شاركهم بنفسه أيضاً

المحبّة هي الشيء الوحيد الذي يتزايد عندما يتوزَّع. كان بإمكان برنابا أن يتفاخر ببِرّه الباهر وهو يتأمّل كلَّ ما فعله لأجل الربّ والكنيسة. غير أنّه كان رجلاً صالحاً وممتلئاً من الروح القدس والإيمان (أعمال 11:24) يشجِّع الآخرين ويثبّتهم، ويبذل نفسه ويضحّي بحياته في سبيل ذلك.

وأذكر هنا مَثَلين على تلك الغيرة:

 جاء شاول (أي بولس) إلى القدس بعد اهتدائه التاريخيّ في الطريق إلى دمشق، وحاول أن يلتصق بالتلاميذ، ولكنهم خافوا منه وشكوا فيه (أعمال 9:26). أَما برنابا فأخذ بيد شاول ودافع عنه وقدّمه للرسل، وضمِن لهم صحة اختباره في الإيمان. في الواقع أعطى برنابا قلبه ونفسه إلى بولس.

لم يكن بولس محتاجاً إلى مال برنابا، ولا إلى رسالته، إذ كان قد صار مؤمناً في وقت سابق، وكان يشهد بجسارة أينما وُجِد، لكنّه كان بأمسّ الحاجة إلى صداقة برنابا ومودّته. وقدّم له برنابا هذه الصداقة وهذه المودّة بغير تحفّظ.

 أرسلت الكنيسة الأنطاكية برنابا وبولس كوفد إرساليّ ليبشّرا في آسيا الصغرى، ورافقهما يوحنّا مرقس. غير أن هذا الشاب تركهما في مدينة برجة بمفيلية (أعمال 13:13) عائداً إلى القدس. فضجر بولس من مرقس واعتبره خائناً للقضيّة الإرساليّة. استاء منه ورفض أن يسامحه.

ثمّ تابع بولس وبرنابا رحلتهما التبشيريّة في بمفيلية وبيسيدية ووصلا إيقونية. هناك شفيا رجلاً عاجز الرِّجلين (أعمال 14:8). وأثارت هذه المعجزة الدهشة بين المواطنين فصرخوا: »إِنَّ الْآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا«. فَكَانُوا يَدْعُونَ بَرْنَابَا »زَفْسَ« وَبُولُسَ »هَرْمَسَ« إِذْ كَانَ هُوَ الْمُتَقَدِّمَ فِي الْكَلَامِ« (أعمال 14:11 و12). وزفس هذا كان يُعدّ رئيس الآلهة حسب عقائد اليونان الوثنيّة. لربّما كان برنابا طويل القامة ذا هَيْبة، بينما بولس كان قصيراً بليغ اللسان.

بعدئذٍ رجع الاثنان إلى القدس حيث انعقد المجمع الكنسيّ الأول عام 50م كما هو مذكور في أعمال 15. ودافع بولس وبرنابا هناك عن حقّ المسيحيّين الأمميّين في الشركة الكاملة مع سائر المؤمنين دون تمييز، فأقرّ المجمع بعدم فرض الطقوس اليهوديّة على غير اليهود. وعلى أثر المجمع انطلق الاثنان إلى أنطاكية، وهي المركز الإرساليّ. هناك أقاما يعلّمان ويبشّران بكلمة الربّ (أعمال 15:34).

لم يرتح بولس إلى هذه الحالة المشجّعة. ولماذا؟ لأنّ عدد المؤمنين في أنطاكية كان كبيراً، بينما الحصاد في آسيا الصغرى كثير والفعلة قليلون. فاقترح بولس على زميله أن يعودا ويتفقّدا الإخوة في كل مدينة بشّرا فيها بكلمة الرب قبلاً، ويستعلما كيف هم. فأراد برنابا أن يمنح مرقس فرصة ثانية ليخدم الربّ ويبرهن على غيرته وإخلاصه. أما بولس فكان يستحسن أن الذي فارقهما في برجة بمفيلية ولم يذهب معهما للعمل، لا يأخذانه معهما. فحصلت بينهما مشاجرة، وأدّى هذا الاختلاف إلى افتراق أحدهما عن الآخر. فأخذ برنابا مرقس وأقلع إلى قبرص، بينما اختار بولس سيلا وانطلق إلى كيليكية.

