ثمر الروح القدس

بقلم الدكتور القس منيس عبد النور

هذا الكتاب

المسيحية هي حياة نحياها في المسيح، فنقول: "لي الحياة هي المسيح" (فيلبي 21:1) وشعاره: "فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاطية 20:2). ولما كان المسيح حياً، فإنه يحيا في المؤمن به، الذي يثبت فيه ثبوت الغصن في الكرمة فيأتي بثمرٍ كثير، كما قال المسيح: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمرٍ كثير، لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (يوحنا 5:15).

ودُعيت المسيحية أول الأمر "الطريق" (أعمال 9: 2) لأنها أسلوب حياة، مركزه المسيح. فليست هي مجرد مجموعة عقائد وشرائع وممارسات، بل حياةٌ شريعتها المحبة. وقد لخَّص المسيح شريعته كلها في قوله: "الربُّ إلهنا ربٌّ واحدٌ. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها: تحب قريبك كنفسك" (مرقس 29:12-31).

وعندما نتساءل: كيف ننفِّذ الشريعة كلها، يجيئنا الجواب في قول المسيح: "أتيتُ لتكون لهم حياة، وليكون لهم أفضل" (يوحنا 10:10). فالحياة الفُضلى هي هدف مجيء المسيح إلى أرضنا يوم دخلها مولوداً من العذراء القديسة مريم. وهو يحقق هذا الهدف لكل من يفتح قلبه له ليدخل إليه ويحيا فيه بالروح القدس، فيثمر ثمراً كثيراً ودائماً.

ويشرح هذا الكتاب للقارئ كيف يغيِّر المسيح الإنسان بعمل الروح القدس في قلبه، ثم كيف يمتلكه ويسود على حياته، فيجعله يثمر محبةً وفرحاً وسلاماً في علاقته بالله، وطول أناةٍ ولطفاً وصلاحاً في علاقته بالبشر، وإيماناً ووداعة وتعففاً في حياته الشخصية.

ويرجو الكاتب للقارئ أن يختبر في حياته الشخصية كل ثمر الروح القدس.

في هذا الكتاب

القسم الأول - الحياة المسيحية حياة جديدة

الفصل الأول - حالة الوثنيين

الفصل الثاني - حالة المؤمنين

الفصل الثالث - فضائل المؤمنين

القسم الثاني - الحياة المسيحية تحت سيادة الروح القدس

الفصل الرابع - من هو الروح القدس؟

الفصل الخامس - كيف نمتلئ من الروح القدس؟

القسم الثالث - ثمر الروح القدس

الفصل السادس - مقدمة

الفصل السابع - ثمر الروح القدس

الثمرة الأولى - المحبة

الثمرة الثانية - الفرح

الثمرة الثالثة - السلام

الثمرة الرابعة - طول الأناة

الثمرة الخامسة - اللطف

الثمرة السادسة - الصلاح

الثمرة السابعة - الإيمان

الثمرة الثامنة - الوداعة

الثمرة التاسعة - التعفُّف

القسم الأول

الحياة المسيحية

حياة جديدة

الفصل الأول

حالة الوثنيين

«ف َأَقُولُ هَذَا وَأَشْهَدُ فِي الرَّبِّ، أَنْ لاَ تَسْلُكُوا فِي مَا بَعْدُ كَمَا يَسْلُكُ سَائِرُ الأُمَمِ أَيْضاً بِبُطْلِ ذِهْنِهِمْ، إِذْ هُمْ مُظْلِمُو الْفِكْرِ، وَمُتَجَنِّبُونَ عَنْ حَيَاةِ اللهِ لِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي فِيهِمْ بِسَبَبِ غِلاَظَةِ قُلُوبِهِمْ. اَلَّذِينَ إِذْ هُمْ قَدْ فَقَدُوا الْحِسَّ، أَسْلَمُوا نُفُوسَهُمْ لِلدَّعَارَةِ لِيَعْمَلُوا كُلَّ نَجَاسَةٍ فِي الطَّمَعِ » (أفسس 17:4-19).

جاء المؤمنون بالمسيح من خلفية وثنية جاهلية، وحملوا معهم صفات الأمم الوثنية وعاداتها الجاهلية. فطلب منهم الرسول بولس أن لا يسلكوا كما سبق أن سلكوا، ولا كما يسلك بقية الوثنيين، وقال لهم: "أشهد في الرب: أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببُطل ذهنهم" (آية 17).

كان الرسول بولس يعرف فكر الرب، لأنه أعلنه له، فشهد للرب، وفي الرب الذي طلب منه أن يكون شاهداً له. فهو يتكلم باسم الرب وبسلطان المسيح، وعلى السامع والقارئ أن يطيع الأمر: "أيها الإخوة نسألكم ونطلب إليكم في الرب يسوع، أنكم كما تسلَّمتم منّا كيف يجب أن تسلكوا وتُرضوا الله، تزدادون أكثر" (1تسالونيكي 1:4).

أما طلب الرسول فهو: "أن لا تسلكوا فيما بعد كما يسلك سائر الأمم أيضاً ببُطل ذهنهم" (آية 17). كان أهل أفسس في ضلال وجاهلية، فكلَّف الله الرسول بولس بتوصيل رسالة الخلاص والنور لهم، وقال له: "لتفتح عيونهم، كي يرجعوا من ظلماتٍ إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدَّسين " (أعمال 18:26). فلما انفتحت عيونهم كان عليهم أن يعتزلوا الفساد القديم، وأن لا يمسّوا نجساً (2كورنثوس 17:6). فالسلوك الجديد هو طريقٌ جديد للحياة يختلف عن الطريق القديم الذي كانوا يسلكونه، وهو العمل الظاهر والخفي، وهو السيرة.

ولا يتحدث الرسول بولس عن الوثنيين باحتقار، كما احتقر الفريسي العشار وقال عنه: "ذلك العشار" (لوقا 9:18-14) فإن الفكر الوثني الباطل هو من عمل الشيطان، والسلوك الطاهر هو من عمل الروح القدس في القلب. ولم يحدث التغيير في حياة المؤمنين نتيجة مجهودهم، بل نتيجة قبولهم لخلاص المسيح المجاني، فتغيَّرت حياتهم. ويقول الكاتب الروماني بلني الصغير في رسالةٍ كتبها إلى الإمبراطور تراجان، في القرن الثاني المسيحي: "يعيش المسيحيون حياة الطهارة وسط الفساد الكثير". وما أعظم الفرق بين ما كان، وما صار، بفضل نعمة المسيح المجدِّدة.

 

بُطل ذهن الوثنيين

كان الوثنيون يسلكون بحسب "بُطل ذهنهم". والذهن هو القلب والعقل والضمير، وهذه الثلاثة هي التي تحمل معرفة الله، وتقود إلى الحكمة الصحيحة. لكن "ذهن" الوثنيين باطل، بمعنى أنه بدون هدف، وعديم القيمة، وفارغ من كل ما هو حق وجليل وعادل وطاهر. وكان باطلاً، لأنهم لم يستعملوا قوة العقل التي أعطاها الله لهم للخير، بل للشر، فوجب عليهم أن يسمعوا قول النبي إشعياء: "لماذا تَزِنون فضةً لغير خبز، وتعبكم لغير شِبع؟" " (إشعياء 2:55).

وقد ظهر بُطل ذهن الوثنيين في أنهم "لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله، بل حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي". فكان أن: "أسلمهم الله إلى ذهنٍ مرفوض ليفعلوا ما لا يليق" لأنهم كانوا "يحجزون الحق بالإثم" (رومية 21:1 و28). وهذا ما لا يفعله المؤمنون الذين رجعوا من الأباطيل إلى الله الحي الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها (أعمال 15:14). فكيف يقدرون بعد ذلك أن يسلكوا كما يسلك الوثنيون ببُطل ذهنهم؟ لقد تغيَّروا عن شكلهم بتجديد أذهانهم!

 

سبع صفات للوثنيين

وفي آيتي 18 و19 قدَّم الرسول بولس سبع صفات للوثنيين، هي تمام البُطل والفساد، فيقول: "إذ هم مظلمو الفكر، ومتجنّبون عن حياة الله، لسبب الجهل الذي فيهم، بسبب غلاظة قلوبهم. الذين إذ هم قد فقدوا الحِس، أسلموا نفوسهم للدعارة، ليعملوا كل نجاسة في الطمع". فلنتأمل هذه الصفات السبع:

 

1 - "مظلمو الفكر":

أظلم فكر الوثنيين بفعل الخطية، لأن الانغماس في ارتكابها يُظلِم العقل ويدمر الجسد. واستمر تأثير الظلام في قلوبهم. كانوا بعقولهم يعرفون الفلسفة (وهي حُب الحكمة)، ولكنها لم تحكّم سلوكهم. سأل الوالي بيلاطس السيد المسيح: "ما هو الحق؟" (يوحنا 38:18). ولكنه لم ينتظر حتى يسمع الإجابة، لأن فكره المظلم بجاهلية الوثنية لم يكن مستعداً لقبول الحق.

زعم الوثنيون أنهم حكماء ولكنهم كانوا جهلاء. كان نور العلم الذي عندهم ظلاماً! ومنهم أهل أثينا الذين "لا يتفرَّغون لشيء آخر إلا لأن يتكلموا أو يسمعوا شيئاً حديثاً" (أعمال 21:17).

ويشرح الرسول بولس سبب ظلام فكرهم فيقول: "الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، لأنه عنده جهالة. ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكَم فيه روحياً" (1كورنثوس 14:2). والإنسان الطبيعي العادي، الذي لم يجدِّده الروح القدس لا يقبل الأمور الروحية، لأنه لا يعرف قيمة الحقائق التي أعلنها الروح القدس في كتاب الله، ولا يصدِّقها ولا يخضع لها، لأنه يظنها جهالةً لا فائدة فيها. والإنسان الطبيعي العادي لا يقدر أن يعرف الأمور الروحية، ولا قيمتها، لأن الذين يحبون الظلمة لا يعرفون قيمة النور. ولا يقدر أحدٌ أن يحكم في إعلانات الله الروحية إلا الإنسان الروحي الذي أناره الروح القدس وغيَّر قلبه. أما الإنجيل فهو مكتوم في الهالكين (2 كورنثوس 3:4).

صحيح أن فكر الوثنيين العقلي قد يكون مستنيراً بالفلسفة والعلم. لكن فكرهم الروحي مظلم بالخطية والشر. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر معرفة المسيح، فخسر نفسه؟!

 

2 - "متجنِّبون عن حياة الله":

أبعد الوثنيون أنفسهم بإرادتهم عن الحياة التي يعطيها الله، وهي الحياة التقية ذات المعنى! صحيحٌ أنهم كانوا "أجنبيّين عن رعوية إسرائيل" لأن الله لم يخلقهم وسط الشعب الذي أعطاه الشريعة . ولو أن هذا ليس ذنبهم. لكن الذنب أنهم جنَّبوا أنفسهم باختيارهم عن حياة التقوى التي تُرضي الله، فلم يفتحوا قلوبهم لله، وأبعدوا أنفسهم عن معرفته، وحرموا أنفسهم من الأُنس به، فضاعت منهم "حياة الله".

لقد نفخ الله في آدم نسمة حياة، لكن الخطاة أبعدوا أنفسهم عنها! ولا معنى للحياة بالجسد بدون حياة الروح. ويريد الله لنا حياة الروح، وقد كلَّف الرسول بولس أن يكرز للوثنيين ليفتح عيونهم، كي يرجعوا من ظلماتٍ إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، حتى ينالوا غفران الخطايا ونصيباً مع المقدَّسين (أعمال 18:26).

 

3- "الجهل الذي فيهم":

والجهل هنا هو الجهل الروحي، الذي قال عنه المسيح: "تضلّون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله" (مرقس 24:12). وقال أيضاً: "فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي التي تشهد لي. ولا تريدون أن تأتوا إليَّ لتكون لكم حياة" (يوحنا 39:5 و40). كان السامعون يعرفون الكتب بعقولهم، لكن قلوبهم لم تدركها، فكان جهلهم الجهل الروحي، الذي ينبع من الظروف الشريرة المحيطة بالإنسان، أو الذي ينتج عن شر الإنسان نفسه.

قال الرسول بطرس للخطاة الذين رفضوا المسيح وصلبوه: "أنا أعلم أنكم بجهالةٍ عملتم" (أعمال 17:3). ويقول الرسول بولس: "الله الآن يأمر جميع الناس في كل مكان أن يتوبوا، متغاضياً عن أزمنة الجهل" (أعمال 30:17). لقد أظهر الله قدرته للبشر في خليقته ومصنوعاته، لكن قلبهم الغبي أظلم!

 

4 - "غلاظة قلوبهم":

القلب الغليظ هو القلب الحجري. وكلمة "غلاظة" تصف عدة أشياء: فهي اسم نوعٍ من الحجر القوي، الأكثر صلابةً من الرخام. وهي تصف الجزء الذي يصيبه مرض "الكالو" في الجسم، فلا يشعر ولا يحس، لكنه يُتعِب ويؤذي. كما تصف ترسُّب الكالسيوم في مفاصل الجسم فيمنع حركتها.

والمقصود أن قلب هؤلاء الأمم كان قاسياً كالحجر، ميتاً مؤذياً مثل الكالو، ملآناً بالحجر الذي يمنع الحركة نحو الخير والحق!

وقد تجيء غلاظة القلب بفعل الشيطان، الذي يُعمي الذهن، فإن "إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله" (2كورنثوس 4:4).

وقد تجيء غلاظة القلب من الإنسان نفسه، كما أغلظ فرعون قلبه، فتركه الله لغلاظة قلبه (خروج 15:8 و32).

وقد تكون غلاظة القلب عقاباً للإنسان الذي يصرُّ على عصيان الله، كما يقول الإنجيل: "ومع أنه (المسيح) كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها، لم يؤمنوا به، ليتم قول إشعياء النبي: يارب، من صدَّق خبرنا، ولمن استُعلِنت ذراع الرب؟ لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا، لأن إشعياء قال أيضاً: قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم" (يوحنا 37:12-40).

 

5 - "فقدوا الحِسّ":

لم يعُد قلبهم الغليظ يأسف على ما يرتكبونه من شر، ولم يعُد ضميرهم يؤنبهم، ولم يعودوا يخجلون من الخطية، وفشلوا في القيام بأي إصلاح من عند أنفسهم.

بدأت الخطية عندهم بالتدريج. عادة يخاف الإنسان أول الأمر من الخطية، وإذا وقع فيها يحزن. ولكن بعد تكرار ارتكابها يتعوَّد على شناعتها، ويموت ضميره، مثل السكير الذي يسكر في الخفاء، ثم لا يهمُّه إن رآه الناس يترنح في الشارع بعد ذلك.

 

6 - "أسلموا نفوسهم للدعارة":

والدعارة هي الخروج عن الاتِّزان، والتمرُّد على القانون، وعدم ضبط النفس، وارتكاب الخطايا المنافية للعفَّة بدون خوفٍ من الله ولا خجلٍ من الناس. والإنسان الذي أسلم نفسه للدعارة لا يهتم بما يضايق الناس ما دام هذا يعطيه السرور! إنهم مثل يهوذا الإسخريوطي الذي فقد اتِّزانه، وتمرَّد على نعمة الله فأسلم نفسه لحب المال، وباع سيده بثلاثين من الفضة.

 

7 - "ليعملوا كل نجاسةٍ في الطمع":

بمعنى أن النجاسة صارت حرفة حياتهم ووظيفتهم. صارت تجارتهم وزراعتهم وشغل حياتهم! وكأنه لم يكفهِم أن يعملوا النجاسة، فكانوا طمّاعين فيها. ويصفهم الرسول بولس بقوله: "مملوئين من كل إثمٍ وزنا وشر وطمع وخبث، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً" (رومية 29:1)

والكلمة "طمع" معناها: طلب شيء يزيد عن الحق، فهو الرغبة الشرهة في الاستيلاء على ما يخصّ الآخرين، حتى يدوس الإنسان زميله ليحصل على ما يريد!

* * *

ويمكن أن نلخِّص جاهلية حالة الأمم في ثلاثة أمور:

1 - كان قلبهم مثل الحجر الصلب، فلم يشعروا بالخطأ الذي يعملونه.

2 - كانوا غارقين في الخطية حتى ضاع منهم الحياء والخجل منها.

3 - كانوا تحت نير الشهوة الطماعة، فلم يهتموا بأذى الناس إن كان هذا يعطيهم شهوتهم!


 

الفصل الثاني

حالة المؤمنين

 

"وأما أنتم فلم تتعلَّموا المسيح هكذا، إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتُم فيه كما هو حقٌّ في يسوع. أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجدَّدوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البِر. وقداسة الحق" (أفسس 20:4-24).

 

بعد أن تحدث الرسول بولس عن تمام فساد حالة الوثنيين وجاهليتهم، أظهر الفرق بينهم وبين المؤمنين. وبدأ هذه الفكرة بقوله: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا". وكلمة "أما" تبيِّن الفرق. الأمم في نجاسة، أما المؤمنون ففي قداسة الحق. تعلَّم الوثنيون الشر، أما المؤمنون فلم يتعلموا المسيح هكذا! لقد سمعوا من المسيح تعاليم جديدة غير مسبوقة، ورأوا منه معجزات محبة تلمس كل ناحية من نواحي الحياة. وأكثر من ذلك، أنهم تعلَّموه بالاختبار، فعرفوا قوته المغيِّرة التي منعتهم عن السلوك الشرير السابق.

ولا يقول الرسول بولس إنهم لم يتعلَّموا عن المسيح، لكنه يقول: "لم يتعلموا المسيح". فلا يكفي أن نعرف عن المسيح، بل يجب أن نعرفه هو. ليس المهم أن نعرف تعليمه، لكن المهم أن نقبله مخلِّصاً شخصياً وفادياً، ونختبر مع الرسول قوله: "لأعرفه وقوَّة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته" (فيلبي 10:3).

 

1 - المؤمنون يتعلَّمون:

"إن كنتم قد سمعتموه وعُلِّمتم فيه كما هو حق في يسوع" (آية 21).

وليس المقصود بالقول "إن كنتم" الشك في أن الخبر وصلهم، لكن المقصود تأكيد وتحقيق وصول الخبر إليهم. لقد سمعوا المسيح يكلِّمهم بواسطة رسله الذين علَّموهم، وسمعوه بعد أن سكن في قلوبهم، يرشدهم إلى كل ما هو حق.. إذاً سمعوا الحق وتعلَّموه. والحق هو الدين الصحيح. وما داموا قد عرفوا المسيح فيجب أن يتركوا الخطية، لأن الله حقٌّ وقدوس. لقد سمعوا وتعلموا "في يسوع" فصاروا الآن خليقةً جديدة، ينطبق عليهم قول المسيح: "خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني" (يوحنا 27:10).

 

2 - المؤمنون يخلعون الإنسان العتيق:

"أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور" (آية 22).

تعلَّم المؤمنون الحق، فيجب أن يخلعوا كل ما كانوا يمارسونه "من جهة التصرف السابق" أي من جهة المبادئ التي كانوا يسلكون بحسبها، فيخلعونها كما يخلع الإنسان ثوباً قذراً بالياً. إن ترقيع القديم لا يصلح، فيجب أن نخلعه ونلبس الجديد (لوقا 36:5-38).

و"الإنسان العتيق" هو الطبيعة الفاسدة التي لم تتجدَّد بعد بعمل الروح القدس. يسمِّيها "الإنسان" لأن الطبيعة الإنسانية فاسدة، لا ينفع معها الإصلاح، بل تحتاج إلى تغيير وتجديد كاملين. ويسمِّيها "العتيق" لأنها قديمة بالية متهرِّئة لا تستر!

ومحاولتنا إصلاح نفوسنا هي الترقيع. لكن الحق هو أننا "في يسوع" نخلع العتيق البالي الذي هو "الإنسان العتيق" أي الطبيعة الفاسدة، الذي يقول عنه الرسول: "أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي" (رومية 23:7). ويشرح عمله في قوله: "الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلاطية 17:5).

هذه الطبيعة الفاسدة التي فينا تجذبنا إلى أسفل، وتزيد من فسادٍ إلى فسادٍ، وتنتهي بهلاك صاحبها، فيجب أن نخلعها. وهي "بحسب شهوات الغرور" لأنها فاسدة تميل إلى الشهوات، كما أنها تخدعنا وتقتلنا، كما قيل: "الخطية.. خدعتني وقتلتني" (رومية 11:7).

هناك شهوة المكسب الحرام، وشهوة العظمة والسلطان الباطلَيْن، وشهوة اللذَّة الجسدية. وكل هذه غرور، وباطل الأباطيل، ولا منفعة منها كلها.

خدعت شهوات الغرور آدم وحواء فظنّا أن السعادة هي في الأكل من الشجرة المنهيّ عنها (تكوين 6:3)! وخدعت الغني الغبي فظن أنه يحيا طويلاً ليهدم مخازنه القديمة ويبني مخازن جديدة أكبر، فمات من ليلته (لوقا 20:12)! وخدعت الابن الضال فظن أنه يجد السعادة في البلاد البعيدة مغترباً عن أبيه (لوقا 14:15)!

وعلى المؤمن أن يخلع الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، مع كل "أعمال الظلمة" (رومية 12:13).

 

3 - المؤمنون يتجدَّدون:

"أن تتجدَّدوا بروح ذهنكم" (آية 23)

لا يكفي أن نخلع الخطية، بل يجب أن نلبس القداسة. وهذا لا يكون إلا بالتجديد والتغيير اللذين يجريهما الروح القدس في قلوبنا. يعزم بعض الناس أن يعيشوا الحياة الصالحة، معتمدين على جهدهم وعزمهم وبرِّهم الذاتي، ولكن هذا لا يجدي ولا يستمر. نعم قد يُصلح الإنسان بجهده أحد أخطائه، ولكنه في الوقت نفسه يجد أنه وقع في خطإٍ آخر. الحاجة إذاً هي إلى التجديد بعمل الروح القدس، فإن الله "بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تيطس 5:3). وبهذا التجديد تعود النفس إلى صورة الله. وفي الجديد قوة وجمال، فنقول: "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها" (أفسس 10:2).

هذا التجديد يكون "بروح ذهنكم". ويقول القديس يوحنا فم الذهب إن هذا يعني "تجديد عقولكم وأفكاركم بعمل الروح القدس". فالتجديد الذي يجري في المؤمن تغييراً في قلبه وعقله، يغيّر نظرته للحياة، ويغيّر المبادئ التي كان يسير عليها، ويغيِّر ردود أفعاله، ويغيّر تقييمه للأمور. كما قال الرسول بولس: "تغيَّروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم، لتختبروا ما هي إرادة الله الصالحة المَرْضيَّة الكاملة" (رومية 2:12).

وليس هذا التغيير في العادات والمظاهر الخارجية فقط، لكنه تغيير في مبادئ الحياة الداخلية بتجديد القلب، ويظهر تأثيره في التصرفات الخارجية، وصَلْب الجسد مع الأهواء والشهوات، والاجتهاد بتقوية الجانب الروحي بالصلاة ودراسة كلمة الله، وتمليك المسيح على الحياة بجملتها.

وفي كلمة "تتجددوا" معنى الاستمرار، فالإنسان يتجدد يوماً فيوماً. كل يوم يجعله أكثر قرباً من الله، وأفضل حالاً من اليوم السابق.

 

4 - "المؤمنون يلبسون الإنسان الجديد" :

"أن تلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق" (آية 24).

بعد أن يتوب المؤمنون ويخلعوا العتيق، يتجددون ويلبسون الإنسان الجديد. و"الإنسان الجديد" هو الطبيعة الجديدة التي يعطيها الله، "لأنه إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً" (2كورنثوس 17:5).

هذا الإنسان الجديد "مخلوق" لأن الله يخلقه فينا. وهو "مخلوق بحسب الله" بمعنى أنه على صورة الله (وفي الترجمة المنقَّحة "على مثال الله"). فالإنسان الذي يجدده الروح القدس هو الإنسان الذي على صورة الرحمان.

خلق الله آدم الأول "على صورته. على صورة الله خلقه" (تكوين 27:1) ولكنه ضل وضاعت منه الصورة الأصلية. فيعود الله يخلقه من جديد (في المسيح) على الصورة الأصلية التي كان فيها. ولذلك يقول الرسول: "لبستُم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كولوسي 10:3). ويقول الرسول بطرس: "نظير القدوس الذي دعاكم كونوا أنتم قديسين في كل سيرة" (1بطرس 15:1).

والمؤمن الجديد مخلوق على صورة الله ومثاله "في البر وقداسة الحق". والبر هو التصرف العادل السليم من جهة جميع الناس، والبار هو العادل الذي يعطي كل صاحب حقٍ حقَّه، فيعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله. إنه "السالك بالكمال، والعامل الحق، والمتكلّم بالصدق في قلبه" (مزمور 2:15). ويبرهن لنا الروح القدس دائماً أن بر المسيح من نوعٍ فريد، فكل البشر أخطأوا، أما المسيح فهو الكامل وحده، الذي قال لأعدائه: "من منكم يبكّتني على خطية؟" (يوحنا 46:8) فلم يجرؤ أحدٌ أن يردّ عليه!

أما "قداسة الحق" فهي القداسة التي تنتج عن معرفة الحق، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل. فالحق يحرِّرنا من الخطية وهذا يمنحنا الفرح والقداسة. والمسيح هو الطريق والحق والحياة، وبه وحده نجد الطريق إلى الآب وإلى القداسة.

لقد أعاد الله خلق المؤمنين، لذلك يقول زكريا الكاهن: "نعبده بقداسة وبرٍّ قدامه جميع أيام حياتنا" (لوقا 75:1). ويقول الرسول بولس: "بطهارةٍ وبلا لوم كنا بينكم أنتم المؤمنين" (1تسالونيكي 10:2).

ومن هذه الآيات نرى أن المؤمنين:

1 - يخلعون العتيق، ويلبسون الجديد،

2 - يخلعون الفاسد، ويلبسون المخلوق بحسب الله،

3 - يخلعون الذي بحسب شهوات الغرور، ويلبسون الذي بحسب الله في البر وقداسة الحق.


 

الفصل الثالث

فضائل المؤمنين

 

"لذلك اطرحوا عنكم الكذب، وتكلَّموا بالصِّدق كلُّ واحدٍ مع قريبه، لأننا بعضَنا أعضاءُ البعض. اغضبوا ولا تخطئوا. لا تغرُب الشمسُ على غيظكم، ولا تعطوا إبليس مكاناً. لا يسرق السارق في ما بعدُ، بل بالحريّ يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يعطي من له احتياجٌ. لا تخرج كلمةٌ رديَّةٌ من أفواهكم، بل كل ما كان صالحاً للبُنيان، حسب الحاجة، كي يعطي نعمةً للسامعين. ولا تُحزِنوا روح الله القدوس الذي به خُتِمتُم ليوم الفداء. ليُرفَع من بينكم كل مرارةٍ وسَخَطٍ وغضبٍ وصياحٍ وتجديفٍ، مع كل خبثٍ. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعضٍ، شفوقين متسامحين، كما سامحكم الله أيضاً في المسيح" (أفسس 25:4-32).

 

شرح الرسول بولس حالة الوثنيين الفاسدة التي عاشها المؤمنون قبل الإيمان، ثم أوضح حالة المؤمنين الذين خلعوا هذا الفاسد، وتجدَّدوا، ولبسوا الجديد. ثم يبيِّن الرسول فضائل المؤمنين، فيذكر ما يجب أن يرفضوه، وما يجب أن يعيشوه، ويذكر الدافع الذي يدفعهم لرفض الشر وممارسة الخير.

 

1 - رفض الكذب وعيشة الحق:

"اطرحوا عنكم الكذب، وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه، لأننا بعضنا أعضاء البعض" (آية 25).

وقال الرسول بولس: "لا تكذبوا بعضكم على بعض، إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستُم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كولوسي 9:3 و10).

يجب أن نخلع الكذب لأنه من صفات إبليس الذي هو الكذاب وأبو الكذاب (يوحنا 44:8). ويقول النبي زكريا: "ليكلِّم كل إنسان قريبه بالحق. اقضوا بالحق، وقضاء السلام في أبوابكم" (زكريا 16:8).

كان المجتمع اليوناني يسمح بالكذب إن كان فيه فائدة.

وعندنا من يقول إن الكذب جائز في ثلاث حالات: في الحرب، وفي إصلاح المتخاصمين، وفي كلام الزوج مع زوجته وفي كلام الزوجة مع زوجها! ولكن الكتاب يعلّمنا أن نطرح الكذب ونتكلم بالصدق باستمرار.

يكذب الناس ليهربوا من مشكلة، أو ليتفادوا اللوم، أو ليُظهِروا أنهم صالحون. وقد يكذبون كذباً صريحاً بغير خجل، وقد يسمُّونه أبيض، وقد يكون الكذب بالسكوت على الخطأ وعدم إعلان الحق. لكن المؤمن الذي خلع القديم يجب أن يطرح كل كذب "فإن كل كذبٍ ليس من الحق" (1يوحنا 21:2).

أما الدافع على طرح الكذب وقول الصدق فهو أننا "بعضنا أعضاء البعض". يقول القديس يوحنا فم الذهب: "هل تخدع العين اليد؟" وقال رجل حكيم: "لو قالت الأعصاب للمخ إن الشيء الساخن بارد، ويمكن أن يلمسه الجسم بدون ضرر.. ألا تكون النتيجة أن الجسم يحترق؟!"

الكذب يضر "الجسد" كله. والجسد هو المجتمع، وهو الكنيسة، وهو العائلة، لأننا أعضاء في هذه الهيئات كلها. فكيف نضر الجسد الذي ننتمي إليه؟

 

2 - رفض الخطية وممارسة الغضب المقدس حتى لا نعطي إبليس مكانا ً:

"اغضبوا ولا تخطئوا. لا تغرب الشمس على غيظكم، ولا تعطوا إبليس مكاناً" (آيتا 26 و27).

وهذه الآية قد تعني: لا تخطئوا بأن تغضبوا، أو: اغضبوا بشرط أن لا تخطئوا. والأغلب أن المعنى الثاني هو المقصود.

هناك غضب خاطئ، وهناك غضب مقدس. الغضب المقدس هو الغضب الموجَّه ضد الخطية، والغضب الخاطئ هو الموجَّه ضد الخاطئ، وهو الغضب الذي لا مبرر له، الناتج عن الحقد، وهو الذي يسبِّب الضرر.

غضب المسيح غضباً مقدساً لما رأى رجال الدين في عصره يستخدمون بيت الله بيت تجارة، فطهَّر الهيكل وصنع سوطاً من حبال وطرد الباعة والصيارفة (يوحنا 13:2-16). وغضب على القادة الدينيين في عصره لأنهم كانوا يعطلون عمل الخير، فوبَّخهم، ونظر إليهم بغضب حزيناً على غلاظة قلوبهم (مرقس 5:3). ولذلك يأمرنا الرسول بولس: "أعطوا مكاناً للغضب" (رومية 19:12). بمعنى أعطِ الغضب فرصة ليمضي ويزول.

على أننا يجب أن نحترس، لأنه يقول: "اغضبوا ولا تخطئوا". فما أسرع ما نغضب مخطئين. لنحترس من أن نغضب بسبب مصالحنا الشخصية، أو بسبب إساءة شخصية صدرت ضدنا، فإن هذا هو الغضب الخاطئ.

"ولا تغرب الشمس على غيظكم" - لا تربّوا الغضب في نفوسكم، فإن "الغضب يستقر في حضن الجهال" (جامعة 9:7). يجب أن يكون يوم الغضب هو يوم المصالحة. أوصى معلمٌ يهودي تلاميذه أن لا يناموا حتى يصفّوا كل ما في نفوسهم من سلبياتٍ نحو الآخرين، لأنهم إن لم يُصلحوا الخصام بسرعة فقد لا يتصالحون أبداً. وطلب الفيلسوف اليوناني فيثاغورس من تلاميذه أن يسلّموا على من يغضبون عليه قبل الغروب.

ونلاحظ أن غروب الشمس هو بداية اليوم عند اليهود. ويطلب الرسول بولس منّا ألاّ نبدأ يوماً جديداً وفي نفوسنا غضب خاطئ!

أما الدافع على طرح الغضب الخاطئ فهو "لا تعطوا إبليس مكاناً". لأن "إبليس خصمكم كأسدٍ زائر، يجول ملتمساً من يبتلعه" (1بطرس 8:5). فإذا أعطيناه، بغضبنا، فرصةً فإنه يبتلعنا. إنه يبدأ بالقليل. ثم يزيد ويزيد حتى يأخذ المكان كله. لذلك لا يجب أن نعطيه مكاناً من البدء.

إذا غضبنا وأخطأنا نجد أننا دخلنا في سلسلة من الخطايا التي لا آخر لها! ونعطي إبليس مكاناً! وكم من عائلة انقسمت، وصداقة ضاعت، وكنيسة ضعفت بسبب غضب خاطئ استغله الشيطان!

يقول المرنم: "ارتعدوا ولا تخطئوا" (مزمور 4:4). وترجمتها الترجمة السبعينية: "اغضبوا ولا تخطئوا". وقد قالها داود لأتباعه بعد الثورة الفاشلة التي قام بها ضده ابنه أبشالوم. لكنهم غضبوا وأخطأوا وقتلوا، وأخذ إبليس مكاناً كبيراً بينهم. وهذا ما حدث مع موسى الذي غضب وأخطأ وفرط بشفتيه، وضاعت منه فرصة دخول أرض الموعد (مزمور 33:106).

لا تعطِ إبليس مكاناً ليشتكي عليك حين تخطئ. إن كان قد اشتكى على أيوب البار وهو لم يخطئ، فكم تكون شكواه عليك وأنت تغضب وتخطئ؟ ولا تعط إبليس فرصةً ليوقعك في غضب أكثر وخطإٍ أكبر. احترس من الغلطة الأولى لأنها تجرُّ وراءها الثانية والثالثة. ولا تصدق شكوى الشيطان على إخوتك حتى تكرههم وتغضب عليهم وتتكلم عنهم ردياً.

الذي لا يحب أخاه يعطي إبليس مكاناً (1يوحنا 11:2).

الذي يغضب لا يستفيد ولا يصنع بر الله (يعقوب 20:1).

لذلك يقول الرسول بولس: "والذي تسامحونه بشيء فأنا أيضاً، لأني أنا ما سامحت به (إن كنت قد سامحتُ بشيء) فمن أجلكم بحضرة المسيح، لئلا يطمع فينا الشيطان، لأننا لا نجهل أفكاره" (2كورنثوس 10:2 و11).

 

3 - رفض السرقة وممارسة العمل الصالح:

"لا يسرق السارق فيما بعد، بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يعطي من له احتياج" (آية 28).

كانت السرقة شائعة بين الأمم، خصوصاً في مكانين: في الموانئ حيث ترسو السفن، وفي الحمامات الشعبية حيث كان أصحاب الملابس القديمة يتركونها ويلبسون الجديد من ملابس الآخرين. وكانوا يقولون إن السرقة جائزة لمساعدة المساكين.

ويقول الرسول بولس إن الذي كان في حياته الماضية سارقاً، ثم عرف المسيح المخلِّص، لا يعود يسرق فيما بعد، لأنه خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد.

وهناك أنواع مختلفة من السرقة في المجتمع:

صاحب العمل الذي لا يدفع للعامل أجراً كافياً يظلم العامل ويسرق تعبه. كما أن العامل الذي لا يؤدي واجبه كما يجب يسرق صاحب العمل.

الذي يلوك سيرة الناس يسرق صيتهم الحسن وسمعتهم الطيبة.

الذي يقترض مالاً ولا يردُّه يسرق الذي أعطاه السُّلفة.

الذي يلعب القمار ويربح يسرق مال اللاعبين معه.

الذي يدَّعي أنه فقير ويطلب المساعدة، مع أنه يقدر أن يساعد نفسه، يسرق مال الإحسان والخير.

الذي لا يدفع العشور يسلب حقَّ الله في ماله، ويقول الله له: "سلبتموني .. في العشور والتقدمة" (ملاخي 8:3).

"لا يسرق .. بل يتعب عاملاً الصالح بيديه". فالمسيحية تقدِّس العمل، لأن العمل واجب وشرف. و"إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضاً" (2تسالونيكي 10:3). ويقدم لنا الرسول بولس مثالاً صالحاً في قوله: "حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان" (أعمال 34:20) وأوصى: "أن تحرصوا أن تكونوا هادئين، وتمارسوا أموركم الخاصة، وتشتغلوا بأيديكم كما أوصيناكم" (1تسالونيكي 11:4).

أما الدافع على ترك السرقة وعمل الصالح فهو "ليكون له أن يعطي من له احتياج". كل من يقدر أن يشتغل يجب أن يعمل، لكن العاجز عن العمل يجب أن يجد المساعدة من القادرين على مساعدته. يجب أن يعمل القوي ليساعد العاجز، فليس أحد منّا يعيش لنفسه: "وأما مَن كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً، وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟" (1يوحنا 17:3). "فإذاً حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع ولا سيما لأهل الإيمان" (غلاطية 10:6).

 

4 - رفض الكلام الرديء والتكلُّم بالصالح :

"لا تخرج كلمة رديَّة من أفواهكم، بل كل ما كان صالحاً للبنيان، حسب الحاجة، كي يعطي نعمة للسامعين. ولا تُحزِنوا روح الله القدوس الذي به خُتِمتم ليوم الفداء" (آيتا 29 و30).

الكلام الرديء يخرج من القلب الشرير، وكل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساباً يوم الدين (متى 35:12 و36). وهو الكلام المرّ الذي يضايق من يسمعه (مزمور 3:64) والذي يجيء من التواء الفم وانحراف الشفتين (أمثال 24:2).

والكلمة "رديء" في الأصل اليوناني معناها "عطن، وبالٍ، وغير صالح للاستعمال، ولا يستحق". لذلك يصلي المرنم: "اجعل يا رب حارساً لفمي. احفظ باب شفتيَّ" (مزمور 3:141).

والمطلوب أن يكون كلامنا "صالحاً للبنيان". كان كلام أيوب صالحاً للبنيان، فقال له صديقه أليفاز التيماني: "قد أقام كلامُك العاثرَ، وثبَّت الركب المرتعشة" (أيوب 4:4). فليكن كلامنا صالحاً حتى يبني شخصية الذي يسمعه، وينعش الروح والعقل والجسد، فيصير السامع أفضل حالاً بعد أن يسمعه.

ويجب أن يكون كلامنا "حسب الحاجة" يناسب الظرف والحال، يتم فيه القول: "تفاح من ذهب في مصوغٍ من فضة كلمة مقولة في محلِّها" (أمثال 11:25).

ويجب أن "يعطي نعمة للسامعين". والنعمة هي الجمال. فليكن كلامنا صالحاً يبهج السامعين ويجمِّل حياتهم، عندما تنسكب النعمة على شفتي المتكلِّم (مزمور 2:45) فيقدر أن يطيع الوصية الرسولية: "ليكن كلامكم كل حين بنعمة مصلَحاً بملح، لتعلموا كيف يجب أن تجاوبوا كل واحد" (كولوسي 6:4).

هل يجد السامعون نعمةً في كلامنا معهم وفي استماعنا إليهم؟ وهل يجدون في ما نقوله التشجيع والتعزية؟

أما الدافع على ترك الكلام الرديء وقول الكلام الصالح، فهو لكي "لا تحزِنوا روح الله القدوس". ويعلِّمنا الكتاب المقدس أن لا نقاوم الروح (أعمال 51:7). وأن لا نطفئه (1تسالونيكي 19:5) وهنا يطلب منا أن لا نحزنه، وفي هذا تحذير حتى لا نتمرَّد ونُحزن روح قدسه (إشعياء 1:63) كما أحزنه بنو إسرائيل في البرية بعصيانهم وعدم إيمانهم (مزمور 20:78). يجب ألاّ نحزنه بكلامٍ رديء، بل نقدم له السجود والإكرام بالكلام الصالح البنَّاء الذي يعطي نعمة للسامعين.

"أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟ إن كان أحد يُفسِد هيكل الله فسيفسده الله، لأن هيكل الله مقدس، الذي أنتم هو" (1كورنثوس 16:3 و17).

 

5 - رفض الانفعالات الردية وممارسة المشاعر الطيبة:

"ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث. وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض، شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح" (آيتا 31 و32).

وقال أيضاً: "البسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة، محتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضاً إن كان لأحدٍ على أحدٍ شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً" (كولوسي 12:3 و13).

في هاتين الآيتين يطلب الرسول منا أن نخلع الانفعالات الرديئة، ونلبس الشعور الطيب. أما الدافع على ذلك فهو أن المسيح سبق أن سامحنا.

يجب أن نخلع كل "مرارة". والمرارة هي إحساس الإنسان بالضيق حين يذكر إساءات الناس وظلم الحياة، فيكون سريع الغضب بطيء الرضا. وهي عكس الحلاوة. والمرارة سامة مثل الحربة المسنونة، تتلف حياتنا، ويمكن أن تدمرها. وقد نجا الملك حزقيا من المرارة فقال: "هوذا للسلامة قد تحوَّلت لي المرارة، وأنت تعلَّقتَ بنفسي من وهدة الهلاك، فإنك طرحت وراء ظهرك كل خطاياي" (إشعياء 17:38).

ونخلع كل "سخط". والسخط هو الغضب السريع الذي يشبه نار القش، يحرق العقل ويوقفه عن التفكير السليم.

ونخلع كل "غضب". والغضب هو ردُّ الفعل السريع على إساءات الناس، واختزانه في ذاكرتنا وقلوبنا حتى يصير كراهية وحقداً.

ونخلع كل "صياح". والصياح هو ارتفاع صوتنا في المناقشة والجدل. قال رجلٌ حكيم: "حين يرتفع صوتك في المناقشة فيجب أن تتوقَّف عن الكلام". وقال الكتاب عن المسيح: "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (متى 19:12)

ونخلع كل "تجديف". والتجديف هو الكلام الرديء على الله وعلى الناس. إنه اللعنة والنميمة. ويقول الرسول يعقوب: "لا يذمَّ بعضكم بعضاً أيها الإخوة. الذي يذم أخاه ويدين أخاه يذم الناموس ويدين الناموس" (يعقوب 11:4).

ونخلع كل "خبث". والخبث هو فساد القلب الذي منه تصدر كل الشرور. قال القديس يوحنا فم الذهب إن الخبث هو النار التي تشعل الوقود في الداخل دون أن يراها الناس، لكنهم يلمسون تأثيرها الهدام.

وإذ نخلع هذه الانفعالات الشريرة يجب أن نلبس الشعور الحسن..

"كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض". واللطف هو نفع الآخرين ومساعدتهم، وهو من ثمر الروح. والكلمة "لطيف" هي نفسها كلمة "خفيف" التي وصف بها المسيح حِمله، حين قال: "حملي خفيف" (متى 30:11).

"كونوا شفوقين". والشفقة هي الحنو ومعاملة الناس كإخوة، وأن نكون "ذوي محبة أخويَّة، مشفقين لطفاء" (1بطرس 8:3). والشَّفوق هو الذي يحنو على الناس في ضعفهم، ولا يسبِّب لهم الألم بدون فائدة.

"متسامحين". بمعنى أن نغفر للناس ذنوبهم كما نطلب من الله أن يغفر لنا، ثم ننسى الإساءة، كما غفر الله لنا وطرح خطايانا وراء ظهره لينساها ولا يعود يذكرها في ما بعد!

أما الدافع على التخلُّص من الانفعالات الردية، ولبس الشعور الطيب فهو قوله: "كما سامحكم الله أيضاً في المسيح". سامحنا المسيح ونحن أعداء أشرار، ليس فينا خير. سامحنا ولم ينتظر منا أجراً. فعلى مثاله نسامح ونغفر، ونخلع الغضب والصياح والخبث!

كتب القديس أكليمندس رسالة يقول فيها: "إن كنا ننتقم من الذين يسيئون إلينا فهذا عمل إنساني. وإن كنا لا ننتقم من المسيئين إلينا فهذا عمل فلسفي. لكن إن كنا نعمل الخير مع الذين يسيئون إلينا فهذا عمل إلهي".

"قد تناهى الليل وتقارب النهار. فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور" (رومية 12:13).

فلنخلع العتيق الفاسد.. ولنتجدد كل يوم.. ولنلبس الجديد على مثال الله في البر وقداسة الحق.


 

القسم الثاني

الحياة المسيحية

تحت سيادة الروح القدس


 

الفصل الرابع

من هو الروح القدس؟

 

من المهم جداً أن نعرف من هو الروح القدس.

هل هو مجرد تأثير إلهي، أو قوة روحية عظيمة؟

أم هو روح الله، الأقنوم الثالث في اللاهوت؟

يقول إقرار الإيمان: نؤمن بالروح القدس، الرب الحي، المحيي، المنبثق من الآب". فإن كان الروح القدس مجرد تأثير أو قوة إلهية، يحقُّ لنا أن نحصل عليها لنستخدمها في حياتنا الإيمانية، وخدماتنا الكنسيَّة، وعملنا الروحي. لكن إن كان الروح القدس هو روح الله الذي يحيي موتى الذنوب، فيجب أن نُسلِّم له نفوسنا، ليستخدمنا كما يشاء هو. وما أكبر الفرق بين استخدام الروح لنا، واستخدامنا له.

ومن المهم أن نعرف إن كان هو الأقنوم الثالث في اللاهوت، فنقدم له التعبُّد، ونؤمن به، ونُخلِص له، ونحبه.. أو إن كان مجرد قوة تساعدنا في حياتنا الروحية!

غير أن كل قارئ للكتاب المقدس يرى بوضوح أن الروح القدس شخص، ذو صفات إلهية، ويقوم بأعمال لا يقوم بها إلا الله، وقد وهب بركاتٍ عظيمة لكل المؤمنين الذين عرفوه وسلَّموا نفوسهم له باعتباره الأقنوم الثالث في اللاهوت. ويُنسَب إليه كشخص: العقل والمعرفة، ومشاعر المحبة والحزن. ويقف الناس منه المواقف التي يقفونها من الأشخاص، فيثورون ويكذبون ويجدّفون عليه، ويزدرون به، ويُحزنونه. فليس الروح القدس تأثيراً ولا انفعالاً ولا مجرد قوة، بل هو شخص الله ذاته. إنه روح الله، وأحد الأقانيم الثلاثة "فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يوحنا 7:5). (كلمة "أقنوم" كلمة سريانية تدل على من يتميَّز عن سواه، بغير انفصال عنه).

ويُسمَّى الروح القدس تسميات كثيرة في الكتاب، نذكر منها "روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب" (إشعياء 2:11)، و"روح النعمة" (زكريا 10:12)، و"المعزي" (يوحنا 26:14)، و"روح الحق" (يوحنا 17:14 و26:15)، و"روح القداسة" (رومية 14:1)، و"روح الحياة" (رومية 2:8)، و"روح المسيح" (رومية 9:8)، و"روح التبنّي" (رومية 15:8)، و"روح الابن" (غلاطية 6:4)، و"روح الموعد القدوس" (أفسس 13:1)، و"روح الحكمة والإعلان" (أفسس 17:1)، و"روح يسوع المسيح" (فيلبي 19:1)، و"روح المجد" (1بطرس 14:4).

وتسمية الروح الإلهي بالروح القدس يشير إلى عمله غير المنظور، وهو إنارة أرواحنا وتجديدها وتقديسها وإرشادها. وهو ينشئ كل الفضائل فينا. وتسميته بالروح القدس تميِّزه عن كل الأرواح المخلوقة، الأقل منه في القداسة بما لا يُقاس.

فإذا تأملنا عمل الروح القدس في الكتاب المقدس، نراه يقدّم الأدلّة على لاهوت الروح القدس:

 

1 - الروح القدس أقنوم مساوٍ للآب والابن: يقدم لنا الكتاب المقدس الله الروح القدس، مع الله الآب والله الابن في صفٍّ واحد، فيقول إنه كان يرفُّ على وجه المياه (تكوين 2:1) مشيراً إلى اشتراكه في الخَلق. ويقول إن الله منح القوة لموسى ورفقائه بروح الله (عدد 17:11 و25). وسكب الله روحه على شعبه ليُرجِعهم إليه (إشعياء 3:44). وقال الله مشيراً إلى عظمة قوته ومجد قدرته: "لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي" (زكريا 6:4). ويقول المسيح: "اذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم، وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس" (متى 19:28). فلا يقول "بأسماء" الآب والابن والروح القدس، بل "باسم" الإله الواحد: الآب والابن والروح القدس. وفي البركة الرسولية يقول: "نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم" (2كورنثوس 14:13). وبدأ الرسول يوحنا سفر الرؤيا بتحية المؤمنين قائلاً: "نعمة لكم وسلام من الكائن والذي كان والذي يأتي، ومن السبعة الأرواح التي أمام عرشه (أي من الروح القدس في صفاته وأعماله المتنوِّعة الكاملة، مع وحدة أقنومه) ومن يسوع المسيح" (رؤيا 4:1 و5). وهل يُعقَل أن يقترن اسمٌ باسم الله سبحانه إلا إن كان مساوياً لله؟

بل تعال بخشوع نرى الأقانيم الثلاثة معاً، عند معمودية المسيح، فالله الآب يعلن من السماء أن هذا هو ابنه الحبيب الذي به سُرَّت نفسه، ويعتمد الابن الحبيب على الأرض في مياه نهر الأردن، بينما يحل الروح القدس عليه بهيئة جسميَّة مثل حمامة (متى 16:3 و17). وفي تعبُّد واحترام نراهم في صلاة الله الابن، إلى الله الآب، أن يرسل الله الروح القدس (يوحنا 11:14 و16). ولما جرَّب إبليس المسيح اقتاده الروح القدس إلى البرية حيث واجه المجرب (متى 1:4). وعندما أعلن المسيح رسالته في مجمع الناصرة قال: "روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين" (لوقا 18:4). ولما اتَّهمه شيوخ اليهود أنه بقوة الشياطين يُخرِج الشياطين، قال: "أنا بروح الله أُخرِج الشياطين، فقد أقبل عليكم ملكوت الله" (متى 28:12). وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى: "إن عطش أحدٌ فليقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه" (يوحنا 37:7-39). وقد أرسل المسيح الروح القدس إلى تلاميذه، وقال لهم: "ومتى جاء المعزي الذي أرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي" (يوحنا 26:15).

وفي إجلالٍ نستمع للرسول بطرس يتحدث عن الأقانيم الثلاثة يوم الخمسين فيقول: "يسوع هذا إذ ارتفع بيمين الله، وأخذ موعد الروح القدس مِن الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه وتسمعونه" (أعمال 33:2).

وهكذا نرى الروح القدس، الله الروح، الأقنوم الثالث، الذي يستحق عبادتنا وإجلالنا وتعظيمنا. فلنتقدم أمامه في خشوع كامل، ولنسلِّمه القلب والحياة.

وكلمة "الروح" معناها "ريح" أو "نسمة" أو "نفخة". فالروح القدس هو نسمة الله القدير. وقد قال المسيح لنيقوديموس: "الريح تهبُّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا أين تذهب. هكذا كل من وُلد من الروح" (يوحنا 8:3)، وهو بهذا يشبِّه الروح بالريح. فالريح لا تُقاوم، بل تهب حيث تشاء. والريح لا تُرى، والروح القدس لا يُرى. والريح لا تُفحص، فأنت "لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب" وهكذا الروح القدس. ونحن بدون الروح نموت، ونحتاج إلى نسمات الهواء، والروح القدس يحيي، كما نفخ المسيح في تلاميذه وقال لهم: "اقبلوا الروح القدس" (يوحنا 22:20) فنالوا قوة لحياتهم الروحية.

ويشبه عمل الروح القدس فينا تأثير العقل في الجسد، فالعقل يسيطر على الجسد ويستخدمه كما يشاء، بطريقة لا نقدر أن ندركها. ويَصْدُق هذا أيضا على تأثير أفكار الإنسان على عقل إنسانٍ آخر وإقناعه بطريقة فعالة.

وإن كان في إمكان إبليس أن يغوينا بالشر ويدفعنا نحوه، ويلقي التجارب القوية في عقولنا وقلوبنا، أفليس في قدرة الله أن يقودنا إلى التوبة، ويصلح نفوسنا، ويرشدنا إلى الخير بواسطة روحه القدوس؟

ويقترن تأثير الروح القدس مع الإرادة البشرية الحرَّة بطريقةٍ تفوق إدراكنا، فهو يعمل ما يشاء في البشر ويؤثر فيهم إلى أن يختاروا بإرادتهم الحرة ما يريدهم هو أن يفعلوه لخيرهم ولخير الآخرين، دون أن يجبرهم على العمل ضد إرادتهم. إنه بتأثيره المحب فيهم يجعلهم يريدون ويختارون نفس ما يريده هو، بطريقة لا تعارض حريتهم، ولا تلاشي مسئوليتهم عن أعمالهم.

 

2- يخلق: فيقول إمام الصابرين أيوب: "روح الله صنعني، ونسمة القدير أحيتني" (أيوب 4:33). ويقول المرنم: "ترسل روحك فتُخلَق وتجدِّد وجه الأرض" (مزمور 30:104).

 

3 - يعطي الولادة الجديدة: وهي ولادة روحية، عندما ننالها نجد أنفسنا وقد تغيَّرنا تماماً، وصرنا في حياة روحية جديدة وقد كرهنا الخطية وسعينا وراء القداسة. ولذلك نقول إن الروح القدس هو الرب المحيي. قال الرسول بولس: "إن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكناً فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات، سيُحيي أجسادكم المائتة أيضاً بروحه الساكن فيكم" (رومية 11:8).

يقنع الروح القدس الإنسان أنه خاطئ يحتاج إلى من ينقذه من غضب الله الذي يستحقه البعيدون عن الله، وقال المسيح: "ومتى جاء ذاك (الروح القدس) يبكِّت العالم على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة" (يوحنا 8:16). وعندما يتبكَّت الخاطئ ويتوب يمنحه الروح القدس ولادة جديدة، كما قال المسيح لنيقوديموس: "المولود من الجسد جسدٌ هو، والمولود من الروح هو روح" (يوحنا 6:3). وقال الرسول يوحنا: "كل من وُلد من الله يغلب العالم" (1يوحنا 4:5).

 

4 - يقدِّس الحياة: يطهر الروح القدس الإنسان الذي يعطيه فرصة العمل فيه، فينمو في القداسة والمعرفة، ويتحقق معه القول الرسولي: "اغتسلتُم، بل تقدَّستم بل تبرَّرتُم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا" (1كورنثوس 11:6). ويتمم الروح القدس القداسة فينا بسيطرته على عواطفنا ومرافقته الدائمة لنا وإرشادنا، لتصير أجسادنا هياكل مقدسة له، ويحل روح المجد والله علينا (1بطرس 14:4).

 

5 - يوحي بالأسفار المقدسة: قال الرسول بولس: "كل الكتاب هو موحى به من الله" (2تيموثاوس 16:3) وقال الرسول بطرس: "لأنه لم تأتِ نبوَّة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بطرس 21:1). و"حسناً كلَّم الروح القدس آباءنا بإشعياء النبي" (أعمال 25:28). ويقول لوقا البشير: "الرب إله إسرائيل هو الذي تكلم بفم أنبيائه القديسين" (لوقا 70:1). فالرب الروح هو الذي تكلم على فم الأنبياء.

 

6 - موجود في كل مكان: يقول المرنم: "أين أذهب من روحك، ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدتُ إلى السماء فأنت هناك، وإن فرشتُ في الهاوية فها أنت. إن أخذتُ جناحي الصبح وسكنتُ في أقاصي البحر، فهناك أيضاً تهديني يدك وتمسكني يمينك" (مزمور 7:139-10). وقال المسيح: "روح الحق، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم" (يوحنا 17:14). وهو يسكن في كل مؤمن ويحل بقوته في الكنيسة.

 

7 - يعرف كل شيء: قال المسيح: "أما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلِّمكم كل شيء، ويذكِّركم بكل ما قلتُه لكم... أما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يوحنا 26:14 و13:16). وقال الرسول بولس: "ما لم ترَ عين ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، ما أعدَّه الله للذين يحبونه، فأعلنه الله لنا نحن بروحه. لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله. لأن مَن مِن الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟ وهكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا الله" (1كورنثوس 9:2-11).

 

8 - أزلي: قبل تكوين الأرض والسموات كان يرفّ على وجه المياه (تكوين 2:1). ويخبرنا الوحي أنه "بنفخته السموات مسفرة" (مشرقة) (أيوب 13:26). ومكتوب أيضاً أن المسيح "بروح أزلي قدَّم نفسه للّه" (عبرانيين 14:9). ومن الذي يمكن أن يقال عنه بحق إنه أزلي إلا "العلي المرتفع ساكن الأبد، القدوس اسمه" (إشعياء 15:57).

 

9 - صاحب سلطان: وجَّه الأمر للتلاميذ أن "افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه.. فهذان إذ أُرسلا من الروح القدس.. سافرا" (أعمال 2:13 و4) ويقول أيضاً: "منعهم الروح القدس أن يتكلموا بالكلمة في آسيا". ولما حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية "لم يدعهم الروح" (أعمال 6:16 و7). وبخصوص المواهب يقول: "إن الروح يقسم لكل واحد بمفرده كما يشاء. فإنه يعطي لواحد بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام عِلم بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد" (1كورنثوس 8:12-11). والأعمال المصحوبة بسلطان هي من مميزات "الإله الحكيم وحده" (رومية 27:16).

ويشهد الوحي عن محاوري استفانوس أنهم "لم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به" (أعمال 10:6)

جاء في نبوة النبي حزقيال: "فقال (الرب) لي (للنبي): تنبَّأ للروح. تنبأ يا ابن آدم وقُل للروح، هكذا قال السيد الرب: هلمَّ يا روح من الرياح الأربع، وهُبَّ على هؤلاء القتلى ليحيوا. فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح فحيوا، وقاموا على أقدامهم جيشٌ عظيمٌ جداً جداً" (حزقيال 9:37 و10).

 

10 - يصنع المعجزات: يقول الكتاب المقدس إن الله وحده هو صانع العجائب (مزمور 18:72). ويقول الرسول بولس إن العجائب والمعجزات تمَّت: "بقوة روح الله" (رومية 19:15).

والآن لنخلع أحذيتنا من أرجلنا، ولنقف خاشعين أمام الله الروح القدس، نسأل: كيف نمتلئ به، أو بالحري: كيف يمتلكنا ويحكم تصرُّفاتنا.


 

الفصل الخامس

كيف نمتلئ بالروح القدس؟

 

الملء بالروح القدس هو أن يمتلك الروح القدس حياتنا، ويسود على جسدنا وعقلنا وعواطفنا ووقتنا ومالنا، فلا يكون ساكناً فينا فقط، بل يكون مالكاً بالكامل على كل حياة المؤمن، فيكون المسيح متقدِّماً في كل شيء في حياة الشخص الممتلئ بالروح القدس (كولوسي 18:1).

عندما نقبل المسيح مخلِّصاً لنا تتجدَّد حياتنا، ويسكن الروح القدس فينا ويجعلنا هياكل له. وفي البدء تكون معرفتنا بالرب محدودة، لأننا نكون كأطفالٍ في الإيمان يشتهون اللبن العقلي العديم الغش لكي ينموا به (1بطرس 2:2). فالمؤمن المتجدد حديثاً طفلٌ يحتاج إلى الغذاء لينمو، وغذاؤه كلمة الله المقدسة.

وخلاص نفوسنا وتجديدنا هو بدء الصداقة مع المسيح. ولكن الصداقة لا تكمل إلا بطول المعاشرة بين الصَّديقَيْن، ومعرفة كل منهما للآخر معرفة عميقة. فلا يظن حديث الإيمان أنه أدرك القداسة، لأنه في بداية الطريق، ويحتاج إلى الكثير من المعرفة الروحية التي تزداد كل يوم حتى يعرف أعماق الله، ويصير شريكاً للطبيعة الإلهية (2بطرس 4:1). والتجديد هو الوقوف على شاطئ الإيمان. ثم يخطو المتجدِّد إلى داخل نهر النعمة، فيصل الماء إلى الكعبين. ثم يخطو أعمق فيصل الماء إلى الركبتين، ثم يدخل إلى الأعماق، فيغمر الماء الحقوين.. وسرعان ما تجذبه أمواج النعمة إلى عمق نهرٍ لا يستطيع عبوره (حزقيال 5:47). وفي الأعماق تحمل الأمواج المؤمن فيؤدي خدمته طائعاً، حيث تتفق الإرادتان: إرادة الله، وإرادته هو. هذا هو بحر الامتلاء بالروح القدس، أو نهر الفيضان الروحي.

والامتلاء بالروح امتيازٌ يهبه الله لكل مؤمن، ولو أن كثيرين لا يتمتعون به، فلا يختبرون الحياة الفائضة المثمرة التي وعد الله بها كل الذين يؤمنون به. فما الذي يعطل حصولهم على هذا الامتياز؟ وكيف يحصلون عليه؟

 

أولاً : معطلات الملء

كانت قرية صغيرة تستقي الماء من طلمبة (مضخَّة) صغيرة كثيراً ما كانت تتعطل عن العمل فتعرِّض القرية للعطش، ففكر الأهالي في جلب الماء من بحيرة بأعلى الجبل المجاور للقرية، فوضعوا ماسورة توصّل لهم الماء. وذات يوم وجد أحدهم أن قوة الماء المندفع من الماسورة يكفي لتوليد الكهرباء، فاستخدم الناس هذه القوة في تشغيل مصانع مختلفة، فاتَّسعت القرية وصارت مدينة عظيمة. وذات يوم توقَّف تدفُّق الماء، فتعطلت المصانع، وعطش الناس! ولما بحثوا عن السر، وجدوا أن بعض الخِرق القديمة سدَّت الماسورة فعطلت اندفاع الماء!

ترى ما هو الشيء الذي يمنع امتلاءك من الروح القدس؟ وأي موانع عطَّلت تدفُّق الماء الحي لقلبك؟

أذكر بعض ما يعطل امتلاءنا بالروح القدس ويمنع انسياب البركة لحياتنا:

1 - عدم التوبة:

التوبة هي الشرط الأساسي لقبول الروح القدس، كما قال الرسول بطرس: "توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس" (أعمال 38:2). وعدم ترك الخطية التي نرتكبها ونحن نعرفها هو أحد أسباب عدم الامتلاء بالروح القدس.

ألا يبدو عجيباً أن قوماً يريدون أن يمتلئوا بروح الحياة ويتمسَّكون بالموت في ذات الوقت؟ وأليس غريباً أن من يريد أن يمتلئ بروح القداسة يتمسَّك بنجاسة؟! إن المرنم يقول: "إن راعيتُ إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب" (مزمور 18:66)!

قال أحد رجال الله الأتقياء: "افرِض أني أتيت إلى بيتك، ودعوتني للدخول، لكنك وضعتَ ثِقلاً وراء الباب! فكيف أدخل؟ قل لي: "تفضَّل" كما تشاء، وادْعُني بكل قوتك، واستخدم كل تعبير مؤثر تعرفه! لكني لن أستطيع الدخول لأن الثقل الذي وراء الباب يصرخ فيَّ بطريقة عملية ويقول: لا تدخل! هكذا الأمر مع الروح القدس. إنه لن يدخل القلب ليمتلكه ما دمتَ تضع خطية وراء باب القلب، وأنت عارف بها.

عندما يضع الرب إصبعه على أمر في حياتك لا يرضيه، اتركه حالاً، واعلم أن يد الإيمان يجب أن تكون فارغة إن هي أرادت أن تمتلئ. فاهجُر كل خطية محبوبة لديك، فتمتلئ من الروح القدس. ألم تسمع أن قربانك لا يكون مقبولاً إن كانت هناك خطية خصام في حياتك؟ (متى 23:5). فإذا وضعت ذبيحة حياتك على مذبح التكريس لله وتذكرت خطية عندك، فأسرع بإنزال ذبيحتك من على المذبح، وصفِّ حسابك مع أخيك أولاً، ثم ارجع لتقدم لله تقدمتك!

تقابل خادمٌ لله مع قائد ديني كبير، وشكا له ضعفه الروحي وعدم امتلائه بالروح القدس، رغم صلاته الكثيرة طالباً الملء. ووجَّه القائد للخادم أسئلة فاحصة ساعدته أن يكتشف أن في حياته خطيةً يحبها، فقرر أن يتركها حالاً. وحالما عزم أمام الله أن يتركها فاض الروح القدس في قلبه وملأه.. وكان هناك مؤمن يطلب ملء الروح القدس، لكنه لم ينله حتى ردَّ مبلغاً من المال كان قد اقترضه ولم يُعِده، فامتلأ بالروح.

في حضرة الله اركع وسكّن قلبك قدامه، واطلب منه أن يكشف لك الخطية التي تعطل امتلاءك من الروح. قل له: "اختبِرني يا الله واعرِف قلبي، امتحنِّي واعرف أفكاري، وانظر إن كان فيَّ طريق باطل، واهدِني طريقاً أبدياً" (مزمور 23:139 و24).

إن صلَّيت هذه الصلاة بإخلاص ونيَّة صادقة سيعلن لك الله كل طريق باطلٍ في حياتك، لأن الخطية تظهر في نور قداسته.. سيقول لك: "هذه هي الخطية التي حرمتك من البركة.. اتركها". وسيكشف لك كل خطية في حياتك، مهما كنتَ تظن أنها ضئيلة. فأرفع لله الصلاة التي صلاّها أليهو: "ما لم أُبصِره فأَرِنيه أنت. إن كنتُ قد فعلتُ إثماً فلا أعود أفعله" (أيوب 33:34). اطلب من الله أن يريك ما عجزتَ عن رؤيته فلا تعود تفعله.

 

2 - عدم قداسة الغرض:

لن يملأ الروح القدس شخصاً يطلبه بقصد رفع مركزه بين الناس، أو ليكون أفضل الوعاظ، أو ليجذب الجماهير إليه، أو ليحتل مركزاً متميِّزاً بين المؤمنين.

فلماذا تريد أن تمتلئ؟ هل لمصلحة شخصية، أم لمجده؟ قال الرسول يعقوب: "تطلبون ولستم تأخذون، لأنكم تطلبون ردياً لكي تنفقوا في لذاتكم" (يعقوب 3:4). فالروح القدس لن يملأ إلا من يريد أن يمجِّد الله.

كان "دهن المسحة" الذي يرمز للروح القدس مخصَّصاً لمَسْح الهيكل وأوانيه، لتكون "قدس أقداس"، كما كان مخصصاً لمَسْح هارون وبنيه لتقديسهم لخدمة الله. ولم يكن دهن المسحة يُسكب على جسد أي إنسان (خروج 22:30-33). وهذا يعني أن الروح القدس لا يملأ إنساناً لغير غرض مقدس! وقصة سيمون الساحر ترينا أن عدم قداسة الغرض لا تعطل الملء فقط، بل تؤذي أيضاً الطالب الأناني (أعمال 9:8-25).

 

3 - عدم تكريس كل شيء:

احتفاظنا بشيء ما في حياتنا غير مكرَّس للمسيح يسبِّب عدم ملء الروح لنا. فكل شيء نحتفظ به لأنفسنا غير مسلَّم للمسيح هو سبب كل بلاء يصيبنا، وعدم تكريسنا الكامل للمسيح هو سبب كل هزيمة تلحق بنا. فلنسلِّم له كل شيء، ولا نحتفظ بأي شيء لأنفسنا.

أراد رجل تقي أن يسلّم نفسه بالتمام للرب، واستغرق في الصلاة، فرأى في ما يرى النائم أنه يمسك بسلسلة مفاتيح في يده، فيها مفاتيح كل شيء مهم لديه، والمسيح واقف أمامه يريد أن يتسلَّمها. فنزع مفتاحاً واحداً صغيراً احتفظ به لنفسه، وأعطي باقي المفاتيح للمسيح. ولكنه اندهش لأن المسيح رفض أن يستلم ما قدَّمه له. ولم يقبل حتى أعاد المفتاح الصغير مع كل المفاتيح الكبيرة الأخرى وأعطى كل المفاتيح للمسيح، ففاض في قلبه فرح الامتلاء بالروح القدس.

"فأطلب إليكم أيها الإخوة برأفة الله أن تقدِّموا أجسادكم ذبيحة حيَّة مقدَّسة، مَرْضيَّة عند الله، عبادتكم العقلية" (رومية 1:12). ولن يقبل المسيح ذبيحة تكريسك، ولن تحل عليها نار الروح القدس المنقِّية إلا إذا كانت الذبيحة كاملة على المذبح، بلا نقص، ولو كان ذلك النقص أتفه شيء! فلتسلِّم مفاتيح حياتك للمسيح: مفتاح الوقت، والمواهب، والفكر، وكل شيء، وعندها تمتلئ بالروح القدس.

 

4 - الجهل بكيفية الإيمان:

اجتمع تلاميذ المسيح في أورشليم ينتظرون تحقيق وعد المسيح لهم في حلول الروح القدس عليهم، وهم لا يعلمون متى وكيف سيتحقق الوعد، ولو أنهم كانوا واثقين من تحقيقه. ولولا ذلك الإيمان ما بقوا ينتظرون في أورشليم.

ويخلط كثيرون بين الإيمان والشعور، فينتظرون إحساسات وعلامات ملموسة تطمئنهم أن روح الله ملأهم. وقد عطَّل عدم فهم الإيمان كثيرين عن بلوغ الهدف السامي الذي هو ملء الروح لهم. فنحن لا نحيا بالمشاعر، بل في تصديق وعود الله الواضحة. ولا أدري كيف نضعف في تصديق مواعيد الله! لأنه ليس بكيلٍ يعطي الله الروح (يوحنا 34:3)، وقد وعد الله أن يعطي الروح للذين يسألونه في طاعة (لوقا 13:11 وأعمال 32:5). فصدِّق وعد الله (إن كنت قد سلَّمته كل شيء) وثِق أنك امتلأت، حتى لو لم تكن لديك مشاعر جسدية أو نفسية. ولعل السر في عدم امتلائك هو اتكالك على الشعور والعواطف، بينما يجب أن تسلك بالإيمان لا بالعيان (2كورنثوس 7:5).

كانت سيدة تشكو لقسيس كنيستها عدم استجابة صلواتها في الامتلاء بالروح القدس، فوعد أن يزورها ليناقش المشكلة معها. ولما جهَّزت الشاي بادرها بطلب فنجانٍ منه، فقدَّمته له. ولكنه لم يمدّ يده ليأخذه، بل عاد يطلب مرة أخرى، وكرر الطلب حتى تضايقت السيدة. فقد كانت تقدم له ما طلب في كل مرة، وهو لا يتناوله! وجلست حائرة لا تعرف السر، فما اعتاد القسيس أن يتصرف هكذا! لكنه أوضح لها إنها تتصرف مع الله تصرُّفاً مشابهاً. لقد طلبت من الرب، وقدَّم لها الرب ما طلبته، لكنها لم تمد يد الإيمان لتأخذه، بل عادت تكرر الطلب!

يقدِّم الرب ملء الروح القدس لكل مؤمن يطلبه، لأنه يريد أن يكون أولاده أقوياء منتصرين. فلا تكن غير مؤمن بل مؤمناً، ومُدَّ يدك المؤمنة لتأخذ عطية الروح القدس، إن كنت قد عزمت على طاعته بكل قلبك.

طلبت فتاة من جدِّها أن يشتري لها حلوى معيَّنة تحبها، ووعد الجد أن يحضر لها ما أرادت. وفي الصباح ركب الجد سيارته وخرج لقضاء بعض شئونه. وحين وضع يده في جيبه وجد ورقة صغيرة مكتوباً فيها بخط صبياني: "أشكرك يا جدي لأنك أحضرت الحلوى!". لقد كان إيمان هذه الفتاة في وعد جدها كبيراً. فليكن إيمانك بوعود الله لك مثل إيمان هذه الفتاة.

 

5 - تقييد طلب الامتلاء بالروح بطلبات أخرى:

يضع البعض شروطاً مختلفة للامتلاء بالروح القدس. فيتصوَّر البعض أنهم عندما يمتلئون بالروح القدس سيسيرون على الماء كما فعل بطرس! ويذهب الخيال بالبعض إلى أنهم عندما يمتلئون سيحلّقون في الفضاء مثل أخنوخ وإيليا. وهناك من يشترطون على الله أن يعطيهم موهبة التكلُّم بألسنة، وإلا حسبوا أنفسهم غير ممتلئين! ولكي أكون منصفاً للذين يؤمنون بالتكلم بألسنة، وللذين لا يؤمنون بها أقول: هل كان يجب أن جميع الذين امتلأوا بالروح أن يتكلموا بألسنة؟ لا. البعض تكلموا، والبعض لم يتكلموا! إن المسيح سيدنا لم يتكلم بألسنة، رغم أنه كان يتكلم بعظائم الله! وعندما صلى الرسل تزعزع المكان الذي كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة، ولا يذكر أنهم تكلموا بألسنة (أعمال 31:4). وعندما وضع حنانيا يديه على الرسول بولس ليبصر ويمتلئ بالروح القدس أبصر واعتمد وأكل، ولا يُذكر أنه تكلم بألسنة (أعمال 17:9)

هناك مواهب وخِدَم وأعمال متنوِّعة فوق طبيعية يهبها الروح القدس للمؤمنين. ويعطي الروح القدس لكل مؤمن ما يريد الروح أن يعطيه له، فلا يوجد مؤمن يمتلك كل المواهب، كما لا يوجد مؤمن بلا مواهب. ومن هذه المواهب ما هو خاص بالخدمات الاجتماعية والتدبيرية (رومية 8:12 و1كورنثوس 28:12) ومنها مواهب تعليمية وتنظيمية (أفسس 11:4) ومنها مواهب روحية. وقد أعطى الله للجميع مواهب طبيعية. ويجب أن نستخدم كل هذه بغير كبرياء ولا أنانية. فعندك موهبة يحتاج إليها غيرك، لأنها ليست عنده، وأنت تحتاج إلى خدمة موهبة عند أخيك وليست عندك. وهكذا نخدم بالمواهب بعضنا بعضاً، ونحن نحتاج بعضنا لبعض.

لا تعطل انسكاب الروح فيك بسبب الشروط التي تشترطها على الرب، وبسبب المواهب المحدَّدة التي تفرضها عليه كعلامة على امتلائك من الروح القدس، وكأنك أنت السيد وهو المنفِّذ، فلا تجني سوى الحرمان!

 

6 - عدم المحبة:

حياة المحبة والطاعة شرط نوال الملء من الروح القدس. قال المسيح: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" (يوحنا 15:14). وقال جون وسلي زعيم حركة المناداة بالقداسة في العالم: "القداسة الكاملة هي المحبة الكاملة" لله، وللمؤمنين، وللخطاة. وعدم محبتك لأي إنسان تحرمك من ملء الروح! لاحظ أنها المحبة الكاملة حتى للذين ينتقدونك، ويمتهنون كرامتك، ويسيئون إلى سمعتك! فهل عندك هذه المحبة؟ أو: هل أنت مستعد أن تكون لك هذه المحبة؟

لو لم تغفر للناس خطاياهم، لا يغفر لك الله. هذا حق علَّمه المسيح لنا بعد أن علَّمنا الصلاة الربانية (متى 14:6 و15). والمحبة هي أول ثمر الروح القدس. إن احتقارك للذين يستهزئون بك يدل على ضعف إيمانك. وكراهيتك لهم تدل على بُعدك عن روح المسيح الذي صلى لأجل صالبيه: "يا أبتاه، اغفر لهم" (لوقا 34:23)!

ويحسبك الرب مؤمناً وأنك قد انتقلت من الموت إلى الحياة، لا لأنك لا تعمل الخطية، فليس أحد معصوماً، ولكن لأنك تحب الإخوة (1يوحنا 14:3)! المحبة هي الإنجيل. هي تكميل الناموس (رومية 10:13). بل إن الله محبة (1يوحنا 8:4 و16)!

والآن اسأل نفسك وفتِّش داخلك: ما الذي عطَّل امتلاءك بالروح القدس.

 

ثانياً: طريق الملء

الملء للجميع. هذه هي النبرة العالية في لحن الحياة الروحية، ولو أن البعض يهملونها، كالمسجِّل الذي كان ينقل إحدى سيمفونيات بيتهوفن ولاحظ نبرة عالية جداً، فظنَّ أنها خطأ ولم يسجلها. وبعد أن أنهى النقل، راح يوقع اللحن، ولدهشته وجد أن اللحن لن يستقيم بدون تلك النبرة العالية! ولحن حياة الروح لا يستقيم إلا بملء الروح القدس، لذلك قال أحد الأتقياء: "كم نشكر الله لأن الملء للجميع، فلولاه ما أمكننا أن نحيا منتصرين".

من حقك أن تمتلئ بالروح القدس، بل إن من واجبك أن تمتلئ، فمن أجلك صلى المسيح، كما صلى من أجل تلاميذه الاثني عشر ليمتلئوا. وقد نال التلاميذ الموعد، فلماذا لا تناله أنت؟ إن المؤمنين الذين لا يتمتعون بملء الروح القدس "يتامى" (يوحنا 18:14)! فلماذا تبقى "يتيماً" والروح القدس مستعد أن يملأك؟

ويسمّي الكتاب أول ملء "معمودية" أما المرات التالية فيسميه "ملئاً". وهذا ما نجده في الشواهد التالية: أعمال الرسل 5:1، 17:2-21، 16:11،17. لكننا نرى بعد هذه "المعمودية" ملئاً يتكرر، فبطرس وبولس بعد معموديتهما بالروح القدس امتلئا مرات كثيرة.

والآن: هل اعتمدت بالروح القدس؟ هل قبلت روح القوة؟ لا تكن كتلك الفتاة التي شاهدت هدايا عيد الميلاد، فقالت لأخيها: "هذه ليست لنا لأنها مرتفعة الثمن!". بل تقدَّم بالإيمان قائلاً: "هيا نرث مواريثنا".

وقد وضع البشر شروطاً كثيرة للملء بالروح القدس، تشوِّش بل تطمس الطريق أمام الباحث عن الحق! لكن الكتاب المقدس لا يضع إلا شرطين فقط للملء، هما: الطاعة والإيمان.

 

الشرط الأول: الطاعة

قال الرسول بطرس: "الروح القدس الذي أعطاه الله للذين يطيعونه" (أعمال 32:5). فالبرهان الصادق على المحبة هو الطاعة، وهي طاعة المحبة وليست طاعة الإكراه. وهي تكريس الإرادة لله، وتسليم كل شيء عندنا بالكامل للرب.

والتكريس هو واجبك أنت أيها المؤمن، فأنت الذي تقدِّم نفسك طوعاً لله، وهو يستلم ما تقدمه له. والحقيقة هي أنك لست مِلكاً لنفسك، لأنك ملكٌ للمسيح. أنت مِلكه بحق الخَلق فهو جابلك: "كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (يوحنا 3:1). وأنت مِلكه بحق الشراء لأنه افتداك بدمه، وفي هذا يقول الرسول بولس: "لأنكم قد اشتُريتم بثمن" (1كورنثوس 20:6). وأنت ملكه بحق العناية، لأنه منحك كل احتياجاتك، فأنت تقول: "الرب راعيَّ فلا يعوزني شيء" (مزمور 1:23). وأنت مِلكه لأنك دُفعت إليه من الآب، وفي ذلك يقول المسيح للآب عنّا: "الذين أعطيتني" (يوحنا 11:17).

وتوضح القصة الحقيقية التالية هذه الفكرة: عمل ولدٌ قارباً، وأخذ يلعب به في البحيرة القريبة من بيته، فغرق القارب! وحزن الولد عليه جداً. وذات يوم وجد قاربه معروضاً في دكان، فدخل يطلبه من البائع. لكن البائع رفض أن يعطيه له إلا إذا دفع ثمنه. فاشتغل الولد حتى وفَّر ثمنه واشتراه. وما أن أمسك به حتى ضمَّه إلى صدره باعتزاز وقال: "يا قاربي العزيز، أنت لي مرتين: مرة لأني صنعتك، ومرة لأني اشتريتك". والمسيح يناديك ويقول: "أنت لي أربع مرات: مرة لأني صنعتك، ومرة لأني اشتريتك، ومرة لأني اعتنيت بك، ومرة لأنك دُفعت إليَّ من أبي".

أنت إذاً مِلكٌ للمسيح شرعاً، لكنك بالتكريس تكون له طوعاً، حين تقول له في طاعة: "أنا لك. امتلكني". وأنت للمسيح شرعاً، لكنك قد لا تكون مكرَّساً له. وعليك أن تأتي إليه خاضعاً طائعاً تسلّم له كل شيء حتى تمتلئ بالروح القدس.

غير أن كثيرين يخافون من تسليم حياتهم بالتمام للمسيح، لئلا يطلب منهم مطالب صعبة، أو يكلّفهم بأعمال شاقة، رغم أن المرنم يقول: "سَلِّم للرب طريقك واتَّكل عليه وهو يُجري، ويُخرج مثل النور برك وحقك مثل الظهيرة" (مز 5:37 و6). وقد كانت هذه مشكلة إحدى السيدات اللواتي طلبن الملء بالروح القدس، لكنها كانت خائفة من تكريس حياتها، حتى قال لها قسيس: "افترضي أن ابنك ارتمى في حضنك وقال لك إنه مستعد أن يعمل كل ما تطلبين منه، فهل تفكرين في إرساله إلى الصحراء، أو في تشغيله بأصعب الأعمال؟" ففهمت السيدة أن قلب الله أكثر حباً لنا من حب الأم لابنها. وهكذا سلَّمت تلك السيدة حياتها للرب تماماً بابتهاج، وبلا خوف!

وما أعظم البركات التي تنتج عن تكريس حياتنا للرب، وأكبر هذه البركات هي الملء. والطريق إلى اختبار الملء هو أن نُقبِل إلى يسوع ونشرب من نبعه الفياض، فنمتلئ، وتفيض منّا أنهار ماء حي (يوحنا 38:7). كتب الشاعر الهندي طاغور قصيدة قال فيها إن شحاذاً كان يستجدي المارة في طريق عام، رأى يوماً موكب الملك مقبلاً، فانتظر أن يعطيه الملك عطية كبيرة. وعندما مرَّ عليه موكب الملك، وقف الموكب، وتقدَّم الملك إلى الشحاذ وطلب أن يعطيه كل ما يملك! وفي دهشةٍ شديدة أخرج الشحاذ المبهوت بعض حبات القمح من جيبه وأعطاها للملك! فأخذ الملك الحبات، وأعطاها لوزيره، وطلب أن يعطي الشحاذ ما يعادل وزنها ذهباً! وصرخ الشحاذ في أسف: "ليتني أعطيتُه كل ما معي من القمح". ولكن الفرصة كانت قد ضاعت.

إن ملك الملوك حين يطلب منك أن تسلّمه كل شيء، سيردُّ لك ما هو أحسن من الذهب، لأنه سيعطيك الامتلاء بالروح القدس. وهو يعطي بلا كيل، فلا تتردد بل سلم له كل شيء في الحال لتمتلئ بالروح.

هل يمكنك أن تردد هذا الدعاء الحكيم: "اجعلني عبداً لك وإذ ذاك أصبح حراً. أرغِمني أن أسلِّم سيفي لك فأصبح منتصراً. فلكي أصل إلى العرش ينبغي أن أُلقي تاجي عند قدميك، ولكي أقف ظافراً رافع الرأس ينبغي أن أنحني أمامك".

هل عرفت كيف تسلم كل شيء عندك له؟ كتب رجل النهضات الروحية يوناثان إدواردز في مذكراته، وهو بعد تلميذ: "في هذا اليوم وهبت الرب كل شيء فيَّ، وسلمته كل ما عندي. أنا لست مِلكاً لذاتي، فليس لي الحق في جسدي. لقد سلمت كل قواي للرب، فلست أطلب الآن أو مستقبلاً أي حقٍ لنفسي".

قُل للرب مع المرنم "أنت هو ملكي يا الله" (مزمور 4:44)، ومع عروس النشيد "حبيبي لي وأنا له" (نشيد 16:2)، ومع رسول الأمم "الذي أنا له والذي أعبده" (أعمال 23:27)، ومع رجل الله الذي قال: "لتكن أنت لي وأنا لك. ليس لي فضة ولا ذهب. ليس لي إلا نفسي فامتلِكها يا الله".

كانت القديسة فرانسيس رِدْلي هافِرجال تقرأ كتاباً عنوانه "الكل للمسيح" عندما عرفت سر امتلاك المسيح لها وتكريس حياتها له، فسلَّمت نفسها تماماً للرب، وكتبت عنها أختها تقول: "كانت كل اختباراتها الماضية مثل شمعة ضعيفة أمام هذا الاختبار الذي كان كالشمس الساطعة". وكتبت هافرجال ترنيمتها التكريسية، التي ترجمها إلى العربية إبرهيم سركيس، تقول:

احفظ حياتي ليكــــــون تكريسها يارب لـــك

واحفظ زماني شاكـــراً فيه دواماً عمـــــــلـك

واحفظ يدي محرِّكـــــاً لها بحبك العظيــــــم

واحفظ خُطى رجليَّ في سلوك طرقك القويـم

 

صوتي احفظن مرنَّمـاً لملكي طول المـــدى

وشفتيَّ احفظهمـــــــــا للنُّطق في سرِّ الفـدى

إرادتي احفظ فهي لـك ليس مرادي الآن لـي

قلبي احفظن فيُمتَــــلك فهو لك العرش العلي

 

وفضتي احفظ والذَّهب لا يذهبن شيءٌ سُـدى

فكري وفعلي احفظهما وقوَّتي كما تشـــــــــا

حبّي احفظنه ذاخــــراً إياه كالكنز الثميـــــن

وكُنْ لنفسي حافظـــــاً إني ضعيفٌ يا معيـن

 

هيا كرِّس له حياتك كلها: وقتك ويدك ورجلك وصوتك وشفتيك وإرادتك وقلبك ومالك وفكرك وعواطفك ونفسك وكل شيء.. فتمتلئ بالروح القدس.

 

الشرط الثاني: الإيمان

قال الرسول بولس: "لننال بالإيمان موعد الروح" (غلاطية 14:3).

بعد أن سلمت نفسك للرب كلياً، وعزمت أن تطيعه بكل قلبك، صلِّ بإيمان واطلب أن يملأك الروح القدس، فقد قال المسيح: "إن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء: يعطي الروح القدس للذين يسألونه" (لوقا 13:11). وقد انسكب الروح القدس على التلاميذ وهم في العلية يطلبون انسكابه. فالآن صلِّ طالباً أن تنزل نار الله، التي وعدنا بها، على المحرقة التي قدمتها على مذبحه المقدس، فتتعمَّد بالروح القدس ونار (متى 11:3). ثم ثق أن الرب قد أرسل الروح القدس ليملأك، فتنال بالإيمان موعد الروح. والمسيح يقول إن من يؤمن به يمتلئ بالماء الحي، حتى يفيض من بطنه، والماء الحي هو الروح القدس (يوحنا 37:7-39).

لا تقُل في صلاتك: "إن كنت تريد املأني" لأنه يريد أن يملأك، بل صلِّ "املأني الآن يا ملكي". واعلم وثِق أنه سيعطيك ملء الروح في الحال. قد لا تشعر بشيء. لا تخف، فالمسألة ليست في شعورك، بل في الثقة بمواعيد الله. والشعور يخدع لأنه من الجسد، ونحن لا نسلك حسب الجسد. ولا تستطيع مشاعر العالم أجمع أن تغيّر كلمة الله. وعندما يعلن الله للمؤمن أنه سيمتلئ بالروح القدس، فيجب أن يتأكد أنه قد امتلأ فعلاً، بصرف النظر عمّا يشعر به.

ويمكن أن تصلي هكذا :

"يا أبي الصالح، يا سيدي وملكي، يا صاحب السلطان على نفسي وجسدي وكل ما لي، ها أنا أضع عند قدميك كل شيء عندي، فامتلِكني لأكون لك كل أيام حياتي. وحسب وعدك المبارك بملء الروح لي، أطلب أن تسكب عليَّ الروح القدس. وأن تعمِّدني به الآن.

والآن أشكرك لأنك تمَّمت وعدك لي، وأشكرك لأني الآن أتمتع بملء الروح القدس. اقبل صلاتي في اسم المسيح. آمين".

والآن وقد امتلأت بالروح القدس، ستختبر أكثر وأكثر كل يوم أنه هو شخص الله الذي يسكن داخلك. وملء الروح القدس هو تدفُّق هذا النبع المروي ليشمل كل الحياة ويسيطر على كل جوانبها. فإذا كان الميلاد بالروح القدس هو بدء حياة المسيح فيك، فالملء بالروح هو سريان هذه الحياة فيك باستمرار، فيتصوَّر المسيح فيك (غلاطية 19:4)، وتسلك حسب الروح، وينمو فيك ثمر الروح، فتواصل رحلة إيمان منتصراً غالباً بعمل الروح القدس الدائم فيك .


 

 

 

القسم الثالث

ثمر الروح القدس


 

الفصل السادس

مقدمة

 

"وأما ثمر الروح فهو: محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح، إيمان، وداعة، تعفُّف" (غلاطية 22:5 و23).

 

حل الروح القدس على التلاميذ بعد قيامة المسيح بخمسين يوماً وملأهم بالقوة والشجاعة، فتغيَّرت حياتهم تماماً، وصار كل شيء فيهم جديداً. وما أكبر الفارق بين ما كان قبل يوم الخمسين وما بعده! وسيحدث تغيير كلي في حياتك إن كنت تسمح للروح القدس أن يسود على حياتك سيادةً كاملة.

فهل أنت غير راضٍ عن حياتك الروحية كما هي الآن؟ وهل تطمع في رفعةٍ روحية؟ وهل تريد أن تتغيَّر إلى ما هو أفضل، وأن تكون أكثر فائدة لخدمة المسيح، وأن تحقِّق ما ينتظره الرب منك؟

هذا ممكن إن كنت تزيل المعطلات التي تمنع سيطرة الروح القدس عليك، وإن كنت تفتح قلبك له ليملأك، فيتحقق معك الوعد "ستنالون قوةً متى حلَّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهوداً" (أعمال 8:1). قال المسيح لتلاميذه إنه بعد صلبه وقيامته وصعوده للسماء لن يتركهم يتامى "أنا أطلب من الآبي فيعطيكم معزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق، الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه.. لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم.. أما المعزي، الروح القدس، الذي سيرسله الآبي باسمي، فهو يعلِّمكم كل شيء، ويذكِّركم بكل ما قلتُه لكم.. ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآبي، روح الحق الذي من عند الآبي ينبثق، فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء" (يوحنا 16:14-18 و26 و26:15).

 

ثمرٌ واحد:

يقدم لنا الرسول بولس تسعة أثمار، يذكرها بصيغة المفرد "ثمر". وتصوِّر صيغة المفرد لنا الوحدة والتجانس. وقد شبَّه بعض المفسرين المسيحيين هذه الصفات التسع بأنها تسع حبات عنب في عنقود واحد. أو تسع لؤلؤات براقة في عقد واحد. ولعلهم قدَّموا هذا التفسير وهم يذكرون قول المسيح: "أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام. كل غصن فيَّ يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر" (يوحنا 1:15). فالمسيح يريدنا أن نثمر ثمراً أكثر ويريد أن يدوم ثمرنا. وكلما زاد ثبوتنا في المسيح يملكنا الروح القدس ويسيطر على قلوبنا، فيجعلنا نثمر أكثر هذا الثمر الواحد المتجانس.

وسنتأمل في ثمر الروح القدس الذي ذكره الرسول بولس في رسالته لأهل غلاطية، وهو يقول: "أما ثمر الروح فهو: محبة فرح سلام، طول أناة لطف صلاح، إيمان وداعة تعفف" (غلاطية 22:5 و23). وهذه الصفات التسع تنقسم إلى ثلاث ثلاثيات:

1 - علاقة الإنسان بالله: محبة، فرح، سلام.

2 - علاقة الإنسان بإخوته البشر: طول أناة، لطف، صلاح.

3 - علاقة الإنسان بنفسه: إيمان، وداعة، تعفُّف.

إذا سمحنا للروح القدس أن يسيطر على حياتنا، ستكون علاقتنا بالله مليئة بالمحبة والفرح والسلام. وستكون صلتنا بالناس صلة نموذجية تحكمها طول الأناة واللطف والصلاح. أما صلتنا الشخصية بنفوسنا فستكون عامرةً بثقة الإيمان، والوداعة، والتعفف. وما أسعد الإنسان الذي يعطي الروح القدس فرصة امتلاك قلبه والسيطرة على حياته ليثمر هذا الثمر العظيم.

وقبل أن يورد الرسول بولس ثمر الروح التساعي، ذكر خطايا البشر الذين لا يحكمهم الروح القدس، وأطلق على ذلك اسم "أعمال الجسد". وهناك مفارقة بين ثمر الروح وأعمال الجسد (غلاطية 19:5-21):

* يورد الرسول بولس أعمال الجسد بصيغة "الجمع" لأنها كثيرة ومتضاربة. إنها فوضى حياة الإنسان الذي تحكمه ميوله الجسدية التي تناقض الإرادة الإلهية. وهذا عكس التجانس والتوافق في حياة الإنسان الذي يسلِّم زمام قيادته للروح القدس.

وما أحوج عالمنا لرؤية نموذج للفضائل في حياة المؤمن الذي يحمل كل ثمر الروح في حياته اليومية. لقد تعب العالم من سماع الكلام والدروس النظرية عن الفضائل، وهو يحتاج إلى درس عملي، يرى فيه هذا الثمر التساعي مُعاشاً عملياً في حياة المؤمنين كل يوم، وقد ازدهروا وحملوا ثمرهم للعالم، يباركونه به.

ويدعو الروح القدس كل واحد منا أن يثمر هذا الثمر، وأن يصلي ليزيد فيه الثمر.

* هذا الثمر التساعي هو عمل الروح القدس في داخل المؤمن، وليس هو تجميلاً خارجياً للإنسان القديم بفعل حضارةٍ أو ثقافةٍ أو مجهودٍ ذاتي. وهو ليس محاولة الإنسان لتغيير نفسه، فيُصلح اليوم من نفسه شيئاً يزيد عليه إصلاح شيء آخر غداً. لكنه عملية تسليم النفس بكاملها للروح القدس، فيملكها الروح ويغيِّر صاحبها تغييراً كاملاً، فيجئ الثمر بطريقة طبيعية من داخل الإنسان كنتيجةٍ لا بد منها لعمل الروح فيه، ويكون ثمره كألوان زنابق الحقل التي قال المسيح عنها: "ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها" (متى 29:6). ولا يقصد المسيح بهذه الكلمات أن ألوان الزنابق أغلى ثمناً من ملابس سليمان، فملابس سليمان تكلِّف المال الكثير. ولا يقصد المسيح أن ألوان زنابق الحقل أكثر من ألوان ملابس سليمان، فقد كانت ملابس سليمان ذات ألوان كثيرة. ولكن المسيح قصد أن يقول إن الزنابق تلبس أمجد وأعظم من ملابس سليمان، لأن ملابس سليمان شيء خارجي عنه، يلبسه ويخلعه، أما ألوان الزنابق فهي طبيعية لا تزول، ولا تتغيَّر بفعل نور الشمس ولا تتأثر بعوامل الطبيعة طيلة حياتها.

قد نلبس صفات خارجية جميلة لنظهر أمام الناس صالحين. ولكن المسيح يطالبنا بالثمر والجمال الداخلي الذي يظهر بطريقة طبيعية غير متكلَّفة في سلوكنا اليومي. قد نجيء بعود يابس نكسوه خضرة خارجية، ونعلِّق عليه زهوراً جميلة الألوان، ولكن سرعان ما تجف الخضرة وتتساقط الزهور التي ذبلت، ويعود العود اليابس قبيحاً كما كان!.. نحن لا نحتاج لمؤمن مكسو من الخارج جمالاً صناعياً، لكننا نحتاج لمؤمن مفتوح القلب لفعالية الروح فيثمر كل ثمر الروح، ويكون ثمره نابعاً من امتلاك الروح له.


 

 

 

الفصل السابع

ثمر الروح القدس


 

الثمرة الأولى

المحبة

 

"الله محبة" (1يوحنا 8:4 و16).

"كما أَحِببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً" (يوحنا 35:13).

هل يمكن أن الله العظيم القدوس يتنازل فيحب الإنسان الضعيف الخاطئ؟.. هذا فكر يعلو منطق البشر، ولكنه وصل دنيا البشر عندما تنازل الله وبيَّن محبته لنا "لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا" (رومية 8:5). فهل يقدر الإنسان الذي اختبر محبة الله له أن يحب الله، وأن يحب أخاه الإنسان؟

لقد أخذ الله زمام المبادرة وأعلن حبه للإنسان، في العناية يوم جهَّز لآدم وحواء جنة عدن، ووضع فيها كل ما يُسعد وجودهما في الأرض من قبل أن يخلقهما. ثم لما سقطا، أعلن محبته لهما بطريقة أعمق، فستر عريهما بلباس التقوى والبر، ومنحهما الغفران والفداء. وفي قصة محبة النبي هوشع لزوجته جومر، بالرغم من سقوطها، أعلن الله لأهل التوراة كم يحبهم بالرغم من خيانتهم وسقوطهم! (هوشع 1 و3). أما في الإنجيل فقد رأينا الحب في أكمل معانيه "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 16:3). وباسم هذه المحبة يدعونا الله لنحبه، ونحب بعضنا بعضاً. ونتعلم من محبة الله لنا كيف نحبه وكيف نحب البشر من حولنا.

سأل أحد علماء الشريعة المسيح: "أيَّة وصية هي أول الكل؟" فأجابه: "أول كل الوصايا هي.. الرب إلهنا ربٌّ واحدٌ. وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانيةٌ مثلها: تحب قريبك كنفسك. ليس وصيةٌ أخرى أعظم من هاتين" (مرقس 29:12-31). وقال الرسول بولس: "بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً، لأن كل الناموس في كلمة واحدة يُكمل: تحب قريبك كنفسك" (غلاطية 14:5).

فالمحبة هي الثمرة الأولى من ثمر الروح في العنقود الذي ينمو على كل غصن من أغصان كرمة المسيح: محبة للرب، ومحبة للآخرين، كنتيجة طبيعية لمحبة الرب لنا، وملء الروح القدس لنا.

 

أولاً: ثمر الروح هو محبةٌ لله

كل من يملكه الروح القدس يثمر محبةً لله، تظهر في:

 

1 - الرغبة في الحديث مع الله:

الذي يملكه روح الله ويسيطر عليه يحب الله ويدعوه كثيراً ويخاطبه كثيراً، لأنه يريد أن تكون له به علاقة وثيقة. وأنت عندما تحب إنساناً تتَّصل به، وتكلّمه، وتقضي معه وقتاً طويلاً، وتعتبر كل وقت يمضي بغير اتصالٍ به وقتاً ضائعاً من عمرك. فكم يجب أن تتحدث مع الله لأنك تحبه! والمحبة لله من كل القلب تعني الاتصال الدائم بالله والحديث المتواصل معه. قال المرنم: "لكلماتي أصغِ يا رب. تأمَّل صراخي. استمِع لصوت دعائي يا ملكي وإلهي، لأني إليك أصلّي. يا ربُّ، بالغداة تسمع صوتي. بالغداة أوجِّه صلاتي نحوك وأنتظر" (مزمور 1:5-3).

ويسمي الكتاب المقدس هذا الحديث مع الله بأنه "صلاة". فليست الصلاة واجباً مفروضاً على المؤمن، بل هي الحديث الحبّي المنتظم الوفير معه، والذي يصفه نبيُّ الله داود بالقول: "أما أنا فصلاةٌ" (مزمور 4:109).

ونرى في المسيح خير نموذج في التعبير عن حبه للآب السماوي بالحديث معه، فقد كان يبدأ به يومه: "في الصبح باكراً جداً قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء، وكان يصلي هناك" (مرقس 35:1). بدأ يومه وحده بعيداً عن تلاميذه ليقضي وقتاً هادئاً في صُحبة أبيه السماوي. وكان يختم به يومه: "وبعدما ودَّعهم (تلاميذه) مضى إلى الجبل ليصلي. ولما صار المساء كانت السفينة في وسط البحر، وهو على البرّ وحده" (مرقس 46:6 و47). كما كان يصرف الليل كله في الصلاة (لوقا 12:6). ولما رآه التلاميذ يخاطب الآب كثيراً طلبوا منه أن يعلّمهم كيف يصلّون (لوقا 1:11). لقد أعطانا المسيح، ابن الإنسان، هذا النموذج في الصلاة ليعلّمنا شدَّة حاجتنا إليها، لأن المؤمن الذي يحب الرب كثيراً هو الذي يختلي بالرب كثيراً، وهو صاحب الحديث العميق المستمر معه.

ولكي تزيد الوقت الذي تقضيه مع الرب، أقترح عليك أن تصلي في كل وقت تقوم فيه بعملٍ لا يحتاج إلى تركيز. فعندما تقوم بعمل روتيني (كقيادة سيارة، أو انتظار وسيلة مواصلات، أو إن كانت سيدة تقوم بعملٍ في مطبخها أو ترتّب بيتها) أقترح عليك أن تستثمر هذا الوقت في الحديث مع الله والحوار مع الآب السماوي، فتتحوَّل هذه الأوقات العاطلة من التفكير إلى أوقات صلاة، وتصبح حياتك الروحية أكثر غنى، وتتعمق صلتك بالله، وتصير محبتك له من كل القلب والفكر والإرادة، فتقول مع آساف: "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسنٌ لي. جعلتُ بالسيد الرب ملجإي" (مزمور 28:73). فبعد شكوكٍ كثيرة واستفهامات فكرية وشكاوى متعددة اكتشف آساف أن أحسن شيء له هو الاقتراب إلى الله، والحديث معه، والاعتماد عليه.

 

2 - الرغبة في دراسة كلمته:

عندما تصلنا رسالة من شخص عزيز نقرأها بلهفة، ونعاود قراءتها، ثم نعاود التأمل في كلماتها. وعندما نضعها جانباً تكون أفكارها ملء عقولنا، لأننا نحب كاتبها. ومَن أكثر قرباً إلينا وحباً لنا من الآب السماوي؟! إن حب شريك الحياة مثلاً بدأ يوم تعرُّفنا عليه، وسينتهي بنهاية حياة أحدنا على الأرض. أما حب الآب السماوي لنا فقد بدأ من قبل أن نعرفه، وسيستمر إلى ما لا نهاية. ومحبتنا له بدأت يوم توبتنا ورجوعنا إليه، وستستمر إلى ما لا نهاية. "الله محبة" أرسل إلينا كلمته الموحى بها منه، والتي يحفظها من أي تحريف أو تغيير لتكون سراجاً لأرجلنا ونوراً لسبيلنا (مزمور 105:119)، فنقول مع المرنم: "أتلذَّذ بوصاياك التي أحببتُ.. كم أحببتُ شريعتك! اليوم كله هي لهجي.. كلمتك ممحَّصة جداً وعَبْدُك أحبَّها" (مزمور 47:119 و97 و140). فلتكن هذه الآيات نوراً هادياً تدفعنا إلى زيادة محبتنا للرب ولكلمته، فنلهج بها، ونتأمل فيها، لأننا نحب صاحبها. وسنجدها كاملةً ونقية، فنقول مع نبي الله إرميا: "وُجد كلامُك فأكلتُه، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي، لأني دُعيتُ باسمك يا رب إله الجنود" (إرميا 16:15). ونسمع مع النبي حزقيال أمر الرب: "أَطعِم بطنك واملأ جوفك من هذا الدَّرج الذي أنا معطيكه. فأكلتُه، فصار في فمي كالعسل حلاوةً" (حزقيال 3:3).

وكلما زادت محبتنا لله زادت قراءتنا لكلمته، وزاد تأملنا فيها، فلا نكتفي بأن نحفظها عن ظهر قلب، ولا أن نرددها بشفاهنا فقط، بل نحرص أن تكون غذاءً يومياً لأرواحنا، وواقعاً مُعاشاً كل يوم.

 

3 - الرغبة في التمثُّل به:

قال الرسول بولس: "كونوا متمثِّلين بالله كأولادٍ أحبّاء، واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا" (أفسس 1:5). وقال أيضاً: "كونوا متمثِّلين بالله، كما أنا أيضاً بالمسيح" (1كورنثوس 1:11). وقال لأهل غلاطية إن هدف كل جهده في الكرازة بالإنجيل لهم هو "أن يتصوَّر المسيح فيكم" (غلاطية 19:4) وهو يقصد أن كل من يراهم يرى المسيح فيهم.

لا شك أنك تمثلت بوالدك، كما أن طفلك يتمثل بك. وحسناً يقولون إن الطفل سِرُّ أبيه. وكلما أحب الطفل والده زاد تمثُّلاً به. وكلما تأمَّلت تعاليم المسيح وفكرت في حياته على الأرض صرت مثله، لأنك ستحب أن تقتدي به.

 

ثانياً: ثمر الروح هو محبةٌ للناس

الذين يثمرون ثمرة الروح "محبة" يحبون خليقة الله من البشر، كل البشر. ويشعرون بهم ومعهم في كل ظروف حياتهم، مهما كان جنسهم أو دينهم أو لون جلدهم! إنهم يحبون كما يحب الله، الذي يحب كل البشر لأنهم خليقته "فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين" (متى 45:5).

 

1 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للإخوة:

لكي نبرهن أننا نحب الله الذي لا نراه يجب أن نحب البشر الذين نراهم. وقد كانت المحبة الأخوية هي الصفة المميِّزة للمؤمنين بالمسيح عبر العصور، فكان الوثنيون يقولون: "انظر كيف يحب المسيحيون بعضهم". وقد أعلن المسيح أن المحبة هي برهان التلمذة الحقيقية له، فقال: "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حبٌّ بعضاً لبعض" (يوحنا 35:13). وقال الرسول يوحنا: "نحن نعلم أننا قد انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الإخوة. من لا يحب أخاه يبقَ في الموت. كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس، وأنتم تعلمون أن كل قاتل نفس ليس له حياة أبدية ثابتة فيه" (1يوحنا 14:3 و15).

ونحن نعلم أن الحياة الجديدة في المسيح هي نتيجة عمل الروح القدس في القلب. وكل من انتقل بالتوبة من الهلاك الأبدي إلى الحياة الأبدية يحب إخوته المؤمنين الذين يشتركون معه في نفس نوعية الحياة، وفي محبتهم لله، لأن الروح القدس فيهم ينشئ نفس الأشواق، ويدفعهم إلى نفس الأهداف، ويفكر نفس الأفكار.

 

2 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للفقراء:

ما أكثر من يحتاجون إلى القوت الضروري، فقد قال المسيح: "الفقراء معكم في كل حين" (متى 11:26). وقال أيضاً: "مغبوطٌ هو العطاء أكثر من الأخذ" (أعمال 35:20). وقال الرسول بولس: "المعطي المسرور يحبه الله" (2كورنثوس 7:9).

ولا يكفي أن ننصح المحتاجين بتناول الطعام أو الاكتساء، بل يجب أن نقدم لهم مما عندنا، طاعةً للوصية الرسولية: "إن كان أخٌ أو أخت عريانَيْن ومعتازَين للقوت الضروري، فقال لهما أحدكم: امضيا بسلامٍ، استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد، فما المنفعة؟" (يعقوب 15:2 و16).

وقد قدَّم المسيح لنا مثالاً عظيماً للعناية بالجائعين: فقبل أن يمتلئ التلاميذ من الروح القدس اجتمع خمسة آلاف رجل مع عدد كبير من النساء والأطفال حول المسيح يسمعون وعظه. وفي نهاية اليوم قال التلاميذ للمسيح إن هؤلاء جميعاً يجب أن يعودوا إلى بيوتهم لأن الوقت قد تأخر وهم جائعون، وليس لدى التلاميذ ما يعطونه لهم ليأكلوا. ولكن المسيح قال: "أعطوهم أنتم ليأكلوا". فقال أندراوس: "هنا غلام معه خمسة أرغفة وسمكتان. ولكن ما هذا لمثل هؤلاء؟". وفي حب حقيقي أخذ المسيح الأرغفة الخمسة والسمكتين وبارك وأطعم الجياع، وعلّم تلاميذه وعلّمنا درساً أن نعمل ما نستطيع، وأن نضع بين يديه ما معنا، ليعمل بنا ومعنا، فنقدِّم للمحتاج احتياجه (يوحنا 1:6-15).

قال الرسول يوحنا: "من كان له معيشة العالم ونظر أخاه محتاجاً وأغلق أحشاءه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه؟ يا أولادي، لا نحبَّ بالكلام واللسان، بل بالعمل والحق.. لنحبَّ بعضنا بعضاً لأن المحبة هي من الله، وكل من يحب فقد وُلد من الله ويعرف الله، ومن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة.. إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكمَّلت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا: أنه قد أعطانا من روحه" (1يوحنا 17:3 و18 و7:4 و8 و12 و13). فلكي نبرهن أننا نحب الله الذي لا نراه يجب أن نحب البشر الذين نراهم، ونتعاطف معهم في ظروفهم، ونمد أيدينا إليهم بما يحتاجونه.

وخير ما نفعله لنساعد المحتاجين هو أن نعلّمهم كيف يساعدون نفوسهم، فيكسبون رزقهم بعرق جبينهم. من السهل أن تعطي المحتاج جنيهاً، ولكن من الصعب أن تعطيه من وقتك وتفكيرك وجهدك ما يعاونه على تطوير نفسه. وكل من يحب المحتاج كما يحبُّه الله يساعده بتنمية إمكانياته وتعليمه وتدريبه.

فماذا ستفعل لمساعدة الفقراء؟ وبماذا يكلّفك الروح القدس لمساعدتهم؟

 

3 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للضعفاء:

يعطينا المسيح المثال الذي يجب أن نتمثل به، فهو السيد المحب الذي يشعر بضعف الضعفاء واحتياجاتهم ويهتم بهم، لأنه يحس بمشاعرهم. كان يتأمَّل المرضى المقيمين حول بركة بيت حسدا، وهم يعتقدون أن ملاكاً كان ينزل من السماء ويحرِّك ماء البِركة، والمريض الذي يسرع إلى الماء بعد ذلك يُشفى. ورأى المسيح مريضاً كان ينتظر مَن يُلقيه في البركة متى تحرَّك الماء لينال الشفاء، ولكنه لم يجد أحداً. وانتظر هذا المريض ثمانٍ وثلاثين سنة، فلم يشفق عليه أحد، حتى اعتقد أن عدم الإشفاق هو القاعدة! ولكن المسيح ذهب إليه، وتحنن عليه، وفي حب كامل منحه شفاء الجسد من المرض، وشفاء الروح من الخطية (يوحنا 1:5-9).

ودخل المسيح مجمع العبادة يوم سبتٍ فرأى امرأة منحنية الظهر، لم تقدر أن تنتصب البتَّة مدة ثماني عشرة سنة. ولم تطلب منه الشفاء، ولكنه لما رآها أشفق عليها ودعاها، ووضع عليها يديه فاستقامت في الحال ومجَّدت الله. وكان اليهود يقدِّسون يوم السبت ولا يعملون فيه شيئاً. وكان المسيح يعرف أن إجراء معجزة الشفاء في يوم السبت سيعرِّضه لكثيرٍ من النقد، ومع ذلك لم يبالِ بالنقد، وأبرأها. فانتقد رئيس المجمع كل الذين جاءوا ليطلبوا من المسيح الشفاء في يوم السبت، فقال المسيح له: "يا مرائي! ألا يحلّ كل واحد منكم في السبت ثوره أو حماره من المذود ويمضي به ويسقيه؟ وهذه، وهي ابنة إبرهيم، قد ربطها الشيطان ثماني عشرة سنة، أما كان ينبغي أن تُحلَّ من هذا الرباط في يوم السبت؟" (لوقا 10:13-17). فما أشد حاجتنا إلى تعلُّم مشاعر المحبة التي في قلب المسيح من نحو كل البشر، وبخاصة المحتاجين منهم.

وقد تعلّم محبّو المسيح الذين ساد الروح القدس على تصرفاتهم كيف يعاونون الضعفاء، فأسس الراهب المسيحي سالسيوس أول معهد للعميان، وأسس التاجر المسيحي أيولونيس أول مستودع مجاني لتوزيع الأدوية، وأسست الأميرة الرومانية فابيولا، بعد اعتناقها المسيحية، أول مستشفى.

وأنت ماذا فعلتَ، وماذا ستفعل لتعين الضعفاء؟

 

4 - الروح القدس يثمر محبة التكافل بين البشر:

حضَّ الرسول بولس المؤمنين على أن يتكافلوا، فيعطي من يملك من لا يملك، حتى إذا تغيَّرت ظروفه يجد من يعاونه.

وقد يتضايق من يملك عندما يطالبونه أن يعطي، فقال الرسول بولس: "لأنه ليس لكي يكون لآخرين راحة ولكم ضيق، بل بحسب المساواة. لكي تكون في هذا الوقت فضالتكم لأعوازهم، كي تصير فضالتهم لأعوازكم، حتى تحصل المساواة" (2كورنثوس 13:8 و14).

والمحبة تشارك غيرها دوماً في ما عندها، عملاً بالقانون الرسولي: "فرحاً مع الفرحين وبكاءً مع الباكين، مهتمِّين بعضكم لبعض اهتماماً واحداً" (رومية 15:12 و16). وقال القديس يوحنا ذهبي الفم: "البكاء مع الباكي أسهل من الفرح مع الفرحان، لأن الحسد قد يمنعنا من الفرح مع الفرحان". والمحبة لا تحسد (1كورنثوس 4:13)، لأن الحسد هو الشعور بالضيق من نجاح الآخرين في صحتهم أو مركزهم أو غناهم أو شهرتهم أو تقدمهم. ولكننا يجب أن نشارك الجميع أفراحهم وأحزانهم على السواء، ليشاركونا هم أيضاً وقت حاجتنا.

ما أعظم حاجة عالمنا إلى التكافل، عملاً بوصية إمام الحكماء سليمان: "ارمِ خبزك على وجه المياه، فإنك تجده بعد أيام كثيرة" (جامعة 1:11). "فإن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً.. فلا نفشل في عمل الخير لأننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكِلّ. فإذاً حسبما لنا فرصة فلنعمل الخير للجميع، ولا سيما لأهل الإيمان" (غلاطية 7:6-10).

 

5 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للأعداء:

قال أفلاطون: "الرجل الصالح هو الذي يحتمل الأذى، لكنه لا يرتكبه". ومن السهل على الإنسان أن يترفَّق بالصالحين وأن يحب الذين يحبونه، ويُحسن إلى الذين يُحسنون إليه. لكن المحبة الحقيقية هي التي تتَّجه إلى من يقاوموننا ويسيئون إلينا. ولن نقدر أن نحب أعداءنا إلا بقوة الروح القدس عندما يملأنا ويسود على سلوكياتنا، فنقدر أن نطيع الوصية: "أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسِنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم" (متى 44:5).

يساعدنا الروح القدس أن نتغاضى عن الاختلافات وأن نتراضى. صحيحٌ أننا لا يمكن أن نلتقي مع الجميع في كل شيء، ولكن الروح القدس يعيننا لنهتم بكل ما نلتقي فيه معاً. وهو يخلّصنا من الكبرياء التي تشعر بالجرح بسرعة وسهولة، وتسرع للانتقام ممّا تسمّيه الكرامة والشرف، لأن الروح القدس يعطينا الصبر وطول الأناة، ويعلّمنا عمل الصلاح.

يحدث العراك بخصامٍ بين شخصين، بينما عمل الصلح والسلام يحتاج لشخصٍ واحد فقط! وعندما يسيطر الروح القدس علينا يعطينا نقاوة القلب ومحبة السلام، فنسالم جميع الناس بقدر ما يمكننا، بدون أن نرتكب إثماً، وبدون أن ننكر حقاً، وبدون أن نخالف ضمائرنا (رومية 18:12). وهو يساعدنا أن نتبع السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحدٌ الرب (عبرانيين 14:12).

 

6 - الروح القدس يثمر فينا محبةً لكل من يحتاجون إلينا:

سأل أحد علماء الشريعة المسيح: "ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" فأجابه: "تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك، وقريبك مثل نفسك". فسأل: "ومن هو قريبي؟". فروى له المسيح مثَل "السامري الصالح" الذي وجد يهودياً جريحاً في الطريق، لا تربطه به علاقة سابقة، فضمد جراحاته، وحمله على دابته إلى أقرب مكان يقيم فيه حتى يتم شفاؤه، وتحمَّل نفقات علاجه. وقال المسيح إن السامري هو قريب اليهودي الجريح، فكل من يحتاج إلى معونتنا هو قريبنا (لوقا 25:10-37). وفي مثل السامري الصالح نجد أربع شخصيات:

(أ) الجريح: وهو يهودي كان مسافراً من أورشليم إلى أريحا، فوقع بين لصوص، فعرّوه وجرحوه وسلبوا منه كل ما معه، وتركوه بين حيّ وميت (لوقا 30:10). وكان اليهودي يكره السامري ولا يتعامل معه أبداً. وإذا لمس سامريٌّ يهودياً، يشعر اليهودي أنه تنجَّس طقسياً، فيغتسل ليتطهر! ولو كان اليهودي الجريح سليم الجسد لما سمح للسامري أن يلمسه!

(ب) الكاهن: مرَّ بالجريح وهو في طريقه لأداء خدمته الدينية في الهيكل، فرأى الجريح الذي ينتمي إليه في الجنس والدين، ولكنه جاز مقابله دون أن يساعده (لوقا 31:10). وهناك أسباب منطقية جعلت الكاهن يتصرف بهذه الطريقة:

* كانت هناك خطورة على حياة الكاهن، لأن اللصوص كانوا أحياناً يسكبون على واحدٍ منهم دم خروف، وينام على الطريق يمثِّل دور جريح! فمتى أشفق عليه أحدٌ وحاول أن يساعده يمسك به اللص حتى يجيء زملاؤه من وراء الصخور ليهاجموا هذا المسافر ويسرقوا ما معه.

* كان هناك احتمال أن يموت الجريح بين يدي الكاهن، فيتنجَّس طقسياً، ويتعطل عن أداء واجباته الدينية. وفكّر الكاهن: ما هو العمل الذي يجب أن يعطيه الأولوية الأولى: أن يساعد الجريح فيتدنس ولا يستطيع أن يقوم بواجبه الديني، أو أن لا يساعد الجريح فيقوم بواجباته الدينية؟ وقرر أن يضع واجباته الدينية أولاً!

(ج) اللاوي: وهو مساعد الكاهن في أداء الواجبات الدينية. هذا نظر إلى الجريح وجاز مقابله. لقد اهتمَّ اللاوي بالجريح أكثر من اهتمام الكاهن به، لأنه نظر إليه. وهذا ما لم يفعله الكاهن. غير أن اللاوي تردد كثيراً في تقديم المساعدة. ولعله قال في نفسه: "الكاهن أستاذي، وهو القدوة، وهو يعرف أكثر مني. فإن كان قد مضى دون أن يعاون الجريح، فلا بد أن له في ذلك حكمة". ولعل اللاوي تذرَّع بهذه الحجَّة ليعفي نفسه من القيام بواجبه الإنساني.

(د) السامري الصالح: الأجنبي عن الجريح، المختلف معه في العقيدة. هو الذي ضمد جراح اليهودي، وأركبه على دابته وأخذه إلى فندق وأعطى صاحب الفندق دينارين، وقال له: إن احتاج الجريح إلى شيء قدِّمه له، وعند رجوعي أوفيك.

قدَّم لنا المسيح في هذا المثل جريحاً. وهناك من هم أكثر بؤساً من جرحى الأجساد. إنهم جرحى الخطية. صحيحٌ إن دماءهم لا تسيل، لكن نفوسهم الجريحة بالذنوب معرَّضة للهلاك الأبدي. وعلى المؤمنين أن يقدّموا لهم رسالة المسيح، وأن يشرحوا لهم اختباراتهم الروحية، لعلهم يتوبون فيخلصون. إن الله يكلف من يحبونه أن يحبوا الآخرين ويسعوا لتخليصهم من خطاياهم، حتى لو أساءوا إليهم، فالمحبة تتأنَّى وترفُق، وتتحمَّل إساءات الآخرين، وتقدر أن تطيع الوصية الرسولية: "باركوا على الذين يضطهدونكم. باركوا ولا تلعنوا.. فإن جاع عدوُّك فأَطعِمه، وإن عطش فاسقِهِ، لأنك إن فعلتَ هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنَّك الشر، بل اغلب الشر بالخير" (رومية 14:12 و20 و21).

 

7 - الروح القدس يثمر فينا محبةً للعائلة:

عندما يسيطر الروح القدس على حياتنا يجعلنا نحب أفراد العائلة، فيحب الزوج زوجته، وتحب الزوجة زوجها، ويسود الحب جوَّ البيت. وقد شرح الرسول بولس لنا هذه المحبة الزوجية بقوله: "أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها.. يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم. من يحب امرأته يحب نفسه، فإنه لم يبغض أحدٌ جسده قط، بل يقوته ويربيه كما الرب أيضاً للكنيسة" (أفسس 25:5 و28 و29). ونصح الرسول بطرس الرجال بقوله: "أيها الرجال، كونوا ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف، معطين إياهنَّ كرامةً كالوارثات أيضاً معكم نعمة الحياة، لكي لا تُعاق صلواتكم" (1بطرس 7:3).

ما أجمل وأسعد البيت الذي يسود الروح القدس سلوك أفراده، فيتم فيهم وصف المرنم: "هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الإخوة معاً.. لأنه هناك أمر الرب بالبركة: حياةٍ إلى الأبد" (مزمور 1:133 و3).

 

* * *

يجب أن نطلب الامتلاء من الروح القدس، وأن نعطيه السيطرة على حياتنا، لنستطيع أن نحب الله أبانا بكل قلوبنا، فينمو فينا ثمر الروح الذي هو محبة، فنحب الآخرين، سواء كانوا يحبوننا أو لا يحبوننا. وعندما نبدأ بحب الآخرين، يعرفون المسيح الذي علَّمنا الحبَّ النقي الصادق، الذي يعطي ولا ينتظر أخذاً، ويجدون فينا تطبيقاً عملياً للقول الرسولي: "أما غاية الوصية فهي المحبة من قلبٍ طاهر، وضميرٍ صالح، وإيمانٍ بلا رياء" (1تيموثاوس 5:1).

 

صلاة

يا رب، أنت أحببتني وأنا ضعيف ساقط، وأدمتَ لي رحمتك التي لا أستحقُّها. ازرع في قلبي المحبة لك، ولعائلتي، وأصدقائي، ومجتمعي، وأعدائي، وعمِّق هذه المحبة المقدسة فيَّ. اقبل دعائي أن يسيطر الروح القدس على سلوكي اليومي، لأثمر محبة تدفئ قلوب كل المحيطين بي، وكل المتعاملين معي. آمين.


 

الثمرة الثانية

الفرح

 

عندما نتأمل قدرة الله الخالق الذي أبدع الكون لنعيش فيه، وعندما نتأمل محبة الله أتفادي الذي افتدانا بالمسيح حمل الله، الذبح العظيم، تمتلئ نفوسنا بالبهجة الروحية العميقة، ونهتف: "هلمَّ نرنم للرب، نهتف لصخرة خلاصنا. نتقدم أمامه بحمدٍ. بترنيماتٍ نهتف له" (مزمور 1:95 و2) "فيلذُّ له نشيدي، وأنا أفرح بالرب" (مزمور 34:104). وعندما نفكر في مجيء المسيح ثانيةً إلى أرضنا، نتطلع إلى سماع صوته يقول لكل مؤمنٍ أمين: "نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل فأقيمك على الكثير. ادخُل إلى فرح سيدك" (متى 21:25).

ولكن عندما نتأمل فيما يجري حولنا من ظروف مؤلمة وقاسية نندهش، ونتساءل: كيف نقدر أن نفرح مع أن عالمنا قد وُضع في الشرير (1يوحنا 19:5)، وهو يضطهد كل من يحيا مع الرب؟.. كيف نحصل على ثمرة الفرح ونحن نعيش في مجتمع يعادي ملكوت الله؟

ونندهش أكثر ونحن نقرأ نصيحةً كتبها الرسول بولس وهو سجينٌ في روما لجماعةٍ من المضطهَدين في فيلبي يقول فيها: "افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضاً افرحوا" (فيلبي 4:4). فكيف يطلب منهم أن يفرحوا وسط الآلام؟ وكيف يستطيع هو نفسه أن يفرح في ظروف السجن القاسية؟! ويجيء الجواب: "أما ثمر الروح فهو: فرح".

وتزيد دهشتنا عندما نجد أن نصيحة الرسول بولس السجين لأهل فيلبي المضطهَدين لم تكن مجرد كلام، بل هي وصفٌ لما جرى للرسول بولس وزميله سيلا عندما أُلقي بهما في السجن الداخلي في مدينة فيلبي، ووُضعت أيديهما وأرجلهما في المقطرة، وهي أربع أخشاب فيها أنصاف دوائر، توضع الرِّجلان في نصفي دائرتي إحدى الخشبَتين، وتوضع اليدان في نصفي دائرتين أخريين، ثم توضع خشبة أخرى فوقهما لتغلق على الرِّجلين، وخشبة رابعة لتغلق على اليدين، فلا يقدر السجين أن يتحرك، ويعجز عن دفع الحشرات التي تزحف على جسمه، وعن قضاء حاجته، فيكون في ألمٍ وبؤس لا يتخيَّله إنسانٌ متحضّر في العصر الحديث. وبالرغم من كل هذا فاض الروح القدس بالفرح في قلب السجينَين، لأنهما حسبا نفسيهما مستأهلين أن يُهانا من أجل المسيح (أعمال 41:5). وارتفعت تراتيلهما من قلبين فَرِحين بقوة حتى أيقظا كل المساجين! ثم حدثت زلزلة فتحت أبواب السجن، فخرج جميع المسجونين. وأقبل السجّان مرتعباً يسأل: "ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟" فأعطى الله بولس وسيلا فرصة الكرازة له، فآمن بالمسيح وأقام وليمةً لهما في بيته (أعمال 16). وقد كان الله أميناً مع بولس وسيلا، فلم يدعهما يُجرَّبان فوق ما يستطيعان، بل أعطاهما مع التجربة منفذاً للنجاة والفرح (1كورنثوس 13:10).

فإذا سألنا بولس وسيلا كيف أمكنهما أن يرتّلا في شدة آلامهما، لجاءتنا الإجابة أن قوة الروح القدس المسيطرة عليهما منحتهما الفرح وسط الحزن، فتغيَّرت معايير العالم عندهما تماماً، وتحقَّق معهما ما قاله المسيح: "طوبى للحزانى لأنهم يتعزَّون" (متى 4:5). وهذا يعني أن الفرح الروحي ليس نتيجة الظروف التي يحيا المؤمن فيها، لكنه فرحٌ في وسطها وبالرغم منها، بفضل فعالية الروح القدس في داخل النفس.

ويبدأ الرسول بولس ذكر قائمة ثمر الروح بكلمة "أما" وهي تفيد المفارقة. ففي العالم لنا ضيق، أما ثمر الروح فهو فرح، لأن المسيح غلب العالم (يوحنا 33:16). نعم، إن في العالم أحزاناً، لكن المسيح قال: "ستحزنون، ولكن حزنكم يتحوَّل إلى فرح.. عندكم الآن حزن، ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم" (يوحنا 20:16 و22).

إن ظروفنا الخارجية، وما تمتلكه أيدينا، ومراكزنا الاجتماعية، وثقافتنا العلمية لا يمكن أن تمنحنا الفرح الذي يستمر. لكن هذا الفرح يجيء من داخلنا، نتيجة امتلاك الروح القدس لنا. وهو ما أوضحه إمام الحكماء سليمان، حين قال: "قلتُ في قلبي: هلمَّ أمتحنك بالفرح فترى خيراً. وإذا هذا أيضاً باطل! للضحك قلت: مجنون! وللفرح: ماذا يفعل؟".. ومضى سليمان يعدِّد ما امتلكه، قال: "افتكرتُ في قلبي أن أُعلّل جسدي بالخمر.. فعظَّمتُ عملي. بنيتُ لنفسي بيوتاً. غرستُ لنفسي كروماً.. قَنِيتُ عبيداً وجواري، وكان لي وُلدان البيت.. جمعتُ لنفسي أيضاً فضةً وذهباً.. وبقيَتْ أيضاً حكمتي معي". فماذا كانت نتيجة هذا كله؟ قال: "ثم التفتُّ إلى كل أعمالي التي عملتها يداي، وإلى التعب الذي تعبتُه في عمله، فإذا الكل باطل وقبض الريح، ولا منفعة تحت الشمس" (جامعة 1:2-11). وقال أيضاً: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت. أيضاً في الضحك يكتئب القلب، وعاقبة الفرح حزن" (أمثال 12:14 و13).

ولكن ما أجمل ما قاله المرنم لربِّه، وهو يقارن نفسه بغيره ممَّن حاولوا أن يحصلوا على السرور مما يملكون. قال: "جعلتَ سروراً في قلبي أعظم من سرورهم إذ كثُرت حنطتهم وخمرهم. بسلامةٍ أضطجع بل أيضاً أنام، لأنك أنت يا رب منفرداً في طمأنينة تُسكنني" (مزمور 7:4 و8). وواضح أنه لا يستطيع أحدٌ أن "يضطجع بسلامةٍ لينام" إلا إن كان واثقاً تماماً أن الإله القديم، الذي اختبره وعرفه، هو ملجأه، وأن أذرع الله الأبدية من تحته ترفعه (تثنية 27:33) وأن قلعته هو الرب، البرج الحصين الذي يركض إليه الصدِّيق ويتمنّع (أمثال 10:18). إنه السيد والفادي والمقدِّس، الذي غسل المؤمنين من خطاياهم بالدم الكريم، وجعلهم ملوكاً وكهنة له. وصلتهم العميقة الشخصية به، وملء الروح القدس لهم، يضمنان لهم ثمر الفرح الذي يفيض دوماً في قلوبهم "لأنْ ليس ملكوت الله أكلاً وشرباً، بل هو برٌّ وسلام وفرحٌ في الروح القدس" (رومية 17:14).

وبسبب فرح الروح القدس الدائم والثابت والكامل قال نبي الله حبقوق: "مع أنه لا يزهر التين، ولا يكون حملٌ في الكروم. يكذب عمل الزيتونة، والحقول لا تصنع طعاماً. ينقطع الغنم من الحظيرة، ولا بقر في المذاود، فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي" (حبقوق 17:3 و18).

إن الفرح الذي نستمده من إنسانٍ أو شيءٍ مادي لا يستمر. أما ما نستمده من الروح القدس فهو الذي يبقى ويدوم، ويكون اختبار بركة كبيرة لا تزول.

وأذكر أربعة أنواع من الفرح يمنحها لنا الروح القدس:

 

أولاً: فرح الخلاص والغفران

عندما جاء المسيح إلى عالمنا مولوداً من العذراء مريم جاء بفرح الخلاص، فرتَّلت العذراء المطوَّبة: "تعظِّم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلّصي" (لوقا 46:1). وهو فرحٌ ابتهج به الأنبياء من قبل حدوثه لما كشف الروح القدس لهم عن عظمته، فقال المسيح لليهود: "أبوكم إبرهيم تهلَّل بأن يرى يومي، فرأى وفرح" (يوحنا 56:8). وهو فرحٌ يحصل عليه كل من يقبل خلاص المسيح، عندما يقنعه الروح القدس بصِدق رسالة الإنجيل (أفسس 13:1). ولا يمكن أن يصف فرحة تسليم الحياة للمسيح إلا من اختبرها كما قال الرسول بطرس: "تبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد" (1بطرس 8:1).

في الأصحاح الخامس عشر من إنجيل لوقا ضرب لنا المسيح مثلاً عن ضياع خروفٍ واحد من مئة، وذكر شدة حزن الراعي عليه. وضرب مثل ضياع درهمٍ واحد من عشرة، وشدة حزن السيدة التي أضاعته. وضرب مثل ضلال ابنٍ واحد من اثنين، وشدة حزن الأب عليه. غير أن الأمور لم تنتهِ بالحزن، بل بالفرح! فكم كان فرح الراعي عظيماً عندما وجد خروفه الضال، فأقام لذلك حفلاً مبهجاً. وعندما وجدت السيدة درهمها المفقود دعت جاراتها ليفرحن معها. وكم فرح الأب بعودة ابنه الضال، فأمر عبيده أن يُقيموا أفضل وليمة، لأن ابنه كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد. وقال المسيح: "هكذا يكون فرحٌ في السماء بخاطئ واحد يتوب" (لوقا 7:15).

ويصف سفر الأعمال بهجة الخلاص بطريقة فريدة، فيقول: "الذين تشتَّتوا جالوا مبشِّرين بالكلمة" (أعمال 4:8). وقد نمرُّ بكلمة "تشتتوا" مروراً سريعاً، فلا نعطيها حقَّها من التفكير. لكن تصوَّر حالة هؤلاء المسيحيين الذين طُردوا من بيوتهم وأُخذت ممتلكاتهم عنوة، وفقدوا مكان الإقامة والوظيفة، فتشتتوا بعيداً عن الأهل والوطن. كنا نتوقع كنتيجةٍ طبيعية لهذا الاضطهاد أن يفكروا في محاربة الذين طردوهم، أو أن يتذمروا على الله الذي سمح باضطهاد عبيده. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، لأن الروح القدس كان مسيطراً على حياتهم، فلم يستلّوا سيوفهم للمحاربة، لأن الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون (متى 52:26). ولا تذمَّروا على الله، لأن المسيح سبق وأعلمهم أن الذين اضطهدوه سيضطهدونهم، وأن الضيق ينتظر كل الأتقياء (يوحنا 20:15). فجال أولئك المضطهَدون يبشرون بكلمة الله. لقد كانت لديهم أخبارٌ سارة عن محبة الله وغفرانه، فبشروا بها من سمعهم ومن رفض أن يسمع لهم. وهذا موقفٌ فوق طبيعي، وفوق بشري، لأنه ثمر الروح القدس (أعمال 4:8-8).

وكانت نتيجة هذا الموقف فرحاً عظيماً في كل مكان بشَّروا فيه، هو فرح الخلاص الذي ملأ قلوب الذين قبلوا البشارة، وفرح المبشرين الذين رأوا غيرهم يقبلون البشرى المفرحة كما قبلوها، وجميعهم يهتفون: "الله خلاصي فأطمئن ولا أرتعب، لأن ياه يهوه قوتي وترنيمتي، وقد صار لي خلاصاً. فتستقون مياهاً بفرح من ينابيع الخلاص" (إشعياء 2:12 و3).

ما أجمل أن نلبس لباس التقوى الذي ينسجه الروح القدس لنا، فنردِّد مع النبي إشعياء: "فرحاً أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص. كساني رداء البر" (إشعياء 10:61).

ثانياً: فرح كتابة اسمك في سفر الحياة

كل من يحصل على الغفران يكتب الله اسمه في سفر الحياة، فيغمر الفرح الروحي قلبه، كما قال المسيح: "افرحوا أن أسماءكم كُتبت في سفر الحياة" (لوقا 20:10). وينجو من المصير المؤلم الذي قال الله عنه: "الحائدون عنّي في التراب يُكتَبون، لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية" (إرميا 13:17). ويشهد الروح القدس لكل تائبٍ أنه ابنٌ لله، له الحق في كتابة اسمه في سفر الحياة "الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله" (رومية 16:8). ويعطينا الروح القدس أن نتقدَّم في روحٍ واحدٍ إلى الآب السماوي، فيصدق فينا القول: "فلستُم إذاً بعد غرباء ونُزُلاً، بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله" (أفسس 18:2 و19).

ويؤكد لك الروح القدس غفران خطاياك، وكتابة اسمك في سفر الحياة، لأنه "إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا" (أفسس 13:1 و14). فإن كنتَ قد فتحتَ قلبك للمسيح ولخلاصه، تنال ختم الروح الذي يؤكد لك صحَّة إيمانك. وبما أنك صرتَ ابناً لله يرسل الله روح ابنه إلى قلبك (غلاطية 6:4) فيكون عربوناً يضمن ارتباطك بالمسيح، وتكون بركاتك القادمة أكبر من كل البركات الماضية التي أعطاها الله لك.

 

ثالثاً: فرح حضور الرب الكامل

عندما يملأ الروح القدس قلبك ويسيطر على حياتك تتيقَّن من حضور الرب الكامل المستمر معك، كما قال المسيح: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم" (متى 20:18) وقال: "أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر" (متى 20:28). ويتم لنا تحقيق وعد المسيح لتلاميذه في العلية قبل إلقاء القبض عليه: "أطلب من الآب فيعطيكم معزِّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق.. لا أترككم يتامى. إني آتي إليكم.. لو كنتم تحبونني لكنتُم تفرحون لأني قلتُ أمضي إلى الآب.. ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق.. فهو يشهد لي.. خيرٌ لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. لكن إن ذهبتُ أرسله إليكم" (يوحنا 16:14 و18 و28 و26:15 و7:16). وكان لا بد من ارتفاع المسيح إلى السماء ليرسل الروح القدس ليملأ تلاميذه بالفرح، فيختبرون حضور الله الدائم معهم، ليكون لهم عزاءً في الحزن، وإسناداً في الضعف، وأمناً في الخوف، وإرشاداً في الحيرة.

ولكل مؤمن امتياز أن يحيا في ثقة دائمة أن الله معه، يحيط به ويرفعه فوق كل تجربة. ويتحقق هذا عندما يمتلئ بالروح القدس فيمتلكه الروح ويصبح كله للرب، فيحمل كل ثمر الروح كنتيجة طبيعية لهذا الامتلاء، فيقول مع المرنم: "تعرِّفني سبيل الحياة. أمامك شبع سرور. في يمينك نِعَمٌ إلى الأبد" (مزمور 11:16). وهذا الفرح هو قوة المؤمن التي تمحو الحزن والتنهُّد والتذمر والقلق من حياته، لأن الرب يشبعه بالسرور. ولكننا نأسف على أبناء الملك الذين لا يتمتعون بملء الروح القدس، فيلبسون الأثمال، ويتضوَّرون جوعاً كالابن الضال الذي لم يكن يجد طعام الخنازير، مع أن عبيد أبيه كان يَفْضُل عنهم الخبز!

قال الرسول بولس عن الله: "يفعل خيراً. يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنةً مثمرة، ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً" (أعمال 17:14) وهو ما نحصل عليه بغنى عندما يملك الروح القدس علينا، فتمتلئ قلوبنا بما يُشبع احتياجاتنا الأساسية، ويدوم ثمر الروح فينا فرحاً عميقاً.

 

رابعاً: فرح الخدمة الكاملة

عندما نمتلئ من الروح القدس نصبح خداماً أفضل للرب، لأننا ننال منه قوة تنصرنا على خطايانا وضعفاتنا، وتجعلنا شهوداً أفضل للمسيح في بيوتنا وكنائسنا ومجتمعنا (أعمال 8:1)، فنكرز بيسوع المسيح مصلوباً، حتى لو كلَّفتنا هذه الكرازة حمل صليب ثقيل، فالذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج، كما قال المرنم: "الذاهب ذهاباً بالبكاء حاملاً مِبْذَر الزرع، مجيئاً يجيء بالترنُّم حاملاً حزمه" (مزمور 5:126 و6). وما أعظم الفرح الذي يغمر قلب المؤمن وهو يختبر نجاح خدمته للرب وللناس، فيرى نفساً هالكة تتوب وتنال الحياة الأبدية، وأخرى يائسة يغمرها الأمل، وثالثة ترتفع فوق الضعف لتحلِّق في آفاق سماوية عالية. ما أجمل أن ترى زوجين متخاصمين وقد تصالحا، ومشكلةً مزمنة وقد حُلَّت! "تفرح البرَّية والأرض اليابسة، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس!.. هم يرون مجد الرب، بهاء إِلهنا. شدِّدوا الأيادي المسترخية، والركب المرتعشة ثبِّتوها. قولوا لخائفي الرب: تشدَّدوا لا تخافوا.. هو يأتي ويخلِّصكم" (إشعياء 1:35-4).

عندما تقدم للرب خدمة كاملة تتمم مشيئته الصالحة في حياتك، فيفيض السرور في قلبك. قال المرنم: "أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررتُ" (مزمور 8:40). وستفرح كثيراً عندما تصلي: "لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض" لأن مشيئته هي أن تشارك غيرك في بشرى الخلاص، فتنشرها بالقول والكتابة والقدوة الصالحة، وتقول مع الرسول يوحنا: "نكتب إليكم هذا ليكون فرحكم كاملاً" (1يوحنا 4:1). وستفرح عندما تنفذ القول: "مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ" (أعمال 35:20) كما فرح الرسول بطرس وهو يقول للمُقعَد: "ليس لي فضة ولا ذهب، ولكن الذي لي فإياه أعطيك: باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشِ" (أعمال 6:3) فقام ووثب وصار يمشي!

 

صلاة

أشكرك يا إلهي لأنك تنبِّهني أن العالم سيسبِّب لي ضيقاً، لكني أشكرك أكثر لأنك تفرحني بشخصك، وتجعل فرحك قوتي. إن اقترابي إليك حسنٌ لي، لأنه يعطيني فرح الخلاص، وضمان كتابة اسمي في سفر الحياة، اعتماداً على ما فعله المسيح لأجلي على الصليب. أشكرك لأنك معي كل الأيام إلى انقضاء الدهر. فرِّح قلبي بعملٍ روحي تكمله أنت فيَّ وبي. آمين.


 

 

الثمرة الثالثة

السلام

 

يرغب كل إنسان في العيش بسلام ووئام مع نفسه ومع غيره، ولكن السؤال الكبير هو: كيف نحصل على السلام الحقيقي والدائم؟

وصلتني رسالة من طالبة تدرس للحصول على درجة الماجستير في الآداب، تقول إنها متعبة نفسياً، وإنها تكره نفسها، وتتعارك مع أهلها، وقد سئمت الحياة. وتسأل: هل أنا مجنونة؟ هل هناك علاج؟ وماذا عندنا لها من مساعدة.. وكتبتُ لها أن الاحتياج الأساسي للإنسان هو أن يجد السلام مع الله، وهذا يمنحه السلام الداخلي، الذي يثمر سلاماً مع المحيطين به. فالسلام الحقيقي يبدأ بالتوافق والانسجام مع الله، فيتبعه سلام مع النفس ومع الآخرين.

والسلام في مفهومه الروحي العميق هو وجود الشيء في موضعه الطبيعي السليم، كما أراده الله للإنسان يوم خلقه وأسكنه جنة عدن. ففي الجنة كان سلامٌ بين الإنسان والله يتَّضح من الحوار الحبّي الذي كان يدور بينهما بانتظام (تكوين 8:3). وكان سلامٌ بين آدم وزوجته، يتَّضح من أن أول قصيدةٍ شعرية في التاريخ كانت قصيدة الحب التي نظمها آدمُ في زوجته حواء، وقال فيها: "هذه الآن عظمٌ من عظامي ولحمٌ من لحمي. هذه تُدعى امرأةً لأنها من امرءٍ أُخذَت" (تكوين 23:2). ولا شك أن أبوينا الأوَّلين كانا يستمتعان بالجنة الرائعة. ولكن لما دخلت الخطية إلى العالم ضاع السلام، فهرب آدم من ملاقاة الله بسبب خجله من عريه، ثم ألقى باللوم على حواء في ارتكاب المعصية! ولا يمكن أن يعود إلينا السلام مع الله ومع المحيطين بنا إلا برجوعنا إلى وضعنا الطبيعي السليم الذي أراده الله لنا أول الأمر، فنعود إلى الفردوس الذي فقدناه.

وتُقدّم لنا التوراة نموذجاً رائعاً للسلام الروحي المستَمَدّ من الله، بغضّ النظر عن الظروف السيئة المحيطة بالإنسان، هو سلام المرأة الشونمية (2 ملوك 4). لم يكن عندها أولاد، وأعطاها الله ولداً بمعجزة أجراها الله على يدي النبي أليشع. ولكن الولد مات فجأةً بضربة شمس، فضاع منها الابن الذي حقق انتظارها الطويل. ومع ذلك كانت ممتلئةً بسلام الله. وألهمها هذا السلام الحل، فأرقدت ولدها الميت على سرير النبي أليشع، وطلبت من زوجها أن يرسل لها من يوصِّلها إلى حيث كان النبي. وعندما سألها زوجها على سبب رغبتها في الذهاب لمقابلته، قالت: سلام. وعندما التقت بالنبي سألها عن سبب مجيئها، فكررت له ثلاث مرات: سلام! ولا يمكن أن تقول الشونمية إنها في سلام إلا إن كانت تجاوب إجابةً روتينية بلا معنى، أو أنها كانت تخدع نفسها لأن مفاجأة موت وحيدها صدمتها فأفقدتها اتِّزانها، أو أنها فعلاً كانت تملك شيئاً فوق عادي! والذي يقرأ سيرة حياة الشونمية يكتشف أنها كانت تملك شيئاً لا يمكن للعالم أن يعطيه، هو سلام الله الذي يفوق كل عقل، وهو الذي حفظ قلبها وفكرها في سلام، ساعة شدَّة تجربتها، فسيطرت على عواطفها أمام صدمةٍ تهزُّ اتزان معظم الناس. إنه ثمر الروح: سلام.

ما أحوجنا إلى هذا السلام! وعندي خبر مُفْرح لجميعنا: أنه يمكننا أن نحصل على سلام الله الكامل إن نحن سلَّمنا أنفسنا تماماً للروح القدس ليثمر فينا ثمرة السلام، فهذا ما وعدنا الله به، في القول الرسولي: "وثمر البر يُزرَع في السلام من الذين يفعلون السلام" (يعقوب 18:3).

قال كلايف إس لويس إن الإنسان يشبه سفينةً في بحر الحياة، تتَّجه نحو هدفٍ معيَّن. ولكن تهددها ثلاثة أخطار يمكن أن تعطلها عن بلوغ هدفها:

1 - خلل في آلاتها يمنعها من الوصول إلى وجهتها.

2 - حرب أهلية بين بحارتها.

3 - اصطدامها بسفن أخرى تبحر من حولها.

ويكمن السلام في سلامة أجهزة السفينة، والتوافق بين بحارتها، وعدم اصطدامها بالسفن المحيطة بها لأنها منتبهة لخطأ الغير.

ولكي نعيش في سلام، يجب أن نطلب من الله أن يصلح كل خللٍ داخلنا، وأن يعطينا سلاماً داخلياً، فلا نكون ذوي رأيين، وأن يساعدنا حتى لا نصطدم بمن هم حولنا. ولو أخذنا هذه البركات الثلاث لاستطعنا أن نعيش في سلام، فنحقق الهدف الذي نريد أن نحققه، ونصل إلى الجهة التي نريد أن نصل إليها. ويتم هذا لنا بنعمته وبعمل الروح القدس فينا.

 

أولاً: الروح القدس يصلح خلل النفس

أساس كل نجاح في الحياة هو السلام مع الله، لكن الخطية دمَّرت هذا السلام، وجعلت الإنسان يهرب من إلهه. فعندما أخطأ آدم أبونا الأول وأكل من الشجرة الممنوعة، هرب من ملاقاة ربه، ولم يعد قادراً على الحديث معه، لأنه لم يعد المخلوق الرائع الذي خلقه الله، بل المخلوق العاصي الذي أغواه إبليس. وفي هذا قال الرسول بولس: "بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس، إذ أخطأ الجميع" (رومية 12:5). لقد أخطأ آدمُ فأخطأت ذريته، وهبط من الجنة، وصار الناس بعضهم لبعض عدوّاً، حتى قتل الأخ أخاه. وكان هذا أعظم خللٍ أصاب حياة الإنسان، فأخطأ الأهداف الصالحة كلها.

لكن كم نشكر الله، لأنه دبَّر للبشر الساقطين خلاصهم، بفضل ما فعل المسيح لأجلهم إذ كفَّر عنهم سيئاتهم على الصليب، وبفضل فعالية الروح القدس الذي يقدِّس حياتهم، فيعيد لهم سلامهم المفقود مع الله. لقد فصَلَت خطايانا بيننا وبين الله، فصدر حكم الموت الأبدي علينا. ولكن شكراً لله لأن روحه يُعيد خلقنا، كما يقول المرنم: "تنزع أرواحها فتموت، وإلى ترابها تعود. ترسل روحك فتُخلق، وتجدد وجه الأرض" (مزمور 29:104).

ويصوِّر لنا النبي إرميا فكرة إعادة الخلق هذه في مثلٍ جميل، فقد أمره الله أن يذهب إلى محل الفخاري، حيث كان الفخاري يصنع وعاءً من فخار. وفسد الوعاء، لأن قطعة الطين تفتَّتت وتناثرت. ولكن الفخاري لم يلقِها ولا أهملها، بل جمع الطين، وأزال منه ما سبَّب تفتُّته وضياع تجانسه: ربما كانت قطعة منه أكثر جفافاً، أو ربما زاد الماء في قطعةٍ منه عن البقية. وأعاد الفخاري سباكة قطعة الطين لتتجانس، ووضعها على دولابه من جديد، وأعاد صنع الوعاء كما أراد (إرميا 18). وقال الله للنبي إرميا إن البشر بيد الله كالطين بيد الفخاري، يريد أن يصنع منهم إناءً جميلاً، لكنهم يفسدونه بسبب قساوةٍ في قلوبهم، أو تسيُّبٍ في سلوكهم، فيعيد الله صنعهم من جديد. إنه يرسل روحه فيخلق الفاسد خليقةً جديدة، تغيِّر كل حياته وتصرفاته، فيتحقق له القول: "إن كان أحدٌ في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديداً.. أي إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسبٍ لهم خطاياهم.. لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطيةً لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه" (2كورنثوس 17:5 و19 و21). فتقول مع كل من غيَّر الرب حياته: "لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمالٍ صالحة، قد سبق الله فأعدَّها لكي نسلك فيها" (أفسس 10:2).

لقد دبَّر الله سترنا بكفارة المسيح، فأصبح سلامنا مع الله ممكناً لأنه مبنيٌّ على أساس سليم، هو الفداء بالذبح السماوي العظيم. وفي هذا يقول الرسول بولس: "إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح" (رومية 1:5). بهذا تنبَّأ النبي إشعياء قبل الصليب بسبعمائة سنة، وقال عن المسيح: "مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه، وبحُبُره (جراحه التي لم تلتئم) شُفينا. كلنا كغنمٍ ضللنا، مِلنا كل واحدٍ إلى طريقه، والربُّ وضع عليه إثم جميعنا" (إشعياء 5:53 و6).

وقال الرسول بطرس في موعظته في بيت كرنيليوس: "بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه، بل في كل أمة الذي يتَّقيه ويصنع البر مقبول عنده.. الكلمة التي أرسلها إلى بني إسرائيل يبشر بالسلام بيسوع المسيح. هذا هو رب الكل.. له يشهد جميع الأنبياء أن كل من يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا" (أعمال 34:10-43).

فبفضل فداء المسيح لنا وكفارته عنا تُغفَر كل خطايانا، ويسود السلام علاقتنا مع الله. فإن كنت ترى في حياتك خللاً يدمر سلامك، فالجأ إليه طالباً مراحمه، فيغفر ذنبك، ويمحو معصيتك، ويملأ قلبك وعقلك بفيض سلامه.

 

ثانياً: الروح القدس يضمن السلام الداخلي

قال الله على فم النبي إشعياء لمن فقد سلامه بسبب بُعده عن الله: "ليتك أصغيتَ لوصاياي، فكان كنهرٍ سلامك" (إشعياء 18:48). فالإنسان يحيا في حربٍ داخلية مستمرة، وصفها الرسول بولس بالقول: "فإننا نعلم أن الناموس روحي، وأما أنا فجسدي مبيعٌ تحت الخطية.. إذ لستُ أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل.. فإني أعلم أنه ليس ساكنٌ فيَّ (أي في جسدي) شيءٌ صالح، لأن الإرادة حاضرةٌ عندي، وأما أن أفعل الحُسنى فلستُ أجد، لأني لستُ أفعل الصالح الذي أريده، بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل" (رومية 14:7-20). ووصف الرسول بولس هذه الحرب الداخلية مرة أخرى بقوله: "الجسد يشتهي ضد الروح، والروح ضد الجسد، وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون" (غلاطية 17:5).

ولكن عندما يسود الروح القدس على حياتك وتصرفاتك تنتصر في هذه الحرب الداخلية، وتقف في جانب الله، وتقدر أن تطيع الوصية الرسولية: "اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد.. الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات. إن كنا نعيش بالروح فلنسلك أيضاً بحسب الروح" (غلاطية 16:5 و24 و25). وعندما تسلك بحسب الروح تكون في سلامٍ فيّاض مع الله، يكون لك كنهرٍ دافق تغمر نفسك فيه بعمق، وتقول منتصراً على حربك الداخلية: "ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت" (رومية 2:8).

عندما يثْبُت المؤمن الممتلئ من الروح القدس في المسيح، ويعتمد عليه اعتماداً كاملاً، يكون سلامه مستمراً، ويحقُّ عليه الوصف: "ذو الرأي المُمَكَّن تحفظه سالماً سالماً، لأنه عليك متوكل. توكلوا على الرب إلى الأبد، لأن في ياه الرب صخر الدهور" (إشعياء 3:26 و4). فالمؤمن الممتلئ بالروح لا يسير على رمالٍ متحركة، يهبط ويدور فيها على غير هدى، بل يسير على صخر ثابت، فيصل إلى هدفه لأن الرب يسنده، و"هو الصخر الكامل صنيعه. جميع سبُله عدل. إلهُ أمانةٍ لا جَوْر فيه. صِدِّيقٌ وعادلٌ هو" (تثنية 4:32). ولا يسير المؤمن الممتلئ بالروح القدس على طين الحمأة فتنزلق خطواته، لأنه يشارك المرنم اختباره الذي قال فيه: "انتظاراً انتظرتُ الرب فمال إليَّ وسمع صراخي، وأصعدني من جُب الهلاك، من طين الحمأة. وأقام على صخرة رجليَّ. ثبَّت خطواتي، وجعل في فمي ترنيمةً جديدة، تسبيحةً لإلهنا. كثيرون يرون ويخافون ويتوكلون على الرب" (مزمور 1:40-3).

أيها القارئ الكريم، إن كنت قد امتلأت من الروح القدس، وإن كان يسيطر على تصرفاتك، ستكون لك كل وعود الله الصالحة التي قدمها المسيح لتلاميذه. وأذكر منها وعدين، قالهما لهم في العلية، قبل أن يلقي اليهود القبض عليه مباشرة ليصلبوه:

* قال المسيح: "سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب" (يوحنا 27:14). وقتها قال المسيح لتلاميذه إنه ذاهب للآب ليرسل لهم الروح القدس ليملأهم ويمنحهم السلام الكامل.

هذا السلام ليس نوعاً من اللامبالاة أو السلبية أو الهروب من الأزمات، لكنه اطمئنان القلب الداخلي، وثقته أن كل ما يدور حوله هو من صنع يدي الله، صاحب السلطان في السماء وعلى الأرض. ولم يكن سلام المسيح مجرد درسٍ يتعلّمه تلاميذه بعقولهم، لكنه عطية سماوية، يصير أسلوب حياة. هذا السلام هو في المسيح، وهو من نصيب كل من يتبعه، ويسلّم نفسه له، ويخضع نفسه لعمل الروح القدس.

* وقال المسيح: "كلَّمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام. في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم" (يوحنا 33:16). عندما نتمسك بهذه المواعيد الإلهية بكل طاقاتنا ننال هذا السلام. أما الأشياء المادية التي يظن البشر أنها تعطيهم السلام فهي واهية كخيوط العنكبوت التي لا تفيد شيئاً.

ولقد تحقق هذان الوعدان العظيمان لتلاميذ المسيح. وكنموذجٍ لذلك نتأمل ما حدث مع الرسول بطرس. فقد ألقى الملك هيرودس القبض على يعقوب أخي يوحنا، وقتله. وفرح اليهود لذلك كثيراً. ولما كان هيرودس مكروهاً من الشعب، أراد أن يسكّن غضبهم عليه ويُشغلهم عن أمور السياسة، فقدَّم لهم كبش فداءٍ آخر، هو الرسول بطرس، فألقى القبض عليه وسجنه، استعداداً لإعدامه (أعمال 1:12-5). وفي ليلة الإعدام نام بطرس نوماً عميقاً، لا هروباً من المشكلة، بل نوم الطمان والسلام، لأن وعد المسيح بالسلام تحقَّق له، وأحدث التوازن الداخلي بينه وبين ضغوط العالم عليه من خارج. اختبر الرسول بطرس قوة ناموسٍ أعلى من ناموس الخوف، هو ناموس روح الحياة في المسيح، وهو الذي رفعه، كما يمكن أن يرفعنا فوق الضغوط التي تجذبنا إلى أسفل، فيحفظ سلامُ الله قلوبنا وأفكارنا.

 

ثالثاً: الروح القدس يضمن عدم اصطدامنا بالغير

ما أكثر السفن التي تسافر معنا على بحر الحياة، وما أكثر اختلاف اتجاهاتها! وقد يكون بأجهزتها خلل فتصطدم بنا. ويحذِّرنا الرب من خطر هذا الاصطدام لأنه يشكل خطراً كبيراً علينا، فيقول الوحي: "إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس" (رومية 18:12) فهناك أشخاصٌ ذوو ميولٍ عدوانية أكثر من اللازم يجب أن نحترس من اصطدامهم بنا.

وهناك وعدٌ لنا أن نعيش في سلام فلا يصدمنا غيرُنا، إن كنا نحذر خطأ الغير، فيقول الوحي لنا بخصوصهم: "لا يغلبنَّك الشر، بل اغلب الشر بالخير" (رومية 21:12).. كما أن هناك أمراً لنا ألاّ نخطئ فنصدم غيرنا، ويقول الوحي لنا بخصوص هذا: "فلنعكف إذاً على ما هو للسلام والبنيان بعضُنا لبعضٍ" (رومية 19:14). وكلما سيطر الروح القدس علينا يعمِّق علاقتنا بالله فنرتفع فوق الاصطدام بالآخرين.

يطالبنا الله أن نجتهد لنعيش في سلام مع الآخرين، ويعطينا في خليل الله إبراهيم نموذجاً عظيماً في صنع السلام. فنحن نعلم أن لوطاً، ابن أخي إبراهيم، كان يتيماً فتبنَّاه إبراهيم وأخذه معه إلى أرض الميعاد. وزادت ثروة لوط جداً بفضل إبراهيم، ولكن حدثت مخاصمةٌ بين رعاة مواشي لوط ورعاة مواشي إبراهيم، فأدرك إبراهيم خطورة هذا العراك الذي يهدده ويهدد لوطاً في الوقت نفسه، لأن جيرانهما من الكنعانيين سينتهزون فرصة هذا الخصام ويلتهمونهما أحياء. وفي سبيل السلام استدعى إبراهيم لوطاً وقال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك، لأننا نحن أخوان. اعتزِل عني. إن ذهبتَ شمالاً فأنا يميناً، وإن يميناً فأنا شمالاً". وهذه حكمة عظيمة من إبراهيم، نتعلم منها أن نبتعد عن سبب الخصام بالانفصال الجغرافي عنه، لنمنع تكرار حدوثه. ولكن هذا الانفصال الجغرافي لم ينقِص محبة إبراهيم لابن أخيه ولا أنقصها. لقد ظهرت محبة إبراهيم للوط لما أعطاه الفرصة الأولى في اختيار المكان الذي يحب أن يقيم فيه، فاختار لوط الأرض الخصبة. ثم ظهرت محبة إبراهيم للوط بطريقة أوضح لما أسرع لمساعدته عندما أُخذ لوط وعائلته أسرى، فأسرع إبراهيم ورجاله بإنقاذ لوط من يد الغزاة. ولم يعتبر إبراهيم أن سقوط لوط في يد الأعداء عقاب من الله للوط، ولا شمت في حماقة ابن أخيه! فقد كان الانفصال بين إبراهيم ولوط جغرافياً فقط، ولكن إبراهيم لم يهجر لوطاً عاطفياً، ولا أسقطه من حسابه. وبعد أن أنقذ إبراهيم لوطاً، استمر كلٌّ منهما في المكان الذي اختاره ليعيش فيه، رغبةً من إبراهيم في إبعاد سبب الخصام، وفي استمرار السلام (تكوين 13 و14).

يمنحنا الله السلام الداخلي، ويعطينا الحكمة لنتصرف حسناً مع من يسبِّبون لنا المتاعب. وما أجمل النصيحة الرسولية: "كونوا جميعاً ذوي محبة أخوية، مشفقين لطفاء، غير مجازين عن شر بشر، ولا عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مبارِكين، عالمين أنكم لهذا دُعيتم لترثوا بركة. لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أياماً صالحة، فليكفف لسانه عن الشر وشفتيه عن أن تتكلما بالمكر. ليُعرِض عن الشر ويصنع الخير. ليطلب السلام ويجدّ في أثره، لأن عيني الرب على الأبرار وأذنيه إلى طلبتهم. ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر" (1بطرس 8:3-12).

ولن يكون كل الناس مشابهين لنا في كل شيء. وقد تكوَّنت الكنيسة أول الأمر من أعضاء جاءوا من خلفية يهودية كتابية، وآخرين جاءوا من خلفية وثنية، ولكن المسيحيين (من الخلفيتين) عاشوا في سلامٍ بفضل المسيح وعمل الروح القدس "لأنه هو سلامنا، الذي جعل الاثنين واحداً، ونقض حائط السياج المتوسط، أي العداوة.. لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً، صانعاً سلاماً، ويصالح الاثنين في جسدٍ واحدٍ مع الله بالصليب، قاتلاً العداوة به، فجاء وبشَّركم بسلامٍ أنتم البعيدين والقريبين" (أفسس 14:2-17).

"طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعَون" (متى 9:5).

 

 

 

صلاة

كم أشكرك يا إلهي لأن المسيح يشاركني في سلامه الشخصي، فيقول "سلامي أعطيكم". أعطني هذا السلام الذي يُصلِح من أمري، ويعيد لي كل الامتيازات التي سلبَتْها الخطيةُ منّي، ويضمن لي السلامة الداخلية العميقة داخل نفسي، والسلامة الخارجية مع المحيطين بي. أكرمني بأن تجعل مني صانع سلام، حتى لو كلفني هذا الكثير. آمين.

 


 

الثمرة الرابعة

طول الأناة

 

ما أعظم طول أناة الله على البشر جميعاً، سواء كانوا من المؤمنين به، أو من الكافرين بوجوده، لأنه يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون (1تيموثاوس 4:2). في هذا قال النبي يوئيل: "ارجعوا إلى الرب إلهكم لأنه رؤوف رحيم، بطيء الغضب وكثير الرأفة، ويندم على الشر" (يوئيل 13:2). وما أعظم طول أناة المسيح على الخاطئ المنغلق على نفسه، وهو يقف بباب قلبه يقرع، لعله يسمع النداء السماوي فيفتح. ويقول المسيح: "هئنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إن سمع أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشى معه وهو معي" (رؤيا 20:3). وما أعظم أناة الله على المؤمن وهو يسقط ويخطئ، فيقول له: "أُعلّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها. أنصحك. عيني عليك" (مزمور 8:32). ويقول الكرام لصاحب الكرم في شأن التينة غير المثمرة: "يا سيد، اترُكها هذه السنة أيضاً، حتى أنقب حولها وأضع زبلاً" (لوقا 8:13).

وعلى المؤمن أن يتمثَّل بالأناة الإلهية، ليكون التلميذ كمعلّمه والعبد كسيّده (متى 25:10) فيحتمل المتاعب والاضطهادات والتجارب في ثبات وفرح ورجاء، ويحتمل ضعفات الغير بوداعة وصبر، ناظراً إلى عيوبه وضعفاته (غلاطية 1:6).

ولو أن ثمرة طول الأناة سادت على الناس لأصبحت أرضنا سماءً، لأن كل من يطيل أناته على غيره يحصل على السلام مع الآخرين ومع نفسه. لنتصوَّر زوجاً يطيل أناته على زوجته لو تأخرت في إعداد الطعام، أو عن موعدٍ هام. ولنتصوَّر أُماً تطيل أناتها على ولدها وهو يعصى ما نصحته به، فيحطم الأثاث، أو يسكب مشروبه على البساط. ولنتصوَّر مدرِّساً يطيل أناته على طالب متعثِّر فيستمر يشرح له درسه حتى يستوعبه. ولنتصوَّر رئيساً يطيل أناته على مرؤوسه رغم أنه كرر عليه التعليمات. ولنتصوَّر مرؤوساً يطيل أناته وهو يستمع إلى أوامر رئيسه التي تتقاطر عليه، بغير ملل ولا تذمُّر.. أليست هذه هي السماء على الأرض؟

لابد أننا نواجه إساءاتٍ كثيرة بغير حق. فلنأتِ إلى الروح القدس، الأستاذ الأعظم في طول الأناة، نسأله أن يمنحنا ما يعوزنا من طول البال. وسنجد في أيوب، إمام الصابرين، خير مثالٍ في ذلك. فقد نزلت به الكوارث واحدةً بعد الأخرى، لغير ذنبٍ جناه، فلم ينكسر أمامها، بل خرَّ على الأرض وسجد، وقال: "عرياناً خرجتُ من بطن أمي، وعرياناً أعود إلى هناك. الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركاً". في كل هذا لم يخطئ أيوب، ولم ينسب لله جهالة (أيوب 21:1 و22). وقالت له زوجته، وهي ترى شدة أمراضه: "أنت متمسِّك بعدُ بكمالك! العن الله ومُتْ". فأجابها: "تتكلّمين كلاماً كإحدى الجاهلات! أالخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل؟" في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه (أيوب 9:2 و10). واتَّهمه أصحابه أنه لا بدَّ ارتكب من المعاصي ما يستحق عليه ما أصابه من كوارث، فقال له صديقه أليفاز: "اذكُر من هلك وهو بريء، وأين أُبيد المستقيمون؟" (أيوب 7:4) فأجاب: "لم أجحد كلام القدوس" (أيوب 10:6).

إن الذين يشاركون المسيح آلامه، ويتشبَّهون بموته، يبلغون إلى قيامة الأموات (فيلبي 10:3 و11) و"إن كنا نتألم معه، فلكي نتمجَّد أيضاً معه.. فإن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا" (رومية 17:8 و18).

وعندما يعطينا الروح القدس ثمرة طول الأناة، نزيد حكمةً. ويحدّثنا الوحي عن البركات التي وهبها الله لسليمان، فيقول: "أعطى الله سليمان حكمةً وفهماً كثيراً جداً، ورَحْبَة قلبٍ كالرمل الذي على شاطئ البحر. وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكماء مصر" (1ملوك 29:4 و30). و"رحبة القلب" هي طول الأناة. فلنطلب ثمرة طول الأناة من الروح القدس لنحيا بحكمة مثل حكمة سليمان.

 

أولاً: ما هي ثمرة طول الأناة؟

هناك أربعة تعاريف لطول الأناة:

1 - ثمرة طول الأناة هي الثبوت والصمود تحت ضغط حمل ثقيل، بدون غضب ولا تفكير في الانتقام:

كلنا نحيا تحت ضغوط. والإنسان الذي أنعم الله عليه بطول الأناة هو الذي يصمد تحت هذه الضغوط بدون أن يتذمر أو يهرب أو يغضب أو يفكر في الانتقام.

تضعنا الأسرة تحت ضغوط، فالزوج يتوقع من زوجته أشياء معينة، وهكذا تفعل هي. ومنذ أن يبدأ الطفل جنيناً ثم يولد ويكبر يشكّل على الأبوين ضغوطاً. وهكذا يفعل العمل اليومي الذي يقوم به الإنسان.. وهناك ما هو أصعب من هذا كله: توقُّع الإنسان من نفسه بما يفوق طاقاته، فهو يريد أن ينجح ويتفوَّق ويتقدم ويرتقي عند الله والناس، ويُشكِّل هذا عليه ضغوطاً لا تنتهي! وكل هذه الضغوط يمكن أن تحطمنا لو أننا لم نتمتع بثمر الروح القدس: طول الأناة.

لقد واجه الرسول بولس بعض هذه الضغوط، لكنه لم يسمح لها أن تضايقه، فقال: "مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين (بمعنى أن الاضطهادات زحمته، لكنها لم تمنعه عن القيام بخدمته لله). متحيِّرين، لكن غير يائسين (بمعنى أنه لم يكن يعرف كيف ينجو من المعطلات، ولكنه لم يقطع الأمل في أن الله سيرشده وينجيه ويفتح له أبواب الكرازة). مضطهَدين، لكن غير متروكين (بمعنى أنه مضطهَدٌ من الناس، لكن غير متروك من الله). مطروحين، لكن غير هالكين (بمعنى أنه قد يُطرح للسياط، ولكنه يقوم ليكرز). حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضاً في جسدنا (بمعنى أنه يتألم كما تألم المسيح، ولكن المسيح يحيا فيه)" (2كورنثوس 8:4-10).

إن كنت قد اختبرتَ (من أجل المسيح) حمل صليب ثقيل، وقد تسمَّرت يداك ورجلاك فعجزت عن الحركة، فثِق أن المسيح الذي تخدمه سيمنحك بروحه القدوس طول الأناة، فتثبت تحت الحمل "لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضاً أن تتألموا لأجله" (فيلبي 29:1). ولا بد أن ينزاح عنك هذا الحمل، لأن النصرة النهائية هي للمسيح، ولكل من يتَّحدون به.

 

2 - ثمرة طول الأناة هي غفران الأذى لمن ننتظر منه الكثير:

قدرتنا أن نغفر لإنسانٍ لا نعرفه، أو لإنسانٍ نتوقع منه الأذى أسهل بكثير من قدرتنا على الغفران لشخصٍ نحبه ونتوقع منه كثيراً. فليُعطنا الله النعمة أن لا نتوقع كثيراً من أحد حتى لا يخيب أملنا، لأنه لا يوجد إلا واحدٌ وحيد يستحق أن نتوقع منه، لا يخيِّب أمل من ينتظره، هو الصديق الألزق من الأخ، الرب يسوع المسيح. أما البشر فلا يجب أن ننتظر منهم كثيراً. على أن قِلَّة ما نتوقعه من الآخرين لا يجب أن يقلِّل مسؤوليتنا من نحوهم. فليجدوا فيك دوماً أملاً يتحقق، حتى لو لم يحققوا لك آمالك فيهم.

إن ثمرة طول الأناة تعني أن تغفر للقريبين منك كما للبعيدين عنك، فتغفر لمن تحبهم، كما تغفر لمن لا يحبونك. ما أشدَّ حاجتنا لممارسة طول الأناة مع شريك الحياة، ومع الأشقّاء، ومع الأبناء، ومع الأصدقاء، فنحب قريبنا كما نحب نفوسنا، ونحتمل الأذى ممن نتوقع منهم الكثير.

سافر الرسول بولس إلى روما وأقام فيها سنتين، ينتظر حتى تُعرَض قضيته أمام الإمبراطور نيرون. وقضى كل هذا الوقت يخدم ويكرز. وعندما جاء موعد نظر القضية يقول بولس: "في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي. بل الجميع تركوني".. ألم يكن الرسول بولس يستحق أن يقف معه واحدٌ من المؤمنين المتقدمين؟ ألم يربح واحداً للمسيح يتطوَّع ليسانده؟.. ولكنه علَّمنا درساً في غفران الجحود ممن ننتظر منه الكثير، في قوله: "لا يُحسَب عليهم. ولكن الرب وقف معي وقوّاني لكي تُتم بيَّ الكرازة، ويسمع جميع الأمم، فأُنقِذتُ من فم الأسد (الإمبراطور نيرون)" (2تيموثاوس 16:4-18). ولا شك أنه طبَّق قوله: "ولكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا" (رومية 37:8).

 

3 - ثمرة طول الأناة هي الاستمرار في العمل الصالح دون يأس:

طويل الأناة هو الذي يستمر يعمل الصلاح بغير كلل أو فشل، صامداً بصبر وبمحبة. هكذا كان المسيح مع تلاميذه. فلو أن المسيح يئس وهو يعلّم تلاميذه لتوقَّف عن تعليمهم، ولَكانت النتيجة أن رسالة الإنجيل المفرحة لم تكن تصلنا. قال لتسعة منهم بعد نزوله من جبل التجلي: "أيها الجيل غير المؤمن، إلى متى أكون معكم؟ حتى متى أحتملكم؟" (مرقس 19:9). وبالرغم من قلة إيمانهم احتملهم وصبر عليهم!

وحذَّر المسيحُ بطرسَ من أن بطرس سينكره ثلاث مرات. وكان بطرس واثقاً في نفسه أكثر من اللازم، ولم يكن يعرف نفسه صحيح المعرفة، فقال للمسيح: "إن شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشكّ". ولكنه للأسف أنكر سيده ثلاث مرات (متى 69:26-75). ورغم هذا لم ييأس المسيح من بطرس، فدعاه ذات صباح على شاطئ بحيرة طبرية وأطعم جوعه وقال له: "يا سمعان بن يونا، أتحبني؟" وكرر عليه سؤاله ثلاث مرات ليمحو إنكاره المثلث (يوحنا 15:21-17). إن الله يتأنى علينا، وهو لا يشاء أن يهلك أناسٌ، بل أن يُقبِل الجميع إلى التوبة. فلنحسب أناة ربنا خلاصاً (2بطرس 9:3 و15).

قال الرسول بولس إن المحبة تتأنى وترفق (1كورنثوس 4:13). ولقد تأنَّت محبة الله عليه، وهي لا تزال تتأنى علينا وترفق بنا. وبرهن الرسول هذه الأناة من اختباره، فقال: "أنا الذي كنتُ قبلاً مجدفاً ومضطهِداً ومفترياً. ولكنني رُحمت لأني فعلت بجهل، في عدم إيمان. وتفاضلت نعمة ربنا جداً مع الإيمان والمحبة التي في المسيح يسوع. صادقةٌ هي الكلمة ومستحقةٌ كل قبول: أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلِّص الخطاة الذين أوَّلهم أنا. لكنني لهذا رُحمت ليُظهِر يسوع المسيح فيَّ أنا أولاً كل أناة، مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية" (1تيموثاوس 13:1-16). لقد أطال الله أناته على بولس فخلَّص نفسه، وهو يطيل أناته على الجميع حتى يخلصوا. وما أن يذكر الرسول بولس كل ما فعله الله معه ومع سائر المؤمنين حتى يهتف: "وملك الدهور الذي لا يفنى ولا يُرى، الإله الحكيم وحده، له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور. آمين" (1تيموثاوس 17:1).

 

4 - ثمرة طول الأناة هي عدم توقُّع النتائج بسرعة:

يفضّل البشر كل ما هو سهل وسريع لأنهم لا يريدون أن يتعبوا. ولكن الله في محبته يطيل أناته علينا وينتظر أن نفتح له باب قلوبنا ليدخل ويُشبِع احتياجاتنا الأساسية. كم من محاولةٍ بُذلت لتجديد شاول الطرسوسي: لقد سمع الكثير عن المسيح ومعجزاته، وشاهد رجم استفانوس الشهيد المسيحي الأول وسمع صلاته: "يا رب لا تُقِم لهم هذه الخطية!" (أعمال 60:7). ولابد أنه سمع بقول المسيح على الصليب: "اغفِر لهم يا أبتاه، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!" (لوقا 34:23). ومع ذلك لم يقرر أن يقبل المسيح مخلِّصاً. لقد كان راضياً بقتل استفانوس، وكان يلقي القبض على المسيحيين. ولكن الرب أطال أناته عليه، حتى أدركه بنعمته في الطريق إلى دمشق، وأشرق عليه بنوره الأشد لمعاناً من نور الشمس، وغيَّر حياته تماماً. وهكذا خلَّصت أناة الرب ورحمته شاول، وخلقت منه بولس الرسول.

ولا بد أن طول أناة الرب عليك تخلّصك، وتجعل منك إنساناً عظيماً في المسيح.

ولا بد أن طول أناتك على الآخرين تخّلصهم بالمسيح وللمسيح، فثمر الروح هو طول الأناة والاستمرار بدون يأس مع الآخرين، تتميماً لنصيحة الرسول بولس لتلميذه: "اكرِز بالكلمة. اعكُف على ذلك في وقتٍ مناسب وغير مناسب. وبِّخ، انتهِر، عِظ بكل أناة وتعليم" (2تيموثاوس 2:4).

لقد تعّلم بولس طول الأناة من أناة الرب عليه، فأطال هو أناته على الخطاة وعلى المؤمنين، وخدم واستمر يخدم، واحتمل الآلام من اليهود، ومن الوثنيين، ومن المسيحيين بالاسم، ومن المسيحيين الضعفاء الذين أنكروا رسوليَّته. وقدَّم الرسول بولس نصيحة لقسوس كنيسة أفسس، قال لهم فيها: "كنتُ معكم كل الزمان أخدم الرب بكل تواضع، ودموع كثيرة، وبتجارب أصابتني بمكايد اليهود. كيف لم أؤخِّر شيئاً من الفوائد إلا وأخبرتكم وعلّمتكم به جهراً وفي كل بيت، شاهداً لليهود واليونانيين بالتوبة إلى الله والإيمان الذي بربنا يسوع المسيح" (أعمال 18:20-21).

 

ثانياً: كيف نحصل على طول الأناة؟

يولد بعضنا وينشأ في بيوتٍ تمارس طول الأناة أكثر من غيرها. وهذه بركة طبيعية نتيجة الاستعداد الشخصي، والبيئة، والتربية. ويمارس صاحبها فضيلة طول الأناة ما دامت الضغوط في حدود قدرته الذاتية. ولكن عندما تزيد الضغوط ينفجر صاحبها ويفقد أناته.. وهنا لا بد من نعمة فوق عادية تساعد الإنسان على مواجهة الضغوط فوق العادية، تأتيه من فضيلة فوق عادية هي: "ثمر الروح: طول أناة".

وإليك ثلاث نصائح للحصول على طول الأناة كثمرة من ثمر الروح القدس:

 

1 - تسليم أكثر للروح القدس:

كلما سّلمنا أنفسنا أكثر للروح القدس وخضعنا لتوجيهاته، يعمل فينا، ويجعل نفَسَنا أطول. كلنا يحتاج لملء الروح الفائض ليسيطر على أفكارنا وأقوالنا ومشاعرنا. فلنُسِكِّن نفوسنا أمامه ليزيل الغضب من داخلنا، وليعلّمنا ويغرس فينا فكر المسيح الذي شرحه الرسول بطرس في قوله: "لأنكم لهذا دُعيتُم: فإن المسيح تألَّم لأجلنا، تاركاً لنا مثالاً لتتبعوا خطواته. الذي لم يفعل خطية ولا وُجِد في فمه مكرٌ. الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدِّد بل كان يسلّم لمن يقضي بعدلٍ" (1بطرس 21:2-23).

كم نحتاج كلنا، من معلّمين ومتعلمين، من قادة وتابعين، إلى طول الأناة، لنحتمل بعضنا بعضاً في المحبة، بدون فقدان أعصاب ولا صياح! كم نحتاج لأسلوب السلوك الإلهي مع البشر في زمن نوح، فقد استغرق بناء الفُلك مئة وعشرين سنة، كان نوح خلالها ينذر الناس بالخطر ويحثُّهم على التوبة، والله يطيل أناته عليهم ليتوبوا (1بطرس 20:3).

 

2 - مطالبة الله بمواعيده:

وعد الله المؤمنين بالراحة، في قول المسيح: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (متى 28:11). ولقد كان الرسول بولس متعَباً من "شوكة في الجسد" ربما كانت مرضاً في عينيه، فطلب من الله أن يرفعها عنه. ولكن الله لم يفعل، وقال له: "تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكمَل" (2كورنثوس 9:12). فانتظر الرسول تحقيق الوعد الإلهي كما وعد الله به.

اعرِض طلبك أمام الله، وانتظِر بصبر وإيمان قوي تحقيق المواعيد الإلهية، بالطريقة التي يراها الله، وفي الوقت المناسب الذي تعيِّنه حكمته. وأثناء انتظارك ستتعلم طول الأناة.

 

3 - متاعبنا قصيرة الأمد، ونتائجها سارة:

كلما عرفنا أن للألم والتعب نهاية أطلنا أناتنا، واثقين من انقشاع الغيوم ومجيء النهاية السعيدة. قال المرنم: "إذا سرتُ في وادي ظل الموت لا أخاف شراً لأنك أنت معي" (مزمور 4:23). لم يقُل إنه توقَّف في وادي ظل الموت، لأنه كان "يسير" ليخرج منه. ولم يقُل إنه جرى في وادي ظل الموت ولا جرى منه، لأنه لم يكن مرتعباً، فقد كان في صُحبة الله المحب القدير، وكان متأكداً أن لكل ليل آخراً "لأن للحظةٍ غضبه. حياةٌ في رضاه. عند المساء يبيت البكاء، وفي الصباح ترنُّم" (مزمور 5:30). "الله أمين الذي لا يدعكم تُجرَّبون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا" (1كورنثوس 13:10). "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبّون الله، الذين هم مدعوّون حسب قصده" (رومية 28:8).

 

صلاة

يا رب، علّمني طول الأناة وقت الرُّحب، لأكون طويل أناة في وسط الضيق. في يوم المصاعب خفِّف حملي لأقدر أن أحمله، أو زِدْ قوتي لأحمله كله دون أن أنهار تحته. آمين.

 


 

 

الثمرة الخامسة

اللطف

 

وصف أحدهم اللطف بقوله: "هو المصباح الملآن بالزيت العطر، يضيء البيت بالنور ويملأه بالرائحة العطرة. وهو البساط ذو الوبرة العالية، يريح من يسير عليه ويمتصُّ الضوضاء التي قد تملأ بيوتنا. وهو الستارة التي تمنع وهج الشمس اللافح صيفاً، وشدة الرياح الباردة شتاءً. وهو الوسادة الناعمة التي ترتاح عليها الرأس المتعَبة".

هذا الوصف للإنسان اللطيف ينطبق على السيد المسيح، الذي وصفه النبي إشعياء بروح النبوَّة قبل ميلاده بسبعمئة سنة، فقال: "ويكون إنسانٌ كمخبإٍ من الريح، وستارةٍ من السيل. كسواقي ماءٍ في مكان يابس. كظل صخرةٍ عظيمة في أرض معيبة" (إشعياء 2:32). فالمسيح اللطيف مخبأٌ لنا من الريح، وسترٌ لنا من السيل، ونبع ماءٍ لنا في صحاري الحياة، وظل صخرة عظيمة في برية قاحلة. فلنسأل الله أن يجعلنا مشابهين للمسيح، ليكون ثمر الروح فينا لطفاً (رومية 29:8).

وتعني كلمة "لطف" (في الكتاب المقدس) الإنسان المنحدر من عائلةٍ طيبة.. وأيَّة عائلة أفضل من عائلة "أهل بيت الله؟" (أفسس 19:2). فعلى كل مؤمنٍ أن يكون لطيفاً، لأن الله أنعم عليه بالتبني. إن إلهنا إلهٌ لطيف، ويجب أن يكون أهل بيته لطفاء، لأنهم يتعلمون منه، ويتمثَّلون به.

ويتضح لطف الله، ولطفنا، في ثلاثة أمور:

 

أولاً: الغفران

حدَّثنا الرسول بولس عن لطف الله الواضح في غفرانه لنا، وطالبنا أن نمارس اللطف والغفران مع المحيطين بنا، كما أن الله لطيفٌ معنا. قال: "فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفاتٍ ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة، محتملين بعضكم بعضاً، ومسامحين بعضكم بعضاً إن كان لأحدٍ على أحدٍ شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً" (كولوسي 12:3 و13). فلنا في معلّمنا وسيدنا القدوة. وبقدر محبتنا له وخضوعنا لتوجيهات روحه القدوس يكون تمثُّلنا به وسيرنا في خطواته، فيعرف الجميع أننا تلاميذه.

وقد ظهر لطف مخلصنا الله مع الخطاة، ومع المؤمنين الضعفاء الفاترين، ومع المؤمنين الأتقياء عندما يؤخَذون في زلَّةٍ ما. وهكذا يجب أن يظهر لطفنا مع الخطاة، والمؤمنين الضعفاء، والمؤمنين الأقوياء، حتى لو عثروا وسقطوا في سيرهم مرة أو مرات.

 

1 - لطف الله ولطفنا مع الخطاة:

قال الرسول بولس: "ظهر لطف مخلِّصنا الله وإحسانه، لا بأعمالٍ في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا، بيسوع المسيح مخلِّصنا" (تيطس 4:3-6). قال هذا وهو يذكر جيداً لطف مخلِّصه الله عليه هو شخصياً، فقد أدركه وهو في الطريق إلى دمشق ليلقي القبض على المؤمنين بالمسيح هناك، فلم يتركه في شرِّه بل أدركه وخلَّصه. وكان بولس، حتى ذلك الوقت، يعتقد أنه بار، لأنه في غيرةٍ جسدانية كان يقاوم الكنيسة، ولكن لطف الله فتح عينيه على الحق، فجاهد في سبيل نشر الإنجيل، وقال: "أسعى لعلّي أُدرك الذي لأجله أدركني المسيح يسوع" (فيلبي 12:3).

ولقد ظهر لطف الله في غفرانه لنا، وكان الثمن أنه لم يشفق على المسيح، بل أشفق علينا، فبذله لأجلنا أجمعين، لينقذنا من خطايانا، وليضمن لنا الحياة الأبدية. ثم أنه يهبنا مع المسيح كل شيء (رومية 32:8).

وعندما يسيطر الروح القدس على سلوكنا يعلّمنا اللطف مع الذين يسيئون إلينا. ذات يومٍ راقبت طفلين تعلّمتُ منهما درساً لا أنساه. كان الولد الكبير يقبض على يد أخيه الصغير في غضب ويهزُّه بعنف. وبسرعة دسَّ الصغير يده في جيبه وأخرج قطعة حلوى وضعها في فم أخيه الكبير، فأخجله. تعلّمتُ من الولد الصغير فائدة الإحسان لمن يسيء إلينا، وبركة مجازاة الشر بالخير، ونعمة حمل ثمرة اللطف كما أن الله مخلِّصنا لطيف معنا.

لا يوجد إنسان لا يلاقي الإساءات حتى من أقرب الناس إليه، فهناك من يسيئون فهمنا أو لا يفهموننا بالمرة، وهناك من لا يقدّرون خدمتنا، وعندما نفعل معهم خيراً يجازوننا بالشر، وهناك من نتوقع منهم العون فلا نجد إلا التحطيم. فلنتوقَّع كثيراً من الرب الذي يعطي بسخاء ولا يعيِّر، لا من الناس. وسيأتينا إحسانه يقيناً كإتيان الفجر، يأتي إلينا كالمطر، كمطرٍ متأخرٍ يسقي الأرض (هوشع 3:6). فلا تتضايق عندما تتوقَّع خيراً من الناس ولا تجد، وتعلَّمْ أن تنتظر الرب وتتوقع منه وحده، فتجد اللطف والبركة والغلبة والنصرة.

 

2 - لطف الله ولطفنا مع المؤمنين الضعفاء الفاترين:

ظهر لطف الله مع مؤمنٍ ضعيف، هو لوط، الذي كان مغلوباً مقهوراً حزيناً من سيرة أهل سدوم وعمورة الأردياء في الدعارة. وكان عصيانهم لله يعذِّب نفسه البارة كل يوم وهو يرى أفعالهم ويسمع أقوالهم (2بطرس 7:2 و8). لكن الله أشفق عليه بالرغم من ضعفه وغفر له وأرسل له ملاكين لينقذاه من مصير سدوم وعمورة. ولما تأخر في الخروج، وطلع الفجر "كان الملاكان يعجِّلان لوطاً قائلَيْن: قم خُذ امرأتك وابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة. ولما توانى أمسك الملاكان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه، لشفقة الرب عليه، وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة" (تكوين 15:19 و16).

كان لوط جسدانياً يحب الله ويحب العالم أيضاً. كان يسلك مع الله، ولكن قلبه كان منشغلاً بالعالم. وبالرغم من ضعف هذا القديس، الذي كانت نفسه تتعذَّب بين الأشرار، أشفق الله عليه، فقال له لوط، معترفاً بالفضل: "عظَّمت لطفك الذي صنعتَ إليَّ" (تكوين 19:19).

وهكذا ينبغي أن نكون نحن لطفاء مع الجسدانيين، الذين نعتقد أنهم ليسوا على المستوى الروحي اللائق. وسنحصل على هذا اللطف من الروح القدس، الذي يعين ضعفاتنا، لنعين الضعفاء في ضعفاتهم.

 

3 - لطف الله ولطفنا مع المؤمنين الأقوياء، إن هم عثروا وسقطوا:

لم تطأ أرض الناس قدمان طاهرتان سوى قدمي المسيح. أما البشر جميعهم فهم خطاءون، ولكل مؤمن سَقْطة. فقد وصف الوحي داود بأنه "سراج إسرائيل" (2صموئيل 17:21) كما قال الله عنه: "وجدتُ داود بن يسى رجلاً حسب قلبي" (أعمال 22:13). ومع ذلك فقد اغتصب نعجة الرجل الفقير. وعندما شعر بالخطأ الذي ارتكبه قال: "قد أخطأتُ إلى الرب". فقال له ناثان النبي: "الرب أيضاً قد نقل عنك خطيتك. لا تموت" (2صموئيل 13:12). لقد قاد لطف الله داود إلى التوبة (رومية 4:2). ومع أننا لم نكن ننتظر سقوط داود صاحب المزامير، لكن كثيراً ما يسقط المؤمنون الأقوياء في أقوى نقاط قوتهم!

وقد أوصانا الوحي أن نكون لطفاء مع المؤمنين المتقدِّمين الذين يسقطون في خطإ، فقال الرسول بولس: "أيها الإخوة، إن انسبق إنسانٌ فأُخِذ في زلة ما، فأصلِحوا أنتم الروحانيين مثل هذا بروح الوداعة، ناظراً إلى نفسك، لئلا تُجرَّب أنت أيضاً. احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا تمموا ناموس المسيح" (غلاطية 1:6 و2).

إن كنت قد اختبرت غفران الله الغفور الرحيم، فاغفر لغيرك كما غفر الله لك.

 

ثانياً: المعاملة الرقيقة

الإنسان اللطيف هو الذي يعامل كل الناس معاملةً رقيقة، وهو الذي ينفِّذ الوصية الرسولية: "معتنين بأمورٍ حسنة قدام جميع الناس" (رومية 17:12).

ذكر لنا الوحي كم كان لطف الله مع يعقوب، وكيف تعامل معه معاملةً رقيقة بالرغم من عيوبه، فنجّاه من كل ضيق، فقال يعقوب: "يا إله أبي إبراهيم، وإله أبي إسحق، الذي قال لي: ارجع إلى أرضك وإلى عشيرتك فأُحْسِن إليك، صغيرٌ أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التي صنعتَ إلى عبدك. فإني بعصاي عبرتُ هذا الأردن، والآن قد صرتُ جيشين" (تكوين 9:32 -12). عبر يعقوب نهر الأردن ليسافر من بيت أبيه إلى بيت خاله لابان، إلى أرضٍ غريبة، وهو خائفٌ قلِق، ولم يكن يملك إلا عصاه. فباركه الرب وأحسن إليه، وأرجعه بسلام إلى أرضه وقد صار جيشين! وهذه صلاة يجب أن يردِّدها كل مؤمنٍ في شكرٍ وثقة واتكالٍ كامل على الرب وعلى لطفه.

وكما اختبر يعقوب جميع ألطاف الله، اختبر حفيده داود ثلاث بركات من لطف الله، فقال: "تجعل لي ترس خلاصك، ويمينك تعضدني، ولطفك يعظمني" (مزمور 35:18). لقد حمى الله داود وخلَّصه من كل هجومٍ ظالمٍ عليه، كما بترسٍ. والترس هو قطعة خشب مغطاة بالجلد، يتلقّى عليها المحارب سهام الأعداء، فلا تصيبه بأذى. وعضدت يمين الله داود وأسندته فلم يسقط. وعظَّم لطفُ الله داود، وأخذه من وراء الغنم إلى عرش المملكة (2صموئيل 8:7). وقد غلب لطف الله المؤمنين، فاستسلموا له وخضعوا لإرادته الصالحة، فملأهم الروح القدس.

وندعو القارئ ليعيش حياة اللطف الرقيقة، فهي التي تنتصر في النهاية. قال أحد الرواة إنه حدثت منافسة بين الشمس والريح: مَن منهما يستطيع أن يجعل المسافر يخلع معطفه. فأخذت الريح الفرصة الأولى وهبَّت بشدة وعنف. ولكن كلما اشتدَّ هبوبها تمسَّك المسافر بمعطفه أكثر. وعندما فشلت الريح أخذت الشمس الفرصة وأشرقت بدفئها اللطيف، بغير عنفٍ ولا ضوضاء ولا إثارة أتربة، فخلع المسافر معطفه. وهذا يعلّمنا أن الطريق لربح الآخرين هو اللطف. فإن كنا نريد أن نربح أهل بيوتنا، وجيراننا، وزملاءنا، وأعداءنا، فلنأسِرهم بلطفنا ومعاملاتنا الرقيقة.

كانت هناك أم متعجِّلة دائماً في توجيه اللوم والتوبيخ لأولادها. لقد كانت تحبهم، ولكن طريقتها في التعبير عن الحب كانت خاطئة. وذات يوم ذهب القسيس ليزورها، فاشتكت له من أولادها الذين لا يفعلون شيئاً بطريقة سليمة. فطلب منها القسيس أن تحضر له شمعة مضيئة، وأن تدخل بها الغرفة بأقصى سرعة. فلما فعلت ذلك انطفأت الشمعة، لأن النار لم تكن قد تمكّنت بعد من الفتيل. فقال لها القسيس: "أنتِ تحتاجين إلى طول الأناة واللطف مع أولادك، حتى تتمكن منهم المعرفة، وتكون لهم القوة لعمل ما تريدينه منهم. مكتوبٌ: أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم (أفسس 4:6). وسيحققون انتظاراتك منهم إن كنتِ لطيفة معهم".

لو أعطينا الروح القدس فرصة السيطرة على حياتنا، سيعلّمنا أن نكون لطفاء شفوقين متسامحين كما سامحنا الله في المسيح. وعند ذلك فقط سنقدر أن نربح قلوب الكثيرين كما كسب الله قلب يعقوب وداود وسائر المؤمنين.

 

ثالثاً: مساعدة المتضايقين

ما أعظم لطف إلهنا الذي وصفه النبي إشعياء بالقول: "في كل ضيقهم تضايق، وملاك حضرته خلَّصهم. بمحبته ورأفته هو فكَّهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة" (إشعياء 9:63). إنه يحسُّ بمشاعرنا، فيتضايق لضيقنا، ثم في لطفه يخلّصنا ويفكُّ أسرنا ويرفعنا ويحملنا. قال كليم الله موسى لبني إسرائيل: "في البرية حيث رأيتَ كيف حملك الربُّ إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق التي سلكتموها" (تثنية 31:1).

عندما اتَّهمت زوجة فوطيفار يوسف الصدّيق، غضب فوطيفار على يوسف ووضعه في سجن أسرى الملك. "ولكن الرب كان مع يوسف، وبسط إليه لطفاً، وجعل نعمةً له في عيني رئيس السجن". كان ضيق يوسف وسجنه بسبب طاعته للرب. ولا شك أن يوسف رفع مظلمته لله، وطلب منه المساعدة، فاستجاب له الرب، وبسط إليه لطفاً، وجعل له نعمةً في عيني رئيس السجن (تكوين 19:39-23).

وتعلَّم يوسف من إلهه كيف يكون لطيفاً مع الآخرين، فأكرم إخوته الذين سبق وباعوه عبداً، واستضافهم في مصر طيلة حياة أبيهم يعقوب. فلما مات يعقوب خافوا أن يردَّ لهم يوسف الشر الذي فعلوه به، فبكوا أمامه وطلبوا غفرانه. ولم يتصرَّف يوسف معهم كما توقَّعوا، بل قال لهم: "لا تخافوا. هل أنا مكان الله؟ أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به (بالشر) خيراً لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعباً كثيراً" (تكوين 15:50-21).

لا شك أن الله بسط إليك يديه باللطف والإنعام، لا لأنك تستحق، لكن من فيض محبته لك. وعليك أن تبسط يديك باللطف للذين يختلفون معك ويسيئون إليك، كما فعل يوسف.

إن كنت قد قبلت دعوة المسيح: "تعالوا إليَّ يا جميع المتعَبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم" ووجدتَ الراحة عنده، فلا بد أنك ستسمع تكليفه: "احملوا نيري عليكم وتعلَّموا منّي، لأني وديعٌ ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم، لأن نيري هيِّن وحملي خفيف" (متى 28:11-30). ونيره هيِّن لأنه رقيقٌ لا يجرح الكتف. وعندما يريحك تجتهد أن تريح المتعَبين، وتكون مصدر بهجةٍ للمحيطين بك.

اعترف النبي إشعياء بفضل الله عليه، فقال: "أعطاني السيد الرب لسان المتعلّمين". وهذا فضلٌ من لطف الله. وعبَّر النبي عن اعترافه بهذا الفضل بطريقة عمليةٍ، فقال: "لأعرف أن أُغيث المعيي بكلمة" (إشعياء 4:50). وما أكثر المصابين بالإعياء من حولنا، وهم يحتاجون للإغاثة بكلمة طيبة نقولها لهم، من لسان المتعلّمين الذي أكرمنا الرب به. نحن مدينون أن نقول كلمة شكر للأمّ أو للزوجة أو للأب أو للمعلم أو لرجل الدين. كثيراً ما نشعر في قلوبنا بفضل الآخرين علينا، دون أن نذكر هذا لهم. فلنكن لطفاء، نشجع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأساتذة والمعلمين بكلمة رقيقة لطيفة يستحقونها.

عندما انكسرت السفينة بالرسول بولس نجا هو والمسافرون معه، ولجأوا إلى جزيرة، عرفوا أن اسمها "مالطة". وكان اسم حاكم الجزيرة "بوبليوس". قال عنه البشير لوقا: "هذا قَبِلنا وأضافنا بملاطفةٍ ثلاثة أيام" (أعمال 8:28). وقد كافأ الله لطف الحاكم للرسول بولس ورفاقه، بأن شُفي والد الحاكم الذي كان مريضاً بالحمى والدوسنتاريا، فصلى الرسول بولس لأجله، ووضع يديه عليه فشفاه. ولا شك أن الله يكافئ كل من يساعد المتضايقين، ويصنع معهم لطفاً.

ليعطنا الرب أن نسلم نفوسنا للروح القدس تسليماً كاملاً لنثمر ثمرة اللطف.

 

صلاة

ما أعظم لطفك الذي ذخرته لخائفيك يا رب، وما أعظم رقَّتك في تعاملك معي وقت ضعفي واحتياجي. أثمِر فيَّ لطفاً نحو المحيطين بي، سواء كانوا أصدقائي أم أعدائي، من عائلتي أو من الغرباء عني. هبني لطفاً من روحك اللطيف لأريح كل من يتعامل معي. آمين.


 

الثمرة السادسة

الصلاح

 

الصلاح هو المحبة العاملة. والإنسان الصالح هو الذي يحمل هموم الآخرين، فيقدم دواءً لمريض، وطعاماً لجائع، وكساءً لعريان، وعزاءً لحزين. هو الشخص الذي يعتني بالآخرين، لا عنايةً مادية فقط، لكن عناية روحية أيضاً، فيبحث عن شخصٍ لم يقبل المسيح بعد ليدعوه ليتمتع ببركات الخلاص. وهو الذي يقرأ أصحاحاً لعاجزٍ عن القراءة، ويشرح كلمات الإنجيل لمحتاج، ويتطوَّع للخدمة في الكنيسة. وبالاختصار: هو الشخص الذي يسير في خطوات المسيح الذي كان يجول يصنع خيراً، فيسمع في اليوم الأخير، مع سائر المؤمنين الذين فعلوا الصلاح، القول الكريم: "تعالوا يا مباركي أبي، رِثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم، لأني جُعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريباً فآويتموني. عرياناً فكسوتموني. مريضاً فزرتموني. محبوساً فأتيتم إليَّ. فيجيبه الأبرار حينئذٍ قائلين: يا رب متى رأيناك جائعاً فأطعمناك، أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو عرياناً فكسوناك؟ ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟ فيجيب الملك: الحق أقول لكم، بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم" (متى 34:25-40).

ولا بد أن كل مؤمن يثمر ثمرة الصلاح عندما يمتلكه الروح القدس، فيجعله محبةً فعَّالة عاملة.

ويتَّضح صلاحنا في دائرتين:

 

أولاً: الاهتمام بخدمة الآخرين

يقدم لنا الوحي مثلاً للصلاح في داود، صاحب المزامير، الذي قيل عنه إنه حسب قلب الله، وإنه سيصنع كل مشيئته (أعمال 22:13). وقد ظهر صلاح داود بعد أن تولى الحكم، بعد موت الملك شاول، الذي كان يطارده ويريد أن يقتله، فقد سأل داود رجاله: "هل يوجد بعد أحدٌ بقي من بيت شاول فأصنع معه معروفاً من أجل يوناثان؟". فجاءه رجاله بعبدٍ اسمه صيبا، كان يعمل في قصر شاول، فقال داود لصيبا: "ألا يوجد بعد أحدٌ لبيت شاول فأعمل معه إحسان الله؟". فأجاب صيبا أن هناك غلاماً أعرج الرجلين اسمه مفيبوشث بن يوناثان بن شاول. فاستدعاه داود وقال له: "لا تخف، فإني لأعملنَّ معك معروفاً من أجل يوناثان أبيك، وأردُّ لك كل حقول شاول أبيك. وأنت تأكل خبزاً على مائدتي دائماً" (2صموئيل 1:9-8).

كان داود أصغر إخوته، وكان راعياً للغنم، فأخذه الله من وراء الغنم وجعله ملكاً، وأقامه رئيساً على شعبه. وشعر داود بصلاح الله معه، فأراد أن يردَّ إحسان الله، حتى إلى عدوه. وداود في هذا الصلاح قدوة لنا. فإن كنت تشعر بإحسان الله عليك، وإن كنت قد فتحت قلبك للرب ليمتلكك الروح القدس، فستكون حسب قلب الرب، وستفعل مشيئته، وستحمل ثمر الروح، الذي هو صلاحٌ، حتى مع أعدائك الذين يقاومونك.

وقدم لنا الوحي مثلاً آخر لثمرة الصلاح، في سيدة فاضلة اسمها طابيثا، فيقول: "كان في يافا تلميذة اسمها طابيثا (ومعناه غزالة) هذه كانت ممتلئة أعمالاً صالحة وإحسانات كانت تعملها". امتلأت هذه السيدة من الروح القدس، فأثمر فيها روح الله ثمرة الصلاح. ومرضت طابيثا، فصلَّت الكنيسة من أجلها كثيراً، لكنها ماتت، فغسَّلوها ووضعوها في عليَّة، وأرسلوا يستدعون الرسول بطرس. وعندما دخل الرسول بطرس حيث كانت ترقد جثة غزالة، وقفت لديه جميع الأرامل يبكين ويرين أقمصة وثياباً مما كانت تعمل غزالة وهي معهن. فأخرج بطرس الجميع خارجاً وجثا على ركبتيه وصلى، ثم التفت إلى الجسد وقال: "يا طابيثا قومي". ففتحت عينيها، ولما أبصرت بطرس جلست (أعمال 36:9-43). لقد ترجمت طابيثا صلاحها أقمصةً وثياباً، لم تعملها لأرملة واحدة، ولا لمجموعة أرامل قريباتٍ إلى قلبها، بل إلى كل الأرامل، لأن ثمر الروح فاض من شجرة حياتها ليطعم ويشبع كل من يقترب منها، مهما كانت خلفيته أو عقيدته. فإذا امتلأ قلبك بالروح القدس، ستعمل الصلاح مع الجميع، مهما اختلفوا معك، لأن الروح القدس يملأك أعمالاً صالحة وإحسانات.

ويقدم الوحي لنا مثلاً آخر للصلاح في يوسف، الرجل الصالح، وأحد التلاميذ. يقول الوحي عنه: "ويوسف، الذي دُعي من الرسل برنابا، الذي يُترجَم ابن الوعظ، وهو لاوي قبرصي الجنس، إذ كان له حقلٌ باعه وأتى بالدراهم ووضعها عند أرجل الرسل" (أعمال 33:4-36). لم يضع الدراهم بين يدي الرسل، بل عند أقدامهم، لكيلا يلاحظ أحدٌ تقدمته، فلم يعرِّف شماله ما تفعل يمينه!

وقد حصل يوسف على لقب "ابن الوعظ" لأنه كان دائماً يقول كلمة تشجيعٍ لنفس خائرة، بعد أن أعطاه الروح القدس لسان المتعلمين، فاستطاع أن يغيث المعيي بكلمة، وأن يشجع ويداوي القلوب المجروحة، ويعين النفوس المحتاجة للخلاص أو للنصرة على الخطية، أو لمواجهة الاضطهاد.

ولما كان برنابا سبب تشجيع للجميع، اختاره الرسل ليزور أنطاكية ويشجع المؤمنين هناك بوعظه، فذهب وشجَّع المؤمنين فيها أن يثبتوا في الرب بعزم القلب، لأنه كان رجلاً صالحاً ممتلئاً من الروح القدس والإيمان، فانضمَّ إلى الرب جمع غفير (أعمال 19:11-24).

في عام 1982 ذهبتُ إلى نيروبي كينيا، لحضور مؤتمر "مجلس كنائس كل أفريقيا". وكان المجلس يحتاج لتكملة مبانيه. فجاء الرئيس دانيال أراب موي، رئيس كينيا، ليساعد في جمع التبرعات. ودخل في استقبال رسمي إلى المنصَّة على البساط الأحمر. وكانت هناك كل وسائل الإعلام. وألقى كلمة قال فيها فكرتين:

1 - مدح السيد المسيح المرأة التي ألقت فلسين في طبق العطاء، لا لأن قيمتهما كبيرة، ولكن لأن ما تبقَّى عندها بعد ذلك كان "لا شيء". فقد قدَّمت "كل ما عندها، كل معيشتها" (مرقس 41:12-44) .

2 - لا تظنوا أنكم ستدخلون السماء لأنكم تدفعون تبرعات لبناء كنيسة، فإننا ندخل السماء اعتماداً على دم الحمل وحده، الرب يسوع المسيح، بالنعمة وحدها، وبالإيمان.

كان حديثاً جميلاً، خصوصاً أنه من رئيس دولة. وقدم الرئيس موي تبرعه، ثم أخذ الحاضرون يقدمون تبرعاتهم: آلافاً ومئات. ثم تقدم شاب يجرّ خروفاً كتبرع. وطلب الرئيس الكيني أن يقف الشاب بالخروف على البساط الأحمر، ثم قال: "يجب أن يُباع هذا الخروف بالمزاد العلني". ودفعت سيدة ألفي شلن كيني ثمناً للخروف، مع أنه يومها كان لا يستحق أكثر من مائتي شلن. وكانت مفاجأة لنا جميعاً لما قالت المشترية: "هذا الخروف هو كل ما تمتلكه سيدة فقيرة، أرسلته مع أحد شباب الكنيسة لتقدمه للرب. وأنا أعيده مرة أخرى إلى صاحبته لأنه كل ما تملك".

إن الروح القدس يعمل في كل مكان: في رئيس دولة، كما في سيدة فقيرة قدمت كل ما عندها، وبين الرئيس والفقيرة ملايين المؤمنين الذين يحبون الرب، والذين أعطوا الروح القدس فرصة السيطرة عليهم، فأثمروا ثمر الروح: صلاحاً.

ثانياً: الاهتمام بخدمة المسيح

عندما يملأ الروح القدس قلوبنا ويسيطر على تصرفاتنا، نقوم بعملٍ صالح للرب نفسه، ونقدم عملاً صالحاً لخدمته. ويقدم الإنجيل لنا مثالاً في هذا من سيدةٍ سكبت قارورة طِيبٍ كثير الثمن على رأس المسيح وهو متكئ. وعندما رأى تلاميذ المسيح الطِّيب المسكوب اغتاظوا وقالوا: "لماذا هذا الإتلاف؟ لأنه كان يمكن أن يُباع بكثير ويُعطى للفقراء". فدافع المسيح عنها وقال: "لماذا تزعجون المرأة؟ فإنها قد عملت بي عملاً حسناً" لأنها قدَّمت تقدمتها، ولم يهمّها استحسان الموجودين أو انتقادهم. ولم يكن حكمهم عليها يغيّر شيئاً مما عزمت أن تفعله، فقد امتلكت محبة المسيح عقلها وقلبها، فلم يعد هناك شخصٌ آخر يستولي على تفكيرها أو مشاعرها إلا يسوع وحده. ولما أحبته عملت به عملاً حسناً (متى 7:26-13).

إن الإنسان شرير بطبيعته وبعمله، وقلبه خالٍ من كل صلاح لأن نفسه تأمره بالسوء، وهو لا يقدر أن يفعل أي صلاح إلا إذا غيَّر المسيح قلبه بعمل الروح القدس. أما الإنسان الطبيعي فلا يطلب الله ولا يُسرُّ بشريعته، كما هو مكتوب: "ليس بارٌّ ولا واحد. ليس من يفهم. ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس من يعمل صلاحاً. ليس ولا واحد" (رومية 10:3-12). ومن واجب كل إنسان أن يقبل خلاص المسيح فيولد ولادةً روحية ثانية، من فوق، بعمل الروح القدس. وسيجازي الله من يولدون من فوق، لأنهم سيثمرون ثمر الروح. "سيجازي كل واحدٍ حسب أعماله. أما الذين بصبرٍ في العمل الصالح، يطلبون المجد والكرامة والبقاء (سيجازيهم) بالحياة الأبدية... مجد وكرامةٌ وسلام لكل من يفعل الصلاح" (رومية 6:2 و7 و10).

ماذا نفعل نحن من صلاحٍ لسيد الصلاح؟ ما هي الخدمة التي نقدّمها للذي جاء لا ليُخدَم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين (مرقس 45:10)؟

نتمنى أن تصدق علينا جميعاً كلمات الرسول بولس: "نشكر الله كل حين من جهة جميعكم.. متذكّرين بلا انقطاع عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكم" (1تسالونيكي 2:1 و3).

ليساعدنا الرب أن نقدّم أنفسنا وكل ما نملك له، فالعبد الصالح هو الذي يستثمر ما منحه له الرب من وزنات، فيصنع الصلاح، ويسمع استسحان سيده: "نِعِمّا أيها العبد الصالح والأمين. كنت أميناً في القليل، فأقيمك على الكثير. ادخُل إلى فرح سيدك" (متى 21:25). فهل سيوجِّه لك الرب كلمات الاستحسان هذه، ثم تسمع منه قوله: "أنا عارفٌ أعمالك وتعبك وصبرك، وقد احتملتَ ولك صبر، وتعبتَ من أجل اسمي ولم تكلّ" (رؤيا 2:2 و3).

صلاة

أعطني من صلاحك ما يجعلني صالحاً، فيرى الناس أعمالي الحسنة ويمجدونك. ساعدني لأحمل هموم الآخرين وأعتني بهم، لأسمع منك: نعمّا أيها العبد الصالح والأمين. آمين.


 

 

الثمرة السابعة

الإيمان

 

قال الرسول بولس: "الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله" (رومية 17:10). وأبسط تعريف للإيمان أنه الثقة في كلام الله ومواعيده وتصديقها. فعندما نضع ثقتنا في إنسان ما، نصدِّق كلامه. وعندما نؤمن بالرب نصدق الخبر الذي تعلنه لنا كلمته. "الإيمان هو الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لا تُرى". بمعنى أنه الثقة بأن ما نرجوه لا بد سيتحقَّق، وهو الاقتناع بأن ما لا نراه هو موجودٌ حقاً (عبرانيين 1:11). وبدون إيمان لا يمكن إرضاء الله (عبرانيين 6:11).

والروح القدس هو الذي يقنعنا بصحَّة خبر الإنجيل عندما نسمعه فنصدّقه، وهو الذي يوجِّه قلوبنا إلى الحق، لأنه يرشدنا إلى جميع الحق، فنثمر ثمرة الإيمان بمعنى أن نضع ثقتنا في من يستحق الثقة. فإن أردنا تقوية إيماننا فلنتَّخذ إعلانات الله أساساً لثقتنا "لأن كل ما سبق فكُتب، كُتب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء" (رومية 4:15).

وللإيمان ثلاثة معان:

1 - هو الثقة في قوة الله المخلِّصة،

2 - وهو الاعتماد على عناية الله المدبِّرة،

3 - وهو الأمانة في التصرُّف مع الله والناس.

 

أولاً: الإيمان هو الثقة في قوة الله المخلِّصة

مَن يؤكد لنا صِدق رسالةٍ يُقال لنا إنها من عند الله؟.. إنه الروح القدس. كان الرسول بولس قبل إيمانه بالمسيح يضطهد الكنيسة ويقاوم الإيمان المسيحي، وهو يعتقد أنه بذلك يقدِّم خدمةً لله. فما الذي غيَّر اعتقاده، حتى قال: "صادقةٌ هي الكلمة ومستحقَّة كل قبول: أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلِّص الخطاة الذين أوَّلهم أنا".. إنه عمل الروح القدس في قلبه وعقله، لأنه "لا يستطيع أحدٌ أن يقول يسوع رب، إلا بالروح القدس" (1كورنثوس 3:12).

وقد لخَّص الرسول بطرس الرسالة المسيحية في عظته الأولى يوم الخمسين، ثم ختم العظة بقوله: "فليعلم يقيناً جميعُ بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً" (أعمال 36:2). قال هذا في مكانٍ قريب جداً من جبل الجلجثة حيث صُلب المسيح، ولم تكن قد مضت على حادثة الصلب سوى خمسين يوماً. وقال بلغة اليقين إن الله جعل هذا المصلوب رباً ومسيحاً. "فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: "ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة؟" فقال لهم بطرس: "توبوا وليعتمِد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس" (أعمال 37:2 و38). فآمن في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف شخص بالمسيح المخلِّص. ولا شك أن الروح القدس هو الذي بكَّت الحاضرين وأقنعهم بصِدق الرسالة "فنُخسوا في قلوبهم" وآمنوا بالكلمة التي سمعوها.

سأل شابٌّ غني السيدَ المسيح: "أيها المعلم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" (مرقس 17:10). وهذا تكرارٌ لسؤالٍ وجَّهه اليهود للمسيح: "ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله؟". فأجابهم المسيح: "هذا هو عمل الله: أن تؤمنوا بالذي هو أرسله" (يوحنا 28:6 و29). فأول ما يجب أن نقوم به من عملٍ لله هو أن نؤمن بالمسيح الذي أرسله الآب إلينا، وأن نصدق أنه هو المخلِّص الوحيد.

رفع اللص التائب صلاةً على الصليب، وجَّهها للسيد المسيح، قال: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك" (لوقا 42:23). فكيف رأى هذا اللص ما لم يرَه رجال الدين اليهود؟ والإجابة: لقد أقنعه الروح القدس بصدق كل كلمة قالها المسيح عن نفسه، فرأى في الشخص المصلوب إلى جواره رباً، له ملكوت، وله سلطان أن يعطي هذا الملكوت. والروح القدس هو الذي يقنعنا بصحَّة كلمة حق الإنجيل، فنصدّقها عندما نسمعها وندرك أنها الحق من عند الله. فالإنجيل هو الخبر المفرح الذي جاء المسيح به إلى العالم، وبقبوله ننال الخلاص.

ويستخدم الروح القدس وسائل كثيرة لإقناعنا بصحة كلمة حق الإنجيل: في موعظة نسمعها، أو رسالة مكتوبة نقرأها، أو نموذج صالح جذاب نراه في حياة إنسان تقي. فالوسيلة هامة، لكن الفعّالية المجدِّدة والمقنعة هي فعالية الروح القدس الذي يجتذب النفوس لمعرفة المسيح.

 

ثانياً: الإيمان هو الاعتماد على عناية الله المدبِّرة

عندما نثق نعتمد. تثق أن وسيلة المواصلات ستوصِّلك إلى حيث تريد أن تذهب، فتستقلُّها، وتعتمد على السائق الذي يقود المركبة. أنت تؤمن فتتكل. والإيمان هو الأمان الذي نناله عندما نتكل على الله ونتمسَّك بمواعيده بكل قلوبنا. قال الله على فم النبي إشعياء: "إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا" (إشعياء 9:7). فعندما نؤمن نطمئن ويعمِّر الأمان قلوبنا، لأنه "إذ قد تبرَّرنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله" (رومية 1:5-3).

ويحذِّرنا الوحي من أنه "ليس سلام، قال إلهي، للأشرار" (إشعياء 21:57). والأشرار هم الذين يشكّون في كلام الله ولا يصدقونه. قالت الحيَّة لأمنا حواء: "‎أحقاً قال الله: لا تأكلا من كل شجر الجنة؟" (تكوين 1:3). فشكَّكها الشيطان في صحَّة أقوال الله. وصدَّق أبوانا الأولان أن في نصيحة الشيطان سعادةً أكبر وخيراً أوفر، فأكلا من الشجرة، وضاع سلامهما مع الله، وانتهى الأمر بهما خارج الجنة.

إن السلام قاصرٌ على النفوس المحتمية بكفارة المسيح، الخاضعة لتوجيهات الروح القدس، فهي وحدها التي تختبر إيمان إبراهيم خليل الله الذي وثق في وعد الله بأن يعطيه ابناً من سارة العاقر، وتقوَّى إبراهيم بالإيمان معطياً مجداً لله، وتيقَّن أن ما وعد الله به، هو قادرٌ أن يفعله (رومية 20:4 و21). ولم يكن إيمان إبراهيم راجعاً لأي سببٍ جسدي، بل تأسَّس كله على مواعيد الله. وبعد مرور خمس وعشرين سنة من الوعد الإلهي أعطى الله إبراهيم ابناً من سارة، سمّياه "إسحاق" بمعنى "ضحك". وكانت سارة وقتها في التسعين من عمرها، وكان إبراهيم شيخاً في المائة. وإسحاق هذا هو الابن الوحيد الذي وعد الله إبراهيم به. ومع ذلك فقد أخذه إبراهيم ليذبحه بيده، حباً في الله وطاعةً له. كان قلب إبراهيم عامراً بالسلام، فأقدم بغير تردُّد على هذه الخطوة الصعبة، إذ حسب أن الله قادرٌ على أن يقيم إسحاق من الموت بعد ذبحه (عبرانيين 19:11). وسأل إسحق أباه: "يا أبي، هوذا النار والحطب. ولكن أين الخروف للمحرقة؟". وكان هذا السؤال مثل سيفٍ يمزِّق قلب إبراهيم! ولكنه لم يقل لولده إنه هو المحرقة، واكتفى بالقول: "الله يرى له الخروف للمحرقة يا ابني" (تكوين 7:22 و8). وبالفعل دبَّر الله المحرقة التي حلَّت محل إسحاق، وافتُدي إسحاق بذبحٍ عظيم!

وعلى نفس المثال رتَّب الله ذبيحة المسيح العظيمة، والكافية لفداء كل البشر، وتنبَّأ عنها إشعياء النبي قبل حدوثها بسبعمئة سنة، فقال: "وهو مجروحٌ لأجل معاصينا، مسحوقٌ لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحُبُره شُفينا" (إشعياء 5:53). وقد تبرَّر إبراهيم أمام الناس وظهرت طاعتُه بما عمله، عندما عزم على ذبح ابنه. كما تبرَّر أمام الله على أساس كفارة المسيح وفدائه العظيم، وفي هذا قال الرسول يعقوب: "ألم يتبرَّر إبراهيم أبونا بالأعمال إذ قدَّم إسحاق ابنه على المذبح؟ فنرى أن الإيمان سبق أعماله، وبالأعمال أُكمل الإيمان، وتمَّ الكتاب القائل: فآمن إبراهيم بالله فحُسب له براً، ودُعي خليل الله" (يعقوب 21:2-23).

وعندما يعمل الروح القدس فينا، وعندما نسلّم وجوهنا له، نعتمد على عناية الله المدبِّرة، فنطيع الله كما فعل إبراهيم، مهما كانت التضحية، فنتبرَّر بتبريرات المسيح الفدائية الكاملة.

أمضى الرسول بطرس ومعه صيادون آخرون ليلة كاملة في الصيد دون أن يمسكوا شيئاً. وفي الصباح أمر المسيح بطرس أن يبعد إلى العمق ويلقي الشبكة، فقال بطرس: "يا معلّم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئاً، ولكن على كلمتك ألقي الشبكة" (لوقا 5:5). فكادت شباكهم تتخرَّق من كثرة السمك بعد ليلٍ طويل مجدب. فما أعظم الإيمان الذي أعطى الأمان! فالأمن الحقيقي هو نتيجة طبيعية لوضع ثقتنا في ربنا.

فلنتمسَّك بمواعيد الله، ولنتشجَّع ونطالب الرب ليحقق وعوده لنا، لأنه القادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر (أفسس 20:3). ولنرفع صلاة شكرٍ لله على تحقيق وعوده لنا، حتى قبل أن تتحقق، كما صلى داود: "أيها الرب، ليثبُت إلى الأبد الكلامُ الذي تكلَّمتَ به عن عبدك وعن بيته، وافعل كما نطقتَ" (1أخبار 23:17).

وقد تمسَّك الرسول بولس بوعود الله له، وقال لرفاقه في السفينة الغارقة: "وقف بي هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له والذي أعبده قائلاً: لا تخف يا بولس. ينبغي لك أن تقف أمام قيصر، وهوذا قد وهبك الله جميع المسافرين معك. لذلك سُرُّوا أيها الرجال، لأني أومن بالله أنه يكون هكذا كما قيل لي" (أعمال 23:27 و24). وكلما وضعنا ثقتنا في مواعيد الله نعتمد أكثر على عنايته المدبِّرة، ونطيع الوصية: "لا تهتمّوا بشيء (بمعنى: لا تقلقوا)، بل في كل شيء بالصلاة والدعاء مع الشكر، لتُعلَم طلباتكم لدى الله" (فيلبي 6:4). "ويتَّكل عليك العارفون اسمك، لأنك لم تترك طالبيك يا رب" (مزمور 10:109).

 

ثالثاً: الإيمان هو الأمانة في التصرُّف مع الله والناس

كم نحتاج لفعّالية الروح القدس لينشئ فينا الإيمان الذي يجعلنا أمناء فيما نفعل، فنتمم نصيحة المسيح: "كن أميناً إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة" (رؤيا 10:2).

وتقدّم لنا التوراة مثلاً كتابياً عن أمانة العمال عندما أراد الملك يهوآش أن يرمِّم الهيكل، فأحضر صندوقاً مثقوباً في أعلاه، ووضعه بجوار المذبح ليضع الشعبُ فيه تبرعاتهم. وعندما كان الصندوق يمتلئ كان رجال الملك يحسبون الفضة، ثم يدفعونها لعاملي الشغل ليرمموا بها بيت الرب. "ولم يحاسبوا الرجال الذين سلَّموهم الفضة بأيديهم لكي يعطوها لعاملي الشغل، لأنهم كانوا يعملون بأمانة" (2ملوك 14:12 و15). وبسبب الأمانة لم تكن هناك حاجة إلى محاسب ولا إلى أمين صندوق.

وتكرر الأمر نفسه في أيام الملك يوشيا، ففي السنة الثامنة عشرة من مُلكه جمعوا الفضة التي سيرممون بها بيت الرب "وأعطوها للنجارين والبنائين والنحاتين لشراء أخشاب وحجارة منحوتة لأجل ترميم البيت، إلا أنهم لم يُحاسَبوا بالفضة المدفوعة لأيديهم، لأنهم إنما عملوا بأمانة" (2ملوك 3:22-7). وأغلب الظن أن هؤلاء العمال قدَّموا خدمتهم لله ولبيته مجاناً، دون أن يتقاضوا أجراً. كان حبهم للرب حباً غامراً، وكانت أمانتهم عظيمة، فلم يحاسبهم أحد.

وكلما سلَّمنا أنفسنا للروح القدس زاد ثمر الإيمان فينا، فنصدِّق الله أكثر، ونجد الاطمئنان والأمن عنده بكمية أوفر، ونكون أكثر أمانةً في كل عمل نقوم به لمجد اسمه.

 

صلاة

أشكرك يا رب على نعمة الإيمان التي هي ثمر الروح القدس، فإيماني عطية منك ومن عمل روحك القدوس فيَّ. حبِّبني في كلمتك، لأن إيماني يتقوى كلما عرفت مواعيدك وتمسَّكتُ بها. هبني سلام الاعتماد على أقوالك الصادقة والأمينة، لأكون أميناً إلى الموت فتعطيني إكليل الحياة. آمين.

 


 

 

الثمرة الثامنة

الوداعة

 

الوداعة صفة داخلية تظهر في التصرُّفات اليومية. قال أحد المؤمنين لقائده الوديع المتواضع المحب: "في وجودي معك أحسُّ أن الله يسكب في جوفي عسلاً!" وهذا يعني أن الله بارك القائد بثمر الروح.

والوداعة هي الخضوع لله بتواضع، وهي طاعة كلمته. وهي الحِلم والتسامح، والقابلية للتعلُّم، والغضب المقدس على الخطأ فقط وليس على الخاطئ. وهي ثمرة عظيمة من ثمر الروح القدس، لأن المسيح وصف بها نفسه عندما قال: "تعلَّموا منّي لأني وديعٌ ومتواضع القلب" (متى 29:11). ووصف بها الرسول بولس المسيح عندما قال: "أطلب إليكم بوداعة المسيح" (2كورنثوس 1:10). وقد ارتبطت صفة الوداعة بالمحبة في كورنثوس الأولى 21:4، وبالتواضع في أفسس 2:4 وبالمحبة والصبر في تيموثاوس الأولى 11:6.

هذه الصفة العظيمة مطلوبة من كل المؤمنين، إذ يقول المسيح: "طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض" (متى 5:5) ويقول الرسول بولس: "فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفاتٍ، ولطفاً، وتواضعاً، ووداعةً، وطول أناة" (كولوسي 12:3) ويقول: "ليكن حِلمكم (أو: وداعتكم) معروفاً عند جميع الناس" (فيلبي 5:4). وهي صفة الله الآب، فقال له داود: "لطفك (أو: وداعتك) يعظِّمني" (مزمور 35:18) وصفة الله الابن (متى 29:11) وصفة الله الروح القدس (غلاطية 23:5).

وصفة الوداعة مطلوبة في الشباب، كما يقول الرسول بولس لتلميذه تيموثاوس: "اتبع البر والتقوى والإيمان والمحبة والصبر والوداعة" (1تيموثاوس 11:6). وهي مطلوبة كزينةٍ للسيدات "زينة الروح الوديع الهادئ، الذي هو قدام الله كثير الثمن" (1بطرس 4:3) كما أنها مطلوبة في القادة، فيجب أن يكون القائد "حليماً غير مخاصمٍ ولا محب للمال" (1تيموثاوس 3:3). وقد اتَّصف بولس الرسول بهذه الصفة فقال لأهل تسالونيكي: "كنا مترفِّقين في وسطكم كما تربي المرضعة أولادها" (1تسالونيكي 7:2).

ولتكون لنا وداعة المسيح نحتاج لسيطرة روحه القدوس علينا.

ولنتأمل ثلاثة معانٍ للوداعة:

 

أولاً: الوديع هو الذي يخضع للروح القدس

الوديع هو الذي يُخضِعه الروح القدس ليعمل مشيئة الله بفرح، والنموذج في ذلك هو المسيح الذي قال: "الحق الحق أقول لكم، لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 19:5 و20). وقد نتعجَّب من أن الابن يخضع للآب. لكن يجب أن نذكر أن المسيح اتَّخذ طبيعةً إنسانية، فهو كامل الألوهية، وكامل الإنسانية. فإن قلنا إن المسيح هو الله نقول الحق، ولكن ليس كل الحق، لأن المسيح هو "الكلمة الذي صار جسداً" (يوحنا 14:1). وإن قلنا إن المسيح إنسان نقول الحق، ولكن ليس كل الحق، لأن المسيح هو "الله الذي ظهر في الجسد" (1تيموثاوس 16:3). وواضحٌ أن العظيم يقدر أن يتنازل، ولكن الحقير لا يقدر أن يرتفع. ويقول الوحي إن المسيح إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسةً أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس (فيلبي 6:2 و7). وربما ننسى إنسانية المسيح ونحن نفكر في ألوهيته، أو قد ننسى ألوهيته ونحن نفكر في إنسانيته، لكننا يجب أن نذكر أنه "ابن الله" و"ابن الإنسان" في آنٍ واحد. وكإنسان كامل أخضع نفسه لعمل مشيئة الآب بكامل رغبته، ولم يكن يعمل إلا ما ينظر الآب يعمل.

يُصوِّر لنا الإنجيل المقدس الإنسان ثائراً ضد الله، لا يريد أن يعمل المشيئة الإلهية. لكن الروح القدس يُخضِعه، فيعمل مشيئة الله بفرح. ويمكن أن نقول إن الروح القدس "يستأنس" الإنسان الثائر، ويجعله وديعاً نافعاً للخدمة. وقد وصف النبي هوشع الإنسان البعيد عن الله بأنه "جامح" يثور ضد الانضباط، ولكن الرب يستأنسه ويرعاه في رحب فسيح، فيصبح كحملٍ وديع. قال: "جمح إسرائيل كبقرةٍ جامحة. الآن يرعاهم الرب كخروفٍ في مكان واسع" (هوشع 16:4). حقاً، يجعل الروح القدس الجامح حملاً، والمتوحش وديعاً خاضعاً للإرادة الإلهية. ويمضي النبي هوشع فيقول: "أفرايم موثقٌ بالأصنام. اتركوه" (هوشع 17:4). صحيحٌ أن الأصنام قيَّدته وأتلفت حياته. ولكن النصيحة هي: "اتركوه" لمحبة الله التي تتعامل معه، فيترك الجموح والثورة والقيود ويخضع لله.

وأذكر مثَلين من شخصين عمل الروح القدس فيهما، فأخضع الثائر، وجعله وديعاً:

1 - بولس : كتب عن نفسه: "أنا الذي كنت قبلاً مجدِّفاً ومضطهِداً ومفترياً، ولكنني رُحمت لأنني فعلت بجهلٍ في عدم إيمان. وتفاضلت نعمة ربنا جداً.. لهذا رُحِمتُ" (1تيموثاوس 13:1-16) فصار المفترس أليفاً، والجامح خاضعاً، لأن الروح القدس "استأنسه" وجعله يقول: "ماذا تريد يا رب أن أفعل" (أعمال 6:9).

2 - أنسيمس: وهو عبدٌ هرب من بيت سيده فليمون بعد أن سرق فضة مولاه، وسافر إلى روما. وهناك فتح قلبه للمسيح على يدي الرسول بولس، فاستأنسه الرب وتغيَّرت حياته، فكتب عنه الرسول بولس إلى فليمون: "الذي كان قبلاً غير نافع لك، ولكنه الآن نافعٌ لك ولي" (فليمون 11). نافع للسيد الذي سبق أن سرقه، ونافع لبولس، ويمكن أن يخدم المسيح معه.

لقد كان بولس في هجومه على الكنيسة، وكان أنسيمس في سرقته لمولاه، هادرَيْن كشلالٍ جامحٍ بمياهه المتدفقة بغير حساب ولا ضابط. ولكن عندما أخضعهما الروح القدس صارا كالشلال الذي يتحكَّم المهندسون في مياهه، فيولِّد الكهرباء التي تنير، ويخدم البشر. وكل نفس بعيدةٍ عن الله جامحة تحطم كل شيء، لكن عندما تستسلم لله تثمر وداعةً، وبدلاً من أن تهدم تبني، وبدلاً من أن تقلع تغرس، وبدلاً من أن تلعن تبارك، وبدلاً من أن تظلم تنير.

ثانياً: الوديع هو الذي يفتح قلبه ليتعلَّم

نجد في المسيح مثالاً عظيماً في الانفتاح للتعلُّم وهو في الثانية عشرة من عمره، فقد بحث عنه أبواه فوجداه "بعد ثلاثة أيامٍ في الهيكل، جالساً في وسط المعلّمين يسمعهم ويسألهم، وكل الذين سمعوه بُهِتوا من فهمه وأجوبته" (لوقا 46:2 و47). ونرى هنا ألوهية المسيح وهو يسأل معلّمي الدين اليهود وهم مندهشون من فهمه وأجوبته، كما نرى إنسانيته وهو يسمعهم ليستزيد معرفةً.

ويقول الرسول يعقوب: "اقبلوا بوداعة الكلمة المغروسة القادرة أن تخلص نفوسكم" (يعقوب 21:1) فالوديع هو الذي يفتح قلبه ليتعلم، أما الجاهل فهو الذي يرفض المعرفة. والإنسان الوديع يشبه الإسفنج التي تتشرَّب، لأنه يريد أن يمتلئ ويستزيد. "بمَ يزكّي الشاب طريقه؟ بحفظه إياه حسب كلامك. بكل قلبي طلبتك. لا تُضلَّني عن وصاياك. خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطئ إليك. مبارك أنت يا رب. علِّمني فرائضك. بشفتيَّ حسبتُ كل أحكام فمك. بطريق شهاداتك فرحتُ كما على كل الغِنى. بوصاياك ألهج وألاحظ سبلك. بفرائضك أتلذَّذ. لا أنسى كلامك" (مزمور 9:119-16).

ويعلّمنا الروح القدس كيف نستفيد من كلمة الله، ويذكِّرنا بكل ما قاله المسيح لنا، ويرشدنا إلى جميع الحق (يوحنا 13:16) فنطلب الاستزادة من المعرفة، إذ نجلس أمام الكتاب المقدس كطفلٍ صغير يفتح عينيه وأذنيه وقلبه ليسمع قصص معاملات الله مع شعبه، ثم يطلب أن يسمع ما سبق أن سمعه، بغير ملل. فليساعدنا الله لنحتذي بمثال مريم أخت مرثا ولعازر، التي جلست عند قدمي يسوع وكانت تسمع كلامه. أما مرثا فقد صرفت وقتها في تجهيز الطعام للمسيح والقيام بواجبات الضيافة الجسدية. وعندما اشتكت مرثا أختها مريم للمسيح أنها تركتها تخدم وحدها، قال لها المسيح: "أنتِ تهتمّين وتضطربين لأجل أمور كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحد. فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها" (لوقا 38:10-42).

 

ثالثاً: الوديع هو الذي يغضب لسببٍ مقدَّس

هناك نصيحة حكيمة تقول: "الجواب الليِّن يصرف الغضب" (أمثال 1:15) وأخرى تقول: "ببطء الغضب يُقنَع الرئيس، واللسان الليِّن يكسر العظم" (أمثال 15:25). ولكن هناك نصيحةً رسولية تقول: "اغضبوا ولا تخطئوا" (أفسس 26:4) وهي مقتبسة من المزامير: "ارتعدوا ولا تخطئوا" (مزمور 4:4). إذاً هناك غضب مرفوض، وهناك غضب مقدس يصل إلى حدِّ الارتعاد، من أجل الخير والسلام والصلاح، ويكون صاحبه مقدساً ووديعاً.

أما مثالنا في الغضب المقدس فهو المسيح، الذي عبَّر عن غضبه عدة مرات:

غضب مرتين على التجّار الذين دنَّسوا هيكل الرب وجعلوه بيت تجارة، وذلك بالاتفاق مع الكهنة. المرة الأولى كانت في مطلع خدمته، والمرة الثانية كانت في نهايتها (يوحنا 13:2-22 ولوقا 45:19-48). في التطهير الأول صنع المسيح سوطاً من حبال، وقال: "ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة". أما في التطهير الثاني فلم يضرب بالسوط، بل اكتفى بالقول: "بيتي بيت الصلاة يُدعَى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص". في التطهير الأول طالبه رجال الدين بمعجزة تبيِّن أن له السلطان أن يطهِّر الهيكل. أما في التطهير الثاني فقد تشاوروا عليه ليقتلوه. وبعد التطهير الأول ترك المسيح أورشليم وذهب إلى اليهودية، أما بعد التطهير الثاني فقد رُفع على الصليب.

وغضب المسيح عندما جاء رجال الدين اليهود برجلٍ يابس اليد في يوم سبتٍ ليروا إن كان المسيح يشفيه في يوم السبت، فيكون بهذا قد كسر وصية السبت. فقال لهم: "هل يحلّ في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟" فسكتوا. فنظر حوله إليهم بغضبٍ، حزيناً على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: "مُدّ يدك" فمدَّها، فعادت صحيحةً كالأخرى (مرقس 1:3-5).

الذي يغضب غضباً أنانياً لمصلحته الشخصية ليس وديعاً، أما الوديع فهو الذي لا يغضب إلا في سبيل الحق. ويريدنا الإنجيل أن نكون إيجابيين فعَّالين لخدمة الرب. هناك غيرة مقدسة حسب المعرفة، لا الغيرة الجاهلة التي هي ضد روح المسيح. ولنا في تأديب أولادنا مثلٌ من الوداعة التي تغضب غضباً مقدساً. فعندما يخطئ أحد أبنائنا، نغضب على الخطأ الذي ارتكبه، ونوقّع عليه العقاب، لا لأننا نكرهه، لكن لأننا نريد أن نقوِّمه ونصلح من شأنه.

هناك نصيحة تقول: لا تؤدّ‎ب ابنك وأنت غاضب، لأن ابنك لن يضبط أعصابه أمام أبٍ فَقَد ضَبْط أعصابه. اهدأ أنت أولاً قبل أن تعاقبه. وليكن هناك اتفاق بين الوالدين والأولاد على قانون عقوباتٍ تتفق عليه العائلة. وعند ما يخطئ الطفل يهدئ الأب أعصابه، ويشرح لطفله خطأه، ثم يسأله عن نوع العقاب المتَّفق عليه، وبعد ذلك يوقع عليه العقاب. وعندما يبكي الطفل يحتضنه أبوه ويقبِّله، ويقول له إنه عاقبه لأنه يحبه. ويستمر محتضناً طفله حتى يهدأ، ليحسَّ الطفل بالحب والحنان، ويتأكد أنه محبوب ومقبول، وأن الضرب عقابٌ لخطئه فقط. ثم يقول أبوه له إنه يحبه، لكنه يكره الخطأ الذي ارتكبه. ولا يوجد أبٌ أو أمٌّ يقدر أن ينفذ هذه النصيحة التربوية إلا إن ملك الروح القدس حياته ومشاعره.

وليكون الغضب مقدساً أعود فأذكر الوصية الرسولية: "اغضبوا ولا تخطئوا، ولا تغرب الشمس على غيظكم، ولا تعطوا إبليس مكاناً" (أفسس 26:4 و27).

والسؤال الكبير هو: ومن يستطيع أن يغضب ولا يخطئ؟ والإجابة الكبيرة هي: الذي يسلّم نفسه تماماً لعمل الروح القدس ليستلم روح الله قيادة حياته.

 

صلاة

أيها الرب الوديع، أَخضِعني لمشيئتك الصالحة، وانزع كل عصيان فيَّ، لأكون وديعاً، فأقبل كلمتك المغروسة في قلبي وأعمل بحسبها، فأنمو في الخضوع لك، وفي محبة كلمتك. فإذا غضبتُ ليكن غضبي لمجدك وحدك، وليس بسبب ثورتي الأنانية الخاطئة. ولا تسمح أن تغرب الشمس على غيظي حتى لا أعطي لإبليس مكاناً. آمين.

 


 

الثمرة التاسعة

التعفُّف

 

التعفف هو ضبط النفس، ووضع العواطف تحت سلطان العقل الذي يحكمه الروح القدس. قال الفيلسوف أفلاطون: "العفيف هو صاحب النفس التي انتصرت على رغباتها وغلبت حبها للملذّات". ولكن أفلاطون لم يقُل لنا كيف نكون أعفّاء. وكان الفلاسفة الرواقيون (أتباع زينون) في أيام الرسول بولس يحاولون أن يضبطوا نفوسهم ليُظهروا قوة إرادتهم، لكنهم كانوا يقولون: "عندما نعجز عن فعل ما نريد، نريد فعل ما نقدر عليه". لقد بذل الرواقيون جهودهم الشخصية وقوة إرادتهم ليكونوا أعفّاء، ولكن لما كانت إرادتهم تعجز عن التحكم في شهواتهم، كانوا يتصالحون مع أنفسهم، ليتقبَّلوا ما يعجزون عن تحقيقه.

أما الإنجيل المقدس فيخبرنا أن الطبيعة الإنسانية فاسدة، وأن الإنسان ميت بالذنوب والخطايا، ولا يقدر أن يثمر ثمراً صالحاً إلا إذا خلَّصه المسيح، وقدَّسه الروح القدس وامتلكه، فيجعل منه إنساناً مثمراً، كما قال المسيح: "ليس أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتأتوا بثمر ويدوم ثمركم" (يوحنا 16:15). فنحن نأتي بالثمر المبارك نتيجة اختيار المسيح لنا، وإقامته إيانا من موت خطايانا. ويستطيع كل مؤمن أن يكون عفيفاً بفضل استجابته لفعّالية عمل الروح القدس فيه، فيسيطر على نفسه بقوة الروح القدس الذي يحكمه.

وقد جاءت كلمة "تعفف" في الإنجيل عن الرياضي الذي يضبط نفسه في كل شيء لينال الجائزة، فقيل: "من يجاهد يضبط نفسه في كل شيء" (1كورنثوس 25:9).

وتوضح لنا كلمة الله أن كل مؤمن يشبه عدّاءً يجري في سباق، عليه أن يحذر من أشياء كثيرة لا ينتبه لها الشخص العادي، فيتحذَّر من نوع الطعام الذي يتناوله ومن كميته حتى لا يزيد وزنه، ويعتني بأوقات راحته ليكون في كامل قوته، ويواظب على التدريب المتواصل الشاق ليكون في كامل لياقته. وباختصارٍ، إنه يضبط نفسه في كل شيء.

وكل مسيحي يجري في سباق روحي دائم، يسعى نحو الهدف، منتظراً نوال الجائزة السماوية. فيجب أن يضبط نفسه، وأن يحمل ثمر الروح: تعفف (1كورنثوس 24:9-27). وقال الرسول بطرس للمؤمنين: "وأنتم باذلون كل اجتهادٍ، قدّموا في إيمانكم فضيلةً، وفي الفضيلة معرفةً، وفي المعرفة تعففاً، وفي التعفف صبراً، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودَّةً أخوية، وفي المودّة الأخوية محبة، لأن هذه إذا كانت فيكم وكثُرت تصيِّركم لا متكاسلين، ولا غير مثمرين، لمعرفة ربنا يسوع المسيح" (2بطرس 5:1-8).

وأمر الرسول بولس بضرورة انتصار المؤمن على شهوته، وهذا هو العفاف (1كورنثوس 9:7). وتحدث عن أنه يريد أن يخطب للمسيح عذراء عفيفة، هي جماعة المؤمنين، التي لم تتلوَّث إلى أن يأتي يوم اتحادها بالمسيح عريسها ومخلّصها (2كورنثوس 2:11).

هناك بعض التصرفات التي يجب أن نضبط نفوسنا فيها:

 

أولاً: التعفف في الكلام

نحتاج جميعاً إلى التعفف في كلامنا، بأن نضبط ألسنتنا. والإنسان العفيف في الكلام هو الذي لا ينطق إلا بما هو للبنيان، حسب الحاجة، كي يعطي نعمةً للسامعين (أفسس 29:4).

ويقول الرسول يعقوب في الأصحاح الثالث من رسالته إن الإنسان سيطر على الكثير من المخلوقات والوحوش واستأنسها واستخدمها، ولكنه عجز عن السيطرة على لسانه. ولا زال اللسان يدنّس الجسم كله، ويُضرِم دائرة الكون، ويُضرَم من جهنم. وواضحٌ أننا لا يمكن أن نسيطر على اللسان إلا إذا سيطر الروح القدس علينا، وعلى اللسان فينا!

وقال الرسول يعقوب إن اللسان صغير الحجم ولكنه كبير التأثير، وشبَّهه بثلاثة أشياء: باللجام الصغير الذي نضعه في فم حصانٍ كبير فيسهل علينا توجيهه إلى حيث نريد، وبالدفَّة الصغيرة التي تعدِّل اتجاه سفينة كبيرة، وبالنار القليلة التي تحرق وقوداً كثيراً. فاللسان عضوٌ صغير ولكنه عظيم التأثير: يقول كلمةً فيسبِّب كارثة، ويقول كلمة أخرى فيسبِّب بركة. "الموت والحياة في يد اللسان" (أمثال 21:18). باللسان الواحد نبارك الله الآب ونلعن الناس الذين خلقهم الله على صورته! فكيف يصدر العذب والمرّ عن اللسان الواحد؟ وكيف تصدر منه البركة واللعنة معاً؟ هذا شيء غريب لا نجده في عالم الطبيعة، فشجرة الفاكهة تثمر ذات الثمر دائماً، ولا يمكن أن نجتني منها يوماً فاكهة، ويوماً آخر شوكاً. ولا يمكن أن نستقي من ينبوعٍ واحد ماءً عذبا، ثم ماءً مُرّاً! ومع ذلك فإن الشخص الواحد ينطق مرة كلاماً عذباً وبعد دقائق يتكلم كلاماً مراً!

يناقش الرسول بطرس المسئوليات العائلية، فيحدّث الزوجات، ثم يحدث الأزواج، فيقول للرجال إن الخصام في البيت يعطل استجابة الصلاة، ثم يقول: "كونوا جميعاً متَّحدي الرأي بحسٍّ واحد، ذوي محبة أخوية، مشفقين لطفاء، غير مجازين عن شر بشر أو عن شتيمة بشتيمة، بل بالعكس مباركين، عالمين أنكم لهذا دُعيتم لكي ترثوا بركة، لأن من أراد أن يحب الحياة ويرى أياماً صالحة فليكفُف لسانه عن الشر وشفتيه أن تتكلما بالمكر. ليُعرِض عن الشر ويصنع الخير. ليطلب السلام ويجدّ في أثره. لأن عيني الرب على الأبرار، وأذنيه إلى طلبتهم، ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر" (1بطرس 7:3-12).

يريد الله أن يباركنا بنعمة اللسان العفيف، فنردّ على الشتيمة ببركة، فيحوِّل الله اللعنة إلى بركةٍ لنا. قال سليمان الحكيم: "من يحفظ فمه يحفظ نفسه. من يشحر (يفغر- يفتح واسعاً) شفتيه فله هلاك" (أمثال 13:3). وقال أيضاً: "من يحفظ فمه ولسانه يحفظ من الضيقات نفسه" (أمثال 23:21).

ما أعظم خسارة أصحاب الألسنة المنفلتة! وما أكبر الثمن الذي يدفعه الإنسان مقابل غلطة لسان! فلنسمع الوصية الرسولية: "ليكن كل إنسانٍ مسرعاً في الاستماع، مبطئاً في التكلُّم، مبطئاً في الغضب" (يعقوب 19:1). وقال الحكماء إن الله أعطانا أذنين ولساناً واحداً، لنسمع ضعف ما نتكلم. وقالوا إنه وضع الأذنين خارج الجسم، ووضع اللسان خلف بوَّابتين، هما بوَّابة الفكين وبوابة الشفتين، ليفكر الإنسان قبل أن يتكلم. لذلك قال المرنم: "قلتُ أتحفَّظ لسبيلي من الخطأ بلساني.. أحفظ لفمي كمامةً فيما الشرير مقابلي" (مزمور 1:39). وصلى المرنم: "لتكُن أقوال فمي وفكر قلبي مرضيَّةً أمامك يا ب، صخرتي ووليّي" (مزمور 14:19).

 

ثانياً: التعفف في الطعام

عندما يسيطر الروح القدس على حياتنا يجعلنا أعفَّاء في تناول الطعام، فبعض البشر يأكلون أكثر من كفايتهم، بينما غيرهم لا يجد ما يأكله. والذين يأكلون أكثر مما تحتاج أجسادهم ينفقون المال والجهد ، بعد ذلك، ليُنقِصوا أوزانهم. وما كان أغناهم عن الأمرين! أما الذي يسيطر الروح القدس عليه فإنه يأكل ليعيش، ويعتني بجسده لأنه هيكلٌ مقدس للرب مستعد لكل عمل صالح، ولكنه لا يعيش لمجرد أن يأكل ويُشبع احتياجات جسده. إن الحيوان يتوقف عن تناول طعامه متى امتلأت معدته، ويحتاج كثيرون من البشر أن يتعلموا هذا الدرس منه!

وأوصى إمام الحكماء سليمان بالتعفف وضبط النفس في تناول الطعام، فقال: "ضع سكيناً لحنجرتك إن كنتَ شرِهاً.. أَوَجدْتَ عسلاً؟ فكُل كفايتك، لئلا تتَّخم فتتقيَّأه" (أمثال 2:23 و16:25). كما طالب المسيح تلاميذه بالتعفف وحذَّرهم من الأمور التي تعطلهم عن الاستعداد لمجيئه ثانيةً، وهي محبة العالم، والترفُّه، واللذات الجسدية، وزيادة الاهتمام بأمور هذه الحياة، فقال: "احترِزوا لأنفسكم لئلا تَثْقُل قلوبُكم في خُمارٍ وسُكرٍ وهموم الحياة، فيصادفكم ذلك اليوم (يوم الحساب) بغتةً" (لوقا 34:21).

وأذكر مثلين عن التعفف في تناول الطعام:

1 - الرِّكابيون: وهو أبناء رِكاب، الذين عاهدوا والدهم أن لا يشربوا خمراً وأن يسكنوا في الخلاء، وثبتوا في عهدهم. وأمر الله إرميا النبي أن يمتحن إخلاصهم لوصية أبيهم بأن يستدعيهم ويُدخلهم إحدى غرف الهيكل، وأن يقدِّم لهم خمراً ليشربوا. ومع أن الأمر صدر لهم من نبيٍّ، وطلب منهم أن يشربوه في الهيكل، إلا أنهم رفضوا طلب النبي، بسبب عهدهم مع أبيهم. وقال الله للنبي إرميا إن بني رِكاب أكثر أمانةً لعهدهم مع أبيهم من أمانة بني إسرائيل لعهدهم مع الرب! (إرميا 25). لقد كانوا أعفّاء بالرغم من السلطان الذي كان من وراء الأمر لهم بشرب الخمر!

2 - دانيال: وكان مسبياً أسيراً في قصر الملك البابلي، وكان مجبراً أن يأكل طعاماً لا يستريح إليه ضميره، وأن يشرب شراباً ممنوعاً بحسب شريعة موسى. ولو أن دانيال أراد أن يأكل ويشرب لوجد لنفسه أعذاراً وجيهة ومقنعة. لكنه "وضع في قلبه أن لا يتنجَّس بأطايب الملك، ولا بخمر مشروبه" (دانيال 8:1). وأكرم الله دانيال كما أكرم هو الله. وما أحوجنا أن نثمر ثمر الروح: تعففاً، ونحن نمتنع عن الخطأ ونضبط نفوسنا.

 

ثالثاً: التعفف في المعاملات

يطالبنا الوحي المقدس أن نكون أعفّاء النفوس في كل معاملاتنا، فنضبطها وقت الغضب. قال سليمان الحكيم: "البطيء الغضب خير من الجبّار، ومالك روحه خيرٌ ممن يأخذ مدينة" (أمثال 32:16). فقد يغزو قائدٌ مدينة وينتصر على أعدائه، ويأخذ تلك المدينة. لكن ما لم ينتصر على نفسه وعلى غضبه وعلى طباعه السيئة، فإنه لا بد سيخسر ما قد كسبه.

وقال سليمان الحكيم أيضاً: "مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه" (أمثال 28:25). فالذي لا سلطان له على روحه يشبه مدينة منهدمة، وبلا سور، معرَّضة للهجوم في أية لحظة، ولا بد ستسقط بغير مقاومة، لأنها بغير حماية.

وكل من يسيطر الروح القدس عليه يتعفف في الأمور الجنسية، عملاً بالوصية الرسولية: "ليكن الزواج مكرَّماً عند كل واحد، والمضجع غير نجس. أما العاهرون والزناة فسيدينهم الله" (عبرانيين 4:13). وهذا ممكن مهما كانت الظروف قاسية، فقد كان يوسف بن يعقوب عبداً في بيت فوطيفار رئيس الشرطة المصرية، وراودت زوجة فوطيفار يوسف عن نفسه، فقال لها: "هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت، وكل ماله قد دفعه إلى يدي. ليس هو في هذا البيت أعظم مني، ولم يمسك عني شيئاً غيرك، لأنك امرأته. فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟" (تكوين 8:39 و9). كان يوسف عبداً أسيراً، ولو أنه أراد أن يخطئ لوجد الأسباب التي يتذرَّع بها أمام ضميره وأمام الآخرين. لكن عمل روح الله فيه كان برهان ربه الذي حفظه من الخطأ.

وقد سيطر الروح القدس على تصرفات الرسول بولس. وعندما وقف أمام الوالي فيلكس متَّهماً بتدنيس الهيكل اليهودي، دافع عن نفسه، وكلَّم الوالي عن البر، والتعفف، والدينونة العتيدة أن تكون، فارتعب فيلكس. كان السجين واقفاً أمام الحاكم مُقيّداً بالسلاسل، ولكن قيوده كانت من الخارج فقط، أما في داخله فقد كان حراً لأنه كان يعرف حق الله، فحرَّره الحقُّ الإلهي (يوحنا 32:8). وكان الوالي فيلكس يجلس على كرسي الحُكم، وإلى جواره زوجته اليهودية دروسلا، التي كان قد أغراها وأخذها من زوجها الشرعي. لكنه كان عبداً للشهوة والقسوة والرشوة. فارتعب الوالي من كلام السجين، ولم يرتعب السجين من سلطان الوالي. وأبقى الوالي السجين البريء في السجن لأنه أراد أن يأخذ منه رشوة، مع أنه يملك الكثير! فكان بولس العفيف الفقير في المال غنياً في الله، وكان الوالي الغني في المال فقيراً في داخله. وانتهى الأمر بهلاك فيلكس لأنه لم يضبط نفسه، ويبقى الرسول بولس في المجد الإلهي، لأنه أدرك أن ثمر الروح: تعفف (أعمال 24:24-26).

 

* * *

كل مؤمن صار إنساناً جديداً في المسيح يسكنه الروح القدس، لكن ليس كل مؤمنٍ مولودٍ من الله ممتلئاً من الروح. لذلك نختلف كمؤمنين في إنتاج ثمر الروح، فبعضنا ينتج ثلاثين، وبعضنا ستين، وبعضنا مائة. وقد ننتج يوماً مائة، ثم ينقص تكريسنا لله وتفتر محبتنا له، فيقلُّ ثمرنا الروحي. ولكن الآب السماوي يراقبنا دائماً، وينصحنا، ويذكّرنا بكلماته لنا، ويطالبنا أن نثمر ثمر الروح التساعي كله.

 

صلاة

بقوة روحك القدوس يا رب، ضع عواطفي تحت سلطان عقلي المستنير بكلمتك وبإرشاد روحك القدوس، فأنا بدونك عاجزٌ عن كبح جماح غضبي، والسيطرة على مشاعري. أعطني فكر المسيح، واضبط قلبي ولساني وجسدي لأعمل مشيئتك دائماً. آمين.


 

 

مسابقة الكتاب

 

1 - لماذا دُعيت المسيحية "الطريق"؟

2 - ما هو الجهل الروحي؟

3 - ما هو معنى "غلاظة القلب"؟

4 - ما هو معنى خلع الإنسان العتيق؟

5 - ما هو تجديد الذهن؟

6 - ما هي أضرار الكذب؟

7 - كيف تغضب دون أن تخطئ؟

8 - ما الذي يوقف السارق عن السرقة، ثم يعمل الصالح ليساعد المحتاج؟

9 - اذكر خمسة ألقاب للروح القدس، مع شواهدها الكتابية؟

10 - برهن أن الروح القدس أقنوم مساوٍ للآب والابن.

11 - ما هي أوجه الشبه بين الروح والريح؟

12 - كيف يعطي الروح القدس الولادة الجديدة؟

13 - اكتب أعمال الرسل 38:2 واشرحها.

14 - ما هي مفاتيح حياتك التي يجب أن تسلِّمها للمسيح؟

15 - ما هما الشرطان اللازمان للامتلاء بالروح القدس؟ اكتب الشاهدين الكتابيين لهما.

16 - أية وصية هي أول الكل؟ اكتب الشاهد الكتابي، واشرح لماذا هي أول الكل.

17 - اكتب ثلاث طرق تظهر بها محبتك لله.

18 - كيف تظهر المحبة للفقراء؟

19 - كيف تبيِّن محبتك لعدوّك؟

20 - كيف يثمر الروح القدس فيك محبة لعائلتك؟

21 - كيف قدر بولس وسيلا أن يرتلا في السجن؟

22 - اكتب حبقوق 17:3 و18 واشرحها.

23 - من لوقا 20:10 ما هو أكبر سبب للفرح؟ وكيف تحصل عليه؟

24 - اكتب مزمور 5:126 و6 واشرح سبب الفرح في الآيتين.

25 - حياتنا مثل سفينة في بحر الحياة. ما هي الأخطار الثلاثة التي تهددها؟ وكيف نتحاشاها؟

26 - اشرح القول: "لو ساد على الناس طول الأناة لأصبحت أرضنا سماءً".

27 - كيف ظهر لطف الله للخطاة، وكيف نظهره نحن؟

28 - من تكوين 9:32-12 كيف أظهر الله لطفه ليعقوب؟

29 - الصلاح هو المحبة العاملة - كيف تظهره في حياتك؟

30 - للإيمان ثلاثة معانٍ، ما هي؟ أعطِ مثالاً لكلٍّ منها.

31 - للوداعة ثلاثة معانٍ، ما هي؟ أعطِ مثالاً لكلٍّ منها.

32 - كيف تكون عفيفاً في الكلام؟

33 - لماذا يجب أن تكون عفيفاً في تناول الطعام؟

34 - من هم الركابيون، وما هو امتيازهم؟

35 - اكتب أمثال 28:25 واشرحها.

 الفهرس