ففي فاتحة الأعمال ( 1 : 1 ـ 2 ) إشارة صريحة إلى خاتمة (( الكتاب الأول )) ، فلوقا يبدأ الأعمال حيث انتهى بالإنجيل. وفي مطلع الأعمال تفصيل لما أَوجزه في خاتمة الإنجيل، من ظهور المسيح (( مدة أربعين يوماً )) لرسله بعد قيامته، حتى صعوده المشهود إلى السماء.

فتلك الصلات اللغوية والإنشائية والموضوعية والأسلوبية، ما بين الأعمال والإنجيل، تدل على أن كاتبهما واحد، وهو لوقا.

ــــــــــــــــــ

(1) قابل لو1 : 28 = أع 11 : 21؛ لو1 : 66 = أع 11 : 21؛ لو12 : 14 = أع 7 : 27؛ لو15 : 20 = أع 20 : 37؛ لو18 : 2 = أع 24 : 2 و5؛ لو23 : 1 = أع 5 : 17؛ لو24 : 4 = أع1 : 10 مع 10: 30؛ لو24 : 19 = أع 7 : 22.

لوقا هو كاتب سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 29

3 ـ مقارنة القسم الثاني الشخصي، في سفر الأعمال، بالقسم الأول العام منه تُظهر أن كاتب الأعمال والإنجيل واحد.

نجد برهان ذلك في المواطن التي ينتقل فيها الخطاب فجأة من الغيبة إلى المتكلم، بصيغ الجمع : (( نحن )) ، مما يدل على اشتراك الكاتب حينئذٍ بأعمال السيرة التي يدوّنها والتاريخ الذي يرويه ( أع 16 : 10 ـ 17؛ 20 : 5 ـ 15؛ 21 : 1 ـ 18؛ 27 : 1 ـ 28 : 16 ).

والحال إِن اللغة والإنشاء والأسلوب في هذه المقاطع : (( نحن )) ، هي مثل سائر الكتاب، مما يدل على أن الكاتب واحد في الكتاب كله. وهذا الكاتب المتستر بلفظ (( نحن )) نعرف من بولس أنه لوقـا، وإن لم يذكـر نفسه بين أعـوان بولس، بل وارى ذلك في قوله (( نحن )) . فأَعوان بولس العديدين مثل برنابا وتيموتاوس وتيطس، وسيلا، وصوبتير، وسوكندس، وتيخيكس، وتروفيم، وايرست، وأريستركس، وغايوس، كلهم اشتركوا في فترة من الزمن مع بولس، ثم لزموا أعمالهم الخاصة، أو رسالتهم الخاصة التي كلفهم بها بولس، ولم يبق منهم أحد إلى جانب بولس حتى استشهاده، سوى صاحب التورية (( نحن )) الذي لا يفصح عن اسمه في سفر الأعمال، إنما يذكره بولس بفخر ومحبة في سجنه الأول برومة : (( لوقا الطبيب الحبيب )) ( كو4 : 14 )، وفي سجنه الثاني برومة : (( في دفاعي الأول لم يحضر معي أحد ... معي لوقا وحده )) ( 2 تيم 4 : 16 و11 ).

يؤيد ذلك برهان لغوي، إن كلمات سفر الأعمال نحو 1007؛ تعد المقاطع (( نحن )) 97 كلمة. فمن هذه الألفاظ 97، إِن 27 كلمة لا توجد في الأناجيل الأربعة، بل توجد مشتركة بين المقاطع (( نحن )) وسائر القسم الثاني فقط. ونحو 15 كلمة منها لا توجد في الأناجيل الأربعة، بل في تلك المقاطع وفي القسم الأول من الأعمال فقط ( أع 1 ـ 12 ) ـ ونحو 22 كلمة لا توجد في الأناجيل الأربعة، بل في المقاطع (( نحن )) وفي القسمين، الأول والثاني، من الأعمال.

30 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

وهكذا فإننا نجد 64 كلمة من أصل 97 كلمة، مشتركة بين تلك المقاطع وسائر سفر الأعمال وحده. وهذا دليل لغوي أول على وحدة سفر الأعمال، وعلى وحدة كاتبه، وعلى أن كاتبه هو المتواري في لفظ (( نحن )) أي لوقا.

أضف إلى ذلك أن من أصل 143 كلمة، مستعملة كل واحدة منها أربع مرات في الإنجيل بحسب لوقا، وفي سفر الأعمال، نجد 108 مستعملة في الأعمال وحدها، ومنها 44 في المقاطع (( نحن )) وحدها.

أخيراً هناك 20 كلمة لا توجد إلا في المقاطع (( نحن )) وفي الإنجيل بحسب لوقا.

ونلاحظ أن تلك المقاطع (( نحن )) ، التي لها 64 كلمة مشتركة مع الإنجيل بحسب لوقا، ليس لها سوى 4 كلمات مشتركة مع متى، و3 مع مرقس، و4 مع يوحنا.

فهذا دليل لغوي آخر على أن لوقا، المورى في كلمة (( نحن )) هو كاتب سفر الأعمال والإنجيل بحسب لوقا.

ونجد أيضاً إلى جانب تلك الكلمات الفريدة، تعابير أخرى كثيرة انفرد بها سفر الأعمال مع تلك المقاطع المذكورة، عن سائر أسفار الوحي الإنجيلي. منها التعابير الطبية الواحدة. ومنها افراد في المقاطع (( نحن )) كقوله : (( في اليوم التالي )) τῇ ἑξῆς ( 21 : 1؛ 27 : 18 ) الذي لا يوجد في العهد الجديد كله إلاَّ في الأعمال ( 25 : 17 ) وفي الإنجيل بحسب لوقا ( 9 : 37 ). فهذا دليل ثالث لغوي على وحدة الكاتب بين المقاطع الشخصية (( نحن )) وسائر سفر الأعمال من جهة، وبين سفر الأعمال كله والإنجيل بحسب لوقا من جهة أخرى. وهذا الكاتب المتواري خلف هذا اللفظ (( نحن )) نعرف أنه لوقا، ولا آخر سواه.

لوقا هو كاتب سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 31

فتلك الدلائل الذاتية، اللغوية والإنشائية والأسلوبية والتعليمية والتاريخية، كلها تؤيد مجتمعةً، في برهان لا مردّ له، صحة نسبة السُنّة المسيحية سفر الأعمال والإنجيل بحسب لوقا، إلى لوقا نفسه.

 

ثالثاً : شبهات على صحة النسبة إلى لوقا

1) يقول بعضهم : إن الصورة التي رسمها لوقا لنشأة المسيحية وغزوها العالم الهلنستي حتى رومة، في مدى ثلاثين سنة، تقمّصت فيها الأحداث المثالية صانعة المعجزات والبطولات؛ والواقع يتطلب زمناً طويلاً لمثل تلك النشأة المعجزة، فلا يصح بعد جيلين أو ثلاثة، من عهد الرسل. لذلك لا يمكن أن يكون لوقا، رفيق بولس، كاتب سفر الأعمال.

ـ هذا افتراض لا أساس له في الواقع. فهم يريدون المسيحية نشأة طبيعية، لا معجزة فيها. ونشأة المسيحية، وانتشارها بهذه السرعة المدهشة في الإمبراطورية الرومانية، حتى رومة نفسها، معجزة في ذاتها. وقد صوّر الأستاذ العقاد1 هذا التاريخ المعجز بقوله :

(( ومن بعد، فمن الحق أن نقول : إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن، ولم تنقض بانقضاء أيامها في عصر الميلاد. رجل ينشأ في بيت نجار، في قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً تضيع في أطوائها دولة الرومان! ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضم إقليم واحد، قد يخضع إلى حين، ثم يتمرّد ويخلع النير! ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام )) .

ــــــــــــــــــ

(1) عباس محمود العقاد : حياة المسيح ص 197.

32 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 1

2) يقول بعضهم : ما بين رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتس، وبين سفر الأعمال خلاف على صفة بولس الرسولية : بولس يعتبر نفسه رسولاً مثل الاثني عشر، ومثل بطرس نفسه؛ بينما سفر الأعمال لا يعتبره إلا مرسلاً مثل برنابا، ويحتفظ باسم (( رسول )) للاثني عشر. لذلك لا يصح أن يكون كاتب سفر الأعمال لوقا، تلميذ بولس.

ـ إِنها شبهة لا تقوم. فإِن لوقا يكتب كمؤرخ فيحفظ اسم (( الرسول )) للاثني عشر، كما في مصادر العهد الجديد كلها، بحسب العرف والعادة. وبولس يكتب رسالة شخصية يدافع فيها عن حقه في الرسالة؛ والحق الشخصي لا يتنكر للعرف والعادة. وبولس يسند حقه في الرسالة إلى رؤية المسيح في مجده بجسده المجيد: (( ألست رسولاً ؟ أما رأيت يسوع ربنا ؟ )) ( 1 كو9 : 1 ). وفي إنجيل القيامة، يميّز بين الاثني عشر، وبين (( الرسل )) الذين ظهر لهم المسيح قبل رفعه إلى السماء ( 1 كو15 : 5 و8 ). فإِذا أخذ لوقا، كمؤرخ، بنظرية الأمة والجماعة في حفظ اسم (( الرسول )) للاثني عشر، ليس في ذلك خيانة لمعلمه، بل انسجام مع الواقع التاريخي الذي يشهد له بولس نفسه، في إنجيل القيامة : (( أجل إني لأصغر الرسل، بل لست أهلاً بأن أدعى رسولاً )) ( 1 كو 15 : 9 ). وهو لا يعتبر نفسه من (( الاثني عشر )) ، ولا من (( الوجوه )) و (( الأعمدة )) ( 1 كو2 : 1 ـ 10 ). وهذا التمييز المتوافق بين بولس ولوقا دليل على صحة تاريخية سفر الأعمال، وعلى صحة نسبته للوقا. فلو كان سفر الأعمال من أواخر القرن الأول، لوضع بولس على قدم المساواة مع بطرس نفسه، كما أخذت الكنيسة تفعل بعد استشهادهما، إِذ بدأت تعيّد لهما معاً، مع أنهما استشهدا في زمانين مختلفين، وبطريقتين مختلفتين. فما بين بولس ولوقا فارق في اللغة التاريخية لا في العقيدة.

3) يقولون أيضاً : إن الصورة التي يرسمها سفر الأعمال لعلاقات النصارى اليهود ببولس، تختلف كثيراً عن الصورة التي تظهر من رسائل بولس. عند

لوقا هو كاتب سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 33

بولس عداوة للموت؛ وعند لوقا خلاف عابر انتهى بمجمع أورشليم. فلا يصح أن يكون لوقا، تلميذ بولس، كاتب سفر الأعمال.

ـ لا شك إن حدة الخلاف أخف في سفر الأعمال منها في رسائل بولس. وهذا يعود إلى الفارق الخُلقي بين بولس النيراني، ولوقا الإنساني الوديع؛ كما يعود إلى الفارق في الهدف: فلوقا يكتفي بذكر تحرير المسيحية من نير الموسوية، بينما بولس يدافع عن شخصه ودعوته ضدّ المؤامرات والمناورات التي تلاحقه مدة رسالته بسبب دعوته لتحرير المسيحية من الموسوية. وأسلوب لوقا التاريخي يختلف عن أسلوب بولس الدفاعي، فقد أسقط لوقا في سفر الأعمال حدّة الأزمات، كما أسقط من الإنجيل مباذل الرسل كما نراها عند مرقس. فاختلاف الصورة ناجم عن فارق في الأسلوب، أكثر منه عن فارق في الواقع التاريخي. وليس في أسلوب لوقا التاريخي الرفيع من شبهة على صحة تاريخيته، ولا على صحة نسبة سفر الأعمال إليه.

وبعد فهذه الشبهات وأَمثالها لا تقوم تجاه الدلائل الذاتية اللغوية والإنشائية والأسلوبية والتعليمية والتاريخية، ولا تجاه دلائل الآثار والأخبار في السُنّة المسيحية، التي تتجمع كلها وتُجمع على صحة نسبة سفر الأعمال إلى لوقا، مثل نسبة الإنجيل بحسب لوقا إليه.

 

 

g s

34 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

 

بحث ثان

 

غاية لوقا في سفر الأعمال : تاريخ ودعوة ودفاع

 

ما هي غاية لوقا في سفر الأعمال : تاريخ أم تعليم أم دفاع ؟

ثم أَليس في ظاهرة التعليم البادية عليه، من الخطب العشرين التعليمية التي فيه؛ وفي ظاهرة الدفاع عن المسيحية من تعليمها ورسالتها؛ وعن بطلها بولس، في الدفاعات الخمسة التي ينقلها له ( 22 : 1 ـ 21؛ 23 : 1 ـ 6؛ 24 : 10 ـ 21؛ 25 : 10 ـ 11؛ 26 : 2 ـ 31 )، من شبهة على صحة تاريخيته ؟

إن غاية لوقا في سفر الأعمال ثلاثية : تاريخ وتعليم ودفاع.

غاية لوقا الأولى تاريخية صريحة كما يعلنها في مطلع الإنجيل ومطلع الأعمال. والواقع فيهما يؤيد ذلك. لكن المسيحية التي يؤرخ لها هي رسالة ودعوة.

فغاية لوقا الثانية تعليمية، للتعريف بالدعوة، في تاريخ رسالتها. فلا يكتب التاريخ لأجل التاريخ، بل في سبيل التعليم، كما يصرح هو نفسه : (( لكي تكون على بينة من صحة التعليم الذي اهتديت إليه )) ( لو1 : 4 ). فصحة التعليم قائمة عنده على صحة التاريخ. فالإنجيل والأعمال، في نظر لوقا، تاريخ في تعليم، وتعليم في تاريخ؛ ولا تطغى نزعة على نزعة، لأن النزعتين في نظره متكافلتان متضامنتان. وهو كما يؤرخ لنشر المسيحية، يؤرخ لتطوير الدعوة في وحدتها،

غاية لوقا في سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 35

كما نرى في ذلك في الخطب العشرين التي تتخلل روايته. وتاريخية تلك الخطب قائمة، ولو أوجزها لوقا بلغته وأسلوبه، لأنها صيغ بدائية الدعوة الرسولية التي يكتب تاريخها، وصحة التاريخ سبيل عنده إلى صحة التعليم. فليست في الغاية التعليمية من شبهة على الصحة التاريخية.

وغاية لوقا الثالثة دفاعية. ودفاعه مزدوج. فغاية لوقا أن يقدّم المسيحية للعالم الإغريقي الروماني في رسالتها ودعوتها، بروعتها وكمالها، كما كانت تنتشر بين ظهْرانيهم، على مشهد منهم ومسمع، بالكلمة والمعجزة والقداسة. وغاية لوقا أيضاً أن يجعل كتابه دفاعاً عن بولس رسول المسيحية بين الأمم، في الإمبراطورية الرومانية، في تمييز دعواه إلى قيصر. لذلك سجّل لبولس دفاعه خمس مرات عن نفسه وعن دعوته أمام ولاة رومة، ليكون دفاعاً مسطوراً لدى قيصر. وعلى هذه الدفاعات الخمسة، وخلاف بولس مع اليهود ينتهي الكتاب. فخدم بذلك المسيحية وبولس نفسه. فأفرج عنه. فكان لوقا (( الطبيب الحبيب )) ( كو 4: 14). وقد نجد في هذا الهدف الدفاعي عن بولس في تمييز دعواه لقيصر، سبب سكوت لوقا عن تاريخ نشأة المسيحية في رومة، وعن مجيء بطرس الرسول إلى رومة، ووجوده فيها حين أسر بولس، وعن صلة بولس وبطرس في رومة، دفعاً للشبهات والمحاذير. لكن هذه الغاية الدفاعية المزدوجة لم تكن سبيلاً إلى تشويه الحقيقة التاريخية، كما يزعم بعضهم ـ قلْ : هاتوا برهانكم إِن كنتم صادقين ـ فقوة الدفاع قائمة على صحة الواقع التاريخي القائم في أرجاء الإمبراطورية الرومانية. ويسهل على الشعب، كما يسهل على قيصر، تبيان التزييف. والشعب، كما نعلم، أقبل على المسيحية مع اضطهادها؛ وقيصر برّأ بولس من تُهم اليهود، إِذ أفرج عنه، وإن استُشهد بولس في توقيفه مرة ثانية، بعد حريق رومة وتحريم المسيحية في الإمبراطورية.

تلك كانت غاية لوقا الدفاعية في سفر الأعمال. ولم تكن غايته، كما توهّم

36 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

بعضهم وأوهم، التوفيق بين دعوة بطرس ودعوة بولس، بين (( البطرسية )) وبين (( البولسية ))، في قضية تحرير المسيحية من الموسوية. فبطرس نفسه قد فرض في مجمع أورشليم، تحرير المسيحيين الأمميين من الشريعة الموسوية. وبولس يعلن صراحة أن (( إنجيله )) الذي يبشر به قد سلّمه إلى الجماعة كما تسلمه هو نفسه ( 1 كو15 : 1 ـ 11 ) : (( فسواء كنت أنا أم أولئك، هكذا ندعو وهكذا آمنتم )) ( 1 كو15 : 11 ). ولم يكن بطرس طرفاً في النزاع، على تحرير المسيحية من الموسوية، الذي قام بين بولس واليهود النصارى من جماعة يعقوب في أورشليم؛ بل كان حَكَماً ورئيساً، قد يساير الطرفين للحفاظ على الوحدة المسيحية، كما يظهر من تقرير بولس نفسه في الرسالة إلى الغلاطيين، الذي أشاد بموقفه العقائدي في مجمع أورشليم، ولامه في موقفه العملي المتردّد ـ حبّاً بالسلام ـ في إنطاكية، بضغط من جماعة يعقوب وآل البيت. ويظهر موقف بطرس جليّاً من رسالته الأولى إلى النصارى اليهود في الشتات، حيث يحذّرهم من الفتنة والردّة. فالخلاف المزعوم بين (( البطرسية )) و (( البولسية )) وهم حديث لا أصل له.

وليست غاية لوقا الدفاعية أيضاً محاولة التوفيق بين النصرانية اليهودية وبين الدعوة البولسية، التي يراها بعضهم في اقتصار السفر على أعمال بطرس ودعوته، وأعمال بولس ودعوته، على وحدتهما، فلوقا لا يكتب للنصارى اليهود، بل للمسيحيين من الأمميين، بشخص النبيل تيوفيل، كما يظهر من تقديم الكتابين إليه، الإنجيل والأعمال. فلو كان ذلك التوفيق من أَهداف لوقا، لَمَا أَهدى كتابه إلى زعيم من الأمميين المهتدين، ولَمَا أَطال في وصف رسالة بولس ودعوته، وهو خصم النصارى اليهود لمحاولتهم تهويد المسيحية.

لكن قد يكون من أهداف لوقا، في الدفاع عن المسيحية وعن بولس الأسير، إظهار المسيحية (( ديانة مباحة )) مثل اليهودية في الدولة الرومانية،

غاية لوقا في سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 37

لأن المسيحية من اليهودية كالزهرة. لذلك يرجع في الخطب الدينية التي ينقلها إلى توطيد المسيحية بالاستشهاد بالكتاب المقدس وأنبيائه. ويُظهر في دفاع بولس خمس مرات أمام ولاة رومة أن مجلس اليهود لم يقدر أن يحكم على بولس، بل انقسم على نفسه بانتساب بولس إلى حزب الفريسيين. فقضية بولس أمام قيصر يجب أن تكون قضية خلاف ديني داخلي في التوحيد الكتابي المباح في الدولة، لا قضية تأسيس دين غير مباح. فالسفر تزكية بارعة للمسيحية ولبولس أَمام قيصر والدولة الرومانية والعالم الهلنستي.

وقد يكون من أهداف لوقا الدفاعية رفع منزلة بولس إلى منزلة بطرس زعيم الرسل. فالخطب في الدعوة المسيحية متوازية بين بطرس وبولس مع فارق لصالح بولس في العدد والقيمة؛ والمعجزات متوازية بين بطرس وبولس في شفاء المقعدين ( أع 3 : 2 ـ 9 = 14: 8 ـ 10 )، وإحياء الموتى ( أع 9 : 40 = 20 : 10 ـ 12 )؛ والاقتصاص ( أع 5 : 1 ـ 11؛ 8 : 18 ـ 24 = 13 : 6 ـ 11؛ 16 : 16 ـ 18؛ 19 : 13 )؛ والخروج من السجن بمعجزة ( أع 12 : 1 ـ 17 = 16 : 16 ـ 40 )؛ وعبادتهما كإلهين ( أع 10 : 25 = 14 : 11 ـ 12 ). ونلاحظ أن هذه الموافقة لا تحمل شبهة على صحة الأحداث التاريخية المعجزة؛ لكنها دليل على النيّة المقصودة في الأحدث المختارة لوضع الرسولين في منزلة واحدة؛ مع الاحتفاظ بالسلطة العليا لبطرس، حيث نرى بولس في كل سانحة يرجع إليه ويراجعه. وقد حفظت المسيحية الأمثولة، فهي تعيّد شرقاً وغرباً للرسولين معاً في تأسيس الكنيسة. فأظهر لوقا، في سفر الأعمال، فضل بولس على تحرير المسيحية من الموسوية، وعلى نشر المسيحية في العالم الإغريقي الروماني.

وهكذا فليس من تعارض في عرض الأحداث بين بولس ولوقا. فبولس يعرضها عرضاً شخصيّاً دفاعيّاً من زاويته؛ ولوقا يعرضها عرضاً موضوعيّاً تاريخيّاً. والاختلاف الظاهري في العرض، ليس خلافاً جوهريّاً في الموضوع، إنما ذلك

38 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 2

الخلاف الظاهري دليل على صحة لوقا التاريخية، في استقلاله عن معلمه بولس.

فغاية لوقا الدفاعية والتعليمية، في تاريخه، ليست شبهة على صحته التاريخية؛ لأن التاريخ الصحيح، في عرْفه، سند التعليم الصحيح، والدفاع البليغ الفصيح. واستقلال لوقا في الإنجيل والأعمال عن نظريات معلمه الخاصة، برهان على صحة النقل والتاريخ عنده. ومقارنة الأعمال بالرسائل، وقيام اتفاقهما الجوهري في الأمور المشتركة، ضمانة أخرى لصحة التاريخ عند لوقا، مع غايته المزدوجة التعليمية والدفاعية. وعدم استعمال لوقا لرسائل معلمه بولس من بين مصادره، برهان كبير على استقلاله ومطابقته للواقع التاريخي.

فسفر الأعمال تعليم صريح ودفاع فصيح، في تاريخ صحيح. وانسجام الأهداف مع تبيانها، دليل الإعجاز في الاقتدار والادماج في بيانها.

 

I

زمن التدوين ومكانه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 39

 

بحث ثالث

 

زمن التدوين ومكانه

 

إِن سفر الأعمال، بإِجماع أهل السنّة المسيحية وأهل النقد العلمي، مرتبط بالإنجيل بحسب لوقا، ومدوّن بعده : فما هو زمن تدوينه ؟

لقد رأينا خلافاً وإجماعاً معاً، في السنّة المسيحية، على زمن تدوين الإنجيل بحسب لوقا : هل تمَّ ذلك على حياة الرسولين بطرس وبولس، أم بعد وفاتهما ؟

وقد رأينا أن الاتجاه العلمي، بعد ثورته العارضة على أخبار السُنّة المسيحية، بدأ يتقبل علميّاً وتاريخيّاً تقريراتها.

فسواء كان تدوين الإنجيل على حياة الرسولين بطرس وبولس، أَم بعد استشهادهما، فالدلائل كلها تشير أن الإنجيل بحسب لوقا قد دُون قبل السنة السبعين، عام خراب أورشليم الأول على يد الرومان؛ وبالتالي يكون سفر الأعمال قد دُوِّن كذلك قبل تلك السنة.

نجد دليلاً على ذلك من سفر الأعمال : إنه مستقل عن رسائل بولس؛ فلو كُتب بعد سنة السبعين وكانت رسائل بولس قد انتشرت في كل مكان، كما نعرف من رسالة بطرس الثانية ( 3 : 15؛ قابل 1 تيم 2 : 7 ) ـ لكان سفر الأعمال استخدمها في مصادره. فجهلها أو تجاهلها دليل على أن سفر الأعمال قريب من زمن صدورها.

40 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

ويمكننا تحديد الزمن من سفر الأعمال نفسه. إنه تفصيل لرسالة بطرس وبولس معاً. فمن كتب سيرة دعوتهما بالتفصيل منذ البدء حتى زمن الاستشهاد عام 64، لا يمكن أن يغفل مجد استشهادهما لو حصل قبل صدوره. لا بل يختتم سفر الأعمال وبولس في سجنه الأول برومة، وقد أُفرج عنه عام 63. فسكوت سفر الأعمال برهان على أنه قد صار قبل البت في تمييز دعوى بولس، عام 63.

ونقدر أن نفهم سفر الأعمال في قسمه الثاني، كدفاع عن بولس في دعوته، لدى تمييز دعواه إلى قيصر. فلو حصلت النتيجة السعيدة التي كان يبغيها قبل نشر السفر، لكان ذكرها تمجيداً لبولس والمسيحية.

ولنا قرائن أخرى من السفر نفسه. إن الإنجيل بحسب لوقا أصرح الأناجيل في نبؤة المسيح الكبرى عن خراب أورشليم وهيكلها العظيم رمز دينهم وقوميتهم ودولتهم. فلو كُتب سفر الأعمال بعد السنة السبعين التي تمت فيها النبؤة الكبرى، أو بعد السنة 66 التي بدأ فيها الزحف على أورشليم والحصار، لما تردّد لوقا في ذكر إشارة إلى ذلك النصر المسيحي المبين، وهو الذي يكتب لتأييد المسيحية تاريخيّاً، كما أشار إلى تتميم نبؤة أغابوس عن المجاعة التي حصلت على أيام القيصر كلوديوس عام 44 ( أع 11 : 28 مع 21 : 11 ). إن انفصال المسيحية عن اليهودية كان نتيجة غضب المسيح على الأمة التي رفضته وصلبته، وقد نقل لوقا في الإنجيل نبؤة المسيح بخرابها، ولعنته لها؛ وهو يؤرخ أيضاً ليبشر مع بولس بتحرير المسيحية من الموسوية؛ وقد كان الأمر كله قد تمَّ في السنة السبعين : فلو عرف لوقا بذلك لأشار إليه باعتزاز، ولو من طرف خفي؛ وإِذ لم يفعل، فقد صدر تاريخه قبل السنة السبعين، وقبل بدء الحصار عام 66 الذي ذكره نصاً في النبؤة : (( وإذا ما رأيتم أورشليم قد حاصرها الجنود، فاعلموا عندئذٍ أن خرابها قد اقترب )) ( لو21 : 20 ).

ثم لو كان الإنجيل كُتب بعد الحرب السبعينية، لظهرت آثار البيئة

زمن التدوين ومكانه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 41

الفلسطينية الجديدة فيه. فلا شيء من تاريخ المسيحية في فلسطين ( أع 1 ـ 12 )، ومن تاريخ المسيحية في العالم الإغريقي الروماني ( 13 ـ 28 ) يُشعرنا بأن حال بني إسرائيل قد تبدل في الداخل أو الخارج، عمَّا كان عليه قبل النكبة. فلا تزال الأمة قائمة، والمدينة المقدسة قائمة تضج بالحياة، والشريعة الموسوية سائدة، والعبادة التوراتية في الهيكل قائدة. كل هذا يدل على أن شيئاً ما من حياة إسرائيل لم يتغيّر بعد، كما سيحدث في الواقع بعد النكبة الكبرى. وإذ لا نجد إشارة ما لتبدّل الحال، فالواقع التاريخي في سفر الأعمال لحياة إسرائيل يدل دلالة صريحة أن السفر كتب قبل الكارثة الكبرى.

والواقع التاريخي لحال المسيحيين في العالم الروماني، في سفر الأعمال، لا يظهر عليه تبديل كالذي طرأ بعد حريق رومة في تموز عام 64، على عهد نيرون، وطرد اليهود من رومة، واستشهاد المسيحيين، وعلى رأسهم زعيمهم بطرس الرسول. لذلك يحق لنا أن نعتبر سفر الأعمال قد كُتب قبل الاضطهاد الروماني الأول عام 64 واستشهاد بطرس.

وسكوت لوقا المقصود في فرار بطرس (( إلى موضع آخر )) ( أع 12 : 17 ) عن ذكره، ثم عن ذكر وجوده برومة مدة أسر بولس، هو قرينة قوية على زمن التدوين. فلوقا لا يذكر بطرس كي لا يدل الدولة عليه.

لهذه الأسباب كلها مجتمعة، يحق لنا أن نفهم خاتمة سفر الأعمال دليلاً على مكان وزمان تدوين سفر الأعمال : (( ولما دخلنا رومة أُذن لبولس أن يقيم وحده، مع الجندي الذي يحرسه ... وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره. وكان يستقبل جميع الذين يقصدونه، مبشراً بملكوت الله، ومعلماً ما يختص بالرب يسوع المسيح، بكل جرأة وحرية )) ( أع 28 : 16 و30 ـ 31 ). فخاتمة سفر الأعمال دليل كاف على زمن كتابته ومكانها : رومة عام 63، قبل معرفة نتيجة المحاكمة والإفراج عن بولس.

42 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 3

فقد قضى لوقا مع بولس الموقوف سنتين في قيصرية فلسطين ثم سنتين في رومة، شغلها كلها في درس المصادر الشفوية والمكتوبة للإنجيل وسفر الأعمال في قسمه الأول ـ لأن القسم الثاني مصدره بولس ولوقا نفسهما ـ وفي تدوين الإنجيل ثم الأعمال، في نشأة المسيحية وانتشارها في العالم الإغريقي الروماني، دفاعاً عن المسيحية، ودفاعاً عن بطلها بولس، لدى روما والعالم الهلنستي.

هذا ما استنتجه افسابيوس1، أَبو التاريخ الكنسي : (( لقد أرسل نيرون فستس خليفةً لفلكس ... وفي ولاية فستس أُرسل بولس أَسيراً إلى رومة. وكان معه أرسترخس ... ولوقا الذي كتب ( أعمال الرسل ) ، وختم روايته بقوله : (( إن بولس قضى بحرية سنتين كاملتين في رومة، وهو يبشر بكلمة الله دون مانع ). لذلك يظهر أن لوقا انتهى من كتابة ( أعمال الرسل ) في هذه الفترة، مقتصراً روايته على الفترة التي قضاها مع بولس.

والاعتراضات المأخوذة من صراحة نبؤة المسيح عن خراب أورشليم، في الإنجيل بحسب لوقا؛ ومن اقتباس مزعوم من تاريخ يوسيف اليهودي، في سفر الأعمال ( 5 : 36 ) لا عبرة لها تجاه تلك الدلائل الجامعة المانعة. وما في أسلوب لوقا، في سفر الأعمال، من رمزية في المعجزات والأحداث، أو من تصنّع في الخطب الموضوعة، لا يمنع الشعور العام بواقعيته التاريخية القائمة على ملاءمة الأحداث المروية لواقع الحال كما نعرفه من التاريخ العام لإسرائيل والدولة الرومانية، قبل الحرب السبعينية.

ولا ننكر أن السنّة المسيحية متردّدة في تحديد مكان كتبة سفر الأعمال. لكن المكان تابع للزمان، وفي خاتمة سفر الأعمال دليل على الزمان والمكان.

ــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الكنيسة ك 2 ف 25 د 1 و6.

نص سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 43

 

بحث رابع

 

نص سفر الأعمال

 

ظاهرة غريبة فريدة، في أسفار العهد الجديد، إنه يكاد يكون لنص سفر الأعمال قراءَتان مختلفتان.

لا يخلو سفر من بعض قراءَات مختلفة، لبعض الآيات، أو بعض الكلمات. لكن بالنسبة لسفر الأعمال، لدينا نصَّان : نص موجز فصيح يُسمى النص الشرقي وهو الموجود في المخطوطات الكبرى الشهيرة، والصغرى العديدة، وبه يستشهد الآباء الشرقيون؛ ونص مسهب فيه بعض الركاكة، يسمى النص الغربي، لأن الترجمة اللاتينية إشاعته عن مخطوطة كبرى وحيدة، وهو موجود أيضاً في بعض المخطوطات الصغرى، كما في الترجمة السريانية، ويستعمله عادة الآباء الغربيون، نقلاً عن الترجمة اللاتينية.

والفارق بين النصين بسيط، يقوم على بعض زيادات في النص الغربي على الشرقي، زيادات لا تمس جوهر النص، بل هي من النوافل؛ ولغتها الركيكة دليل على أنها دخيلة. لكن المشكل الذي حيّر العلماء هو قبول هذا النص في الكنيسة الغربية القديمة، وأسبابه. ويحار العلماء في فهم هذه الظاهرة الفريدة في نصوص العهد الجديد كلها.

فمنهم من جعل النص الشرقي الموجز والأفصح كتنقيح من لوقا للنص الأول

44 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 1 : بحث 4

المسودة. ومنهم من جعل النص الغربي الأطول كزيادات تفسيرية أُقحمت في الأصل. وأضاف أحدهم أن تلك الزيادات الغربية قد تكون من المعاصرين للأحداث، لم يكفهم نص لوقا الموجز فأضافوا إليه ما عرفوه بأنفسهم، وهذا ما يفسر دخولها في النص وقبولها.

مع ذلك يمكن الجزم بأن النص الموجز الشرقي هو الأصلي لسببين : إِنه هو الوارد في أكثر المخطوطات الكبرى والصغرى، وهو الوحيد الذي عرفه الآباء الشرقيون؛ وإن الزيادات بلغة تختلف عن فصاحة لغة الأصل. لذلك فالعلماء يعتمدون النص الشرقي، ويشيرون في الحواشي إلى النص الغربي، لما فيه من فائدة. على كل حال إن تلك الزيادات لا تمس جوهر النص الشرقي المتبع عادة في النسخ العلمية.

هذا التمهيد يساعدنا على تلاوة السفر وتحليله.

 

'

الفَصْلُ الثـَّاني

تحليْلُ سِفْر الأعْمـَال

[ Blank Page ]

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 47

 

فاتحة :

كتاب الأعمال تتمة كتاب الإنجيل، الخاتمة والفاتحة يجتمعان على الأحداث الثلاثة :

القيامة والظهور1 والرفع حيّاً إلى السماء ( 1 : 1 ـ 3 )

تمهيد : الأحداث التأسيسية للكنيسة :

1 ـ بعد الوعد بالروح القدس، يسوع يرتفع إلى السماء على (( مشهد )) منهم (1 : 4 ـ 11)

1) حديث أول على عشاء الوداع : معنى نزول الروح عليهم ( 1 : 4 ـ 5 )

2) حديث ثان على جبل الصعود : ملك إسرائيل وملكوت المسيح ( 1 : 6 ـ 8 )

3) (( مشهد )) ارتفاع المسيح إلى السماء، مع تأكيد الملائكة ( 1 : 9 ـ 11 )

ــــــــــــــــــ

(1) بدأ المسيح رسالته بخلوة أربعين يوماً، وختمها بالظهور المتواتر مدة أربعين يوماً.

48 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

2 ـ خلوة الرسل الاستعدادية لنيل الروح ـ إكمال عدد الرسل ( 1 : 12 ـ 26 )

3 ـ تنزيل الروح القدس على الرسل والكنيسة ـ فتح عهد الروح ( 2 : 1 ـ 4 )

 

 

القسم الأول :

من أورشليم إلى إنطاكية العاصمة الثانية للمسيحية

الجزء الأول : تأسيس الكنيسة في أورشليم ( عام 30 ـ 33 )

فصل أول : البلاغ الرسولي الأول للشعب

1 ـ مناسبته : تفسيرات الشعب لحادث العنصرة ( 2 : 5 ـ 13 )

2 ـ البلاغ الأول : يسوع، (( المسيح الرب ))

1) التفسير الصحيح لحادث العنصرة : إنه تتميم نبؤة يوئيل ( 2 : 14 ـ 21 )

2) يسوع الناصرة المصلوب قام بحسب نبؤة داود ( 2 : 22 ـ 32 )

3)

يسوع في السماء أخذ الروح من الآب وأفاضه. فهو (( المسيح الرب )) ( 2 : 32 ـ 36 )

3 ـ تأثير البلاغ : قيام الجماعة المسيحية الأولى

1) الهداية الأولى يوم العنصرة : ثلاثة آلاف نفس ( 2 : 37 ـ 41 )

2) صورة أولى لحياة الجماعة المسيحية المثالية1 ( 2 : 42 ـ 47 )

 

ــــــــــــــــــ

(1) الآيات ( 2 : 44 ـ 45 ) موجز سابق للآيات ( 4 : 32 ثم 34 ـ 35 ).

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 49

فصل ثان : البلاغ الرسولي الثاني للشعب

1 ـ مناسبته : معجزة مقعد الباب الجميل ( 3 : 1 ـ 11 )

2 ـ البلاغ الثاني : يسوع فتى الله القدوس

1) يسوع، فتى الله القدوس المصلوب، هو شفى المقعد ( 3 : 12 ـ 16 )

2) موت المسيح تتميم للنبؤات ـ وهو الآن في السماء ( 3 : 17 ـ 21 )

3) فهو النبي مثل موسى، وهو نسل إبراهيم ( 3 : 22 ـ 26 )

3 ـ تأثير البلاغ : الجماعة المسيحية الأولى بين الاضطهاد والازدياد

1) توقيف بطرس ويوحنا ( 4 : 1 ـ 3 )

2) ازدياد الجماعة المسيحية إلى خمسة آلاف نفس ( 4 : 4 )

 

فصل ثالث : البلاغ الرسولي الأول للسنهدرين

1 ـ مناسبته : استجواب السنهدرين للرسل ( 4 : 5 ـ 7 )

2 ـ البلاغ الأول للسنهدرين : يسوع الناصري هو المسيح المخلص

1) باسم يسوع الناصري تعافى المقعد : فهو المسيح المخلص ( 4 : 8 ـ 12 )

2) شورى السنهدرين : الاكتفاء بتهديد الرسل ( 4 : 13 ـ 17 )

3) جواب الرسل على التهديد : طاعة الله تقتضي منا الشهادة ( 4 : 18 ـ 22 )

3 ـ تأثير الاستجواب والبلاغ : زيادة في سلطان الرسل وإيمان الشعب

1) صلاة الكنيسة تجدّد معجزة العنصرة، بحلول الروح القدس عليها (4: 23 ـ 31)

50 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

2) صورة ثانية لحياة الجماعة المسيحية المثالية1 ( 4 : 32 ـ 35 )

3) قصتان من حياة الجماعة الأولى :

ـ قصة برنابا المثالية ( 4 : 36 ـ 37 )

ـ قصة حنانيا وسفيرة تظهر سلطان بطرس المعجز ( 5 : 1 ـ 11 )

 

فصل رابع : البلاغ الرسولي الثاني للسنهدرين

1 ـ مناسبته : توقيف الرسل الاثني عشر كلهم

1)

معجزات الرسل تؤلّب الجماهير حولهم؛ صورة ثالثة لحياتهم المثالية2 ( 5 : 12 ـ 16 )

2) توقيف الرسل كلهم، وخروجهم من السجن بمعجزة ( 5 : 17 ـ 24 )

3) استحضارهم إلى السنهدرين واستجوابهم ( 5 : 25 ـ 28 )

2 ـ البلاغ الثاني للسنهدرين : يسوع الناصري هو الرئيس المخلص

1) يسوع الناصري المصلوب رفعه الله رئيساً ومخلصاً ( 5 : 29 ـ 32 )

2) شفاعة جمالئيل3 تنقذ الرسل من القتل ( 5 : 33 ـ 39 )

3) جلد الرسل وإخلاء سبيلهم ( 5 : 40 )

3 ـ تأثير الاستجواب والبلاغ : فرح الرسل بالاضطهاد، ومتابعة الدعوة ( 5 : 41 ـ 42 )

 

ــــــــــــــــــ

(1) الآية ( 4 : 33 ) ترديد الآية ( 2 : 47 )

(2) الآية ( 5 : 42 ) ترديد الآية ( 2 : 46 ـ 47 )

(3) أي جمال الله

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 51

فصل خامس : اسطفان، زعيم الشمامسة، أول الشهداء ( عام 33 )

1 ـ المناسبة : تأسيس الشمامسة يزيد نمو الكنيسة في أورشليم ( 6 : 1 ـ 7 )

2 ـ استشهاد الشماس اسطفان ( 6 : 8 ـ 7 : 60 )

1) توقيف اسطفان بسبب نشاطه لدى اليهود الهلّينيين ( 6 : 8 ـ 15 )

2) خطبة اسطفان في المحفل : تاريخ إسرائيل يقود إلى المسيح المصلوب

ـ ذكر إبراهيم : هاجر إلى مصر ( 7 : 1 ـ 8 )

ـ ذكر يوسف : باعه أخوته ( 7 : 9 ـ 19 )

ـ ذكر موسى : رفضه آباؤكم ( 7 : 20 ـ 43 )

ـ ذكر داود وسليمان يبنيان الهيكل ـ والله لا يسكن في بيت

( 7 : 44 ـ 50 )

ـ خاتمة : أنتم مثل آبائكم، تقاومون الله، وقد قتلتم البار! ( 7 : 51 ـ 53 )

3) مقتل اسطفان وهو يرى (( ابن البشر )) في المجد ـ بحضور شاول

( 7 : 54 ـ 60 )

3 ـ النتيجة : تشتيت الشمامسة في اليهودية والسامرة، بملاحقة شاول

( 8 : 1 ـ 3 )

 

 

الجزء الثاني : انتشار المسيحية في اليهودية والسامرة والجليل

مطلع : المشتتون يبشرون بالمسيحية ( 8 : 4 )

فصل أول : انتشار المسيحية في السامرة

1 ـ دعوة الشماس فيلبس في السامرة ( 8 : 5 ـ 8 )

52 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

2 ـ هداية سيمون الساحر ( 8 : 9 ـ 13 )

3 ـ بطرس ويوحنا يكمّلان الرسالة بمنح الروح القدس ( 8 : 14 ـ 24 )

خاتمة : تعميم الدعوة في السامرة ( 8 : 25 )

 

فصل ثان : المسيحية تتصل (( بالمتقين )) من الأمميين

1 ـ فيلبس يهدي قيّم ملكة الحبشة، وهو راجع من الحج ( 8 : 26 ـ 39 )

2 ـ فيلبس يخطفه ملاك، فيبشر في الساحل ( 8 : 40 )

 

 

الجزء الثالث : انتشار المسيحية في دمشق ـ وهداية شاول ( عام 33 أو 35 ؟ )

المناسبة : شاول يأخذ تفويضاً لملاحقة المسيحيين بدمشق ( 9 : 1 ـ 2 )

1 ـ الرؤيا المعجزة على طريق دمشق ( 9 : 3 ـ 9 )

2 ـ حنانيا يعمّد شاول ( 9 : 10 ـ 19 )؛ ويبلّغه مبادئ التعليم المسيحي.

3 ـ بولس يدعو في دمشق بيسوع أنه ابن الله ( 9 : 20 ـ 22 )

4 ـ مؤامرة يهود دمشق وتهريب شاول ( 9 : 23 ـ 25 )

5 ـ شاول في أورشليم، يتصل بالرسل بواسطة برنابا ( 9 : 26 ـ 28 )

6 ـ شاول يدعو في أورشليم، ويباحث اليهود الهلّينيين ( 9 : 28 ـ 29 )

7 ـ مؤامرة اليهود الهلينيين عليه، وتهريب شاول إلى بلده طرسوس

( 9 : 29 ـ 30 )

 

 

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 53

الجزء الرابع : المسيحية تفتح أبوابها للوثنيين

المناسبة : هدؤ العاصفة، ونمو الكنيسة في اليهودية والسامرة والجليل

1 ـ بطرس في لدة، يهدي المنطقة بمعجزة شفاء مخلَّع ( 9 : 32 ـ 35 )

2 ـ بطرس يحيي فتاة في يوﭙـّا ( يافا الحاليّة ) ( 9 : 36 ـ 43 )

3 ـ المسيحية تفتح أبوابها للأمم

1) كرنيليوس، القائد الروماني في قيصرية، بعد رؤيا، يستدعي بطرس (10: 1ـ 8)

2) بطرس في يوﭙـّا يرى رؤيا رمزية تهيئه لقبول دعوة الوثني ( 10 : 9 ـ 16 )

3) بطرس يُضيف مبعوثي كرنيليوس الوثنيين النجسين ( 10 : 17 ـ 23 )

4) بطرس يحضر إلى بيت الضابط الوثني، زعم الحظر الشرعي (10: 24 ـ 29)

5) كرنيليوس يخبر بطرس برؤياه ( 10 : 30 ـ 33 )

6) بطرس يبشرهم بالمسيح رب العالمين وملك يوم الدين ( 10 : 34 ـ 43 )

7) في عماد كرنيليوس وجماعته، تجديد معجزة العنصرة ( 10 : 44 ـ 48 )

4

ـ الخاتمة : مخاصمة جماعة أورشليم لبطرس لمخالطته الوثنيين؛ كشف الأمر الرباني لهم ( 11 : 1 ـ 18 )

 

 

الجزء الخامس : إنطاكية تصير العاصمة الثانية للمسيحية

المناسبة : المسيحية تصل إلى إنطاكية، عبر فينيقية وقبرص ( 11 : 19 )

( عام 38 ـ 40 )

 

54 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

1 ـ في إنطاكية توجيه الدعوة إلى الوثنيين ( 11 : 20 ـ 21 )

2 ـ تفويض برنابا بقيادة الدعوة في إنطاكية، فتزدهر ( 11 : 22 ـ 24 )

3 ـ برنابا يأتي ببولس من بلدته ( عام 42 ) ويدعوان معاً سنة كاملة

( 11 : 25 ـ 26 )

4

ـ التلاميذ يدعون في إنطاكية (( مسيحيين )) ، لتفوّق العنصر الأممي على الإسرائيلي فيها ( 11 : 26 )، وبسبب إيمانهم بيسوع أنه المسيح.

5 ـ مَدَد مسيحيي إنطاكية، بواسطة برنابا وشاول، لأورشليم ( 11 : 27 ـ 30 )

خاتمة القسم الأول : بسبب الاضطهاد، يتفرق الرسل للدعوة

1 ـ هيرود الصغير يضطهد الكنيسة ـ استشهاد يعقوب الكبير ( 12 : 1 ـ 2 )

2 ـ توقيف بطرس، ونجاته المعجزة من السجن ( 12 : 3 ـ 19 )

3

ـ موت الملك الكافر هيرود اغريبا ( عام 44 نحو الفصح )؛ ونمو الدعوة ( 12 : 20 ـ 24)

4 ـ رجوع برنابا وشاول، مع يوحنا ـ مرقس، إلى إنطاكية ( 12 : 25 )

T

القسم الثاني :

من إنطاكية إلى رومة، العاصمة الكبرى للمسيحية

مطلع : دعوة شاول وبرنابا للرسالة، وسيامتهما الأسقفية ( 13 : 1 ـ 3 )

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 55

الجزء الأول : رسالة بولس الأولى، بقيادة برنابا، في آسيا الصغرى ( عام 46 ـ 48 )

فصل أول : في قبرص، بولس يُعمي الساحر فيهتدي الوالي ( 13 : 4 ـ 12 )

فصل ثان : في إنطاكية بيسيدية

1 ـ الوصول، عبر جبال طوروس، إلى إنطاكية بيسيدية؛ يوحنا ـ مرقس يتركهما

( 13 : 13 ـ 15 )

2 ـ خطاب بولس في السبت الأول : يسوع ابن داود هو المخلص ( 13 : 16 ـ 43 )

3 ـ في السبت الثاني، ينفصلان عن اليهود، فيتبعهم الوثنيون ( 13 : 44 ـ 49 )

4 ـ بتحريض من اليهود، ثورة الشريفات والأعيان تطرد الرسولين

( 13 : 50 ـ 52 )

فصل ثالث : في أيقونية

المعجزات تهدي وتشق البلدة حزبين ( 14 : 1 ـ 7 )

فصل رابع : في ليسترة : ما بين التأليه والرجم

1 ـ بعد معجزة شفاء مقعد، حاول أهل ليسترة عبادة الرسولين ( 14 : 8 ـ 18 )

2 ـ بمؤامرة من يهود إنطاكية وأيقونية، الشعب يرجم بولس، فلا يموت

( 14 : 19 ـ 20 )

فصل خامس : على طريق العودة إلى إنطاكية العظمى

1 ـ الدعوة في دربة على حدود غلاطية الجنوبية ( 14 : 20 ـ 21 )

2 ـ إقامة كهنة في ليسترة وأيقونية، وإنطاكية بيسدية ( 14 : 22 ـ 23 )

3

ـ اجتياز جبال طوروس إلى مقاطعة بمفيلية؛ الدعوة في برجة؛ الإقلاع من مرفأ أتـّاليا (14 : 24 ـ 25)

56 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

4 ـ الرجوع إلى إنطاكية، وإِخبار الكنيسة بهداية الأمم ( 14 : 26 ـ 28 )

فصل سادس : تحرير المسيحية من الموسوية، في مجمع أورشليم ( عام 49 )

1 ـ بدء الخلاف في إنطاكية، ورفعه إلى الرسل في أورشليم ( 15 : 1 ـ 2 )

2 ـ في الاجتماع الأول، لقاء أخوي لتلطيف الجو وعرض المشكل ( 15 : 3 ـ 4 )

3

ـ تدخّل الفريسيين المهتدين يجدّد الخلاف، فيحسمه بطرس جذريّاً، في اجتماع ثان ( 15: 5 ـ 12 )

4 ـ تدخّل يعقوب باقتراح وسط، فكان قرار المجمع، في اجتماع ثالث1 ( 15 : 13 ـ 29 )

5 ـ وفد من قبل المجمع يحمل القرار إلى إنطاكية، بصحبة بولس وبرنابا (15 : 30 ـ 35)

6 ـ انفصال بولس عن برنابا ( 15 : 36 ـ 39 )

 

 

الجزء الثاني : رسالة بولس الثانية، مستقلاً، في اليونان ( عام 50 ـ 52 )

فصل أول : زيارة عابرة لسوريا الشمالية وآسيا الصغرى

1 ـ زيارة عابرة في سورية وكيليكية بصحبة سيلا ( 15 : 40 ـ 41 )

ــــــــــــــــــ

(1) هذا ظاهر الرواية. أما تحليل الفصل الخامس عشر فيرينا مجمعين مختلفين : مجمع الرسل والكهنة بزعامة بطرس للفصل في تحرير المسيحيين من الشريعة الموسوية والختان ( 15 : 1 ـ 20 ) كما ينص المطلع ( 15 : 1 ـ 2 )، مع موافقة يعقوب التامة ( 15 : 13 ـ 20 ). ثم مجمع كنيسة أورشليم بزعامة يعقوب لفرض شرعة التعايش السلمي بين الفريقين، وتوجيه رسالة رسولية (( إلى الأخوة الذين من الأمم في إنطاكية وسورية وكيليكيا )) ( 15 : 20 ـ 29 ). وهذا المجمع الخاص من زمن آخر ألحقه لوقا بالمجمع العام. وهو مخصوص ببعض الكنائس المختلطة؛ لذلك لا يذكره بولس لكنائسه الهلينية؛ ويظهر أن يعقوب يطلع عليه بولس للمرة الأولى قبل أسره ( 21 : 17 ـ 26 )

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 57

2 ـ زيارة درْبة وليسترة، حيث يصطحب معه تيموثاوس ( 16 : 1 ـ 3 )

3

ـ زيارة فريجية وغلاطية الشمالية حيث يمرض بولس ( غلا 4 : 13 ـ 15 ) : تبليغ قرار أورشليم ( 16 : 4 ـ 5 )

4 ـ روح يسوع يقودهم نحو الغرب، ورؤيا تحدد لبولس اقتحام مقدونية ( 16 : 6 ـ 10 )

فصل ثان : في فيلبّي، بدء الرسالة في مقدونية

1 ـ هداية السيدة ليديا، وإضافتُها بولس وصحبه ( 16 : 11 ـ 15 )

2 ـ بمؤامرة يهودية، الرسل يُضربون ويُحبسون ( 16 : 16 ـ 24 )

3 ـ خروج الرسل من الحبس بمعجزة وكرامة ( 16 : 25 ـ 40 )

فصل ثالث : في تسَّالونيكية

1

ـ دعوة بولس في الجامع : كان على المسيح أن يتألم ويقوم من الموت؛ والمسيح هو يسوع ( 17 : 1 ـ 4 )

2 ـ هداية ياسون رئيس الجامع، وثورة اليهود على بولس؛ تهريبه ليلاً ( 17 : 5 ـ 9 )

فصل رابع : في بيرية

1 ـ دعوة بولس في الجامع : افحصوا الكتاب فهو يشهد ليسوع ( 17 : 10 ـ 12 )

2 ـ ثورة اليهود على بولس؛ تهريبه إلى أثينا ( 17 : 13 ـ 15 )

فصل خامس : بولس في أثينا، عاصمة الحكمة اليونانية

1 ـ بولس يدعو فلاسفة أثينا، في الساحات العامة ( 17 : 16 ـ 18 )

2 ـ خطاب بولس في الندوة : دعوة إلى التوحيد واليوم الآخر ( 17 : 19 ـ 31 )

58 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

3 ـ فشل بولس في دعوته بأثينا ـ هداية ديونيسيوس الاريوباغي ( 17 : 32 ـ 34 )

فصل سادس : في كورنثس، مدة سنة ونصف ( عام 51 ـ 52 )

1

ـ بولس في السبت يعلّم في الجامع، وفي بحر الأسبوع يعمل حائك شعر عند أكيلا (18: 1 ـ 4)

2 ـ بولس ينفصل عن اليهود، ويلازم المتقين لله من الأمميين؛ رؤيا تشجعه (18: 5ـ 11)

3 ـ بولس أمام الوالي الروماني غاليون ( 18 : 12 ـ 17 ) ربيع عام 52

خاتمة الرحلة الثانية : الرجوع إلى إنطاكية العظمى بطريق أورشليم، لرفع تقرير (18: 18 ـ 23 أ)

 

 

الجزء الثالث : رسالة بولس الثالثة، ما بين آسيا واليونان ( عام 53 ـ 57 )

مطلع : بدء الرحلة ( 18 : 23 ب )

فصل أول : بولس يدرّس المسيحية بمدرسة في أفسس، مدة سنتين

1 ـ أبولس، العلاَّمة الخطيب في أفسس وكورنثس ( 18 : 24 ـ 28 )

2 ـ هداية مسيحيين على طريقة المعمدان ( 19 : 1 ـ 7 )

3 ـ بولس ينفصل عن اليهود، ويدرّس المسيحية في مدرسة تيرنّس ( 19 : 8 ـ 10 )

4 ـ الشيطان يسحق من يأخذ اسم يسوع بكفر ( 19 : 11 ـ 20 )

5 ـ بولس يقرر زيارة روما ( 19 : 21 ـ 22 )

6 ـ بولس الصاغة في أفسس تفشل، لكن بولس يرحل ( 19 : 23 ـ 40 )

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 59

فصل ثان : رحلة إلى مقدونية وكورنثس

1 ـ زيارة عابرة لمقدونية ( 20 : 1 ـ 2 )

2 ـ إِقامة بولس ثلاثة أشهر في كورنثس، تنتهي بمؤامرة ( 20 : 3 )

3 ـ مواعدة الأنصار بالاجتماع في ترواس ( 20 : 4 ـ 6 )

 

فصل ثالث : على طريق أورشليم، لحمل التبرعات إليها1

1 ـ ليلة ساهرة في ترواس ـ إقامة شاب يقع ميتاً ( 20 : 7 ـ 12 )

2 ـ رحلة بحرية من ترواس إلى ميليتس ( 20 : 13 ـ 16 )

3 ـ خطبة الوداع : توصية الرعاة بالرعية في غيابه ( 20 : 18 ـ 38 )

 

 

الجزء الرابع : بولس أسير المسيح في فلسطين ( 57 ـ 59 )

فصل أول : الرحلة إلى أورشليم

1 ـ بولس يتوقّف أسبوعاً في صور ( 21 : 1 ـ 6 )

2 ـ بولس يتوقف أياماً في قيصرية ـ نبؤة اغابوس في شأنه ( 21 : 7 ـ 14 )

3 ـ بولس يتوقّف ليلة عند مناسون ( 21 : 15 ـ 16 )

 

ــــــــــــــــــ

(1) ليس حمل التبرعات إلى أورشليم بصريح هنا؛ نجد إشارة إليه في ( أع 24 : 17 ). لكن الرسائل تذكره بصراحة ( 2 : 10؛ 1 كو 16 : 1 ـ 4؛ 2 كو 8 : 1 ـ 15؛ رو 15 : 25 ـ 28 )

60 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

فصل ثان : القبض على بولس في أورشليم

1 ـ يعقوب يستقبل بولس ( 21 : 17 ـ 20 )

2

ـ نصارى أورشليم يقترحون على بولس القيام بحج إلى الهيكل، مع بعضهم لوفاء نذرهم ( 21 : 21 ـ 26 )

3 ـ يهود من آسيا يثيرون الشعب على بولس في محاولة لقتله ( 21 : 27 ـ 30 )

 

فصل ثالث : نجاة بولس من القتل، وتوقيفه في القلعة الرومانية

1 ـ قائد حامية الهيكل ينقذ بولس من القتل ( 21 : 31 ـ 32 )

2 ـ بعد تحقيق أولي بين الجمهور، بولس يُنقل إلى القلعة ( 21 : 33 ـ 36 )

3 ـ بولس يزيل وهماً من نفس قائد الحامية ( 21 : 37 ـ 39 أ )

 

فصل رابع : دفاع بولس الأول، أمام الشعب الثائر

توطئة : بولس يستأذن بمخاطبة الشعب ( 21 : 39 ب ـ 40 )

1 ـ الدفاع أمام الشعب الثائر : اهتديت إلى المسيحية بوحي من الله

1) كنت مضطهداً لهذا الصراط ( 22 : 1 ـ 5 )

2) فاهتديت على طريق دمشق برؤيا معجزة ( 22 : 6 ـ 11 )

3) في دمشق فهمتُ دعوتي من حنانيا الصديق ( 22 : 12 ـ 16 )

4) في أورشليم، انجذاب حدث لي في الهيكل ووجهني إلى دعوة الأمميين (22 : 17 ـ 21)

 

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 61

2 ـ بسبب تجدّد هيجان الشعب، النقيب يأمر بجلد بولس ( 22 : 22 ـ 24 )

3 ـ بولس يعلن رعويته الرومانية، وينجو من الجلد، وينال الحماية ( 22 : 25 ـ 29 )

 

فصل خامس : دفاع بولس الثاني، أمام السنهدرين

توطئة : النقيب الروماني يأذن بمقابلة السنهدرين مع بولس ( 22 : 30 )

1 ـ الدفاع أمام السنهدرين : تصرفت بضمير صالح، على حسب رجاء إسرائيل

1) إني بريء من كل التهم ـ رئيس الكهنة يأمر بصفعه ( 23 : 1 ـ 5 )

2) إِني أُحاكم بسبب إيماني بالقيامة ( 23 : 6 )

3) اختلاف السنهدرين بين فريسيين وصدوقيين ينقذ بولس ( 23 : 7 ـ 10 ). رؤيا الرب تشجعه وتحرّضه على الذهاب إلى رومة ( 23 : 11 )

2 ـ مؤامرة الغيورين لقتل بولس ( 23 : 12 ـ 15 )

3 ـ ابن أخت بولس يبلغ بولس والنقيب خبر المؤامرة ( 23 : 16 ـ 22 )

خاتمة : النقيب يرفع القضية، مع تقرير، إلى الوالي في قيصرية ( 23 : 23 ـ 35 )

 

فصل سادس : دفاع بولس الثالث، أمام الوالي فيلكس والسنهدرين

توطئة : حضور وفد السنهدرين مع محام إلى قيصرية ( 24 : 1 )

1 ـ جلسة المرافعة، بشأن حوادث أورشليم :

1) مرافعة ترتلّس : بولس يثير الفتن، ويرأس شيعة النصارى، وقد دنّس الهيكل ( 24 : 2 ـ 9 )

62 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

2) دفاع بولس ( 24 : 10 ـ 21 )

حضرت للعبادة لا للفتنة

ما يسمونه بدعة هو قانون الكتاب عندنا

ما دنست الهيكل، لكن حملت إحساناً لأمتي

3) قرار الوالي : حفظ الدعوى، ومعاملة بولس بالحسنى ( 24 : 22 ـ 23 )

2 ـ مقابلة خاصة مع الوالي فيلكس وزوجته دروسلّة ( 24 : 24 ـ 25 )

3 ـ فيلكس يوقف بولس سنتين، طمعاً بالمال ( 24 : 26 )

 

فصل سابع : دفاع بولس الرابع أمام الوالي فستس والسنهدرين ( عام 59 )

توطئة : فستس يبقي بولس أسيراً، ويعد السنهدرين بمحاكمته ( 24: 27 ـ 25: 6 )

1 ـ جلسة المرافعة

1) وفد السنهدرين يتهم بولس تهماً ثقيلة ( نعرفها من رده ) ( 25 : 6 ـ 7 )

2) دفاع بولس: لا ذنب علي ضد الشريعة، ولا ضد الهيكل، ولا ضد قيصر (25: 8)

2 ـ محاولة الوالي ردّ بولس إلى أورشليم، بولس يستأنف دعواه إلى قيصر (25: 9 ـ 12)

 

فصل ثامن : دفاع بولس الخامس، أمام الوالي والملك أغريبا ( عام 59 )

توطئة : في زيارة له، فستس يُطلع أغريبا وأخته برنيكا على قضية بولس ( 25 : 13 ـ 22 )

تحليل سفر (( الأعمال )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 63

1 ـ محفل مشهود، من الوالي والملك والقواد والأعيان ( 25 : 23 ـ 27 )

2 ـ دفاع بولس أمام المحفل

مطلع : سروري بالدفاع عن نفسي أمام مَن يفهمني ( 26 : 1 ـ 3 )

1) إني أُحاكم على رجاء إسرائيل والقيامة ( 26 : 4 ـ 8 )

2) سيرتي كيهودي : لقد اضطهدت اسم يسوع الناصري ( 26 : 9 ـ 11 )

3) هدايتي المعجزة برؤية يسوع المسيح في مجده ( 26 : 12 ـ 18 )

4) إني أدعو إلى التوبة والإيمان بيسوع المسيح الذي تألم وقام على ما في الكتب (26: 19 ـ 23)

3 ـ تأثيرات الوالي والملك والمحفل البالغة ( 26 : 24 ـ 31 )

خاتمة الأسر في فلسطين : إعلان براءَة بولس ـ ورفع الدعوى إلى قيصر ( 26 : 32 )

 

 

الجزء الخامس : بولس أسير المسيح في رومة ( عام 60 ـ 63 )

فصل أول : الرحلة البحرية الخطرة إلى رومة ( شتاء عام 60 )

1 ـ قيصرية إلى كريت ( 27 : 1 ـ 8 )

2 ـ من كريت إلى مالطة : العاصفة والغرق المحدق ( 27 : 8 ـ 44 )

3 ـ الاشتاء ثلاثة أشهر في مالطة

1) بولس ما بين مجرم وإِله عندهم ـ معجزة الأفعى ( 28 : 1 ـ 6 )

2) معجزة شفاء زعيم الجزيرة وسائر المرضى ( 28 : 7 ـ 10 )

64 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 2

4 ـ من مالطة إلى رومة ( 28 : 11 ـ 14 )

5 ـ استقبال بولس الحافل لدى الرومانيين المسيحيين ( 28 : 15 )

 

فصل ثان : بولس في رومة، عاصمة الدنيا

1 ـ حوار أول مع يهود رومة ـ لا مأخذ لي على أمتي ( 28 : 16 ـ 22 )

2 ـ حوار ثان مع يهود رومة : إِثبات مسيحية يسوع بموسى والأنبياء ( 28 : 23 ـ 25 )

3 ـ إعلان القطيعة مع إسرائيل : نقل الخلاص إلى الأمميين ( 28 : 25 ـ 28 )

 

خاتمة السفر كله

بولس يدعو في أسره برومة مدة سنتين، بالرب يسوع المسيح ( 28 : 30 ـ 31 )

 

الفَصْلُ الثالِث

أُسْلُوبُ سِفـْر الأعـْمَال

 

 

بحث أول

: الأسلوب اللغوي

   

بحث ثانٍ

: الأسلوب الإنشائيّ

   

بحث ثالث

: الأسلوب البيانيّ

   

بحث رابع

: الأسلوب التاريخيّ

   

بحث خامس

: الصحة التاريخيّة في سفر الأعمال

 

[ Blank Page ]

الأسلوب اللغويّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 67

 

 

أسلوب لوقا من الأدب الرفيع، يبلغ عندما يتحرر من مصادره اللغة الفصحى في عهدها اليوناني الذهبي، وهو العائش في العهد الهلنستي، وفي بيئة أرامية. وهو فنان بارع في أسلوبه اللغوي والإنشائي والبياني والتاريخي. وهذا الأسلوب يتنوع بحسب البيئة الإسرائيلية (خطب القسم الأول) أو البيئة الهلنستية ( خطب بولس ).

 

:

 

بحث أول

 

الأسلوب اللغوي في سفر الأعمال

 

لغة لوقا في سفر الأعمال غنية لا يعلو عليها إلا لغة رسائل بولس. وقد عدّ اللغويون نحو ألفي كلمة في سفر الأعمال، ينفرد فيها بنحو 450 كلمة. وقد

68 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 1

لاحظ العارفون قرابة هذه اللغة من فصاحة الترجمة السبعينية. وقد ترتقي عنده (( اللغة الشائعة )) ، بتعابيرها الهلنستية، إلى اليونانية الفصحى الأتّيكيّة.

ولغة لوقا، في سفر الأعمال متنوعة، تتراوح مفرداتها من لغة الشعب إلى لغة الأدب الرفيع، بحسب مصادره، وبحسب مواقف أبطاله، وحينما يخلو لنفسه. فلا يتكلمون اليونانية في أورشليم كما يتكلمونها في آثينا، خصوصاً في ندوة (( أريوس باغوس ))

ويلاحظ العارفون أن لغة لوقا، في سفر الأعمال، خصوصاً في القسم الأخير منها حيث هو المصدر مباشرة كشاهد عيان، أرقى من لغة القسم الأول ومن لغة الإنجيل بحسب لوقا. والسبب بدَهي : هنا يتحرر لوقا من مصادره، ويخلو للغته وبيانه.

وقد خضع لوقا لطريقة الأقدمين في استعمال المصادر : كانوا يرون في حرفيتها ضمانة للصحة التاريخية. لذلك استخدم لوقا مصادره الكتابية منها والشفوية على علاتها اللغوية، مع تنقيح طفيف. من هنا سبب وجود تعابير سامية في يونانيته، وهذه ميزة العهد الهلنستي حيث شاعت اليونانية عند الأجانب وتطعّمت بتعابيرهم. ولوقا له عذر شرعي في ذلك، أمانته للغة الدين الذي ينقل مصادره السامية الأرامية. وعندما ينقل هذه المصادر يترك لها لغتها الشعبية، فلا يترجمها إلى لغة فصحى يملكها إلى درجة رفيعة كما يظهر من القسم الأخير الشخصي من سفر الأعمال.

وهذا التنوّع في اللغة دليل على الصحة التاريخية التي تتقيّد بالمصادر، ودليل أيضاً على براعة الأديب البيانية، الذي يعرف أن ينوّع أساليبه اللغوية والبيانية.

الأسلوب الإنشائيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 69

 

بحث ثان

 

الأسلوب الإنشائي في سفر الأعمال

 

أسلوب لوقا الإنشائي، في سفر الأعمال، تابع لأسلوبه اللغوي الفني المتنوّع، الذي يتأثر بالبيئة الهلنستية، وقد يرتفع، متى خلا لنفسه، إلى الأدب الأتّيكي الرفيع.

فإنشاؤه، على قول العارفين، سَهل جزْل يغرف من بحر، وقلَّما ينحت من صخر. ويسيطر عليه منطق التفكير، أكثر من رُبُط التعبير التي يمتاز بها الإنشاء الكلاسيكي. وما فيه من تعقيد حيناً، ومن شعبية حيناً آخر، مرده إلى مصادره التي يحترمها، أمانة للصحة التاريخية. فلو كان الشاهد العيان لكل ما ينقل، كما هو الحال في القسم الأخير من سفر الأعمال، لجاء الكتاب كله، في كل أجزائه، من الأدب اليوناني الرفيع. وإذا قورن بالمؤرخ يوسيف كان السبق للوقا، الذي يضارع الترجمة السبعينية، وقد يفوقها أحياناً عندما يكتب كشاهد عيان.

ومع تقيده بمصادره، وجمعها بعضاً إلى بعض على طريقة الأقدمين، فقد جاء قصصه، في سفر الأعمال، رائعاً مثيراً يأسر القارئ، مسلّياً بتنوّعه بين القصص والخطب، التي يرتبط بعضها ببعض كالعقد الفريد، وبتنوّع الأحداث المثيرة. فكل قصة، وكل خطبة، وحدة فنية قائمة بذاتها؛ ومع ذلك يرتبط بعضها ببعض كعقد الجمان. فهو قصَّاص ماهر، تبلغ القصة عنده أحياناً روعة الدراما،

70 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 2

كما في غرق السفينة التي تقلّهم إلى رومة ( ف 27 ). وفي إيجاز خطب بولس الأربعة الدفاعية، يبدو لوقا خطيباً مصقعاً، مثل معلمه بولس الذي ينقل عنه أو له.

ويعرف لوقا أن يُحدث الأبعاد الفكرية أو النفسية في أسلوبه الإنشائي. وما أروع الخاتمة ( 28 : 30 ـ 31 ) التي بها يختم كتابه، ويترك القارئ على جوعه، يرى الأبواب قد انفتحت، والأبعاد قد ارتسمت، وهو واقف ينظر مسحوراً من بيانه. لقد وصلت المسيحية إلى قلب رومة واستقرت فيها : تلك هي الصورة البيانية التي بها يختم الكتاب، بل يتركه مفتوحاً إلى الأبد.

الأسلوب البيانيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 71

 

بحث ثالث

 

الأسلوب البياني في سفر الأعمال

 

سفر الأعمال كتاب تاريخ وتعليم وخطابة، يؤلف بينها بيان رائع. وللتاريخ فيه بيانه، وللتعليم بيانه، وللخطابة والدفاع بيانهما.

وميزة لوقا البيانية، في سفر الأعمال، هو التأليف بين هذه الأهداف المتنوّعة. فلا يأتي التاريخ والتعليم والدفاع في وحدات متنافرة، بل في وحدات متآلفة، تجمع بينها وحدة بيانية شاملة.

1 ـ فالتاريخ يتسع من حلقة ضيقة في أورشليم، مصدر الدعوة المسيحية في تخطيط لوقا، إلى دائرة أوسع في اليهودية والسامرة، إلى دائرة أخرى أكبر في عاصمة سوريا، إنطاكية، التي تصبح العاصمة الثانية للدعوة المسيحية في العالم الهلنستي؛ إلى دائرة أوسع فأوسع تشمل الإمبراطورية الرومانية كلها، حتى نبلغ القمة في عاصمة المسكونة، رومة، حيث تتمركز المسيحية وتنفتح أمامها الأبواب والأبعاد، ويظل التاريخ مفتوحاً إلى يوم الدين. فمن عاصمة إسرائيل، إلى عاصمة الشرق، إلى عاصمة المسكونة، تحتل المسيحية القمم، قمة قمة، حتى تبلغ الذروة.

إن هذا التخطيط البياني التاريخي الرائع، يزيده روعة وبياناً سرد الأحداث العظام في نشر المسيحية : صعود المسيح إلى السماء، وحلول الروح القدس على رسل المسيح يملأهم قوة من العلاء وحكمة، وينقلهم من تلاميذ أَميين إلى معلمي البشرية؛ وانتخاب الشمامسة لمعاونة الرسل؛ ودخول الأميين

72 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 3

في المسيحية بشخص القائد الروماني كرنيليوس؛ وتأسيس المسيحية في إنطاكية عاصمة الشرق؛ وأعمال بطرس وفيلبس وأسطفان وبولس، خصوصاً أسفار بولس الرسولية حتى رسوخ المسيحية في رومة عاصمة المسكونة. وما يتخلل تلك الأحداث العظام من وقائع لها دلالتها العظيمة في الديانة الجديدة، مثل استشهاد أسطفان، وتخليص بطرس من السجن، وهداية بولس، ومحاولة تأليه أهل ليسترة لبرنابا وبولس ـ وما يتخلل الأحداث والوقائع من أعمال دلائل على صحة الدعوة المسيحية، من معجزات وأشفية، وقيامة أموات، ومن رؤى سماوية، ومن خوارق روحية بسبب العماد والميرون المسيحي. فتشعر أن أبطال الدعوة المسيحية يقودهم روح الله القدوس، العـامل الأول في نشرها، حتى سمي سفر الأعمال بحق (( إنجيل الروح القدس )) .

ويمتاز لوقا بتلك الموجزات التاريخية التي تعطينا في لوحات فنية صوراً عن سير المسيحية وسيرتها. منها ما هو من لوقا نفسه، ومنها ما هو من مصادره، ومنها ما هو من الشهود العيان. فالموجزات في الفصول الخمسة الأولى ( 2 : 42 ـ 47؛ 4 : 32 ـ 37؛ 5: 12 ـ 16 ) صور لحياة الجماعة المسيحية الأولى. وموجزات أخرى متواترة تصف تطور الدعوة المسيحية ( 2 : 41؛ 4 : 4؛ 6 : 1 و7؛ 9 : 35؛ 11 : 21 و24؛ 12 : 24؛ 14 : 1؛ 19 : 20 ).

وقد حوى أسلوب لوقا التاريخي البياني كل أنواع الأدب : تجد فيه القصة الصغيرة، والرواية المطولة، والدراما المثيرة كتوقيف بولس في أورشليم أو غرق السفينة على طريق رومة، والسيرة الكاملة لبطل من أبطاله كبولس في أسفاره ومحاكمته؛ والتاريخ الشامل، بأسلوب بياني كامل، لنشأة المسيحية وانتشارها في العالم اليهودي والعالم الإغريقي الروماني.

فسفر الأعمال تاريخ بأُسلوب بياني.

 

الأسلوب البيانيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 73

2 ـ والتعليم موزّع في الخطب العشرين التي ينقلها لوقا على لسان الرسل وبعض معاونيهم من الطليعة.

ووضع الخطب في التاريخ كان أسلوب الأقدمين، الذين قد يضعون هم الخطب على لسان أبطالهم. فجاراهم لوقا في أسلوبهم، ولكنه لم يخلق هذه الخطب التي تعطينا صيغ العقيدة المسيحية في أوائلها، بل أوجزها في تعبير من عنده، نشعر أحياناً كثيرة، من التعابير السامية والأرامية، أنه ناقل، لا جاعل. وهذا ما يفسر وحدة الإنشاء فيها، مع تنوّع الموضوعات.

وميزة هذه الخطب أنها تأتي في مناسباتها، تدل على عرض العقيدة المسيحية في البيئات المختلفة؛ وتفسر الأحداث المسيحية التي تدور وقائعها أمامنا.

يستهل الخطب بخطبة المسيح التأسيسية قبل ارتفاعه إلى السماء ( 1 : 4 ـ 8 ). يليها خطب بطرس الثمانية، وفيها صيغة العقيدة المسيحية الأولى حالاً بعد المسيح ( 1 : 16 ـ 22؛ 2 : 14 ـ 36؛ 3 : 12 ـ 26؛ 4 : 8 ـ 12؛ 6 : 2 ـ 4؛ 10 : 34 ـ 43؛ 11 : 5 ـ 17؛ 15 : 7 ـ 11 )، تؤلف في مجموعها عرض المسيحية على البيئة اليهودية بفلسطين. يتخللها خطاب اسطفان ( 7 : 2 ـ 53 ) في موقف اليهود من دين الله، في العهد القديم والجديد. ثم تأتي خطب بولس العشرة في عرض المسيحية في البيئة الهلنستية، وهي على نوعين : الخطب التعليمية الخمس ( 13 : 16 ـ 41؛ 14 : 15 ـ 17؛ 20 : 18 ـ 35؛ 27 : 21 ـ 26؛ 28 : 25 ـ 28 ) والخطب الدفاعية الخمس ( 22 : 1 ـ 21؛ 23: 1 ـ 6؛ 24 : 10 ـ 21؛ 25 : 10 ـ 11؛ 26 : 2 ـ 29 ). تتخللها خطبتان من يعقوب ( 15 : 13 ـ 21؛ 21 : 20 ـ 25 ).

إلى هذه الخطب المسيحية الاثنين والعشرين تضاف بعض الخطب الأجنبية : من الوالي فستس اثنتان ( 25 : 14 ـ 21؛ و24 ـ 27 )، من الشيخ جمالئيل

74 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 3

واحدة ( 5 : 35 ـ 39 ) من ديمتريوس القاضي واحدة ( 19 : 25 ـ 28 ) من النحوي الأفسسي واحدة ( 19 : 35 ـ 40 ) ومن ترتلّس واحدة ( 24 : 2 ـ 8 ). فيكون المجموع ثمانياً وعشرين، ما عدا شذرات من حوارات.

وعرض المسيحية في بيئة إسرائيلية يختلف عن عرضها في بيئة وثنية، هذا ما يميّز خطب بطرس عن خطب بولس. ففي خطب بطرس نجد الكلام المسيحي الأول البدائي في فهم المسيحية. وهذه البدائية دليل الصحة التاريخية لدى تلميذ بولس الرسول.

وما بين خطب بولس في الأعمال، وفي الرسائل، من خلاف في التعبير والتفكير دليل الصحة أيضاً، لأن بولس في الأعمال يخاطب عادةً قوماً وثنيين بينما في رسائله يخاطب أبناءَه الأحباء المسيحيين.

والتعليم المسيحي في سفر الأعمال هو (( بلاغ )) المسيحية للعالمين اليهودي والأممي، لا (( تعليمها )) للمسيحيين. ومصادر الوحي الإنجيلي تميّز بين (( البلاغ )) و (( التعليم )) . وهذا سبب الفرق بين صيغة الدعوة في سفر الأعمال وصيغتها في الرسائل والأناجيل.

فالتعليم المسيحي في سفر الأعمال هو بلاغ (( مسيحية )) يسوع في البيئة الإسرائيلية، وبلاغ (( ربوبية )) يسوع المسيح الوثنية؛ (( فتى الله القدوس )) لدى اليهود ( 3 : 13 ) و (( ابن الله )) لدى الأمميين ( 9 : 20 ). وصفة (( فتى الله )) بأنه (( القدوس )) دليل على تنزيه بنوّة المسيح من الله، على كل بنوّة مجازية منه تعالى.

 

3 ـ والدفاع عن المسيحية لدى الأمميين، وعن بولس رسولها خصيصاً لدى دولة قيصر، يرشح من سفر الأعمال كله وخصيصاً من دفاعات بولس الأربعة

الأسلوب البيانيّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 75

لدى ولاة رومة في فلسطين ( 22 : 1 ـ 21؛ 23 : 1 ـ 6؛ 24 : 10 ـ 21؛ 26 : 2 ـ 29 ).

خطب بطرس وطليعة الأتباع تحمل الدعوة الأولى في اليهودية؛ وذكرها في كتاب موجه خصيصاً إلى الأمميين إِنْ هو إلا دليل على الجذور الأصلية، ودعوة إلى يهود الشتات في أرجاء الإمبراطورية الرومانية، وبرهان على عمومية الدعوة المسيحية منذ نشأتها.

وبولس في خطابه الأول في مطلع دعوته، بإنطاكية بيسيدية ( 13 : 16 ـ 41 ) يظل على صلة وثيقة مع دعوة بطرس، لأنه يخطب في جامع لليهود، وهو صورة عن تعليمه لليهود مباشرة. ولكن الخطاب الثاني في ليسترة ( 14 : 15 ـ 17 ) والخطاب الأمثل في ندوة أثينا ( 17 : 22 ـ 31 ) يدلان على توجيه الدعوة صريحاً إلى الأميين، بأُسلوب هلّنستي، على طريقة الدعوة الإسرائيلية في الشتات بين الأميين، مع الاتجاه المسيحي.

وخطاب بولس بميليتس، في وداع أحبائه من أفسس ( 20 : 18 ـ 35 ) آية في حنان المعلم لأبنائه، وفيه وصية الرسول الروحية، وفيه يشهد لنفسه أنه أدى في الأمانة للدعوة بين اليهود والأميين.

وتأتي خطابات بولس الأربعة التي هي دفاعات أربعة عن الدعوة المسيحية التي يقوم بها؛ منها اثنان في القدس ( 22 : 1 ـ 21؛ 23 : 1 ـ 6 ) واثنان في قيصرية فلسطين، الواحد أمام الوالي فيليكس ( 24 : 10 ـ 21 ) والثاني أمام الملك أغريبا بحضور الوالي الجديد فستس ( 26 : 2 ـ 29 )، ولبلاغته صاح به الوالي : (( يا بولس، لقد جُننت! إن علمك الكثير يصير بك إلى الجنون! )) . وصاح الملك أغريبا : (( توشك أن تقنعني بأن أصير مسيحيّاً! )) وخرج الجميع من مرافعة بولس يقولون : (( لقد كان ممكناً أن يطلق سراح هذا الرجل لو لم يرفع دعواه إلى قيصر )) .

76 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 3

إن مرافعات بولس، في موجزاتها، دليل على بيانها الرفيع في حقيقتها.

 

فسفر الأعمال دفاع وتعليم في تاريخ. وميزة لوقا الفنية هي الجمع البياني بين هذه الأغراض الثلاثة المختلفة. وهذا ما يسمونه في علم البيان والبديع : الاقتدار الفني؛ وهو ناحية من الإعجاز.

كان الأقدمون، ولوقا منهم، يكتبون التاريخ بأسلوب أدبي أكثر منه علميّاً كما نفهمه اليوم. وقد أعطانا لوقا في سفر الأعمال تحفة أدبية بيانية في التاريخ والتعليم والخطابة الدفاعية.

والتدرج في الكتاب من القصص إلى التعليم، إلى الدفاع والمرافعة، بأسلوب شيّق جذاب يأسر القارئ ويثير رغبته في الاستزادة، ميزة بيانية أخرى امتاز بها سفر الأعمال.

والميزة البيانية الكبرى فيه، قيام وحدات فنية مستقلة متنوعة فيه، تنسجم كلها، كما قلنا، في وحدة فنية شاملة كاملة.

هذا هو الأسلوب البياني في سفر الأعمال.

/

الأسلوب التاريخيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 77

 

بحث رابع

 

الأسلوب التاريخي في سفر الأعمال

سفر الأعمال كتاب تاريخ قبل كل شيء؛ إنه تاريخ حتى في تعليمه ودفاعه. والأسلوب التاريخي قديماً وحديثاً له أصوله، من صحة المصادر، إلى الأمانة في النقل، أو في الشهادة، إلى النزاهة في العرض وتفسير الأحداث، حتى تستوفي الصحة التاريخية مقوّماتها كلها. فهل كان لوقا، في سفر الأعمال، وفيّاً لهذه الأصول ـ في معزل عن الوحي ـ حتى نثق بشهادته لتاريخ نشأة المسيحية وانتشارها السريع المدهش المعجز، في مدى ثلاثين عاماً من العالم الإسرائيلي إلى السوري فالإغريقي الروماني، في العواصم الكبرى من أورشليم إلى إنطاكية إلى أثينا إلى رومة ؟

78 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 4

 

أولاً : مصادر سفر الأعمال

نعرف من فاتحة الإنجيل ( لو1: 1 ـ 4 ) حرص لوقا المؤرخ على استقصاء معلوماته من مصادرها الحية أو المكتوبة. وهذا الحرص قائم في كتابه الثاني إلى تيوفيل، كما في كتابه الأول.

ان لوقا هو المصدر الأول الشخصي لأنه حضر نشأة المسيحية في إنطاكية ونعرف من بولس أنه كان رفيقه في أسفاره خصوصاً في توقيفه الأول في فلسطين وفي رومة. ودليل ذلك أنه لا يذكر شيئاً عن بدء المسيحية في رومة، ولا عن تأسيسها في الإسكندرية العاصمة الثانية في الإمبراطورية. ويذكر من الرسل اثنين، ما عدا يعقوب أسقف أورشليم من آل بيت المسيح لا من رسله؛ ومن الشمامسة اثنين فيلبس واسطفان؛ ويجهل كل شيء عن سائر الرسل وأعوانهم الأوائل أي الشمامسة. مما يدل أن لوقا نفسه مصدر صحيح لمعلوماته، وشاهد عيان للقسم الأكبر من كتابه : لا يكتب إلاَّ ما اطلع عليه بنفسه.

وإِقامة لوقا مع بولس سنتين في فلسطين واتصاله بتلاميذ الرسل الذين ينقل عنهم القسم الثاني من إنجيله كما يشير إلى ذلك من طرف خفي ( لو10 : 1 )؛ وإِقامته في رومة مع بولس سنتين حيث كان بطرس يؤسس كنيسة الرومانيين وحيث اتصل به وبمرقس راويته، دليل على صحة مصادره الشخصية، في تأسيس المسيحية في أورشليم واليهودية والساحل السوري.

الأسلوب التاريخيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 79

ومن المصادر الشخصية لتأسيس المسيحية في أورشليم واليهودية أي في القسم الأول من الأعمال، أولئك الأعضاء البارزون في كنيسة أورشليم، والذين تنتدبهم الكنيسة الأم في رسالات استطلاعية : برنابا ومرقس وسيلا. فبرنابا حضر للتحقيق في هداية الوثنيين بإنطاكية وقيادة الدعوة فيها ( 11 : 22 ـ 23 )؛ وفيما بعد رجع برنابا ومرقس وسيلا معاً يكملون الدعوة في إنطاكية ( 12 : 25؛ 15 : 22 و35 ). ولوقا الطبيب الأديب، والمهتدي إلى المسيحية منذ البدء في إنطاكية، قد سمع هؤلاء المرسلين من أورشليم يذكرون كيفية بدء المسيحية فيها، وتعليم الرسل، وخطب بطرس خاصة باسم الجميع، وحفظ لهم ونقل عنهم. ولا ننس أن لوقا اجتمع ببطرس ومرقس مدة سنتين من أسر بولس في رومة.

ومن المصادر الشخصية أيضاً لتأسيس المسيحية في أورشليم واليهودية، ولمساهمة الشمامسة، المعاونين الأولين للرسل، الشماس فيلبس. وفي مرور بولس ولوقا بقيصرية فلسطين، وهم في طريقهم إلى أورشليم، نزلا في بيت فيلبس ( 21 : 8 ). ولا شك أن لوقا، في مدة توقيف بولس سنتين في قيصرية، قد تردّد على فيلبس وسمع منه حوادث انتخاب الشمامسة ودعوتهم، واستشهاد أسطفان ( 6 : 1 ـ 8؛ ف 6 ـ 7 ) ودعوة فيلبس نفسه في السامرة ( 8 : 4 ـ 25 ) ولدى قيّم الكنداكة، أميرة الحبشة ( 8 : 26 ـ 40 ). وفيلبس أيضاً شاهد عيان لنشأة المسيحية في أورشليم وفلسطين، اتصل به لوقا مدة سنتين.

وبولس نفسه قبل هدايته وبعدها من شهود الدعوة في أورشليم.

فقد تحقق لوقا من أحداث وتعليم القسم الأول من كتابه لدى الشهود العيان، وقابل بين مصادره الكتابية وشهادتهم الحية. كما أنه رافق الشهود العيان واشترك بأحداث القسم الثاني، ويروي بعض مواقفها عن تقرير شخصي كان يدوّنه للأحداث.

80 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 4

فمصادر لوقا الشخصية من شهود العيان تبعث الثقة بصحة روايته.

فهل استخدم مصادر مكتوبة ؟ أَجمع النقَّاد على أن سفر الأعمال فيه مصدر مكتوب يظهر كلما انتقل الكلام فجأة من الغيبة إلى المتكلم، ويسمونها المقاطع (( نحن )) ( 16 : 10 ـ 17؛ 20 : 5 ـ 15؛ 21 : 1 ـ 18؛ 27؛ 1 ـ 28 : 16 ). وينسبون هذا المصدر إلى كاتب السفر نفسه، أي مذكرات لوقا في رحلاته مع بولس؛ وذلك لوحدة اللغة والإنشاء والأسلوب في المقاطع (( نحن )) وفي سائر الكتاب.

ويعتقد أيضاً أكثر أهل النقد أن كثرة التعابير الأرامية في خطب القسم الأول من سفر الأعمال دليل على استعانة لوقا فيها بمصادر مكتوبة، لأن كاتباً كبيراً مثله لا يسمح بها لنفسه، لولا حرمة المصادر عنده. ولكن هذه المصادر المكتوبة قد قابلها لوقا، في تحرياته، بالمصادر الشخصية من الشهود العيان، فاجتمع لديه الشهادة المكتوبة والشهادة الحية. وهذا أكثر ممَّا هو مفروض لدى مؤرخ، لكي نطمئن إلى صحة اطلاعه وصحة شهادته. وهذا فضلاً عن ضمانة الوحي التي تعترف بها المسيحية لسفر الأعمال.

 

 

ثانياً : أمانة لوقا في نقل مصادره

تظهر أمانة كاتب سفر الأعمال في نقل مصادره أنه هو المصدر الأول للقسم الكبير من السفر، في تأسيس المسيحية في إنطاكية، وفي تزعمها حركة الدعوة المسيحية في العالم الإغريقي، بقيادة بولس الرسول الذي كان لوقا رفيق بعض أسفاره، وأمين سره في البعض الآخر، والرفيق الدائم مدة أسره الأول أربع

الأسلوب التاريخيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 81

سنوات، اثنتين في فلسطين واثنتين في رومة، ومدة توقيفه الثاني الذي لا يذكره السفر، ويذكره بولس في رسالته الأخيرة ( 2 تيمو 4 : 11 ).

وتظهر أمانة لوقا في نقل مصادره الأخرى، في القسم الأول، أي تأسيس المسيحية في أورشليم وسائر فلسطين، والخطب التي تنقل التعليم المسيحي الرسولي الأول، من اتصاله الشخصي بشهود العيان ومقارنة المصادر المنقولة بالمصادر الحية؛ ومن مقارنة خطب بطرس ويعقوب برسائلهما.

ولدينا في السفر ذاته دليل على أمانته : فهو يقص علينا هداية بولس في رواية شخصية لها ( 9 : 1 ـ 20 )، وينقلها على لسان بولس نفسه في رواية أولى أمام يهود أورشليم الثائرين، (( باللغة العبرية )) أي الأرامية التي يتكلم بها العبرانيون ( 22: 1 ـ 21 )، وفي رواية ثانية على لسان بولس أيضاً، باللغة اليونانية أمام الملك اغريبا والوالي فستس (26: 2 ـ 23). وقد تختلف الروايات الثلاث في بعض التفاصيل : فإبقاء لوقا على هذه التفاصيل المختلفة، وهو الأديب الأريب، دليل على أمانته لمصادره، ودليل أيضاً على اتفاق المصادر المختلفة في جوهر الأمور.

ولدينا وثائق ثابتة، يقر الجميع بصحتها، وهي رسائل بولس الكبرى. فيمكن أن نتأَكد بواسطتها من أمانة لوقا لمصادره ومعلوماته ـ وإن لم تكن رسائل بولس من مصادره المباشرة. لذلك فهي شاهد عدل على صحة معلوماته وصحة تاريخيتها. فما بين الأعمال والرسائل ائتلاف في الموضوع واختلاف في الأسلوب؛ وهذا أمر بدَهي، لأن بولس يصوّر نفسه وإيمانه، ولوقا يضع تاريخاً موضوعيّاً. وفي استقلال التلميذ عن معلمه، في العرض والتحليل، وموافقته له في الموضوع والرواية، ضمانة كبرى لأمانة لوقا وصحته التاريخية.

82 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 4

فيما بين الأعمال والرسائل موافقة في سيرة الرسول : في نشأَة بولس1، وفي تعصبه الفريسي للموسوية2، ثم في هدايته إلى المسيحية3.

وموافقة في سير الرسالة، من هداية بولس إلى مباشرته الرسالة الرسمية، مثل إِقامته مرتين في دمشق ( أع 11 : 20 ـ 23 = غلا 1 : 15 ـ 17 )، وهربه من دمشق ( أع 9: 20 ـ 25 = 2 كو 9 : 32 ـ 33 )، ورحلاته إلى أورشليم ( أع 9 : 26 ـ 30 = غلا 1: 18 ـ 19؛ أع 15 = غلا 2 : 1 ـ 10 ).

وموافقة في رسالته نفسها، من ملاحقة اليهود، فاليهود النصارى له والتشنيع عليه بشتى التهم4. يقابل ذلك حملات بولس عليهم5.

وموافقة في صفات الرسول، خصوصاً تجرده عن الكسب، والعمل بيديه لمعيشته6.

ــــــــــــــــــ

(1) نشأة بولس ( أع 21 : 39؛ 22 : 2 ـ 3؛ 23 : 6؛ 26 : 4 ـ 5 = غلا 1 : 14؛ 2 : 14؛ 2 كو 11 : 22؛ فيل 3 : 5 ـ 6 ).

(2) تعصبه الفريسي ( أع 7 : 58 ـ 8 : 1؛ 8 : 3؛ 9 : 1 ـ 2؛ 22 : 4 ـ 5 مع 20؛ 26 : 9 ـ 12 = فيل 3 : 6؛ 1 كو 15 : 9؛ غلا 1 : 13 مع 22 ـ 24 ).

(3) هداية بولس ( أع 9 : 3 ـ 9؛ 13 : 47؛ 22 : 6 ـ 10؛ 26 : 13 ـ 18 = غلا 1 : 1 مع 15 ـ 17؛ 2 : 7 ـ 8؛ رو 1 : 1؛ 1 كو 1 : 1؛ 2 كو 1 : 1؛ أفس 1 : 1؛ 3 : 7؛ كول 1 : 1؛ 2 تيم 1 : 1؛ غلا 1 : 1 مع 11 ـ 12؛ 1 كو 11 : 1؛ 15 : 8 ).

(4) التشنيع على بولس ( أع 9؛ 23 و29؛ 13 : 8؛ 14 : 5 ـ 6 و19؛ 16 : 19 ـ 40؛ 17 : 5 ـ 14؛ 18 : 12 ـ 17؛ 19 : 35 ـ 40؛ 20 : 18 ـ 21؛ 21 : 32 ـ 33 = 2 تيم 3 : 11؛ 1 كو 15: 30؛ 2 كو 1 : 8 ـ 10؛ 4 : 8 ـ 11؛ 6 : 4 ـ 10؛ 7 : 5؛ 11 : 23 ـ 29؛ غلا 4 : 13 ـ 14؛ فيل 1 : 29 ـ 30 ).

(5) حملات بولس ( غلا 1 : 7؛ 2 : 4؛ 2 كو 3 : 1؛ 5 : 12؛ 10 : 2 و10؛ 11 : 4 و13؛ فيل 1 : 15؛ 3 : 2؛ 1 تس 2 : 14 ـ 15 ).

(6) معيشة بولس ( أع 20 : 34؛ 18 : 3 = 2 كو 11 : 9؛ 12 : 13؛ فيل 4 : 15 ـ 18 ).

الأسلوب التاريخيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 83

وموافقة خصوصاً في أماكن رسالة بولس. لا تذكر الأعمال كنيسة كولوسي لأن بولس لم يهدها بنفسه ( كو 1 : 7؛ 2 : 1 ). أما بخصوص كنيسة فيلبي فقابل ( أع 16 : 12 ـ 40 = فيل 1 : 29 ـ 30؛ 2 : 12؛ 4 : 9؛ 1 تس 2 : 2 )؛ وكنيسة تسالونيكية (أع 17 : 1 ـ 7، 11 و13 = فيل 4 : 15؛ 1 تس 1 : 5 ـ 9؛ 2 : 1 ـ 15)؛ وكنيسة بيرية ( أع 17 : 10 = 1 تس 2 : 17 )؛ ورسالة أثينا ( أع 17 : 15 = 1 تس 3 : 1 )؛ وكنيسة كورنثس ( أع 18 : 1 ـ 18؛ 20 : 2 ـ 3 = 1 كو 3 : 6؛ 4 : 15؛ 9 : 1 ـ 2؛ 11 : 2؛ 2 كو 1 : 19؛ 12 : 12 و14؛ 13 : 1 )

وموافقة تامة في أسر بولس الأول الذي عنده يقف لوقا ( أع 21 : 33؛ 28 : 31 = أفس 3 : 1 و13؛ 4 : 1؛ كول 2 : 1؛ فيلمون 1 و9؛ وربما فيل 1 : 7 و13 و17 ).

وموافقة تامة في أعوان بولس مثل تيموثاوس1، وسيلا2، وأبولّس3، وغايس مع كريسبس4، وتيخيكس5، وأريسترخوس6، وأكيلا وبرسكلاَّ 7.

وهناك شبهة على موافقة الأعمال والرسائل : لوقا ينقل قرار كنيسة أورشليم ( أع 15: 23 ـ 29 )؛ وبولس لا يذكره. لكن نعلم من عنوان

ــــــــــــــــــ

(1) تيموثاوس ( أع 16 : 1 ـ 3؛ 16 : 4 ـ 20 : 4 = 1 تس 1 : 1؛ 2 تس 1 : 1؛ 1 كو 4 : 7؛ كو 1 : 1؛ 1 تيم 1 : 2 و18؛ 2 تيم 1 : 5 و13؛ 2 : 1 ـ 2؛ فيل 1 : 1؛ 2 : 19 و22؛ فيملون 1 ).

(2) سيلا ( أع 16 : 19 ـ 17 : 9 = 1 تس 1 : 1؛ 2 تس 1 : 1 ).

(3) أبولس ( أع 18 : 24 ـ 19 : 1 = 1 كو 1 : 10 ـ 3 : 9 ).

(4) غايس وكريسبس ( أع 19 : 9؛ 20 : 4؛ 18 : 8 = 1 كو 1 : 14؛ رو 16 : 23 ).

(5) تيخيكس ( أع 19 : 29؛ 20 : 4؛ 27 : 2 = كول 4 : 7؛ أفس 6 : 21؛ تيطس 3 : 12؛ 2 تيم 4 : 12 )

(6) أريسترخوس ( أع 20 : 4؛ 27 : 2 = كول 4 : 10؛ فيلمون 24 ).

(7) أكيلا وبرسكلا ( أع 18 : 1 ـ 3 و18 و26 = 1 كو 16 : 19؛ رو 16 : 3 ـ 4 )

84 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 4

القرار أنه أرسل (( إلى الأخوة الذين من الأمم في إنطاكية وسورية وكيليكية )) (أع 15: 23) حيث يكثر اختلاط النصارى اليهود بالمسيحيين من الأمميين. بينما بولس يكتب إلى كنيسة غلاطية التي كلها من الأمميين، فليس المشكل عندهم التعايش السلمي بين الفريقين، بل تحرير المسيحية من الموسوية. وهناك سبب آخر يظهر من تحليل الفصل الخامس عشر من الأعمال. إن سبب مجمع الرسل كان للنظر في ضرورة الختان بحسب شريعة موسى للمسيحيين من الأمميين أنفسهم ( أع 15 : 1 ـ 2 )؛ لا للنظر في التعايش السلمي بين الفريقين كما يظهر من ختام الفصل ( 15 : 22 ـ 29 ). لذلك نرى مع بعضهم أن لوقا جمع في تقرير واحد ما جرى في مناسبتين مختلفتين : الجدال في ضرورة الشريعة والختان؛ ثم البحث في التعايش السلمي بين الفريقين من أتباع المسيح. فاقتصر بولس في رسالته إلى أهل غلاطية على موضوع مجمع الرسل في تحرير المسيحية من الموسوية؛ ولم يذكر قرار التعايش السلمي لأنه من زمن آخر ولا يعني أهل غلاطية فالموافقة الضمنية قائمة.

فتلك الموافقات الموضوعية بين سفر الأعمال ورسائل بولس، مع استقلال التلميذ عن معلمه في أسلوبه وتفكيره واستخدام رسائله، دليل قائم على أمانة لوقا ونزاهته في استخدام مصادره.

 

 

ثالثاً : نزاهة لوقا في استخدام مصادره، وعرض الأحداث

لا يكفي أن يكون المؤرخ أميناً لمصادره، بل عليه أن يكون نزيهاً في نقلها، نزيهاً في عرضها، نزيهاً في تحليل الأحداث والأقوال والأحوال.

وهذه النزاهة موفورة في مؤرخ المسيحية الأول، لوقا الإنطاكي الطبيب

الأسلوب التاريخيّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 85

الأديب. وهدايته إلى المسيحية لم تشوّه نزاهته في عرض أحداثها وتشخيص أبطالها، ونقل تعلميهم.

فلوقا كان تلميذ بولس ومعاونه في رسالاته. لكن لوقا يستقل في كتابة التاريخ عن معلمه وعن كلامه الخاص في تعليمه. فنظرات بولس الملهمة في الكلام المسيحي، كتحرير المسيحية من الموسوية، ونظرة الفداء عن البشر في استشهاد المسيح، والخلاص بصليب المسيح ودمه، وتفسير رفع المسيح عن يمين الله للشفاعة، لا نجدها على صراحتها، في تعليم الرسل الأوّلي وخطب بطرس البدائية، حتى أن هذا الاستقلال عن بولس جعل بعضهم يشكّون في كون لوقا كاتب الأعمال. وفاتهم نزاهة المؤرخ في عرض المسيحية، بعيداً عن كلام معلمه.

والمشكل الأكبر الذي عرض للرسل في دعوتهم للمسيح كان في تحرير المسيحية من الموسوية. فتزعم بولس، كما نرى في رسائله، حركة التحرير، حتى ثارت عليه ثائرة النصارى اليهود الذين كانوا يريدون تهويد المسيحية، ولاحقوه في كل كنائسه يكيدون له، فسمَّاهم (( الأخوة الكذبة )) ! مع ذلك لا نرى في سفر الأعمال شيئاً من هذا العداء السافر من قبلهم، ولا من تلك الحملة العنيفة عليهم من قبل بولس. لا نشعر في سفر الأعمال بشيء من انقسام الرأي في الدعوة الإنجيلية إلى مسيحية عند الأمميين، ونصرانية عند اليهود المتنصّرين، كما نرى جذورها عند بولس، وخصوصاً في رسائل يعقوب ويهوذا وأبولّس (إلى العبرانيين) ويوحنا ( الأولى ). فلوقا عرض المشكل عرضاً موضوعيّاً ( أ ع ف 15 ) وسجّل قرار التحرير وتبليغه إلى الكنائس، دون الالتفات إلى المعارضات الجانبية التي تزخر بها رسائل بولس. وهذا هو الفارق بين المؤرخ وبين المتكلم المحامي عن عقيدته.

ولا ننس أن المؤرخ، من طراز لوقا، الذي ينظر إلى الأمور نظرة موضوعية، هو غير الرسول الذي يعرض عقيدته ويستميت في الدفاع عنها،

86 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 4

مثل بولس. وهذا سبب ما بين الرسائل والأعمال من المختلف المؤتلف، كالفارق بين التاريخ والكلام. وهذا دليل على نزاهة لوقا في استخدام مصادره، وفي عرض أحداث التاريخ المسيحي.

فسعة إطلاع لوقا، وثقافته العالية، وأمانته للشهود والمصادر التي نشعر بها في روايته، ونزاهته في العرض والتحليل، دعائم راسخة لصحته التاريخية.

 

 

T

الصحّة التاريخيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 87

 

بحث خامس

 

الصحة التاريخية في سفر الأعمال

 

سفر الأعمال، في معزل عن الوحي، هو الكتاب التاريخي لنشأة المسيحية، وانتشارها العجيب في العالم الإسرائيلي، وخصوصاً في الدولة الرومانية سيدة المسكونة الوثنية. وشهادته فريدة لمعرفة عقيدة الرسل عشية رفع المسيح إلى السماء، ومعرفة دعوتهم لتأسيس المسيحية. وهذا كله يتوقف على الصحة التاريخية لسفر الأعمال، جملةً وتفصيلاً.

 

 

أولاً : الصحة التاريخية جملةً

صحته التاريخية مبنية على شهادة الشهود العيان الذين ينقل عنهم، كما يصرح في فاتحة الإنجيل : فالتاريخ الصحيح في نظره ضمانة للتعليم الصحيح ( لو1 : 1 ـ 4 ).

وصحته التاريخية تظهر من أنه لا ينقل إلا ما يعرف. لقد حضر بذاته تأسيس المسيحية في إنطاكية عاصمة المشرق، ورافق بولس في رحلاته التبشيرية أو تتبع أخبارها؛ لذلك فهو يتوسّع في وصفها. ولكنه لا يذكر من أعمال الرسل سوى أعمال بطرس في فلسطين، وأعمال بولس في العالم الإغريقي الروماني : فأين أعمال سائر الرسل ؟ يذكر انتخاب الشمامسة من اليهود الهلينيين، الأعوان القلائل للرسل؛ ولكنه لا يذكر سوى بعض أعمال استفانوس

88 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

وفيلبس : فأين أعمال سائر الشمامسة ؟ يذكر نقلاً عن المذكورين تأسيس الكنيسة في أورشليم ثم في إنطاكية : فكيف يسكت عن تأسيسها في رومة، العاصمة الأولى في الإمبراطورية، وفي الإسكندرية العاصمة الثانية ؟ فهذه نواقص لا تُغتفر عند مؤرخ يحترم نفسه : فما بال لوقا أغفلها ؟ أمانته ونزاهته جعلتاه لا يكتب إلا ما يعرف، وهذا ضمانة لصحته التاريخية.

قد يقول بعضهم : لوقا لا يجهل، بل يهمل، لأن غايته كتابة تاريخ الدعوة المسيحية للعالم الإغريقي الروماني في شخص النبيل تيوفيل، الذي قد لا يعنيه انتشار المسيحية في العوالم الأخرى. وقد تكون غايته الأخرى كتابة دفاع تاريخي للمسيحية ولبولس لدى السلطات الرومانية.

على كل حال سكوت لوقا عمَّا يجهل أو يهمل دليل على صحته التاريخية، لأنه يكتب ما تحققه بذاته لدى شهود العيان.

وصحته التاريخية تظهر أيضاً من الاختلاف في التفاصيل الثانوية بين المصادر التي يعتمدها، ولا يحاول طمسها، كما في الروايات الثلاث لهداية بولس.

وصحته التاريخية تظهر كذلك من أن تلميذ بولس لا يجعل نظريات بولس تتسرب إلى دعوة سائر الرسل وأعوانهم، كما يتضح من خطب القسم الأول من الأعمال. بولس وحده يسمي المسيح (( ابن الله )) ( أع 9 : 20 )؛ ولوقا يصف روح القدس أنه (( روح يسوع )) (16: 7) نقلاً عن معلمه بولس؛ ولوقا يصف أعوان بولس بأنهم (( أساقفة )) ( 20 : 28 ). ولكن ليس شيء من هذا في تعليم كنيسة أورشليم كما يظهر من خطب القسم الأول. والفارق إنما هو في التعبير ما بين البيئة الإسرائيلية والبيئة الأممية.

وصحته التاريخية تظهر أيضاً من الفارق في التفكير والتعبير بين خطب بطرس في القسم الأول، وخطب بولس في القسم الثاني : فخطب بولس، خصوصاً في ندوة آريوس باغس في آثينا، مشحونة بتعابير هلنستية، وبأسلوب

الصحّة التاريخيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 89

بولس المعروف، وليس شيء من هذا في خطب بطرس، فلا هلنستية ولا (( بولسية )) فيها.

وصحته التاريخية تظهر كذلك من مقارنة دعوة الرسل الأولى في أورشليم بدعوة المسيح نفسه، كما أوجزها مرقس في مطلع إنجيله : (( وبعد ما أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل يدعو بإنجيل الله، ويقول : لقد تمَّ الزمان ـ واقترب ملكوت الله ـ فتوبوا وآمنوا بهذه البشرى )) ( مر 1 : 14 ـ 15 ) وهذا ما نراه مردداً، في خطب بطرس الأولى الأربعة.

من المتواتر في تفسير الربانيين للنبؤات إنها تتعلق بعهد المسيح المنتظر. وها الرسل، بعد المسيح، يعلنون أن العهد المسيحي أتى، وقد تم الزمان : (( هذا هو ما قيل بلسان يوئيل النبي: سيكون في الأيام الأخيرة ( أيام المسيح )، يقول الله، إني أفيض من روحي على كل بشر ... )) ( 2 : 16 ـ 17 )؛ (( إن الله قد تمم هكذا ما سبق فأنبأ به، بفم جميع الأنبياء، من أن مسيحه سيتألم )) ( 3 : 18 )؛ (( وجميع الأنبياء من صموئيل إلى كل من تكلم من بعده، قد أنبأوا بهذه الأيام )) ( 3 : 24 ).

بشّر المسيح بحضور ملكوت الله. والرسل ينادون بأن ملكوت الله هو ملكوت المسيح، بشخصه ورسالته وموته وقيامته. ويسوع هو ابن داود الموعود ( 2 : 30 ـ 31 الذي يستشهد بالمزمور 132 : 11 ). ورسالة يسوع قد تحققت بمعجزات أعظم من معجزات موسى ( 2 : 22 ) فهو النبي الآتي الذي وعد به موسى : (( فإن موسى قد قال : سيقيم لكم الرب الإله، من بين إخوتكم، نبيّاً مثلي، فله تسمعون في كل ما يكلمكم به، ومَن لا يسمع لذلك النبي يُقطع من بين الشعب )) ( 3 : 22 ). وموت المسيح، صخرة الشك لإسرائيل، قد أنبأَ به جميع الأنبياء ( 3 : 18 )، وقد نفّذوا هم نبؤات الأنبياء فيه : (( ذاك الذي أُسلم بحسب قضاء الله وعلمه، قتلتموه أنتم صلباً بأيدي الخطأة )) ( أي المشركين ) ( 2: 23 ). فهو (( فتى الله ))، كما سمَّاه أشعيا، والذي يبذل

90 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

ذاته عن شعبه : (( لقد أسلمتموه أنتم، وأنكرتموه أنتم بحضرة بيلاطس، وقد حكم هو بإطلاقه. لقد أنكرتم أنتم القدوس، الصديق! وطلبتم تسريح رجل قاتل. لقد قتلتم مُبدئ الحياة الذي أقامه الله من بين الأموات، ونحن شهود بذلك )) ( 3 : 13 ـ 15 ). يشهدون لقيامته التي تنبأَ عنها داود ( 2 : 24 ـ 31؛ 3 : 15؛ 4 : 10 ). فبرسالة المسيح واستشهاده وقيامته وإرساله الروح القدس على الرسل والمؤمنين بالمسيح، حلّ ملكوت الله في ملكوت المسيح ( 2 : 33 ) كما تنبأَ يوئيل ( أعمال 2 : 17 ـ 21 : يوئيل 2 : 28 ـ 32 ). فتوبوا وآمنوا بتحقيق الوعد والعهد ( 3 : 25 ) (( فلأجلكم أولاً أقام الله فتاه، وأرسله لكي يبارككم فيرتد كل واحد منكم عن شروره )) ( 3 : 26 ).

هذه دعوة المسيح ودعوة رسله الأولى، فلا شيء فيها من كلام بولس، ولا من صوفية يوحنا. وهذا هو الدليل العام على الصحة التاريخية في سفر الأعمال.

 

 

 

الصحّة التاريخيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 91

 

ثانياً : الصحة التاريخية تفصيلاً

1 ـ لا كلام لنا مع منكري النبوة والمعجزة، وسفر الأعمال تاريخ نبوة ومعجزاتها بالكلمة والمعجزة والقداسة وحلول روح الله. ففي سفر الأعمال نحو ماية من الخوارق الإلهية: منها 77 في القسم الأول ( ف 1 ـ 15 )؛ و 10 في الفصول ( 16 ـ 18 )؛ و14 في (( المقاطع ـ نحن )) . وقد يجد بعضهم شبهة على المعجزات في سفر الأعمال، من مشابهة معجزات بولس لمعجزات بطرس، في شفاء العرج (3 : 2 ـ 9 = 14 : 8 ـ 10) وقيامة الأموات ( 9 : 40 = 20 : 10 ـ 12 ) والاقتصاص ( 5 : 1 ـ 11؛ 8 : 18 ـ 24؛ 13 : 6 ـ 11 = 16 : 16 ـ 18؛ 19 : 13 ) والخروج بمعجزة من الحبس ( 12 : 1 ـ 17 = 16 : 16 ـ 40 ) وتأليه الرسولين ( 10 : 25 = 14 : 11 ـ 12 ) ـ كأنها مقصودة لمقارنة بولس ببطرس. نجيب : هذه تخرصات يتستر وراءها من ينكر النبوة والمعجزة؛ وفاتهم أن الدعوة واحدة، والوسائل واحدة، وتأسيس المسيحية واحد، فلا بد من النظائر والمتشابهات بين دعاتها ورسلها.

 

2 ـ والخطب في سفر الأعمال هي رائعة لوقا. وفيها خطوط الدعوة الرئيسية، أساس العقائد المسيحية. ويحاول أن ينكر صحتها الناكرون، لسبب من خارج، ولسبب منها. يقولون أن عادة الأقدمين أن يخلقوا خطباً على لسان أبطالهم، فتبع لوقا طريقتهم؛ يشهد على ذلك وحدة الإنشاء في خطب الأمي بطرس، والعلاَّمة بولس. أجل لا ينقل لوقا خطب الرسل بحرفها، ولكنه يوجز لنا مواضيعها، لذلك تشابه الإنشاء فيها. وفاتهم أن لوقا لا يخلق خطباً على لسان أبطاله، بل ينقل تعليمهم الذي هو هدفه من كتابة التاريخ كما أعلن منذ فاتحة الإنجيل ( لو1 : 1 ـ 4 )؛ فلو كانت الخطب مختلفة لضاعت

92 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

عليه غايته: فهي تعليم في تاريخ؛ وفي نظـر التعليم الصحيح يسـتند إلى التـاريخ الصحيح: (( لكي تكون على بينة من التعليم الذي اهتديت إليه )) .

ومن مقارنة خطب بطرس برسالتيه نتأكد من صحة تعليمها. ومن مقارنة خطب بولس برسائله نتثبت من مطابقتها في الخطوط العريضة. وإن كانت ثمة من فرق بين خطب بولس في الأعمال وتعليمه في الرسائل فمرده إلى الفرق هنا وهناك بين المخاطبين؛ فبولس في سفر الأعمال يبلّغ (( دعوة )) إلى الوثنيين، فيتخذ أسلوبهم الهلنستي لإيلافهم؛ بينما هو في رسائله يعطي المسيحيين (( تعليماً )) ، لأهل البيت. وشتان ما بين الموقفين.

وقد لاحظ العارفون ترديد صيغ واحدة للعقيدة المسيحية في بلاغ الدعوة، في سفر الأعمال كما في سائر أسفار العهد الجديد.

وقد لاحظوا أيضاً وجود موجزات جاهزة متواترة للتعليم المسيحي، في كنيسة الرسل، يقتبس منها كتبة العهد الجديد كلهم.

وقد لاحظوا كذلك وجود مقتطفات كتابية للاستشهاد بها في إِثبات مسيحية يسوع وصحة رسالته، يعتمد عليها دعاة المسيحية وكتبة الوحي في العهد الجديد.

ومطابقة صيغ بلاغ الدعوة، وموجزات التعليم المسيحي، والمقتطفات الكتابية المتواترة ما بين الأعمال والأناجيل والرسائل دليل على صحة سفر الأعمال التاريخية.

يكفينا مثل واحد : لقد أوجزت دعوة الرسل إيمانها بيسوع أنه (( المسيح الرب )) ( أع 2 : 36 ). وهذه هي الدعوة التي نجدها في سفر الأعمال كما في الأناجيل والرسائل، وإن اختلفت أساليب عرضها؛ ومن هذه العقيدة الجوهرية

الصحّة التاريخيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 93

تتفرع أسماء (( المسيح الرب )) الحسنى جميعها، في سائر أسفار العهد الجديد، لإعلان مسيحية يسوع وإِلهيته. ووحدة العقيدة هذه دليل أيضاً على الصحة التاريخية في سفر الأعمال.

وإن كان ثمة فارق في أسلوب الدعوة، لدى البيئة الإسرائيلية بالاستشهاد بكتاب الوحي، ولدى البيئة الوثنية بالاستشهاد بكتاب الخلق، كما يفعل بولس في ندوة أثينا وفي ليسترة، كما في الرسالة إلى الرومانيين، فهذا أمر طبيعي لا شبهة عليه.

فالصحة التاريخية للخطب في جوهرها وموجزها الذي كتبه لوقا، قائمة ثابتة، لا تقوى عليها شبهات المشتبهين.

 

3 ـ والقصَصُ في سفر الأعمال تاريخ، بأسلوب بياني، على طريقة الأقدمين.

فكتابة التاريخ اليوم، كما نفهمه بطريقة علمية، تختلف عن طريقة الأقدمين الأدبية البيانية. وكتابة التاريخ بأسلوب علمي كما نفهمه، غير كتابته بأسلوب بياني كما فعل الأقدمون، وحذا لوقا حذوهم. فمن يطلب عند لوقا الدقة في التفاصيل التاريخية الثانوية، وخبايا الزوايا في الأحداث والأشخاص، يجد شبهة على صحته التاريخية، لأنه لم يفهم التاريخ على هذه الصورة، ولم تكن تلك طريقة الأقدمين. يكفي لوقا أن يعطينا عن نشأة المسيحية صورة واقعية فنية معاً حتى يصل إلى غايته. وهذا ما نجده في سفر الأعمال.

فإِذا ما وجدنا خلافاً في تفاصيل بعض الأحداث، أو تعارضاً ظاهريّاً ما بين الأعمال وبعض أسفار العهد الجديد، فليس ذلك شبهة على صحة سفر الأعمال التاريخية، بل مرده إلى أمانة لوقا لمصادره، وقدسية حرفيتها التي يتمسك بها الأقدمون، مع ما فيها من تفاصيل تختلف في الظاهر، وتأتلف في الجوهر.

94 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

وهذا ما يعنيه، ويعنينا نحن أيضاً. وإبقاء لوقا الأديب الأريب على تلك الهنات ليس شبهة عليه، بل دليلاً على صحته التاريخية.

ومع التمسك بحرفية المصادر، وإن اختلفت في بعض تفاصيلها، نجد عند لوقا كما نجد عند الأقدمين حرية في إيراد التفاصيل الثانوية المتعارضة ـ كما في الأناجيل المؤتلفة، وفي سفر الأعمال ـ وهي حرية لا يتحرجون منها كما نستغربها نحن اليوم ونستهجنها، ونتّخذ منها شبهة على الصحة التاريخية. وما هي بشبهة، لأن طريقتنا العلمية في كتابة التاريخ تختلف عن طريقة الأقدمين البيانية. هم يقصدون إلى جوهر الأمور والأثر البياني في التاريخ؛ ونحن نؤثر التفصيل الموضوعي، والتحقيق التاريخي العلمي.

وهذه الطريقة في كتابة التاريخ تُسقط ما نجده من شبهات، على بعض القصص، في سفر الأعمال.

 

4 ـ بعض الشبهات على تاريخية سفر الأعمال

1) يقولون إن لوقا ( أع 2 : 42 ) يصف حياة الجماعة المسيحية الأولى الاجتماعية على مثال جماعة قمران الرهبانية؛ وهو الوحيد في العهد الجديد الذي يذكر في هذه المناسبة كلمة (( الشركة )) أو (( الاشتراكية )) ( ϰοινωνία ). وما ضرَّ جماعة المسيح في حرارتها الأولى أن تقتدي بحرارة رهبانية قمران، وقد عاش في كنفها المعمدان وبعض من تلاميذه الذين أصبحوا من رسل المسيح ؟! ولا ننس أن لوقا يقصد الاشتراكية الروحية أكثر من المالية أو الملكية، بقوله : (( ولم يكن للجميع سوى قلب واحد وروح واحدة )) ( 4 : 32 ). والكلمة يونانية، لا أرامية، من تعابير الفلسفة اليونانية الحديثة.

الصحّة التاريخيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 95

ولوقا يسجل واقعاً فريداً في الكنيسة الأم، دليلاً على سخاء الأغنياء فيها على الفقراء، لا مبدءاً مسيحيّاً يفرضه على جميع الكنائس.

 

2) ويجدون في خطاب جمالئيل ( 5 : 34 ـ 39 ) الفقيه الفريسي، عضو السنهدرين، بعض أخطاء تاريخية لزمن الإحصاء الروماني، في ولاية كيرينيوس على سوريا الكبرى، ولثورتي تدّة ويهوذا الجليلي، كما يظهر لهم من المقارنة بتاريخ يوسيف. ويقولون أيضاً إن في قصة الاحصاء ما بين الإنجيل ( لو2 : 2 ) والأعمال ( 5 : 37 ) تعارضاً. وفاتهم أن الاحصاء الأول جرى في زمن مولد المسيح أي العام 5 ـ 7 قبل تاريخ الميلاد الشائع، والثاني الذي رافقته ثورة يهوذا الجليلي، بعد مولد المسيح بسبع سنوات بحسب التاريخ الشائع. والتاريخ العام يعلمنا أن القيصر أغسطس أدخل في الولايات عادة الاحصاء كل أربعة عشر عاماً؛ وهذا يتفق مع الاحصاءَين المذكورين في الإنجيل والأعمال. أمَّا ما يقوله جمالئيل الذي يخطب عام 37 عن ثورة يهوذا الجليلي التي وقعت في العام السابع من التاريخ الشائع، من أنها سبقت ثورة تدّة التي يؤرخها يوسيف من العام 45 بعد الميلاد، فليس من غلط تاريخي لأن الأسماء والثورات كانت متواترة عند اليهود في زمن الحكم الروماني، فقد يقصد يوسيف ما لا يقصده لوقا؛ وما كان لجمالئيل أن يستشهد عام 37 بثورة وقت بعده عام 45، ويظهر أن الثورتين وقعتا في الاحصاءَين زمن المولد، واستشهاد جمالئيل صحيح، ونقل لوقا لمصدره صحيح.

 

ويجدون تعارضاً في قصة نهاية يهوذا الاسخريوطي ما بين الأعمال ( 1 : 18 ـ 19 ) والإنجيل بحسب متى ( 27 : 5 ). متى يقول : (( فطرح الفضة في الهيكل، وانصرف ومضى فخنق نفسه. فأخذ رؤساء الكهنة الفضة ... وابتاعوا بها

96 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

حقل (( الفخاري )) (( مقبرة للغرباء )) عن أورشليم. ويقول لوقا في يهوذا : (( فهذا الرجل قد اقتنى حقلاً، من أجرة جرمه، ثم سقط على رأسه، فانشق من وسطه واندلعت أمعاؤه كلها. وبات ذلك معلوماً عند جميع سكان أورشليم، ( أع 1 : 18 ـ 20 ). فمتى ينسب شراء الحقل إلى رؤساء الكهنة، ولوقا ينسبه إلى يهوذا نفسه. متى يصف نهاية يهوذا بالشنق، ولوقا يصفها بطرح نفسه على صخر شق بطنه. وليس في الروايتين من تناقض، لأنهما على إيجازهما متكاملتان : المال، ثمن الخيانة، هو من الأحبار، وبالخيانة صار مال يهوذا، فتصح نسبته إلى الأحبار كما فعل متى، وإلى يهوذا كما فعل لوقا، في شراء الحقل. وفي نهاية يهوذا متى يصف الحادثة بفصلها الأول الشنق، ولوقا يصفها بفصلها الثاني، سقوط يهوذا بعد الشنق على صخر شقه وفجّر أمعاءَه. وبحسب أسلوب الأقدمين في التاريخ، العبرة في الجوهر، لا في التفاصيل الثانوية؛ وكلاهما متفقان على عاقبة يهوذا الوخيمة، الانتحار.

 

4) ويجدون تعارضاً في تحديد الفترة الممتدة ما بين قيامة المسيح وصعوده إلى السماء : ففي الإنجيل يظهر أنهـا تقتصر على يوم واحد؛ وفي الأعمال ( 1 : 3 ) يحـدّدها (( بأربعين يوماً )) . ونقول : هذا التعارض الظاهري نجده أيضاً بين مرقس ( 16 : 19 ) الذي يتبعه لوقا في الإنجيل، وبين متى ( 28 : 16 ) ويوحنا ( ف 20 ـ ف 21 ) اللذين يتبعهما سفر الأعمال. وليس ثمة من تعارض ما بين الإنجيل والأعمال، لأن لوقا يفصّل في الأعمال ما أوجزه في الإنجيل؛ وقد عوّدنا لوقا في موجزاته، كما في زيارة المسيح إلى الناصرة، على القفز فوق الفترات الزمانية لإكمال اللوحة البيانية في وحدة فنية، بحسب أسلوبه وأسلوب الأقدمين. فهناك خلاف في الأسلوب، لا خلاف في الموضوع. ويترك لنا لوقا قرائن لفظية ومعنوية في وحداته التاريخية، لاستدراك الأزمنة التي يجمع بينها بأسلوبه البياني. مثلاً يستهل دعوة المسيح في الجليل بذكر زيارة الناصرة

الصحّة التاريخيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 97

( لوقا 4: 14 ـ 30 ) لكنه يفتتحها بقوله: (( وكان يعلّم في المجامع والجميع يشيدون بمجده )) ( 4 : 15 )؛ ويختمها بقولهم : (( فكل ما سمعنا أنك فعلت في كفرناحوم إِفعله هنا أيضاً في وطنك )) ( 4 : 23 )، ممَّا يشير إلى تقديم الزيارة لسبب بياني، لا لتحقيق تاريخي؛ وقد يكون جمع زيارتين أو ثلاثاً إلى الناصرة في رواية واحدة. وكذلك في موجز فترة القيامة : فبعد ذكر ظهور المسيح لهم يوم القيامة ( لو24 : 36 ـ 43 ) يكتب : (( ثم قال لهم )) ( 24 : 44 ) ـ متى ؟ ـ مشيراً إلى ظهور آخر، قد يكون الأخير ( 24 : 44 ـ 50 ) وهو الذي فصله في الأعمال.

 

5) ويقولون : إِن تاريخ إسرائيل في خطبة أسطفان ( 7 : 1 ـ 53 ) مشوّه ويختلف عمَّا نعرفه من التوراة.

وفاتهم أن اسطفان في موقف الاستشهاد خطيب شعبي يرتجل خطاباً، لا مؤرخ يكتب تاريخاً؛ وحفظ لوقا لخطابه، مع معرفة لوقا التامة للتوراة، دليل صحته التاريخية. فاسطفان يقول: (( إِن إِله المجد تراءَى لأبينا إبراهيم، وهو في ما بين النهرين، من قبل أن أقام بحرَّان )) ( 7 : 2 )؛ وبحسب التوراة كانت الرؤيا في حرَّان ( تكوين 11 : 31 ).

ـ مع ذلك فالتوراة تقول : (( أنا هو الله الذي أخرجك من أور الكلدانيين ( تكوين 15: 7 قابل نحميا 9 : 7 ). اسطفان في كل خطبته يقص بحسب تفسير أهل التلمود؛ فهو خطيب شعبي يكلّم الشعب.

وبحسب اسطفان ترك إبراهيم أور الكلدانيين، وأَقام بحران؛ ومن هناك، بعد وفاة أبيه (( نقله إلى هذه الأرض التي أنتم الآن مقيمون فيها )) ( 7 : 4 )؛ وبحسب التوراة كانت وفاة تارح في حران ( تكوين 12 : 32 ).

98 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

ـ تعبير اسطفان (( من هناك )) قد يعود إلى حران أو إلى أرض الكلدانيين، فهو غامض لا يجزم بشيء.

وبحسب اسطفان كانت مدة استعباد العبرانيين في مصر (( أربعماية سنة )) ( 7 : 6 )؛ والتوراة تجعله (( أربعماية وثلاثين )) ( خر 12 : 40 ).

ـ تعبير اسطفان إجمالي يُستعمل في الحديث، وقد استعملته التوراة من قبل ( تكوين 15 : 13 ).

وبحسب اسطفان كان عدد عائلة إبراهيم حين نزوحها إلى مصر (( خمساً وسبعين )) (7 : 14)؛ وبحسب التوراة (( سبعين )) ( تكوين 46 : 27؛ خروج 2 : 5 ).

ـ تلك تعابير تقريبية، يؤخذ بها في الخطب الشعبية.

وبحسب اسطفان كان سبب هرب موسى من مصر نقمة بني قومه عليه ( 7 : 28 ـ 29 )؛ وبحسب التوراة، كان خوف موسى من بطش فرعون ( خر 2 : 15 ).

ـ لا تعارض بين جمع السببين، كما يرشح من النصين.

وبحسب اسطفان كان عمر موسى (( أربعين )) سنة لمَّا بدأ رسالته عند بني قومه وافتضح أمره وهرب ( 7 : 23 )؛ والتوراة تذكر بدء نبوته وهو (( ابن ثمانين )) ( خر 7 : 7).

ـ لا تذكر التوراة عمر موسى، لمَّا بدأ يتزعم قومه بمصر، بل تذكره (( لمَّا قابل فرعون )) أي بعد نهاية هجرته ( خر 7 : 7 ). وأخذ أسطفان بعادة اليهود الذين كانوا يقسمون حياة موسى إلى ثلاث أربعينيات ( أع 7 : 23 و30 ).

وبحسب اسطفان (( تجلَّى له ملاك في بريّة جبل سيناء )) ( 7 : 30 )؛ وبحسب

الصحّة التاريخيّة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 99

التوراة كلمة الله نفسه ( خر 6 : 2 ـ 3 )، فسُمّي (( كليم الله )) .

ـ نجد في التوراة نفسها التعبيرين : (( يهوه )) أو (( ملاك يهوه )) ، كناية عن الله نفسه. ومع تطور الكلام من التشبيه إلى التنزيه صاروا يبدلون (( يهوه )) (( بملاك يهوه )) ، ودرجت العادة التي يستعملها اسطفان.

وبحسب اسطفان (( هبط يعقوب إلى مصر، ومات هو وآباؤنا، ونُقلوا إلى شكيم، ووُضعوا في القبر الذي اشتراه إبراهيم بثمن من الفضة، من بني حمور بشكيم )) ( 7 : 15 ـ 16 )؛ والتوراة لا تذكر شيئاً من ذلك. وهل يمكن أن تبقى رفات يعقوب والأسباط ثلاثماية سنة ؟

ـ إن اسطفان ينقل تقليداً تلموديّاً درج بين الشعب؛ ولا يستبعد ذلك في اعتمادهم التحنيط المصري لزعمائهم.

أخيراً بحسب اسطفان (( موسى هذا الذي أنكروه قائلين : مَن أقامك رئيساً وحاكماً ؟ هو نفسه بعثه الله رئيساً ومخلصاً )) ( 7 : 35 ). والتوراة لا تسميه مخلصاً. ولا تذكر هذا التنكر لموسى.

ـ إن اسطفان يُسند إلى الجماعة قول بعضهم، في أسلوب خطابي. وهو يسمي موسى (( مخلصاً )) كما درج عند أهل التلمود وأخذ به الشعب.

وهكذا نرى اسطفان خطيباً شعبيّاً، يكلم الشعب في موقف الاستشهاد. فليس هو مؤرخاً، وليس هو معصوماً مثل الرسل. إنما يكلم الشعب بلغة الشعب، بحسب تفسير القوم الذي درج بين الشعب. ولوقا ينقل خطابه على علاّته، مع معرفته التامة بالتوراة. وهذا دليل آخر على صحة لوقا التاريخية. والتمييز بين الأسلوب الخطابي وبين الأسلوب التاريخي يؤمننا من الزلل والتسرع بالاتهام. فلا تناقض بين سفر الأعمال والتوراة.

 

100 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

6) يقولون أيضاً : إن خطاب بولس في ندوة أثينا، محفل أريوس باغس ( 17 : 22 ـ 34 ) هو منحول، لا يتفق ودعوة بولس للمسيح؛ وانتحاله ظاهـر من ذكر الكتابية الأثينية (( للإله المجهول )) التي لا تعرفها الآثار بصيغة المفرد.

نجيب : إن خطبة بولس في ندوة أثينا شبيهة بخطبة بولس في ليسترة ( 14 : 15 ـ 17 ). فالدعوة المسيحية لدى اليهود تختلف عنها لدى الوثنيين. وكانت عادة الرسل البدء بالتوحيد قبل عرض إنجيل المسيح. ودعوة مسيحية في ندوة وثنية فلسفية كان عليها أن تعرض التوحيد، تدرجاً إلى الدعوة المسيحية. ونستغرب العكس من علاَّمة كبولس ( أع 26 : 24 )، ولنا على ذلك قرينة من حملته على الوثنية في الرسالة إلى الرومانيين ( 1 : 28 ـ 32 ). والكتابة (( للآلهة المجهولة )) ، وهي واردة في الآثار، قد تكون عندهم تعبيراً معنويّاً، استخدمه بولس بالمفرد، استطراداً إلى التوحيد، والمسيح الرب. وما يمنع خطيباً أن يفسر تعبيراً ينطلق منه في بيان مقصده ؟ فليس في ذلك تنكّر للتاريخ، ولا شبهة على صحة التاريخ.

 

7) يقولون أيضاً إِن هناك خلافاً بين قصة هداية بولس، بقلم لوقا ( 9 : 1 ـ 22 ) ثم على لسان بولس نفسه لشعب أورشليم عند توقيفه ( 22 : 3 ـ 23 ) وأمام الملك أغريبا الثاني ( 26 : 12 ـ 19 ). لكن الائتلاف الجوهري قائم، والاختلاف في بعض التفاصيل ناتج عن الفارق في الأسلوب : عند لوقا نجد الأسلوب التاريخي، وعند بولس الأسلوب الخطابي. فهل وقع مرافقو بولس مثله على الأرض (9 : 4؛ 22 : 7) أم ظلوا واقفين (26 : 14) ؟ إن قول بولس : (( وقفوا مدهوشين )) ( 16 : 14 ) يعني حالتهم، لا الوقوف الجسماني. ثم هؤلاء المرافقون لا يرون أحداً ( 9 : 7 )؛ وفي ( 22 : 9 ) يرون نوراً. فيقدرون أن يروا نوراً دون أن يشاهدوا من

الصحّة التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 101

يظهر بمعجزة في هذا النور؛ كما رأت المجدلية المسيح عند القبر دون أن يراه الحراس، لأن الظهور المعجز مخصوص. ثم أن مرافقي بولس يسمعون الصوت ( 9 : 7 )؛ وفي ( 22 : 9 ) لا يسمعون شيئاً. فقد يسمعون الصوت، ولا يفقهون الكلام لأنه لا يعنيهم في الرؤيا المعجزة. وبولس في خطابه أمام أغريبا يحذف دور حنانيا في توجيه رسالته ( 26 : 14 ـ 18 ) الذي تذكره الروايتان ( 9 : 5 ـ 7؛ 22 : 8 ـ 10 )، وذلك ليس تنكراً له في الرواية الثالثة، فقد ذكره بولس في الرواية الثانية ( 22 : 8 ـ 10 )؛ بل اختصاراً وتركيزاً على الرسالة التي تسلمها بولس من المسيح نفسه، أكان ذلك بواسطة حنانيا، أم بواسطة المسيح نفسه؛ وما كان دور حنانيا إلا تفصيلاً لبعثة بولس من قبل المسيح. فتلك النوافل المختلفة تنتج بحسب السليقة بين الأسلوب التاريخي في قصة لوقا، والأسلوب الخطابي في قصتي بولس نفسه. وحفْظ لوقا لقصتي بولس الخطابيتين، مع اختلافهما في بعض التفاصيل الثانوية مع قصته التاريخية، دليل على أمانة لوقا لمصادره، وبرهان على نزاهته التاريخية.

 

8) يقولون كذلك : إِن قصة مجمع أورشليم، وقرار المجمع بتحرير المسيحية من الموسوية ( أع ف 15 ) لا تتفق وما يذكره بولس في رسالته إلى الغلاطيين (2 : 1 ـ 10). ولا يُفهم خلاف بولس وبطرس بشأن مخالطة المسيحيين من الأمميين في إنطاكية بعد هذا القرار. وبولس يذكر محادثات فردية مع أعمدة الكنيسة، بينما لوقا يذكر مداولة عامة في مجمع حافل. ولوقا ( 15 : 2 ) يعطي لسفر بولس إلى أورشليم بهذه المناسبة سبباً غير ما يقوله بولس ( غلا 2 : 2 ).

نجيب : ليس من تعارض بين العرضين للحادث الواحد، بل تكامل. يجب أن نفترض أن لوقا وبولس لا يقولان كل التفاصيل، وهذا ما يجعل العلماء في حيرة لدى المقارنة. ولا ننس أن بولس يكتب دفاعاً عن رسالته ونظريته،

102 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

بينما لوقا يسجل تاريخاً، والنزاهة تقتضي أن نتبين الحوادث الجوهرية في الروايتين، فنراها مطابقة. فسبب السفر واحد بتعبيرين : رفع الخلاف في فرض الموسوية على المسيحيين من الأمميين، وشعارها الختان، كما يقول لوقا؛ وهذا ما يعنيه بولس بقوله : (( وكان صعودي عن وحي، فعرضت عليهم الإنجيل الذي أدعو به بين الأمم )) ( غلا 2 : 2 ) وهذا الإنجيل هو تحرير المسيحية من الموسوية. ثم ان لوقا كمؤرخ يذكر الشورى في مجمع حافل. بينما بولس الرسول يفضّل ذكر مفاوضة زعماء الرسل على حدة، لأنهم أنداده، ولا غضاضة عليه في ذلك؛ وفي ذلك براعة من بولس تمهيداً لمجلس الشورى، والمحافظة على كرامته : وهل تصير شورى عامة دون مشاورات خاصة تسبقها ؟ فالروايتان متكاملتان. أخيراً عدم ذكر بولس لمجمع الرسل في كل سانحة، إلا ما ندر ( 16 : 4 )، وهو دعامة له في صراعه مع اليهود النصارى الذين يريدون أن يهوّدوا المسيحيين من الأمميين، ليس دليلاً على عدم وجوده، ولا ينفيه خصام بولس لبطرس في انحرافه العملي في إنطاكية، بعد تحديده العقيدة القومية في مجمع أورشليم. والمهم في صلة اليهود بالمسيحيين هو الختان، وبولس يصرّح بأن الختان لم يفرض على المسيحيين من الأمميين، (( بل ان تيطس الذي كان معي وهو يوناني لم يضطر إلى الختان )) ( غلا 2 : 3 )؛ وهذه غاية المجمع وغاية الرسل والشيوخ، أكثر من التحريمات الأربعة المطلوبة من المسيحيين ( أع 15 : 29 ) حرصاً على التعايش السلمي المسيحي بين اليهود والأمميين في المسيحية. فليس من شبهة على صحة رواية لوقا التاريخية، ولا تتعارض مع رواية بولس الشخصية : قد تختلف وجهات النظر، ولكنها تأتلف في الموضوع. ونسجل أن بطرس في المجمع قد انتصر لنظرية بولس في تحرير المسيحية من الشريعة الموسوية؛ وأن يعقوب رئيس الكنيسة الأم وقف حكماً بين النصارى اليهود وبولس، وأفتى بحل عملي وسط، فقرّر المجمع خطته ( أع 15 : 20 و29 )؛ وتفادى المجمع بهذا الحل العملي الوسط، بعد التصريح العقائدي الذي أعطاه

الصحّة التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 103

بطرس، انقسام الجماعة على عهد الرسل. ولكن بعد عهد الرسل، والحرب السبعينية، وقع الانقسام بين النصارى اليهود والمسيحيين. ولو انحاز بولس إلى نظرية النصارى اليهود التي كان يتزعمها يعقوب ( غلا 2 : 12 ) لما انتشرت المسيحية في العالم، بل ظلت شيعة يهودية تؤمن بالمسيح، محصورة مثل اليهودية في نطاقها الضيق.

وهناك نظرة أخرى ترفع الخلاف الظاهر الموجود بين الأعمال ( ف 15 ) وبين الرسالة الغلاطية. إذا حللنا بتدقيق تقرير لوقا عن مجمع أورشليم نجد فيه مجمعين لموضوعين مختلفين : مجمع الرسل بزعامة بطرس للنظر في ضرورة الشريعة الموسوية والختان للمسيحيين من الأمميين ( 15 : 1 ـ 19 ) حيث أفتى بطرس بتحرير المسيحية من الموسوية ووافقه زعيم آل البيت ( 15 : 19 )؛ ثم مجمع كنيسة أورشليم للنظر في التعايش السلمي بين الفريقين، بزعامة يعقوب؛ وهذا كان مجمعاً خاصاً، وجه رسالة خاصة إلى كنائس خاصة : (( إلى الإخوة الذين من الأمم في إنطاكية وسورية وكيليكية )) ( 15 : 23 ). فاعتمد بولس على مجمع الرسل لتحرير المسيحية من الموسوية؛ ولم يذكر القرار الخاص من المجمع الخاص، لأنه لا يعني كنائسه في العالم الإغريقي. وهكذا تسقط شبهة التعارض بين تقرير لوقا ورواية بولس. والبرهان على أنهما تقريران أن بولس عرف الثاني من بعد ( أع 21 : 25 ).

 

9) ويقولون أخيراً : إن الصورة التي يعطيها لوقا لأسفار بولس الرسولية تختلف عن الصورة التي نراها في رسائل الرسول. إها عند لوقا رحلات ظافرة مظفرة، مع ما اعتورها من صعاب آلت إلى نجاح الرسالة؛ بينما نرى في الرسائل بولس يشق طريقه بكل نفس ذائقة الموت، كما وصف رسالته في اللوحة التي تركها لنا ( 2 كور 11 : 21 ـ 12 : 10 ) وبولس الذي نراه في رسائله ينادي بتحرير المسيحية من اليهودية، نراه في سفر الأعمال الفريسي القديم الذي يتمم

104 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 3 : بحث 5

الشريعة ( 23 : 6؛ 24 : 14؛ 18 : 18؛ 21 : 23 ) ويدعو إلى القيام بها ( 22 : 3 ).

ـ وفاتهم مبدأ بولس أنه صار كلاًّ للكل ليربح الكل للمسيح، (( فصرت لليهود كيهودي لأربح اليهود ... وللذين بلا ناموس، كأني بلا ناموس ... لأربح الذين بلا ناموس )) ( 1 كور 9 : 19 ـ 23 ). فلا تختلف صورة بولس ما بين الرسائل والأعمال. ولا ننس أن الأعمال تعطينا دعوة بولس للأمميين، بينما الرسائل تعطينا تعليم بولس للمسيحيين : فاختلاف البيئة يجر إلى اختلاف في عرض الموضوع.

وإذا كنا نشهد في الرسائل اعترافات بولس عن صعوباته في أسفاره، فما كانت لتشوّه حقيقة الصورة لرحلات بولس المظفرة عند لوقا : فكل وردة لها أشواك. وما كانت اعترافات بولس عن صعوباته في رسالاته لتشوه حقيقة أعماله الجليلة في أسفاره.

 

10) ومن المقارنة التي عملناها بين سفر الأعمال والرسائل نتحقق المطابقة الموضوعية. والآثار التاريخية التي جمعها العلماء تثبت صحة معلومات لوقا التاريخية عن مواطن رسالات بولس في قبرص، وفيلبي، وأثينا، وكورنثس، وأفسس، ورومة.

وهكذا تثبت لدينا الصحة التاريخية، لسفر الأعمال جملةً وتفصيلاً. وما قام من شبهات عليها، مرده إلى اختلاف طريقتنا العلمية لكتابة التاريخ، عن طريقة الأقدمين الأدبية البيانية. ولا ننس طريقة لوقا الخاصة أنه يكتب تاريخاً لإِثبات صحة التعليم المسيحي (لو1: 1 ـ 4)؛ وهذا الهدف التعليمي،

الصحّة التاريخيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 105

بأسلوب بياني، يفسران ما نجده في تاريخه من نواقص لا تمس صحة التاريخ؛ لأن صحة التعليم في نظره مبنية على صحة التاريخ، كما أوضح ذلك في فاتحة الإنجيل.

هذا هو أسلوب لوقا اللغوي والإنشائي والبياني والتاريخي في تاريخ نشأَة المسيحية المعجز، في سفر الأعمال.

فسفر الأعمال شاهد أمين صادق للدعوة الرسولية الأولى.

 

 

d f

[ Blank Page ]

الفَصْلُ الرابـع

شهَادَة سِفْر الأعـْمَال

 

توطئة

: قيمة سفر الأعمال الفريدة في شهادته

   

تمهيد

: العنصرة، ما بين تنزيل الشريعة وتنزيل الروح

   

بحث أول

: (( الإنجيل قبل الأناجيل )) في سفر الأعمال

   

بحث ثان

: سفر الأعمال هو (( إنجيل القيامة ))

   

بحث ثالث

: سفر الأعمال هو إنجيل الدعوة المسيحية الأولى

   

بحث رابع

: سفر الأعمال هو إنجيل (( الرب يسوع ))

   

بحث خامس

: سفر الأعمال هو (( إنجيل الروح القدس ))

   

بحث سادس

: التثليث والتوحيد في الدعوة الرسولية الأولى

   

بحث سابع

: (( إنجيل الخلاص )) في الدعوة الرسولية الأولى

   

بحث ثامن

: سفر الأعمال هو (( إنجيل الكنيسة ))

   

بحث تاسع

: كنيسة الرسل وجماعة (( يسوع الناصري ))

   

بحث عاشر

: السلطة الدينية في كنيسة الرسل

 

 

بحث حادي عشر

: الحياة المسيحية في كنيسة الرسل

   

بحث ثاني عشر

: تعليم الرسل ودعوة المسيح

   

بحث ثالث عشر

: مسيح الإيمان ويسوع التاريخ، في سفر الأعمال

   

بحث رابع عشر

: قمران والإنجيل؛ كنيسة الرسل وجماعة قمران

   

فصل الخطاب

: قيام المسيحية معجزة إلهية.

 

 

قيمة سفر (( الأعمال )) الفريدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 109

 

توطئة

 

قيمة سفر الأعمال الفريدة، في شهادته

 

لدينا، في سفر الأعمال، الدعوة المسيحية الأولى، دعوة الرسل بعد ارتفاع المسيح إلى السماء. وهذا هو الكنز الثمين التاريخي الذي لا ثمن له، لشهادة سفر الأعمال التاريخية والتعليمية. فلولاه لفاتتنا معجزة نشأة المسيحية في العالم، ومعجزة إيمان الرسل بيسوع (( المسيح الرب )) ، عشية القيامة والصعود إلى السماء.

وقد أوجز سفر الأعمال الدعوة المسيحية الأولى، في البيئة الإسرائيلية، على لسان بطرس، منذ خطبته الأولى يوم العنصرة : (( فليعلم يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً )) ( 2 : 36 ). هذا هو البلاغ المسيحي الأول، بعد رفع المسيح إلى السماء، وتنزيل الروح القدس على كنيسة المسيح.

وأوجز لوقا الدعوة المسيحية الأولى، في البيئة الوثنية، على لسان بولس، في دعوته الأولى بعد هدايته، وقبل أن ينتدبه الرب للرسالة العامة ( 13 : 1 ـ 3 ): (( ومكث أياماً مع التلاميذ في دمشق. وأخذ للحال يدعو في الجوامع بأن يسوع هو ابن الله. فدهش جميع الذين سمعوه وقالوا : ( أليس هذا هو الذي أباد في أورشليم الداعين بهذا الاسم ؟ أوَلم يأت إلى ههنا ليسوقهم موثقين إلى رؤساء الكهنة ؟ ) أما شاول فكان يزداد قوة ويُفحم اليهود القاطنين بدمشق مبرهناً أن يسوع هو المسيح )) ( 9 : 19ب ـ 22 ).

110 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : توطئة

فالدعوة العامة أن يسوع هو المسيح، بشهادة الكتاب والإنجيل؛ والمسيح المشهود أعظم من المسيح الموعود. فهـو (( المسيح الرب )) ، في الدعـوة بالبيئة الإسرائيلية؛ وهـو (( المسيح ابن الله )) في الدعوة بالبيئة الوثنية، حيث لا تعني لهم كلمة (( المسيح )) شيئاً، وحيث في الجـامع اليهودي يجتمع اليهود والمتقون الله من الوثنيين. والقـولان (( المسيح الرب )) و(( المسيح ابن الله )) تعبيران لعقيدة واحدة، يختلفان باختلاف البيئة.

تلك هي الدعوة الرسولية الأولى؛ وأسفار الوحي الإنجيلي تفصيل لها.

وأهداف لوقا، كما رأينا، من كتابة تاريخ المسيحية في نشأتها، متعددة.

الهدف الأول تاريخي : نشأَة المسيحية المعجزة دليل إِلهيتها وصحتها.

الهدف الثاني تعليمي : في عرض المسيحية على بني إسرائيل، وعلى الأمميين.

الهدف الثالث دفاعي : انتقال ملكوت الله من بني إسرائيل إلى الأمم بعد عناد اليهود وكفرهم، كما يتضح من خاتمة الكتاب ( 28 : 25 ـ 28 )؛ ووحدة التعليم المسيحي بين بولس وبطرس، زعيمي الدعوة المسيحية.

والهدف الخاص هو الدفاع عن المسيحية في البيئة الهلنستية، والدفاع عن بولس لدى السلطة الرومانية.

وهذه الأهداف الثلاثة تأتلف وتنسجم في بيان رائع، مثال الإعجاز في الاقتدار الفني، يأخذ في كل بيئة أسلوبها، ويعطي كل حالة لبوسها؛ فيأتلف مع البيئة في بيانها، وينسجم مع الدعوة في تبيانها.

وينسجم فيه الإعجاز بالمعجزة : فهو يروي لنا في نشأة المسيحية نحو مئة معجزة تُظهر إلهيتها؛ ويفصّل لنا دعوتها في ثمان خطب لبطرس : انتخاب رسول بدل يهوذا الخائن (1 : 15 ـ 26)؛ البلاغ الأول يوم العنصرة

قيمة سفر (( الأعمال )) الفريدة ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 111

( 2 : 14 ـ 36 )؛ البلاغ الثاني في رواق سليمان ( 3 : 12 ـ 26 )؛ البلاغ الثالث للسنهدرين ( 4 : 8 ـ 12 )؛ البلاغ الرابع للسنهدرين أيضاً ( 5 : 29 ـ 32 )؛ دعوة الوثني الأول ( 10 : 34 ـ 43 )؛ عماد الوثنيين ( 11 : 5 ـ 17 )؛ تحرير المسيحيين من الأمميين من الموسوية ( 15 : 7 ـ 11 ). وفي عشر خطب لبولس : خمس تعليمية ( 13 : 16 ـ 41؛ 14 : 15 ـ 17؛ 20 : 18 ـ 35؛ 27 : 21 ـ 26؛ 28 : 25 ـ 28 )؛ وخمس دفاعية ( 22 : 1 ـ 21؛ 23 : 1 ـ 6؛ 24 : 10 ـ 21؛ 25 : 10 ـ 11؛ 26 : 2 ـ 29 ). وتوارد خطب الدعوة ما بين الأحداث والمعجزات يجعل السفر فتنة للقارئ، لا يفرغ منه إلا وهو يردد في نفسه، إذا حسنت نيّته : بالحقيقة إِن نشأَة المسيحية معجزة.

فالمسيحية، في شريط متواصل، تحتل عواصم المسكونة منذ نشأتها : من أورشليم إلى إنطاكية، إلى أفسس، إلى كورنثس، إلى رومة، حيث تظل الدعوة مفتوحة إلى يوم الدين.

تلك هي قيمة سفر الأعمال في شهادته لنشأة المسيحية في العالم.

 

 

%

112 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : تمهيد

تمهيد

 

العنصرة : ما بين تنزيل الشريعة وتنزيل الروح

 

يستفتح سفر الأعمال بنزول الروح القدس على الرسل والكنيسة، في عيد العنصرة. وكما باشر يسوع دعوته بعماده ونزول الروح القدس عليه، كذلك شاءَ أن يباشر الرسل دعوتهم للمسيح بنزول الروح القدس عليهم، تحقيقاً للنبؤات، وتحقيقاً لوعد المسيح الصريح القاطع : (( ستعمدون بالروح القدس بعد أيام قليلة ... وستنالون قوة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم وفي جميع اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض )) ( أع 1 : 5 و8 ).

عند اليهود، كان عيد العنصرة أحد الأعياد الثلاثة المفروضة للحج إلى بيت الله الحرام في أورشليم : الفصح والعنصرة والخيام ( خر 34 : 23؛ تث 16 : 16 ).

في القديم كان معنى العيد : عيد الحصاد ( خر 34 : 22؛ العدد 28 : 26 ) وتقديم باكورة الحنطة ( تث 16 : 10؛ العدد 28 : 26 ). لذلك سُمي أيضاً (( عيد الأسابيع )) لأنها تقع سبعة أسابيع بعد الفصح. كذلك أخذ اسم (( العيد الخمسيني )) ( طوبيا 2 : 1؛ 2 مكا 12 : 31؛ أعمال 2 : 1 ) لأنه كان يقام خمسين يوماً بعد تقديم باكورة الشعير ( الأحبار 23 : 9 و14 ). فالمعنى الأولي كان زراعيّاً.

لكن قُبيل المسيح، منذ القرن الثاني، أخذ العيد معنى تاريخيّاً : ذكرى

العنصرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 113

قيام العهد خمسين يوماً بعد الهجرة من مصر والاحتفال بالفصح ( خر 19 : 1 ـ 6 )؛ وخصوصاً ذكرى تنزيل الشريعة، كما كانوا يحتفلون به على أيام المسيح، وحتى أيامنا هذه.

فهذه الذكرى الثنائية هي التي تتم في العنصرة المسيحية؛ لكنها تتم في تحقيق النبوّة ووعد السيد المسيح.

فإن النبيّين أرميا ( 31 : 33 ) وحزقيال ( 36 : 27 ) قد تنبأا بتنزيل شريعة جديدة روحية يكتبها الله في النفوس لا في الألواح.

وسيتم هذا يوم يُنزل الله روحه على الأرض ليجعل الإنسان (( خليقة جديدة )) ، كما تنبأَ يوئيل؛ ففي الأزمنة الأخيرة يحل روح الله على كل بشر يصطفيه، كما تنبأَ أيضاً حزقيال ( 36 : 27 ).

فتجديد العهد، وتجديد الشريعة، يتمان في زمن تنزيل الروح القدس على البشر.

والكتاب والنبيون يقرنون ذلك كله بظهور المسيح : لذلك ميّز السيد المسيح دعوته عمَّا سبقه بأَنها عهد الروح الذي وعدهم به طول مدة رسالتِه، وقبل رفعه إلى السماء حدّد لهم زمن الوعد (( بعد أيام قليلة )) ( أع 1 : 5 ).

فالكتاب والنبوّة والإنجيل تتم في يوم العنصرة، عند نزول الروح القدس على الرسل والكنيسة ( أع 2 : 1 ـ 13 ). فالعنصرة المسيحية ذكرى تنزيل الروح.

1 ـ فالعهد المسيحي هو عهد الروح، لا عهد الحرف. هذا ما يعلنه بطرس بعد نزول الروح على الكنيسة، في البلاغ الأول للشعب. يستشهد بنبؤة يوئيل ( 2 : 28 ـ 32 ) ويعلن تحقيقها في هذا اليوم قائلاً : (( فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك؛ وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب

114 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : تمهيد

الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( أعمال 2 : 32 ـ 33 ). فالمسيحية التي أَسسها السيد المسيح، ويدعو لها رسله الحواريون هي عهد الروح في تاريخ البشرية. زال عهد الحرف، في العهد القديم، وجاء عهد الروح مع الإنجيل والمسيح. ففي العنصرة تم وعد الكتاب ووعد الإنجيل بتنزيل الروح على البشر.

2 ـ وفي العنصرة المسيحية تم وعد الكتاب والنبوّة بتنزيل شريعة جديدة روحية في نفوس المؤمنين، لتكون شريعة روحية فيهم بدل شريعة الحرف. فهم يعيّدون لتنزيل حرف التوراة، والمسيحيون يعيدون في العنصرة لتنزيل الروح شريعة روحية في النفوس. فالروح القدس، في نفوس المؤمنين، هو شريعة العهد الجديد.

3 ـ كانت العنصرة الموسوية ذكرى قيام العهد القديم. فجاءَت العنصرة المسيحية ذكرى قيام العهد الجديد الذي أسسه السيد المسيح بدعوته واستشهاده، يقوم اليوم بنزول الروح القدس على كنيسته. فالعنصرة المسيحية هي فاتحة العهد الجديد : (( ستعمّدون بالروح القدس، بعد أيام قليلة )) ( أع 1 : 5 ).

4 ـ فالعماد المسيحي هو العماد بالروح القدس الموعود؛ فيه يحل روح الله على المعمود. وليس الماء والزيت سوى رموز مقدسة، بواسطتها يسكب الله روحه في النفس المؤمنة. فالعماد المسيحي هو الواسطة والزمن الذي فيه ينزل روح الله في المعمود. ويتم تصريح ذلك في الميرون.

5 ـ والعماد المقرون بالميرون هو تنزيل الروح القدس للشهادة : (( ستعمدون بالروح القدس ... وتكونون لي شهوداً )) ( أع 1 : 5 و8 ). فروح الله يحل على المعمود ليكون شاهداً للمسيح. فالشهادة المسيحية هي عمل الروح القدس.

العنصرة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 115

فقد افتتح السيد المسيح رسالته بنزول الروح القدس عليه، يوم عماده. والرسل يفتتحون الرسالة المسيحية في العالم بعمادهم في الروح القدس.

6 ـ فحلول الروح القدس على الكنيسة، يوم العنصرة، هو ختام الدعوة الإنجيلية وثمرة استشهاد المسيح : (( وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( أع 2 : 33 ). فالعنصرة المسيحية هي تكريس العهد الجديد، عهد المسيحية، وعهد الروح القدس؛ وتكريس الرسل للدعوة والرسالة في العالم.

7 ـ كانت العنصرة الموسوية ذكرى تنزيل الشريعة. فجاءت العنصرة المسيحية ذكرى نزول الروح القدس على الكنيسة. فالعهد القديم هو عهد الحرف، والعهد المسيحي هو عهد الروح. وهذه هي ميزة المسيحية الكبرى على سائر الأديان. إنها دين الروح، لا دين الحرف في الكتاب.

 

 

f f f

116 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

 

بحث أول

 

(( الإنجيل قبل الأناجيل )) ، في سفر الأعمال

 

في القسم الأول من سفر الأعمال ( ف 1 ـ 12 )، في دعوة الرسل الأولى، في السنين العشر الأولى بعد رفع المسيح، نجد شذرات من (( الإنجيل قبل الأناجيل )) المدونة. وفي هذه الشذرات معطيات تاريخية لا تفصّلها الأناجيل نفسها. وهذا (( الإنجيل قبل الأناجيل )) الذي نجده في سفر الأعمال هو شهادة تاريخية معاصرة من زمن المسيح نفسه، على لسان شهود العيان أنفسهم، وزعيمهم بطرس التلميذ المسؤول منذ الساعة الأولى. وهذا الإنجيل قبل الأناجيل شهادة تاريخية أخرى أن مسيح الإيمان الذي يدعو له الرسل هو يسوع التاريخ الذي عاشوا معه، (( وأكلوا وشربوا معه من بعد قيامته )) ( 10 : 41 ).

هذا (( الإنجيل قبل الأناجيل )) نجده في بلاغات بطرس الخمسة : البلاغ الأول للشعب يوم العنصرة ( 2 : 14 ـ 36 )؛ البلاغ الثاني للشعب في الهيكل ( 3 : 12 ـ 26 )؛ البلاغ الأول للسنهدرين ( 4 : 8 ـ 12 )؛ البلاغ الثاني للسنهدرين ( 5 : 29 ـ 32 )؛ البلاغ الأول للأمميين، في شخص كرنيليوس وجماعته ( 10 : 34 ـ 43 ). يضاف إليها البلاغ التاريخي الذي أصدره بولس في مطلع رسالته، في إنطاكية بيسيدية ( 13 : 16 ـ 41 ) وهو البلاغ الثاني للأمميين، في أرضهم. هذه البلاغات الستة هي الوثائق التاريخية القديمة، الصادرة صبيحة رفع المسيح إلى السماء، لإنجيل يسوع المسيح.

 

 

(( الإنجيل قبل الأناجيل )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 117

 

أولا : هذا هو (( الإنجيل قبل الأناجيل ))

 

1 ـ رسالة (( يسوع الناصري )) ( 2 : 22 )، (( يسوع المسيح الناصري )) (3 : 6). (( هو الرجل الذي أيّده الله لديكم بالخوارق والمعجزات والآيات، التي أجراها على يديه بين ظهرانيكم كما أنتم تعلمون )) ( 2 : 22 ). فشعب أورشليم من مؤمنين وكافرين هم شهود عيان لتأييد رسالة المسيح بالمعجزات.

وفي البلاغ إلى الأمميين المقيمين في فلسطين : (( وأنتم تعلمون بما قد جرى في اليهودية كلها، ابتداء من الجليل، كيف مسح الله بالروح القدس وسلطان مبين يسوع الناصري الذي اجتاز ينشر الإحسان، ويبرئ جميع الذين أرهقهم الشيطان، لأن الله كان معه. ونحن شهود بكل ما صنع في أرض اليهود في أورشليم. وهو الذي قتلوه معلَّقاً على خشبة. فهو الذي قد أقامه الله في اليوم الثالث، وآتاه أن يظهر، لا للشعب كله، بل لشهود قد اصطفاهم الله من قبل، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات )) ( 10 : 37 ـ 41 ). ليس اليهود فقط يشهدون بسيرة المسيح ورسالته، بل الأمميون المقيمون في فلسطين. فأهل الكتاب والأمميون يشهدون مع الرسل، الشهود العيان، برسالة يسوع الناصري واستشهاده.

2 ـ استشهاده : (( إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إِله آبائنا، قد مجّد فتاه يسوع الذي اسلمتموه أنتم، وأنكرتموه بحضرة بيلاطس، وقد حكم هو بإطلاقه )) ( 3 : 13 ) ـ فالمسؤولية الكبرى في استشهاد يسوع تقع على عاتق اليهود.

3 ـ شخصيته : (( لقد أنكرتم أنتم القدوس، الصالح، طالبين تسريح رجل قاتل، فقتلتم مصدر الحياة، الذي أقامه الله من بين الأموات. ونحن شهود

118 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

بذلك )) ( 3 : 14 ـ 15 ). فيسوع الناصري المصلوب كان (( القدوس، الصالح، مصدر الحياة )) : تعابير تعني في لغة الكتاب إلهية يسوع الناصري المصلوب. ودليل إلهيته قيامته التي هم شهود لها.

4 ـ وصف استشهاده : (( لقد قتلتموه أنتم، معلّقاً على خشبة )) ( 5 : 30 )، (( هو الذي قتلوه معلقاً على خشبة؛ وهو الذي أقامه الله في اليوم الثالث )) (10: 36 ـ 40)؛ (( فإن القاطنين في أورشليم ورؤساءَهم، أتموا بالقضاء عليه، من حيث لا يدرون، أقوال الأنبياء التي تتلى في كل سبت. ومع أنهم لم يجدوا عليه علّة للموت، التمسوا من بيلاطس أن يُقتل. وإذا أتموا ما كتب عنه، أنزلوه عن الخشبة وجعلوه في قبر، لكن الله أقامه من بين الأموات، وتراءَى أياماً كثيرة للـذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم، وهـم الآن شهوده عند الشعب )) . بولس نفسه يعتمد على شهادة الرسل، الشهود العيان، في وصف سيرة المسيح ودعوته واستشهاده. وبلاغ بولس للأمميين، هو بلاغ بطرس نفسه.

5 ـ فيسوع الناصري المصلوب المقتول قد قام، وهو حي. والرسل أخصاؤه هم شهود بذلك، بشهادة حسية لا ترد : (( أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات )) ( 10: 41 ).

6 ـ يسوع المصلوب حي خالد في السماء : (( ينبغي أن تقبله السماء إلى عهد تجديد كل شيء )) أي اليوم الآخر ( 3 : 21 )؛ وحينئذٍ يرجع (( ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 42 ).

7 ـ فيسوع هذا، الناصري المصلوب، القائم من بين الأموات والحي الخالد (( في مجد الله )) ، (( ابن البشر القائم عن يمين الله )) ( 7 : 55 ـ 56 )، هو الذي ظهر على حقيقته، في قيامته ورفعه إلى السماء، (( الرب المسيح )) ( 2 : 36 )، (( الرب يسوع )) ؛ الذي باسمه يحيا المسيحيون، والذي باسمه يصنع الرسل المعجزات ( 3 : 16 ) : (( بالإيمان باسمه، شدّد هذا الاسم الرجل الذي تنظرون

(( الإنجيل قبل الأناجيل )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 119

وتعرفون؛ (( والإيمان الذي منه منح هذا الرجل الصحة التامة، أمامكم أجمعين )) .

فيسوع القيامة، مسيح الدعوة الرسولية، هو يسوع التاريخ في هذا (( الإنجيل قبل الأناجيل )) .

 

 

ثانياً : مسيح القيامة والإيمان هو نفسه يسوع التاريخ، الناصري المصلوب

1 ـ يظهر جليّاً من هذا (( الإنجيل قبل الأناجيل )) المكتوبة أن شهادة الرسل ليست قائمة على فلسفة، أو على أخلاقية، أو على تعليم مدرسة، أو على أسطورة شخص في عالم الغيب. إنما شهادة الرسل هي لشخص تاريخي يعرفه، ويعرف رسالته المعجزة، أهل الكتاب والأمميون، من فلسطين كلها. والرسل وتلاميذهم الذين شاهدوا دعوة يسوع واستشهاده وقيامته (( هم شهود العيان )) ( 2 : 32؛ 3 : 15؛ 4 : 33؛ 5 : 32 ).

فليس إيمان الرسل وشهادتهم بيسوع (( ربّاً ومسيحاً )) ( 2 : 36 ) قائمين على إيمان لا واقع له. إنما هو الواقع التاريخي عينه : مسيح الإيمان، (( فتى الله القدوس الصالح مصدر الحياة )) ( 3 : 14 ـ 15 )، ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 42 )، الحي الخالد (( في مجد الله )) ، (( القائم عن يمين الله )) ( 7 : 55 ـ 56 )، هو يسوع التاريخ، يسوع الناصري المصلوب نفسه.

2 ـ لدى هؤلاء الشهود العيان، قيامة المسيح ورفعه إلى المجد الإلهي، واقع تاريخي مثل عماد المسيح واستشهاده. والشهادة بقيامته تقوم عندهم على المحسوسات : فيسوع (( لم ير فساد القبر )) ( 2 : 31 ). وفي بلاغه الأول للشعب، يوم العنصرة، يقابل بطرس بين قبر داود (( الذي قبره عندنا إلى اليوم )) ( 2 : 29 )

120 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 1

وقبر المسيح الخالي. فالرسل وأورشليم كلها، رغم الإشاعة الكاذبة، يشهدون بواقع القبر الخالي.

وظهورات المسيح لجماعته، وهم عشرات، عدة مرات، مدة أربعين يوماً واقع تاريخي مشهود، يركزون شـهادتهم لـه على المحسوس منه؛ بطرس يعلن على رأس الملأ: (( لقد أكلنا وشربنا معه بعد قيامته )) ( 10 : 42 ).

3 ـ يؤيد قيامة المسيح ورفعه حيّاً إلى المجد الإلهي، واقع تنزيل الروح القدس على جماعة المسيح، يوم العنصرة : (( وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ! ( 2 : 33 ). فلا يفيض الروح على بشر إِلا من هو (( في مجد الله )) ، يتمتع بسلطان الله.

4 ـ بهذه البراهين الثلاثة يتحدى رسل المسيح زعماء أورشليم في قيامة المسيح ورفعه حيّاً إلى السماء، على مشهد ومسمع من أهل فلسطين كلهم، كتابيين وأمميين معاً، الذين يعرفون واقع يسوع وواقع رسالته وواقع استشهاده. وقد قبل شهادتهم (( عدد كثير جداً من التلاميذ في أورشليم، وجمهور من الكهنة الذين أطاعوا الإيمان )) ( 6 : 7 )، (( وقوم من مذهب الفريسيين، الذين آمنوا )) ( 15 : 5 ).

فهذه الجماهير الغفيرة من أورشليم واليهودية والجليل، الذين شاهدوا دعوة الناصري المصلوب، يؤمنون بقيامته ورفعه حيّاً إلى السماء، ويكـونه (( الرب المسيح )) ، (( الرب يسوع )) ، (( ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ، (( فتى الله القدوس )) ، (( ابن الله )) .

فمسيح الإيمان، في نظر الأمة كلها، ونظر المسيحيين، هو يسوع التاريخ.

هذا هو (( الإنجيل قبل الأناجيل )) المكتوبة : فلن يكون الإنجيل المكتوب بأحرفه الأربعة سوى تفصيل مشهود لهذا الإنجيل المعهود.

(( إنجيل القيامة )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 121

بحث ثان

 

سفر الأعمال هو (( إنجيل القيامة ))

 

ترتكز دعوة الرسل الأولى على الشهادة لقيامة المسيح. فكان همّهم الأول بعد رفع المسيح انتخاب بديل ليهوذا الخائن، ليتم عددهم الـرمزي الذي حدّده المسيح نفسه، (( الاثنا عشر )) ، دعائم الدعوة المسيحية، (( فيصير شاهداً معنا بقيامته )) ( 1 : 21 ـ 22 ). فالشهادة بقيامة المسيح هي وظيفة الرسل الأولى.

وإيمان الرسل بيسوع (( المسيح الرب )) ، وبيسوع (( المسيح ابن الله )) يرتكز على القيامة، معجزة المعجزات، وحدث الأحداث في تاريخ البشرية. فلولا قيامة المسيح لا نفهم إيمان الرسل بيسوع الناصري أنه المسيح، بعد انهيار إيمانهم به في مأساة الصلب، والمسيح في عرْف اليهود حي خالد لا يموت! ولولا قيامة المسيح لا نفهم دعوتهم بيسوع أنه (( المسيح الرب )) ! ولولاها لا نفهم عبادة هؤلاء الموحدين، على أخلص ما يكون التوحيد الخالص، ليسوع (( ابن الله )) .

ودعوة الرسل الأولى كانت بلاغاً بهذا الإيمان، يقوم على الشهادة لقيامته. فكل خطب الرسل تنتهي بهذه الشهادة بقيامته. لذلك نسمي سفر الأعمال : إنجيل القيامة.

فقيامة المسيح ورفعه إلى السماء حيّاً خالداً ببشريته المجيدة، هي برهان رسالته، وبرهان شخصيته.

 

 

122 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

 

أولا : البلاغ الرسولي بقيامة المسيح ورفعه إلى السماء

 

دعوة الإنجيل كانت لتأسيس ملكوت الله، بظهور المسيح : (( لقد تمَّ الزمان! واقترب ملكوت الله! فتوبوا وآمنوا بالإنجيل )) أي بهذه البشرى ( مرقس 1 : 15 ). وها أن الرسل ينادون في كل دعوتهم أن الزمان قد تمَّ ( أع 2 : 16؛ 3 : 18؛ 3 : 24 ) وأن ملكوت الله ظهر بقيامة المسيح ورفعه إلى السماء سيد الكون، وملك يوم الدين ( 2 : 24 ـ 31؛ 3 : 15؛ 4 : 10 ) هذا هو الإنجيل، وهو واحد بين المسيح ورسله.

وفي البلاغ الأول للشعب، يوم العنصرة، كانت أول كلمة رسولية : (( يا بني إسرائيل اسمعوا هذه الكلمات : إن يسوع الناصري، ذلك الرجل الذي أيده الله فيما بينكم بالخوارق والمعجزات والآيات التي أجراها بين ظهرانيكم، كما أنتم تعلمون، ذلك الذي أسلم بحسب قضاء الله وحكمته، فقتلتموه صلباً بيد الخاطئين ( كناية عن الوثنيين ) قد أقامه الله، ساحقاً قيود الموت! إِذ لا سلطان للموت عليه، كما قال داود فيه ... )) ( 2 : 22 ـ 25 ).

وفي البلاغ الثاني للشعب، في رواق سليمان بالهيكل، بمناسبة معجزة المقعد عند الباب الجميل، يعلنون : (( يا بني إسرائيل ... إن إِله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إِله آبائنا، قد مجّد فتاه يسوع، الذي رفضتموه أنتم، وأنكرتموه بحضرة بيلاطس، وقد حكم هو بإطلاق سبيله! أجل لقد أنكرتم أنتم القدوس، الصالح، وطالبتم بتسريح رجل قاتل! لقد قتلتم مُبدِئ الحياة الذي أقامه من بين الأموات! ونحن شهود بذلك! )) ( 3 : 12 ـ 15 ).

وفي البلاغ الأول أمام السنهدرين، مجلس القضاء الأعلى عند اليهود، بمناسبة المعجزة ذاتها، (( قال لهم بطرس، وهو ممتلئ من الروح القدس؛ يا أحبار

(( إنجيل القيامة )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 123

الشعب وشيوخه، إننا نُسأل اليوم عن معروف منا إلى رجل سقيم، وباسم من بَرِئ! فليكن معلوماً عندكم أجمعين، وعند شعب إسرائيل كله، إنه باسم يسوع المسيح الناصري، الذي صلبتموه أنتم وأقامه الله من بين الأموات! أجل به وقف هذا أمامكم متعافياً )) (4 : 8 ـ 10). فيسوع الناصري المصلوب هو مسيح القيامة، وصانع المعجزات لتأييد الشهادة بقيامته وشخصيته.

وفي البلاغ الثاني أمام السنهدرين، (( أجاب بطرس والرسل وقالوا ... إن إله آبائنا قد أقام يسوع الذي قتلتموه أنتم وعلقتموه على خشبة! وهو قد رفعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا، ونحن شهود بذلك! والروح القدس أيضاً الذي أعطاه للذين يطيعونه! )) ( 5 : 29 ـ 32 ). فبالقيامة ظهر المسيح رئيساً ومخلصاً من مجد الله في السماء. يشهد بذلك حياة الروح القدس في المسيحيين.

والشهادة للقيامة هي رسالة الشمامسة الذين أقامهم الرسل أعواناً لهم. فاسطفان، ساعة استشهاده، يصيح : (( ها أنا ذا أرى السماوات مفتوحة، وابن البشر قائماً عن يمين الله )) ( 7 : 56 ).

وفي البلاغ الأول للوثنيين، بشخص كرنيليوس، القائد الروماني على حامية قيصرية، يعلن بطرس : (( بالحقيقة، لقد أيقنت أنه ليس عند الله من محاباة وجوه! إِنما في كل أمة مَن اتقاه وعمل البر ينال رضاه. لكن الله قد أنزل كلمته إلى بني إسرائيل مبشراً بالسلام بيسوع المسيح الذي هو رب العالمين. وأنتم تعلمون بما قد جرى في اليهودية كلها، ابتداءً من الجليل، بعد دعوة يوحنا بالمعمودية، كيف مسح الله بالروح القدس وسلطان مبين يسوع الناصري. فاجتاز ينشر الإحسان ويبرئ جميع الذين أرهقهم الشيطان، لأن الله كان معه. ونحن شهود بكل ما عمل في أرض اليهود وفي أورشليم. هذا هو الذي قتلوه معلقاً على خشبة! وهذا هو الذي أقامه الله في اليوم الثالث! وقد آتاه أن يظهر،

124 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

لا للشعب كله، بل لشهود قد اصطفاهم الله من قبل، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات! وقد كلّفنا أن نبلّغ الشعب ونشهد أنه هو الذي جعله الله ملك يوم الدين على الأحياء والأموات. وله يشهد النبيون أجمعون بأن كل من يؤمن به، ينال مغفرة الخطايا باسمه )) ( أع 10 : 34 ـ 43 ).

ففي البلاغ الأول للوثنيين أن يسوع الناصري المصلوب هو رب العالمين، وملك يوم الدين بشهادة الإنجيل والنبيين أجمعين. لا يمكن تأكيد إلهية المسيح بأفضل من هذا التعبير الصريح. هذا ما ظهر بقيامة يسوع المسيح من الفناء، ورفعه حيّاً إلى السماء.

تلك هي دعوة الرسل الأولى : التبشير بإنجيل القيامة، كما يؤكد بولس أيضاً ( 1 كو 15 : 1 ـ 11 )، وكما يعلن هو نفسه لليهود ( أع 13 : 33؛ 17 : 3 )، وللوثنيين ( 17 : 31 ) وللولاة والملوك ( 23 : 6 ). ويختم بولس إنجيل القيامة بقوله : (( فسواء كنت أنا أم هم، فهكذا ندعو! وهكذا آمنتم! )) ( 1 كو 15 : 11 ).

فالدعوة الرسولية الأولى كانت (( إنجيل القيامة )) : (( وكان الرسل يؤدون الشهادة، بقوة عظيمة، لقيامة الرب يسوع )) ( أع 4 : 33 ).

 

 

ثانياً : جدلية القيامة في الدعوة الرسولية الأولى

بقيامته ورفعه إلى السماء، ظهر يسوع الناصري المصلوب على حقيقته الكامنة في بشريته : إنه (( الرب يسوع )) . هذا هو شعار الإيمان المسيحي في الدعوة الرسولية الأولى.

وأسلوب الرسل، وحديثهم في دعوتهم، يقومان : أولاً على المشاهدة

(( إنجيل القيامة )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 125

العيان والشهادة بالحدث الأعظم والإيمان المبني عليه : إن قيامة المسيح ورفعه إلى السماء جعلاه (( رب العالمين ... وملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) . يؤكدون ذلك بصفتهم شهوداً : (( ونحن شهود بذلك )) ، ( أع 2 : 32؛ 3 : 15؛ 5 : 32 ) (( نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات! )) ( 10 : 41 ).

ثانياً : تلكما المشاهدة والشهادة تزكيها شهادة كتاب الله لمجد المسيح المزدوج : القيامة والرفع إلى المجد الإلهي. ففي البلاغ الأول يستشهد بطرس بنبؤة داود في المسيح الذي يأتي من نسله ( مز 132 : 11؛ 139 : 4 ـ 5 ) : (( لأن داود يقول فيه :

كنت أبصر الله أمامي كل حين

 

فلن أتزعـزع لأنـه عن يميني

لذلك فرح قلبي و ابتهج لساني

 

وجسدي أيضاً سيسكن في أمان

     

إنك لن تترك نفسي في الجحيم

 

ولن تـدع قدوسك يرى فسـاداً

لقـد عرّفتني سـبل الحيـاة

 

وبرؤية وجهك ستملأني سروراً!

   

( أع 2 : 25 ـ 28 )

فالنبؤة تشهد أنه يستحيل أن يرى (( قدوس الله )) فساد القبر، فلن يتركه الله بين الأموات في الجحيم، بل عرّفه صراط الحياة، وسيملأه غبطة برؤية وجه الله في مجده. ويستشهد أيضاً بطرس، كما استشهد المسيح من قبله ( متى 22 : 44 )، بنبؤة داود، في رفع المسيح إلى المجد الإلهي، وذلك في البلاغ الأول نفسه! (( فإِن داود لم يصعد قط إلى السماء، ومع ذلك فإنه يقول :

قال الـرب لربي :

 

إِجلس عن يميني

حتى اجعل أعداءَك

 

موطئاً لقدميك ( أع 2 : 34 ـ 35 )

126 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

فالله الآب يرفع الرب يسوع ويجلسه عن يمينه على عرشه، ويعطيه سلطانه في تنزيل الروح القدس على الرسل والكنيسة ( أع 2 : 33 ).

ثالثاً : هذه الشهادة يزكّيها الروح القدس نفسه الذي أنزله المسيح عليهم من السماء : (( فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك؛ وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاض ما تنظرون وتسمعون! )) ( أع 2 : 32 ـ 33 ) فبالقيامة والرفع إلى السماء يتمتع المسيح بسلطان الله في تنزيل الروح القدس على رسله وعلى كنيسته. وتنزيل روح الله نفسه أعظم سلطان إلهي يدل على شخصية المسيح.

وتنزيل روح القدس على المسيحيين تشهد به آثاره الظاهرة الباهرة يوم العنصرة ( 2: 1 ـ 13 )، ويوم الحاجة للشهادة ( 4 : 4؛ 24 ـ 31 ) ويوم قبول أول وثني في المسيحية ( 10 : 44 ـ 48 ).

فالرسل يشهدون، والروح القدس نفسه يشهد معهم ( أع 5 : 32 ). والكتاب أيضاً، في التوراة والزبور والنبيين، هو من الشاهدين.

فإِحدى دعائم الشهادة الرسولية الأولى للمسيحية كانت الكتاب المقدس : كل الأنبياء قد أنبأوا بأيام يسوع المسيح : (( فقد تكلم الله عنه منذ القديم، على فم أنبيائه القديسين )) (3 : 21)؛ (( إن الله قد تمّم هكذا ما سبق فأَنبأَ به على فم جميع الأنبياء، من أن مسيحه سيتألم )) أي يستشهد (3 : 18)؛ (( فجميع الأنبياء، من صموئيل إلى كل من تنبأ بعده، قد أنبأ بهذه الأيام )) ( 3 : 24 )؛ (( وقد كلّفنا أن نبلّغ الشعب ونشهد بأنه هو الذي أقامه الله لك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 42 ـ 43 ).

على نور القيامة ورفع المسيح إلى السماء، يرون أن نبؤات العهد القديم قد

(( إنجيل القيامة )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 127

تحققت كلها في (( الرب يسوع )) إنه هو المسيح الموعود؛ وظهر المسيح المشهود أفضل من المسيح الموعود : إنه (( الرب يسوع )) .

بالرب يسوع تمَّ عهد الله لإبراهيم : (( فأنتم بنو الأنبياء، والعهد الذي عاهد الله به آباءكم، قائلاً لإبراهيم : بنسلك تتبارك جميع عشائر الأرض! فلأجلكم أولاً، أقام الله فتاه، وأرسله لكي يبارككم )) ( 3 : 25 ـ 26 ).

في يسوع جاء النبي الأعظم مثل موسى، كما تنبأ في التوراة : (( فإن موسى قد قال : ( سيقيم لك الله الرب، من بين إخوتكم، نبياً مثلي، فله تسمعون في جميع ما يكلمكم به : وكل مَن لا يسمع لذلك النبي يُقطع من بين الشعب )؛ وجميع الأنبياء من صموئيل وكل من تنبأ بعده قد أنبأوا بهذه الأيام )) ( أع 3 : 22 ـ 24 ). هذا ما يعلنه بطرس في البلاغ الثاني للشعب : إن جميع الأنبياء، وعلى رأسهم موسى، قد رأوا في يسوع النبي الأعظم.

في يسوع جاء ابن داود، المسيح الملك الموعود، الذي رأى داود موته وقيامته وجلوسه على عرش داود، وعلى عرش الله ( أع 2 : 25 ـ 28 قابل مز 15 : 8 ـ 11 ): هذا ما يعلنه بطرس في بلاغ المسيحية الأول : (( وبما أنه ( داود ) كان نبيّاً، وعلم أن الله أكد له بقسم ( مز 132 : 11؛ 139 : 4 ـ 5 ) إنه يجلس على عرشه واحدٌ من صلبه، سبق فرأى قيامة المسيح وتكلم عنها : (( إنه لم يُترك في الجحيم! ولم يرَ جسده فساداً ). فيسوع قد أقامه الله ونحن شهود بذلك )) ( أع 2 : 29 ـ 32 ).

وفي بلاغ المسيحية الأول، يسوع هو ابن داود وربه معاً : (( فإِن داود لم يصعد قط إلى السماء، مع ذلك فإِنه يقول : قال الرب لربي : اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءَك موطئاً لقدميك )) ( أع 2 : 34 ـ 35 قابل مز 109 : 1 ).

128 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

يسوع هو (( فتى الله1 )) الذي رآه أشعيا الثاني يفدي شعبه بدمه واستشهاده : (( إِن إِله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إله آبائنا، قد مجّد فتاه يسوع الذي أسلمتموه أنتم، وأنكرتموه بحضرة بيلاطس، وقد حكم هو بإخلاء سبيله )) ( أع 3 : 13 ). فهم يفسرون استشهاد المسيح بنبؤة أشعيا ( 53 : 7 ـ 8 ) وبنبؤة المزامير ( 22 كله ). و (( عبد الله )) الشهيد هو (( فتى الله القدوس، الصديق، مبدئ الحياة )) ؛ هذه الصفات الإلهية تعني أن (( فتى الله )) هو (( ابن الله )) .

يسوع هو أيضاً ابن البشر الذي رآه دانيال (( آتياً على سحاب السماء )) ، رمز عرش الله ومجده، كما يراه أسطفان ساعة استشهاده : (( أما هو، فإذ كان ممتلئاً من الروح القدس، وعيناه شاخصتين إلى السماء، رأى مجد الله، ويسوع قائماً عن يمين الله، فقال : ها أنا ذا أرى السماوات مفتوحة، وابن البشر قائماً عن يمين الله )) ! فأسرعوا برجمه لهذه الشهادة ( 7 : 55 ـ 56 ). فاستشهاد اسطفان، أول شهداء المسيحية، معجزة في ثلاث : الرؤيا السماوية، والاستشهاد عليها بنبؤة دانيال، كما استشهد المسيح أمام السنهدرين في محاكمته، وشهادة الدم لتطبيق النبؤة على الرؤيا. فالمسيحيون يرون يسوع، ابن البشر، كما كان يسمي نفسه، في مجد الله، ويموتون في سبيل مشاهدتهم وشهادتهم. فهذه أعظم شهادة لإيمانهم بإِلهية المسيح، ابن البشر، يسوع الناصري، منذ اليوم الأول.

تلك نماذج من جدلية الدعوة الرسولية الأولى واستشهاده بكتاب الله.

 

والشك الأكبر، في نظرية اليهود، أن يسوع الناصري قد مات، وقد مات

ــــــــــــــــــ

(1) في النص العبراني : (( عبد الله )) ؛ لكن الترجمة السبعينية نقلت (( فتى الله )) كما نقل عنها لوقا. وهذا التطور في الترجمة يُشعر أن (( عبد الله )) هو أيضـاً (( ابن الله )) كما يرشح من تعبير السبعينية والأعمال : (( فتى الله )) . ويزيد ذلك بياناً نعته بالقدوس : (( فتى الله القدوس )) . والقدوس في لغة الكتاب كناية عن التنزيه.

(( إنجيل القيامة )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 129

على الصليب متلبساً بلعنة الكتاب : (( ملعون كل مَن عُلّق على خشبة )) ( التثنية 21 : 23 ). فهذا الذل المزدوج، الموت وموت الصليب، هو ما يسميه بولس (( شك الصليب )) ( غلا 5 : 11؛ 1 كو 1 : 23 ). فهذا الشك المزدوج يمنع أن يكون يسوع الناصري المصلوب هو المسيح الموعود، في نظر اليهود : إن المسيح لا يموت! خصوصاً لا يموت مصلوباً! لذلك استماتوا لدى الوالي الروماني لإعدام يسوع مصلوباً حتى يقتلوا في نفوس الشعب الإيمان بأن يسوع هو المسيح.

فشك الصليب قـد أزاله يسوع من نفوس الرسل والتلاميذ بقيامته وظهـوره لهم حيّاً (( مدة أربعين يوماً )) . وكان على الرسل أن يزيلوه من نفوس الشعب. فحاولوا إِزالته بشهادتهم أنهم شاهدوا يسوع الناصري المصلوب حيّاً مرفوعاً إلى المجد الإلهي. واستشهدوا أيضاً على مشاهدتهم وشهادتهم بكتاب الله.

كلاّ، ليس إعدام يسوع صلباً، شكاً في مسيحيته! إِنما استشهاده هذا برهان مسيحيته، بحسب الكتاب نفسه.

فصلب المسيح قضاء إلهي، أبرمه اليهود من حيث يدرون، أو لا يدرون : (( لقد أسلم بحسب قضاء الله وقدره، وعلمه السابق؛ فقتلتموه صلباً بأيدي الخاطئين )) أي الوثنيين ( أع 2: 23 قابل 4 : 28؛ 3 : 18؛ 13 : 27 ).

وهذا القضاء والقدر الإلهي على المسيح كان في الكتاب مسطوراً. يسوع نفسه صرّح به ( مرقس 14 : 27 = زكريا 13 : 7؛ مرقس 15 : 34 = مز 22؛ لوقا 22 : 37 = أشعيا 53 : 12 ). وبطرس يعلن : (( إن الله قد تمّم هكذا ما سبق فأنبأ به على فم جميع الأنبياء من أن مسيحه سيتألم )) ويموت ( أع 3 : 18 و24؛ قابل 4 : 28؛ 13 : 29؛ 8 : 32 ـ 35؛ 9 : 22؛ 20 : 43؛ 17 : 2 ـ 3؛ 18 : 5 و28؛ 26 : 22 و23 و27؛ 28: 23 ).

130 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

وقد رأى الرسل فصول الاستشهاد على الصليب مصوّرة في كتاب الله : خيانة يهوذا ( أع 1 : 16 قابل مز 41 : 10 )؛ تسليم يسوع للإعدام ( أع 2 : 23؛ 3 : 13؛ 7 : 52؛ قابل أشعيا 52 : 13؛ 53 : 12 )؛ نكرانه أمام بيلاطس كما أنكر آباؤكم موسى ( أع 3 : 13 )؛ وصلبه ( 2 : 23؛ 3 : 13 ـ 15؛ 4 : 10؛ 10 : 40 قابل المزمور 22 كله ).

فإِعدام المسيح صلباً استشهاد مسطور في الكتاب، قد أتمه يسوع الناصري، فهو المسيح الموعود. فليس ذلك الصليب شكاً في مسيحية يسوع، بل سبيلاً إلى المجد الإلهي، كما تنبأ داود ( أع 2 : 25 ـ 28 قابل مز 15 : 8 ـ 11 ).

وفي نظر الرسل والجماعة المسيحية الأولى كان استشهاد المسيح فداءً عن شعبه، كما وجدوا وصفه في أشعيا (53) فاطلقوا عليه الاسم النبوي (( فتى الله )) ووصفوه بصفة التنزيه الإلهية (( القدوس )) دليلاً على شخصيته وسمو رسالته ( أع 4 : 27 ـ 28 ). فكان الإنجيل مع النبوة سبب إيمانهم بالفداء في استشهاد المسيح.

 

والرسل، في أسلوب دعوتهم، يطبّقون أيضاً على أحداث الحياة المسيحية الجديدة المعجزة، نبؤات الكتاب.

بحلول الروح القدس على الرسل والتلاميذ يوم العنصرة تمت نبؤة يوئيل (( قال الله : سيكون في الأيام الأخيرة أني أفيض من روحي على كل بشر! فيتنبأ بنوكم وبناتكم ... وأجري معجزات في السماء من فوق، وآيات على الأرض من أسفل ... عندئذ كل من يدعو باسم الرب يخلص )) ( أع 2 : 17 ـ 21 قابل يوئيل 2 : 28 ـ 32 ). وبطرس يقرن المشهد بالنبوة : (( وإذ قد ارتفع يسوع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( 2 : 33 ).

(( إنجيل القيامة )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 131

بمقاومة اليهود للدعوة المسيحية تمت نبؤة المزمور : (( انت الذي قال بالروح القدس على فم داود فتاه : ( لماذا ارتجّت الأمم، والشعوب هذت بالباطل! لقد قامت ملوك الأرض، والرؤساء اجتمعوا معا‌ً على الله وعلى مسيحه ). فانه بالحقيقة قد اجتمع، في هذه المدينة، على فتاك القدوس1 يسوع الذي مسحته أنت هيرود، وبنطيوس بيلاطس، مع الأمم وشعوب إسرائيل، ليصنعوا ما حدّدت من قبل قدرتك وحكمتك )) ( أع 4 : 25 ـ 27 قابل مز 2 : 1 ـ 2 ).

والخلاص الموعود هو باسم يسوع، كما تنبأ النبي : (( كل من يدعو باسم الرب يخلص )) ( أع 2 : 21 قابل يوئيل 2 : 32 ). أجل (( ما من خلاص بأحد غيره، فليس تحت السماء اسم آخر أُعطي للناس، به ينبغي أن نخلص )) ( 4 : 12 ).

وملكوت الله الموعود قد تم بالمسيح يسوع على الأرض؛ (( وله يشهد جميع الأنبياء بأن كل مَن يؤمن به ينال مغفرة الخطايا باسمه )) ( 10 : 43 ) فمغفرة الخطايا تكون بالإيمان باسم يسوع ( قابل أع 2 : 23؛ 3 : 16؛ 3 : 38 ). وسيتجلّى ملكوت المسيح يسوع يوم الدينونة حيث يكون (( ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 42 قابل 17 : 11 ).

والبركة الموعودة بنسل إبراهيم تأتي بيسوع القائم من الموت : (( فلأجلكم أولاً أقام الله فتاه، وأرسله لكي يبارككم )) ! فهو نسل إبراهيم (( الذي به تتبارك جميع أمم الأرض )) أيضاً (أع 3 : 25 ـ 26).

فقيامة يسوع ورفعه إلى السماء هما سبب وواسطة تنزيل الروح القدس الذي به تتحقق الحياة الفاضلة الموعودة بالمسيح.

ــــــــــــــــــ

(1) لاحظ الفارق في التعبير بين داود (( فتى الله )) وبين يسوع (( فتاك القدوس )) : والقدوس صفة التجريد والتنزيه.

132 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 2

بالقيامة تمَّ أخيراً، في نظر الرسل، الكشف عن سر المسيح يسوع وسر رسالته. نوجز هنا ما سنفصّله في بحث لاحق.

بالقيامة تجلَّت مسيحية يسوع وربوبيته : (( فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع. هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً )) ( 2: 36 ) فيسوع القيامة هو (( المسيح الرب )) : من هذه العقيدة التي حققتها القيامة والرفع إلى المجد الإلهي ينطلق الرسل في تطبيق أسماء الله الحسنى وصفاته الإلهية على المسيح يسوع : إنه (( الرب )) ؛ وصار شعار إيمانهم: (( الرب يسوع )) !

بالقيامة ظهرت إِلهية يسوع في بشريته : (( إن إِله آبائنا قد مجّد فتاه يسوع ... لقد أنكرتم أنتم القدوس، الصالح! .. وقتلتم مصدر الحياة )) ( 3 : 13 ـ 15 ). (( فالقدوس )) هي صفة التنزيه في الكتاب. (( والصالح )) من أسماء الله الحسنى، بحسب قول يسوع ( لوقا 23 : 47؛ متى 27 : 19 ). و (( مصدر الحياة )) ، صفة من صفات الذات الإلهية. وكلها صارت أسماء وصفات ليسوع، باستشهاده وقيامته ورفعه إلى المجد الإلهي على عرش الله.

بالقيامة ظهر يسوع (( المصدر والمخلص )) : (( إِن إِله آبائنا هو أقام يسوع الذي قتلتموه أنتم، معلقاً على خشبة! فهذا هو الذي رفعه الله بيمينه مصدراً ومخلصاً ... ونحن شهود بذلك! والروح القدس أيضاً الذي أعطاه للمطيعين له )) ( 5 : 31 ـ 32 ). فرفع المسيح حيّاً إلى السماء جعله رئيس الكون، ومخلص البشر. وهذا الدور الإلهي قد استحقه بشخصيته واستشهاده.

بالقيامة ظهر يسوع (( ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 42 ) وملك يوم الدين صفة الله الرحمان الرحيم، فلا يمكن أن تنسب لمخلوق. ونسبتها ليسوع المسيح برهان إلهيته.

بالقيامة والجلوس على عرش الله، ظهر يسوع (( رب العالمين )) ( 10 : 36 )

(( إنجيل القيامة )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 133

وصفة (( رب العالمين )) هي صفة الله تعالى، فنسبتها ليسوع برهان إلهيته.

بالقيامة نال يسوع السلطان الإلهي لتنزيل الروح القدس على المسيحيين ليحيوا به من حياة الله : (( فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الله الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( 2 : 32 ـ 33 ). ولا سلطان على روح الله إِلاَّ لله ومسيحه. فاشتراك المسيح في مجده السماوي بهذا السلطان الإلهي على تنزيل روح الله، اشتراك في صفة من صفات الذات الإلهية، وبرهان على إلهية المسيح.

فالقيامة والرفع إلى المجد الإلهي، حدث الأحداث في الكون، ومعجزة المعجزات في تاريخ النبوة والبشرية. لذلك كانت القيامة أساس الدعوة الرسولية الأولى.

فسفر الأعمال هو إنجيل القيامة.

 

 

^

134 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

 

بحث ثالث

 

سفر الأعمال هو إنجيل الدعوة المسيحية الأولى

 

سفر الأعمال هو إنجيل القيامة، وهو أيضاً الدعوة المسيحية الأولى، المبنية على نور القيامة ومجدها. فالرسل يشهدون لمسيح القيامة والإيمان.

فاتخذ بعضهم من ذلك ذريعة لشبهة ضخمة أن مسيح الإيمان الذي يشهدون له هو غير يسوع التاريخ.

ومن التهم الشائعة غرباً وشرقاً أن بولس الرسول، بتهلينه المسيحية، قد حرّفها منذ البدء؛ وأن مسيح الإيمان صار معه غير يسوع التاريخ، يسوع الناصري المصلوب. في نظرهم، وبحسب سفر الأعمال نفسه، أن بولس هو أول مَن سمّى يسوع المسيح (( ابن الله )) : (( ومكث أياماً مع التلاميذ الـذين بدمشق، وأخذ للحال يدعو في الجوامع بأن يسوع هو ابن الله )) ( أع 9 : 19 ـ 20 ).

فليس إذن، في نظرهم، من إيمان وتعليم بإلهية المسيح وبنوته الحقيقية لله الآب. بل إنها عقيدة طارئة على الإيمان المسيحي، من مصدر أجنبي عنها، على أثر صدمة نفسية اعترت الرسل بعد موت يسوع مصلوباً، وهزت بولس هزاً عنيفاً في رؤياه على طريق دمشق.

فمسيح الإيمان، بحسب عرْفهم، في الدعوة المسيحية الأولى، ليس يسوع التاريخ.

إنجيل الدعوة المسيحيّة الأولى ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 135

ونحن نقول : إن سفر الأعمال، الذي ينقل الدعوة المسيحية الأولى، شاهد عدل على أن مسيح القيامة والإيمان هو يسوع التاريخ، يسوع الناصري المصلوب.

والظاهرة الكبرى في سفر الأعمال أن الدعوة المسيحية الأولى تركز إيمانهم المسيحي على (( يسوع الناصري المصلوب )) ، كما عرفوه في سيرته.

1 ـ في خلوة العلية الصهيونية، في الأسبوع الفاصل بين رفع المسيح إلى السماء، ونزول الروح القدس على الرسل، يوم عيد العنصرة، يقف بطرس، زعيم الرسل خطيباً بين أخوته ويطلب إليهم اختيار أحد الشهود العيان لسيرة يسوع ودعوته، بدل الخائن يهوذا الذي انتحر بسبب جريمته. قال : (( علينا أن نعيّن أحد الرجال الذين رافقونا طوال الزمان الذي عاش فيه الرب يسوع بيننا، منذ معمودية يوحنا، إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا، ليكون شاهداً معنا بقيامته )) ( أع 1 : 21 ـ 22 ).

فالذين عاشوا معه منذ معمودية يوحنا إلى يوم رفعه إلى السماء، هو يسوع التاريخ ويسوع الإيمان معاً : إنه (( الرب يسوع )) . فهم يسمون يسوع الناصري المصلوب (( الرب يسوع )) . وكلمة (( الرب )) في لغة التوراة والزبور والأنبياء والحكمة، اسم من أسماء الله الحسنى، فهو دليل إيمانهم بربوبية وإلهية يسوع التاريخ الذي عاشوا معه (( منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا )) . فشهادتهم بقيامة المسيح هي شهادة ليسوع التاريخ. ويسوع التاريخ ومسيح القيامة والإيمان واحد في نظرهم وفي دعوتهم.

2 ـ في بلاغ الرسل الأول للشعب، يوم نزول الروح القدس عليهم في عيد العنصرة ( أع 2 : 1 ـ 13 )، وقد شهد الحدث المعجز (( نحو مئة وعشرين نسمة )) من الرسل والتلاميذ ( 1 : 15 ) وجمهور غفير من أهل أورشليم، بينهم

136 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

(( يهوه من الشتات، ومن المتقين من الأمميين، من كل أمة تحت السماء )) ( 2 : 5 )، صرّح بطرس باسم الرسل :

(( يا بني إسرائيل، اسمعوا هذه الكلمات : إن يسوع الناصري، ذلك الرجل أيده الله لديكم بالخوارق والمعجزات والآيات، التي أجراها بواسطته، بين ظهرانيكم، كما أنتم تعلمون، وهو أُسلم بحسب قضاء الله وقدره، وحكمته الأزلية، فقتلتموه صلباً، بأيدي الخاطئين ( كناية عن الأميين )، وقد أقامه ساحقاً قيود الموت، فلا سلطان للموت عليه ... فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك! .. ألا فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد أقام يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً )) ( أع 2 : 22 ـ 24 و32 و36 ).

فيسوع الناصري المصلوب هو (( المسيح الرب )) في البلاغ الرسولي الأول.

فهل أصرح وأوضح من هذا الإعلان الرسولي الأول، الشامل الكامل، الجامع المانع، أن مسيح القيامة والإيمان هو يسوع التاريخ نفسه، الناصري المصلوب، بحسب الدعوة المسيحية الأولى، في بلاغها الأول للشعب، يوم العنصرة؟

3 ـ وفي البلاغ الثاني للشعب، بعد فترة وجيزة، بمناسـبة شفاء مقعد الباب الجميل، (( تبادر إليهما ( بطرس ويوحنا ) الشعب، وقد أخذهم الدهش إلى الرواق المسمى رواق سليمان. فلما رأى بطرس ذلك خاطب الشعب. قال :

(( يا بني إسرائيل ما بالكم متعجبين من هذا ؟ ولِمَ تتفرسون فينا، كأنا بقدرتنا أو بتقوانا، جعلنا هذا الرجل يمشي ؟ إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إله آبائنا، قد مجّد فتاه يسوع، الذي أسلمتموه أنتم، وأنكرتموه بحضرة بيلاطس، وقد قضى هو بإخلاء سبيله. أجل لقد أنكرتم القدوس، الصالح!

إنجيل الدعوة المسيحيّة الأولى ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 137

وطالبتم بتسريح رجل قاتل! لقد قتلتم مصدر الحياة، الذي أقامه الله من بين الأموات! ونحن شهود بذلك )) ( أع 3 : 11 ـ 15 ).

فيسوع الناصري المصلوب، الذي أنكره بنو قومه بحضرة الوالي الروماني وقد شهد ببراءَته، هو نفسه (( يسوع فتى الله )) الذي تمجّد بالقيامة والرفع إلى السماء. فيسوع الناصري المصلوب هو (( فتى الله )) الذي وصف أشعيا الثاني استشهاده لفداء شعبه ( ف 53 ). ويلاحظ الأستاذ كولمان في كتابه ( المسيح في العهد الجديد ص 246 ) أن الترجمة السبعينية ترجمت (( عبد الله )) (( بفتى الله )) ، وهذا التعبير يعني (( عبد الله )) و (( ابن الله )) معاً؛ وقد أخذ العهد الجديد عن السبعينية اللفظ والمعنى. ويؤيد هـذا المعنى المزدوج الصـفات التي تصفه. إنـه (( القدوس )) , والصفة في لغة الكتـاب كناية عـن التجريد والتنزيه للخـالق عن المخلوق؛ (( فالقدوس )) كناية عن إلهية (( فتى الله )) . وإنه (( الصالح )) ؛ وفي لغة الكتاب ( أشعيا 45 : 21 ) والمسيح : (( لا صالح إلا الله وحده )) ( لوقا 18 : 19 )، فالصلاح من صفات الله تعالى. وإنه (( مصدر الحياة )) : وقد قتل اليهود يسوع الناصري، (( مصدر الحياة )) ! وهي صفة من صفات الذات الإلهية.

فالدعوة المسيحية الأولى تسمي يسوع الناصري المصلوب (( فتى الله )) ، وتصفه بالصفات الإلهية الثلاث : القدوس، الصالح، مصدر الحياة. سنستوعب معانيها فيما بعد.

فمسيح الإيمان هو يسوع التاريخ نفسه، الناصري المصلوب!

4 ـ في البلاغ الأول للسنهدرين، المجلس الأعلى الإسرائيلي، الذي أوقف بطرس ويوحنا بسبب المعجزة والدعوة، واستجوبهما، أعلن بطرس، (( وهو ممتلئ من الروح القدس :

(( يا أحبار الشعب وشيوخه، إنا نُسأل اليوم عن معروف عملناه لرجل سقيم،

138 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

وباسم مَن أُبرئ. فاعلموا جميعاً، وليعلم شعب إسرائيل كله، أنه باسم يسوع، المسيح، الناصري، الذي صلبتموه أنتم، وأقامه الله من بين الأموات، أجل به انتصب هذا أمامكم في عافية. إنه هو الحجر الذي ازدريتموه أنتم، أيها البنَّاؤون والذي قد صار رأساً للزاوية : فما من خلاص بأحد غيره! وليس تحت السماء اسم آخر أُعطي للناس، ليخلصوا به )) ( أع 4 : 8 ـ 12 ).

فيسوع الناصري المصلوب، يسوع التاريخ المشهود، هو نفسه مسيح الإيمان والقيامة، حجر الزاوية في بناء التوحيد، ومخلص العالمين، لا خلاص بأحد غيره بعد الله.

5 ـ وصلاة المسيحية الأولى تسميه : (( فتاك القدوس يسوع )) . هذا شعار إيمانها، وروح صلاتها.

بعد استجواب السنهدرين لبطرس ويوحنا، وتهديده لهما ألاَّ يعلّما (( باسم يسوع )) (4 : 18 ـ 21)، رجعا إلى الجماعة المسيحية، فصلوا كلهم معاً (( إلى الله بنفس واحدة )) . قالوا :

(( أيها السيد، الذي صنع السماء، والبر والبحر، وما فيهما جميعاً؛ أنت الذي قال بالروح القدس على فم داود فتاه : ( لماذا ارتجت الأمم! والشعوب هذت بالباطل! فقد قامت ملوك الأرض، والرؤساء اجتمعوا معاً على الرب وعلى مسيحه )؛ فإنه قد اجتمع بالحقيقة، في هذه المدينة، على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته هيرود، وبنطيوس بيلاطس، مع الأمم، ومع شعوب إسرائيل، ليصنعوا ما تقدر من قبل في قضائك وقدرك أن يكون. فالآن، أيها الرب، انظر إلى تهديداتهم، وهب لعبيدك أن ينادوا بكلمتك بكل جرأة! وابسط أنت يدك لإجراء الأشفية والآيات والمعجزات باسم فتاك القدوس يسوع )) . فسمع الله صلاتهم واستجاب دعاءَهم : (( فلما صلوا، تزلزل الموضع الذي كانوا

إنجيل الدعوة المسيحيّة الأولى ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 139

فيه مجتمعين. وامتلأوا جميعهم من الروح القدس، وطفقوا بجرأة بكلمة الله ينادون ( أع 4 : 24 ـ 31 ).

فيسوع الناصري المصلوب هو في صلاة الجماعة المسيحية الأولى (( فتاك القدوس يسـوع )) ، يكررونها مرتين ( 4 : 27 و30 ). وهـم يصفون يسـوع (( فتى الله )) بصـفة (( القدوس )) تجريداً له وتنزيهاً عن سائر أبناء الله وأحبائه مجازاً، مثل داود، (( فتى الله )) . فهم يميزون بين داود (( فتى الله )) ، ويسوع (( فتى الله )) بصفة التنزيه : (( القدوس )) التي تفصل بين المجاز والحقيقة. فإِن كان داود (( فتى الله )) مجازاً، فيسوع هو (( فتى الله القدوس )) حقيقة، أي (( ابن الله )) .

فمسيح الإيمان هو، في صلاة الجماعة المسيحية الأولى، يسوع التاريخ.

6 ـ والشهادة المسيحية الأولى كانت (( الشهادة بقيامة الرب يسوع )) . هذا هو موجز إنجيلهم ودعوتهم وشهادتهم : (( قيامة الرب يسوع )) . فيسوع التاريخ هو (( الرب يسوع )) .

هدّدهم السنهدرين بأن يمتنعوا عن الدعوة باسم يسوع ( 4 : 18 ). فأجابوا : (( أما نحن، فإنا لا نقدر أن لا نتكلم بما شاهدنا وسمعنا )) ( 4 : 20 ). فمسيح الإيمان الذي يدعون له هو يسوع التاريخ الـذي شاهدوه وسمعوا منه. وقد أوجزوا شهادتهم له بشعار ينادون به: (( وكان الرسل، بقوة عظيمة، يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع. وكانت عليهم نعمة عظيمة ( 4 : 33 ). فبقوة عظيمة ونعمة عظيمة (( وجرأة عظيمة ينادون بكلمة الله )) ( 4 : 31 )، (( ويشهدون بقيامة الرب يسوع )) (4 : 33). فكلمة الله هي الشهادة (( بقيامة الرب يسوع )) . فالإنجيل كلمة الله، والشهادة الرسولية الأولى، إن يسوع التاريخ هو (( الرب يسوع )) . فيسوع التاريخ هو، مثل الله، (( الرب يسوع )) على الإطلاق.

140 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

7 ـ وفي البلاغ الثاني للسنهدرين، مجلس القضاء اليهودي الأعلى، الذي أوقف الرسل كلهم هذه المرة، وأخذ يستجوبهم على العودة إلى الدعوة باسم يسوع. فأجاب بطرس باسم الرسل الموقوفين معه :

(( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. إن إله آبائنا قد أقام يسوع الذي قتلتموه أنتم معلقاً على خشبة. فهذا هو الذي رفعه الله بيمينه رئيساً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا. ونحن شهود له بذلك؛ والروح القدس (( أيضاً الذي أعطاه للذين يطيعونه )) (أع 5 : 29 ـ 32).

فالطاعة لله في الإيمان المسيحي، هي بلغة أخرى، الإسلام له.

فمسيح الإيمان الذي ظهر برفعه إلى السماء الرئيس على الكون، ومخلص البشر، الخلاص الروحي من الداء الأكبر الخطيئة، هو نفسه يسوع الناصري (( الذي قتلتموه معلقاً على خشبة )) ! فالرسل يشهدون ليسوع التاريخ ومسيح الإيمان شخصاً واحداً. وشهود الإثبات عندهم : النبوة، والتاريخ الذي ينفذها، والمعجزة التي تؤيد الشهادة، وفوق الجميع ظهور الروح القدس في شهادة الرسل وحياة المؤمنين الذين أسلموا للمسيح يسوع.

8 ـ شهادة الدم في استشهاد اسطفان، أول الشهداء. جرُّوه جرّاً إلى الرجم. وزعيم الحركة شاول الطرسوسي ( 7 : 58؛ 8 : 1 ). فخطب في الشعب الثائر قبل استشهاده؛ ومما قال : (( كما كان آباؤكم، كذلك أنتم! فأي نبي من الأنبياء لم يضطهده آباؤكم ؟ ولقد قتلوا الذين أنبأوا بمجيء البار، هذا الذي رفضتموه الآن، وكنتم له قاتلين! )) ( 7 : 51 ـ 52 ). ولمَّا أخذوا في رجمه، (( وإذ كان ممتلئاً من الروح القدس، وعيناه شاخصتين إلى السماء، رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله، صاح : ها أنا ذا أرى السماوات مفتوحة، وابن البشر قائماً عن يمين الله )) ! ( 7 : 55 ـ 56 ).

فيسوع الذي يستشهد اسطفان في سبيل الدعوة له هو يسوع النبوة في تاريخ إسرائيل كله، ويسوع التاريخ الذي قتله بنو إسرائيل، ويسوع ابن

إنجيل الدعوة المسيحيّة الأولى ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 141

البشر القائم في مجد الله، عن يمين الله. وهذه الشهادة الثلاثية يؤكدها امتلاء اسطفان من الروح القدس، ورؤية يسوع في المجد الإلهي، وتحقيق نبؤة دانيال في (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) أي في مجد الله، واستشهاد الشاهد.

فيسوع المصلوب هـو نفسـه مسيح الإيمان، (( ابن البشر القائم عن يمين الله )) في (( مجد الله )) . تلك شهادة الدم المسيحي التي لا تُرد.

9 ـ البلاغ الأول للوثنيين الأمميين. كان في قيصرية، عاصمة فلسطين الرومانية، قائد الحامية كرنيليوس، وكان رومانياً من المتقين. فأوفد الله إليه بمعجزة بطرس يهديه إلى الدين المسيحي. وكان المشركون رجساً عند أهل الكتاب، لا يُؤاكَلون ولا يُساكَنون. فاجتمع في بيت كرنيليوس جميع ذويه ومريديه. (( وفتح بطرس فاه )) وقال :

(( لقد أيقنت حقاً أنه ليس عند الله محاباة وجوه. بل في كل أمة، كل من أتقاه وعمل البر ينال رضاه ـ ولكنه قد أنزل كلمته إلى بني إسرائيل، مبشراً بيسوع المسيح، الذي هو رب العالمين.

(( وأنتم تعلمون بما قد جرى في اليهودية كلها، ابتداءً من الجليل، بعد دعوة يوحنا بالمعمودية. وكيف مسح الله بالروح القدس وسلطان مبين يسوع الناصري. فاجتاز ينشر الإحسان، ويبرئ جميع الذين أرهقهم الشيطان! فإِن الله كان معه. ونحن شهود بكل ما صنع في أرض اليهود، وفي أورشليم. فقتلوه معلقاً على خشبة! وهو الذي أقامه الله في اليوم الثالث. وآتاه أن يظهر، لا للشعب كله، بل لشهود اصطفاهم الله من قبل : لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات. وقد كلّفنا أن نقوم بالدعوة لدى الشعب، ونشهد أنه هو الذي أقامه الله ملك يوم الدين على الأحياء والأموات. وله يشهد جميع الأنبياء، بأن كل من يؤمن به ينال، باسمه، مغفرة الخطايا.

142 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 3

(( وفيما بطرس ينطق بهذه الكلمات حلَّ الروح القدس على جميع الذين سمعوا هذه الكلمة ... حينئذ قال بطرس : أوَيستطيع أحد أن يمنع ماء المعمودية عن هؤلاء الذين نالوا الروح القدس مثلنا ؟ وأمر أن يعمّدوا باسم يسوع المسيح )) ( 10 : 34 ـ 48 ).

فهذا البلاغ الاول للأمميين هو موجز الإنجيل بحسب مرقس، ترجمان بطرس.

دخول الأمميين في المسيحية، جرى مثل دخول أهل الكتاب في المسيحية، بعيد عنصرة نزل فيه الروح القدس عليهم.

والبلاغ الرسولي الأول للوثنيين كان أصرح من البلاغات لأهل الكتاب، فهو يشهد أن يسوع التاريخ الذي يشهد الرسل (( بكل ما صنع في أرض اليهودية وأورشليم )) ؛ وأن يسوع التاريخ الذي (( قتلتموه معلّقاً على خشبة )) ؛ هو نفسه مسيح القيامة (( الذي أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات )) ـ فلا مجال لوهم أو توهّم من الإيمان على الواقع التاريخي ـ وهو نفسه في مجد الله (( رب العالمين )) ، و (( ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ! وهو نفسه ينزل الروح القدس على الأميين المؤمنين، كما على أهل الكتاب المسيحيين. وسلطان تنزيل الروح القدس برهان على أن يسوع التاريخ، مسيح الإيمان، هو (( رب العالمين وملك يوم الدين )) !

فشهادة الدعوة المسيحية الأولى تشهد بالتواتر والإجماع أن مسيح الإيمان هو يسوع التاريخ. وأنها فرية عليها، بدعة القائلين من الزنادقة والملحدين أن مسيح الإيمان هو غير يسوع التاريخ!

10 ـ هداية بولس المعجزة ودعوته الأولى. فيما كان بطرس يفتح أبواب المسيحية للوثنيين، كان السيد المسيح نفسه يعترض طريق شاول الطرسوسي، الذي نشأ فريسيّاً ابن فريسي، وتثقف لدى أقدام جمالئيل، علاّمة إسرائيل

إنجيل الدعوة المسيحيّة الأولى ـــــــــــــــــــــــــــــــــ 143

وعضو السنهدرين، على التوحيد الخالص؛ والذي كفّر دعوة الرسل (( للرب يسوع )) ، وتزعّم حركة الاضطهاد لهم ولأتباعهم في أورشليم؛ والذي تكلّف من المجلس الإسرائيلي الأعلى أن يلاحق اليهود المتنصرين بدمشق نفسها؛ فيظهر له ويصرعه على قارعة الطريق، عند الظهيرة، ويكشف له في مجد القيامة ونور الله، أنه (( المسيح ابن الله )) ( غلا 1 : 15 ). فاهتدى ودخل دمشق واعتمد. (( ومكث أياماً مع التلاميذ في دمشق، وأخذ للحال يدعو بيسوع أنه ابن الله ... وكان شاول يزداد جرأة، ويفحم اليهود القاطنين بدمشق مبرهناً أن يسوع هو المسيح )) ( أع 9 : 19 ـ 22 ).

فدعوة بولس الأولى، في البيئة الإسرائيلية، (( إن يسوع هو المسيح )) . ويبرهن من كتاب الله صحة الدعوة؛ وفي البيئة الأممية (( إن يسوع هو ابن الله )) ـ لأن كلمة ( المسيح ) لا تعني لهم شيئاً. وكانت كلمة ( المسيح )، (( الرب يسوع )) تعني عندهم (( ابن الله )) على الترادف والبدلية.

ودعوة بولس (( إن يسوع هو ابن الله )) لا تختلف عن دعوة بطرس زعيم الرسل وخليفة المسيح: من كان (( فتى الله القـدوس )) ، (( الرب المسيح )) ، (( الرئيس المخلص )) ، (( القـدوس مصدر الحياة )) ، (( رب العالمين وملك الدين )) ، (( الرب يسوع )) هـو بالحقيقة (( ابن الله )) . سنفصل ذلك في بحث لاحق.

لذلك كان بولس يردد في رسائله : (( فسواء أنا أم هم ( الرسل )، هكذا ندعو، وهكذا آمنتم )) ( 1 كو 15 : 11 ).

فالدعوة المسيحية الأولى تشهد بالتواتر والإجماع، بما لا يقبل شكاً أو ريبة أن مسيح الإيمان، (( ابن الله )) هو يسوع التاريخ، الناصري المصلوب. وسفر الأعمال شاهد عدل، وشهادته صريحة ناطقة.

فسفر الأعمال هو إنجيل الدعوة المسيحية الأولى.

144 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

 

بحث رابع

 

سفر الأعمال هو إنجيل (( الرب يسوع ))

 

لقد أعلن السيد المسيح، في الإنجيل بأحرفه الثلاثة المتوازية المؤتلفة، إنـه (( ابن البشر )) الذي يؤسس ملكوت الله على الأرض، كما رآه دانيال (( آتياً على سحاب السماء )) . فباتخاذ يسوع هذا اللقب النبوي المثير، وبدعـوته لملكوت الله، أظهر أن (( ابن البشر )) هـو (( ابن مريم )) و (( ابن الله )) معاً ( مر 1 : 1؛ 6 : 3 ).

لذلك في الدعوة الرسولية الأولى، أوجز الرسل، صحابة المسيح على حياته، وشهود العيان له بعد قيامته، دعوتهم المسيحية الأولى بهذا الشعار : (( الرب يسوع )) (أع 1 : 21).

ونعرف من بولس أن الشهادة : (( الرب يسوع )) شهادة بإِلهيته، وهي منزلة : (( أعلن لكـم أنه ما من أحـد ينطق بروح الله ويقول: (( يسوع مبسل )) ! ولا أحـد يستطيع أن يقول (( الرب يسوع )) إِلاَّ بالروح القدس )) ( 1 كو 12 : 3 ـ 4 ).

وبعد مجمع الرسل في أورشليم عام 49، نحو عشرين سنة بعد رفع المسيح إلى السماء، ذلك المجمع الذي أفتى بتحرير المسيحية من الموسوية، أعلن الرسل قرارهم (( باسم ربنا يسوع المسيح )) ( أع 15 : 26 ).

فمنذ البداية، حتى النهاية، عقيدة الرسل الأولى، ودعوتهم الدائمة، وشهادتهم المتواترة أن يسوع الناصري المصلوب هو (( الرب يسوع )) ، (( ربنا يسوع المسيح )) .

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 145

إنه إعلان متواتر بمسيحية يسوع وربوبيته وإلهيته.

 

نعلن في مطلع هذا البحث أنه يضطرنا إلى بعض المراجعات في ما نقول، لأن الأسانيد والشواهد واحدة في الأبحاث المختلفة كلها.

 

 

أولاً : يسوع هو (( المسيح الرب )) ، في الدعوة الرسولية الأولى

في البيئة الإسرائيلية، إن دعوة الرسل، صحابة المسيح، والشهود العيان لرسالته واستشهاده وقيامته ورفعه حياً إلى السماء، في المجد الإلهي، كانت (( الشهادة للرب يسوع )) (1 : 21) و (( بقيامة الرب يسوع )) ( 4 : 33 )، والاستشهاد (( باسم ربنا يسوع المسيح )) (15 : 26).

فدعوتهم أن يسوع الناصري المصلوب هو المسيح الموعود الذي رفض أن يتعرّف عليه زعماء اليهود، من الشيوخ والأحبار والعلماء، إلاّ ما ندر منهم، وكان ذلك سراً مثل العلامة نيقوديم، والوجيه يوسف الرامي.

ودعوتهم بمسيحية يسوع تقوم على تلاوة مشاهد من إنجيل المسيح، وعلى الاستشهاد بكتاب الله. فيسوع هو (( الذي تكلم الله عنه منذ القديم، على فم أنبيائه القديسين )) ( 3 : 21 )؛ واستشهاد المسيح، صخرة الشك لليهود، كان من ضمن النبؤات المتواترة : (( فإن الله قد تمّم هكذا ما سبق فأنبأ به على فم جميع الأنبياء، من أن مسيحه سيتألم )) أي يُعدم ويستشهد ( 3 : 18 ). تلك نبؤة موسى في المسيح (( النبي مثله )) ( 3 : 23 )؛ (( وجميع الأنبياء، من صموئيل إلى كل من تنبأ بعده، قد أنبأ بهذه الأيام )) ( 3 : 24 ).

146 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

لكن دعوة الرسل بمسيحية يسوع كانت موجهة إلى إعلان المسيح المشهود أفضل من المسيح الموعود، كما يفوق التحقيق النبوة. فالمسيح المشهود هو (( المسيح الرب )) : (( فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً )) (2: 36). إن مسيحية يسوع ربوبية : هذا هو البلاغ المسيحي الأول للشعب.

ومسحة يسوع، غير سائر المسحات المعروفة في الكتاب : المسحة الملكية، والمسحة الكهنوتية، والمسحة النبوية. بل هي تحويها جميعاً، وتسمو عليها جميعاً، (( لأن الله مسح يسوع بالروح القدس والقدرة )) ( 10 : 38 ). فروح الله، من ذات الله، وهو مسحة يسوع مسيحاً : لذلك فهو (( المسيح الرب )) ( 2 : 36 ). سائر المسحاء من ملوك وكهنة وأنبياء مُسحوا بزيت العهد، أما يسوع فقد مسحه الله بالروح القدس والقدرة الإلهية. مسحتهم بشرية، ومسحة يسوع إِلهية. فهو (( المسيح )) على الإطلاق ( 2 : 31 ). وصار اللقب اسم علم له : (( يسوع، المسيح الناصري )) ( 3 : 6 )، (( المسيح يسوع )) ( 3 : 30 )، فهو، في ملتهم واعتقادهم (( ربنا يسوع المسيح )) ( 15 : 26 ).

فمسحة يسوع الإلهية، لا تجعله إلهاً، فليس في الدعوة المسيحية من تأليه؛ بل تعلن إلهيته، لأن يسوع الممسوح (( بالروح القدس، والقدرة الإلهية )) هو (( فتاك القدوس يسوع الذي مسحته )) ( 4 : 27 ). إنها مسحة التنزيه عن المخلوق : فهو (( القدوس، مصدر الحياة )) ، كمـا يعلن بطرس في البـلاغ المسيحي الثـاني للشـعب ( 3 : 14 ـ 15 ). إِنهـا مسحة (( القدوس )) . و (( القدوس )) ، من صفات الله، ومن أسمائه الحسنى التي سمع أشعيا الملائكة ينشدونها : (( قدوس! قدوس! قدوس! الله الصمد! الأرض كلها مملوءَة من مجده )) ( 6 : 3 ). فمسحة (( القدوس )) ، بمسحة الروح القدس نفسه، تشير إلى التنزيه عن التشبيه. فمسحة يسوع ابن مريم تجعله (( المسيح )) المنزه عن المخلوق : (( فلا تدع قدوسك يرى فساداً )) (2 : 27).

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 147

مسحة يسوع تجعله المسيح، (( ابن البشر )) ، في بشريته على الأرض، وفي إلهيته في مجد الله نفسه، كما رآه دانيال، وكما استشهد به يسوع نفسه أمام السنهدرين، وكما رآه اسطفان ساعة استشهاده فصاح، وهو ممتلئ من الروح القدس : (( ها أنا ذا أرى السماوات مفتوحة وابن البشر قائماً عن يمين الله )) ( 7 : 55 ـ 56 ).

إن مسيحية يسوع ربوبية وإلهية معاً، كما يظهر من صفاته في البلاغ المسيحي الأول للأمميين : (( لقد أنزل الله الكلمة إلى بني إسرائيل، مبشراً بالسلام، بيسوع المسيح، الذي هو رب العالمين ... الذي أقامه الله ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 36 و42 ).

هذا هو المسيح المشهود، بحسب شهادة صحابته، الشهود العيان، في الدعوة المسيحية الأولى.

 

والمسيح الرب، هو (( الرب يسوع ))، في الدعوة الرسولية الأولى.

منذ اجتماع الرسل في العلية الصهيونية، بعد ارتفاع يسوع إلى السماء، وقف بهم بطرس خطيباً يطلب انتخاب بديل ليهوذا الخائن، (( من بين الرجال الذين رافقونا طوال الزمان الذي عاش فيه الرب يسوع بيننا )) ( 1 : 21 ).

1 ـ في البلاغ المسيحي الأول للشعب يعلنون : إن (( يسوع، هو الذي صلبتموه أنتم، قد جعله الله ربّاً ومسيحاً )) ( 2 : 36 ). يقدّمون ربوبية يسوع على مسيحيته إظهاراً وتقديراً لمعنى (( المسيح )) و اسم (( الرب )) ، لأن المخاطبين يوم العنصرة كانوا (( من كل أمة تحت السماء )) من اليهود في الشتات، ومن الدخلاء المتهوّدين )) ( 2 : 5 ـ 11 ). وأهل البيئة الهلنستية لا يفهمون ملياً معنى

148 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

المسيح كمـا شاهده الرسل، وأبعاده على حقيقته، فترجموا لهم (( المسيح )) (( بالرب )) . فاسم (( المسيح )) يحمل معنى (( الرب )) منذ مطلع الدعوة.

ويسوع نفسه قد مهّد لهم السبيل في قوله : (( وابن البشر هو رب السبت أيضاً )) (مرقس 2 : 28). وأخذوا الاسم الكريم من يسوع نفسه الذين طبّق على ذاته نبؤة المزامير : (( قال الرب لربي )) ؛ فهو ابن داود وربه معاً ( مرقس 12 : 35 ـ 37؛ 14 : 62 قابل المزمور 109 : 1 ). وأظهر لهم ربوبيته، باستشهاده بنبؤة دانيال، الذي رأى (( ابن البشر آتياً على سحاب السماء )) ، رمز عرش الله ومجده؛ فكانت هذه الشهادة بالنبوة سبب تكفيره وإعدامه ( لوقا 22 : 69 ـ 71 ). فالكتاب ( مز 109 : 1 ) والإنجيل ( مرقس 11 : 3؛ لوقا 24 : 34؛ يوحنا 13 : 13 ) يسميان يسوع (( الرب )) ؛ ففضّل الرسل هذا الاسم الكريم، على اسم (( المسيح )) في خطاب اليهود الهلنستيين، والأميّين المتهودين، والأميين الوثنيين، فقالوا: (( الرب يسوع )) ؛ وفي خطاب اليهود يقولون (( الرب المسيح )) ؛ وقد يجمعون الاسمين معاً، فيقولون (( ربنا يسوع المسيح )) ( 15 : 26 ). وهذا كله شهادة منهم ودعوة لربوبية يسوع المسيح.

2 ـ وسفر الأعمال يستعمل اسم (( الرب )) ، تارة بحق الله وحده ( 2 : 39؛ 3 : 22؛ 4 : 26؛ 9 : 17 )؛ وتارة بحق المسيح وحده ( 7 : 57 ـ 61؛ 9 : 10؛ 11 : 17 ... ). وهذا الترادف في الربوبية بين الله والمسيح، يجعل ربوبية المسيح من ربوبية الله نفسها.

3 ـ ويتطـور الترادف إلى التبـادل، فلا تدري أحيـاناً هـل يقصد النص الكـريم (( بالرب )) الله أو المسيح : ففي ( 9 : 31 ) قد تعني (( مخافة الرب )) الله أو المسيح، وفي (11 : 23) قد يعني (( الثبات في الرب )) الله أو المسيح ( قابل أيضاً 13 : 43 )؛ وكلمة الكتاب : (( من يدعو باسم الرب يخلص )) ( 2 : 21 ) في ذكر يوم المسيح، قد تعني الله أو المسيح؛ وصلاة الرسل : (( أنت أيها الرب،

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 149

العارف قلوب الجميع أظهر أيَّ هذين الاثنين اخترت )) ( 1 : 24 ) قد تقصد الله وقد تقصد المسيح، كما يظهر من السياق ( 1 : 21 و22 و24 )؛ والدعاء للمسيح مثل الدعاء لله، يعني الربوبية والإلهية. وفي تطبيق كلمات الكتاب في الله، على المسيح، كما في قولهم : (( من يدعو باسم الله يخلص )) ( 2 : 21 )، دليل على استخدامهم الربوبية بحق المسيح في معناها المطلق. يؤيد ذلك الترجمة السبعينية التي يستخدمونها، أو يستخدمها صاحب سفر الأعمال، والتي تترجم اسم الجلالة العبراني (( يهوه )) أي الله، بكلمة (( الرب )) . وهذا الاستخدام برهان إلهية (( الرب يسوع )) . فصارت كلمة (( الرب )) اسم علم مترادف بين الله والمسيح، في العهد الجديد.

4 ـ ودرج بين الجماعة المسيحية الأولى، على عهد الرسل، اسم (( الرب يسوع )) (1 : 21؛ 4 : 33). وصاروا يقولون : (( الذين يؤمنون بالرب )) أي يسوع ( 5 : 14؛ 16: 31 ... )، (( الذين يهتدون إلى الرب )) ( 9 : 35؛ 11 : 21 )، (( كلمة الرب )) (8 : 25). وأخذ الدين المسيحي اسم (( صراط الرب )) ( 13 : 10؛ 18 : 25 و26 )، (( خدمة الرب )) (13 : 2؛ 20 : 19). ونقلوا إلى (( الرب يسوع )) تعابير الكتاب في الله تعالى، فصاروا يقولون : (( خشية الرب )) (9 : 31)، (( نعمة الرب )) (14 : 3؛ 15 : 11 و40)، (( مشيئة الرب )) ( 21 : 14 )، (( يوم الرب )) ( 2 : 20 )؛ وصاروا يطبّقون على يسوع، ما كان يقال بحق الله : (( دعا باسم الرب )) ( 9 : 14 و21؛ 22 : 16 )؛ ويجعلون الخلاص بالدعوة باسم الرب، مثل الله نفسه في العهد القديم : (( من يدعو باسم الرب يخلص )) (2 : 21؛ قابل رو 10 : 13)؛ ويصلون (( باسم الرب )) ، و (( إلى الرب )) أي باسم يسوع وإلى يسوع ( 4: 29؛ 7 : 59 و60 ). هذا الاستعمال الشائع لاسم (( الرب )) في لغة الجماعة المسيحية الأولى، برهان إيمانها بإِلهية (( الرب يسوع )) . يؤيد ذلك إضافة الروح القدس، روح الله، إلى يسوع : (( روح الرب )) ( 5 : 9؛ 8 : 39 ). فهذا الاستعمال لصفة (( الرب )) على العلمية والإطلاق اسماً ليسوع هو أيضاً برهان إلهيته.

5 ـ وربوبية يسوع المسيح المطلقة تظهر في مظهريها الإِلهيين، وفي صفتيها

150 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

الإِلهيتين، في البلاغ المسيحي الأول للأمميين : يسوع المسيح هو (( رب العالمين )) (10: 36)، (( وملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 42 ). فالمسيح هو السيد المطلق على الخلق في الدنيا, وملك يوم الدين في الآخرة ( قابل 1 : 11؛ 17 : 31 ).

6 ـ فربوبية (( الرب يسوع )) تعني إلهيته. فكل أسفار الوحي الإنجيلي تنقل استشهاد المسيح بنبؤة داود ( 109 : 1 ) في الكشف عن سر شخصيته أنه ابن داود وربه معاً. وفي بلاغ الرسل الأول للشعب يقولون : (( إِن داود لم يصعد قط إلى السماوات؛ مع ذلك فإنه يقول: ( قال الرب لربي، اجلس عن يميني حتى اجعل أعداءَك موطئاً لقدميك ). فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً )) ( أع 2 : 34 ـ 36 ). فربوبية المسيح هي نبؤة الكتاب، وشهادة يسوع، ودعوة الرسل الأولى.

7 ـ وهذه الربوبية الإلهية تتجلى في جلوس المسيح الرب عن يمين الله، في المجد الإلهي ( 2 : 34؛ 7 : 55 ـ 56 )، وفي تمتع المسيح الرب بالسلطان الإلهي في تنزيل الروح القدس على المؤمنين : (( وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( 2 : 33 ).

لذلك، فإنه من الضلال والتضليل القـول بأن الرسل، أو بالحري بولس، أخـذوا صفة (( الرب )) من العالم الوثني الذي كان يطلقها على آلهته الوثنيين وعلى قياصرته الرومانيين، فنسبوها إلى المسيح. إنها مزية تكذّبها الآثار التي بين أيدينا من الوحي الإنجيلي، مثل دعوة الرسل الأولى في فلسطين قبل أن يهتدي بولس، وقبل أن يتفرّق الرسل للدعوة. وبولس نفسه قد نقل صفة (( الرب )) بحرفها الأرامي، من صلاة المسيحيين في فلسطين، إلى صلاة المسيحيين من الأمم : (( ماراناتا )) أو (( ماران أتى )) ( 1 كو 16 : 22 ). وبولس يميّز بين ربوبية الأرباب والآلهية الوثنية، وبين ربوبية (( الرب الواحد، يسوع المسيح، الذي به كل شيء، ونحن به )) ( 1 كو 8 : 5 ـ 6 ).

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 151

وفي اصطلاح لغة الوحي الإنجيلي، في العهد الجديد، صار اسم (( الرب )) علماً للمسيح، (( الرب يسوع )) ، كما أن اسم (( الله )) أصبح كناية عن (( الآب )) .

وقد تحدّى المسيحيون (( بالرب يسوع )) الوثنية الحاكمة المتحكمة في دولة قيصر، التي كانت تقول: (( الرب قيصر )) . وقد رفض الشهيد الأسقف بوليكربوس أن يقول: (( الرب قيصر )) ! وفضّل الاستشهاد وهو يردّد : (( الرب يسوع )) . فكان شعار الإيمان تجاه شعار الوثنية.

 

 

ثانياً : يسوع (( ابن الله )) في الدعوة الرسولية الأولى

إن الشهادة المسيحية الأولى : (( الرب يسوع )) أعقبتها الشهادة الجامعة : (( يسوع، المسيح، ابن الله )) .

نعرف أن الشياطين كانوا أسرع من الناس للاعتراف بيسوع أنه (( ابن الله )) ( مرقس 3 : 11؛ 5 : 7 )؛ ونعرف أن يسوع أعلن أن شهادة بطرس (( أنت المسيح، ابن الله الحي )) ( متى 16 : 16 ) هي وحي وتنزيل من الله، لا من إِلهام اللحم والدم، أي من إلهام بشري! ونعرف أن مجلس القضاء اليهودي الأعلى قد كفّر شهادة يسوع أنه (( المسيح ابن الله )) وأعدمه ( لوقا 22 : 70 ـ 71 ). ونعلم أن يسوع قبل رفعه إلى السماء أمر رسله بتعميد الناس (( باسم الآب والابن والروح القدس )) ( متى 28 : 19 ). فالعماد المسيحي كان مصحوباً بالشهادة بيسوع (( ابن الله )) .

فالشهادة (( لابن الله )) في العماد، نجد لها صيغاً عديدة في العهد الجديد. أقدم صيغة للشهادة في العماد نجدها في هداية وعماد الخصي، قيّم الكنداكة، ملكة

152 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

الحبشة؛ (( قال الخصي : هو ذا ماء، فما المانع من أن أعتمد ؟ فقال فيلبس : لا مانع، إِِن كنت تؤمن بكل قلبك. فأجاب، قال : إِني أؤمن بأن يسوع المسيح هو ابن الله )) ( أع 8 : 36 ـ 37 ). يظهر أن الآية (37)، جواب الخصي بإعلان الشهادة، غير صحيحة، بل دخيلة على النص، لأنها لا توجد في بعض المخطوطات1. وهبها دخيلة، فهي قديمة، وهي شهادة العماد التي نجدها في صيغ أخرى، صدىً لأمر المسيح بالعماد (( باسم الآب والابن والروح القدس )) ( متى 28 : 19 ). يرى بعضهم أن بولس ينقل في مطلع الرسالة الرومانية صيغة الشهادة قبل العماد : (( إنجيل الله ... في ابنه : المولود بحسب الجسد من ذرية داود، والمعلن ابن الله بحسب روح القداسة، في قدرة، بقيامته من بين الأموات، ربنا يسوع المسيح )) (1: 3 ـ 4). فربنا يسوع المسيح هو (( ابن الله، بحسب روح القداسة )) الذي فيه. وصاحب الرسالة العبرية يحرّض مراسليه على (( الثبات في الشهادة )) أن (( يسوع هو ابن الله )) ( 4 : 14 ). ويوحنا الرسول يعطينا أيضاً الشهادة المسيحية المتواترة في قوله : (( ونحن قد شاهدنا ونشهد أن الآب قد أرسل ابنه مخلصاً للعالم : فمن شهد (( بأن يسوع هو ابن الله )) ، فالله يقيم فيه، وهو في الله )) ( 1 يو 4 : 14 ـ 15 ).

فشهادة العماد المتواترة، في مصادر الوحي الإنجيلي، أن (( يسوع هو ابن الله )) هي جواب لأمر المسيح بالعماد (( باسم الآب والابن والروح القدس )) ( متى 28 : 19 ).

والمشكل أن هذه الشهادة لا نجدها بحرفها في الدعوة الرسولية الأولى في سفر الأعمال، إِلاَّ على لسان بولس؛ يظهر أنه هو أول من ينادي في جوامع دمشق : (( بأن يسوع هو ابن الله )) ( أع 9 : 20 ).

فاستنتج بعضهم أن الاسم الكريم (( ابن الله )) والعقيدة هما من وضع بولس،

ــــــــــــــــــ

(1) النص الشرقي لا يحفظها، والنص الغربي يحملها، من هنا التردد في صحتها.

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 153

بتأثير الوثنية الهلنستية على الدعوة المسيحية؛ والدعوة المسيحية الأولى براءٌ من هذه العقيدة الدخيلة على الإيمان المسيحي الأول.

لكن اعتبارات أربعة تحملنا على اليقين بأن بولس، في حماسة المهتدي الجديد، المنقلب من كافر مضطهد، إلى داعية متحمس، صرّح في دمشق، في بيئة وثنية، ما كان الرسل يقولونه، على طريق المقابلة، في البيئة الإسرائيلية في فلسطين.

الاعتبار، بل الواقع، الأول : شهادة العماد (( ليسوع ابن الله )) التي نرى صيغها العديدة في مصادر الوحي الإنجيلي، كما نقلنا بعضها. وهذه الشهادة تنفيذ لأمر المسيح في صيغة العماد التي فرضها ( متى 28 : 19 ). ولا نعرف العماد المسيحي منذ عهد الرسل إلاَّ بهذه الصيغة، بعد هذه الشهادة. فالتنكر لهذه الشهادة تنكر لأصل المسيحية كلها في العماد؛ وتنكر لأسفار العهد الجديد كله.

الاعتبار الثاني، بل الواقع الثاني، أن الرسل، وعلى رأسهم بولس، كانوا موحّدين، على أشد ما يكون التوحيد الخالص؛ فلا يُعقل على الإطلاق أن يقولوا بإلهية يسوع المسيح، لو لم يكن هو نفسه قد علمهم إياها. ونرى من الأناجيل المؤتلفة كم تحفّظ يسوع في إعلان مسيحيته، وكم تحفّظ حتى النهاية في التصريح بإلهيته ( وهذا التحفّظ من قبل المعلم، جعل الرسل يتحفّظون مثله في أورشليم، وإعدام المسيح لم يزل مائلاً أمام أعينهم ) فسلكوا سلوك معلمهم بإعلان إلهيته بتعابير وأسماء وصفات مقابلة.

وبولس المتهم بإدخال عقيدة إلهية المسيح وبنوته من الله على الإيمان المسيحي كان أصلب عقيدة في التوحيد التوراتي من الرسل. فهو (( الفريسي ابن الفريسي )) ( أع 23 : 6 )، (( على أضيق مذهب في ديننا )) ( 26 : 5 )، قد تثقف على يد شيخ من شيوخ الفريسيين، العلامة جمالئيل ( 22 : 3 )؛ وشهد أمام الوالي فستس، والملك أغريبا، وأعيان الولاية، وعلماء السنهدرين : (( إِن ما كانت عليه

154 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

سيرتي منذ نعومة أظفاري، في أمتي، وفي أورشليم بالذات، لمعروف عند جميع اليهود. ويعرفون من زمن بعيد، لو شاؤوا أن يشهدوا، إني قد عشت على أضيق مذهب في ديننا )) (26 : 4 ـ 5) ـ فما كان لبولس المغمور بكيانه كله في التوحيد التوراتي، والمضطهد للدعوة المسيحية التي تقول (( الرب يسوع )) ، أن يقول بإِلهية المسيح، ويسمي (( يسوع، ابن الله )) ، لو لم يعرف من الشهود العيان ودعوتهم بأورشليم، وهو يلاحقهم، أنها وحي المسيح، ولو لم يتحقق بنفسه ذلك في رؤية المسيح (( ابن الله، في مجد الله )) على طريق دمشق. وكيف تخفى عليه محاكمة يسوع وشهادته أمام السنهدرين أنه (( ابن الله )) التي بسببها كفـّروه وأعدموه ؟! تحدى يسوع السنهدرين بقوله : (( سترون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة، وآتياً على سحاب السماء )) رمز عرش الله ومجده ( مر 14 : 62 )؛ وقد تحقق ذلك في رؤية اسطفان ( 7 : 55 ـ 56 ). ويتحقق اليوم برؤية بولس ( 9 : 1 ـ 9 ). إن تهمة تأليه المسيح أبعد عن بولس، بُعد الثريا عن الثرى.

الاعتبار الثالث، بل الواقع الثالث، في محضر محاكمة المسيح أمام السنهدرين، مجلس القضاء الأعلى، وفي سبب تكفير يسوع وإعدامه. أجل تحفّظ يسوع في إعلان مسيحيته بطريقة صريحة، لئلا يثيرها ثورة قومية في وجه رومة؛ وتحفّظ أكثر فأكثر في إعلان إلهيته بطريقة صريحة، لئلا يثيرها ثورة دينية من قبل السلطات اليهودية. لكنه في الأيام الأخيرة الحاسمة خرج عن تحفّظه، وشهد بصراحة، وفي شتى الأساليب، أنه (( ابن داود وربه )) معاً . والأناجيل المؤتلفة الثلاثة تختم رسالة المسيح بهذا التصريح. لذلك قرّر السنهدرين اغتياله. ثم أوقف يسوع. وكان الاستجواب الرسمي، بالاستحلاف الشرعي في مسيحية يسوع وإلهيته وبنوته لله. وقد نقلت الأناجيل المؤتلفة الثلاثة محضر الجلسة بأقوال مختلفة الألفاظ متفقة المعاني ـ مما يشهد بعدم التواطؤ في شهادتهم، وفي صحتها التاريخية ـ قال مرقس : (( فسأله الحبر الأعظم أيضاً، قال له : أأنت المسيح،

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 155

ابن المبارك ؟ فقال له يسوع : أنا هو! وسترون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة، وآتياً على سحاب السماء )) ( 14 : 61 ـ 62 ). قال متى : (( فقال له الحبر الأعظم : أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا : هل أنت المسيح، ابن الله ؟ فقال له يسوع : أنت قلت! وأقول لكم أيضاً : إنكم منذ الآن تبصرون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة ( الله )، وآتياً على سحاب السماء )) (26 : 63 ـ 64). فجواب يسوع : (( أنت قلت )) هو الجواب القانوني : وقد أيد يسوع شهادته باستشهاد مزدوج من الزبور ( مز 109 : 1 ) ومن النبوة ( دانيال 7 : 13 ). وذلك في الأناجيل الثلاثة. قال لوقا، مستجمعاً تقرير مرقس عن بطرس، وتقرير متى، ومفصلاً لهما: (( أَضروا يسوع إلى محفلهم، وقالوا له : إن كنت أنت المسيح فقله لنا! فقال لهم : إن قلت لكم فلا تصدقون، وإِن سألتكم فلا تجيبون ... ولكن، من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله! فقالوا له جميعهم : أفأنت إذن ابن الله ؟ فقال لهم : أنتم تقولون! أنا هو! فقالوا: ما حاجتنا بعد إلى شهود، لقد سمعنا نحن من فمه! )) ( 22 : 66 ـ 71 ). فالمحاضر الثلاثة صريحة : إنهم لم يكفّروا يسوع لقوله إنه المسيح ـ كثيرون قبله وبعده قالوها، ولم يكفّروهم ـ إنما كفّروه وأعدموه لأنه قال (( أنا ابن الله )) . ولو قالها على المجاز لكانت مثل قولتهم : (( نحن أبناء الله وأحباؤه )) ، لكنه قالها وفهموها على الحقيقة والواقع، كما صرّحوا بها أخيراً أمام الوالي : (( إن لنا شريعة، وبحسب شريعتنا، إنه يستوجب الموت لأنه جعل نفسه (( ابن الله )) ( يوحنا 19 : 7 ).

فمحاضر محاكمة يسوع وتكفيره وإعدامه شاهد اليقين أن يسوع شهد أنه (( ابن الله )) واستشهد في سبيل شهادته. وأيد الله الشهادة والاستشهاد بقيامة المسيح ورفعه إلى المجد الإلهي. فهذا الواقع التاريخي المشهود يُبطل بطلاناً قاطعاً كل الافتراءات على مصادر الوحي الإنجيلي، وعلى تسرّب عقيدة إلهية المسيح وبنوته لله الآب، من خارج الدعوة الإنجيلية الرسولية المسيحية.

156 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

الاعتبار الرابع، بل الواقع الرابع في أسلوب الدعوة الرسولية، ما بين الرسل في أورشليم وفلسطين، ودعوة بولس في البيئات الوثنية. تحفّظ الرسل، في البيئة الإسرائيلية، بالتصريح (( يسوع ابن الله )) على مثال معلمهم. لكنهم مثله قالوها بأساليب متنوعة. أما بولس، في حماسة هـدايته، وفي بيئة وثنية مثل دمشق، فقد تجـرأ وأعلنها منذ اليوم الأول: (( ومكث أياماً مع التلاميذ الذين بدمشق، وأخذ للحال يدعو في الجوامع بأن (( يسوع هو ابن الله )) ( أع 9 : 20 ). وبولس اختلط وهو يهودي في طرسوس بالأمميين، لكنه بعد هدايته إلى المسيحية لم يختلط بعد بهم حتى يتسرب إلى وجدانه فكر إلهية المسيح وبنوة يسوع من الله؛ فهو (( للحال )) بعد هدايته ورؤيته بنوّة المسيح في مجد الله الآب اخذ يدعو في الجوامع بأَن (( يسوع ابن الله )) . وجرأته هذه كلّفته تهريبه بزنبيل من دمشق، وتهريبه خلسة من أورشليم ( أع 9 : 23 ـ 31 ).

لكن ما أعلنه بولس بصراحة وجرأة، أعلنه قبله الرسل في أورشليم بتحفظ على سبيل المقابلة. فالفارق في الطريقة، لا في العقيدة؛ في التعبير، لا في التفكير.

 

1 ـ الدعوة الرسولية الأولى تنسب للمسيح أسماء الله الحسنى وصفاته

1) الدعوة الرسولية الأولى تسمّي المسيح (( الرب يسوع )) . وصفة (( الرب )) في الكتاب، خصوصاً في الترجمة السبعينية حيث (( الرب )) ترجمة (( يهوه )) أي الله، من أسماء الله الحسنى، وأولها. فشعار المسيحية الأولى، في أورشليم وفلسطين: (( الرب يسوع )) ( 1 : 21 ) (( الرب المسيح )) ( 2 : 36 ) هو إيمان بإِلهية يسوع. وما الشعار الثاني (( يسوع ابن الله )) ( 9 : 20 ) سوى مرادف له.

2) الدعوة الرسولية الأولى، في صلاتها، تسمي يسوع (( فتاك القدوس يسوع )) ( 4 : 27 و30 )، وتسمي أيضاً داود (( فتاه )) ( 4 : 25 ). والفرق بين

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 157

المجاز في تسمية داود، والحقيقة في تسمية يسوع، هو في صفة التنزيه، بحسب لغة الكتاب : (( القدوس )) . والكتاب يقتصر صفة التنزيه (( القدوس )) على الله وحده ( أشعيا 40 : 46؛ 41 : 43؛ 51 : 15؛ 55 : 13 )؛ كما يتعبده بها الملائكة ( أشعيا 6 : 3 ). فبوصفهم يسوع فتى الله (( القدوس )) تنزيه له عن التشبيه بالمخلوق مثل داود. فاعتماد الجماعة المسيحية في صلاتها مع الرسل (( باسم فتاك القدوس يسوع )) برهان على إيمانهم ببنوة يسوع المسيح الإلهية؛ وما التعبير (( فتى الله القدوس )) سوى مرادف للتعبير (( يسوع ابن الله )) . فيسوع وداود كلاهما (( فتى الله )) ، لكن على المشاكلة لا على المطابقة؛ داود على المجاز لأنه غير مقيّد بصفة تمييزه، ويسوع على الحقيقة الموصوفة بصفة التنزيه (( القدوس )) : فيسوع (( فتى الله القدوس )) يعني بالمرادفة (( يسوع ابن الله )) .

3) في البلاغ الثاني للشعب يسمي بطرس يسوع بالنسبة لله : (( فتاه ... لقد أنكرتم أنتم القدوس، الصالح، ... وقتلتم مصدر الحياة )) ( 3 : 14 ـ 15 ). فصفات (( القدوس، الصالح، مصدر الحياة )) ، صفات إلهية، من صفات التنزيه في لغة الكتـاب، كما قال أشعيا: (( قدوس! قدوس! قدوس! الله الصمد )) ( 6: 3 )، وكما قال يسوع: (( لا صالح إلا الله وحده )) ( لوقا 18 : 19؛ مرقس 10 : 18 )؛ وذلك بحسب النبؤة ( أشعيا 45 : 21 )؛ يؤيد معنى التجـريد والتنزيه في الصفتين استخدامهما على الإطـلاق، للعهد، ووصفهمـا معـاً بصفة (( مصدر الحياة )) . فالتعبير في البلاغ الرسولي الثاني للشعب اليهودي : (( فتى الله القدوس، الصالح، مصدر الحياة )) يعني على المطابقة (( يسوع ابن الله )) ؛ لا فرق إلا في الألفاظ فالعقيدة واحدة. ثلاث صفات إلهية تدل على أن (( فتى الله )) هو (( ابن الله )) .

4) في البلاغ الثاني للشعب صفة يسوع أنه (( مصدر الحياة )) ( 3 : 15 )؛ وفي البلاغ الأول للسنهدرين، يصف رسالة المسيح أنها رسالة خلاص ديني، بها صار يسوع المسيح حجر الزاوية في الدين : (( يسوع المسيح الناصري ... هو الحجر الذي ازدريتموه أيها البنَّاؤون، وهو الذي صار رأساً للزاوية! وما من

158 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

خلاص بأَحد غيره! إذ ليس تحت السماء اسم آخر أُعطي للناس، به ينبغي أن نخلص )) ( 4 : 11 ـ 12 ). فرسالة يسوع هي رسالة الخلاص الإلهي، التي لا خلاص عند الله بدونها وبدونه؛ إن يسوع برسالته صار حجر الزاوية في الدين والخلاص الإلهي. وفي البلاغ الثاني للسنهدرين يأتي الاسم الإلهي، مقروناً بالاسم الإلهي الآخر : يسوع المصلوب (( هو الذي رفعه الله بيمينه المصدر والمخلص، ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا )) ( 5 : 31 ). في الكتاب ميزة الخلاص لله وحده : (( أنا، أنا، هو الله، ولا مخلص إلاَّ أنا )) ( أشعيا 41 : 11 )؛ أنا هو إلهك، قدوس إسرائيل، مخلصك )) ( أشعيا 43 : 3 ). والخلاص المذكور في الكتاب كان خلاصاً زمنيّاً من المنفى في مصر، مع موسى، كما يذكره اسطفان ( 7 : 25 و35 ) رمزاً للمسيح، وتعريضاً باليهود، أو من المنفى في بابل كما يشير أشعيا الثاني. فالخلاص الزمني الأسمى ميزة الله، فكم بالأحرى الخلاص الديني والروحي الذي أجراه الله بيسوع المسيح ؟ إِنه الخلاص من الخطيئة، إِهانة الله نفسه! إنه الخلاص الذي يعطي التوبة للعودة إلى الله! هذا عمل إلهي محض. وهذا العمل الإلهي هو عمل المسيح، فلا خلاص تحت السماء إلا به : فهو (( المخلص )) مثل الله، في الكتاب. ويجمع الصفتين معاً (( المصدر والمخلص )) ، يجعل المسيح مثل الله (( المبدأ والمعاد )) ؛ ويجعله حجر الزاوية في الدين والخلاص والحياة، الواسطة الوحيدة إلى الله، بين المصدر والمعاد. فيسوع يحمل اسمه السماوي : (( ياشوع )) : (( الله المخلص )) . ولوقا وحده في الإنجيل يسمّي (( الله، المخلص )) ( 1 : 47 ) و (( المسيح، المخلص )) ( 2 : 11 ) فصفة (( المخلص )) مثل صفة (( الرب )) ، صفة إلهية تحمله على تسمية يسوع (( ابن الله )) .

5) في البلاغ الأول للأميين، بطرس يصف يسوع الناصري الذي رافقوه من معمودية يوحنا، في بلاد اليهود وأورشليم حتى الصليب، والذي (( أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من بين الأموات )) ( 10 : 26 و42 ). والشهود هم الرسل أنفسهم، والروح القدس الذي فيهم وفي المسيحيين. وفي الكتاب

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 159

والإنجيل وكل الكتب المنزلة، وكل الكتب الدينية، الله، الرحمان الرحيم، هو وحده رب العالمين وملك يوم الدين. فتسمية يسوع الناصري المصلوب، القائم من الموت والقائم في مجد الله، بهذين الاسمين الإلهيين، إنما هي إعلان بإِلهية يسوع. فالذي هو (( رب العالمين وملك يوم الدين )) هـو في الحقيقة (( ابن الله )) . وهـل يعني لقب (( ابن الله )) أكثر مما يعنيه اسم (( رب العالمين )) واسم (( ملك يوم الدين )) ، الذي به ينفرد في صمَدَانيته على المخلوقين ؟

6) كان اليهود يتهيبون التلفّظ باسم (( يهوه = الله )) ، ويرادفون عنه بألفاظ أخرى، منها (( الاسم )) أي الاسم الكريم على الإطلاق. ونرى الرسل والجماعة المسيحية الأولى في أورشـليم ترادف بين يسـوع وبين (( الاسم )) كمـا يرادف اليهـود بين الله وبين (( الاسم )): (( ودعوا الرسل، وبعد أن جلدوهم، وأمروهم أن لا يتكلموا من بعد باسم يسوع، أطلقوهم؛ أما هم فخرجوا فرحين بأنهم حُسبوا أهلاً لأن يُهانوا لأجل الاسم )) ( 5 : 41 ). فهم ينسبون التعبير المحفوظ لله تعالى إلى يسوع : صار (( الاسم )) مرادفاً للمسيح يسوع، كما هو مرادف لله نفسه. فلفظة (( الاسم )) أي الاسم الكريم على الإطلاق، اسم الجلالة، يطلق على الله وعلى المسيح. والمعنى الإلهي في هذه العادة نراه من ميزاته : فالخلاص (( باسم يسوع )) وحده تحت السماء ( 4 : 12 )؛ ويدعون (( باسم يسوع )) ، ويعملون المعجزات (( باسم يسوع )) ، ويُستَشهدون (( باسم يسوع )) ( 3 : 6 و16؛ 4 : 10 و17 ـ 18؛ 5 : 28 و40 ـ 41؛ 8: 12 و16؛ 9 : 15 ـ 16؛ 15 : 26 ). فتلكما العادة والعبادة (( لاسم يسوع )) ، (( الاسم )) على الإطلاق، مرادف آخر لتعبير (( الرب يسوع )) أو (( المسيح الرب )) ؛ وبديل لاسم (( ابن الله )) في البيئة الإسرائيلية ولغتها.

7) في الإنجيل، وارى المسيح يسوع، بتورية نبوية رائعة، عن شخصيته ورسالته بالاسم النبوي الذي أطلقه دانيال على المسيح الموعود؛ كان قبل دانيال (( ابن داود )) ، فصار مع دانيال (( ابن البشر الآتي على سحاب السماء )) ليؤسس

160 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

ملكوت الله على الأرض. (( فابن البشر )) في النبؤة، شخصية سماوية، ومصدره سماوي. فالمسيح يسوع وحده في الإنجيل يسمي نفسه (( ابن البشر )) ( 69 مرة في المؤتلفة، و13 مرة عند يوحنا ). وما يقصده يسوع بتلك التورية يظهر رويداً رويداً : فابن البشر هو رب السبت؛ وابن البشر له سلطان الله على الغفران؛ وابن البشر يستشهد ويقوم من الموت؛ وابن البشر هو ملك يوم الدين. ويكشف يسوع في محاكمته عن سر توريته عندما يستشهد بنبؤة المزامير، ونبؤة دانيال : (( وسترون ابن البشر جالساً عن يمين الله ـ وآتياً على سحاب السماء )) ( في المؤتلفة الثلاثة ). (( فابن البشر )) في لغة المسيح مرادف (( لابن الله )) . وهذا ما نراه في سفر الأعمال.

كان اليهود ينقسمون في فلسطين وفي الشتات إلى فئتين : (( العبرانيين )) أي المحافظين على الأخلاق العبرية، و (( الهلينيين )) أي الأحرار المتخلّقين بأخلاق اليونان والـرومـان. وهـذا التمييز سـرى إلى الجمـاعة المسيحية الأولى، فكـان سـبب تأسيس (( الشمامسة )) ، وكلهم من الهلينيين، يتزعمهم اسطفان. فهؤلاء الشمامسة الهلّينيين تفرّدوا بالدعوة للمسيح، باسم (( ابن البشر )) كما كان يسوع يسمي نفسه، وفي استشهاد اسطفان نرى اسم (( ابن البشر )) ، للمرة الوحيدة في سفر الأعمال ( 7 : 56 ). فقد رأوا في النبوة وفي الإنجيل أن أفضل تعبير عن إلهية المسيح هو اتصافه باسم (( ابن البشر )) . ومن تدخّل بولس في استشهاد اسطفان، نرى أن صراعه كان مع الشمامسة الهلينيين وزعيمهم اسطفان، على تسمية يسوع (( ابن البشر )) كما رآه دانيال (( آتياً على سحاب السماء )) . وجاءَت رؤية اسطفان، ساعة استشهاده، تؤيد النبوة والإنجيل ودعوة الهلينيين ليسوع ابن البشر : (( أما هو (اسطفان) فإِذ كان ممتلئاً من الروح القدس، وعيناه شاخصتين إلى السماء، رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله )) ( 7 : 55 ـ 56 ). فيسوع هو (( ابن البشر )) النازل إلى الأرض (( على سحاب السماء )) ، والمرفوع إلى المجد الإلهي (( قائماً عن يمين الله )) : فهو إذن (( ابن الله )) ، حاله تدل عليه. هذا

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 161

ما سيقوله يوحنا : (( لم يصعد أحد إلى السماء، إلاّ الذي نزل من السماء، ابن البشر القائم في السماء )) ( 3 : 13 ).

هذا المشهد أثّر تأثيراً بالغاً في نفس بولس، شاول اليهودي : (( ووضع الشهود ثيابهم لدى قدمي شاب اسمه شاول )) ( 7 : 58 )، (( وكان شاول موافقاً على القتل )) ( 8 : 1 ). فلا بدع إذا رأينا شاول اليهودي، بولس المسيحي، يعلن بعد هدايته في جوامع دمشق أن يسوع هو (( ابن الله )) ( 9 : 20 ) فما الاسم سوى ترجمة (( لابن البشر )) في لغة النبوة، ولغة الإنجيل، ولغة الشمامسة الهلّينيين.

فما وارى به الرسل، في البيئة الإسرائيلية، وبلغتها، صرّح به بولس، في البيئة الهلنستية، إن يسوع هو (( ابن الله )) ، فجلب على نفسه، ما جلبه هو على اسطفان. فجدال بولس مع الهلينيين، ومع اسطفان؛ ثم استشهاد اسطفان، ورؤيته (( ابن البشر، قائماً عن يمين الله )) ، هيّأ هدايته ودعوته (( ليسوع ابن الله )) ( 9 : 20 ). فما رآه الشهيد، رآه الرسول بتعبير آخر : (( يسوع ابن الله )) .

 

2 ـ الدعوة الرسولية الأولى تنسب للمسيح أحوالاً إِلهية

من أسماء المسيح الحسنى، ومن صفاته الإلهية، في الدعوة الرسولية الأولى، نستنتج الأحوال الإلهية التي تنسبها له، ولو ألجأنا ذلك إلى بعض التكرار.

1) خلود المسيح، ببشريته المجيدة، في المجد الإلهي. ما تنبأَ به النبي دانيال، أعلنه المسيح عن نفسه في محاكمته فكان سبب إعدامه : (( أقول لكم أيضاً : ها إنكم منذ الآن تبصرون ابن البشر جالساً عن يمين القدرة، وآتياً على سحاب السماء )) ( متى 26 : 64 ). وهذا ما يتحققه الرسل ويدعون به في إنجيل القيامة : بعد رفع المسيح وقف بهم ملائكة الله وقالوا لهم : (( أيها الرجال الجليليون،

162 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

ما بالكم واقفين وإلى السماء ناظرين! إن يسوع، هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيرجع هكذا، كمـا رأيتموه منطلقاً إلى السماء! )) ( 1 : 11 ). وفي خطـاب بطرس الثاني للشعب: (( المسيح يسوع، ينبغي أن تقبله السماء، إلى عهد تجديد كل الأشياء )) ( 3 : 21 ). واسطفان، ساعة استشهاده، يتحقق النبؤة وشهادة يسوع : (( ها أنا أرى السماوات مفتوحة، وابن البشر قائماً عن يمين الله )) ( 7 : 56 ).

فالدعوة المسيحية الأولى تنسب ليسوع حال الخلود في مجد الله، عن يمين الله.

2) يسوع الحي في السماء، حي عامل في كنيسته على الأرض

قبل ارتفاعه إلى السماء، وعد يسوع رسله وتلاميذه ببقائه معهم إلى يوم الدين : (( ها أنا ذا معكم كل الأيام إلى منتهى الدهر )) ( متى 28 : 20 ). وما هذا الوعد الأخير، سوى توكيد للوعد المكرّر في خطاب الوداع بعد العشاء السري الأخير ( يوحنا 15 و16 ). وها الرسل في دعوتهم يتحققون أن يسوع حي عامل معهم، وبهم، وفيهم.

بمناسبة معجزة المقعد عند الباب الجميل، يعلن بطرس لليهود : (( بالإيمان باسمه، شدّد هذا الاسم الرجل الذي تنظرون وتعرفون! والإيمان الذي منه منح هذا الرجل الصحة التامة أمامكم أجمعين )) (3: 16). والاسم، في لغة الكتاب والإنجيل، كناية عن الذات: (( تقدَّس اسمك )) ( صلاة أبانا ) أي تنزّهت في ذاتك عن المخلوق. فاسم يسوع، صانع المعجزات، دليل على حضور يسوع معهم.

وصلاة المسيحيين مع الرسل (( باسم فتاك القدوس يسوع )) ، جعلت (( الموضع الذي كانـا فيه مجتمعين، يتزلزل، وامتلأوا كلهم من الروح القدس، وطفقوا بكلمة الله، بجرأة ينادون )) ( 4 : 31 ). فاسم يسوع يزلزل المكان فيهم؛ وهذا دليل حضور الروح القدس عليهم، باسم يسوع.

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 163

وتظهـر حيـاة المسيح في جماعته، بظهـوره لبولس على طريق دمشق وقوله لـه: (( شاول! شاول! لِمَ تضطهدني ؟ فقال: مَن أنت، يا سيد ؟ قال: أنا يسوع الذي أنت تضطهده )) ( 9 : 3 ـ 6 ). فالمسيح يوحّد بينه وبين جماعته بالحياة والاضطهاد. فهو ليس بعيداً عنهم، إنما هو معهم وفيهم، بحضور معنوي، وحضور حياتي ذاتي أيضاً.

وكان يرافق أحياناً العماد المسيحي، باسم يسوع، معجزات حسية وروحية تشهد أن العماد حيـاة جديدة للمسيح في المسيحيين؛ مثلاً في عماد كرنيليوس، الوثني المسيحي الأول: (( وفيما بطرس ينطق بهذه الكلمات، حل الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة ... فإِنهم كانوا يتكلمون بلغات، ويعظمون الله! حينئذ قال بطرس : أوَيستطيع أحد أن يمنع ماء العماد عن هؤلاء الذين نالوا الروح القدس مثلنا ؟ وأمر أن يعمّدوا باسم يسوع المسيح )) (10: 44 ـ 48). وفي تقرير بطرس أمام باقي الرسل وشيوخ أورشليم قال : (( وما بدأت أكلمهم حتى حلَّ عليهم الروح القدس، كما حلَّ علينا في البدء. فذكرت حينئذ قول الرب : ( إن يوحنا عمّد بالماء، وأما أنتم فستعمّدون بالروح القدس ). فإن كان الله قد أعطاهم نظير الموهبة التي أعطانا، لكوننا قد آمنا بالرب يسوع، فما أكون أنا حتى أمنع الله ؟ فلما سمعوا ذلك اطمئنوا ومجّدوا الله قائلين : (( إن الله إذن قد أعطى أيضاً الأمميين التوبة، لتكـون لهم الحياة في المسيح )) ( 11 : 15 ـ 18 ). فالمسيح بواسطة العماد يحيا في المسيحيين؛ واسمه يُنزل عليهم الروح القدس. فالمسيح هو حياة جماعته. وما من نبي أو مخلوق على الإطلاق يكون حياة جماعته؛ إنما يكون رسول الله يهديهم إلى الصراط المستقيم. المسيح وحده حياة المسيحيين، مثل الله.

3) يسوع الحي في السماء، والحي على الأرض، سيكون ملك يوم الدين

إِن الكتاب يعلـّم أن الله وحده هو (( رب العالمين وملك يوم الدين )) . إنهما

164 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

صفتا التوحيد الخالص. وهـا بطرس، زعيم الرسل، يعلن في أول بلاغ للمشركين المهتدين: (( إن الله أنزل كلمته إلى بني إسرائيل، يدعو إلى السلام، بيسوع المسيح الذي هو رب العالمين ... وقد كلـَّفنا أن نبلّغ الشعب، ونشهد أنه هو الذي أقامه الله ملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) ( 10 : 36 و42 ). وقد نقل بولس هذا البلاغ إلى ندوة أثينا، أعظم ندوة فلسفية في العالم الإغريقي : (( لقد أغضى الله عن أزمنة الجاهلية، وها هو الآن ينذر جميع الناس، في كل مكان، أن يتوبوا، لأنه قد حدّد يوماً سيدين فيه العالم بالإنسان ( تغريق : ابن البشر ) الذي عيّنه، وقدّم للجميع ضمانة، بإقامته من الأموات )) ( 17 : 30 ـ 31 ).

فيسوع المسيح، ابن البشر، هو (( رب العالمين وملك يوم الدين )) مثل الله.

فتلك الأحوال الإلهية التي ينسبها الرسل للمسيح تظهر إيمانهم الأصيل بإلهيته، كما تُظهرها أعماله الإلهية : (( فالرب )) يسوع هو (( ابن الله )) .

 

3 ـ الدعوة الرسولية الأولى تنسب للمسيح أعمالاً إلهية

بقيامته وارتفاعه إلى المجد الإلهي، يسوع يتمتع بسلطان إلهي يجعله يعمل أعمال الله.

1) وعمل المسيح الأكبر، في مجده الإلهي، وسلطانه الإلهي هو تنزيل الروح القدس على كنيسته. ففي يوم العنصرة افتتح المسيح عهد الروح القدس في البشرية. يحيا في الذين يقبلونه ويحييهم.

قبل رفعه، جدّد يسوع الوعد لرسله بالروح القدس، وحدّد لهم زمانه : (( لا تبرحوا أورشليم؛ بل انتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني )) ( أع 1 : 4 ).

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 165

فتمَّ وعد المسيح يوم العنصرة ( 2 : 1 ـ 13 )، بعد عشرة أيام من رفعه. فتزلزل المكان الذي كانوا فيه، دليل حضور الله. ورأوا (( شبه السنة من نار استقرت على كل واحد منهم : فامتلأوا كلهم من الروح القدس. وطفقوا يتكلمون بلغات أخرى كما أتاهم الروح أن ينطقوا )) (2 : 1 ـ 4). وللحال، في البلاغ الأول للشعب، يعلن بطرس، باسم الرسل، أنّ ما حدث هو تحقيق نبؤة يوئيل، بفيض روح الله، (( في الأيام الأخيرة )) ، أيام المسيح ( 2 : 17 ـ 21 ). ثم يعلن لهم أن نزول الروح القدس ليس فقط ميزة للرسل، إنما (( موهبة الروح القدس الموعود، لكم ولبنيكم ولجميع الذين على بُعْد )) ( 2 : 39 ). وهذا الفيض الإلهي هو عمل المسيح في مجده الإلهي : (( وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه، كما تنظرون وتسمعون )) ( 2 : 33 ).

ويظهر أيضاً سـلطان المسيح، في تنزيل الروح القدس، لأن الروح القدس النازل هو (( روح القدس )) أي (( روح الله )) ، (( وروح الرب )) يسوع، معاً ( 5 : 9؛ 8 : 39 ). فالروح ـ على الإطلاق ـ كنايته، والقدس، صفة التنزيه.

ويظهر سلطان المسيح الإلهي على الروح القدس أنه أعطى من سلطانه لرسله كي يعطوا الروح القدس أيضاً، كما (( رأى سيمون أنه بوضع أيدي الرسل يُعطى الروح القدس )) ( 8 : 18 )، فهم وساطة من وسائط المسيح لمنح الروح القدس.

2) وعمل المسيح الإلهي هو أيضاً غفران الخطايا باسمه. فسلطان الغفران سلطان إلهي؛ وغفران الخطايا يتم باسم الله وحده. وها نحن نرى دعوة الرسل للغفران باسم يسوع نفسه. ففي البلاغ الأول للشعب يعلن بطرس : (( توبوا، وليعتمد كل واحد منكم، باسم يسوع المسيح، لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس )) ( 2 : 38 )؛ فالعماد والغفران وموهبة الروح القدس كلها تصير باسم يسوع المسيح، كما باسم الله. ما أعلنه بطرس لليهود، يعلنه أيضاً للأمميين

166 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 4

المهتدين : (( له يشهد جميع الأنبياء : بأن كل من يؤمن به، ينال مغفرة الخطايا، باسمه )) (10 : 43). فغفران الخطايا ـ ولا يغفر الخطايا إلا الله وحده ـ يتم باسم الرب يسوع، كما باسم الله نفسه.

3) والخلاص، عمل الله، يصير عمل المسيح أيضاً. فالدعوة الرسولية الأولى تسمي يسوع (( المخلص )) ، كما يسمي الكتاب الله المخلص. وليس على طريق المشاكلة، بل على طريق المقابلة : (( لا خلاص بأحد غيره، إذ ليس تحت السماء اسم آخر أُعطي للناس به ينبغي أن نخلص )) ( 4 : 12 ). ما قاله الكتاب بحق الله، يقولونه بحق المسيح : (( كل مَن يدعو باسم الرب يخلص )) ( 2 : 21 ).

4) والمعجزات التي تجري باسم الله، يجريها الرسل باسم يسوع. قال بطرس للمقعد: (( ليس لي فضة ولا ذهب، بل ما هو لي أعطيك : باسم يسوع المسيح الناصري، قم وامشِ )) ( 3 : 6 ). والمسيحيون يصلون ويستزيدون من المعجزات، تجاه تهديدات اليهود لهم، (( لإجراء الأشفية والآيات والمعجزات باسم فتاك القدوس يسوع )) ( 4 : 30 ).

5) والصلاة التي تُقدم لله، دليل العبادة، يقدمونها للمسيح أيضاً. اسطفان أول الشهداء، ساعة استشهاده، وهو ممتلئ من الـروح القدس، يرى (( ابن البشر قائماً عن يمين الله )) ، (( في مجد الله )) ، ويصلي إليه : (( أيها الرب يسوع اقبل روحي )) ( 7 : 59 )، كما صلى يسوع نفسه على الصليب : (( يا أبتاه، بين يديك أستودع روحي )) ( لوقا 23 : 34 و46 ). فالرسل واتباعهم، الذين يرفضون لأنفسهم كل تكريم إلهي تُشتم منه رائحة الشرك (10 : 25 ـ 26؛ 12 : 21 ـ 23؛ 14 : 11 ـ 18 ) يؤدّون للمسيح الاكرام والدعاء اللذين يُقدمان لله. وهم في ذلك لا يبتدعون، بل على خطى المسيح يسيرون : فإِنه هو نفسه لم يرفض على الأرض عبادة الاكرام الإلهي له ( متى 8 : 2؛ 9 : 18؛ 14 : 33؛ 15 : 25؛ 20 : 20؛ 28 : 9 و17 ). فليس ذلك من رسل المسيح والجماعة المسيحية الأولى تأليهاً للمسيح، بل برهان إيمانهم بإلهية المسيح، (( الرب يسوع )) .

إنجيل (( الرب يسوع )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 167

فتلك الأعمال الإلهية، وتلك الأحوال الإلهية، وتلك الصفات الإلهية والأسماء الحسنى التي ينسبها الرسل، في دعوتهم الأولى، برهان إيمانهم بإِلهية المسيح، (( الرب يسوع )) كما يقولون.

والصلاة صوت الإيمان الحي. فالرسل صلّوا ليسوع كما صلوا لله الواحد الأحد، كما نرى في استشهاد اسطفان. وكان المسيحيون الأوائل يسمون صلاتهم الخاصة : (( ليترجيا الرب )) ، والرب كناية عن يسوع ( أع 13 : 2 ). فقد كانت صلاتهم (( ليترجيا الرب )) ، كما كانت صلاة بني إسرائيل (( ليترجيا الله )) .

و (( الرب يسوع )) هو (( فتاك القدوس يسوع )) أي (( ابن الله )) . فالدعوة المسيحية الأولى، في البيئة الإسرائيلية، كما في البيئة الهلنستية، واحدة في العقيدة، ومتقاربة في التعبير.

كان شـعار الدعـوة الرسولية الأولى في أورشـليم وفلسطين : (( الـرب يسوع )) ، (( المسيح الرب )) ؛ فترجمه بولس في البيئة الهلنستية : (( يسوع ابن الله )) ، جاهراً بما تحفّظ به الرسل، لإيلاف اليهود، في مكان استشهاد المسيح. وتوارى بولس عن مسرح الدعوة عشر سنين، ثم زالت أسباب التحفّظ، فجهر الرسل أيضاً باسم (( يسوع المسيح، ابن الله الحي )) ، كما في الإنجيل بحسب متى الذي دوّن للعالم الإسرائيلي.

فكانت دعوة الرسل الأولى، بحسب سفر الأعمال، إِنجيل (( الرب يسوع )) .

 

 

;

168 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

 

بحث خامس

 

سفر الأعمال هو إنجيل (( الروح القدس ))

 

يفتتح سفر الأعمال بمشهد ارتفاع المسيح إلى السماء، وبمشهد نزول الروح القدس على الرسل وتلاميذ المسيح. ثم تسير الدعوة المسيحية بقوة الروح القدس. فالعهد، بعد رفع المسيح، عهد الروح القدس في تأسيس الكنيسة، تلك هي الظاهرة الكبرى في سفر الأعمال.

فهل الروح القدس، في الوحي الإنجيلي، مخلوق من الملأ الأعلى، أم قوة إلهية، أم ذات إلهية ؟

 

 

أولاً : العهد المسيحي هو عهد الروح القدس

الظاهرة الكبرى، في سفر الأعمال، إن جماعة المسيح هي الجماعة التي يقودها الروح القدس : فهو يستولي، بنزوله، على الكنيسة؛ ويصير روحها؛ وهو يوجه الدعوة المسيحية.

وهذه الظاهرة الكبرى، في ظهور المسيحية، تجعلها عهد الروح القدس.

إنها عهد الروح القدس في النبؤة : (( قال الله : في الأيام الأخيرة، أفيض

إنجيل (( الروح القدس )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 169

من روحي على بشر )) ! ( يوئيل 2 : 28 ). وفي لغة الكتاب، (( الأيام الأخيرة )) هي أيام المسيح. لذلك فظهور الروح القدس هو برهان ظهور المسيح، وقيام عهد الروح القدس في البشرية.

إنها عهد الروح القدس في الإنجيل. فلوقا في الكتاب الأول، الإنجيل، يرينا نزول الروح القدس على المسيح نفسه، وتأييده لـه في الدعوة لملكوت الله ، والمباشرة بتأسيسه في (( القطيع الصغير )) من الرسل وتلاميذ المسيح. وفي الكتاب الثاني، سفر الأعمال، يرينا الروح القدس ينزل على جماعة المسيح فيملأهم قوة ونوراً لمباشرة الدعوة المسيحية ( 1 : 26 ـ 2 : 4 ).

فالواقع والمحسوس، في سفر الأعمال، إن كنيسة المسيح هي جماعة الروح القدس.

1 ـ فالروح القدس، يوم العنصرة، يستولي على جماعة المسيح، تنفيذاً للنبؤة ( 2 : 17 ـ 21 ) وتتميماً لوعد المسيح المكرر ( 1 : 4 ـ 5 ). هذا هو المظهر الأكبر والتأسيسي في العهد الجديد، بعد رفع المسيح إلى السماء.

فهذا الاستيلاء على جماعة المسيح يميّزها بطابع (( الروح )) على كل جماعة دينية أو قومية أو سياسية؛ وتأييد (( الروح )) للدعوة المسيحية يميّزها عن كل دعوة.

2 ـ ونزول الـروح القدس على جمـاعة المسيح، هذا المظهر الأكبر يعني دخـول (( الروح )) في حياة البشرية وتاريخها بطريقة مستمرة.

فالإنجيل كان رسالة المسيح؛ ودخول (( الروح )) في الزمن وفي البشرية، وفي جماعة المسيح على الخصوص، هو رسالة الروح القدس في العالم، شهادةً لرسالة المسيح، كما أعلن بطرس في البلاغ الثاني للسنهدرين : (( ونحن شهود له بذلك؛ والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين يطيعونه )) ( 5 : 32 ).

170 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

فالإنجيل هو زمن المسيح في بشريته، وسفر الأعمال يرينا زمن الروح والكنيسة، إلى نهاية الدهر، في العهد المسيحي كله.

فالكنيسة هي جمـاعة المسيح التي تحيـا وتسير بالـروح القدس؛ وهـذه الجمـاعة (( الروحية )) هي خميرة البشرية، كمـا مثـّلها السيد المسيح، (( الخميرة التي تخمّر العجين كله )) .

3 ـ نرى ذلك في مظاهر الروح القدس الخارقة في الكنيسة :

المظهر الأكبر والتأسيسي هو نزول الروح القدس على الرسل، يوم العنصرة، شبه ألسنة، من نار ونور، تجلت عليهم ( 2 : 1 ـ 13 )؛ ودليل ذلك كانت معجزة النطق بلغات مختلفة، وهم أميّون ( 2 : 1 ـ 6 ). وظهر أثر ذلك في خطاب بطرس الأول ( 2 : 14 ـ 36 ) والثاني ( 3 : 12 ـ 26 ).

وحيثما تعرّضت كنيسة أورشليم الناشئة لموجة الاضطهاد، جدّد الروح القدس حضوره فيها بظاهرة كظاهرة العنصرة، بعد صلاة المؤمنين لأجل الرسل ( 4 : 31 ).

وفي بدء تأسيس مؤسسات الكنيسة، كمؤسسة الشمامسة، تعلن الكنيسة ضرورة حضور الروح القدس في المدعوين للخدمة والدعوة؛ فكان الشمامسة (( ممتلئين من الروح القدس والحكمة )) ( 6 : 3 ).

ويظهر الروح القدس، ساعة الحاجة إليه، في الدعوة، والدفاع عنها، والاستشهاد في سبيلها، كما حدث لاسطفان أول الشمامسة وأول الشهداء ( 6 : 5 و8 ) (( الذي كان ممتلئاً من الإيمان ومن الروح القدس ... فلم يستطيعوا مقاومة الحكمة والروح الذي كان ينطق به )) (6: 5 و10)؛ وتجلَّى ذلك في رؤية اسطفان (( لابن البشر في مجد الله )) ( 7 : 55 ـ 56 ).

إنجيل (( الروح القدس )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 171

ويظهر الروح القدس في عمَّال الدعوة المسيحية، غير الرسل، مثل أسطفان؛ ومثل فيلبس الذي يدفعه إلى لقاء الحبشي، قيّم كنداكة الحبشة، ثم يخطفه بعد عماده (8 : 29 و39)؛ ومثل برنابا الذي يرأس الدعوة الأولى في إنطاكية، (( فإِنه كان رجلاً صالحاً، ممتلئاً من الروح القدس ومن الإيمان : فانضم إلى الرب جمع كثير )) ( 11 : 24 ).

ويظهر الروح القدس في تأسيس الكنائس المسيحية المحلية، كتأسيس الكنيسة في السامرة؛ فيظهر في المعمّدين كل مرة يتم فيها وضع أيدي الرسل عليهم ( 8 : 15 ـ 17؛ 18 ـ 19 ).

ويظهر الروح القدس في أحداث الدعوة المسيحية العظام، مثل قبول الوثنيين في الكنيسة، حيث (( ينزل )) الروح القدس عليهم، في بيت كرنيليوس، قائد الحامية الرومانية في قيصرية، ويجدّد فيهم معجزات يوم العنصرة في الرسل ( 10 : 44 ـ 48؛ 11 : 15 ).

فالروح القدس هو الذي يبني الكنيسة في مظاهره الخارقة فيها؛ وهو الذي يثبتها بمظاهره العادية فيها.

4 ـ نرى ذلك أيضاً في مظاهر الروح القدس العادية في الكنيسة

فالروح القدس هو الذي يقود الدعوة المسيحية والشهادة ليسوع. تلك نبؤة المسيح : (( وستنالون قوة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً ... إلى أقاصي الأرض )) (1: 8). وقد تحققت في الكنيسة جملةً : (( وكان الرسل، بقوة عظيمة، يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، وكانت عليهم جميعاً نعمة عظيمة )) ( 4 : 33 )؛ وتفصيلاً : (( فقال لهم بطرس، وهو ممتلئ من الروح القدس )) ( 4 : 8 )؛ (( وكان اسطفان ممتلئاً من الروح القدس، وعيناه شاخصتين إلى السماء، فرأى مجد الله، ويسوع قائماً عن يمين الله )) ( 7 : 55 ).

172 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

والروح القدس هو الذي يقود حياة الجماعة المسيحية الأولى : (( وكانت الكنيسة في كل اليهودية والجليل والسامرة، في سلام، تسلك في خشية الرب، وتزداد نمواً بتأييد الروح القدس )) ( 9 : 31 ).

والروح القدس هو الذي يسيّر الرسل وأعوانهم في خطواتهم: (( قال الروح لبطرس )) ( 10 : 19؛ 11 : 12 )؛ (( قال الروح لفيلبس )) ( 8 : 29 ). فيشعر الرسل أنهم (( شهود للمسيح مع الروح القدس )) (5 : 32)، وإنهم يقرّرون العقيدة والشريعة (( مع الروح القدس )) ( 15 : 28 ).

والروح القدس هو الذي ينتدب رسلاً مع الاثني عشر للدعوة المسيحية : ففي إنطاكية، (( فيما كانوا يقيمون ليترجيا الرب، ويصومون، قال الروح القدس : افرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي انتدبتهما إليه )) ( 13 : 2 )؛ ويقودهم في دعوتهم : (( وجازا ( بولس وبرنابا ) في فريجية وبلاد غلاطية، إذ منعهما الروح القدس أن يبشرا بالكلمة في آسيا )) ( 16 : 6 ).

والروح القدس يكشف للرسل ولأعوانهم الغيب عند الحاجة : (( وفي تلك الأيام انحدر أنبياء من أورشليم إلى إنطاكية، فقام واحد منهم، اسمه اغابوس، فأنبأَ بالروح إنها ستكون مجاعة شديدة في المسكونة كلها ـ وقد وقع ذلك في أيام كلوديوس )) ( 11 : 27 ـ 28 ). والروح يسيّر بولس ويكشف له مصيره : (( والآن ها أنا ذا ماضٍ إلى أورشليم، أسيراً للروح، غير عالم بما سيعرض لي هناك، إِلاَّ أن الروح القدس ما انفك يشهد لي في كل مدينة قائلاً : إن سلاسل ومضايق تنتظرني )) ( 20 : 22 ـ 23 )؛ وفي قيصرية، (( انحدر من اليهودية نبي اسمه أغابس، فدخل علينا، وأخذ منطقة بولس وأوثق بها يديه ورجليه، وقال : هذا ما يقوله الروح القدس : إن الرجل صاحب هذه المنطقة سيوثقه اليهود هكذا في أورشليم، ويسلمونه إلى أيدي الأمميين )) ( 21 : 10 ـ 11 ).

إنجيل (( الروح القدس )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 173

5 ـ والروح القدس يحيا في الكنيسة فتحيا منه

فهو الذي، بوضع أيدي الرسل، على المعمدين، يستولي عليهم ( 8 : 17 ـ 18 ). وهو الذي يقاصص الأشرار منهم، كما فعل مع حنانيا وسفيرة امرأته، اللذين يكذبان (( على الروح القدس )) أي على الله لا على الناس. بتجربة (( روح الرب )) ( 5 : 3 و4 و9 ). وهو الذي يعمل في نمو المسيحيين ( 9 : 31 ).

وحياة المسيحيين الروحية العارمة هي فيض من الروح القدس كما وصفها لوقا مرتين ( 2 : 42 ـ 47؛ 4 : 32 ـ 35 ).

وبسبب حياة الروح القدس في المسيحيين، صاروا يسمون (( قديسين )) ( 9 : 13 و32 و41؛ 26 : 10 )، أي (( مقدّسين للرب )) ( 20 : 32؛ 26 : 18 ).

فالعهد المسيحي هو عهد الروح القدس.

لكن مَن هو الروح القدس ؟

 

 

ثانياً : من هو الروح القدس ؟

1 ـ نلاحظ منذ البدء أن اسـمه (( الـروح القدس )) ، لا (( روح القدس )) إضافة إلى (( القدس )) أي الله. فإضافة (( روح )) إلى الله تعني نسبته إلى الله، لا صدوراً من الله. لذلك يسمى جبريل، وكل ملاك (( روح القدس )) في بعض الكتب، تكريماً له بإضافته إلى الله وهـو (( القدس )) على الإطلاق.

بينما (( الروح القدس )) ، اسمه (( الروح )) ، على العهد والإطلاق. و (( القدس )) ، صفة التنزيه في لغة الكتاب والإنجيل، هي صفة (( الروح )) تنزيهاً له على الأرواح

174 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

كلها. فتسميته (( بالروح )) على الإطلاق، ووصفه (( بالقدس )) للتجريد والتنزيه، دليلان على أن الـروح القدس يسمو على الأرواح المخلوقة؛ فهـو في مقـام التنـزيه مع الله الذي هـو (( القدس )) ؛ وفي نسبة المطلق والتنزيه مع الله : فهو في صلة ذاتية مع الله نفسه.

2 ـ في العهد القديم، يظهر الروح القدس قدرة إلهية أكثر منه ذاتاً إلهية. فهل يعني (( الروح القدس )) في العهد الجديد تلك القدرة الإلهية الفعَّالة في الخلق والتنزيل والتقديس ؟

قد تدل بعض المظاهر وبعض التعابير، أن (( الروح القدس )) في أسفار الوحي الإنجيلي، يعني تلك القدرة الإلهية التي يمنحها الله ومسيحه : فالله يفيض من روحه ( 2 : 38؛ 3 : 25؛ 4 : 12؛ 5 : 32؛ 10 : 43 )؛ وهذا الروح الإلهي يستولي على المسيحيين وينطقهم ( 2 : 4 ـ 5 و11 ) ويجري المعجزات والأشفية الخارقة وطرد الشياطين ( 3 : 7؛ 5 : 12 و15 ) ويمنح الرسل والتلاميذ الثبات في الإيمان مع الاضطهاد المتزايد ( 4 : 13 و31؛ 5 : 20؛ 10 : 20 ). فعمل الروح الإلهي في مثل هذه الأحوال، كعمله في العهد القديم، لا تظهر معه شخصية الروح القدس الذاتية. لكن هناك تعابير ومظاهر وأعمال لا تصحّ إِلاَّ من ذات إلهية.

3 ـ فالروح القدس ذات إلهية في الله نفسه

فالمسيحية الأولى عاشت من صيغة العماد التي وضعها المسيح نفسه : (( وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس )) ( متى 28 : 19) : فالآب والابن والروح القدس، على العهد وعلى الإطلاق، ثلاثة في الله الواحـد الأحـد، كمـا يدل عليه قـوله (( باسـم )) ، لا (( بأسماء )) . هذا الشعار هـو عقيدة المسيحية الأولى : فقد آمنوا (( بالروح القدس )) إيمانهم (( بالرب يسوع )) والله الآب.

إنجيل (( الروح القدس )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 175

1) فأعمال الروح القدس أعمال ذات لا أعمال قوة معنوية فحسب.

فالسيد المسيح في الإنجيل يعد الرسل بالروح القدس (( فارقليط آخر )) يقيم معهم إلى الأبد : فالروح القدس ذات مثل الرب يسوع.

وفي الأعمال، يعمل الروح القدس كذات. إنه روح النبوة : (( يجب أن تتم كلمة الكتاب التي سبق الروح القدس فقالها بفم داود عن يهوذا )) ( 1 : 16 ). إنه روح التقديس في المعمود: (( توبوا وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح ... فتنالوا موهبة الروح القدس )) ( 2 : 38 ). والكذب على الروح القدس هو كذب على الله نفسه ( 5 : 3 و4 ). والكفر بالدعوة التي يؤيدها الروح القدس هو مقاومة للروح القدس نفسه : (( إنكم في كل زمان تقاومون الروح القدس )) ( 7 : 51 ). والكنيسة (( تنمو وتزداد بتأييد الروح القدس )) ( 9 : 31 ). والروح القدس يعمل كذات : قال بطرس (( أمرني الروح القدس بالمضي معهم من غير ما تردّد )) ( 11 : 12 ). والروح القدس يتكلم كذات : (( وفيما كانوا يقيمون ليترجيا الرب ... قال الروح القدس : افرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي انتدبتهما إليه ... وإن هذين، إذ أرسلهما الروح القدس ... )) ( 13 : 2 ـ 4 ). فهذه كلها أعمال ذات لا أعمال قوة إلهية معنوية فحسب.

2) وأعمال هذه الذات السامية هي أعمال إلهية : ينزل على الرسل كنزول الله في سيناء ( 2 : 1 ـ 6 )؛ ويحل على المسيحيين المجتمعين للصلاة في الشدة، حلوله على الرسل ( 4 : 31 ). وهو الذي يُنطق أنبياء المسيحية مثل اغابس ( 11 : 28 ). وهو الذي يجعل الرسل ( 2 : 4 ) فالمهتدين من الوثنيين ( 10 : 46 ) والمهتدين من تلاميذ المعمدان (19 : 6) (( ينطقون بلغات ويتنبأَون )) . وهو الذي يعمل الأعمال المعجزة في الدعوة المسيحية، مثل هلاك حنانيا وسفيرة لأنهما كذبا على الروح القدس، روح الله، وروح الرب (5: 3 و4 و9)، ومثل شهادة واستشهاد أسطفان ( 7 : 55 )؛ ومثل تشخيص مصير بولس

176 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

( 21 : 11 ). والروح القدس ينزل بصورة حسية أو روحية على المعمّدين : (( وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح ... فتنالوا موهبة الروح القدس )) ( 2 : 38 ) الذي كان يُعطى بوضع أيدي الرسل على المعمود ( 8 : 17 و18 ).

3) فالروح القدس ذات إلهية في الله الواحد الأحد

سفر الأعمال يُظهر لنا الله الآب ( 1 : 7؛ 2 : 22 و23 و36؛ 3 : 13 و18 و26 الخ )؛ ويظهر لنا الابن، (( الرب يسوع )) ( 3 : 13 و26؛ 4 : 27 و30؛ 9 : 20 الخ )؛ ويظهر لنا الروح القدس في صلة ذاتية مع الله الآب والرب يسوع.

منذ البلاغ الرسولي الأول للشعب، يعلن بطرس : (( فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( 2 : 32 ـ 33 ). فالروح القدس يصدر من الآب، ويسوع يفيضه على كنيسته؛ والعمل برهان الذات، وبرهان مصدر الذات : فالروح القدس في صلة ذاتية مصدرية مع الله الآب والرب يسوع.

ومنذ البلاغ الرسـولي الأول للشعب يعلن بطرس طريقة الإيمان المسيحي وعقيدته : (( قال لهم بطرس : توبوا، وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة الخطايا، فتنالوا موهبة الروح القدس )) ( 2 : 38 ) : فالمسيحية توبة لله الآب، وعماد باسم يسوع المسيح، وحياة بالروح القدس أي إيمان بالله الثالوث، وحياة في الله الثالوث.

والمسيحيون يصلون (( إلى الله بنفس واحدة )) ، ويطلبون منه كثرة المعجزات (( باسم فتاك القدوس يسوع )) ؛ (( فلما صلوا تزلزل الموضع الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأوا جميعهم من الروح القدس )) ( 4 : 27 و30 ـ 31 ).

إنجيل (( الروح القدس )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 177

فالصلاة لله الآب باسم (( ابن الله القدوس يسوع )) ، تعطي الروح القدس، والزلزلة دليل حضوره الإلهي.

وحنانيا مع امرأته سفيرة (( يكذبان على الروح القدس ... إنك لم تكذب على الناس بل على الله! .. فقال لها بطرس : لماذا اتفقتما على تجربة روح الرب! )) ـ والرب في لغة سفر الأعمال كناية عن (( الرب يسوع )) ( 5 : 3 و4 و9 ). هذا النص دليل على مصدر الروح القدس : فهو (( روح الله )) ، وهو (( روح الرب )) معاً أي روح الآب والابن معاً. وبطرس يسميه (( الله )) في ترادفه بين قوله : (( حتى تكذب على الروح القدس )) ( 5 : 3 )، وفي قوله: (( لم تكذب على الناس، بل على الله )) ( 5 : 4 )؛ ودليل على ذاته : فالروح القدس ذات إلهية، تصدر من الآب والابن معاً : فهو (( روح الله )) ، و (( روح الرب )) معاً ( 4 : 9 )؛ وينزل على الرسل والمسيحيين، من الآب، بالابن : (( يسوع أخذ من الآب الروح القدس وأفاضه )) ( 2 : 32 ـ 33 ).

وفي البلاغ الثاني للسنهدرين، نرى أن الدعوة المسيحية الأولى دعوة للتثليث في التوحيد. فالرسل موحـدون، بالتوحيد التوراتي، على أخلص مـا يكون التوحيد. فالله لم يزل (( إله آبائنا )) ( 5 : 30 ). لكن (( الله إله آبائنا قد أقام يسوع، الذي قتلتموه أنتم معلقاً على خشبة؛ فهو الذي رفعه الله بيمينه مصدراً ومخلصاً, ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا. ونحن شهود له بذلك، والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين أسلموا له )) أي للمسيح (5 : 30 ـ 32). فيسوع مصدر ومخلص من الله، والروح القدس أيضاً أعطاه الله للمسيحيين. هذا هو واقع الدعوة المسيحية.

وتظهر شخصية الروح القدس، المستقلة في ذاتها، لا بذاتها، في هداية السامرة : أرسل مجلس الرسل إلى السامرة (( بطرس ويوحنا. فانحدرا وصليا لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم يكن بعد قد حلَّ على أحد منهم، بل

178 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 5

كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع. عندئذ وضعا أيديهما عليهم فنالوا الروح القدس )) (8 : 14 ـ 17). فالروح القدس ذات متميزة عن الله الآب والرب يسوع. بالتوبة يرجع التائب إلى الله الآب؛ وبالعماد يتّسم باسم الرب يسوع؛ وبوضع الأيدي ينال الروح القدس؛ هذا هو التثليث المسيحي، في التوحيد التوراتي.

وفي البلاغ الأول للأمميين، بشخص كرنيليوس وجماعته، نجد الدعوة للتثليث في التوحيد : يعلن لهم بطرس أن الله لا يحابي الوجوه، بل في كل أمة، مَن أتقاه، وعمل البر ينال رضـاه؛ ثم يبشرهم بيسوع المسيح (( رب العالمين ... وملك يوم الدين على الأحياء والأموات )) . فآمنوا بالدعوة، وفيما بطرس يتابع كلامه (( حل الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة )) . ويشهد بطرس أن (( هؤلاء نالوا الروح القدس مثلنا )) ( 10 : 34 ـ 47 ).

وفي التقرير الذي رفعه بطرس إلى جماعة الرسل والمسيحيين في أورشليم نجد أيضاً واقع الدعوة للتثليث في التوحيد : (( وما بدأت أكلمهم حتى حل الروح القدس عليهم كما حلَّ علينا في البدء. فذكرت عندئذٍ كلام الرب، إذ قال : إن يوحنا قد عمّد بالماء، أما أنتم فستعمّدون بالروح القدس. فإن كان الله قد أعطاهم نظير الموهبة التي أعطانا، لكوننا قد آمنا بالرب يسوع المسيح؛ فمن أكون أنا حتى أمنع الله ؟ فلما سمعوا ذلك اطمئنوا ومجّدوا الله قائلين : إن الله إذن قد أعطى التوبة للأمم أيضاً لتكون لهم الحياة )) ( 11 : 15 ـ 18 ). فالله الواحد الأحد هو الله الآب، والرب يسوع المسيح، والروح القدس.

هذا هو واقع الدعوة المسيحية الأولى للتثليث في التوحيد، حيث يظهر الروح القدس ذاتاً إلهية في الله الواحد الأحد.

فسفر الأعمال يظهر لنا طبيعة الروح القدس وشخصيته الذاتية وعمله الإلهي في الكنيسة، وفي المسيحيين.

إنجيل (( الروح القدس )) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 179

ففي يوم العنصرة دخل (( الروح القدس )) في تاريخ البشرية وسيرة المسيحية : فزمن الكنيسة هو زمن الرسالة الروح القدس في المسيحية والبشرية، ما بين مجيء المسيح ورجوعه ليوم الدين.

فالروح القدس له رسالة، كما للسيد المسيح رسالة. ورسالة الروح هي الشهادة لرسالة المسيح ونشْر ملكوت الله، بمملكة المسيح، في الكنيسة، خميرة البشرية.

فسفر الأعمال هو بحق (( إنجيل الروح القدس )) .

 

s

180 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 6

 

بحث سادس

 

التثليث والتوحيد في الدعوة الرسولية الأولى

 

سفر الأعمال كتاب تاريخ الدعوة الرسولية الأولى. فهو يصف لنا نشر العقيدة المسيحية الأولى في العالم. ففيه نرى أن العقيدة المسيحية التي يدعو لها رسل المسيح هي التثليث في التوحيد.

وبما أن سفر الأعمال كتاب تاريخ فهو يصف لنا واقع التثليث في التوحيد، من دون كلام فيه، أو تفصيل، أو تفسير، كما سنرى في محاولة أولى عند بولس، وفي محاولة ثانية عند يوحنا.

 

أولاً : التوحيد التوراتي الإنجيلي

 

إِله الدعوة المسيحية الأولى لم يزل إِله التوراة، الله الواحد الأحد؛ مع الكشف المسيحي لذات الله أنه أب، الآب السماوي.

إن رسل المسيح لم يزالوا الموحّدين، على أخلص ما يكون التوحيد. فالله هو (( إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إِله آبائنا )) ( 3 : 13 )، (( السيد الذي صنع السماء والبر والبحر وما فيها جميعاً )) ( 4 : 24 )؛ إِله النبوة والكتاب : (( لكن الله قد تمّم هكذا ما سبق فأنبأ به على فم جميع الأنبياء من أن مسيحه سيتألم )) ( 3 : 18 ). فالله هو (( إله المجد )) ( 7 : 2 ).

التثليث والتوحيد ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 181

لكن دعوة التوحيد في المسيحية تظهر خصوصاً في البيئة الوثنية. إنها تسبق كل دعوة للمسيح.

ففي خطاب بولس في إنطاكية بيسيدية، بدأ بإِله التوراة ( 13 : 16 ـ 25 ) حتى وصل إلى المعمدان والمسيح ( 13 : 26 ـ 41 ).

وفي خطابه في ليسترة، بعد شفاء مقعد من بطن أمه لم يمش قط، وقد حاول الوثنيون أن يؤلهوه، قال بولس :

(( أيها الرجال، لِمَ تصنعون هذا ؟ إنما نحن بشر، عرضة للآلام مثلكم! ونحن ندعوكم بأن ترجعوا عن هذه الأباطيل إلى الله الحي، الذي صنع السماء والأرض والبحر وجميع ما فيها؛ الذي ترك جميع الأمم، في الأجيال السالفة، يسلكون في سبلهم، مع أنه لم يدع نفسه بغير شهود : مفيضاً خيراته من السماء، رازقاً إياكم أمطاراً وأزمنة مثمرة، مفعماً قلوبكم طعاماً وسروراً )) ( 14 : 15 ـ 17 ) فكأننا نسمع صوت أشعيا، والكتاب كله.

ونص قرار مجمع الرسل والكهنة في أورشليم، عام 49، (( إلى الإخوة الذين من الأمم، في إنطاكية وسورية وكيليكية )) ، لا ينص إلا على الامتناع عن ظواهره الشرك وعوائده : (( لقد رأى الروح القدس ونحن أن لا نحملكم إِصْر فوق هذه الأشياء التي لا بد منها : أن تمتنعوا عمَّا ذبح للأصنام، وعن الدم، والمخنوق، والفحشاء. فإذا صنتم أنفسكم عنها، فنعم تفعلون! كونوا معافين )) ( 15 : 23 ـ 29 ).

وهل أجمل من دعوة بولس للتوحيد في ندوة أثينا، أم الفلسفة ؟ (( أيها الرجال الأثينيون، أرى أنكم في كل شيء، أكثر الناس عبادة. ففي مروري ومعاينتي لشعائر عبادتكم صادفت مذبحاً مكتوباً عليه : للإله المجهول! فذلك الذي تعبدونه وأنتم تجهلونه، به أنا أبشركم! ))

ــــــــــــــــــ

 الإصْر : الثـقل.

182 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 6

(( إن الله الذي صنع العالم وجميع ما فيه، لا يسكن في هياكل صنعتها الأيدي، فهو رب السماء والأرض؛ ولا تخدمه أيدي البشر، كأنه محتاج إلى شيء، فهو يعطي الجميع حياةً ونسمة وكل شيء! وهو الذي صنع من واحد كل أمة من البشر، ليسكنوا على وجه الأرض كلها، محدداً مدى أزمنتهم وتخوم مساكنهم، لكي يطلبوا الله لعلّهم يجدونه متلمّسين! مع أنه غير بعيد من كل واحد منا، إِذ به نحيا ونتحرك ونوجد. وقد قال أيضاً بعض شعرائكم : إنا نحن ذريته! فإِذ نحن ذرية الله، وجب علينا أن لا نحسب الإله شبيهاً بالذهب أو الفضة أو الحجر! مما ينقش بصناعة الإنسان واختراعه! ولقد أغضى الله عن أزمنة الجاهلية؛ وها هو الآن ينذر جميع الناس، في كل مكان، أن يتوبوا، لأنه قد حدّد يوماً يدين فيه بالعدل المسكونة، بالإنسان الذي عيّنه، وقد جعله ضمانة للجميع بإقامته من بين الأموات )) (17 : 22 ـ 31).

بهذا الخطاب في التوحيد المسيحي، أوجز بولس دعوة التوحيد في التوراة والإنجيل والقرآن. ونلاحظ أن كلمة (( الجاهلية )) تعبير عبري مسيحي؛ وهو يدل، لا على الجهل إطلاقاً، بل على الجهل بالتوحيد المنزل. ونلاحظ أيضاً أن (( الصراط )) كناية عن المسيحية (9: 2؛ 19 : 23؛ 22 : 4). فالدعوة للتوحيد تسبق الدعوة للتثليث في التوحيد.

 

 

التثليث والتوحيد ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 183

 

ثانياً : التثليث المسيحي في التوحيد

 

لكن في هذا التوحيد التوراتي الإنجيلي، تثليث نجده في اسم الله : الآب، والرب يسوع، والروح القدس.

1 ـ فالله هو الآب

قال المسيح قبل رفعه : (( ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة التي جعلها الآب في سلطانه الخاص )) ( 1 : 7 ). فالله هو الآب. هذا اسمه الكريم في التنزيل الإنجيلي، والدعوة الرسولية الأولى.

وفي البلاغ الرسولي الأول للشعب، يذكر بطرس مراراً الله، ويقول في المسيح: (( وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) (2 : 33). فالله هو الآب والرب يسوع والروح القدس. إنه تقرير واقع.

وفي البلاغ الثاني للشعب : (( إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إله آبائنا، قد مجّد فتاه يسوع، الذي أسلمتموه أنتم .. لقد أنكرتم القدوس، الصالح! ... لقد قتلتم مصدر الحياة )) ( 3 : 13 ـ 15 ). فيسوع هو (( فتى الله القدوس )) ( 4 : 27 و30 )، وصفة (( القدوس )) تنزيه له عن سائر أبناء الله، على المجاز.

184 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 6

هذا النص يُظهر صلة (( الرب يسوع )) الذاتية من الله الآب : إنه ابن الله، القدوس، مصدر الحياة ...

2 ـ (( الرب يسوع )) هو (( فتى الله القدوس )) أي ابن الله

الدعوة المسيحية الأولى هي الشهادة (( بقيامة الرب يسوع )) ( 4 : 33 ).

فهي تؤكد أولاً إلهية (( الرب يسوع )) ، كما رأينا ( 1 : 21؛ 3 : 13 و26؛ 4 : 27 و30؛ 9 : 20 ). وسائر التعابير تسمي يسوع (( الرب )) : كلمة الرب ( 8 : 25 )؛ صراط الرب ( 13 : 10؛ 18 : 25 و26 )؛ خدمة الرب ( 13 : 2؛ 20 : 19 )؛ خشية الرب (9: 31)؛ نعمة الرب ( 14 : 3؛ 15 : 11 و40 )؛ مشيئة الرب ( 21 : 14 )، الدعاء باسم الرب ( 9 : 14 و21؛ 22 : 16 )؛ الخلاص باسم الرب ( 2 : 21 )؛ الصلاة باسم الرب (4 : 29؛ 7 : 59 ـ 60)؛ انتظار يوم الرب ( 2 : 20 ). فالرب يسوع هو أيضاً (( الرب )) على الإطلاق ( 7 : 59 ـ 60؛ 9 : 10؛ 11 : 17 ).

وتؤكد ثانياً صلة الرب يسوع بالله الآب : إنه (( فتى الله القدوس )) (4 : 27 و30). والقدوس، كما رأينا، صفة التنزيه، في لغة الكتاب والإنجيل. و (( القدوس )) اسم من أسماء الله الحسنى : (( هكذا قال العلي الرفيع ساكن الخلود الذي اسمه : القدوس )) ( أشعيا 57 : 15 )؛ (( لا قدوس مثل الله )) ( 1 مل 2 : 2 )؛ والملائكة ينشدون على الدوام : (( قدوس! قدوس! قدوس! الله الصمد )) ( أشعيا 6 : 3 ). وقد ردّد سفر الرؤيا : (( يا الله، مَن لا يخافك ؟ ولا يمجّد اسمك ؟ فإنك أنت وحدك القدوس )) (15 : 4؛ قابل 4: 8). فوصف يسوع (( بالقدوس )) تنزيهاً عن كل بنوة مجازية؛ ووصفه بصفة التنزيه المحفوظة لله وحـده. وهذه الصفة تجعله (( ابن الله )) على الحقيقة والواقع. وتؤيد هذه الصفة صفات أخرى إلهية (( إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إله آبائنا،

التثليث والتوحيد ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 185

قد مجّد فتاه يسوع! ... لقد أنكرتم القدوس، الصالح ... لقد قتلتم مصدر الحياة )) ( 3 : 13 ـ 15 ). فهذه الصفات الإلهية تعني أن يسوع هو (( فتى الله )) أي (( ابن الله )) .

3 ـ والروح القدس ذات إِلهية مع الله الآب، والرب يسوع

تؤكد الدعوة الرسولية الأولى أولاً أن الروح القدس ذات إلهية مع الله الآب والرب يسوع : (( أخذ ( يسوع ) من الآب الروح القدس الموعود وأفاضه )) ( 2 : 33 ). فالروح القدس ذات يصدر من الآب، ويفيضه يسوع القائم عن يمين الآب : فهو في صلة وجودية كيانية ذاتية مع الآب والرب يسوع يؤكدها بقوله : (( والروح القدس الذي أعطاه الله للذين يطيعونه )) أي المسيح ( 5 : 32 ). فالروح القدس يعطيه الله الآب أو الرب يسوع. ويدل على كونه ذاتاً قائماً في الله، الكلام عنه كذات مستقلة : (( لقد رأى الروح القدس ونحن )) (15: 28)، فالرسل يتكلمون باسم الروح القدس كما يتكلمون باسم الله، أو باسم الرب يسوع. فهو يتكلم كذات قائمة : (( وفيما بطرس مفكر بالرؤيا، قال له الروح ... )) ( 10 : 19 ). وهو الذي يحمل على الرسالة فيلبس ( 8 : 26 و29 )، وبطرس ( 10 : 19 ) وبولس وبرنابا ( 13 : 2 ـ 4 ). وهو الذي يقود عمل الرسالة ( 16 : 6 ) ويمنح العصمة لقرار الرسل ( 15 : 28 )؛ وهو الذي يحرك الرسل بوحي ذاتي لهم ( 16 : 6 ـ 7؛ 20 : 22 ).

وتؤكد الدعوة الرسولية ثانياً صلة الروح القدس بالله الآب والرب يسوع : فالرب يسوع، في مجد الله، (( أخذ من الآب الروح القدس الموعود وأفاضه )) ( 2 : 33 )؛ فالروح القدس في صلة مصدرية مع الآب : (( أخذ من الآب )) ؛ وفي صلة عملية دليل المصدرية مع الرب يسوع : (( أخذ الروح القدس وأفاضه )) . فهو روح الله؛ وهو أيضاً (( روح الرب )) (5: 9) : فإضافة الروح القدس إلى (( الرب )) يسوع، مثل إضافته إلى الله الآب، برهان على صلته المصدرية الواحدة من الآب والابن.

186 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 6

واسمه، كما قلنا، (( الروح )) على الإطلاق، و (( القدس )) على الإطلاق، برهان إلهيته، في لغة الدعوة المسيحية؛ والاسم، في لغة الكتاب والإنجيل، دليل الذات. فالروح القدس ذات إلهية مع الآب والرب يسوع، في الله الواحد الأحد.

 

هذا هو واقع الدعوة المسيحية الأولى : فسفر الأعمال هو إعلان التثليث المسيحي في التوحيد المنزل.

السفر كتاب تاريخ، ففيه تسجيل واقع الدعوة، من دون التفصيل الكلامي فيها.

أما كيف تنسجم إلهية المسيح، ابن الله؛ وكيف تنسجم إلهية الروح القدس، روح الله وروح الرب يسوع؛ مع الله الواحد الأحد، في الذات الإلهية الواحدة، فهذا تعليم يتركه سفر التاريخ للإنجيل بحسب يوحنا، وللكلام المنزل في رسائل بولس.

يكفي سفر الأعمال أن يسجّل واقع التثليث المسيحي في التوحيد المنزل، بأجلى مظاهره، ويترك لغيره تفسير التثليث في التوحيد. يكفي سفر الأعمال أن يسجّل لنا إلهية الرب يسوع وإلهية الـروح القدس، في سر الله الواحد الأحـد، كما علم المسيح الرسل أن يعمّدوا: (( باسم الآب والابن والروح القدس )) ( متى 28 : 19 ).

 

 

d f

(( إنجيل الخلاص )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 187

 

بحث سابع

 

(( إنجيل الخلاص )) في دعوة الرسل الأولى

 

غاية الدعوة الرسولية الخلاص بالمسيح يسوع. ندرس تعابير الخلاص المسيحي وكيفيته ومصدره.

 

 

أولاً : الخلاص المسيحي في لغته وتعابيره

1 ـ دعوة الرسل هي (( كلمة الرب )) ، التي تعطي (( الخلاص )) بالإيمان بالرب يسوع، الرب المخلص ( 2 : 36 مع 16 : 31 ).

لا خلاص عند الله إلا بالمسيح : (( ما من خلاص بأحد غيره! إذ ليس تحت السماء اسم آخر أُعطي للناس، به ينبغي أن نخلص )) ( 4 : 12 ).

هذا ما يدعو إلهيه الرسل : (( أَرسلْ إلى يوبَّا واستحضرْ سمعان، الملقب بطرس، وهو يكلمك كلاماً يؤتيك الخلاص، أنت وأهل بيتك أجمعين )) ( 11 : 13 ب ـ 14 ). وبطرس يعلن في مجمع الرسل والكهنة : (( بنعمة الرب يسوع المسيح نؤمن أن نخلص نحن وأولئك )) ( 15 : 11 ).

وهذا ما يدعو إليه بولس : (( يا بني إسرائيل، ويا متّقي الله اسمعوا ... من

188 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

نسله ( نسل داود )، على حسب الموعد، أقام الله لإسرائيل مخلصاً، يسوع ... فيا أيها الرجال الأخوة، والمتقون الله معاً، إلينا قد أُرسلت كلمة الخلاص هذه )) (13 : 16 و23 و26)؛ (( فإِن الرب هكذا أوصانا ( أشعيا 49 : 6 )؛ إني جعلتك نوراً للأميين، لأجل الخلاص، حتى أقاصي الأرض )) ( 13 : 47 ).

وهكذا فهم الشعب الإسرائيلي دعوة الرسل : (( أيها الرجال الأخوة، ماذا علينا أن نصنع ؟ ـ توبوا ... )) ( 2 : 37 ). وهكذا فهمها الأميون : (( يا سيديَّ، ماذا عليَّ أن أفعل لكي أخلص ؟ فقالا : أمن بالرب يسوع فتخلص أنت وأهل بيتك. وبشراه وجميع أهل بيته بكلمة الرب )) ( 16 : 30 ـ 32 ). فظهر الرسل للناس (( عبيد الله العلي، وهم يبشرون بصراط الخلاص )) ( 16 : 17 ).

2 ـ والخلاص بالمسيح هو الحياة

فيسوع هو (( مصدر الحياة )) (3: 15). وبهذه الحياة يجب أن يبشر الرسل: (( امضوا وقفوا في الهيكل! وبشروا الشعب بجميع كلمات هذه الحياة )) ( 5 : 20 )، ففي الإنجيل وفي دعوة الرسل به كلمات الحياة. والحياة هي بالإيمان بالمسيح والتوبة : (( قد آمنا بالرب يسوع المسيح ... وقد أعطى الله التوبة للأميين أيضاً لتكون لهم الحياة )) ( 11 : 17 ـ 18 ). فمن قَبِلَ الإيمان المسيحي كان من أهل الحياة : (( فآمن جميع الذين أُعدّوا للحياة الأبدية )) (13 : 48)؛ والذين يرفضون (( الإيمان بالرب يسوع المسيح، يحكمون أنهم غير أهل للحياة الأبدية )) ( 13 : 46 ).

بهذه البشرى بالخلاص والحياة، (( سمع الأمم، ففرحوا ومجّدوا كلمة الرب )) ( 13 : 48 أ ).

3 ـ فالمسيحية هي (( الصراط )) ، (( صراط الرب )) ، (( الصراط المستقيم ))

سفر الأعمال يسمّي الدعوة المسيحية (( الصراط )) على الإطلاق : (( فشاول

(( إنجيل الخلاص )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 189

طلب من الحبر الأعظم رسائل إلى جوامع دمشق، (( حتى إذا ما وجد أناساً على هذا الصراط، رجالاً أو نساءً، يسوقهم موثقين إلى أورشليم )) ( 9 : 2 ). وفي أفسس، يفاوض بولس اليهود، (( ويعمل على إقناعهم في ما يتعلق بملكوت الله؛ وإذ كان بعضهم يقسّون قلوبهم ولا يؤمنون، طاعنين بالصراط أمام الجمهور، انفصل عنهم، واعتزل بالتلاميذ )) ( 19 : 8 ـ 9 ). فاستثار اليهود صاغة أفسس، (( وثار شغب شديد على الصراط )) ( 19 : 23 ). وبولس قبل هدايته، كان يضطهد (( هذا الصراط )) ( 22 : 4 )؛ (( واليوم أعبد إِله آبائي بحسب الصراط الذي يصفونه ببدعة )) ( 24 : 14 ). فاشتهرت المسيحية إنها الصراط، حتى إن الوالي الروماني (( كان يعرف بتدقيق ما يخص الصراط )) .

وهذا الصراط هو صراط الرب يسوع، صراط الله، قدم ابولّس أفسس، (( وكان قد لُقّن صراط الرب، وكان في حرارة روحه يتكلم ويعلّم بتدقيق ما يخص يسوع، وهو لا يعرف إلا معمودية يوحنا، فطفق إذن يخطب في المجامع بجرأة. فلما سمعه اكيلا وبرسكلاَّ أخذاه إليهما وشرحا له صراط الله شرحاً أوفى )) ( 18 : 24 ـ 26 ).

فالمسيحية، الصراط، صراط الرب، صراط الله، هي الصراط المستقيم، هكذا يسميها بولس1 في حملته على ساحر يهودي : (( يا ممتلئاً من كل مكر وخبث! يا ابن ابليس! يا عدو كل برّ! ألا تكف عن تعويج صراط الرب المستقيم )) ؟ ( 13 : 10 ). و (( الرب )) كناية عن (( الرب يسوع )) في لغة الدعوة المسيحية : فالصراط المستقيم هو المسيحية ذاتها. وطلب الهداية إلى الصراط المستقيم، هو طلب الهداية إلى المسيحية.

ــــــــــــــــــ

(1) هكذا يسميها بطرس في رسالته الثانية : (( لقد تركوا الصراط المستقيم، وضلوا )) ( 2 : 15 ). وينعت الصراط المستقيم بأنه صراط الحق : (( وسيتبعهم كثيرون في كفـرهم، فيُجدف بسببهم على صـراط الحق )) ( 2 : 2 ).

190 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

4 ـ الصراط والخلاص والحياة هي (( البشرى )) أي الإنجيل

الإنجيل معناه البشرى؛ وبَشّرَ، حرفه في اليونانية : (( أَنجَلَ )) . فكل مرة يرد في الترجمة : (( بشّر )) ، فمعناه : دعا بالإنجيل، كقوله : بولس وبرنابا (( بشّرا هناك بالإنجيل )) (14 : 7)؛ وعمل الرسل أن (( يبشروا )) ، حرفياً أن (( يُؤنجلوا )) ( 14 : 22؛ 16 : 20 ).

بطرس يقول : (( إن الله اختارني من بينكم ليسمع الأمميون من فمي كلمة الإنجيل )) (15 : 7). فالدعوة الرسولية، في شتى أساليبها، دعوة بالإنجيل.

وبولس (( يناشد اليهود واليونانيين أن يتوبوا إلى الله، ويؤمنوا بربنا يسوع المسيح ... ( هذه هي ) الرسالة التي تسلمتها من الرب يسوع، أن أشهد لإنجيل نعمة الله )) ( 20 : 21 و24 )؛ (( نبشركم بأن ترجعوا عن هذه الأباطيل إلى الله الحي )) ( 14 : 15 ).

فالإنجيل هو (( البشرى بيسوع المسيح )) يقوم بها الرسل ( 5 : 42 )، وأعوانهم مثل فيلبس ( 8 : 35 )، والتابعين لهم بإِحسان، مثل اليهود الهلّينيين الذين (( لمَّا دخلوا إنطاكية طفقوا يكلمون اليونانيين أيضاً، مبشرين بالرب يسوع )) ( 11 : 20 ).

والإنجيل هو (( البشرى بالكلمة )) ( 6 : 4 )، (( كلمة الرب )) ( 8 : 25 )؛ هو البشرى (( بملكوت الله واسم يسوع المسيح )) ( 8 : 12 )، البشرى (( بالسلام، بيسوع المسيح، رب العالمين )) ( 10 : 36 ).

5 ـ والإنجيل هو (( كلام الله )) ، (( كلام الرب يسوع )) ، (( الكلمة )) على الإطلاق

فالإنجيل هو كلام الله. فالرسل يتفرّغون له : (( لا يحسن أن نترك كلام الله ونخدم الموائد )) ( 6 : 2 ). فساعد ذلك على انتشار الدعوة المسيحية في أورشليم.

(( إنجيل الخلاص )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 191

(( وكان كلام الله ينمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً في أورشليم، وجمهور من الكهنة يطيعون الإيمان )) ( 6 : 7 )؛ حتى (( أن السامرة نفسها قبلت كلام الله )) ( 8 : 14 )؛ وبشخص كرنيليوس، القائد الروماني، وجماعته، (( إن الأمميين أيضاً قبلوا كلام الله )) ( 11 : 1 ). فبلغت الدعوة سوريا وإنطاكية نفسها : (( وكان كلام الله ينمو ويزداد )) ( 12 : 24 ) حتى عمت بلاد الإغريق، فقاومها اليهود، (( حينئذٍ جاهر بولس وبرنابا، قالا : لكم أولاً كان ينبغي أن يبلَّغ كلام الله؛ لكن بما أنكم ترفضون، وتحكمون بأنكم غير أهل للحياة الأبدية، فها نحن نتوجّه إلى الأمميين، فإن الرب هكذا أوصانا )) ( 13 : 46 ـ 47 ).

والإنجيل هو أيضاً كلام الرب يسوع. فبطرس ويوحنا، (( بعد أن شهدا وناديا بكلام الرب (في السامرة)، رجعا إلى أورشليم، وهما يبشران بالإنجيل، في قرى كثيرة للسامريين )) ( 8 : 25 ). وبولس وبرنابا (( بشرا بكلام الرب، مع بضعة آخرين )) ( 15 : 35 ). فانتشرت الدعوة المسيحية في (( المسكونة )) كلها : (( وإذ سمع الأميون ذلك فرحوا ومجّدوا كلام الرب )) ( 13 : 48 أ ).

والإنجيل، كلام الله، كلام الرب، هو (( الكلمة )) على الإطلاق ـ لاحظ هذا الإطلاق المتواتر في التعبير ـ فبعد خطاب بطرس الثاني (( كثيرون من الذين سمعوا الكلمة آمنوا )) (4 : 4). وبعد استشهاد اسطفان، (( ثار في ذلك اليوم اضطهاد شديد على الكنيسة التي في أورشليم فتشتت الجميع في جنبات اليهودية والسامرة، ما خلا الرسل ... وأما الذين تشتتوا فكانوا يطوفون مبشرين بالكلمة. وانحدر فيلبس إلى مدينة السامرة، وكان يبشرهم بالمسيح )) ( 8 : 1 و4 ـ 5 ). (( وقد اجتازوا حتى فينيقية وقبرص وإنطاكية، وهم لا يبشّرون بالكلمة إلا اليهود فقط )) ( 11 : 19 ).

و (( الكلمة )) ـ على الإطلاق ـ هي البشرى بالمسيح : (( فكانوا يطوفون

192 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

مبشرين بالكلمة؛ وانحدر فيلبس إلى مدينة السامرة، وأخذ يبشرهم بالمسيح )) ( 8 : 4 ـ 5 ) ـ لاحظ الترادف بين (( الكلمة )) والمسيح . وهي البشرى بالرب يسوع : (( وهم لا يبشرون بالكلمة إلاَّ اليهود فقط ... لكن لما دخلوا إنطاكية طفقوا يكلمون اليونانيين أيضاً مبشرين بالرب يسوع )) ( 11 : 19 ـ 20 ) ـ لاحظ أيضاً الترادف بين (( الكلمة )) والرب يسوع. فلا غرو أن يقود هذا الترادف بين (( الكلمة )) والمسيح أو الرب يسوع، إلى تسمية يسوع المسيح نفسه (( كلمة الله )) ، أو (( الكلمة )) ، كما فعل يوحنا في فاتحة إنجيله.

فالكلمة، في الدعوة المسيحية، كناية عن الإنجيل، وكناية أيضاً عن يسوع المسيح.

ونموّ الدعوة المسيحية، نمو الإيمان، نمو الكنيسة، يسمّى أيضاً نمو الكلمة. بهذا التعبير يصف لوقا انتشار المسيحية في أورشليم : (( وكانت كلمة الله ( أي الإيمان بيسوع المسيح؛ الإنجيل ) تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً في أورشليم )) ( 6 : 7 ). وفي سائر فلسطين، وسوريا، (( كانت كلمة الرب تنمو وتزداد )) ( 12 : 24 )؛ وفي العالم الإغريقي أيضاً، (( كانت كلمة الرب تنمو وتتقوى جداً )) ( 19 : 20 ).

والكلمة، كلام الله، كلام الرب يسوع، هي كلمة الحياة التي أمر الرسل بأن يبشروا بها: (( بشّروا الشعب بجميع كلمات هذه الحياة )) ( 5 : 20 )؛ وهي كلمة الخلاص التي نالها الرسل وبها يدعون : (( إلينا قد أرسلت كلمة الخلاص هذه )) ( 13 ـ 26 ) ـ لاحظ الاختصاص من الإشارة إلى (( هذه الحياة )) و (( هذا الخلاص )) ، بالمسيحية.

هذا هو الخلاص بالمسيح، في لغته وتعابيره.

 

 

(( إنجيل الخلاص )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 193

 

ثانياً : كيفية الخلاص المسيحي

 

للخلاص بالمسيح ناحية سلبية، وناحية إيجابية؛ وكلاهما عمل إلهي، فوق طاقة المخلوق. فالدعوة المسيحية إلهية في ذاتها، وفي أساليبها، وفي مفاعيلها.

1 ـ فالخلاص المسيحي يقوم على غفران الخطايا ـ ولا يغفر الخطايا إلاَّ الله وحده، ومَن سلمه سلطانه. منذ البلاغ الأول للشعب يعلن بطرس : (( توبوا! وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم )) ( 2 : 38 ). ومغفرة الخطايا هي أيضاً من سلطان المسيح : (( إن إله آبائنا قد أقام يسوع ... ورفعه بيمينه مصدراً ومخلصاً، ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا )) ( 5 : 30 ـ 31 ). وغفران الخطايا متوقف على الإيمان باسم يسوع : (( له يشهد جميع الأنبياء، بأن كل من يؤمن به ينال مغفرة الخطايا باسمه )) ( 10 : 43 ). وهذه ميزة الإنجيل على التوراة : (( أيها الرجال الإخوة، اعلموا أنكم به قد بُشرتم بمغفرة الخطايا، وأنه به يتبرّر كل مؤمن، من كل ما لم تستطيعوا ان تتبرّروا منه بشريعة موسى )) ( 13 : 38 ـ 39 ). وإذا كانت التوبة شرطاً لغفران الخطايا، فهذه التوبة لا تكون إلا ببركة يسوع المسيح المخلص : (( فلأجلكم أولاً أقام الله فتاه، وأرسله لكي يبارككم، فيرتد كل واحد منكم عن شروره )) ( 3 : 26 ).

2 ـ وميزة الخلاص المسيحي إنه يعطي الروح القدس. تلك هي بشرى الدعوة الرسولية في بلاغها الأول : (( توبوا! وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس )) ( 2 : 38 ). هذا ما تنبأ به يوئيل (2 : 28 ـ 32)، كمـا يستشهد بطرس ( 2 : 17 ـ 21 )؛ وهـذا ما حصل في يوم الخمسين، عيد العنصرة: (( فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك! وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود

194 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( 2 : 32 ـ 33 ). هذا عينه ما حصل للمؤمنين في صلاتهم : (( فلما صلوا تزلزل الموضع الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأوا جميعهم من الروح القدس )) ( 4 : 31 )؛ وما حصل للمعمدين بعد وضع أيدي الرسل عليهم، في السامرة ( 8 : 17 )؛ وما حصل للأمميين عند إيمانهم بالدعوة الرسولية : (( وفيما بطرس ينطق بهذه الكلمات، حل الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة )) أي الدعوة المسيحية (10 : 44). فحلول الروح القدس على المسيحيين، بالتوبة والإيمان والعماد، هو نعمة المسيحية الكبرى، وميزتها على الأديان قاطبة.

3 ـ فالتوبة لله، والإيمان بالمسيح، والعماد باسمه، هي الواسطة للغفران ونيل الروح القدس ـ التوبة والإيمان شرطان، والعماد الواسطة : (( توبوا وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس )) ( 2 : 38 ). فالعماد هو باب المسيحية، يردّد العهد الجديد ذلك نحو خمسين مرة.

والعماد يجعلنا في صلة ذاتية مع المسيح، فهو (( باسم يسوع المسيح )) ( 2 : 38 ) و(( لأجل يسوع المسيح )) . فيصير المعمود خاصة المسيح، وملكه، وبه يتّحد بالمسيح نفسه.

والعماد يجعلنا في صلة ذاتية مع الروح القدس : (( وليعتمد كل واحد منكم ... فتنالوا موهبة الروح القدس )) ( 2 : 38 ). بالعماد المسيحي يسكن الروح القدس في نفس المعمود المسيحي. لذلك يسميه المسيح نفسه (( العماد بالروح القدس )) ( 1 : 5 )؛ ويردّدها الرسل من بعده ( 11 : 16 ). وهذه ميزة العماد المسيحي على كل وضوء أو غسل أو تغطيس أو عماد من أي نوع كان : لا يعطي الروح إلاَّ العماد المسيحي.

سنرى في تفصيل بولس أن العماد المسيحي يجعلنا وحدة كيانية مع المسيح، (( جسداً واحداً )) يحييه الروح القدس نفسه.

(( إنجيل الخلاص )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 195

فالغفران ونيل الروح القدس منوطان بالعماد المسيحي عندما يُعطى بواسطة الرسل أو مندوبيهم مثل حنانيا، لأنه في هذه الحال يكون مقروناً بوضع أيدي الرسل على المعمود، فينال الروح ويحيا به : (( يا شاول أخي، إن الرب يسوع قد أرسلني لكي تبصر، وتمتلئ من الروح القدس. وللحال وقع من عينيه شيء كأنه قشور، وعاد فأبصر. فقام واعتمد )) ( 9 : 17 ـ 18 ). هذا العماد أعطى بولس الروح القدس. لكن عندما يتم العماد بواسطة من هم دون الرسل سلطاناً، مثل الشمامسة كفيلبس في السامرة، فلا بد من وضع أيدي الرسل، أو مندوبين عنهم، على المعمودين لكي ينالوا الروح القدس : (( فصليا ( بطرس ويوحنا ) لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم يكن بعد قد حلَّ على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع. عندئذ وضعا أيديهما عليهم فنالوا الـروح القدس )) (8 : 14 ـ 17). هـذا ما نسميه (( الميرون )) الذي يصحب وضع الأيدي، أو حفلة (( التثبيت )) في المسيحية. (( فوضع أيدي الرسل )) أو مندوبيهم، هو الواسطة، في العماد أو غيره ( 13 : 2 ـ 3 )، لنيل الروح القدس. فتنزيل الروح القدس يتم في سر ثان مقرون بالعماد.

4 ـ والطريقة العادية، في الجماعة المسيحية الأولى، للاتصال بالله الآب، والرب يسوع المسيح، والروح القدس، هي الصلاة.

إِن الإنجيل بحسب لوقا هو (( إنجيل الصلاة )) ؛ وسفر الأعمال للوقا هو أيضاً (( إنجيل الصلاة )) . فالرسل، على مثال المسيح، يصلون لانتخاب بديل عن يهوذا ( 1 : 24 ـ 26 )، ولانتخاب الشمامسة ( 6 : 6 ). والجماعة المسيحية كلها تصلي لنجاة بطرس من السجن، أولاً ( 4 : 24 ـ 30 ) وثانياً ( 12 : 5 ـ 12 ). وبطرس ويوحنا يصليان قبل منح الروح القدس للمعمدين من السامريين ( 8 : 15 ). وسيمون الساحر المهتدي يصلي طالباً الغفران من الكفر بالروح القدس في (( سيمونيته )) ( 8 : 22 ). فالصلاة روح الحياة الرسولية، روح

196 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

الجماعة، وروح الأفراد؛ يقيمونها في الهيكل لأوقاتها، ويختلفون لصلاتهم الخاصة في بيوت الجماعة ( 4 : 31؛ 10 : 9؛ 12 : 5 ).

فالصلاة، في نظر الرسل، هي مع الدعوة رسالتهم ومهمتهم ( 6 : 4 ). وهي تهديدهم في المواقف الخطيرة، مثل قبول الأمميين في حضن الكنيسة ( 10 : 9 ). وهي تشدّد المسيحيين في الأوقـات العصيبة (4 : 24). وكرنيليوس نال الهـداية إلى المسيحية، بسبب (( صلاته المتواترة )) ( 10 : 2 ). وبطرس بصلاته يجدّد معجزة إحياء الموتى ( 9 : 40 ). وبولس يرى الفرج من عماه في صلاته ( 9 : 11 ـ 12 ).

فالصلاة توحد بين المسيحيين، فتجعلهم (( قلباً واحداً ونفساً واحدة )) ( 4 : 32 )، وتنزل عليهم الروح القدس ( 4 : 31 ) وتستحضر بينهم الرب يسوع، وبها يتوجهون إلى الله الآب ( 4 : 24 ).

فالصلاة هي روح المسيحية، للاتصال بالله، الآب والابن والروح القدس.

5 ـ والطريقة الفضلى، في صلاة المسيحيين الخاصة، هي (( كسر الخبز )) في صلاتهم. وهو تعبير مسيحي، لا وجود له في الأدب اليوناني، ولا في الأدب اللاتيني. (( كسر الخبز )) العـادي عادة يهودية، كعمل ديني قبل تناول الطعام، حيث أبو العائلة، أو المتقدم فيها (( يكسر الخبز )) للأكل، وهـو يتلو عليه صلاة البركة. وكانت هذه أيضاً عـادة يسوع. لكن (( كسر الخبز )) أخذ منذ العشاء السري معنىً خاصاً عند المسيحيين : (( ثم أخذ خبزاً وشكر وكسر وأعطاهم )) القربان المسيحي في (( كسر الخبز )) الخاص في تلك الليلة الوداعية (لوقا 22 : 19). وأمر المسيح للرسل في تجديد عمله، حملهم على تسمية القربان المسيحي (( كسر الخبز )) . نرى ذلك من تمييزه في صلاتهم (( وكانوا مواظبين على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات )) ( 2 : 42 )؛ ومن انفرادهم في البيوت الخاصة (( لكسر الخبز )) ؛ (( وكانوا كل يوم يلازمون الهيكل بنفس واحدة، ويكسرون

(( إنجيل الخلاص )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 197

الخبز في البيوت، وهم يتناولون الطعام بابتهاج وحسن الطوية، ويسبحون الله )) ( 2 : 46 ). فكل هذه الظواهر تدل على أن (( كسر الخبز )) هو (( القربان )) المسيحي، كما فسره بولس (1 كو 10 : 16).

ويتضح أن (( كسر الخبز )) في سفر الأعمال (2 : 42 ـ 46) هو تناول (( القربان )) في رسالة بولس ( 1 كو 10 : 16 ـ 22 )، من مقارنة كلمة (( الشركة )) ( χοινωνία ) في الأعمال ( 2 : 42 ) والرسالة ( 1 كو 10 : 16 ). ويتضح ذلك خصوصاً من ظروف وقوعها. قال لوقا : (( في أول الأسبوع ( أي يوم الأحد ) لمَّا اجتمعنا لكسر الخبز ( اجتماع خاص لغير الطعام العادي ) أخذ بولس يكلمهم ( العظة في وقت إقامة القربان ) وأطال في الكلام إلى نصف الليل )) ( أع 20 : 7 ). هذا تجديد العشاء السري، في وقت خاص، وفي مكان خاص، مع خطاب التعليم وصلاة الشكر وكسر الخبز. وفي حادثة غرق السفينة على طريق رومة، نلاحظ أن النص يميّز بين (( الخبز المكسور )) و (( الطعام )) المأكول ( أع 27: 33 ـ 38 ) : (( أخذ بولس يحرضهم جميعاً على أن يتناولوا طعاماً ... ولمَّا قال هذا، أخذ خبزاً وشكر الله أمام الجميع، وكسر وطفق يأكل )) ( 27 : 33 مع 35 ). لاحظ وحدة التعبير هنا، وفي رسم القربان في العشاء السري ( لوقا 22 : 19 ). فبولس يتناول القربان المسيحي في (( الخبز المكسور )) ، وهم يتناولون طعاماً؛ هو لحاجة الروح، وهم لحاجة الجسد. فما يسميه لوقا المؤرخ (( كسر الخبز )) ، يسميه بولس المتكلم (( الافخارستيا )) أو (( عشاء الرب )) ( 1 كو 11 : 20 و23 ـ 27 )، حيث (( يخبرون بموت الرب )) ، ثم (( يشتركون بجسد الرب ودمه )) . وتزول كل شبهة على وحدة الموضوع مع اختلاف التعبير، في الكلمة التكنيكية التي يصف بها لوقا (( كسر الخبز )) أنه (( ليترجيا الرب )) ( 13 : 2 )، فذهبت اسماً وعلماً إلى ما شاء الله. فتلك التعابير الأربعة : (( كسر الخبز )) ، (( الافخارستيا )) ، (( عشاء الرب )) ، (( ليترجيا الرب )) ، كلها مترادفات لحقيقة مسيحية واحدة : القربان المسيحي. وهناك تعبير خامس

198 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 7

عند بولس : (( مائدة الرب )) أو (( المائدة )) للعهد ( 1 كو 10 : 21 ) احتفظ به النصارى اليهود، حتى في الحجـاز : فسر (( المائدة )) عندهم، هو سر (( القربان )) عند المسيحيين؛ إنه (( عيد )) المسيحية في كل واحد، لأولهم وآخرهم؛ والوساطة المسيحية الكبرى لاتصال المسيحيين بالمسيح، ومعه بالروح القدس، وبالآب الذي في السماوات.

 

 

ثالثاً : مصدر الخلاص المسيحي

إن مصدر الخلاص، في الدعوة المسيحية، هو المسيح نفسه، بحسب جميع مصادر الوحي الإنجيلي.

لكن يظهر أن هناك تعارضاً بين لوقا في سفر الأعمال، وبولس في رسائله. سفر الأعمال يجعل الخلاص في قيامة المسيح ورفعه إلى السماء؛ ورسائل بولس تجعله في استشهاد المسيح وصليبه، أو الفداء بدمه. وما كان للتلميذ أو التابع أن يُعارض معلمه؛ إنما هي شبهة؛ لتأكيد الأعمال أو الرسائل على ناحية من نواحي الخلاص الواحد بالمسيح، بحسب ظروف الدعوة.

ففي نظر الجماعة المسيحية الأولى، في الدعوة الرسولية الأولى، الخلاص الموعود تمَّ بقيامة المسيح ورفعه حياً إلى السماء، من حيث أنزل الروح القدس لحياة المسيحيين. فقيامة المسيح ومجده الإلهي، برهان رسالته وشخصيته، ومنطلق عمله في إحياء النفوس بواسطة روحه القدوس. لكن بطرس يؤكد (( إن الله قد جعل يسوع المصلوب ربّاً ومسيحاً )) (2 : 36)، فالإشارة إلى الخلاص بالصليب صريحة. وبطرس، في استشهاده بنبؤة أشعيا في (( فتى الله )) الذي يفدي شعبه بدمه، يؤكد : (( لقد قتلتم مصدر الحياة، الذي أقامه الله من بين

(( إنجيل الخلاص )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 199

الأموات )) ( 3 : 13 ـ 16 ). ففي سفر الأعمال، يسوع (( مصدر الحياة )) بصليبه وقيامته معاً. ولوقا يؤكد على الناحيتين مجتمعتين معاً : (( فليكن معلوماً عندكم أجمعين، وعند شعب إسرائيل كله أنه باسم يسوع المسيح، الناصري، الذي صلبتموه أنتم وأقامه الله من بين الأموات، به وقف ( المقعد ) أمامكم متعافياً ... وما من خلاص بأحد غيره )) ( 4 : 10 ـ 12 )؛ فالخلاص بالصليب والقيامة؛ والخلاص والمخلص وحدة وجود وعمل؛ والخلاص المادي رمز الخلاص الروحي. فالتأكيد على ناحية من النواحي ليس نفياً للنواحي الأخرى.

وبولس، في تحرّره من البيئة الإسرائيلية وعقدتهـا النفسية في (( المسيح الذي لا يموت )) ، أظهر في البيئة الهلنستية قيمة الخلاص بصليب المسيح، وميزة الفداء بدم المسيح، من دون أن يهمل معنى الخلاص في قيامة المسيح. فاختلاف البيئة، والهدف المطلوب، يفرضان اختلاف التعبير في عرض الحقيقة وهي واحدة، متكاملة، لا متعارضة، ما بين سفر الأعمال والرسائل. وما كان لوقا، تلميذ بولس، ليغفل عن ذلك، فيجعل تعارضاً ما بين معلمه والرسل الذين ينقل دعوتهم، على لسان بطرس، وهو الذي يظهر، في سفر الأعمال، وحدة العقيدة والرسالة ما بين بطرس وبولس.

فإنجيل الصليب وإنجيل القيامة هما معاً (( إنجيل الخلاص )) .

إن الخلاص بالمسيح وحده ( 4 : 12 )، بصليبه وقيامته معاً.

فسفر الأعمال هو أيضاً (( إنجيل الخلاص )) .

 

 

200 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

 

بحث ثامن

 

سفر الأعمال هو (( إنجيل الكنيسة ))

 

تظهر المسيحية، في الدعوة الرسولية الأولى، عقيدة وجماعة معاً. هذا هو الواقع الملموس في دعوة الرسل، وتأسيسهم لكنيسة المسيح، بناءً على تعاليم المسيح نفسه، ما بين قيامته وصعوده، حيث (( يتراءَى لهم مدة أربعين يوماً، ويكلمهم في شؤون ملكوت الله )) ( 1 : 3 ). فليست المسيحية مجرّد فكرة أو عقيدة أو إيمان؛ إنما هي أيضاً جماعة منظمة، لها مؤسسات، مثل مؤسسة الشمامسة ( 6 : 1 ـ 6 ) ومؤسسة الكهنة إلى جانب الرسل ( 15 : 6 )؛ ولها طقوس عبادة وحياة دينية مثل العماد والقربان؛ جماعة منظمة يتولى قيادتها الرسل ومندوبوهم. فهم إنما يدعون (( لملكوت الله واسم يسوع المسيح )) ( 8 : 12 ). وبرهان هذا الواقع الملموس أن لوقا، في السفر كله، يسمّي المسيحية : (( الكنيسة ))1 أي بحسب حرفها العبراني : جماعة المسيح.

 

 

أولاً : المسيحية ، في الدعوة الرسولية الأولى، عقيدة

وهذه العقيدة المسيحية حددها الرسل في البلاغ الرسولي الأول للشعب : يسوع المصلوب هو الرب المسيح ( 2 : 36 )؛ وبرهانه النبوة ( 2 : 25 ـ 31 )

ــــــــــــــــــ

(1) وهو بذلك تأييد لتاريخية الإنجيل بحسب متى الذي وحده بين الأناجيل يسمي جماعة المسيح (( الكنيسة )) ( 16 : 18؛ 18 : 17 ).

(( إنجيل الكنيسة )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 201

وشـهادة الرسل ( 2 : 32 ) بقيـامة المسيح يسوع ورفعه حيّـاً إلى المجد الإلهي. ويسوع (( القدوس )) ( 2 : 27 ) ـ صفة التنزيه الإلهية ـ (( إذ ارتفع بيمين الله، أخذ من الآب الروح القدس الموعود، وأفاضه كما تنظرون وتسمعون )) ( 2 : 33 ) : فالله هو الآب والقدوس يسوع، والروح القدس. وميزة المسيحية، في تنزيل الروح القدس بالعماد على المؤمنين بالمسيح ( 2 : 38 ) يحيا فيهم، ويحيون فيه. وحياة المسيحية الأولى من هذه العقيدة، أوجزها بقوله، حالاً بعد البلاغ الأول : (( وكانوا مواظبين على تعليم الرسل، وعلى الشركة، وكسر الخبز، وعلى الصلوات )) ( 2 : 42 ).

وما أوجزه هذا البلاغ يردده سفر الأعمال كله.

فالمسيحية، في الدعوة الرسولية الأولى، هي عقيدة إيمانية.

 

 

ثانياً : المسيحية، في الدعوة الرسولية الأولى، هي أيضاً جماعة : (( كنيسة ))

تظهر المسيحية، في دعوة الرسل الأولى، كنيسة أي جماعة منظمة تحت قيادة شرعية قائمة؛ تكمّل (( كنيست )) العهد القديم؛ لكنها تستقل عنها في عقيدتها الجديدة، في الله والمسيح، وفي شريعتها الجديدة، وفي صوفيتها الجديدة، كما فصلناه في الأبحاث السابقة.

1 ـ فالكنيسة الرسولية جماعة منظمة، تحت قيادة شرعية قائمة

منذ يوم العنصرة، بعد البلاغ الرسولي الأول، (( اعتمد الذين قبلوا كلامه ( بطرس ) وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس. وكانوا مواظبين على تعليم الرسل، وعلى الشركة، وعلى كسر الخبز، وعلى الصلوات )) ( 2 : 41 ـ 42 ).

202 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

وتنظيم الجماعة يظهر منذ البدء في أربعة مظاهر : المواظبة على تعليم الرسل، والمواظبة على الشراكة، والمواظبة على كسر الخبز، والمواظبة على الصلوات. يُضاف إليها مظهر اجتماعي يميّز الجماعة : (( وكان كل شيء مشتركاً في ما بينهم )) ( 2 : 44 ) يحيون حياة الاشتراكية المسيحية الحقة ( 2 : 45 ). واجتماع المسيحيين المتواصل، والتفافهم بعضهم على بعض، مظهر آخر اجتماعي يُظهرهم جماعة منظمة : (( وكان جميع المؤمنين معاً )) (2: 44). ويظهرون جماعة منظمة، إذ (( كان لجمهور المؤمنين قلب واحد ونفس واحدة! ولم يكن أحد يقول عن شيء يملكه أنه له، بل كان كل شيء مشتركاً في ما بينهم ... ولم يكن فيهم محتاج، لأن جميع الذين كانوا يملكون حقولاً أو بيوتاً كانوا يبيعونها، ويأتون بأثمان المبيعات ويلقونها عند أقدام الرسل، فيوزعون لكل واحد حسب احتياجه )) ( 4 : 32 ـ 35 ). فتلك المظاهر الثلاثة الاجتماعية، مع المظاهر الأربعة الدينية الخاصة، تجعل المسيحيين الأوائل جماعة منظمة أي كنيسة قائمة بذاتها.

وهذه الجماعة المنظمة في كنيسة مستقلة، لها قيادة شرعية قائمة. فالرسل ليسوا فقط شهود العيان بقيامة المسيح ( 2 : 32؛ 3 : 15؛ 4 : 20 و33 )، بل هم قادة الجماعة الشرعيين، بتأسيس إلهي من المسيح نفسه. كانوا قادة التعليم المسيحي الذي يواظب عليه المسيحيون ( 2 : 42 )؛ كانوا قادة (( الشراكة وكسر الخبز )) ( 2 : 42 )؛ وكانوا يحتفظون بموهبة الروح القدس بوضع أيديهم على المعمدين من سواهم ( 8 : 14 ـ 18 )؛ وكانوا قادة توزيع التبرعات من أملاك المسيحيين ( 4 : 35 ). وقد أسس الرسل، لمشاركتهم في مسؤولية قيادة الجماعة المسيحية أولاً مؤسسة الشمامسة للشؤون المادية ( 6 : 1 ـ 6 )؛ ثم مؤسسة الكهنة الذين ينظرون إلى جانب الرسل ويبتـّون معهم في العقيدة والشريعة (15 : 6). ومجمع الرسل والكهنة ( الذي أفتى باسم الروح القدس، بتحرير المسيحيين من الأمميين، من الختان والشريعة الموسوية ) أكبر مظهر للسلطان القيادي الشرعي القائم في الجماعة المسيحية الأولى : إنهم سلطة قائمة في التعليم والإدارة والتقديس

(( إنجيل الكنيسة )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 203

والقضاء ( حادثة حنانيا وسفيرة ) بشرع إلهي إنجيلي؛ وهذه السلطة مكونة من الرسل وأعوانهم الكهنة : (( فاجتمع الرسل والكهنة لينظروا في الأمر )) ( 15 : 6 )؛ وأفتوا باسم الروح القدس وباسمهم : (( لقد رأى الروح القدس ونحن )) ( 15 : 28 ) تعبير يدل على السلطان المعصوم.

2 ـ كنيسة المسيح وملكوت الله

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن : هل تمثـّل كنيسة الرسل ملكوت الله الذي بشّر به المسيح ؟

قال المرتد رينان في الكنيسة : (( المسيح بشّر بملكوت الله، فجاءَت الكنيسة )) ! وفي ظنه أن الكنيسة غير ملكوت الله الذي بشّر به المسيح.

ونحن نرى في سفر الأعمال، أن الكنيسة التي يؤسسها الرسل، بتأييد الروح القدس، هي ملكوت الله الذي بشّر به يسوع في الإنجيل، والذي ظلّ المسيح بعد قيامته أربعين يوماً يكلم رسله (( في شؤون ملكوت الله )) ( أع 1 : 3 ). وذكْر لوقا هذا في فاتحة سفر الأعمال هو البرهان على أنه يرى ملكوت الله في كنيسة الرسل التي يؤرخ تأسيسها وانتشارها في كتابه.

1) إن التعبير (( ملكوت الله )) ، في صيغته الأرامية، يعني ملك الله ومملكة الله معاً، ملك الله في مملكة الله. وملك الله هو حكمه بدينه : من هذه الناحية، ملكوت الله الموعود الذي يبشر به المسيح والعقيدة المسيحية في الإنجيل. ومملكة الله التي يؤسسها المسيح سيد الملكوت هي جماعة المسيح المؤمنين به : فمن هذه الناحية، جماعة المسيح هي ملكوت الله في مملكة المسيح1.

ــــــــــــــــــ

(1) ملكوت الله الذي يبشر به المسيح في الإنجيل له أيضاً معان متعددة؛ فهو تارة في اليوم الحاضر، وتارة في اليوم الآخر؛ وهو طوراً باطني وطوراً ظاهري؛ حيناً خلقي وحيناً اجتماعي؛ مرة زمني ومرة أبدي. فكل هذه النواحي المتنوعة متكاملة تدل على غنى فكرة الملكوت في الإنجيل. ولكن كل تلك النواحي المتنوعة المتكاملة تؤول إلى المعنيين المذكورين في المتن؛ ملك الله في مملكة المسيح.

204 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

ونرى في سفر الأعمال أن الكنيسة التي يؤسسها الرسل من جماعة المسيح هي ملك الله في مملكة المسيح. وهذا لا يعني أن ملكوت الله ينحصر في جماعة المسيح وكنيسته؛ بل ان كنيسة المسيح التي يؤسسها الرسل وينشرونها في العالم هي التحقيق الأمثل، حسب طاقة المخلوق، لملكوت الله في مملكة المسيح، أي كنيسته.

فالكنيسة الرسولية هي ملكوت الله في مملكة المسيح.

2) وهذه الكنيسة الرسولية تمثل ملكوت الله الذي بشر به المسيح. فالمسيح بشّر بملكوت الله ككيان اجتماعي محدود في الزمان والمكان، مثل مملكة يدخل الناس إليها ( مر 9: 47؛ 10 : 23 ـ 25؛ متى 5 : 20؛ 7 : 21؛ 18 : 3؛ لوقا 18 : 24 ـ 25 )؛ ويشتركون بوليمتها ( مر 14 : 25؛ متى 8 : 11؛ لوقا 13 : 28 ). فمملكة الله مكان فيه جماعة يُطردُ الأشرار من بينهم يوم الدين ( مر 9 : 42 ـ 50 ).

ومما يؤكد أن غاية المسيح تأسيس مملكة روحية ـ لا دعوة فقط ـ هو اتخاذه لقب ابن البشر، واستشهاده بنبؤة دانيال حيث ابن البشر يؤسس مملكة الله على أنقاض ممالك الأرض.

وملكوت الله الذي يؤسسه المسيح (( قائم بين ظهرانيهم )) ( لوقا 17 : 20 ـ 21 ). وهو (( القطيع الصغير الذي ارتضى الله أن يعطيهم الملكوت )) ( لوقا 12 : 32 ). والمسيح يشيد بهذا القطيع الصغير، نواة ملكوت الله : فطوبى لعيونهم لأنها تنظر، ولآذانهم لأنها تسمع ما قد اشتهى كثيرون من الأنبياء والملوك أن ينظروا ويسمعوا، ولم يُعطوا ( متى 13 : 16؛ لوقا 10 : 23 ـ 24 ).

فملكوت الله، في نظر الإنجيل، هو قطيع المسيح الذي ارتضى الله أن

(( إنجيل الكنيسة )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 205

يعطيه الملكوت، وليس فقط كتابة أسمائهم في السماء؛ إنما هو أيضاً تكوينه فيهم وبهم على الأرض.

وهذا الملكوت ـ المملكة، القطيع الصغير، رعيةٌ، المسيح راعيها، الراعي الصالح الذي يبذل نفسه دون رعيته ( يوحنا 10 : 11 ). ويقوم مقام المسيح على هذه الرعية، مملكة المسيح، الرسل الذين أعطاهم سلطانه للحل والربط ( متى 18 : 18 ) وجعل على رأسهم بطرس، صخرة الكنيسة، الذي بيده مفاتيح الملكوت ( متى 16 : 18 )؛ فهم يتمتعون بسلطان المسيح نفسه على رعيته ومملكته.

3) وهذه الصورة الإنجيلية نراها تتحقق في كنيسة الرسل. ففي سفر الأعمال، نرى المسيحيين يؤلفون جماعة خاصة، ضمن الجماعة اليهودية الكبرى؛ وهذه الجماعة تستقل شيئاً فشيئاً في عقيدتها وشريعتها وصوفيتها؛ وتتميز بسلطان رعاتها، الرسل والكهنة أعوانهم (15: 6)؛ ثم تسير سيرتها فتنتشر بدعوتها من العالم الإسرائيلي إلى السوري إلى الإغريقي إلى الروماني؛ من أورشليم إلى إنطاكية إلى كورنثس إلى رومة.

ونرى الرسل، رعاة هذه الجماعة، يتمتعون بسلطان خاص، يميّزهم عن الجماعة ويجعلهم رعاتها وقادتها، لا وحدَهم، بل هم وأعوانهم من شمامسة ( 6 : 1 ـ 6 ) ومن كهنة، شيوخ الجماعة ( 15 : 2 و6 )؛ فنراهم مع الرسل يعقدون مجمعاً يقرر العقيدة والشريعة باسم الروح القدس : (( لقد رأى الروح القدس ونحن )) ( 15 : 23 و28 )؛ فسلطانهم في العقيدة والشريعة على المسيحيين من سلطان الله.

وهذه الجماعة الرسولية، من رعية ورعاة، تمثل في نظر الرسل ملكوت الله في مملكة المسيح. فالرسـل يأخذون من المسيح قبل رفعه آخر التعليمات (( عن شؤون ملكوت الله )) ( أع 1 : 3 )، خصوصاً وصيته الأخيرة : (( لا تبرحوا من

206 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

أورشليم بل انتظروا فيها موعد الآب الذي سمعتموه مني : فإن يوحنا قد عمّد بالماء، أما أنتم فستعمدون بالروح القدس، بعد أيام قليلة )) ( 1 : 4 ـ 5 ). فهذا العماد بالروح القدس هو الإعلان الإلهي من نار ونور لظهور ملكوت الله في مملكة المسيح، بحلول الروح القدس على الرسل والتلاميذ يوم العنصرة ( 2 : 1 ـ 12 ). بهذا التأسيس المعجز لمملكة المسيح في جماعته تمت النبؤة، وتمَّ وعد المسيح، بظهور ملكوت الله من عماد جماعة المسيح في الروح القدس ( 2 : 17 ـ 28 ). بهذا الحدث الإلهي، أجلس الله على عرش داود، من ذريته، يسوع الناصري (( ربّاً ومسيحاً )) ( 2 : 22 و30 و46 ). وبرهان سلطانه الإلهي والملكي هو تنزيله الروح القدس على جماعته : (( ويسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود بذلك! وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود، أفاضه كما تنظرون وتسمعون )) (2 : 32 ).

فالرسل وجماعتهم هم نواة ملكوت في مملكة المسيح، الذي ظهر بقيامته ورفعه إلى المجد الإلهي (( رب العالمين )) في الدنيا، و (( ملك يوم الدين )) في الآخرة (10 : 36 و42). لذلك فالرسل وأعوانهم (( يبشرون بملكوت الله واسم يسوع المسيح )) ( 8 : 12 )؛ وبولس يشهد (( لإنجيل نعمة الله، مبشراً بالملكوت )) ( 20 : 24 ـ 25 )؛ وبوضع أيدي الرسل على المهتدين المعمدين ينزل الروح القدس عليهم ( 8 : 17 ـ 18 ). فالرسل يشعرون أنهم يقيمون ملكوت الله في الكنيسة التي يؤسسونها في العالم : إنها ملكوت الله، باسم يسوع المسيح ( 8 : 12 ).

فسيادة المسيح المطلقة (( رب العالمين )) ( 10 : 36 )؛ وتنزيل الروح القدس على المسيحيين بواسطة الرسل؛ وتمتّع الرسل وأعوانهم الكهنة، شيوخ الجماعة، بسلطان المسيح؛ وحياة الروح القدس في رعية المسيح، وكنيسة الرسل؛ كلها دلائل على شعور الرسل والتلاميذ أنهم ملكوت الله، في مملكة المسيح. وبرهان ذلك دعوتهم وإقامتهم (( ملكوت الله واسم يسوع المسيح )) ( 8 : 12 ).

(( إنجيل الكنيسة )) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 207

فالكنيسة الرسولية، بشهادة سفر الأعمال، هي ملكوت الله في مملكة المسيح. فهي جماعة منظمة، وكنيسة مستقلة قائمة بذاتها في عقيدتها ( 2 : 22؛ 4 : 32 ـ 34 ) وفي أركان دينها من عماد وقربان ( 2 : 38 و41 و42 )، وفي طريقة عبادتها في بيوت خاصة (2 : 46)، وفي شريعتها التي تحرر من الختان ومن الموسوية ( 15 كله )، وفي عالميتها التي تجمع أهل الكتاب إلى الأميين، بالإيمان بالمسيح، في دين واحد، وكيان اجتماعي واحد.

3 ـ كنيسة الرسل لها قيادة قائمة، رئاسيّة

وهي قيادة قائمة، بشرع إلهي، من (( الرسل والكهنة والشيوخ )) ( 15 : 6 و22 ) تتمتع بسلطان المسيح نفسه في التعليم ( 8 : 12 ) وفي التشريع ( 15 : 23 ـ 30 ) وفي القضاء ( 5 : 1 ـ 11 ) وفي التقديس ( 2 : 42 و37 ).

وهي قيادة رئاسية، بشرع إلهي، في بطرس، زعيم الرسل والرعاة والرعية؛ وبشرع رسولي في يعقوب، (( أخي الرب )) أي ابن عمه بحسب لغتنا، أسقف أورشليم، لأنه زعيم آل البيت؛ وقد ترأس مع بطرس (( مجمع الرسل والكهنة )) في أورشليم للبت في تحرير المسيحية من الموسوية، وأفتى بحل وسط للتعايش السلمي بين النصارى اليهود والمسيحيين من الأمميين. وتقوم تجاههما بشرع رسولي والهي زعامة بولس على الكنائس من أصل أُممي. فهذه الظواهر الثلاث تدل على استقلال جماعة المسيح في كنيسة قائمة بذاتها، مع سلطان رعوي خاص، لا يقتصر على الرسل، بل ينتقل منهم إلى أعوانهم (( الكهنة )) ، خلفائهم من بعدهم.

وهذه الكنيسة الرسولية تشعر وتدّعي أنها ملكوت الله في مملكة المسيح، كنيسته التي يؤسسون : (( وكانوا يوطدون نفوس التلاميذ، ويحرضونهم على

208 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 8

الثبات في الإيمان، لأنه بمضايق كثيرة ينبغي لنا أن ندخل ملكوت الله )) أي الكنيسة ( 14 : 22 ).

وسفر الأعمال يفتتح بتعليمات المسيح الأخيرة (( في شؤون ملكوت الله )) ( 1 : 3 ) ونرى الرسل في دعوتهم كلها (( يبشرون بملكوت الله، واسم الرب يسوع المسيح )) (8 : 12). ويختتم بالرسالة المسيحية في رومة، عاصمة الدنيا، حيث نزل بولس (( مبشراً بملكوت الله، ومعلماً ما يختص باسم الرب يسوع المسيح )) ( 28 : 31 ). فهذا الجمع المتواتر بين ملكوت الله، والدعوة باسم الرب يسوع، يجعل ملكوت الله قائماً في كنيسة المسيح.

فسفر الأعمال هو أيضاً (( إنجيل الكنيسة )) .

 

 

 

D F

كنيسة الرسل ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 209

 

بحث تاسع

 

كنيسة الرسل وجماعة (( يسوع الناصري ))

 

إنها شبهة أشاعها المرتد رينان، فتلقفها الناس من بعده، إن كنيسة الرسل التي يؤسسون هي غير ملكوت الله الذي دعا إليه يسوع الناصري في الإنجيل، عندما أطلق كلمته الساخرة : (( بشر يسوع بملكوت الله، فجاءَت الكنيسة )) !

وقد رأينا في بحث سابق، أن سفر الأعمال هو (( إنجيل الكنيسة )) ، وأن هذه الكنيسة الرسولية هي نواة ملكوت الله الذي دعا إليه المسيح.

وفي هذا البحث، نرى، في الشهادة الفريدة التي يقدمها لنا لوقا في كتابه بقسميه الإنجيل والأعمال، أن جماعة يسوع الناصري هي التي صارت بدعوة الرسل وتنظيمهم بحسب تعليمات المسيح (( كنيسة الرسل )) . فلوقا يؤرخ معاً لدعوة المسيح ونشأة المسيحية في كنيسة الرسل.

تأتي الشبهة التي أطلقوها من تعدّد المعاني في التعبير : (( ملكوت الله )) ، فهو تارة باطني، وتارة ظاهري؛ طوراً خُلقي وطوراً اجتماعي؛ مرة زمني لليوم الحاضر، ومرة أبدي لليوم الآخر؛ حيناً عقيدة، وحيناً جماعة. لذلك أيضاً قامت الشبهات في الفرق المسيحية على معنى (( كنيسة المسيح )) وصفاتها التكوينية.

لكن الإنجيل صريح بأن السيد المسيح جسّد دعوته لملكوت الله في جماعة تلاميذه، وعلى رأسهم الاثني عشر رسولاً الذين سلمهم سلطانه المعصوم.

فلم تكن دعوة المسيح لملكوت الله فقط دعوة فلسفية أو نبوية لفكرة شأن الأنبياء والفلاسفة؛ كأن دعوته تنحصر في تعليمه أن الله هو أبونا السماوي.

210 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 9

ولم تكن فقط دعوة روحية يؤمن بها كل إنسان ويحياها في ذاته، من دون سائر جماعة المسيح.

ولم تكن فقط دعوة أخلاقية تقوم على (( الحكمة والموعظة الحسنة )) للمثل العليا والأخلاق الكريمة.

إنما كانت دعوة المسيح عقيدة وشريعة وصوفية ونظام حياة في جماعة وضع بنفسه قواعد تنظيمها لسلوك أفرادها وسلطان قادتها : فملكوت الله يقوم في مملكة المسيح التي يسميها (( كنيستي )) بحسب متى ( 16 : 18؛ 18 : 17 ) و (( القطيع الصغير )) بحسب لوقا: (( لا تخف أيها القطيع الصغير فقد رضي أبوكم أن يعطيكم الملكوت )) ( لوقا 12 : 32 ). وهذه الآية برهان قاطع على أن ملكوت الله، في نظر المسيح، هو جماعة.

وعند لوقـا نرى هذه الجماعة تتألف من ثلاث طبقات : طبقة التلاميذ، وطبقة الدعاة، (( الاثنين والسبعين تلميذاً ( الذين ) أرسلهم اثنين اثنين، أمام وجهه، إلى كل مدينة وكل موضع كان مزمعاً أن يقدم إليه. وكان يقول لهم : ... اشفوا المرضى الذين فيها؛ وقولوا لهم : قد اقترب منكم ملكوت الله )) ( لوقا 10 : 1 ـ 2 و9 ). وهؤلاء الدعاة يسميهم بولس (( رسلاً )) إلى جانب (( الاثني عشر )) الذين ظهر لهم المسيح بعد قيامته ( 1 كور 15 : 1 ـ 7 ). أخيراً طبقة (( الاثني عشر )) الذين، بعد صلاة ليل بكامله، (( لما كان النهار، دعا تلاميذه واختار منهم اثني عشر، وسماهم رسلاً )) على التخصيص ( لوقا 6 : 12 ـ 16 ).

هؤلاء الرسل الاثني عشر كانوا صحابته في رسالته : (( وبعدئذٍ أخذ يجول في المدن والقرى يدعو ويبشر بملكوت الله، وكان معه الاثنا عشر )) ( لوقا 8 : 1 ). ولما أخذ يسوع يفسّر بالأمثـال للشعب معاني ملكـوت الله، كان في الخلوة يشرح بالتصريح والتفصيـل لهم (( أسرار ملكوت الله )) ( لوقا 8 : 10 ). ولما

كنيسة الرسل ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 211

أرسلهم في بعثة تدريبية ميّز سلطانهم عن صلاحيات الدعاة الاثنين والسبعين : (( ودعا يسوع الاثني عشر، وقلدهم قدرة وسلطاناً )) على الشيطان والإنسان، (( ثم أرسلهم ليبشروا بملكوت الله )) ( لوقا 9 : 1 ـ 2 ). وقلدهم سلطان القضاء بين أخوتهم : (( الحق أقول لكم : إن كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء )) ( متى 18 : 18 ). فهو سلطان حقيقي معصوم، يكون مفعوله على الأرض وفي السماء. ولم ينل بشر على الإطلاق مثل هذا السلطان الإلهي المطلق.

وقد ميَّز بطرس في هذا السلطان الإلهي المطلق المعصوم؛ فما أعطاه الاثني عشر أعطاه بنوع مخصوص لبطرس بصفته صخرة الكنيسة، وبصفته سيدها الذي بيده مفاتيحها : (( وأنا أقول لك : أنت صخر، وعلى هذا الصخر أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تصمد أمامها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات : فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات )) ( متى 16 : 18 ـ 19 ). فهو زعيم الرسل بسلطان حقيقي معصوم؛ وبصفته الصخر الذي يحمل الكنيسة، وبصفته السيد الذي بيده مفاتيح الملكوت، وبصفته حامل ملء السلطان في الحل والربط، على الأرض كما في السماء. أجل، لم تر البشرية في أنواع السلطان في الدين والدنيا مثل هذا السلطان الذي يمنحه المسيح لزعيم رسله : إنه سلطان المسيح نفسه.

وهذا السلطان المزدوج في الرسل وبطرس هو سلطان المسيح على كنيسة المسيح؛ وهو وحدة جامعة مانعة، شاملة كاملة، في سلطان جماعي رئاسي ـ لا تفسير لقول المسيح إلاَّ هذا التفسير.

فتلاميذ المسيح جماعة منظمة تنظيماً هرميّاً. وليسوا جماعة فوضى لا قيادة لهم، لا يجمعهم إلا الإيمان بالمسيح. فمع الإيمان، أقام المسيح سلطاناً معصوماً لحفظ هذا الإيمان، وقيادة أهل الإيمان.

212 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 9

فملكوت الله الذي يدعو إليه المسيح كيان اجتماعي أيضاً له إيمان، وفيه سلطان : سلطان المسيح للإيمان بالمسيح.

وهذا ما نراه يتمثل أمامنا بنشأة المسيحية، في سفر الأعمال.

 

نرى جمهور التلاميذ الذين يهتدون إلى الإيمان بالمسيح، من ثلاثة آلاف (أع 2 : 41) إلى (( خمسة آلاف )) ( أع 4 : 4 ) : (( وكان الرب يزيد كل يوم في عدد المخلَّصين )) ( أع 2 : 47 )، (( وكانت الكنيسة في كل اليهودية والجليل والسامرة تُبنى في سلام، وتسلك في خشية الرب، وتزداد نمواً بتأييد الروح القدس )) ( أع 9 : 31 ). (( وكان جمهور المؤمنين قلباً واحداً ونفساً واحدة )) ( أع 4 : 32 ).

ونرى الرسل يقودون الكنيسة بالدعوة والتنظيم.

فالتنظيم الأول كان إقامة شمامسة من بني إسرائيل ومن الأمميين لمساعدة الرسل في الخدمة والدعوة ( 6 : 1 ـ 6 ). ويعطينا عنهم مثلاً رائعاً في مشاركة الرسل في الدعوة بمثل اسطفان أول الشهداء للمسيح ( 6 : 8 ـ 7 : 60 )؛ وبمثل فيلبس في فتح السامرة للإنجيل ( 8 : 4 ـ 8 ) وفي بعثة الإيمان مع قيّم ملكة الحبشة ( 8 : 26 ـ 39 )؛ وفي رسالته على الساحل الفلسطيني حتى استقر بقيصرية ( 8 : 40 ).

ونرى كيف يميّز الرسل بين الدعـاة للمسيحية وبين قادتها في رسالة برنابا وبولس (( بوضع الأيدي عليهما )) للتخصص في إنشاء الكنائس في العالم الإغريقي ( أع 13 : 1 ـ 3 ). فقد كان بولس (( إنجيليّاً )) يدعو إلى الإنجيل مع برنابا ( أع 11 : 25 ـ 26 ) ثم صار أسقفاً رسولاً ( 13 : 1 ـ 3 ) ينشئ الكنائس ويرسم (( لها كهنة في كل كنيسة )) بعد الصلاة والصوم ( 14 : 23 ).

كنيسة الرسل ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 213

والمثل الأعلى للتنظيم الكنسي في الجماعة المسيحية الأولى نراه في مجمع الرسل بأورشليم، عام 49، الذي يُفتي في العقيدة والشريعة والنظام للمسيحيين من أهل الكتاب ومن الأمميين. وذلك (( باجتماع الرسل والكهنة لينظروا في الأمر )) ( 15 : 6 ). وبعد المناقشة والتداول وإجماع الرأي أطلقوا الفتيا المعصومة : (( لقد رأى الروح القدس ونحن ... )) (15 : 28).

وسفر الأعمال يفتتح بذكر ملكوت الله والكنيسة ( أع 1 : 1 ـ 3 )، ويختتم بدعوة بولس (( بملكوت الله وتعليم ما يختص بالرب يسوع المسيح )) ( أع 28 : 31 ).

فملكوت الله عقيدة وكنيسة منظمة في الرب يسوع المسيح. وجماعة المسيح المنظمة في الإنجيل ثلاث مراتب : التلاميذ ثم الدعاة ثم القادة بسلطان معصوم تحت زعامة بطرس؛ هذه هي كنيسة الرسل المنظمة في سفر الأعمال : تلاميذ ثم دعاة كالشمامسة وبرنابا وبولس1 قبل وضع الأيدي عليهما، ثم قادة الجماعة (( من الرسل والكهنة )) بسلطان معصوم في إجماعهم. لقد أصبحت بذرة المسيح مع الرسل شجرة، إنما هذه الشجرة من تلك البذرة.

فكنيسة الرسل هي نفسها جماعة المسيح.

 

 

^

ــــــــــــــــــ

(1) بولس قبل تمييزه للرسالة كان من (( الإنجيليين )) ومن (( الأنبياء )) في الدعوة ( أع 13 : 1 ـ 3 ). وبعد إعلان اصطفائه للرسالة أصبح (( رسولاً )) مثل الاثني عشر، بسبب رؤية المسيح في قيامته.

214 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

 

بحث عاشر

 

السلطة الدينية في كنيسة الرسل

 

في بحث سابق ( إنجيل الكنيسة ) رأينا الواقع التاريخي الذي يتضح من حياة كنيسة الرسل، أن جماعة المسيحيين تظهر (( كنيسة )) منظمة تحت قيادة شرعية قائمة، وهي السلطة الدينية فيها.

فلا يظهر الرسل فيها شهوداً للمسيحية فقط ( 2 : 8 )، بل قادة يقودونها بسلطان شامل كامل.

وسفر الأعمال يسمّي الجماعة المسيحية : (( كنيسة )) ، كما كان إسرائيل القديم يُسمي (( كنيست )) . ووحدة التعبير تدل على وحدة البناء من شعب مؤمن، وسلطان ديني يقوده في إيمانه، وأن الإيمان بحد ذاته صلة شخصية بين المؤمن وربه؛ لكن المظهر الاجتماعي للإيمان والدين يفرض بذاته نظام الجماعة. يقول : (( وأما الكنيسة في كل اليهودية والجليل والسامرة فكانت في سلام؛ تُبنى وتسلك في خشية الرب؛ وتزداد نمواً بتأييد الروح القدس )) (9 : 31). وقد يقدم اسم (( الكنيسة )) على اسم قادتها : (( ولما انتهوا إلى أورشليم قبلتهم الكنيسة والرسل والكهنة )) ( 15 : 4 ). وقد يُظهر الكنيسة كلها تشترك في التنظيم مع القادة : (( حينئذ رأى الرسل والكهنة، مع الكنيسة كلها ... )) ( 15 : 22 ). ونرى حيناً أن صفة الجماعة في هذه الكنيسة تتقدم على الأفراد البارزين، فإن برنابا وبولس (( قُبلا في الكنيسة سنة كاملة )) ( 11 : 26 ). ونرى

السلطة الدينية ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 215

حيناً آخر أن القادة هم أيضاً من الكنيسة : (( وفي ذلك الزمان ألقى هيرود الملك الأيدي على قوم من الكنيسة ليسيء إليهم، وقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف. وإِذ رأى أن ذلك يرضي اليهود، قبض على بطرس أيضاً )) ( 12 : 1 ـ 3 ). وفي العالم الهلنستي كانت الجماعات المسيحية أيضاً كنائس : (( فطاف في سورية وكيليكية يثبّت الكنائس )) ( 15 : 41 ). وهكذا فالاسم المتواتر جملةً (( الكنيسة )) ، وتفصيلاً (( الكنائس )) ، برهان يشهد بأن أتباع المسيح كانوا جماعة منظمة تحت قيادة شرعية ذات سلطان شرعي عليها.

وهذا السلطان الشرعي كان محصوراً في الرسل، وفي الذين أشركوهم معهم فيه من الكهنة والأساقفة، بدون تفريق بين اللقبين ( 20 : 17 و28 ). وبرنابا وبولس نفسه اللذين تزعما الدعوة في إنطاكية كإِنجيليين بتفويض من الرسل ( 11 : 22 ـ 25 )، لم يباشرا الرسالة إلا بعد سيامتهما الأسقفية : (( فصاموا وصلوا ووضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما )) (13 : 3). فكانت بعثتهم باسم الروح القدس لكن بواسطة السلطة الشرعية : (( وان هذين، إذ أرسلهما الروح القدس ... )) ( 13 : 4 ). فأسسا الكنائس ورسما لها كهنة وأساقفة يرعونها : (( بعث ( بولس ) إلى أفسس فاستدعى كهنة الكنيسة )) ؛ وقال لهم : (( احذروا لأنفسك ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساقفة لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه الخاص )) (20 : 17 و28).

فكنيسة الله رعية ورعاة. هذا هو الواقع التاريخي في كنيسة الرسل.

وسلطان الرسل والكهنة الأساقفة ليس خدمة انتدبوا أنفسهم لها؛ إنما هو سلطان خاص ينالونه من الروح القدس نفسه، بوضع أيدي الرسل وخلفائهم، (( ليرعوا كنيسة الله )) .

وهو سلطان في التعليم : (( وكانوا مواظبين على تعليم الرسل )) ( 2 : 42 ). وهذا السلطان في التعليم يشمل تحديد العقيدة، كما ظهر من مجمع أورشليم في

216 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

تحرير المسيحية من الموسوية في خطاب بطرس ( 15 : 6 ـ 12 ). وسلطان في التشريع، كما يظهر من الرسالة الرسولية في التعايش السلمي بين الفريقين من المؤمنين ( 15 : 23 ـ 29 ). وسلطان في القضاء، كما يظهر من حادثة حنانيا وسفيرة ( ف 5 ). وسلطان في الإدارة، كما يظهر من مؤسسة الشمامسة ( 6 : 1 ـ 6 ).

وهذا السلطان الشامل الكامل يسميه (( رعاية كنيسة الله )) ( 20 : 28 )؛ وهذه الرعاية مصدرها الروح القدس، بواسطة اختيار ذوي السلطة ووضع الأيدي (13 : 4؛ 20 : 28)؛ وسلطانها يُمارس باسم الروح القدس، لا باسم الرعية: (( لقد رأى الروح القدس ونحن )) ( 15 : 28 )؛ فهذا السلطان ليس خدمة، ولا وظيفة، ولا نيابة عن الشعب المسيحي؛ بل مشاركة المسيح في سلطانه على المؤمنين به، كما قال المسيح نفسه : (( لقد أوتيت كل سلطان في السماء وعلى الأرض )) (متى 28 : 18)، (( كما أن الآب أرسلني، كذلك أرسلكم )) ( يوحنا 20 : 21 ).

 

والمسألة الآن : كيف كان يُمارس هذا السلطان في كنيسة الرسل ؟

إِن القرار الخطير الأول كان في تحرير المسيحية عن الشريعة الموسوية. قامت ضجة من النصارى اليهود، بدافع من الفريسيين المتنصرين، على تعليم بولس بتحرير المسيحية من الشريعة الموسوية. فاحتكم الجميع إلى (( الرسل والكهنة في أورشليم )) ( 15 : 2 ). (( فاجتمع الرسل والكهنة لينظروا في هذا الأمر. وإذ جرت مباحثه عظيمة قام بطرس وقال لهم ... )) (15 : 6 ـ 11). فاسـتند بطرس إلى سلطته الرسـولية (( ليسمع الأمم من فمي كلمة الإنجيل )) ، وإلى تدخل الروح القدس نفسه في هداية أول وثني، ونزول الروح القدس عليه وعلى جماعته، كما نزل على الرسل أنفسهم، لكي يشرع تحرير المسيحيين من

السلطة الدينية ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 217

الشريعة الموسوية. وبعد خطاب بطرس، وتشريعه، (( سكت الجمهور كله )) ( 15 : 12 ) ثم قام يعقوب، زعيم آل البيت الذي يعتمد عليه النصارى اليهود المعارضين، فأيّد تشريع بطرس، زعيم الرسل : (( فلذلك أرى أنا أن لا يُثقـّل على من يرجع إلى الله من الأمم )) (15 : 19). هذا هو الواقع. ويتضح منه أولاً إن النظر في العقيدة والشريعة من اختصاص (( الرسل والكهنة )) ؛ ثانياً إن الذي حسم الأمر بسلطانه وشهادته كان بطرس زعيم الرسل، ولمـا نطق (( سكت الجمهور كله )) ؛ ثالثاً إن يعقوب زعيم آل البيت، الذي عليه يعتمد النصارى من الفريسيّين الذين يريدون تهويد المسيحية، ما كان منه إلاَّ الموافقة على فتوى بطرس ( 15 : 19 )؛ والحل العملي للتعايش السلمي الذي قدمه يعقوب في هذا الظرف (أع 15 : 20 و29) أو بالحري في غيره ( أع 21 : 25 )1 إنما كان تثبيتاً لفتوى بطرس، مع استثناء بعض المحرمات، في المجتمعات المختلطة للتعايش السلمي؛ ورابعاً إن الفتوى العملية إنما كانت بسلطان الروح القدس والرسل ( 15 : 28 ). وهذا يدل دلالة قطعية على أن سلطان (( الرسل والكهنة )) واحد، وإنه من سلطان المسيح نفسه؛ وعلى أن السلطان في الكنيسة، كما نصفه في لغة العصر، سلطان جُماعي رئاسي، تمارسه جماعة (( الرسل والكهنة )) ، تحت إشراف بطرس الذي له القول الفصل.

 

ورأى بعضهم في كنيسة الرسل عكس هذه الرؤيا الصادقة. فقالوا : إن السلطة في كنيسة الرسل كانت لكنيسة أورشليم، وعلى رأسها يعقوب (( أخو الرب )) ؛ لذلك فقد كان يعقوب الرئيس الأعلى، لا بطرس؛ وكان بولس بعد كل رحلة من رحلاته الرسولية يحضر إلى أورشليم ليقدم تقريراً للكنيسة فيها.

ــــــــــــــــــ

(1) في زيارة بولس الأخيرة لأورشليم حيث جرى توقيفه، يعرف من يعقوب خبر رسالة أورشليم إلى إنطاكية ( أع 21 : 25 ).

218 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

نجزم إنها شبهات مختلفة لا يؤيدها واقع سفر الأعمال.

الواقع الأول إن الرسل صحابة المسيح كانوا مرسلين إلى العالم أجمع ( مرقس 16 : 15؛ متى 28 : 19 ؛ فلم يتقيّدوا بمكان أو كرسي، كما هو حال يعقوب، زعيم آل البيت، الذي لم يكن من الرسل الاثني عشر.

الواقع الثاني إن كنيسة الرسل اقتصرت في بدء الدعوة المسيحية على كنيسة أورشليم التي يرئسها يعقوب. لذلك ظهرت سلطة يعقوب تجاه سلطة بطرس. وهناك اعتبار آخر: في الأوساط اليهودية القومية كان لآل البيت وزعيهم يعقوب اعتبار يساوي الرسل الاثني عشر وزعيمهم بطرس. وهذا الاعتبار القومي في مهد المسيحية، أورشليم، قد يُلقي شبهة في تعادل السلطان بين بطرس ويعقوب. لكن الواقع يرفع هذه الشبهة ويدفعها، فبطرس هو الذي يقبل، بوحي إلهي خاص، أول وثني في المسيحية، دون المرور باليهودية كما كانت تطلب جماعة يعقوب ( ف 10 كله ). وبطرس هو الذي، بعد (( مباحثة عظيمة )) بين الرسل والكهنة في شأن تحرير المسيحية من الشريعة الموسوية، فرض التحرير، (( فسكت الجمهور كله )) ( أع 15 : 12 ) وأذعن يعقوب زعيم المعارضة ( أع 15 : 19 ). وما كان لمعارضته أن تستقيم لأنه ليس من الرسل الاثني عشر المسؤولين عن الإيمان المسيحي.

الواقع الثالث في ظهور سلطان بطرس غير المنازع، بمجمع أورشليم، على الكنيسة جميعها، وعلى الرسل والكهنة، وعلى يعقوب وبولس. هو الذي حسم (( المباحثة العظيمة )) ؛ وبعد تحديد العقيدة والشريعة باسم سلطانه الخاص الذي ناله من المسيح ولم يعترض عليه أحد : (( أيها الإخوة، أنكم تعلمون أن الله، من الأيام الأولى، قد اختارني من بينكم ليسمع الأمم من فمي دعوة الإنجيل ويؤمنوا )) ( أع 15 : 7 ) ـ (( سكت الجمهور كله )) ( 15 : 12 ). وما الرسالة الرسولية ( 15 : 23 ـ 29 )، التي هي من وحي يعقوب، سوى حلّ عملي

السلطة الدينية ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 219

للتعايش السلمي في الأوساط الكنسية المختلطة، وهو محدود الفَعالية بكنائس (( إنطاكية وسورية وكيليكية )) ( أع 15 : 23 )، لا يتعداها إلى الكنائس الإغريقية التي أسسها بولس. ونرى بولس نفسه، زعيم التحرير، يعمل العمل نفسه في رسالته إلى الرومانيين. فليس في عمل يعقوب أو بولس أي انتقاص من سلطان بطرس ومن شرعته تحرير المسيحية من الموسوية. وليس في تردّد بطرس العملي والسياسي في تجنبه مخالطة المسيحيين من الأمميين في إنطاكية، ومعاتبة بولس له وجهاً لوجه، أيُّ شبهة على سلطان بطرس في تحديد العقيدة والشريعة ( غلا 2 : 11 ـ 14 ). فقد رأى بولس، وهو أخبر من بطرس بالبيئة الهلنستية، خطراً في مسايرة بطرس عملياً لجماعة يعقوب، وهو أخبر من بطرس بالبيئة الهلنستية، خطراً في مسايرة بطرس عمليّاً يعقوب، فلامه علناً أمام كنيسة إنطاكية؛ وهذه الملامة لا تنقص شيئاً من سلطة بطرس. فالسلوك الذي يتعارض مع المبدإِ لا ينقص من قيمة المبدإ. وقد يقبل الرئيس النصح واللوم من أخيه المخلص، كما فعل بطرس.

الواقع الرابع، إن سلطان كنيسة أورشليم لم يمتد أبعد من الكنائس التي أسسها مبعوثوها. وهذا ظاهر في الرسالة الرسولية (( إلى الأخوة الذين من الأمم في إنطاكية وسورية وكيليكية )) ( أع 15 : 23 ). لذلك لم يتقيد به بولس ولم يذكره في كنائسه الإغريقية.

الواقع الخامس : لمَّا انتشر الرسل في العالم للدعوة المسيحية، بالحرية التي نادى بها بولس، وقرّرها بطرس في مجمع أورشليم، اقتصرت أورشليم على سلطتها المحلية بزعامة يعقوب؛ وظهر أن نفوذها الأول كان عائداً إلى وجود الرسل فيها، لا إلى زعامة آل البيت، وعلى رأسهم يعقوب؛ واستقرت على وضعها ككنيسة محلية لا سلطة لها على غيرها. هذا ما يظهر من سفر الأعمال ومن تاريخ الكنيسة نفسه. فالشبهات التي قامت على حقيقة سلطة أورشليم مردّها كلها إلى وجود الرسل فيها وعلى رأسهم بطرس الزعيم. فلو كان لكنيسة

220 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

أورشليم سلطة على بطرس وبولس، لظلت كنائس اليونان والرومان خاضعة لأورشليم، لا مستقلة عنها.

الواقع السادس : لم تكن كنيسة أورشليم هي التي أرسلت بولس وبرنابا في فتوحاتهما للمسيح، بل كنيسة إنطاكية؛ باصطفاء خاص من الروح القدس لهما : (( وفيما كانوا ( في الكنيسة التي بإنطاكية ) يقيمون ليترجيا الرب، وهم صائمون، قال الروح القدس : (( افرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي ندبتهما إليه )) . فصاموا وصلوا ووضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما )) ( أع 13 : 1 ـ 3 ). وما كانت زيارات بولس لأورشليم ولإنطاكية لتقديم تقرير مفروض بعد جولاته الرسولية، بل لإطلاع (( الرسل والكهنة )) فيهما على نشر الدعوة. وبولس صريح في ذلك. فهو بعد هدايته أي (( بعد ثلاث سنوات صعدت إلى أورشليم لأزور كيفا ( بطرس ). وأقمت عنده خمسة عشر يوماً. ولم أر غيره من الرسل، ما عدا يعقوب أخي الرب )) ( غلا 1 : 18 ). وأسلوب التعبير يوحي بأن زيارة الولاء كانت لبطرس؛ وما زيارة يعقوب سوى مجاملة عابرة بما أنه الرئيس المحلي. وفي مجمع أورشليم عام 49 لحل مشكل تحرير المسيحية من الموسوية، صعد بولس إلى كنيسة أورشليم لحضور المجمع العام. وبدأ بمفاوضة الوجوه والأعمدة على حدة ( غلا 2 : 2 ) ليكسب تأييدهم للقضية، لأنها تتوقف على فتواهم. ونرى من سفر الأعمال أنه نجح فكسب التأييد المطلق ( أع 15 : 1 ـ 19 ) . وبولس، في تسمية الأعمدة (( يعقوب وكيفا ويوحنا )) ( غلا 2 : 9 ) يقدّم بالذكر يعقوب لأنه كان زعيم المعارضة وكسبه قبل الجميع يشل المعارضة، لا لأنه الزعيم المقدم على بطرس ويوحنا الرسولين، وهو لم يكن رسولاً من الاثني عشر. والاشتباه بزعامة يعقوب، في كنيسة الرسل، هو نقض لتأسيس المسيح كنيسته على الاثني عشر. فمفاوضة بولس ليعقوب زعيم المعارضة التي تتستّر به، قبل الجميع، لا تدل على سلطانه على الجميع؛ كما أن مقاومة بولس لبطرس في إنطاكية

السلطة الدينية ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 221

لا تدل على انتقاص بولس لسلطان بطرس على الكنيسة جمعاء. إنها أحداث، لا مبادئ ولا عقائد، ولا تشريع.

وبعد رحلة بولس الأولى مع برنابا، رجعا إلى إنطاكية؛ (( ولمَّا قدما وجمعا الكنيسة أخبر بكل ما صنع الله معهما، وإنه فتح للأمم باب الإيمان )) ( أع 14 : 27 ). فلم تجتمع الكنيسة الإنطاكية لتطلب منهما تقريراً عن رحلتهما؛ إنما هما اللذان (( جمعا الكنيسة )) ليخبراها بعمل الرب على أيديهما. وبعد رحلة بولس الثانية، (( غادر أفسس ونزل إلى قيصرية ( فلسطين )، وصعد فسلّم على الكنيسة، ثم انحدر إلى إنطاكية حيث قضى مدة )) ( أع 18 : 21 ـ 23 ). وقوله : (( صعد فسلم على الكنيسة )) قد يعني كنيسة أورشليم؛ وهو قد صعد إليها للسلام، لا للكلام. وبعد الرحلة الثالثة، (( لمَّا قدمنا إلى أورشليم، قبلنا الإخوة بفرح. وفي الغد دخل بولس معنا على يعقوب، حيث اجتمع الكهنة كلهم. فسلَّم عليهم، ثم قصَّ بالتفصيل ما صنع الله بين الأمم بخدمته. فلمَّا سمعوا مجّدوا الله )) ( أع 21 : 17 ـ 20 ). فاجتماع الكهنة مع يعقوب وحدهم، دون ذكر للرسل، يشير إلى أن الرسل كانوا قد غادروا أورشليم إلى أطراف الدنيا. وهنا يجتمع مجلس كنيسة أورشليم برئاسة يعقوب لسماع بولس. فيدخل بولس عليهم (( للسلام )) ورواية أخباره، لا لتقديم تقريره. ثم انصاع لرأيهم بالحج إلى الهيكل وإقامة نذر فيه، ليُظهر لليهود أنه ليس عدو الشريعة ولا عدو الهيكل ( أع 21 : 20 ـ 26 ). حينئذٍ جرى توقيفه وأسره. وفي هذه الزيارة لأورشليم عرف بولس من يعقوب والأخوة أمر الرسالة التي كتبتها كنيسة أورشليم (( إلى الإخوة الذين من الأمم في إنطاكية وسورية وكيليكية )) ( أع 21 : 25 قابل 15 : 23 ـ 29 ). فهي إذن ليست من مجمع (( الرسل والكهنة )) ، بل من مجمع الكهنة برئاسة يعقوب، ولو أضافها لوقا إلى أعمال مجمع الرسل، بحسب أسلوبه في جمع الأحداث حول الموضوع الواحد، كما جمع في الإنجيل زيارات يسوع للناصرة في واحدة ( لوقا 4 : 14 ـ 30 ).

222 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

فزيارات بولس لأورشليم زمالة ومجاملة، وضرب للمعارضة له في مركزها، لا اعترافاً منه بسلطة أورشليم ويعقوب عليه. فبولس لم يكن يعترف بالسلطة عليه إلا لبطرس، كما يظهر من زيارة بولس له والإقامة عنده خمسة عشر يوماً بعد هدايته.

 

زعامة بطرس على الكنيسة جمعاء، في حفظ الإيمان المسيحي وقيادة الدعوة المسيحية، ظاهرة كبرى في ( أعمال الرسل ). فالأحداث والأعمال والأقوال ناطقة.

في الفترة الأولى ( أع 1 ـ 12 ) حيث كانت كنيسة الرسل وكنيسة أورشليم واحدة في الواقع، نرى بطرس يشير بانتخاب أحد الصحابة لتكميل العدد الرمزي الذي كرّسه المسيح للاثني عشر ( 1 : 15 ـ 26 )؛ ويخطب، في عيد العنصرة، ويعلن باسم الرسل البلاغ المسيحي الأول ( 2 : 14 )، والمؤمنون يسألون (( بطرس وسائر الرسل )) عمَّا يجب عمله (2: 37)؛ وبطرس يتقدم الرسل في صنع المعجزات لتأييد الدعوة ( 3 : 1 )؛ والسنهدرين يوقف بطرس ويوحنا، فيذيع بطرس عليهم بلاغ الدعوة باسم الرسل كلهم : (( فقال لهم بطرس، وهو ممتلئ من الروح القدس ... )) ( 4 : 8 ـ 12 )؛ وبطرس يمثل القضاء الأعلى في الجماعة، بحادث حنانيا وسفيرة ( 5 : 1 ـ 11 )؛ وبطرس يذيع البلاغ الثاني على السنهدرين لمَّا قبضوا على الرسل كلهم، وباسم الرسل كلهم : (( أجاب بطرس والرسل ... )) (5 : 9)؛ وبطرس ينفرد في قبول الوثني الأول في المسيحية ( 10 كله )؛ وبطرس يتفقّد كنائس الساحل وحده، كالرئيس الأعلى ( 9 : 32 ـ 42 ).

أجل، لا يعمل بطرس وحده، بل نجد إلى جنبه يوحنا، لكنه هو القائد،

السلطة الدينية ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 223

فهو لا يؤسس الشمامسة وحده، بل مع الاثني عشر ( 6 : 2 ) لكنه هو المتقدم. أجل، (( لما سمع الرسل الذين في أورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا )) (8 : 14)، لكن هذا التعبير نفهمه من موقف بطرس وسائر الرسل أمام السنهدرين : إن بطرس هـو قـائد الحركة والممثل الرسمي لجميع الرسل. إن بطرس يعلن في مجمع الرسل (( إن الله، من الأيام الأولى، اختارني من بينكم ليسمع الأمم من فمي كلمة الإنجيل )) ( 15 : 7)، لذلك فهو الذي يتزعم رسالة السامرة، بصحبة يوحنا؛ وهو الذي يتزعم رسالة الساحل كله، وهو الذي يقبل الوثني الأول وحده. فكلها أحداث يوضح بعضها بعضاً. وإذا ما اضطر لتبرير قبوله الوثني كرنيليوس أمام جماعة أورشليم، فما ذلك لسلطتهم عليه، بل من باب الإيضاح والشورى، لا من باب المحاسبة والسلطة ( أع 11 : 1 ـ 18 ). ولا ذكر ليعقوب بهذه المناسبة. وقد كان أمرهم شورى بينهم، مع اعتراف (( الرسل والكهنة )) بحق بطرس في تحديد العقيدة والشريعة، كما يظهر من مجمع الرسل والكهنة لتحرير المسيحية من الموسوية.

وعندما خرج بطرس من سجن هيرود انتيبا ( أع 12 : 1 ـ 17 ) قصد إلى (( بيت مريم أم يوحنا الملقب مرقس )) حيث كانت تجتمع الكنيسة للصلاة : (( فأشار إليهم بيده أن اسكتوا، وأخبرهم كيف أخرجه الرب من السجن. وقال : اخبروا يعقوب والإخوة بهذا. ثم خرج ومضى إلى موضع آخر )) ( 12 : 17 ). فرأى بعض في ذلك تنازل بطرس عن القيادة ليعقوب، والسفر باسم جماعة أورشليم للرسالة لدى يهود الشتات ( غلا 2 : 7 ـ 8 ). إن إِخبار يعقوب والإخوة برحيله ومكان رسالته هو من باب العلم والخبر، لا من باب الاستئذان والانتماء؛ فلا شيء يدل على ذلك في النص. وقد سكت لوقا، في هذا التقرير الذي يرفعه بشكل تاريخ، إلى قيصر والدولة الرومانية، عن التصريح بمكان نشاط بطرس، للتستير عليه من غضب الدولة واليهود، وكان حينئذٍ مع بولس في رومة. ولا نرى في السفر كله أثراً لسلطان كنيسة أورشليم

224 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

على اليونان أو على الرومان حيث قام بولس وبطرس بنشر المسيحية. وليس من ضير على سلطان بطرس في تخاذله بإنطاكية، أمام وفد (( من عند يعقوب. فقد كان يأكل مع الأميين، ولمَّا قدموا أخذ ينسلّ ويتنحّى خوفاً من أهل الختان؛ وتظاهر معه سائر اليهود أيضاً، بل برنابا نفسه أنجرَّ لتظاهرهم. فلما رأيت أنهم لا يسيرون على الصراط المستقيم بحسب حقيقة الإنجيل، قلت لكيفا أمام الجميع : إِن كنت أنت اليهودي تعيش عيشة الأميين لا عيشة اليهود، فلِمَ تلزم الأميين أن يتهوّدوا ؟ وقاومته وجهاً لوجه )) ( غلا 2 : 11 ـ 14 ). كان ذلك صراعاً في سبيل العقيدة وحرية المسيحية، لا دخل فيه لميزة السلطة بعد تحرير العقيدة المسيحية في مجمع أورشليم ( غلا 2 : 1 ـ 10 ). ولا ننكر تسلط آل البيت المقيمين في أورشليم، مع سلطة الرسل الشرعية، على الجماعة المسيحية الأولى في مهدها. والعقلية الشرقية، في تلك البيئة، تفسّر مراعاة جانب آل البيت، مع الخضوع لسلطان الرسل. وموقف بطرس العقائدي في أورشليم ( أع 15 : 1 ـ 20 ) لا يتعارض مع موقفه العملي الإداري للتعايش السلمي في إنطاكية ( غلا 2 : 11 ـ 14 ). فكل رئيس فطن يحاول ترضية الأطراف المتعارضة للحفاظ على التعايش السلمي بين فئات جماعته؛ ولا يكون ذلك على حساب العقيدة، كما يظهر من انصياع بطرس لبولس بعد تردّده ومسايرة جانب آل البيت. وقد صحت فراسة بولس بعد الحرب السبعينية وانعزال آل البيت مع اليهود النصارى على أنفسهم، على هامش المسيحية العالمية. فلم يتردّد بطرس في الموقف العَقدي، وإن تردد في الموقف العملي. وليست مسايرة بطرس (( لوفد من عند يعقوب )) ( غلا 2 : 12 ) دليلاً، كما يتوهمون، على سلطان كنيسة أورشليم على بطرس ـ وهذا يظهر من استقلال بولس نفسه ـ ولا دليلاً على استقلال يعقوب وكنيسة أورشليم عن بطرس. فالشورى والمسايرة لا تتعارضان مع الاعتراف بالتقدم.

ويرى بعضهم في مقاومة بولس لبطرس بإنطاكية، وجهاً لوجه، أمام

السلطة الدينية ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 225

الكنيسة كلها، برهاناً على عدم اعتراف بولس بسلطة بطرس عليه وعلى الكنيسة جمعاء ( غلا 2 : 1 ـ 11 ). وهذا تفسير خاطئ لدفاع بولس عن حقه بالرسالة المسيحية، مثل بطرس وسائر الوجوه والأعمدة. فموقف بولس هو موقف دفاع عن حقه في الرسالة، لا موقف تحديد السلطة : (( أيها الإخوة، إني أعلن لكم أن الإنجيل الذي بشّرتكم به، ليس هو من بشر، لأني لم أتسلمه ولا تعلمته من إنسان، بل بوحي يسوع المسيح )) على طريق دمشق ( غلا 1 : 11 ـ 12 ). وفي تبيان هـذه الحقيقة يروي بولس كيف صعد إلى أورشـليم بعد هـدايته المعجزة (( لأزور كيفا، وأقمت عنده خمسة عشر يوماً )) ( غلا 1 : 18 ). فهذه شهادة أولى على اعتراف بولس بزعامة بطرس، رئيس المسيحية. ولما أثار الفريسيون المتنصرون ضرورة الشريعة للمسيحيين من الأمميين، صعد بولس إلى مجمع أورشليم، (( مفاوضاً على حدة الوجوه فيهم ... وإذ عرفوا النعمة التي أوتيتُها مدَّ يعقوب وكيفا ويوحنا ـ هم المعدودون أعمدة ـ يمناهم إليَّ وإلى برنابا عربون الاتفاق الكامل )) ( غلا 2 : 1 و9 ). فبولس يعترف صريحاً بأن الثلاثة كانوا أعمدة الكنيسة. وما تقديمه اسم يعقوب، في هذه المناسبة، على اسم بطرس، إلاَّ للإشارة إلى موافقة زعيم المعارضة على (( إنجيله )) في تحرير المسيحية من الموسوية، قبل زعيم الموالاة. وهذا أيضاً اعتراف من بولس بزعامة بطرس عليه في السلطة والفتـْيا بالعقيدة. وما مقاومة بولس لبطرس في إنطاكية ( غلا 2 : 11 ـ 14 ) سوى إقرار منه بتأثير ونفوذ بطرس في سلوكه. فبولس لا يذكر مقاومته لأحد، حتى ولا لبرنابا رفيقه في الدعوة للتحرير. إنما يذكر مقاومته لبطرس وحده، لأن مثَل بطرس سُنّة في الحقيقة المسيحية. فهذه المقاومة نفسها دليل على اعتراف بولس بسلطة وتأثير سلوكه في المسيحية. فلم تكن أولية بطرس في تحديد العقيدة ( غلا 2 : 9 ) لتعصمه من الخطإ في ظروف السلوك العملي. ومعاتبة بولس له أمام الجميع برهان على مركزه في الكنيسة، لا على استقلال بولس عن سلطته.

ويرى بعضهم أيضاً في إذعان بولس ليعقوب وكنيسة أورشليم في ممارسة

226 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 10

بعض العبادات في هيكل أورشليم ( أع 21 : 20 ـ 27 ) رجوعاً من بولس من (( إنجيله )) في تحرير المسيحية من الموسوية؛ وخضوعاً لسلطان يعقوب وكنيسة أورشليم، وذلك في نهاية شوطه من رسالاته ورسائله الكبرى. وفاتهم أن مجمع الرسل حرّر من الشريعة الموسوية المسيحيين من الأمميين، لا النصارى اليهود؛ فبولس بصفته من بني إسرائيل، كان يقدر أن يمارس الشريعة الموسوية، من دون تناقض مع دعوته للتحرير منها لأجل المسيحيين من الأمميين. وخضوع يعقوب وجماعته للشريعة مع أحكام الإنجيل ليس خروجاً عن المسيحية. إنما الخروج على المسيحية كان في فهم الإنجيل على ضوء التوراة؛ والخروج على السنّة الرسولية كان في إرغام المسيحيين من الأمميين على ممارسة الشريعة. وهذا ما حصل بعد الرسل للنصارى اليهود فاعتزلوا وانعزلوا عن المسيحية الجامعة. وإذعان بولس في ظرف دقيق لنصيحة يعقوب وجماعته ليس دليل سلطان لهم عليه، ولا دليل خضوع منه لسلطانهم.

يرى أخيراً بعضهم في سكوت سفر الأعمال عن ذكر بطرس في رومة وفي سكوت رسالة بولس إلى الرومانيين عنه دليلاً على عدم مجيء بطرس إلى رومة، ودليلاً على استقلال بولس عن بطرس. أجل كان الرسل مستقلين في الدعوة المسيحية، مفوضين بها مباشرة من المسيح نفسه، لكن متضامنين متكافلين، تحت رعاية مَن أحب المسيح أكثر من الجميع ( يوحنا 21 : 15 ـ 17 )، مَن جعله المسيح اسماً وجسماً، إيماناً وقيادةً، (( صخر )) كنيسته ( متى 16 : 18 ـ 19 )، من كلّفه المسيح (( تثبيت إخوته )) بعد شكوك الاستشهاد والصلب ( لوقا 22 : 32 ). وقد رأينا أن سكوت سفر الأعمال عن ذكر مكان بطرس بعد ترك أورشليم للدعوة، كان مقصوداً لئلا يفتح أعين الأعداء عليه ( أع 12 : 17 ). وإذا لم يذكره بولس في الرسالة إلى الرومانيين، فقد يشير ذلك إلى أنه لم يصل إلى رومة بعد، وعلى كل حال، هـذا السكوت تفصح عنه رسـالة بطرس الأولى والثانية، فإِنهمـا مكتوبتـان من (( المختارة التي في بابل )) ( 1 بط 5 : 13 ) كناية

السلطة الدينية ... ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 227

من رومة. وهذا السكوت لا يدل على استقلال بولس في السلطة ـ لا في الدعوة بالإنجيل، والشهادة للمسيح ـ عن بطرس، فإِننا نجد في رسالة بطرس الثانية ( 3 : 15 ـ 16 ) تأييداً لتعليم بولس الصعب الذي يحرفه كثيرون.

والقول الفصل إن في كنيسة الرسل سلطة دينية شرعية بتأسيس المسيح، قائمة على الاثني عشر رسولاً ـ وما زعامة آل البيت مع يعقوب، الذين لم يكونوا من صحابة المسيح ورسله، سوى حدث تاريخي، لا شرعي ـ وقد اشترك في هذه السلطة الدينية (( الرسل والكهنة )) الذين انتدبهم الرسل أعواناً لهم ونواباً، كما يظهر من مجمع الرسل بأورشليم عام 49، الذي هو الحدث الأكبر في مطلع المسيحية. وعلى رأس السلطة الرسولية والكنيسة نجد بطرس يتمتع بسلطان الرعاية العامة على (( الرسل والكهنة )) وعلى جمهور المؤمنين، لتأمين وحدة الكنيسة المسيحية في العقيدة والشريعة والإدارة والقضاء. إن أولية بطرس في كنيسة الرسل هي أولية السلطة في الشهادة وفي القيادة.

هذا هو واقع السلطة الدينية في كنيسة الرسل.

 

 

< < <

228 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

 

بحث حادي عشر

 

الحياة المسيحية في كنيسة الرسل

 

في سفر الأعمال نرى الحياة المسيحية التي أسسها المسيح قائمة بمظاهرها الكبرى التي تميّزها عن كل حياة دينية في البشرية.

الظاهرة الكبرى الأولى هي حياة روح الله والمسيح في هذه الجماعة المسيحية الأولى. لذلك سمّينا، مع بعضهم، سفر الأعمال : (( إنجيل الروح القدس )) . ففي يوم العنصرة تمَّ تنزيل روح الله على جماعة المسيح, فابتدأ منذ ذلك اليوم عهد الروح القدس في البشرية. والسفر يروي لنا مظاهر استيلاء الروح على الجماعة للإيمان والشهادة والحياة.

والظاهرة الكبرى الثانية هي الشهادة، بالروح القدس، (( للرب يسوع )) . وهذه الشهادة الجماعية (( للرب يسوع )) تقوم على الحـدث التاريخي الـذي به ينـادون، منذ البلاغ الأول: (( فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً )) ( 2 : 36 ). فيسوع الناصري المصلوب هو المسيح الرب، كما ظهر في استشهاده وقيامته ورفعه حيّاً إلى السماء وتنزيل الروح القدس على المسيحيين. فأَسس إيمانهم بمسيحية يسوع وإلهيته، بعد شهادة يسوع بهما في سيرته ودعوته، هي ثلاثة : الاستشهاد للشهادة، القيامة التي تأكدت بظهور المسيح حيّاً، ورفعه حيّاً إلى السماء؛ وسلطانه الإلهي بتنزيل الروح القدس على التلاميذ.

الحياة المسيحيّة ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 229

والظاهرة الكبرى الثالثة هي الحياة المسيحية الجديدة في المسيح، بالروح القدس، لله الآب. وهذه الحياة المسيحية الجديدة لها ظواهر دينية واجتماعية.

وقد أوجزها لنا سفر الأعمال في صور ثلاث : الموجز الأول ( 2 : 42 ـ 47 )؛ والثاني ( 4 : 32 ـ 35 )؛ والثالث ( 5 : 12 ـ 15 ). وتلك اللوحات الثلاث للحياة الدينية الجديدة، يكمّل بعضها بعضاً.

المظهر الأول، للحياة الدينية الجديدة هو العماد باسم الرب يسوع، تكريساً للإيمان به، وتخصيصاً للشهادة له : (( أيها الرجال الأخوة، ماذا علينا أن نصنع ؟ فقال لهم بطرس : توبوا وليعتمد كل واحـد منكم باسم يسوع المسيح، لمغفرة خطاياكم، فتنالوا موهبة الروح القدس )) ، كما نالها الرسل أنفسهم في هذا الصباح من عيد العنصرة ( 2 : 37 ـ 38 ). فالعماد باسم يسوع المسيح له مفعولان : سلبي وهو غفران الخطايا؛ وإيجابي وهو نزول الروح القدس في نفس المؤمن المعمود. وكلا المفعولان ميزتان جديدتان في أديان البشرية : فليس من دين يملك عملاً يعطي من ذاته غفران الخطايا وهبة الروح القدس. وهما مفعولان إلهيان، من خصائص الله تعالى، ينفرد بهما عن خلقه : فسلطان غفران الخطايا، وسلطان تنزيل روح الله، سلطان إلهي ذاتي، أخذ الله يعمل به في العماد المسيحي باسم الرب يسوع. لذلك، فالحياة المسيحية ليست فقط اجتهاداً شخصيّاً بالإيمان والتطهير والعمل الصالح، بل هي قبل كل شيء عطية الله في العماد باسم الرب يسوع ( 1 : 5؛ 2 : 21؛ 3 : 16؛ 8 : 16؛ 10 : 48؛ 19 : 5؛ 22 : 16 ).

وكان للرسل، في العماد، أو خارج العماد نفسه إذا لم يعطوه بأنفسهم، طريقة خاصة لتنزيل روح الله على المعمود، بوضع أيديهم على رأسه. نرى ذلك في حادثة تنصير السامريين على يد الشماس فيلبس : (( ولما سمع الرسل الذين في أورشليم، أن السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا. فانحدرا

230 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

وصليا لأجلهم لكي ينالوا الروح القدس، إذ لم يكن بعد قد حلّ على أحد منهم، بل كانوا قد اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع. عندئذٍ وضعا أيديهما عليهم فنالوا الروح القدس )) ( 8 : 14 ـ 17 ). فبوضع أيدي الرسل على المعمّدين يُعطى الروح القدس ( 8 : 18 ). فهو طقس قد يقترن بالعماد ( 10 : 44 ـ 48 )، وقد ينفصل عنه، كما في حادثة بطرس ( 8 : 14 ـ 17 )، وكما في حادثة بولس في أفسس ( 19 : 6 ). وتنزيل الروح القدس على المؤمن المعتمد هو ميزة المسيحية الكبرى التي تجعلها ديناً إلهيّاً يصل المخلوق بالخالق.

والمظهر الثاني للحياة الدينية الجديدة هو الصلاة باسم الرب يسوع. والصلاة باسم يسوع هي البرهان الأكبر على أن جماعة الرسل والتلاميذ يعتبرون يسوع، لا شفيعاً فقط، بل موضوع عبادتهم مع الله الآب نفسه. وسفر الأعمال يعطينا صورة من صلاة الجماعة الأولى ( 4 : 24 ـ 31 ). إنهم يصلـّون لله الآب باسم (( فتـاك القدوس يسوع )) . ونعلم أن نعت (( القدوس )) صفة التنزيه في لغة الكتاب والإنجيل. وهذه الصلاة الجديدة باسم يسوع تنال مفعولاً إلهيّاً، هو نزول الروح القدس عليهم : (( فلما صلوا تزلزل الموضع الذي كانوا فيه مجتمعين، وامتلأوا جميعهم من الروح القدس وطفقوا بجرأة بكلمة الله ينادون )) ( 4 : 31 ).

وكانوا يقيمون الصلاة في هيكل أورشليم مع سائر الناس؛ لكنهم يجتمعون في بيوتهم لصلاتهم الخاصة : (( وكانوا كل يوم يلازمون الهيكل بنفس واحدة، ويكسرون الخبز في البيوت )) ( 2 : 46 ).

والمظهر الثالث للحياة الدينية الجديدة هو (( كسر الخبز )) أي تناول القربان المسيحي بعد حفلة الطعام العادي. نجد التعبير في موضعين، الأول في كنيسة أورشليم : (( وكانوا مواظبين على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز، والصلوات ... وكانوا كل يوم يلازمون الهيكل بنفس واحدة، ويكسرون الخبز في البيوت، وهم يتناولون الطعام بابتهاج وحسن الطوية، ويسبحون الله ))

الحياة المسيحيّة ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 231

( 2 : 42 ـ 47 ). والثاني في الكنائس اليونانية : (( وفي أول الأسبوع، لمَّا اجتمعنا لنكسر الخبز، أخذ بولس يكلمهم. وإذ كان عازماً أن يسافر في الغد أطال الكلام إلى نصف الليل ... ثم صعد وكسر الخبز وأكل. وتحدث أيضاً كثيراً حتى الفجر )) ( 20 : 7 ـ 11 ).

إن (( كسر الخبز )) عادة اجتماعية مألوفة عند بني إسرائيل. ففي بدء الطعام كان المتقدّم يتلو صلاة الحمد ثم يكسر الخبز أيذاناً ببدء الأكل. وقد حافظ يسوع على عادة بني قومه ( متى 14 : 19 )؛ لكنه ربما كانت له طريقة خاصة به، كما عرفه منها تلميذا عمَّاوس ( لوقا 24 : 35 ). لكن يسوع في العشاء السري، بعد صلاة الحمد العادية وكسر الخبز العادي، أثناء العشاء لما أعطاهم القربان المسيحي، كان لقوله وعمله معنى خاص يميّزها عن المعنى الاعتيادي ( مرقس 14 : 22 ). لذلك واظب المسيحيون الأوائل على تسمية القربان المسيحي (( كسر الخبز )) . ونعرف هذا المعنى الخاص من المعنى العام، من القرائن. فكسر الخبز بمعنى القربان يتضح من اقترانه (( بتعليم الرسل، والصلوات، أثناء الشركة )) ( 2 : 42). وظل المسيحيون الأوائل مواظبين على سنّة المسيح : فقد أعطاهم القربان أثناء العشاء! فهم يكسرون الخبز أي يتناولون القربان المسيحي، أثناء الطعام : (( ويكسرون الخبز في البيوت، وهم يتناولـون الطعام ... ويسـبحون الله )) ( 2 : 46 ). يؤيد ذلك كله تسمية بولس (( كسر الخبز )) : (( أكل جسد الرب )) ( 1 كو 10 : 16 ). ويظهر أن (( كسر الخبز )) بمعنى (( جسد الرب )) كان يتم كل أحد، (( في أول الأسبوع )) ( 20 : 7 )؛ وهذا الظرف قرينة أخرى على معنى (( كسر الخبز )) .

فالحياة المسيحية تقـوم، بعد العمـاد، على (( أكل جسد الرب )) في صلاة (( كسر الخبز )) . فهم في صلاتهم، بعمل رمزي فعَّال تعلّموه من يسوع، يستحضرون يسوع نفسه بينهم، ويتناولونه في قربانه، ويتّحدون به، ويحيون منه. وليس ذلك استحضاراً رمزيّاً، أو روحيّاً، لا يميّزهم في شيء عن سائر

232 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 11

الأديان الشرقية السرية؛ إنما هو استحضار فعلي حقيقي يسميه بولس (( أكل جسد الرب )) أو تناول (( خبز الحياة )) كما سيسميه يوحنا ( ف 6 ). ففي القربان المسيحي، يحيا المسيحيون، بكسر خبز الرب، من المسيح نفسه. فالمسيحي الحق يحيا من المسيح نفسه، كما يحيا من الروح القدس. وهذه ميزة المسيحية على الأديان قاطبة.

ومع هذه الظواهر الدينية، كان للجماعة المسيحية ظواهر اجتماعية تميّزها.

المظهر الاجتماعي الأول في الحياة المسيحية الجديدة كان في (( المواظبة على تعليم الرسل )) ( 2 : 42 ). وهذا (( التعليم )) المسيحي غير (( البلاغ )) للأمميين ( 15 : 35 ). فمحور البلاغ كان (( الشهادة بقيامة الرب يسوع )) ( 4 : 33 ). أما التعليم فكان تبليغ الإنجيل في رسالة المسيح ودعوته، وتفسير الكتاب المقدس على ضوء الإنجيل أي المناداة بكلام الله (4 : 31)، والتبشير بالإنجيل ( 8 : 25 )، بتلاوة سيرته ودعوته ( 10 : 37 ـ 42 )، وتأييد الإنجيل بشهادة الأنبياء ( 8 : 43 ) : (( وكانوا كل يوم، في الهيكل وفي البيوت، لا ينفكون يعلمون ويبشرون بيسوع أنه المسيح )) ( 5 : 42 ).

والمظهر الاجتمـاعي الثاني كانت الوحـدة المسـيحية التي تربط بين المـسيحيين: (( وكان لجمهور المؤمنين قلبٌ واحد ونفس واحدة )) ( 4 : 32 ). وهذه الوحدة المسيحية تقوم على وحدة التعليم، وعلى وحدة الصلاة، وعلى وحدة الاجتماع ( 2 : 42 و46 ). فهي وحدة في العقيدة، ووحدة في السلطة : (( فاجتمع الرسل والكهنة لينظروا في الأمر )) ( 15 : 6 )؛ وبعد التداول أُخذ القرار بسلطان الله والرسل : (( لقد رأى الروح القدس ونحن ... )) ( 15 : 28 ).

والمظهر الاجتماعي الثالث كان في الحياة الاشتراكية بينهم : (( وكان جميع المؤمنين معاً؛ وكان كل شيء مشتركاً في ما بينهم. وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم معاً؛ وكان كل شيء مشتركاً في ما بينهم. وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم ويوزعون على الجميع بحسب حاجة كل واحد منهم )) ( 2 : 44 ـ 45 )؛

الحياة المسيحيّة ... ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 233

(( ولم يكن أحد يقول عن شيء يملكه أنه له؛ بل كان كل شيء مشتركاً في ما بينهم )) ( 4 : 32 ).

بتلك المظاهر الاجتماعية والدينية تميزت جماعة المسيح عن سواها عند أهل الكتاب ثم ما بين الأمميين : (( ولم يكن أحد من الآخرين يجسر أن يخالطهم، بيد أن الشعب كان يجلـّهم )) ( 5 : 13 ).

هذه هي صورة الحياة المسيحية في كنيسة الرسل.

 

 

~

234 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

 

بحث ثاني عشر

 

تعليم الرسل ودعوة المسيح

 

ما بين الإنجيل وسفر الأعمال ظاهرة غريبة : يسوع يدعو في الإنجيل إلى ملكوت الله؛ والرسل في الأعمال والرسائل يدعون إلى يسوع المسيح. قال بعضهم : في هذه الظاهرة القائمة دليل على أن تعليم الرسل غير دعوة المسيح! ويسوع استشهد في سبيل دعوته؛ لكنه لم يقل أنه يموت فداءً عن البشرية!

ـ إنها شبهة، وشبهة قاصرة في الحالين.

 

 

أولاً : ملكوت الله في الإنجيل وأعمال الرسل

إن لوقا مع الأناجيل المتوازية المؤتلفة يشهد أن دعوة المسيح كانت لملكوت الله. وهو يأخذ بالتعبير (( ملكوت الله )) الـذي يفهمه من يخاطبهم، لا بالتعبير الأرامي (( ملكوت السماوات )) ، حيث (( السماوات )) كناية عن الله.

دعا في كفرناحوم، ثم خرج ليدعو في غيرها فلحقت به الجموع لترده إلى كفرناحوم، (( فقال لهم : لا بد لي أن أبشر المدن الأخرى بملكوت الله، لأني لهذا قد أُرسلت؛ وكان يطوف مبشراً بجوامع اليهودية )) ( لوقا 4 : 43 ـ 44 ).

وفي خطـاب يسوع التـأسيسي على الجبـل، يفتتح بوعـد المحرومين في الأرض (( بملكوت الله )) ( لوقا 6 : 20 )، فهذا هدف دعوته.

(( وبعدئذ أخذ يجول في المدن والقرى يدعو ويبشر بملكوت الله. وكان

تعليم الرسل ودعوة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 235

معه الاثنا عشر، وبضع نساء كنّ قد برئن من أرواح شرّيرة وأمراض )) (لوقا 8 : 1 ـ 2). فيسوع يصطحبهم ويصطحبهنَّ لتدريبهم على الرسالة، وإطلاعهم على (( أسرار ملكوت الله )) الذي يدعوهم إليه. كان يوضحه للشعب بأمثال ( لوقا 8 كله )؛ ويفسّر الأمثال لتلاميذه في الخلوة، وكان يقول لهم : (( أنتم قد أوتيتم أن تعرفوا أسرار ملكوت الله؛ وأما الباقون فأكلمهم بأمثال لكي ينظروا ولا يبصروا، ويسمعوا ولا يفهموا )) ( لوقا 8 : 10 ).

وهذا الإطلاع الخاص على (( أسرار ملكوت الله )) هو الذي يفسّر تطوّر الدعوة ما بين المسيح ورسله : فقد فهموا أنهم هم أهل الملكوت وأنه هو سيد الملكوت، بل الملكوت الموعود نفسه.

ثم بعث الرسل في رسالة تدريبية (( ليبشروا بملكوت الله، ويجروا الأشفية )) (لوقا 9 : 2). ثم بعث (( اثنين وسبعين تلميذاً آخرين، وأرسلهم اثنين اثنين، أمام وجهه، إلى كل مدينة، وكل موضع كان مزمعاً أن يقدم إليه ... وقولوا لهم : قد اقترب منكم ملكوت الله )) (لوقا 10: 1 و9).

ولما أشاع بعض أخصام الدعوة أن يسوع يُجري المعجزات، وخصوصاً أغربها وهو إخراج الشياطين : (( إنه ببعل زبول، رئيس الشياطين، يخرج الشياطين )) ، أجابهم : (( إِن كنت أنا ببعل زبول أخرج الشياطين، فأبناؤكم بمن يخرجونهم! فمن أجل هذا فهم يحكمون عليكم. ولكن، إذا كنت أنا بإصبع الله أخرج الشياطين فقد ظهر بينكم ملكوت الله )) (لوقا 11 : 19 ـ 20).

ثم صرّح لتلاميذه : (( أيها القطيع الصغير، لا تخف فقد ارتضى أبوكم أن يعطيكم الملكوت )) ( لوقا 12 : 32 ). فتلاميذ المسيح هم نواة ملكوت الله. وبظهور المسيح في يسوع الناصري وتأسيس التلاميذ حوله ظهر ملكوت الله. وصرّح للجماهير، بحضور علماء الفريسيين : (( قامت الشريعة والنبيون حتى يوحنا؛ ومنذئذٍ يبشر بملكوت الله، وكل يجتهد في الدخول إليه )) ( لوقا 16 : 16 ).

236 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

(( وسأله الفريسيون : متى يأتي ملكوت الله ؟ فأجابهم، قال : إن ملكوت الله لا يأتي بشكل منظور! ولن يقال : هو هنا! وهو هناك! فها إن ملكوت الله في ما بينكم )) ( لوقا 17 : 20 ـ 21 ). فبظهور المسيح والتفاف تلاميذه حوله ظهر بين ظهرانيهم ملكوت الله : فالمسيح يسوع هو الملكوت نفسه : لذلك، بعد رفع المسيح إلى السماء، عندما يدعو الرسل للمسيح، فهم إنما يدعون لملكوت الله نفسه، مع اختلاف في التعبير، لا في الموضوع؛ فقد تجلّى لهم، هم الذين أوتوا أن يعرفوا أسرار ملكوت الله ( لوقا 8 : 10 )، إن الملكوت الموعود هو المسيح يسوع نفسه : (( قال له بطرس : ها نحن قد تركنا كل ما لنا وتبعناك! فقال لهم : الحق أقول لكم، إنه ما من أحد ترك بيتاً أو امرأة أو أخوة أو والدين أو بنين من أجل ملكوت الله، إِلاَّ ينال أضعافاً في هذا الزمان، والحياة الأبدية في الدهر الآتي )) ( لوقا 18: 28 ـ 30 ). فيسوع يرادف بينه وبين الملكوت. وفي أريحا يعطينا على ذلك مثلاً في حادثة زكا العشار الـذي صعد إلى جميزة ليستطيع أن يرى يسوع عابراً. فلمـا مرَّ به يسوع (( رفع طرفه وقال له : يا زكا انزل سريعاً، فاليوم لا بد لي أن أقيم في بيتك )) ؛ ولما دخل بيته بسبب إيمان زكا به (( قال له يسوع : اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت، فإنه هو أيضاً ابن لإبراهيم! لأن ابن البشر إنما جاء ليطلب ما قد هلك ويخلصه )) ( 19 : 1 ـ 10 ). فيسوع هو الملكوت وهو الخلاص. فإذا نادى به الرسل كذلك، فهم إنما ينادون بما انتهى إليه كشف المسيح.

ونجد مثلاً أكبر للترادف بين الملكوت والمسيح، يوم أحد الشعانين، عند دخول يسوع دخول المسيح الموعود إلى أورشليم. (( ولما اقترب من المدينة وأبصرها بكى عليها وقال : أوّاهٍ، لو علمتِ أنتِ أيضاً في هذا اليوم رسالة السلام! لكن قد خفي ذلك عن ناظريكِ! فستأتي عليكِ أيام يحيق بكِ أعداؤكِ بالمتارس ويحاصرونكِ ويطبقون عليكِ من كل جهة، ويمحقونكِ أنت وبنيكِ الذين فيكِ، ولا يتركون فيكِ حجراً على حجرٍ. لأنكِ لم تعرفي زمن افتقادكِ )) (لوقا 19 : 41 ـ 44). وقد تحققت نبؤة المسيح بعد أربعين سنة لمَّا هدم الرومان

تعليم الرسل ودعوة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 237

أورشليم الثائرة على أبنائها، سنة سبعين ميلادية. وذلك لأنهم رفضوا ملكوت الله في شخص يسوع المسيح.

ثم يحدّد يسوع لتلاميذه زمان هذه النبؤة الضخمة وقيام ملكوت الله بالمسيح على أنقاض أورشليم وهيكلها وشريعتها ودولتها : (( إِذا ما رأيتم أورشليم قد حاصرها الجنود، فاعلموا عندئذ أن خرابها قد حضر ... فكذلك أنتم إذا ما رأيتم أن هذا واقع فاعلموا أن ملكوت الله قد حضر! الحق أقول لكم : إِن هذا الجيل لا يزول ما لم يتّم الكلّ! إن السماء والأرض تزولان، وأما كلامي فلا يزول أبداً )) ( لو 21 : 20 و31 ـ 33 ).

إن رفض اليهود للمسيح هو رفض لملكوت الله : فالمسيح هو الملكوت نفسه. هذا ما انتهت إليه دعـوة يسوع الناصري في تطورها والكشف فيها لصحابته (( عن أسرار ملكوت الله )) . فلا غرو أن يكمل رسل المسيح دعوته حيث انتهت إلى الترادف بين المسيح وملكوت الله.

وهذا ما نراه في سفر الأعمال.

فالرسل، صحابة المسيح، والشهود العيان لدعوته، يدعون معاً للمسيح ولملكوت الله، لأن المسيح والملكوت واحد في نظرهم.

يستفتح بذكر الأربعين يوماً التي انقضت بين قيامة المسيح ورفعه حياً إلى السماء، والتي فيها (( أراهم نفسه حيّاً من بعد استشهاده ببراهين كثيرة، وهو يظهر لهم مدة أربعين يوماً ويكلمهم عن شؤون ملكوت الله )) ( أع 1 : 3 ).

ولما حل الروح القدس الموعود على الرسل وتلاميذ المسيح ( 2 : 1 ـ 12 ) للحال باشر الرسل بالدعوة للمسيح والملكوت معاً، في بلاغاتهم الرسمية المتواترة للشعب والسنهدرين، مجلس الدين والقضاء الأعلى عند اليهود.

238 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

فكان البلاغ الأول بأن يسوع الناصري المصلوب هو المسيح الرب : (( فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً )) ( أع 2 : 36 ). ويرى الرسل أن رفع المسيح إلى السماء وجلوسه على عرش الله سيّد السماوات والأرضين، وملك يوم الدين، هو تحقيق نبؤة الزبور : (( قال الرب لربي : اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك )) ( أع 2 : 32 ـ 35 قابل مزمور 109 : 1 ). فيسوع في مجد قيامته وجلوسه على عرش الله هو سيد ملكوت الله، ومحوره وغايته.

لذلك (( كانوا كل يوم في الهيكل وفي البيوت لا ينفكون يعلمون ويبشرون أن يسوع هو المسيح )) ( أع 5 : 42 ). والشمامسة الذين اختاروهم لمساعدتهم مثل فيلبس، كانوا يبشرون (( لملكوت الله واسم يسوع المسيح )) معاً (أع 8 : 12)، هذه هي (( الدعوة بالإنجيل )) ( أع 8 : 25 ).

ودعوة الرسل للأمميين أن يسوع هو (( رب العالمين )) و (( ملك يوم الدين )) (أع 10: 36 و41) برهـان قاطع على أن المسيح يسوع والملكوت شيء واحـد. لذلك كانت دعوتهم (( لملكوت الله واسم يسوع المسيح )) ( أع 8 : 12 ). وقد حصروها، كما رأينا، بهذا الشعار : (( الرب يسوع )) ( أع 11 : 20 )، فهو رب الملكوت.

وبولس نفسه الذي امتاز، بعد هدايته، بالدعوة ليسوع أنه (( ابن الله )) ( أع 9 : 20 )، يدعو للمسيح ولملكوت الله معاً لأنهما شيء واحد.

ففي أفسس (( دخل الجامع وجعل يتكلم بجرأة مدة ثلاثة أشهر يفاوض اليهود ويعمل على إقناعهم في ما يتعلق بملكوت الله )) ( أع 19 : 8 ) والدعوة باسم الرب يسوع (أع 19 : 13)؛ (( وإذ كان بعضهم يقسّون قلوبهم، ثالبين الصراط أمام الجمهور، انفصل بولس عنهم واعتزل بالتلاميذ. وكان كل يوم يعلم في مدرسة رجل اسم تيرنّس. ودام ذلك مدة سنتين، حتى أن جميع سكان آسية ( الرومانية ) من يهود وهلّينيين، سمعوا كلمة الرب )) ( أع 19 : 9 ـ 10 ).

تعليم الرسل ودعوة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 239

وفي خطاب بولس الوداعي للمسيحيين في آسية الرومانية نراه يرادف بين الدعوة للمسيح، والدعوة بإنجيل الله، والدعوة لملكوت الله. قال مشيراً إلى الاستشهاد الذي ينتظره في أورشليم : (( لكني على كل حال لا أحتسب حياتي عزيزة عليّ إِذا كنت أتمم شوطي والرسالة التي قبلتها من الرب يسوع بأن أشهد لإنجيل نعمة الله. والآن فإني عالم بأنكم لن تشاهدوا بعد وجهي، أنتم جميع الذين مررت بهم مبشراً بالملكوت )) ( أع 20 : 24 ـ 25 ).

وفي أسره برومة، في جداله مع اليهود فيها، نراه يرادف بين التعابير والمواضيع الثلاثة : (( فطفق يشرح لهم ملكوت الله، ويشهد ساعياً لإقناعهم، في شأن يسوع، من شريعة موسى ومن النبيين، وذلك من الصباح حتى المساء )) ( أع 28 : 23 ).

وينتهي سفر الأعمال بهذه الخاتمة : (( وأقام بولس سنتين كاملتين، في بيت استأجره. وكان يقبل جميع الذين يقصدونه مبشراً بملكوت الله، ومعلماً ما يختص بالرب يسوع المسيح، بكل جرأة وحرية )) ( أع 28 : 30 ـ 31 ). فالرب يسوع المسيح هو محور الدعوة لملكوت الله في تعليم بولس، كما في تعليم سائر الرسل.

فتعليم الرسل في سفر الأعمال هو نفسه تعليم يسوع في الإنجيل. فيسوع أظهر في الإنجيل أن المسيح هو الملكوت الموعود؛ فدعا الرسل بدعوته مبشرين بملكوت الله والرب يسوع المسيح. قد يختلف الأسلوب، لكن الموضوع واحد.

 

 

240 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

ثانياً : استشهاد المسيح كان فداء ، في دعوة يسوع ورسله

ما معنى موت المسيح ؟ ـ كل المصادر الإنجيلية تصرح بأنه كان استشهاداً وفداءً معاً. فليست فكرة الفداء بموت المسيح من مبتكرات الرسل بزعامة بولس، تفسيراً لموت المسيح الذي كان غير معقول، خصوصاً على الطريقة التي تم بها، عند أهل الكتاب، فكم بالأحرى عند الأميّين.

كان المسيح الموعود، في نظر بني إسرائيل، خالداً لا يموت : (( أجابه الجميع : لقد علمنا من التوراة أن المسيح خالد إلى الأبد، فكيف تقول أنت : ينبغي أن يُرفع ابن البشر! فمن هو هذا ابن البشر ؟ )) ( يوحنا 12 : 34 ). فإِذا بيسوع يدعي أنه المسيح وأنه سيموت. وقد مات ميتة العبيد على صليب منبوذاً من بني قومه الذين كفروه، وفي نظر الشعب (( ملعوناً )) عند الله، فقد قال الكتاب : (( ملعون كل من عُلق على خشبة )) (غلا 3 : 13 قابل التثنية 21 : 23).

فقد كان موت المسيح، على ظاهره، نهاية رسالته لا تقوم لها قائمة من بعده. وجاءت قيامة المسيح من الموت شهادة الشهادات ومعجزة المعجزات من عند الله تضفي هالة إِلهية على صلب المسيح! فما المعنى الإلهي المقصود بين الصلب والـرفع إلى السماء ؟ ما معنى (( عار الصليب )) ؟ ( عبر 12 : 2 ).

هذا ما أخذ الرسل يظهرونه، بما عرفوه من (( أسرار ملكوت الله )) قبل الصلب وبعده ( أع 1 : 3 ).

معنى (( عار الصليب )) الأول أنه كان استشهاداً للشهادة. وشهير استشهاد الأنبياء في سبيل دعوتهم. فالاستشهاد تابع نبوتهم. ومن هذا القبيل ليس صلب المسيح عاراً، بل كان أكبر فخاراً، لأنه كان أفظع استشهاد لأعظم جهاد!

تعليم الرسل ودعوة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 241

ونرى رسل المسيح يقارنون بين استشهاد الأنبياء وبين صلب يسوع الناصري : (( فيا قساة الرقاب، وأقلاف الآذان والقلوب، إنكم في كل زمان، الروح القدس تقاومون! كما كان آباؤكم، كذلك أنتم! فأيّ نبي لم يضطهده آباؤكم ؟ ولقد قتلوا الذين أنبأوا بمجيء البار، ذاك الذي رفضتموه في هذا الزمان وكنتم له قائلين! )) ( أع 7 : 51 ـ 52 ).

ونراهم يستقرئون الكتاب ويرون فيه تصميم الله في موت المسيح ورفعه حيّاً إلى السماء. فمنذ البلاغ الأول يعلنون : إن داود رئيس الآباء (( سبق فرأى قيامة المسيح وتكلم عنها. قال : إنه لم يُترك في الجحيم، ولم ير جسده فساداً ... فإن داود لم يصعد قط إلى السماوات، ومع ذلك فإنه يقول : قال الرب لربي : اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك )) ( أع 2 : 31 ـ 35 ). فالحقيقة الصارخة أنه (( أُسلم بحسب قضاء الله وقدره، فقتلتموه صلباً بأيدي الخطأة ( أي المشركين ) لكن الله قد أقامه، ساحقاً قيود الموت، إذ لم يكن في طاقة الموت، أن يضبطه، فإن داود يقول فيه ... )) ( أع 2 : 23 ـ 27 ).

وفي البلاغ الثاني يقولون بلسان بطرس : (( والآن أيها الأخوة، إني أعلم أنكم قد فعلتم ذلك عن جهل، وكذلك رؤساؤكم أيضاً. ولكنَّ الله قد تمّم هكذا ما سبق فأنبأ به على لسان جميع الأنبياء من أن مسيحه سيتألم )) ( أع 3 : 17 ـ 18 ).

والكنيسة كلها في صلاتها تقول : (( أيها السيد، الذي صنع السماء والبر والبحر وجميع ما فيها، أنت الذي قلت بالروح القدس على فم داود عبده : (( لماذا ارتجّت الأمم ؟ والشعوب هذت بالباطل ؟ قامت ملوك الأرض والرؤساء اجتمعوا معـاً على الله وعلى مسيحه )) . فإنه قد اجتمع بالحقيقة، في هذه المدينة على فتاك القدوس، يسوع الذي مسحته، هيرود وبنطيوس بيلاطس، مع الأمم وشعوب إسرائيل، ليصنعوا ما حدّدت من قبل في قضائك وقدرك أن يكون )) ( أع 4 : 24 ـ 28 ).

242 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

فاستشهاد المسيح، سيد الأنبياء، كان بإرادة الله وحكمته كما تنبأ عنه الكتاب. فقد تمم يسوع الكتاب بموته على الصليب، فكان استشهاده طاعة لله وشهادة لرسالته. لذلك يصب الرسل شهادتهم للمسيح على قيامته ورفعه إلى السماء تزكية من الله لصحة رسالته ولصحة شهادته في استشهاده : (( وكان الرسل، بقوة عظيمة، يؤدون الشهادة بقيامة المسيح. وكانت نعمة عظيمة عليهم أجمعين )) ( أع 4 : 33 ). فقد حوّل بعث المسيح حيّاً من القبر عار الصليب إلى فخر إلهي. وهذا المعنى متواتر في دعوتهم.

ومعنى (( عار الصليب )) الثاني أنه كان، في قضاء الله وقدره، فداء للبشرية من غضب الله على خطاياها.

فمنذ البلاغ الأول آمن ثلاثة آلاف رجل ما عدا عيالهم، (( وقالوا لبطرس ولسائر الرسل : أيها الأخوة، ماذا علينا أن نصنع ؟ فقال لهم بطرس : توبوا، وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح لمغفرة الخطايا، فتنالوا موهبة الروح القدس. فإن الموعد ( بالمسيح ) هو لكم ولبنيكم ولجميع البعيدين ( أي الوثنيين ) )) ( أع 2 : 37 ـ 39 قابل أَشعيا 57 : 19 ). فثمار صلب المسيح مغفرة الخطايا وهبة الروح القدس فقط كان استشهاد المسيح فداءً.

وقد وجد الرسل في النبؤة التي استشهد بها المسيح يسوع نفسه للكشف عن سر استشهاده ( لوقا 20 : 17 = مزمور 117 : 22 ) معنى صلبه : (( فذاك هو الحجر الذي ازدريتموه، أيها البناؤون، والذي صار رأساً للزاوية. وما من خلاص بأحد غيره! )) ( أع 4 : 11 ـ 12 أ )، فالخلاص بصليب المسيح واستشهاده، (( إذ ليس تحت السماء اسم آخر أعطي للناس به ينبغي أن نخلص )) ( أع 4 : 12 ب ).

وفي البلاغ الثاني للسنهدرين، (( أجاب بطرس والرسل وقالوا : لا طاعة لمخلوق في معصية الله. إن إله آبائنا قد أقام يسوع الذي قتلتموه أنتم معلقين إياه

تعليم الرسل ودعوة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 243

على خشبة. فهذا هو الذي رفعه الله بيمينه مصدراً ومخلصاً ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا. ونحن شهود له بذلك؛ والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين أسلموا له )) ( أع 5: 30 ـ 32 ). فيسوع بموته وقيامته صار مخلصاً ومصدر مغفرة للخطايا، ومصدر هبة الروح القدس للمؤمنين : فاستشهاد المسيح كان فداءً.

لكن الرسل والتابعين لهم بإحسان وجدوا معنى الفداء في استشهاد المسيح في نبؤة أشعيا النبي عن المسيح (( عبد الله )) الذي يبذل نفسه عن شعبه. كان قيّم الكنداكة ملكة الحبشة راجعاً من حجه إلى أورشليم يقرأ في أشعيا النبي : (( كشاة سيق إلى الذبح، وكحمل صامت بين يدي جزاره لا يفتح فاه! تمَّ القضاء عليه في المذلة، ومن يصف عاره ؟ لقد انقرض من أرض الأحياء، وبسبب خطايا شعبي، نزل به القضاء )) ؛ (( فأجاب الخصي وقال لفيلبس : أرجوك، عمّن يقول النبي هذا : أعن نفسه أم عن رجل آخر. ففتح فيلبس فاه وابتدأ من تلك الكتابة فبشره بيسوع )) ( أع 8 : 26 ـ 40 ). ففي الفصل الثالث والخمسين من نبؤة أشعيا وصف صريح لاستشهاد المسيح، ولمعنى الفداء (( عن خطايانا )) . فكانت هذه النبؤة الخطيرة نبراس المسيح ورسله في الدعوة الإنجيلية.

ثالثاً : معنى الفداء في الاستشهاد هو من تعليم المسيح نفسه

فالرسل رأوا معنى الفداء في استشهاد المسيح بناءً على تعليمه لهم. والإنجيل صريح في ذلك.

فقد ألمح يسوع ثم أشار ثم صرح مراراً ثم حدّد (( بعد يومين )) استشهاد ابن البشر. ويسوع نفسه قرأ مصيره في نبؤة أشعيا؛ ففي العشاء السري ليلة الاستشهاد، (( إِني أقول لكم: أنه لا بدّ أن يتم فيّ ما هو مكتوب : (( لقد أُحصي مع الأئمة! )) وها إِن ما يختص بي آخذ في التمام )) ( لوقا 22 : 37؛ قابل أشعيا 53 : 12 ).

244 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

ومنذ بدء يسوع بالتصريح عن استشهاده، بعد شهادة الرسل بمسيحيته على لسان بطرس الذي بسببها رفعه إلى أعلى عليّين، كان بطرس نفسه أول المحتجين على هذا التصريح بالاستشهاد، فقال له يسوع حينئذ أقسى كلمة ردّته أسفل سافلين : (( إليك عني، يا شيطان، فإنك تفكر بحسب الناس لا بحسب الله )) ( مرقس 8 : 32 ). فتلك الكلمة القاسية عينها برهان على صحة تصريح يسوع التاريخي باستشهاده صلباً.

تؤيد تصاريح المسيح عن استشهاده تصـاريحه عن مجد قيامته : (( بعد ثلاثة أيام يقوم )) ، نقلاً عن هوشع النبي ( 6 : 2 ). والإشارة إلى (( الأيام الثلاثة )) متواترة. ففي مطلع دعوته احتل يسوع الهيكل وجعل يعلم فيه بسلطان لم ينله من بشر، (( فخاطبه اليهود وقالوا له: أية آية ترينا حتى تفعل هكذا ؟ أجاب يسوع، قال لهم : انقضوا هذا الهيكل (مشيراً إلى جسمه) وأنا أقيمه في ثلاثة أيام! )) (يوحنا 2 : 18 ـ 19). وقد ذكروا تلك الكلمة في محاكمته: (( لقد سمعناه يقول : إني أنقض هذا الهيكل الذي صُنع بالأيدي، وفي ثلاثة أيام ابني غيره لم تصنعه الأيدي )) ( مرقس 14 : 58 ). ولمَّا أخبروه أن هيرود الصغير يطلب قتله، قال لهم: (( اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب : ها أنا ذا أطرد الشياطين وأجري الأشفية اليوم وغداً، وفي اليوم الثالث ينقضي أجلي. ولكن، لا بد من أن أواصل السير اليوم وغداً وما بعده؛ فلا يليق أن يهلك نبي خارج أورشليم )) ( لوقا 13 : 32 ـ 33 ). فمصير يسوع مكتوب، يسير يسوع نحوه بمعرفة وتعريف. هذا مصير الأنبياء، فكم بالأحرى سيّد الأنبياء ؟

قبل سنة كان التصريح الأول عن استشهاده وقيامته (( في اليوم الثالث )) ( لوقا 9 : 22 ). وفي صعوده إلى أورشليم (( انفرد بالاثني عشر وقال لهم : ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وجميع ما كتبه الأنبياء عن ابن البشر سيتم : فإنه سيسلم إلى الأمميين، ويُهزأ به! ويُبصق عليه! وبعد أن يجلدوه يقتلونه! وفي اليوم الثالث يقوم! )) ( لوقا 18 : 31 ـ 33 ). وفي أورشليم،

تعليم الرسل ودعوة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 245

بعد نهار حافل بالجدل مع السلطات والأحزاب اليهودية، كشف يسوع لرسله عن مصير إسرائيل ومصير البشرية، (( ولما فرغ يسوع من هذا الكلام كله، قال لتلاميذه : إن الفصح، على ما تعلمون، بعد يومين، وابن البشر يُسلم للصلب )) ( متى 26 : 1 ـ 2 ).

فاستشهاد المسيح تعليم صريح من صُلب دعوته ورسالته. ويسوع نفسه هو الذي أعطى استشهاده معنى الفداء. وفي هذا المعنى أيضاً تدرّج يسوع من الإشارة إلى التصريح.

فبعد التصريح الثالث عن استشهاده وقيامته ( متى 20 : 17 ـ 19 )، ظنوا وهم صاعدون إلى أورشليم أن يسوع سوف يعلن نفسه ملكاً فتخاصموا على المركز الأول في ملكوته، فأبان لهم أن، في ملكوته، السيادة خدمة، والرئاسة تضحية، (( على مثال ابن البشر : فإنه لم يأت ليُخدَم، بل ليَخدُم ويبذل نفسه فدية عن الأكثرين )) ( متى 20 : 28؛ قابل مرقس 10 : 45 ) فالانتساب إلى نبؤة أشعيا (53) لفظاً ومعنى صريح عند يسوع في تفسير معنى موته : إنه الفداء عن الجميع.

وفي العشاء السري يفسر يسوع معنى استشهاده بالانتساب إلى المكتوب في أشعيا (53)، في حديث السيف : (( مَن ليس له سيف فليبع رداءَه ويشتري سيفاً. فإني أقول لكم : إنه لا بدَّ أن يتم فيّ ما هو مكتوب : لقد أُحصي مع الأئمة! وها إن ما يختص بي آخذ في التمام )) ( لوقا 22 : 36 ـ 37 ).

وفي حديث الراعي الصالح، استعارة من النبي زكريا ( 13 : 7 ) يعلن يسوع للجمهور : (( أنا الراعي الصالح! والراعي الصالح يبذل حياته عن الخراف! ... أنا الراعي الصالح، أعرف خرافي وخرافي تعرفني؛ كما أن الآب يعرفني وأنا أعرف الآب، وأبذل حياتي عن الخراف! ... إن أبي يحبني لأني أبذل حياتي لكي أسترجعها أيضاً. لا ينتزعها أحد مني، وإنما أنا أبذلها باختياري. فلي سلطان

246 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 12

أن أبذلها، ولي سلطان أيضاً أن أسترجعها. تلك هي الوصية التي تلقيتها من أبي )) ( يوحنا 10 : 11 ـ 18 ).

وفي رسم القربان المسيحي، بدل الفصح التوراتي، على مثال قربان وكهنوت مَلْكي صادق، في رموز الخبز والخمر، (( فيما هم يأكلون أخذ يسوع خبزاً وبارك، ثم كسره وأعطاهم، وهو يقول : (( خذوا هذا هو جسدي )) . ثم أخذ الكأس وشكر وأعطاهم ـ فشربوا جميعهم ـ وهو يقول لهم : (( هذا هو دمي، دم العهد الجديد، المهراق عن الجميع )) ( مرقس 14 : 22 ـ 24؛ قابل متى 26 : 28؛ لوقا 22 : 19 ـ 20؛ 1 كو 11 : 24؛ يوحنا 6 : 51 ). فيسوع يرمز ويحقق في قربانه معنى موته واستشهاده : إنه العهد الجديد بدم المسيح، (( المهراق عن الجميع )) . في الحرف اليوناني : (( عن الأكثرين )) ، لكن نعرف أن هذا التعبير يعني في اللغة اليونانية الشائعة (( الجميع )) ، كما يرادف بولس بين التعبيرين (رو 5 : 18 ـ 21). ففي قول المسيح، في هذا التصريح الأخير، المعنى الصريح لاستشهاد المسيح : (( هذا هو دمي، دم العهد الجديد، المهراق عن الجميع )) .

فاستشهاد المسيح فداء عن البشرية. هذا هو التعليم الذي تسلمه الرسل، ليلة الاستشهاد، من المسيح نفسه. وكانوا يقيمون قربانه كل يوم في اجتماعاتهم الخاصة، ويسمونه (( كسر الخبز )) المقدس ( أع 2 : 42 ).

فلم يستبسط الرسل معنى الفداء، أو الاستشهاد، ليستروا بذلك (( عار الصليب )) ! بل إنما هي الحقيقة التي تسلمها الرسل من يسوع، وسلموها بدورهم إلى بولس. فليس بولس في ذلك مبتدعاً بل تابعاً، كما يصرح في الإنجيل الذي يدعو به كسائر الرسل :

(( أيها الأخوة، أذكركم الإنجيل الذي بشرتكم به، وقبلتموه، وأنتم ثابتون فيه، وبه تخلصون إِن حافظتم عليه كما بشرتكم به ـ ما لم يكن إيمانكم باطلاً. فإني قد سلمت إليكم أولاً ما قد تسلمت أنا نفسي : إن المسيح قد مات لأجل

تعليم الرسل ودعوة المسيح ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 247

خطايانا ( بمعنى الاستشهاد والفداء ) ، على ما في الكتب. وإنه قُبر، وإنه أقام في اليوم الثالث، على ما في الكتب. وإنه تراءَى لكيفا ثم للاثني عشر، ثم تراءَى لأكثر من خمسماية أخ معاً أكثرهم باق حتى الآن وبعضهم رقدوا؛ ثم تراءَى ليعقوب، ثم لجميع الرسل ( غير الاثني عشر )، وآخر الكل تراءَى لي أنا أيضاً كأنما للسِقط! ... فسواء كنت أنا أم هم، هكذا ندعو، وهكذا آمنتم )) ( 1 كو 15 : 1 ـ 11 ).

فموت المسيح صلباً إنجيل وكتاب، نبؤة وتاريخ، في المعنيين للاستشهاد والفداء. وهذه الدعوة بالمعنيين ليست من بولس، بل سلمها كما تسلمها من الرسل؛ والرسل تسلموها من فم الرب يسوع نفسه، الذي فسّر لهم معنى الاستشهاد بتعابير النبؤات عنه : موت الراعي الصالح عن رعيته، استشهاد (( عبد الله عن شعبه )) ، إقامة (( عهد جديد )) مع البشرية بدم المسيح.

فتعليم الرسل من تعليم المسيح في معنى استشهاده، وفي الدعوة للمسيح وملكوت الله معاً، لأن ملكوت الله في المسيح نفسه.

 

 

#

248 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

 

بحث ثالث عشر

 

مسيح الإيمان ويسوع التاريخ في سفر الأعمال

 

من الشبهات العصرية أن مسيح الإيمان ليس بيسوع التاريخ. فقد ظهر يسوع نبيّاً في بني إسرائيل، والمسيحية من بعده نادت به ربّاً وابن الله.

ولا يقول مثل هذا القول إلاَّ من يجهل البيئة التي دعا فيها رسل المسيح، ويجهل تناقض دعوتهم تلك مع بيئتهم ومع أنفسهم.

فقد فات أهل هذه الشبهة أن رسل المسيح كانوا في التوحيد التوراتي، على أخلص ما يكون التوحيد. فلو لم يعلّم يسوع أنه ابن الله، لما فكّر أحد من أتباعه أن ينسب إليه تلك الدعوة في البيئة الإسرائيلية.

وها أن لوقا أحد أتباع المسيح من الأميين، الذي أخذ دعوة المسيح من فم (( أولئك الذين كانوا منذ البدء شهود عيان للدعوة ثم صاروا دعاة لها )) ( لوقا 1 : 1 ـ 4 )، وتتبع أحداثها في مواطنها مدة ثلاث سنوات بينما كان معلمه بولس أسيراً في قيصرية فلسطين، ينقل لنا في كتابه بقسميه، الإنجيل والأعمال، دعوة المسيح ثم دعوة الرسل؛ وفيها الخبر اليقين الذي لا ريب فيه أن مسيح الإيمان هو يسوع التاريخ، (( يسوع الناصري )) كما يسميه في سفر الأعمال.

إيمـان لـوقا بربوبية يسوع تظهر من تسميته الخاصة لـه في الإنجيل والأعمـال : (( الرب )) ، (( الرب يسوع )) ، كما رأينا ذلك.

مسيح الإيمان ويسوع التاريخ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 249

ففي سفر الأعمال نرى مسيح الإيمان الذي ينادي به الرسل أنه (( يسوع الناصري )) نفسه، الذي استشهد على الصليب، كما يظهر من بلاغات الرسل المتواترة.

ففي البلاغ الأول للشعب : (( فليعلم إذن يقيناً جميع بني إسرائيل أن الله قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربّاً ومسيحاً )) ( أع 2 : 36 ).

وفي البلاغ الثاني للشعب : (( إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، إله آبائنا، قد مجّد فتاه، يسوع الذي أسلمتموه أنتم، وأنكرتموه بحضرة بيلاطس، وقد حكم هو بإخلاء سبيله. فقد أنكرتم أنتم القدوس، الصالح، طالبين تسريح الرجل القاتل. أجل، لقد قتلتم مصدر الحياة الذي أقامه الله من بين الأموات. ونحن شهود بذلك )) ( أع 3 : 13 ـ 15 ).

وفي البلاغ الأول للسنهدرين، مجلس القضاء الأعلى عندهم، صرّح بطرس زعيم الرسل بمناسبة معجزة إبراء مقعد : (( يا أحبار الشعب وشيوخه، إننا نُسأل اليوم عن معروف إلى رجل سقيم، وباسم مَن بُرئ. فليكن معلوماً عندكم أجمعين، وعند شعب إسرائيل كله، أنه باسم يسوع الناصري المسيح الذي صلبتموه أنتم، وأقامه الله من بين الأموات، أجل به وقف هذا الرجل أمامكم متعافياً. فهو الحجر الذي ازدريتموه، أيها البناؤون، والذي صار رأساً للزاوية. فما من خلاص بأحد غيره، إذ ليس تحت السماء اسم آخر أُعطي للناس، به ينبغي أن نخلص )) ( أع 4 : 8 ـ 12 ).

وفي البلاغ الثاني للسنهدرين الذي أوقف رسل المسيح لاستجوابهم في الدعوة ليسوع الناصري أنه المسيح، أعلن بطرس باسم الرسل : (( لا طاعة لمخلوق في معصية الله. إن الله إله آبائنا قد أقام يسوع، الذي قتلتموه أنتم معلقين إياه على خشبة. فهو الذي قد رفعه الله بيمينه مصدراً ومخلصاً، ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا. ونحن شهود له بذلك، والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين أسلموا له )) ( أع 5 : 29 ـ 32 ).

250 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

وفي البلاغ الأول للأميين، يوم هداية كرنيليوس قائد حامية قيصرية الروماني الوثني، أعلن بطرس أن (( يسوع الناصري ... الذي قتلوه معلقين إياه على خشبة ... الذي أكلوا وشربوا معه بعد قيامته من بعد الأموات )) هو (( يسوع المسيح رب العالمين )) وهو (( ديان الأحياء والأموات )) أي ملك يوم الدين ( أع 10 : 34 ـ 43 ).

ففي كل البلاغات مسيح الإيمان هو يسوع التاريخ، يسوع الناصري نفسه.

وفي الإنجيل بحسب لوقا نرى يسوع الذي يولد من أم لم يمسسها بشر، ويعيش في الناصرة مغموراً بين أهلها، ويقبل عماد التوبة عن يد المعمدان، ويجمع لديه بعض الأتباع، يبدأ دعوته بالناصرة أنه هو المسيح الموعود في نبؤة أشعيا، وذلك في موطنه الناصرة. دخل الجامع مع تلاميذه يصلي، على عادته يوم اليوم عن معروف إلى رجل سقيم، وباسم مَن بُرئ. فليكن معلوماً عندكم أجمعين، وعند شعب إسرائيل كله، أنه باسم يسوع الناصري المسيح الذي صلبتموه أنتم، وأقامه الله من بين الأموات، أجل به وقف هذا الرجل أمامكم متعافياً. فهو الحجر الذي ازدريتموه، أيها البناؤون، والذي صار رأساً للزاوية. فما من خلاص بأحد غيره، إذ ليس تحت السماء اسم آخر أُعطي للناس، به ينبغي أن نخلص )) ( أع 4 : 8 ـ 12 ).

وفي البلاغ الثاني للسنهدرين الذي أوقف رسل المسيح لاستجوابهم في الدعوة ليسوع الناصري أنه المسيح، أعلن بطرس باسم الرسل : (( لا طاعة لمخلوق في معصية الله. إن الله إله آبائنا قد أقام يسوع، الذي قتلتموه أنتم معلقين إياه على خشبة. فهو الذي قد رفعه الله بيمينه مصدراً ومخلصاً، ليعطي إسرائيل التوبة ومغفرة الخطايا. ونحن شهود له بذلك، والروح القدس أيضاً الذي أعطاه الله للذين أسلموا له )) ( أع 5 : 29 ـ 32 ).

مسيح الإيمان ويسوع التاريخ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 251

يسوع : (( إذن، لكي تعلموا أن ابن البشر له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا ... لك أقول ـ قال للمخلع ـ قم احمل فراشك وامضِ إلى بيتك! )) ( لوقا 5 : 17 ـ 26 ). فيسوع بصفته ابن البشر يتمتع بسلطان الله نفسه، وهذا السلطان دليل الذات.

وفي جدال مع علمائهم في حرمة يوم السبت يصرّح لهم : (( إن ابن البشر هو رب السبت )) ( لوقا 6 : 5 ). فهو رب الشريعة مثل الله نفسه.

وبإحياء ابن أرملة نائين بكلمة منه ( لوقا 7 : 14 ) أظهر أنه هو أيضاً رب الحياة والموت. كذلك في إحياء ابنة يائير رئيس جامع كفرناحوم ( لوقا 8 : 40 ـ 56 ).

وبتكثير الخبزات الخمس في البرية لإطعام نحو خمسة آلاف رجل سوى النساء والصبيان ( لوقا 9 : 10 ـ 17 ) يظهر أنه رب الطبيعة أيضاً، لأنه يصنع المعجزة بسلطانه الخاص، لا بالدعوة إلى الله كسائر الأنبياء والأولياء.

وبعد شهادة صحابته له أنه المسيح، انفرد بالثلاثة المقربين على جبل الشيخ وتجلّى على حقيقته أمامهم، فشعّت إِلهيته من خلال بشريته، وجلّل المشهد غمامة منيرة رمز حضور الله في الكتاب، وإذا صوت من السحابة يقول : (( هذا هو ابني الحبيب، المصطفى عندي، له فاسمعوا )) ( لوقا 9 : 28 ـ 36 ).

وتأييداً لذلك، يصرح يسوع لتلاميذه الاثنين والسبعين أمام الجمهور، وقد رجعوا ظافرين من بعثتهم للدعوة له : (( لقد آتاني أبي كل شيء؛ فليس أحد يعلم مَن الابن إلا الآب، ومَن الآب إلا الابن، ومَن يريد الابن أن يكشف له ذلك. ثم التفت إلى تلاميذه وحدهم وقال لهم: طوبى للعيون التي تنظر ما أنتم ناظرون! فإني أقول لكم، إن كثيرين من الأنبياء والملوك ودّوا أن يروا ما أنتم راؤون ولم يروا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا! )) ( لوقا 10: 21 ـ 24 ).

252 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

ثم يختم رسالته بدخوله أورشليم، في أحد الشعانين، دخول المسيح الموعود، والتلاميذ والجماهير تهتف له : (( مبارك الآتي باسم الرب! السلام في السماء والمجد في العلاء! فقال له بعض الفريسيين من الجمع : يا معلم ازجر تلاميذك! فأجابهم، قال : إني أقول لكم، إن سكت هؤلاء صرخت الحجارة! )) ( لوقا 19 : 28 ـ 39 ).

وفي اليوم الأخير من دعوته في هيكل أورشليم، في الجدل الحاسم مع أرباب السلطان في الهيكل، أعلن لهم مكانته من النبوة والكتاب، في تاريخ الخلاص. كان الأنبياء عبيداً لله في كرمه. فقتلوهم واحداً واحداً. فقال الله، رب الكرم : (( ماذا أفعل : أرسل ابني الحبيب، فلعلهم يهابونه! فلما رآه الكرامون ائتمروا في ما بينهم، قالوا : هذا هو الوارث، فلنقتله ليصير الميراث لنا! )) ( لوقا 20 : 9 ـ 19 ). فيسوع الناصري الذي يكشف مؤامرتهم عليه يعلن لهم على لسان الله نفسه أنه ابنه الحبيب، وارث كرم الله في أرضه وسمائه.

وفي اليوم نفسه يصرح لعلماء اليهود في الهيكل أنه هو (( ابن داود )) و (( ربه )) معاً (لوقا 20 : 41 ـ 44).

لقد طفح الكيل، فلا بد من قتل الكافر! فقبضوا عليه بخيانة يهوذا أحد تلاميذه، واتوا به إلى مجلس القضاء الأعلى، السنهدرين. فحققوا معه، ففشل التحقيق في إِدانته. حينئذ سأله الحبر الأعظم : (( إن كنت أنت المسيح فقله لنا ؟ فقال لهم : من الآن يكون ابن البشر جالساً عن يمين قدرة الله! فقالوا له جميعهم : أفأنت إذن ابن الله ؟ فقال لهم : أنتم قلتم! أنا هو! )) فكفروه وحكموا عليه بالإعدام صلباً ( لوقا 22 : 63 ـ 71 ). فاستشهد يسوع الناصري بسبب هذه الشهادة.

مسيح الإيمان ويسوع التاريخ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 253

وهذه الشهادة التاريخية في مجلس القضاء الأعلى تكفي وحدها لتبرهن أن مسيح الإيمان هو يسوع التاريخ، يسوع الناصري نفسه.

وهبْ أن كلمات المسيح لم تصلنا كلها بحرفها الذي نطق به. فقد وصلنا منه تعبير عبراني أرامي تنقله كل المصادر. فقد كان يسوع يسمي الله (( أبـَّا )) أي (( يا أبي )) . وهذا لم يجرؤ أحد من الأنبياء أو الأولياء عليه.

أجل اسم وصف الله أباً كان شائعاً في ديانات المشرق. لكن ليس على سبيل التوحيد، بل على طريقة الشرك في تناسلهم من إِلههم.

وفي الكتاب يُوصف الله الواحد الأحد أنه (( أب )) نحو أربع عشرة مرة ( التثنية 32 : 6؛ ملاخيا 2 : 10؛ مزمور 103 : 13؛ أرميا 3 : 4 و19؛ ملاخيا 1 : 6؛ أشعيا 63 : 15؛ 64 : 7؛ هوشع 11 : 3 و8؛ أرميا 31 : 9 و20 )؛ لكن على سبيل اصطفاء إسرائيل شعباً خاصاً له.

وفي التلمود، يأتي اسم (( أبيونو )) أي أبونا، مرادفاً للقب : (( ملْكانو )) أي ملكنا. حتى تعبير (( أبانا الذي في السماوات )) ورد عندهم. لكن لا نجد في الكتاب، ولا في التلمود، ولا في مصدر من المصادر الإسرائيلية أن أحداً سمّى الله (( أبي )) على الإفراد1 .

وحده يسوع انفرد بهذه التسمية. وبما أنها فريدة وغريبة ومذهلة عند أهل التوحيد، فقد نقلها الرسل بحرفها الأرامي. فيسوع في كل صلواته ينادي الله : (( أبـَّا )) أي (( يا أبي )) ـ نحو إحدى وعشرين مرة عدّاً، أو ست عشرة مرة إذا حسمنا المواضع المتوازية. يشذ يسوع عن ذلك مرة واحدة، وهو على الصليب حين يتلو نبؤة الكتاب: (( إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟ )) ( مرقس 15 : 34؛ متى 27 : 46؛ قابل المزمور 22 : 1 ).

ــــــــــــــــــ

(1) Jérémias : le message du Nouveau Testament, p. 15

254 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 13

ويسوع يعلم تلاميذه أن يروا في الله أباً، لكن يقول دائماً على طريقة الجمع (( أبوكم ))؛ وعندما يعلمهم أن يصلوا، يقول لهم : (( وأنتم فقولوا : أبانا الذي في السماوات )) . وتعليم المسيح أبوة الله هو جوهر الإنجيل.

لكن يسوع وحده ينفرد بالقول (( أبَّا )) ، لله، أي (( يا أبي )) ، مما يدل على معنى تصاريح الإنجيل في أبوة الله وبنوة المسيح : إنها بنوة بحسب الكيان والطبيعة الإلهية؛ أما بالنسبة للمخلوقين فهي بحسب الاصطفاء والتبني.

وبولس لا يتجاسر بلفظ كلمة (( أبَّا )) في تسمية الله، إلا على لسان الروح القدس في المؤمن : (( وبما أنكم أبناء، أرسل الله إلى قلوبنا روح ابنه ليهتف : أبَّا ـ يا أبي )) ( غلا 4 : 6 )؛ (( بل أخذتم روح التبني الذي به ندعو : أبَّا، يا أبي )) ( رو 8 : 15 ).

والكنيسة حتى اليوم، في القداس، قبل تلاوة الصلاة الربية تعلن : (( أيها السيد، أهلنا أن نتجاسر بدالة، وندعوك أباً، أنت الإله السماوي، ونقول : أبانا الذي في السماوات )) .

إننا نتجاسر في المسيح أن نسمّي الله (( أبانا في السماوات )) . لكن يسوع وحده في العالمين يقول : (( أبَّا )) ، يا أبي. فالله أبوه، وهو ابن الله.

فلوقا يرينا في الإنجيل والأعمال أن مسيح الإيمان هو يسوع التاريخ.

 

 

g s

قمران والإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 255

 

بحث رابع عشر

 

قمران والإنجيل1

 

أثار اكتشاف مخطوطات قمران شبهة على مصادر الدعوة الإنجيلية، حتى قيل إن الدعوة المسيحية من الدعوة القمرانية : فما هي الحقيقة ؟ وما هو الواقع التاريخي ؟ وهل للدعوة الإنجيلية من صلة بجماعة قمران ؟

لقد أوجزنا القول في التمهيد، ونتبسّط في هذا البحث بعض الشيء.

1 ـ اكتشاف المخطوطات

في صيف عام 1947 عثر محمد الديب، راع من قبيلة التعامرة، على بعض مخطوطات في كهف من كهوف خربة قمران، على الضفة الغربية من البحر الميت. كانت سبعة محفوظة في جرتين. فأتى بها إلى سكاف في بيت لحم اسمه كَنْدو، وهو سرياني المذهب، ليعمل له منها سيوراً لحذائه. وما درى كلاهما أنهما يحملان ثروة لا تقدر بثمن. فأخذها السكاف كندو منه، ثم عرضها على مطرانه في القدس مار اثناسيوس يشوع صموئيل، فاشترى منها أربعة؛ ثم بيعت الثلاثة الأخرى للجامعة العبرية بالقدس. ووصلت مخطوطات المطران إلى الولايات المتحدة. أخيراً حصلت عليها الجامعة العبرية بالقدس، وقد تبرع محسن مجهول بثمنها 000 250 ألف دولار.

ــــــــــــــــــ

(1)

اقتبسنا بعض هذا البحث من العلامة الإنجيلي J. Jérémias في كتابه:

Message central du N. T., p. 95

 

256 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 14

ولمَّا عرف العلماء بتلك المخطوطات النادرة هبّوا لاكتشاف كهوف قمران. فتجمّع لديهم نحو ستماية من شذرات المخطوطات التي لم تسلم من رطوبة الكهوف. فاستولى عليها جميعها المتحف الوطني الأردني.

وقد أثبت العلم الحديث أن تلك المخطوطات الكاملة السبعة، في الجامعة العبرية وتلك المئات الست من الشذرات المخطوطة في المتحف الأردني ترتقي كلها إلى الثلاثماية سنة قبل المسيح.

وهي تقسم إلى ثلاثة أبواب : أولاً نصوص العهد القديم كلها، ما عدا سفر استير. ثانياً كتب منحولة إلى العهد القديم. ثالثاً مخطوطات جماعة قمران نفسها : شرْعة الجماعة، مزامير لصلاتهم، صلوات المغرب والفجر لكل أيام الشهر، تفسيرات الكتاب، تقويم شمسي يتبعونه في قمران بدل التقويم القمري الذي يعمل بموجبه اليهود وسلطات الهيكل.

وقيمة تلك المخطوطات عظيمة، فإنها تنبئنا عن البيئة التي نشأة فيها المسيحية. والذي أذهل العقول تلك القرابة في التعبير بين العهد الجديد ومخطوطات قمران، حتى ثارت الظنون من كل حدب وصوب، وتسرَّع قوم فادّعوا أن الدعوة الإنجيلية من دعوة رهبان قمران.

2 ـ جماعة قمران

وقد أوضح النقد التاريخي أن جماعة قمران كهنة رهبان نسَّاك من فرقة الاسينيّين الذين نعرفهم من كتابات المتكلم اليهودي فيلون، والمؤرخ اليهودي يوسيف، والجغرافي الروماني بلينوس في كتابه (( التاريخ الطبيعي )) الذي وضعه عام 77 م، يصف فيه البحر الميت وجماعة قمران، بعدما شتتهم الحرب.

يقول بلينوس فيهم : (( وعلى الضفة الغربية من البحر الميت، بعيداً عن

قمران والإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 257

أضراره الناتجة عن مياهه يُقيم الأسينيون. وهم جماعة من النسَّاك المتوحدين، لا مثيل لهم في العالم : فهم بدون نساء ـ إذ يحرّمون الحب الجنسي ـ وبدون مال، يعيشون بجوار البلح. مع ذلك فإن عددهم يستمر ويتجدّد بمن ينتسب إليهم من الأتباع الهاربين من صراع الأقدار ليعيشوا معهم. وهذا مما يُذهل )) ( ك 5 ف 17 ع 13 ).

وهكذا يثبت تاريخياً أن جماعة قمران من فرقة الأسّينيين1 .

والأسّينيون يرجع أصلهم إلى زمن الثورة المكابية على الاحتلال السوري البيزنطي، وتحويل الهيكل إلى معبد للإله زفس عام 167، على يد الملك انطيوخس الرابع. فبعد نجاح الثورة الإسرائيلية اغتصب يوناتان المكابي رئاسة الكهنوت، وجمع بيده السلطتين الدينية والمدنية. فثارت عليه نقمة الكهنة الصدوقيين لأن رئاسة الكهنوت كانت إليهم. فاعتزل قسم منهم أورشليم والهيكل، وانعزلوا في برية الأردن، عملاً بكلمة أشعيا : (( في البرية هيّئوا صراط الله )) (40 : 3)2 . ومن الغريب أنها الآية التي بها يفتتح الإنجيل بحسب مرقس (1 : 3).

واتخذت تلك الجماعة المعتزلة لأنفسهم اسم ـ حسب القراءة ـ (( القصيّة )) أي المعتزلة، أو (( الخصيّة )) أي المتبتلة. ولعل في قول الإنجيل : (( فإن من الخصيّة من وُلدا هكذا من بطون أمهاتهم، ومنهم من خصاهم الناس، ومنهم من يعيشون كالخصيان في سبيل ملكوت الله )) ( متى 19 : 12 )، إشارة إلى الكهنة الرهبان في ديورة قمران.

ــــــــــــــــــ

(1) تضاربت الآراء في نسبة رهبان قمران إلى فرقة من الفرق اليهودية المعروفة : فمنهم من نسبهم إلى الأبيونيين ( Teicher ) أو إلى الصدوقيين ( Moth )؛ أو إلى الفريسـيين ( Rabin )؛ أو إلى الغيورين أي (( الحسيديين )) Zélotes ( Driver ) . وشهادة بلينوس المعاصر تقطع بنسبتهم إلى الأسّينيين ( Hist. Nat. v. xii, 73 ) .

(2) قابل في مخطوطاتهم I QS 8 : 12 – 16 .

258 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 14

وبسبب نسكهم تلقبوا أيضاً (( بالأتقياء )) أي (( الأسّينيين )) باللغة اليونانية. فقد تطرّفوا في الزهد بالنساء والولد والمال والطاعة بشرعتهم ـ تلك هي النذور الثلاثة الرهبانية. وتميّزوا بالانقطاع عن العالم، وباعتزال الناس والهيكل الذي تدنّس، في نظرهم، والشعب الذي يحكمه قوم (( نجَس )) . وتصلبوا في إقامة شريعة موسى أكثر من الفريسيين، مع أنهم لم يفرضوا هذا التصلّب إلاَّ على أنفسهم في عزلتهم بأديرتهم في قمران ككهنة رهبان، لا على مريديهم وأتباعهم في العالم. فكان لا يجوز في مذهبهم حمل طفل يبكي يوم السبت، ولا انتشال إنسان أو حيوان سقط في بئر أو في حفرة بأي طريقة كانت. وعلى هذا التعسف ثار السيد المسيح.

وكان على رأس تأسيس فرقة الأسّينيين وجماعة قمران (( معلم البـِر )) الذي أعطاهم (( شرعة الجماعة )) ، وتفسيراً جديداً للتوراة، ووضع لهم تقويماً شمسيّاً يسيرون عليه بخلاف التقويم الذي يسير عليه أهل الهيكل.

تتميّز حياة رهبان قمران بالنذور الرهبانية الثلاثة : التبتّل، والحياة الفقرية والطاعة العمياء لشرعة الجماعة؛ وبالوضوء المتواصل مع الغسل الكامل كل يوم. فهم يقضون النهار في أشغال شاقة، ويقومون الليل، من السادسة مساء إلى العاشرة، للصلاة وتلاوة التوراة والمزامير والأناشيد، مع الصلوات النهارية الثلاث صبحاً وظهراً ومساءً.

ولا يدخل معهم المريد إلا بعد عامين ـ يوسيف يقول : ثلاثة ـ من التدريب، تنتهي بالقسم في المحافظة على شرعة الجماعة حتى الاستشهاد، إذا لزم الأمر، وبالتنازل للجماعة عن جميع الأكل ليحق له الأملاك معهم من أكلهم،

ــــــــــــــــــ

(1) قابل المخطوطة I Q S 6 : 13؛ ويوسيف : الحرب اليهودية ك 2 ص 137.

قمران والإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 259

ولا يجوز لهم طعام سواه. وكل من خالف شريعة موسى أو شرعة الجماعة يُطرد طرداً. ومن قسمهم النذر بأن لا يأكل أحدهم إلا من طعام الجماعة المهيّأ بأيديهم، والمحافظة على تعاليمهم السرية1 .

وكانوا يغالون على الفريسيين بإقامة شعائر السبت : (( فيوم السبت، من يحفظ طفلاً لا يجوز له أن يحمله )) ، ولو مات بكاء! (( ويوم السبت إذا وقع رجل في بئر أو حفرة لا يحل له رفعه بسلّم أو حبل أو أية آلة أخرى )) ،2 ولو مات في البئر! قابل ردّ المسيح عليهم في الإنجيل ( متى 12 : 11 ).

واعتمدوا الثنائية في صوفيتهم بالتمييز بين روح الله وروح بليعال، بين النور والظلمة3. لكن تلك الثنائية القمرانية تختلف عن الثنائية المجوسية أو العنوصية، فهي قائمة على التوحيد التوراتي الخالص وعلى أحكام الشريعة الموسوية، وعلى نذورهم الرهبانية الثلاثة : التبتل والفقر والطاعة العمياء لشرعة الجماعة.

وكانوا يعتبرون أنفسهم (( أهـل الصراط المستقيم )) الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر4؛ (( والفرقة الناجية )) من بني إسرائيل5؛ وأهل (( العهد الجديد )) الموعود6. وكانوا يسمون أنفسهم (( قديسي الله )) ، و (( الابيونيين )) أي (( المساكين )) ، وأبناء النور وأهل الرضى، وغرسة الله في أرضه، وهيكل الله الحي. وأنت تشعر بصدى هذه التعابير في العهد الجديد.

ــــــــــــــــــ

(1) قابل يوسيف : الحرب اليهودية ك 2 ف 123 و139 و141 و144 و150؛ وفي المخطوطات :

I Q S 6 : 13 ; I Q S 5 : 7 ; 9 : 17 , 22 ; 10 : 24 ; I Q S 6 : 4 – 6

(2) قابل (( مخطوطة دمشق )) C D 11 : 11 , 16

(3) قابل مزمورهم I Q S 3 : 13 ; 4 : 26

(4) قابلI Q H 3 : 19 – 21 ; 7 : 26 – 31

(5) قابلC D I : 4 ; I Q M 13 : 8 ; I Q H 6 : 8

(6) قابلCD 6 : 19 ; 8 ; 21 ; 19 : 33 ; 20 : 12

260 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 14

قامت أديرة قمران حتى الثورة اليهودية عام 66 م ـ 70 م. وفي عام 68 م قضى الرومان عليهم وعلى أديرتهم قبل القضاء على أورشليم عام 70 م. والناجون منهم خبَّأوا قبل هربهم في كهوف قمران مخطوطاتهم، فسلمت لنا. والناجون منهم انضم قسم منهم إلى النصرانية الإسرائيلية، فطغى عليها اسم (( الابيونية )) ، الصفة التي جلبوها معهم من لغتهم النسكية ـ وكلمة (( أبيون )) تعني الفقير، المسكين، قال الإنجيل : (( طوبى للأبيونيين )) بالأرامية أي المسـاكين ـ وقسـم انضـم إلى تلاميذ المعمدان وصـاروا يسمون أنفسـهم (( المندائيّين )) .

3 ـ المعمدان وقمران

هل كان المعمدان صلة الوصل بين قمران والدعوة المسيحية ؟

وأنت ترى، من أوصاف الجماعة ما تجده من تعابير وأوصاف في الإنجيل والعهد الجديد كله، خصوصاً في لغة الإنجيل بحسب يوحنا ـ ويوحنا الرسول تتلمذ للمعمدان قبل أن يتتلمذ للمسيح. والشبهة الكبرى في نسبة الدعوة المسيحية إلى أصل قمراني هو وجود يوحنا المعمدان في منطقتهم وأسلوبه في الدعوة إلى التوبة بطريقة الغسل الكامل في الماء الجاري، أي العماد، على حسب طريقتهم. والشبهة الأخرى أن الإنجيل لا يذكرهم بسوء؛ وسكوت الإنجيل عنهم كأنه دليل الرضى.

ولكن بعد ترجمة القسم الكبير من المخطوطات ودراستها بنزاهة ظهرت الفوارق العميقة بين الدعوة المسيحية والدعوة القمرانية.

والسؤال الأكبر في ذلك، هل انتسب يوحنا المعمدان، ابن الكاهن زكريا، إلى جماعة قمران ؟

ليس الأمر مستحيلاً، فقد (( أقام في القفار إلى يوم ظهوره لإسرائيل )) ( لوقا 1 : 8 ). لكنّ ما يمنع انتسابه إلى جماعة قمران هو استقامته كحد السيف والتي

قمران والإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 261

توجب عليه أن يحافظ على نذرهم وقسمهم أن لا يأكل إلا من أكل الجماعة؛ أما هو (( فكان طعامه الجراد وعسل البرّ )) ( مرقس 1 : 6 ). ففي طريقة معيشته، إنه ينفصل عنهم، وهذا في شرعة الجماعة يستحق الطرد : أمن المعقول أن يخون المعمدان نذره القمراني، فيعرض نفسه للطرد ؟ أيكون نبي الله ونجيّه الخائن لنذره ؟ ثم إن رهبان قمران كانوا على خلاف شديد مع سلطات الهيكل : أفمن المعقول أن يوفدوا إليه وفداً منهم يستطلع أخباره وينبش أسراره : هل هو المسيح ؟ ( يوحنا 1 : 19 ـ 28 ). فاستقامة المعمدان الشخصية تجاه نذرهم وطريقة معيشتهم تمنع من انتساب المعمدان إلى قمران.

وإن كان ثمة من تشابه بين عماد المعمدان ووضوء قمران، للتطهير والتوبة، فالتباين ظاهر من الدعوة نفسها، والفوارق عديدة :

1) كانت دعوتهم مقصورة على أتباعهم ورهبانهم مع قسَم بالمحافظة على تعاليمهم السريّة؛ ودعوة المعمدان مفتوحة للجميع بلا سرّ. كان عمادهم مقصوراً على جماعتهم، وعماد المعمدان مفتوحاً للجميع، ولمن لا يتتلمذ له بل يطلب التطهير والتوبة : (( وكان يوحنا المعمدان يدعو في البرية بمعمودية التوبة، لمغفرة الخطايا. وكان جميع أهل اليهودية وجميع سكان أورشليم يخرجون إليه ويعتمدون على يده، في نهر الأردن، معترفين بخطاياهم )) (مرقس 1 : 4). ولا يعقل أن تسمح سلطات الهيكل لأهل أورشليم بالتوبة والتطهير على يد أحد الخوارج عليهم من رهبان قمران؛ وقد كان أهل أورشليم يتورعون عن الاعتراف بيسوع أنه المسيح، مع قيام معجزاته الخارقة بين ظهرانيهم ( يوحنا 9 : 22 ).

2) تلامذة قمران رهبان، والتابع لهم بإِحسان بلا رهبانية لا يقيم معهم في الدير، ولا يشترك معهم على طعام، ولا في صلاة. وقد أجمع المؤرخون الثلاثة فيلون ويوسيف وبلينوس على رهبانية أهل قمران وامتناعهم عن الزواج : بينما تلاميذ المعمدان مثل بطرس واندراوس ويعقوب، أخي يوحنا البتول، كانوا

262 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 14

متزوجين. فالمعمدان، وإن عاش بتولاً، فما كان يطلب من تلاميذه البتولية. وهذا فارق عظيم في الدعوة والسلوك.

3) كان المعمدان يدعو لمسيح واحد، المسيح الموعود من نسل داود. أما رهبان قمران فكانوا يدعون إلى مسيحَين : المسيح الداودي، والمسيح الهاروني كما تشهد مخطوطاتهم.

4) المعمدان أظهر المسيح الموعود، للشعب، في شخص يسوع : (( أنا أعمدكم بالماء، لكن بين ظهرانيكم من لا تعرفونه، وهو الآتي بعدي. وأنا لا أستحق أن أحلَّ سير حذائه! )) (يوحنا 1 : 26 ـ 27)، (( فهو يعمدكم بالروح القدس والنار )) ( متى 3 : 11 )؛ (( وفي الغد رأى يسوع مقبلاً إليه فقال : هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم. هذا هو الذي قلت عنه : انه يأتي بعدي إنسان أفضل مني، لأنه القديم من قبلي. أنا لم أكن أعرفه، ولكن، لكي يظهر لإسرائيل، جئت أنا أعمد بالماء )) ( يوحنا 1 : 29 ـ 34 ).

أما رهبان قمران فقد هرب منهم مَن هرب عام 68 قبل حصار الرومان لديرهم وإِعمال التقتيل والهدم فيه، واحتلال مكانه بفرقة عسكرية؛ وحملوا معهم إيمانهم بالمسيحين الموعودين لليوم الآخر. فلو كان المعمدان منهم، وعلى عقيدتهم، لما آمن بالمسيح، وأعلن للشعب، وأَشار على تلاميذه بإتباع يسوع.

5) والشبهة الكبرى تكمن في طريقة العماد الواحدة بين المعمدان وقمران. لكن العماد لم يكن طريقة محصورة بقمران والمعمدان، إنما هو طريقة رسمية اتبعتها اليهودية وسلطاتُها في (( عماد الدخلاء )) أي المتقين من الأمميين المهتدين إلى التوحيد التوراتي، لكنهم يأنفون من الختان. فاستعاضوا لهم بالعماد بدل الختان؛ وكانوا يسمونه (( عماد الدخلاء )) . فلم يكتسب المعمدان العماد من قمران. وكذلك لم يكتسبه المسيح ورسله من بعده من قمران. لكن السيد المسيح اتخذ عادة مألوفة ورفعها إلى منزلة سرّ مقدس يقدّس المعمدين باسم المسيح.

قمران والإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 263

وهذا الواقع يقضي على تخرّصات الذين ينسبون إلى بولس الرسول تلفيق عقيدة للعماد وطريقته من الغنوص الهلنستية والأديان السرية.

وهكذا ففي خلْق المعمدان وطريقة معيشته. وفي دعوته وفتح العماد للجماهير، ينفصل المعمدان عن جماعة قمران. فالفوارق بينه وبينهم قاطعة وأعمق من شبهة النسك بجوارهم، أو العماد على طريقتهم. فالمعمدان لم يكن من جماعة قمران، ولم تتسرّب دعوتهم، بواسطة تلاميذه، إلى الدعوة الإنجيلية.

4 ـ وجه الشبه في المعيشة المشتركة بين قمران وكنيسة أورشليم

وجد بعضهم أوجه شبه في تكوين جماعة قمران وكنيسة أورشليم، وبين حياتهم الرهبانية والحياة المشتركة بين الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم.

فقد كان رهبان قمران يعيشون حياة رهبانية مشتركة؛ ويخضعون جميعهم، في طاعة عمياء لمجلس العمداء الاثني عشر وعلى رأسهم كهنة ثلاثة. وفي الإنجيل أثر من طريقة المحاكمة القمرانية في المحاكمة الإنجيلية : بالمقابلة الشخصية، ثم بحضور شاهدين أو ثلاثة، ثم برفع القضية إلى الكنيسة أي مجلس الجماعة ( متى 18 : 15 ـ 17؛ قابل تيطس 3 : 10 ). وقد عاشت المسيحية الأولى على شيء من الحياة المشتركة، القائمة على بيع الأملاك لوضعها تحت تصرف الرسل، في خدمة المحتاجين من المسيحيين؛ وكان المسيحيون مثل جماعة قمران يشتركون بتناول الطعام مرة كل يوم ( أع 2 : 44 ـ 46؛ 4 : 32 ـ 37؛ 5: 1 ـ 11 ).

أأَليس في هذا كله دلائل على تأثير الدعوة القمرانية في الدعوة الرسولية ؟

لكنَّ تلك الظواهر الراهنة ما كانت لتخفي علينا الفوارق العظيمة الكامنة : فهم ينتظرون مسيحاً بشراً؛ ورسل المسيحية ينادون بيسوع الناصري (( ربّاً ومسيحاً )) ( أع 2 : 36 )، (( رب العالمين ... وملك يوم الدين )) ( أع 10 : 36

264 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 14

و41 ). فالعبرة في جوهر الدعوة، لا في تشابه بعض التعابير وبعض التقاليد؛ ولا ضير على الدعوة الرسولية إذا كانت قد اقتبست عنهم بعض عوائد سلوكها. فالسر، كل السر، في الجواهر لا في الظواهر.

5 ـ هل كان لبولس علاقة بالدعوة القمرانية ؟

صلة بولس بالدعوة القمرانية تقوم على وحدة التعبير في مقطع واحد في الرسالة الكورنثية، حيث يظهر مقحماً لأنه يقطع السياق ( 2 كو 6 : 14؛ 7 : 1 )؛ وعلى وصف سلاح المجاهدة الروحية ( أفسس 6 : 11 ـ 20 ).

فنرى أنها صلة محدودة. والموافقة إنما هي في التعبير، وهو تراث مشترك، لا في التفكير. والخلاف كبير بين الدعوتين: قمران تدعو للتوحيد الكتابي؛ وبولس يدعو إلى (( إنجيل السلام )) ، ليعرّف (( بسر المسيح )) ( أفسس 6 : 15 و19 ) الذي (( يحل فيه جسدياً ملء اللاهوت كله )) ( كو 2 : 9 )، وهذا كفر في نظر التوحيد القمراني. وعندهم، (( البـِرّ )) كله بالشريعة الموسوية؛ أما عند بولس فالبـِرّ كل البر في الإيمان بيسوع المسيح : (( أما الآن فقد ظهر برّ الله، بمعزل عن الشريعة؛ ويشهد له الشريعة والنبيون، برّ الله الذي بالإيمان بيسوع المسيح، لجميع المؤمنين، إذ ليس من فرق، فالجميع قد خطئوا وحُرموا مجد الله. والجميع بنعمته يُبررون مجاناً بالفداء الذي بيسوع المسيح )) ( رو 3 : 21 ـ 25 ). فالدعوتان على طرفي نقيض، ولو تشابهت التعابير.

ولا ننس أيضاً أن بولس كان فريسيّاً، من تلامذة جمالئيل ( أع 26 : 5 ) وعلى خصام عنيف مع الاسينيين بالنسبة للتعبّد في الهيكل والاشتراك في طقوسه. فما كان لبولس أن يتثقف بثقافة قمران؛ فكيف به بعد أن اهتدى إلى المسيحية حيث وجد في المسيح (( سر الله، وجميع كنوز الحكمة والغنوص )) ؟ ( كو 2 : 2 ـ 3 ).

قمران والإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 265

6 ـ ما هي صلة الإنجيل بحسب يوحنا بالأدب القمراني ؟

إِن التشابه في التعبير يظهر خصوصاً بين الأدب القمراني ولغة الإنجيل بحسب يوحنا. وهنا موطن الشبهة الكبرى الثانية. نعرف أن يوحنا الرسول، كاتب الإنجيل، قد تتلمذ ليوحنا المعمدان قبل أن يصير صفيَّ المسيح ونجيّه. وقد علق بذهنه، ولا شك، شيء من التعابير المشتركة بين المعمدان وقمران بسبب وحدة البيئة ووحدة التراث اللغوي والروحي. فظهرت في الإنجيل بحسب يوحنا تلك الثنائية المتشابهة في التعبير : كالنور والظلمة، الحقيقة والكذب، الروح والجسد، الحياة التي من فوق والحياة التي من أسفل. إنهما نظامان للحياة الروحية والدينية في صراع كوني ووجداني حتى يأتي اليقين في يوم الدين.

وفي وحدة البيئة اللغوية المشهودة، كان فضل المخطوطات القمرانية أنها نقلت الإنجيل بحسب يوحنا، من الانتساب المزعوم إلى البيئة الغنوصية، إلى البيئة القمرانية الفلسطينية. فسقطت تهمة الغنوص التي كانت تحوم حوله وتخيّم عليه. والبون شاسع بين الثنائية الغنوصية المشركة والثنائية القمرانية التوحيدية.

لكن البون شاسع أيضاً بين الثنائية القمرانية التوراتية التوحيدية والثنائية الإنجيلية التثليثية عند يوحنا. لم يكن ليرد بخيال علماء قمران إلهية المسيح، وإلهية الروح القدس في الله الواحد الأحد كما يعلنهما الإنجيل بحسب يوحنا. ثم إن دعوة قمران ترينا الصراع بين النور والظلمة، وأبناء النور مع أبناء الظلمة، قائماً في الكون والإنسان حتى مجيء المسيح الموعود في اليوم الآخر العتيد، الذي لم يأتِ عندهم بعد حتى عام سبعين حين انقراضهم؛ والإنجيل بحسب يوحنا يعلن أن يسوع هو النور والحياة والنعمة والحقيقة والصراط والخلاص، لأنه

266 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 14

كلمة الله المتأنس. فكل تصاريح الإنجيل بحسب يوحنا في المسيح تعارض عقيدة قمران في المسيح الذي ينتظرون.

فإذا كان ثمة تراث مشترك في التعبير بين يوحنا والأدب القمراني، فإن التفكير والعقيدة والصوفية والدعوة على طرفي نقيض. فليست هذه الثمرة من تلك الشجرة. لكن المخطوطات القمرانية تُرينا بيئة صالحة للدعوة الإنجيلية، فقد صارت البيئة صالحة لظهور الإنجيل ونموّه. يؤيد ذلك هداية جماعة قمران إلى (( النصرانية )) الإسرائيلية، بعد الحرب السبعينية لمـَّا رأوا في خراب أورشـليم والهيكل تتميم نبؤة المسيح؛ فحملـوا إليهـا صفـة (( الأبيونية )) التي كانوا يتصفون بها. وصارت (( النصرانية )) تتصف (( بالأبيونية )) .

7 ـ يسوع والدعوة القمرانية

إِن دعوة السيد المسيح في الإنجيل إلى (( الصراط والحقيقة والحياة )) ( يوحنا 14 : 6)، أي إلى الصراط المستقيم، وإلى العهد الجديد الموعود، وإلى البقية الناجية من بني إسرائيل، تأتلف تعبيراً مع دعوة قمران؛ لكنها تختلف عقيدةً وشريعة وصوفية ونظام حياة.

فهم يرون الصراط والحقيقة والحياة والنور في الشريعة الموسوية؛ ويسوع يصرح : (( أنا الصراط والحقيقة والحياة! لا يأتي أحد إلى الآب إلاَّ بي! )) ( يوحنا 14 : 6 )، (( أنا نور العالم ... فما دام النور معكم، فآمنوا بالنور لتكونوا أبناء النور )) (يوحنا 8 : 12؛ 12 : 36). تعبير واحد، ودعوة متناقضة يعتبرها جماعة قمران كفراً.

هم يدعون إلى التوحيد التوراتي، ويسوع إلى التثليث في التوحيد الكتابي. هم يعتبرون المسيح الموعود بشراً رسولاً؛ ويسوع يعلن في محاكمته أمام السنهدرين، مجلس القضاء الأعلى : (( من الآن يكون ابن البشر جالساً عن

قمران والإنجيل ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 267

يمين قدرة الله! ـ فقالوا جميعهم : أفأنت إذن ابن الله ؟ ـ فقال لهم : أنتم قلتم! أنا هو! )) (لوقا 22 : 69 ـ 70). فيسو هو (( ابن داود )) و (( ربه )) معاً ( لوقا 20 : 41 ـ 44 ). ويسوع يدعو إلى الله بصفة كونه (( أَبي )) و (( أَبانا الذي في السماوات )) ؛ وفي مخطوطات قمران لم يجد العلماء إلاَّ مرة واحدة أنهم يصفون الله أباً1. إنهما عقيدتان تتناقضان.

هم يدعون إلى (( البـِرّ )) في شريعة موسى؛ أما يسوع فيدعو إلى (( البـِرّ )) المنزل في الإنجيل، وإلى الحياة في المسيح. وكان عنوان الشريعة الموسوية وشعارها حفظ السبت الذي يتعصب له جماعة قمران أكثر من سائر بني إسرائيل؛ ويسوع يعلن، (( ثم قال لهم : إن ابن البشر هو رب السبت )) ( لوقا 6 : 5 ). فهم كانوا يرون الهدى في الكلمات العشر التي نزلت على موسى، بإِقامتها على ظاهرها وعلى حرفيتها؛ ويسوع يجعل من نفسه سيد الشريعة فيطور الكلمات العشر من الظاهر إلى الباطن، ومن المادية الحرفية إلى الروحية، ومن طاعة العبد إلى محبة الابن. إنهما روحان يختلفان، ونظامان يتعارضان.

كان أهل قمران أمة معتزلة عن الشعب، تتنجّس من هيكل أورشليم نفسه لأن رؤساءه مغتصبون؛ ويمنعون كل ذي عاهة من الانخراط في سلكهم. بينما يسوع يدعو إلى ملكوت الله (( المساكين والجدع والعميان والعرج ... ( ويقول في المثل لعبده ) : اخرج إلى الطرق وما حول السياجات واضطر الناس إلى الدخول حتى يمتلئ بيتي )) أي مملكة الله المسيحية ( لوقا 14 : 21 ـ 24 ). هم يتنجسون من أكل الشعب، ومن مجالسة العشارين الخطأة؛ ويسوع يأكل ويشرب مع العشارين والخطأة ( لوقا 5 : 27 ـ 32 ). الخاطئ عندهم (( نجس )) كالمشرك، ويسوع يقبل توبة الابن الشاطر الفاجر ( لوقا 15 : 11 ـ 32 )، ويسمح للزانية العاهرة، حين تابت وأتت إليه، أن تقبل قدميه وتمسحهما بشعر

ــــــــــــــــــ

(1) قابل المخطوطة I Q H 9 : 35 .

268 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفصل 4 : بحث 14

رأسها ( 7 : 36 ـ 50 )؛ ويرى أن العشار التائب أفضل من الفريسي أو القمراني المتجبّر ( لوقا 18 : 9 ـ 14 ). إنهما في الحياة صوفيتان مختلفتان.

إن رهبان قمران يحيون نظام النسك والزهد الصارم ويفرضونه على كل جماعتهم؛ أما يسوع فكان يبيح لتلاميذه الأكل والشرب مع كل الناس حتى (( العشارين والخطأة )) . وتعبير (( الخطأة )) في تلك المواطن اصطلاح كتابي يعني المشركين. وكان المشركون، في نظر أهل الكتاب، (( نَجس )) . ففي الإنجيل ليس (( النجس )) في المشرك نفسه، بل في الشرك. ورهبان قمران كانوا يمارسون الطهارة الشرعية في المأكل والمشرب والملبس أكثر من الفريسيين، ولا يكتفون مثلهم بالوضوء، بل يقتضون الغسل الكامل؛ ويسوع ينسخ سنّتهم كلها في تحريم الأطعمة، وتطهير المآكل والملابس. وكان رهبان قمران يقسمون اليمين المغلظة على سرية تعاليمهم؛ أما يسوع فيعلن لتلاميذه : (( ما أقوله لكم في الخفاء، نادوا به على السطوح! )) إنهما نظامان في السلوك متناقضان.

فالإنجيل بأحرفه الأربعة على النقيض من دعوة قمران رسالة وعقيدة وشريعة وصوفية وسلوكا ونظام حياة. فليس (( العهد الجديد )) بتجديد شريعة موسى والتصلب فيها على حرفيتها؛ إنما (( العهد الجديد )) هو بدم المسيح لمن يصطبغ به في العماد المسيحي ( لوقا 22: 20 ).

فليست العبرة في الظواهر والتعابير؛ إنما العبرة كلها بالحقائق والعقائد. فالأدب القمراني، كما يظهر من مخطوطاته، عالم توراتي بلغ ذروة التطرّف، ودعوة الإنجيل عالم آخر لم ترقَ إليه أحلامهم؛ ولا مثيل لها عند بني إسرائيل، ولا في الدعوات المنتشرة في العالم، لا من قبل ولا من بعد.

تلك هي الصلات الموهومة بين الإنجيل وقمران. فالإنجيل في عبقريته وإعجازه يسمو عمَّا سواه.

 

 

فَصـْلُ الخطـَابْ

قيَامُ المَسيحيَّة مُعجزة إلهيـَّة

 

[ Blank Page ]

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 271

 

 

إن قيام المسيحية، وانتشارها بالسرعة المذهلة، وبأساليب الموعظة الحسنة، في بيئة التوحيد الإسرائيلي ثم في بيئة الشرك الهلنستي، معجزة إلهية تدل على إلهية الدين المسيحي : معجزة في قيامها، ومعجزة في أساليب انتشارها، ومعجزة في نجاحها.

 

 

أولاً : المسيحية معجزة إلهية في قيامها

 

إِن قيام المسيحية على يد دعاتها (( الأميين، من عامة الشعب )) ( أع 4 : 13 )، وانتشارها في العوالم السورية والعربية والإفريقية والهندية والإغريقية والرومانية، في ظرف ثلاثين سنة ملحمة الملحمات في تاريخ البشرية.

1) ولوقا لم يدوّن لنا من تلك الملحمة الإلهية سوى بعض مشاهد لعلَمين من إعلامها بطرس وبولس. وما دوّنه شاهد عدل يدل على أن قيام المسيحية في البيئة الإسرائيلية ثم في البيئة الهلنسية، معجزة إلهية، بسبب دعوتها التي تتحدّى البيئتين تحدياً جذرياً، وقيامها مع الاضطهاد المتواصل لها من الأديان القائمة والسلطات التي تدعمها ثقافيّاً وسياسيّاً.

272 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

2) كانت البيئة الإسرائيلية في فلسطين تقوم على التوحيد التوراتي الخالص والتعصب الشديد له حتى الاستشهاد، كما ظهر زمن الاضطهاد السوري لهم قبل قرنين. وتقوم على إيمان قاهر بالمسيح الموعود، نبي الجهاد المظفر على العالم كله، المسيح (( الحي الذي لا يموت )) . فجاءت المسيحية تدعو بيسوع الناصري المصلوب (( رباً ومسيحاً )) ( 2 : 36 )، فتصدم البيئة الإسرائيلية في عقيدتيها الكبيرتين : التوحيد والماسوية، وتشقها وتأخذ منها آلاف التلاميذ المؤمنين بتلك (( البدعة )) المنكرة المستنكرة في عرفهم.

3) فمنذ خطبة بطرس الأولى تنصّر (( نحو ثلاثة آلاف نفس )) ( 2 : 41 ) في أورشليم العاصمة. وبعد الخطاب الثاني صار عدد الرجال المتنصرين (( نحو خمسة آلاف )) (4 : 4)، فإِذا كان كل رجل مع امرأة وثلاثة أولاد، كان عدد النصارى في العاصمة أورشليم وحدها، في ظرف شهر أو سنة، نحو عشرين ألفاً! (( وكان الرب كل يوم يزيد في عدد المخلصين )) ( 2 : 47 ) فأأَوقف السنهدرين زعيمي الدعوة بطرس ويوحنا، فكان ذلك فرصة لهما لإبلاغ الدعوة لمجلس اليهود الأعلى الذي زجهما في السجن. فأنقذهما منه ملاك. ثم عاد المجلس وقبض على الرسل كلهم، فكان جواب الرسل لهم : (( لا طاعة لمخلوق في معصية الله )) ( 5 : 29 ). فجلدوهم ومنعوهم من الكلام والدعوة باسم يسوع : أما هم فخرجوا من أمام المحفل، فرحين بأنهم حسبوا أهلاً لأن يهانوا من أجل الاسم )) ( 5 : 41 ). وكان استشهاد اسطفان زعيم الشمامسة ( 7 كله )؛ (( وثار في ذلك اليوم اضطهاد شديد على الكنيسة في أورشليم، فتشتت الجميع في جنبات اليهودية والسامرة، ما خلا الرسل، ( 8 : 1 ). فكان الاضطهاد سبب انتشار الدعوة في اليهودية والسامرة والجليل، حتى العاصمة الرومانية قيصرية ( 8 : 40 ). وكان دم اسطفان سبب هداية بولس زعيم المعارضة والاضطهاد ( 9 : 1 ـ 30 ). (( وأما الكنيسة، في كل اليهودية والجليل والسامرة، فكانت تبنى في طمأنينة، وتسلك في خشية الرب، وتزداد نمواً بتأييد الروح القدس )) ( 9 : 31 ). ثم بإِيعاز من الروح القدس يفتح بطرس أبواب المسيحية للوثنيين، في شخص كرنيليوس وجماعته؛ (( والمشركون

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 273

نجس )) في عرف اليهود! فقذف الاضطهاد المتواصل، منذ استشهاد أسطفان، المؤمنين (( حتى فينيقية وقبرص وإنطاكية )) ( 11 : 19 ). كانوا لا يوجهون الدعوة إلا لليهود، أو المتقين؛ فلما بلغهم عمل بطرس، وجهوا الدعوة في إنطاكية إلى الوثنيين، المسمين (( يونانيين )) أي من الرعوية اليونانية منذ الإسكندر (( فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب )) ( 11 : 19 ـ 21 ). فتجدد الاضطهاد في أورشليم، واستشهد عظيم من الرسل يعقوب بن زبدى، (( وإذ رأى الملك أن ذلك يرضي اليهود قبض على بطرس أيضاً ... وفي عزمه أن يقدمه للشعب بعد الفصح )) ( 12 : 1 ـ 5 ). فانقذه ملاك الله من السجن، وأتى إلى إنطاكية، يجعل منها عاصمة الدعوة المسيحية الثانية ( 12 : 17 ). وبعد مدة قصيرة نراه يكتب من رومة إلى نصارى المشرق : ففي مدة وجيزة، دون الثلاثين عاماً، نجد بطرس حراً وبولس أسيراً في رومة يجعلانها عاصمة الدعوة المسيحية الثالثة النهائية. وهذا هو المعنى البعيد لختام سفر الأعمال على هذا المشهد.

4 ـ في هذه الأثناء، بعد خلوة عشر سنوات، يتزعم بولس الدعوة المسيحية في البيئة الهلنستية. وكانت بيئة شرْك وفساد، تسيطر عليها فلسفة اليونان وسلطان الرومان؛ قد يؤمن بعض فلاسفتها بالتوحيد الفلسفي، ولكن أُمَمَها على شرك مقيم، تؤلّه قوى الطبيعة وقياصرة رومة، وتحاول أن تجد الخلاص في طقوس سرية هي أقرب إلى السحر منها إلى الدين. فجاءَت دعوة الرسل للإيمان بالله الواحد الأحد : أباً في ذاته وأباً للمؤمنين، وللإيمان بالرب يسوع، (( رب العالمين، وملك يوم الدين )) ؛ وللإيمان بالروح القدس، (( الرب المحيي )) للنفوس والقلوب، في وحدة الإله الذي لا إِله إلاَّ هو، تصدمها في حكمتها وفي جهالتها معاً.

5 ـ ففي ظرف عشر سنوات تتأسس الكنائس المسيحية جماعات مزدهرة في عواصم آسيا الرومانية، وفي اليونان. يتقلّب فيها بولس ما بين التأليه والرجم كما حدث له في ليسترة (14 : 11 و19 )؛ وما بين الحركة الرسولية الدائمة من

274 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

بلد إلى بلد يحمل الإنجيل، في صدّ من الوثنية، واضطهاد من اليهودية، وملاحقة من (( الأخوة الكذبة )) ، وبين الاستقرار مدة سنتين في مدرسة تيرنّس بأَفسس عاصمة آسيا الرومانية أستاذ التعليم المسيحي ( 19 : 9 ـ 10 )، ومدة سنتين في كورنثس عاصمة التجارة والفسق في اليونان. وقد فصّل لنا تلك الملحمة الرائعة؛ وأوجزها بولس في صفحة من الإيجاز المعجز (2 كو 11 : 21 ـ 32). وينتهي بولس إلى الأسر مدة خمس سنوات ما بين فلسطين ورومة، فيكون أسره شهادة للدعوة، حتى قلب عاصمة الدنيا.

فمن عام 34 إلى 64 انتشرت المسيحية انتشاراً معجزاً لم تر رومة من حدّ له إلا بالاضطهاد، فيستشهد المسيحيون بالألوف، ويزيدون على شهادة الكلمة شهادة الدم.

وتلك الملحمة الفريدة قامت بها دعوة تدعو للآخرة أكثر من الدنيا، وتدعو للدين أكثر من الدولة، وتدعو للروح أكثر من الجسد؛ دعوة تدعو للأخوة البشرية من فوق الثقافات المتنوعة والقوميات المختلفة، وتدعو لجمع ما لا يجتمع، في وحدة أهل الكتاب والمشركين، على الإيمان بيسوع المسيح، الناصري المصلوب! فكانت الدعوة المسيحية أبلغ تحدٍّ للبيئات القومية والثقافية والدينية والسياسية التي تنتشر فيها، وتتناقض معها، وتتفوّق عليها بأساليبها المعجزة. تلك هي لمحة من قيام المسيحية المعجز.

 

 

ثانياً : المسيحية معجزة إلهية في وسائلها

ويزيد من إعجاز الدعوة الظافرة، في البيئات المنكرة أو الكافرة، وسائل الدعوة التي لا عهد للبشرية بمثلها.

فالمسيحية الرسولية ليست دعوة عسكرية تقوم بالجهاد والجيوش الجرارة

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 275

للفتح والمغانم والغنائم، لقيام الدولة وسلطان الدين. وهي ليست دعوة فلسفية يتزعمها أساطين الفلسفة والعلم والثقافة، فتسبي عقول الناس. وهي ليست دعوة سياسية لإنشاء دولة عالمية أعظم من دولة قيصر وكسرى وتأمر الناس بإتباعها. فلا سلطان للسيف فيها! ولا سلطان لغرور الفلسفة! ولا سلطان للمال والإقطاع!

إنما سلطان الدعوة المسيحية الرسولية : إعجاز الكلمة، وسلطان المعجزة، وبرهان القداسة، ومعجزة الاستشهاد، والحياة الإلهية في الروح القدس.

1 ـ إعجاز الكلمة، هذه هي وسيلة المسيحية الأولى

قامت المسيحية الرسولية على إعجاز الكلمة، في الدعوة بالموعظة الحسنة. فكل سلطان الدعوة بسلطان الكلمة تطلقها فتتحدّى المعتقدات والثقافات والفلسفات والسياسيات. لم يظهر للكلمة سلطان على الناس، كما ظهر في قيام المسيحية. كلمة تصدم العقل وتأسره؛ كلمة تصدم الجسد وتتحكم في أهوائه! كلمة تصدم المجتمع وتخلقه خلقاً جديداً! كلمة تصدم الإنسان كله، في فكره وفي حسّه، في أخلاقه وفي أهوائه، وتجعله (( خليقة جديدة في المسيح )) !

إصدار الرسل، على لسان بطرس، البلاغ المسيحي الأول للشعب، (( فاعتمد الذين قبلوا كلامه، وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس )) ! ( أع 2 : 41 ).

ثم أصدروا البلاغ الثاني للشعب، فاعتقل السنهدرين بطرس ويوحنا، (( إلاّ أن كثيرين من الذين سمعوا الكلمة آمنوا، فصار عدد الرجال نحو خمسة آلاف )) ممَّا يجعل المسيحيين نحو عشرين ألفاً ( 3 : 4 ).

ثم تخطت الكلمة الشعب إلى الأحبار والشيوخ والعلماء في السنهدرين. وبعد بلاغ أول وثان لهم (( كانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدّاً في أورشليم، وجمهور من الأحبار يطيعون الإيمان )) ( 6 : 7 ).

276 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

وجرى اضطهاد أول شامل للدعوة في أورشليم ( 8 : 1 )، فقتلوا زعيم الشمامسة اسطفان، وهو يهتف : (( أيها الرب يسوع، اقبل روحي! )) ( 7 : 60 )، فتشتت التلاميذ في اليهودية والسامرة والجليل، حتى (( أن السامرة قد قبلت كلمة الله! )) ( 8 : 14 ). (( وكانت الكنيسة في كل اليهودية والجليل والسامرة تُبنى في سلام، وتسلك في خشية الرب ( يسوع ) وتزداد نمواً بتأييد الروح القدس )) ( 9 : 31 ).

سلطان الكلمة يبني المسيحية في البيئة الإسرائيلية؛ وسلطان الكلمة يبنيها في البيئات الوثنية.

ففتح بطرس باب المسيحية للوثنيين في شخص كرنيليوس وجماعته : (( وفيما بطرس ينطق بهذه الكلمات، حلَّ الروح القدس على جميع الذين سمعوا الكلمة! )) ( 10 : 44 ).

وجرف الاضطهاد التلاميذ إلى (( فينيقية وقبرص وإنطاكية ... وكانت يد الرب معهم فآمن عدد كثير ورجعوا إلى الرب )) ( 11 : 19 ـ 21 ). فأوفد الرسل إلى إنطاكية برنابا يتزعم الدعوة، (( وكان رجلاً صالحاً، ممتلئاً من الروح القدس، ومن الإيمان، فانضم إلى الرب جميع كثير )) ( 11 : 24 ).

ثم استحضر برنابا بولس من خلوته في طرسوس ( 11 : 25 ). فدعا كلاهما بالكلمة سنة في إنطاكية، (( فكانت كلمة الله تنمو وتزداد! )) ( 12 : 24 ).

وأُفرز بولس وبرنابا للدعوة في آسيا الرومانية؛ وبعد خطاب بولس في جامع إنطاكية بيسيدية (( تبع بولس وبرنابا كثيرون من اليهود ومن المتقين )) ( 13 : 43 )، (( وفي السبت التالي اجتمعت المدينة كلها تقريباً لاستماع كلمة الله! )) ( 13 : 44 ).

وفي مدينة ليسترة عاش بولس وبرنابا بين التأليه والرجم ( 14 : 11 و19 ).

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 277

وفي طريق عودتهما إلى إنطاكية، العاصمة الثانية للدعوة المسيحية، (( كانا يوطدان نفوس التلاميذ، ويحرضانهم على الثبات في الإيمان، لأنه بمضايق كثيرة ينبغي لنا أن ندخل ملكوت الله. ورسما لهم كهنة في كل كنيسة، بعد أن صلَّيا وصاما )) ( 14 : 22 ـ 23 ).

فالدعوة بالكلمة، تصحبها البشرى بالاستشهاد في سبيل الإيمان، هذا هو الإعجاز المطلق في سلطان الكلمة.

2 ـ سلطان المعجزة يؤيد سلطان الكلمة

المعجزة دليل النبوة؛ ولا نبوة بلا معجزة! فالدعوة الدينية برهان إلهيتها الأوحد، إنما هو المعجزة.

ودعاة المسيحية ينثرون المعجزات، كما ينشر الشجر أوراق الخريف! (( وجرت على أيدي الرسل آيات ومعجزات كثيرة في الشعب! وكان المؤمنون بالرب ينضمون أكثر فأكثر جماعات من رجال ونساء. حتى أنهم كانوا يخرجون بالمرضى إلى الشوارع، ويضعونهم على فرش وأسرّة، ليقع ولو ظل بطرس، عند اجتيازه، على بعض منهم! وكان الجمهور يبادرون حتى من المدن المجاورة لأورشليم، حاملين المرضى والمعذبين بالأرواح النجسة ( أي الشياطين )، وكانوا جميعهم يُشفون! )) ( 5 : 12 ـ 16 ). وقد نقل لنا لوقا مثالاً من سلطان المعجزة، في شفاء مقعد يستعطي عند الباب الجميل من الهيكل : فقال له بطرس : (( ليس لي فضة ولا ذهب، بل ما عندي أعطيك : باسم يسوع المسيح الناصري، قمْ! وامش! )) (3 : 6). هذا هو سلطان المعجزة في إعجازه المطلق!

وانتقل سلطان المعجزة إلى أعوان الرسل. (( وانحدر فيلبس إلى مدينة في السامرة، وأخذ يبشرهم بالمسيح : وكان الجموع يصغون بقلب واحد لأقوال

278 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

فيلبس، لسماعهم ومعاينتهم المعجزات التي كان يُجريها، فإن كثيرين من المقعدين والعرج قد برِئوا. فكان في تلك المدينة فرح جزيل )) ( 8 : 5 ـ 8 ).

والمعجزة دليل النبوة وإلهية الدعوة. لذلك، كما فعل لوقا في الإنجيل فنقل لنا بعض النماذج من معجزات المسيح؛ فهو ينقل لنا، في سفر الأعمال، بعض النماذج من معجزات الرسل. وبما أنه يجعل بطرس وبولس زعيمي الدعوة الرسولية، فهو يصوّرهما متماثلين في سلطان المعجزة. فكلاهما يشفيان المقعدين ( 3 : 2 ـ 9 = 19 : 8 ـ 10 )؛ وكلاهما يقيمان الموتى ( 9 : 40 = 20 : 10 ـ 12 )؛ وكلاهما يطردان الشياطين ( 5 : 6؛ 8 : 18 ـ 24 = 13 : 6 ـ 11؛ 16 : 16 ـ 18؛ 19 : 13 )؛ وكلاهما يخرجان من الحبس بواسطة ملاك ( 12 : 1 ـ 17 = 16 : 16 ـ 40 )؛ وكلاهما بسبب سلطانهما يؤلهان فيرفضان التأليه ( 10 : 25 = 14 : 11 ـ 12 )؛ وكلاهما يقتسمان دعوة العالم للمسيح : بطرس يتخصص باليهود في الوطن والمهاجر؛ وبولس لدى الأمميين. فالدعوة واحدة، ومعجزاتها واحدة، وسلطان الكلمة والمعجزة فيها واحد.

وبلغ سلطان المعجزة عند بطرس وبولس حدَّ تأليه الشعب لهما بسبب سلطانهما الإلهي! فرفضا بتواضع وتذلل أمام الله ( 10 : 25 = 14 : 11 ـ 12 ).

فسلطان المعجزة يؤيد الكلمة ويظهر إلهيتها.

3 ـ سلطان القداسة يؤيد الكلمة والمعجزة

قداسة السيرة والطوية من دلائل الهداية. وكان الرسل، تلامذة المسيح، قد تأدبوا بأدبه في الحياة والسلوك والقداسة. فكانوا بعد العنصرة رجال الروح، بسلطانهم وقداستهم، يسيّرهم في تفكيرهم وفي تدبيرهم. وقد نوّهوا بتأييد الروح القدس لهم في قرار العقيدة الأول الذي اتخذوه : (( لقد رأى الروح القدس ونحن )) ( 15 : 28 ).

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 279

كانوا رجال الروح، ورجال الصلاة؛ والصلاة روح الإيمان. يقيمون الصلاة في أوقاتها وفي غير أوقاتها. يقيمونها في الهيكل، وفي البيوت الخاصة. وتصل بهم الصلاة إلى الرؤيا والكشف الرباني. بطرس يصلّي (( فيقع عليه انجذاب )) ( 10 : 10 ). اسطفان يصلي فيرى رؤيا وتنفتح له السماء ( 7 : 55 ـ 56 )؛ ثم يستشهد وهو يصلي ( 7 : 59 ـ 60 ). حنانيا وشاول يصليان، فيريان رؤيا تؤدي إلى تثبيت هداية بولس ( 9 : 10 ـ 12 ). بطرس (( جثا على ركبتيه وصلى، ثم التفت إلى الجثة وقال : ( طابيثا قوْم )! ففتحت عينيها )) وقامت ( 9 : 40 ). بولس يصلي في الهيكل (( فيحدث له انجذاب ويرى الرب )) فيشير عليه بالهجرة من أورشليم ( 22 : 17 ـ 18 ).

يعيش الدعاة في القداسة، وتعيش الرعية في القداسة. وسفر الأعمال يعطينا أمثلة عديدة على قداسة الجماعة المسيحية الأولى : (( وكانوا مواظبين على تعليم الرسل، وعلى الشراكة، وعلى كسر الخبز، وعلى الصلوات )) ( 2 : 42 ). قداسة في الحياة الدينية، وقداسة في الحياة الاجتماعية ( 2 : 43 ـ 47؛ 4 : 32 ـ 37 )؛ حياة تضحية ومحبة وزهد. وهذه صور ثانية لحياة الجماعة المسيحية في السلام وخشية الرب وتعزية الروح القدس (9 : 31). وفي كل محنة يفزعون إلى الصلاة، (( فلما صلّوا تزلزل الموضع الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأوا جميعهم من الروح القدس، وطفقوا بجرأة، بكلام الله ينادون )) ( 4 : 31 ). ومهما قام بينهم من خلاف في الرأي كاعتبار المشركين نجساً، فالمحبة ومصلحة الدعوة تجمعهم على رأي واحد، هو رأي السلطة المسؤولة ( 11 : 1 ـ 18 ) : (( فلما سمعوا ذلك اطمأنوا ومجّدوا الله، قالوا : إذن لقد أعطى الله التوبة للأميين أيضاً لتكون لهم الحياة )) ! وفي كل المواقف الخطيرة كانت الصلاة نورهم وقوتهم؛ وفي الصلاة يستبينون إرادة الله : (( وفيما كانوا يقيمون ليترجيا الرب، ويصومون، قال لهم الروح القدس : افرزوا لي شاول وبرنابا للعمل الذي انتدبتهما إليه. فصاموا حينئذٍ وصلّوا ووضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما )) إلى الرسالة

280 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

( 13 : 2 ـ 3 ). بولس يستلم سـلطان الدعوة في الصلاة، ويسلمه إلى أعوانه في الصلاة : (( ورسما ( بولس وبرنابا ) لهم كهنة في كل كنيسة، بعد أن صليا وصاما )) ( 14 : 23 ).

وهكذا سلطان القداسة في الرعاة والرعية يؤيد الدعوة، فتنتشر انتشاراً سريعاً بالقدوة الحسنة. فالقداسة عَرْفُ طيبِ المسيح الذي يجتذب إليه الجميع.

4 ـ ويأتي الاستشهاد فتتم به الشهادة التي لا ترد

لقد قامت الدعوة المسيحية على الاستشهاد، لا على الجهاد! وعاشت في الاضطهاد، لا في الذات والأمجاد! وشهادة الدم لا ترد! ففي اضطهاد السلطات اليهودية للرسل، (( خرجوا من وجه السنهدرين فرحين بأنهم حُسبوا أهلاً لأن يُهانوا لأجل الاسم! وكانوا كل يوم في الهيكل وفي البيوت لا ينفكون يعلّمون ويبشرون بالمسيح يسوع )) ( 5 : 40 ـ 42 ). واستشهد اسطفان في إعجاز لا إعجاز بعده ( 6 : 1 ـ 8 : 1 ). وبطرس وبولس يُسجنان لأجل المسيح، ولا ينجوان إلاَّ بمعجزة ( 12 : 7؛ 16 : 26 ). وبولس يتقلَّب في ليسترة ما بين التأليه والرجم! ( 14 : 8 ـ 20 ). والاضطهاد وسيلة الله لتشتيت التلاميذ للدعوة. والاضطهاد وسيلة الله ليدفع بالرسل إلى غزو العالم للمسيح. فتعيش المسيحية الأولى على الاضطهاد والاستشهاد : (( وفي ذلك الزمان ألقى هيرود الملك الأيدي على قوم من الكنيسة ليسيء إليهم! وقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف! وإذ رأى أن ذلك يرضي اليهود، قبض على بطرس أيضاً ... وفي عزمه أن يقدمه إلى الشعب بعد الفصح! )) ( 12 : 1 ـ 4 ) فأنقذه الله بمعجزة ومضى فترأس الدعوة في إنطاكية، ثم في رومة، حيث ختم شهادته بالاستشهاد. وبولس، في ختام دعوته في العالم الإغريقي، يستعد لغزو العالم الروماني، بعد رحلة إلى أورشليم يحمل إليها تبرعات المهتدين. ويصعد إليها كأنما يمشي إلى

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 281

الموت المحتوم لكثرة النبؤات التي تتحدث عن مصيره : (( إن الروح القدس ما انفك يشهد لي في كل مدينة قائلاً : إن سلاسل ومضائق تنتظرني؛ ولكني على كل حال لا أحسب حساباً لحياتي، إذا كنت أتمّم شوطي والرسالة التي ائتمنني عليها الرب يسوع بأن أشهد لإنجيل الله )) ( 20 : 24 ). فشهد واستشهد.

ورسالة تُبنى على الاستشهاد هي رسالة سماوية! ودعوة تقوم على الاستشهاد هي دعوة إلهية!

5 ـ وسيلة الوسائل هي تأييد الروح القدس للدعوة

والسر الأكبر في قيام المسيحية وانتشارها المعجز، إنها قامت على شهادة الروح القدس لها وتأييده. وروح الله وروح الرب معاً ( 5 : 3 و6 و9 ) هو الذي يشهد للدعوة المسيحية بشهادة الكلمة، وشهادة المعجزة، وشهادة القداسة، وشهادة الاستشهاد.

فميزة المسيحية الكبرى، ظهور روح الله فيها!

فالجماعة المسيحية الناشئة قد استولى عليها روح الرب : (( أخذ ( الرب يسوع ) من الآب الروح القدس وأفاضه، كما تنظرون وتسمعون! )) ( 2 : 33 ).

فالروح هو الذي يعمل في الرسل، وهو الذي يقود الدعوة ويوجهها. وهو يشق لها الطريق، ويختار لها الأنصار. ففي منعطف من منعطفات الدعوة الرسولية، نرى الروح القدس العامل الأول فيها : فالدعوة دعوته، والشهادة شهادته! حتى قيل، كما رأينا : سفر الأعمال هو (( إنجيل الروح القدس )) .

تلك هي الوسائل المعجزة التي قامت عليها الدعوة المسيحية.

 

 

282 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

 

ثالثاً : المسيحية معجزة إلهية في سرعة انتشارها

1 ـ بتلك الوسائل الإلهية انتشرت الدعوة المسيحية وغزت العالم. ففي مدى عشر سنوات توطدت المسيحية في أورشليم عاصمة التوحيد الكتابي، وتفرعت إلى أنحاء فلسطين كلها ( 11 : 41 قابل 4 : 4؛ 5 : 14؛ 9 : 31 ). ثم عبرت إلى فينيقية وقبرص وإنطاكية عاصمة المشرق ( 11 : 19 ـ 22 ). في تلك الأثناء كان بولس بعيداً في خلوته في طرسوس بلدته. وفي مدى عشر سنوات أخرى كانت قد غزت العالم الإغريقي والروماني، وامتدت إلى إفريقيا وآسيا. وفي مدة عشر سنوات أخرى اقتحمت رومة عاصمة الدنيا، فكانت تدير منها العالم المسيحي، كما يدير قيصر (( المسكونة )) ( 28 : 28 و31 ). لقد نفّذ الرسل في مدى ثلاثين سنة مخطط يسوع لهم (( وتكونون لي شهوداً ... إلى أقاصي الأرض )) ( 1 : 8 ).

2 ـ إنها دعوة ظافرة مظفرة، لا مثيل لها في تاريخ الأديان والدعوات قاطبة، بسبب عقيدتها وشريعتها؛ وبسبب وسائلها؛ وبسبب بيئاتها. وسفر الأعمال قصص موجز لها، يعطينا لوحات من ملحمة الدعوة المسيحية، لا سيرة مفصلة لها. فلا يذكر إلا ما تحققه بنفسه. وهذه المشاهد الرائعة تكفي لوقا ليُظهر للعالم الهلنستي، ومن ورائه للعالم أجمع، بشخص النبيل تيوفيل، إلهية المسيحية، (( ليكون على بيّنة من صحة التعليم الذي اهتدى إليه )) ( لو 1 : 2 ـ 4 ). ففي نظره، وهو الوثني الطبيب الأديب المهتدي، إن سيرة الدعوة المسيحية معجزة، ومعجزة انتشارها برهان إلهيتها.

3 ـ وقد رأى رأيه علاَّمة إسرائيل جمالئيل، معلم بولس، والمسيحي المتستّر، لمَّا قرَّر السنهدرين قتل الرسل :

(( لمَّا سمعوا ذلك ( بلاغ بطرس لهم ) استشاطوا غيظاً وأرادوا قتلهم.

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 283

فنهض في السنهدرين فريسي، اسمه جمالئيل، وهو معلم الشريعة، وذو حرمة عند جميع الشعب، وأمر أن يُخرج الرجال قليلاً. ثم قال لهم : يا بني إسرائيل ... إني أقول لكم الآن اعدلوا عن هؤلاء الرجال واتركوهم! فإِن كان هذا المشروع أو هذا العمل من الناس فسوف ينتقض من ذاته؛ وأما إِن كان من الله فلا تستطيعون نقضه، وتتعرّضون لمقاومة الله! )) فأذعنوا لرأيه ( 5 : 33 ـ 39 ).

وانتشرت الدعوة المسيحية في البيئات التي وصفنا، وبالوسائل التي رأينا، وبالسرعة المعجزة التي شاهدنا؛ مع ما في الدعوة من عقيدة وشريعة وصوفية تتحدّى البيئات وتنفذ إليها؛ فلو لم تكن من الله لَمَا قامت بهذه السرعة، بتلك الوسائل، في تلك البيئات!

4 ـ يغمز بعضهم من معجزة انتشار المسيحية في البيئة الهلنستية، ومن صحتها، من دور بولس الرسول في إِحكام العقيدة وتهلينها لتسهيلها. وفاتهم أن المسيحية انتشرت في العالم الإسرائيلي، فالسوري، وبولس معتزل في بلدته طرسوس. وفاتهم أن الدعوة المسيحية سبقت بولس إلى إنطاكية، وإلى رومة. وهو يكتب أعظم رسائله إلى المسيحيين في رومة ليهيئ قدومه إليهم ( رو 1 : 11 ـ 12 ). وفاتهم أن الإسكندرية كانت المركز الثالث للدعوة المسيحية، بعد إنطاكية ورومة، وبولس ليس له فيها يد.

فلم تقم الدعوة المسيحية على بولس، وإن كان من أبطالها؛ ولم تقم العقيدة المسيحية على بولس، وإن كان من علمائها مع يوحنا الرسول وصاحب الرسالة إلى العبرانيين. أجل لقد كان لبولس فضلٌ على الدعوة والعقيدة، مثل بطرس ويوحنا، كما يظهر من سفر الأعمال. وقد خلّدت رسائله فضله. فكان المتكلم الأول في المسيحية. لكن المسيحية سبقت الكلام في المسيحية؛ فليس بولس مؤسس المسيحية في الدعوة والعقيدة. ولا وجود لبولس بدون المسيح والإنجيل الذي يحمله الرسل إلى العالم.

284 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فصل الخطاب

قال الأستاذ عباس محمود العقاد1: (( وفي وسعنا أن نتخيّل من ثمَّ فضل الرسول في الرسالة : فلا رسالة في الحق بدون رسول؛ ولا سبيل إلى قيام المسيحية بغير مسيح! فإن مصدر الرسالة الروحية هو زبدتُها وجوهرها. وهو الأصل الأصيل في قوَّتها ونفاذها. وكل ما عداه فروع وزيادات. لقد كان لبّ الرسالة المسيحية، في لبّ رسولها المسيح )) .

5 ـ فقيام المسيحية على يد رسل المسيح والتابعين لهم بإحسان، ملحمة تاريخية، كما هي معجزة إلهية.

وقد أبدع أحمد شوقي، أمير الشعراء، بوصف تلكما الملحمة التاريخية والمعجزة الإلهية، في ملحمته الرائعة (( كبار الحوادث في وادي النيل )) . قال :

وُلـد الرفق يوم مولـد عيسى

 

والمروءاتُ والهدى والحياء

وازدهى الكون بالوليد وضاءَت

 

بسناه من الثرى الأرجـاء

وسرت آية المسيح كما يسري من الفجر، في الوجـود، الضياء

تملأ الأرض والعـوالم نـوراً

 

فالثرى مائج بهـا وُضـاءُ

لا وعيد لا صولة ، لا انتقـام،

 

لا حسام، لا غزوة، لا دماء

ملك جـاور التـراب، فلمَّـا

 

ملَّ نابت عن التراب السماء

وأطـاعته في الإِلـه شـيوخ

 

خشّع، خضّع لـه، ضعفاءُ

أذعن الناس والملوك إلى مـا

 

رسموا، والعقول والعقلاء

فلهـم وقفـة فـي كل أرض

 

وعلى كل شـاطئ إِرسـاءُ

دخلـوا ثيـبةً فـأحسـن لقيـاهم رجـال بثيـبة حكمـاءُ

فهموا السرّ حين ذاقـوا وسهل

 

أن ينال الحقـائق الفهمـاءُ

فـإِذا الهيكل المقـدس ديـر

 

وإذا الـدير رونق وبهـاءُ

وإذا ثيـبةٌ لعيسى ومنفيـس

 

ونيـل الثـراء والبطحـاء

ــــــــــــــــــ

(1) حياة المسيح 177.

 

قيام المسيحيّة معجزة إلهيّة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ 285

إنمـا الأرض والفضاء لـربي

 

وملوك الحقيقة الأنبيـاء

لهم الحب خالصاً من رعاياهم،

 

وكل الهوى لهم، والولاء

إنمـا ينكـر الديانـات قـوم

 

هم بما ينكرونه أشـقياء

6 ـ هذا هو فصل الخطاب في نشأة المسيحية.

وهذا ما أظهره لوقا، المؤرخ الملهم، بتاريخ المسيح في الإنجيل، وبتاريخ نشأة المسيحية في سفر الأعمال. فيظهر للملأ أن نشأة المسيحية في تأسيس السيد المسيح وفي دعوة صحابته الرسل الأطهار، هي معجزة المعجزات في تاريخ الأديان كلها.

وهذه هي أيضاً شهادة الأستاذ الأكبر، المرحوم العقاد، في ختام ( حياة المسيح )1:

(( ومن بعد، فمن الحق أن نقول : إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن، ولم تنقضِ بانقضاء أيامها في عصر الميلاد. رجل2 ينشأ في بيت نجار، في قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً تضيع في أطوائها دولة الرومان؛ ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاه الجبابرة في ضم إقليم واحد، قد يخضع إلى حين، ثم يتمرّد ويخلع النير! ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام )) .

ــــــــــــــــــ

(1) حياة المسيح ص 197.

(2) هذا الرجل يسميه القرآن : (( رسول الله . وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه )) ( سورة النساء 170 ).

 

 

 

 

 

دِرَاسَاتٌ إِنْجِيلِيَّةٌ

 

 

1)

الدفاع عن المسيحيّة

     
 

في الإنجيل بحسب متى

 

 

في الإنجيل بحسب مرقس

     

2)

تاريخ المسيحيّة

     
 

في الإنجيل بحسب لوقا

 

 

في سفر أعمال الرسل

     

3)

فلسفة المسيحيّة

     
 

الرسول بولس

 

 

رسائل بولس

     

4)

صوفيّة المسيحيّة

     
 

في الإنجيل بحسب يوحنا

 

 

في سفر الرؤيا