قد تحدث بين المؤمنين اختلافات لأسباب إداريّة تتعلّق بالشخصيّات والنفسيّات، غير أن الله يحوّلها إلى مجده، شرط أن تكون النيّة طيّبة، وأن يكون الدافع خدمة الله بإخلاص. كانت هناك علاقات عائليّة بين برنابا ومرقس. ورغم هذا - ومع كلّ احترامنا لبولس الرسول - نقول إنّ برنابا ظهر في هذه المناسبة مؤمناً أفضل وألطف من بولس. فلو لم يهتمّ برنابا بمرقس ولم يسانده بالتسامح والترحيب، لكُنَّا قد فقدنا البشير مرقس وفقدنا إنجيله الكريم، إذ أنّ المؤمن المخذول المحتقَر لا يمكنه أن ينمو في الإيمان ولا أن يتقدّم في حياة الروح.

هكذا نرى أن موقف برنابا من بولس أولاً ومن مرقس ثانياً كان موقف الأخ الحبيب الذي يرحّب ترحيب القلب الفيّاض ويعطي نفسه.

وأيَّد بولس أيضاً موقف برنابا بعد ذلك، حين قال في 2تيموثاوس 4:11 »خُذْ مَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ لِأَنَّهُ نَافِعٌ لِي لِلْخِدْمَةِ«. وهذا بعد مرور خمس عشرة سنة.

ويُذكر اسم برنابا أيضاً في الرسالة الأولى إلى كورنثوس 9:6. ونفترض من هذه الآية أنّه ظلّ عازباً كما كان الحال مع بولس زميله.

منّا من يعتبر نفسه مؤمناً سخيّاً. وآخرون يحسبون أنفسهم شهوداً غيورين يؤدّون الرسالة بمروءة. ولكنّنا في نهاية الأمر يجب أن نكون جميعاً مؤمنين متواضعين نعطي أنفسنا للربّ والإخوة والناس. هكذا نتماشى مع القصد الإلهيّ.

أَلَمْ يفعل الآب السماويّ هكذا معنا؟ أعطانا من خيراته. وقدّم لنا رسالته الكلمة الأزليّة وخبز الحياة. وفوق كل شيء أعطانا أغلى ما عنده حين بذل ابنه الوحيد الحبيب من أجلنا.

»اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لِأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لَا يَهَبُنَا أَيْضاً مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ!« رومية 8:32).

دعنا نختم هذه الدراسة وتأمّلاتنا في حياة برنابا بقصّة واقعيّة: كان لرجلٍ أرمل غنيّ في نيوزيلندا ابن شابّ يعتزّ به ويعزّه كثيراً. وطلب الأب من فنّان أن يرسم له صورة ابنه بالألوان على لوحة زيتيّة. ثم علّق هذه الصورة في الصالة. وقبل بلوغ الابن سنّ العشرين توفّي. فانسحق قلب الوالد انسحاقاً تاماً، وكان يحدّق في الصورة ويتألّم حزيناً على الدوام. وأخيراً مات الأب العجوز.

عيّن المحامي يوماً ليقرأ فيه وصيّة الوراثة، فاجتمع الأقارب والمعارف متوقّعين أن يحصلوا على قسطٍ من المال. وأعلن المحامي أولاً أن أثاث البيت يُباع بالمزاد. فبيع كلّ ما كان في البيت سوى صورة الابن. وحاول الدلاّل أن يبيعها بالمزاد فلم ينجح. ولكن قبل أن يضع الدلال الصورة جانباً، وقف خادم البيت المسنّ وقال: »كنتُ أعرف الشاب وأُحبّه، وخدَمْته منذ طفولته. فأنا أشتري الصورة«. وإذ ذاك أشار المحامي أنّه يريد أن تُقرأ الوصيّة حالاً. فقرأ الدلاّل: »من يأخذ الصورة يحصل على كلّ الثروة«. وتحوّل المال كلّه إلى الخادم العجوز!

من يقبل الابن يحصل على جميع بركات الله، وعلى رأسها الحياة الأبديّة. لأنّه بإعطائه ابنه لنا قد أعطانا كل ما كان بوسعه أن يعطي، ولا أحد يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك!