أساس العقيدة المسيحية

عندما نتحدث عن أساس العقيدة المسيحية نقصد ب^ذلك الركائز التي بنيت عليها تلك العقيدة، وجذور ذلك الإيمان وأصوله والمنبع الذي يرتوي منه المؤمن المسيحي.

الإيمان المسيحي مبني ومؤسّس على كلمة الله الواردة في الكتاب المقدّس (التوراة والانجيل). فالكتاب المقدّس هو الدستور الذي تعتمده كنيسة المسيح، لأنّه هو المرشد في التعليم المسيحي. فهو بمثابة مشعل يستنير به المؤمن في حياته اليومية. ويمكننا أن نشبّهه بالغذاء الروحي الذي ينعش حياة المؤمن. إنّه رسالة الله وإعلانه للبشرية جميعاً، لذا فهو المصدر الذي تنبثق منه العقيدة المسيحية. وكل تعليم يخالفه يعتبر مرفوضاً عند أهل الإيمان بالمسيح.

في قانون إيمان الرسل نجد ملخصا للعقيدة المسيحية، وهذا القانون مستخرج من الكتاب المقدّس. وقد وُضع تسهيلاً للمؤمنين الجدد لحفظه ومعرفته، والعمل بموجبه والامتثال لأوامره ونواهيه. وحفظ هذا القانون لا يمنع المؤمن من أن يدرس الكتاب المقدّس بنفسه ويغوص في أعماقه ليكتشف الحق اللؤلؤي المدّخر فيه. إنّ الكتاب المقدّس كنز لا يُستغنى عنه بأي حال من الأحوال. فكل تفسير وكل توضيح لا يغنينا عن قراءة هذا الكتاب النفيس. فعلى كل طالب وباحث أن يغوص في علوم هذا الكتاب الفريد الذي يحمل بين طياته كنزاً لكل البشر، فهو ليس بالكتاب الذي نفتخر ببليغ عبارته وجمال أسلوبه وفصيح كلماته، بل هو كالبوصلة لكل امرئ تائه في ديجور العالم المغطى بالرذيلة والفواحش. هو لكل طالب وجه الله والعمل بأمره، وهو يخص جميع الناس كيفما كانت أوضاعهم ومراكزهم الاجتماعية. فهو للفلاح البسيط، وللعالم المتعلّم، للأبيض والأسود، للعربي والأعجمي. صحيح أنّه أُوحي به إلى أنبياء ورسل في الشرق العربي، لكنّه يعالج مشكلة الإنسانية كلها. لذا فهو كتاب كل الشعوب والأصقاع. هو رفيق الإنسان في كل زمان ومكان. فهو كالشمس التي تنير الكون بأسره بأشعة نورها.

فلنتأمل قليلاً في هذا القانون أو الدستور بالمقارنة بما جاء في الكتاب المقدّس

الله الخالق المدبّر

نقرّ نحن المسيحيين بأنّ الله هو الخالق المدبّر. خالق الكل، ما في السماء وما على الارض. ما يُرى وما لا يُرى. خلقني وجميع الكائنات. خلق الكون بأكمله من العدم، إذ قال له: »كن« فكان »بِكَلِمَةِ الرَّبِّ صُنِعَتِ السَّمَاوَاتُ وَبِنَسَمَةِ فَمِهِ كُلُّ جُنُودِهَا. يَجْمَعُ كَنَدٍّ أَمْوَاهَ الْيَمِّ. يَجْعَلُ اللُّجَجَ فِي أَهْرَاءٍ... لِأَنَّهُ قَالَ فَكَانَ. هُوَ أَمَرَ فَصَارَ« (مزمور 33:6-9).

الكائنات بأجمعها هي منه وإليه. هو صنعها بكلمة من فمه أو بالأحرى بنسمة منه. وهذا الخالق المدبّر الذي نسمّيه »الله« هو غير محجوب عن عباده. إنّه معلن في خلقه. وهذا لا يعني مطلقاً بأنّه في الأشياء والأشياء فيه، أو أنّ الوجود كلّه هو الله والله هو الأشياء كلها، أو الوجود مظهر من مظاهره كما يدّعي بعض الفلاسفة. بل إنّ الموجودات بأسرها تشهد بوجوده شهادة حيّة وتخبر بعمل يديه. إنّ الله هو خالق العالم ومدبّره بكل ما فيه، فالكون برمته يعود الى علة أولى أو مبدإ أول، هو الله في المسيحية المعلن عنه في الكتاب المقدس، هو الذي تحمده السموات والأرض والشمس والنجوم وكل الموجودات: »اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللّهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ« (مزمور 19:1). كل الموجودات هي من صنع يديه وهي ملك له كما صرّح سبحانه على لسان خادمه ونبيّه داود: »لِلرَّبِّ الْأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا« (مزمور 24:1).

هذا الخالق سبحانه مبدع في خلقه، واحد في الجوهر أي في الذات وليس في الشكل. هو بسيط غير مركب. لا شريك له في خلقه. هو واحد في الصفات. بمعنى: لا يوجد تعارض بين صفاته ولا تغيير أو تطور فيه، كما هو الحال معنا نحن البشر. هو روح غير مخلوق. أبدي أزلي. لم ولن يفنى. كل المخلوقات فانية إلا هو، فهو الأزلي الأبدي القديم الغير الحدث، موجود بذاته. يبصر كل الأشياء ولا تخفى عليه خافية. كله قوة وحكمة. الآب والابن والروح القدس الله الواحد الاحد. وهذا الثالوث هو الذي يميّز المسيحية عن سواها من أديان التوحيد.

قدّم مرة أحد المسيحيين إيضاحاً عملياً عن فكرة الثالوث المسيحي، من أجل تقريب الفكرة إلى الأذهان، فوضع كمية من الماء في ثلاثة أنابيب، ووضع الأنابيب الثلاثة على درجات متفاوتة من الحرارة من دون الصفر حتى درجة الغليان والتبخر، حتى أصبح بإمكان المرء مشاهدة الماء على الأشكال الثلاثة داخل الأنبوب: جامداً وسائلاً وبخاراً. وبما أنّ أصل الماء الجامد والسائل والبخار واحد، هكذا يمكننا أن نقول عن فكرة الثالوث في المسيحية. فالله واحد في الجوهر. وسنتحدث عن هذا الموضوع بأكثر تفصيل في الفصول القادمة، لنوضح فكرة الثالوث في العقيدة المسيحية والتي هي بعيدة كل البعد عن الشرك كما يتوهم البعض.

فالمسيحية تشدّد على الايمان بالله الواحد الأحد، ثم علاقة الله بخليقته. إن لله صلة وثيقة بمخلوقاته، فهو ليس كما يتصوره البعض أن ليس له ارتباط بالبشرية، أي أنه خلق العالم ثم تركه يتخبط في مشاكله، أو أن علاقة الله بالعالم كعلاقة صانع آلة بالآلة صنعها ثم تركها تدور بغير حاجة إليه. هذا الفكر لاينسجم مع التعليم الكتابي الذي أعلن لنا عن ذات الله في الثالوث الموحّد: الآب والابن والروح القدس. الذي هو في اتصال مستمر بخليقته

أبوَّة الله

ماذا نقصد بالله الآب، وماذا تعني الأبوَّة في المسيحية - أي الله الآب - قد يخطر ربما على ذهن أحد أن الأبوة في المسيحية لها علاقة بالأبوة البشرية التي تحمل طابع الأسرة، وكأن لله زوجة تنجب له أولاداً وهو منشغل في العناية بهم، منهمك بمتطلباتهم وحوائجهم المتراكمة، حاشا لله هذا.

إسم الله الآب لم يرد ذكره فقط في العهد الجديد »الإنجيل« فحسب بل نجد العهد القديم مليئاً بالشواهد التي تشير الى أبوة الله فنجد مثلا إشعياء النبي يخاطب الله قائلا: يَا رَبُّ أَنْتَ أَبُونَا. نَحْنُ الطِّينُ وَأَنْتَ جَابِلُنَا، وَكُلُّنَا عَمَلُ يَدَيْكَ (إشعياء 64:8). إن المتأمل في هذه الآية والآيات المشابهة لها في العهدالقديم يتضح له أن الله لم يكن معروفاً وقتئذ باعتباره »الآب« بالمعنى المعروف في الإنجيل العهد الجديد، بل كان مقتصراً على المعنى أنه الخالق المعتني بخلقه المدبر العالم وما فيه.

فالأبوة بحسب تعليم الكتاب المقدس، وفي ما أوضحه المسيح له المجد، وأشار إليه في تعليمه الجلي وشدد عليه في أقواله البينة، هي العناية الإلهية بالجنس البشري وحب الله لمخلوقاته بغض النظر عن الجنس واللون والمستوى الإجتماعي الذي يرقى إليه الإنسان، فالعهد الجديد أبان لنا محبة الله الغافرة وحنانه الفائق الوصف الذي يتحدى عقولنا، ومداركنا، وكما عبر عن ذلك الفيلسفوف هيجل بقوله: »لا يستطيع العقل فهم اللامتناهي، ومن أجل إدراكه لا بدّ من الإلهام«. فجاء العهد الجديد يعلن لنا ما لم نستطع فهمه وإدراكه، الله الواحد الأحد المثلث الأقانيم.

إن فكرة التوحيد بينة في الكتاب المقدس، ولا يوجد أدنى شك فيها، فالإعلان في العهد القديم يشدد على هذا السر الإلهي أي »يهوه أحد« لا شريك له (تثنية 6:4) أي بمعنى »لا إله إلا الله«. إن الرب »يهوه« فريد لا أحد نظيره، ولا مساوياً له في شيء، هو متفوق لا يفوقه شيء ولا يماثله أحد »ليس كمثله شيء« كما يعبر عنه القرآن. والعهد القديم ينبر على أن ليس للرب نظير وليس له مثيل ولا شبيه له (خر 8:10 وإش 40:18 - 28) وهو واحد لا شريك له أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لَا إِلَهَ سِوَايَ (إش45:5) ولا يمكننا على الإطلاق أن نقارنه بمخلوق ما أَنَا اللّهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الْإِلَهُ وَلَيْسَ مِثْلِي (إش 46:9). وهذا التوحيد لا يقدم لنا الصورة الواضحة عن الله، بل يبقى الله سراً محجوباً في ذاته، أو كما عبر عنه الصوفي الحلاج عندما قال: »أعطى الله معرفته لعباده ليريهم جهلهم به« فالله في ذاته الواحد الأحد المجهول الأكبر. وفي العهد الجديد نجد الله يعلن عن ذاته ويكشف عن سره المجحوب عن البشر من خلال المسيح الكلمة المتجسد.

الأبوة تشير إلى عنايته تعالى بنا نحن البشر. فالله من فرط محبّته لنا، يقينا من الشر ويحفظنا من العثرات ويسدّد جميع احتياجاتنا. فهو يعتني بنا ولا يريدنا أن نعثر في أية صغيرة أو كبيرة. وهذه الأبوة لا تشير على الإطلاق إلى أي علاقة تناسلية، بل إنّها علاقة روحية محضة، وقد نبّر المسيح عنها مراراً وتكراراً. كما أنّ المسيح هو الذي أعلن لنا هذه الأبوة. ففي الآية التالية إشارة واضحة لأبوة الله لنا في قوله: »فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلَادَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ« (الانجيل حسب البشير متى 7:11).

ففي هذه الأبوة يكشف الله ويعلن لنا سراً من أسراره العجيبة، وهو أنّه ليس فقط الاله العظيم القوي الجبار القهار الذي تصطك وترجف الركب أمامه ويستولي الذعر على النفوس عند المثول في حضرته، بل إنّه آب حنون رحيم بعباده رؤوف بأولاده يسعى لصلاحهم لا لهلاكهم. فأبوة الله تسمو فوق كل أبوة أرضية ولا يمكننا أن نقيسها بالمفهوم الأرضي على الإطلاق.

كأولاد له نقدر أن نقترب منه كل حين بالصلاة والدعاء وطلب التوبة والغفران وبروح الشكر والحمد والتسبيح على كل ما يقدّمه لنا، قائلين له بكل تأكيد: »أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ« (الانجيل حسب البشير متى 6:9).

والله المحب هذا لم ندركه من ذواتنا ولا بذكاء عقولنا المحدودة، بل إنّه من فرط محبته كشف لنا عن شخصه المحجوب عن عقولنا، مثلما عبّر العلامة المسيحي »ترتوليانوس« (ولد بقرطاجة تونس وعاش ما بين سنة 155 م إلى 220 م) عن قصر عقولنا لإدراك الله بقوله: »كما أنّ وضع مياه المحيط بأكمله في كأس هو أمر مستحيل، فهكذا هو الحال معنا بالنسبة لإدراكنا لله غير المحدود، إذ لا يمكننا أن نحدّه بعقولنا الصغيرة«. أو كما عبّر عن ذلك أحد المفكرين المسلمين بقوله: »كيف للعقل المحدود أن يدرك اللامحدود؟«. حقاً إنّ العقل البشري محدود ولا يمكنه إدراك الله غير المحدود. ولسبب قِصَر مداركنا، كشف الله لنا عن شخصه بواسطة الكلمة المتجسّد »يسوع المسيح«. فالله وحده يرفع بعض الحجب عن أعيننا فترى الناس بريق لمعان نور ذاته وصفاته تعالى بعين القلب، فنور القلب كما عبر عن ذلك أحدهم بقوله: »إن نور القلب أضوأ وأشرق من شمس النهار«. فهو الذي يضع قبسات من نوره في قلب العابد المؤمن به.

وهذا لا يعني أنّ المسيحية تدّعي معرفة جوهر الله. فالجوهر لا يدركه العرض، ولا يمكن لأي إنسان معرفة جوهر الله، لذا فالاعلان الذي تشير إليه المسيحية هو إعلان الله للبشر. إذ هو الذي وضع قبسات من نوره الوهاج في قلوب مطيعيه والسائلين عن شخصه لفعل مرضاته في حياتهم. وهذا من كمال الله في أن يعلن عن ذاته لعباده وأثقيائه.

إنّ أبوة الله لا يمكن سبر غورها والوصول إلى مكنوناتها دون معرفة الابن الذي هو أعلن وخبّر عن هذا السر، وذلك لسبب قصر إدراكنا لكُنَه الله. لذا أطلعنا هو بذاته بواسطة المسيح يسوع على سرّه الذي لا تدركه العقول. فالله تجلّى لنا في المحبة، وأظهر هذه المحبة في المسيح يسوع. »لِأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:16).

فالله من دفق محبّته لنا، لم يدعنا نتخبط في لجج جهلنا أو نسبح في ضباب أخيلة عقولنا، بل أعلن عن ذاته الصمدانية في الثالوث المقدّس: الآب والابن والروح القدس.

والأبوة في المسيحية، هي ليست كما وصفها أبو كنيسة الالحاد المعاصر »لودفيك فويرباخ« (Ludwig Feuerbach). وادعى بأن الله هو مجرد إسقاط فكر الانسان (Ein Projection des Menschen) أي أنّ الانسان بعدما راح يبحث ويفتش عن اللامتناهي اللامحدود، وبعد أن فشل في تحقيق اشتياقه للوصول إلى هذا اللامتناهي أسقط هذه الفكرة على ذاته. فالله هو مجرد شوق وتمنيات الإنسان. وقد أوضح فكرته هذه بقلبه الآية الكتابية إلى التالي: »إنّ الإنسان خلق الله على صورته«. هذا ما وصل إليه العقل البشري. فالإنسان مهما حاول بفكره وجهده الخاص معرفة الأزلي دون طلب العون الإلهي سيسقط ولا محالة في جهل وغباء أكثر مما وصل إليه »فويرباخ«.

وها هو ملحد آخر لم تشبعه فكرة »فويرباخ«. فأطلق العنان لفكره وراح يحلق في فضاء الكفر والإلحاد هو »سيغموند فرويد (Sigmund Freud) الذي قال: إنّ الله هو مجرد فكرة عن أب متعال متسام بعيد. وهذا الاب، حسب رأي »فرويد«، هو ناتج عن ضعف الإنسان وعجزه. فالإنسان منذ طفولته بحاجة لأب يحميه، وعندما يبلغ هذا الإنسان الكبر يجد نفسه دائماً ضعيفاً عاجزاً لا ناصر له. فيتوهم ويخلق لنفسه صورة عن أب يتّصف بالقوة والجبروت، متعال متسام عن الكل. هذا هو الله الذي أنتجه »فرويد«.

أما الفيلسوف »فردريك نيتشه« (Friedrich Nietzsche) الذي جُنّ في آخر حياته، فلم يبتعد كثيراً عن سابقيه حيث قال: »بما أنّ الإنسان اعتبر نفسه شريراً ابتدع فكرة الخير، ولأنّه كذاب خلق فكرة الصدق، ولأنّه بشع كوّن فكرة الجمال«. فاعتبر »نيتشه« أنّ كل هذه الافكار هي مجرد تمنيات وخيالات الإنسان. والله هو مجرد خيال الإنسان لا حقيقة له خارجه.

والحق يقال: لو كان إلهنا مثل ما تخيله الفلاسفة، لكان فعلاً إلهاً باطلاً. ولو حاولنا إحصاء ودرس الآلهة المخزونة في عقول البشر، لهالتنا كثرة تنوعها وتضاربها بعضها مع بعض. كم هم الذين يتخيلون الله وكأنّه شيخ جليل وقور، أكل الدهر عليه وشرب، علمه محصور في الماضي ويعيش على هذا الماضي وحده؟ أو كأنّه مدير إدارة من الصعب الاتصال به؟ أو كالأب الذي يترنح تحت أعباء الحياة ومتطلباتها، مشغول بأبنائه في سدّ جميع احتياجاتهم ومطالبهم المتعددة؟

قد أصاب الفيلسوف »سبنسر« بقوله: »يستحيل على العقل البشري أن يعلم من أمر الله شيئاً«. إنّ الله أسمى من كل تصوّر بشري. ولولا بُعد الإنسان عن الله بقلبه وفكره لما كان على الله أن يعلن ذاته للبشرية. فحضور الله في الجسد لم يكن ليعطينا تعريفاً من يكون الله. بل أنّه أرادنا أن نعيش فيه وهو فينا »لأنّ الَلّهَ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي اللّهِ وَاللّهُ فِيهِ« (1 يوحنا 4:16). وأن نكون دوماً في حضرته لأننا تاج خليقته. فأرادنا أن نكون أولاده بالروح »اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الْآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلَادَ اللّهِ« (1 يوحنا 3:1). إذن فالإنسان في نظر الله هو أسمى مخلوقاته يحظى باهتمام كبير من لدنه

حضور الله في الجسد

قد يبدو لأول وهلة وكأنّه أمر مستحيل على الله أن يصدر منه عمل مثل هذا، لأنّ عقلنا يرفض ولا يقبل به. فكيف لله العلي أن ينزل إلى مستوى البشر؟ حاشا لله العلي أن يتساوى ومخلوقه الإنسان. الحق يُقال إنّه بتفكيرنا هذا، نضفي على الله تعالى صفة العجز وعدم القدرة على فعل ما يشاء. فكيف لا يظهر في جسد بشري وهو القدير على كل شيء؟ فلماذا يستحيل عليه التجسد؟ أليس هو القادر على كل شيء؟ فالتجسّد بالنسبة له ليس بمستحيل، ما دام لا يتعارض مع صفاته وقدرته، ودون أن يفقد أو يقلل من سلطانه وجلاله السامي. إنّ في تجسد الله وحلوله بين البشر سمواً عظيماً. ففكرة التجسّد ليست وليدة فكر الإنسان بل هي إعلان من الله للبشرية جمعاء، وهي التي انقسمت فيما بينها بين مصدِّق ومكذّب، إلى مؤمن وجاحد. »لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَرَفُوا اللّهَ لَمْ يُمَجِّدُوهُ أَوْ يَشْكُرُوهُ كَإِلهٍ، بَلْ حَمِقُوا فِي أَفْكَارِهِمْ، وَأَظْلَمَ قَلْبُهُمُ الْغَبِيُّ« (رومية 1:21).

كان الله في القديم يعلن عن ذاته للبشر بواسطة الأنبياء والرسل والملائكة خدامه الأطهار. إلا أنّه أخيراً أعلن عن ذاته من خلال المسيح يسوع كلمته المتجسّد. فالمسيح هو سر الله المعلن. الكلمة الذي صار بشراً. فمعرفتنا المسيح يسوع هي معرفة الله الصمد، كما صرّح يسوع بقوله: »اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْآبَ... أَنَا فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 14:9-10).

الله في المسيحية، كما قال الدكتور ميشيل الحايك »هو غيب وحضور«. فليس هو ذلك الإله البعيد في سمائه، المحجوب عن عباده، بل أصبح حاضراً في المسيح يسوع وفي المؤمنين به، ومحجوباً وغائباً عن أولئك الذين امتنعوا عن قبول إعلانه في المسيح يسوع. فالمسيح يسوع هو التنزيل ذاته. وهذا أعمق ما يمكن أن يكشفه الله لعباده. ففي المسيحية نجد ذروة الإعلان أو التنزيل. كلمة الله صار بشراً وخاطبنا مباشرة. وكان لا بد من أن يتّخذ لنفسه هيئة مثلنا ليكلمنا من خلالها، كي نفهم عنه أمره ونهيه ونسلك في النهج الذي ارتضاه لنا.

كان الوحي قبل المسيح إلهاماً وتنزيلاً، فصار في المسيح كشفاً ذاتياً. قال المسيح له المجد: »أَنِّي أَنَا فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ؟ الْكَلَامُ الَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لكِنَّ الْآبَ الْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ. صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الْآبِ وَالْآبَ فِيَّ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 14:10-11). كما نقرأ في الانجيل أيضا: »اَللّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ خَبَّرَ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 1:18). والبنوة في المسيحية لا يراد بها المعنى الحرفي للكلمة، وكأن لله مولود. حاشا لله هذا، بل إنها تحمل معنى روحياً محضاً لا صلة لها بالمفهوم البشري الذي يحمل فكرة التناسل كما هو الحال مع البشر، ولا الفيض كأن الله فاض عنه فكره فتجسد في المسيح كما هو التصور عند فلاسفة الإغريق قديماً ولا هو تحول وتطور الإنسان الى الألوهية. بل البنوة تعني إعلان الله أي الوحي المنظور

بنوّة المسيح

عندما نتحدث عن بنوّة المسيح لا نشير على الإطلاق إلى أية علاقة جسدية تناسلية، كما يعتقد البعض عند سماعهم كلمة ابن.

البنوة في المسيحية لا تُفهم إلا من وجهة نظر مفهوم الثالوث الموحد. فهي تختلف كلياً عن أي مفهوم للبنوة، أكانت بالمفهوم البابلي أو المصري أو الروماني أو اليهودي.

كان المصريون يعتبرون ملوكهم أبناء الله بالجسد بطريقة أسطورية متولوجية. بينما البنوة عند البابليين كانت بمفهوم التبني الشرعي. وهذا المفهوم البابلي هو الذي تبناه البلاط الملكي الإسرائيلي. فنجد الاشارة إليه في مواضع متعددة من العهد القديم. فالملك عندهم كان ابن الله، وهذا لا يعني أنّ الله ولده بالجسد، بل اختاره وتبناه. يقول الله للملك: »أَنْتَ ابْنِي. أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ« (سفر المزامير 2:7).

كما أنّ الشعب اليهودي برمته كان يعتبر نفسه ابناً لله. ونجد هذا في سفر الخروج (أحد أسفار التوراة) عندما أمر الله موسى أن يكلم فرعون بقوله: »فَتَقُولُ لِفِرْعَوْنَ: هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ: إِسْرَائِيلُ ابْنِي الْبِكْرُ. فَقُلْتُ لَكَ: أَطْلِقِ ابْنِي لِيَعْبُدَنِي، فَأَبَيْتَ أَنْ تُطْلِقَهُ. هَا أَنَا أَقْتُلُ ابْنَكَ الْبِكْرَ« (سفر الخروج 4:22-23). وبهذا فالشعب اليهودي بأكمله كان يُعتبر ابناً لله على أساس اختيار الله له. أما الملك فكان ابن الله بنوع فائق، فهو مسيح الله بمعنى مفروز ومكرّس لخدمة خاصة.

أمّا البنوة في المسيحية فقد تخطت جميع هذه المفاهيم، فهي تختلف عنها كل الاختلاف. وهي تسمو على المفهوم اليهودي، الذي اعتبر البنوة مجرد تبنّي. ولو لم يكن المسيح يخالف اليهود في مفهومهم للبنوة، لما قاموا ضده يعادونه ثم يترقبون الفرص السانحة للقبض عليه وإدانته ثم محاكمته. لأنّ المسيح صرّح علانية بأنّه في الله والله فيه، وبأنّه متّحد في الله. ولا شيء يعمله أو يقوله من ذاته منفصلا عن الآب. وحتى تلاميذ المسيح لم يدركوا عمق البنوة التي كان يشير إليها المسيح من حين لآخر. فقد كان المفهوم اليهودي للبنوة مسيطراً على عقولهم، ولم يتحرروا منه إلا بعد أن حلّ الروح القدس عليهم وأنار عقولهم. فاتّضح مفهوم البنوة بأكثر وضوح وجلاء، وتغلغل المفهوم الجديد في أعماقهم. وانطلقوا بكل شجاعة وبسالة دون تردّد ليعلنوا للجميع هذا السر العجيب، وهو حضور الله في الجسد. وهكذا حررهم الروح القدس من المفهوم العتيق وأزاح الغشاوة عن بصائرهم، وفهموا أنّ المسيح هو كلمة الله المتجسّد. »الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً« (الانجيل حسب البشير يوحنا 1:14). فبواسطة الوحي الإلهي تبين لهم ما أُخفي عن أبصارهم وأفئدتهم، أن المسيح يسوع هو إعلان الله أي الوحي المنظور _ صورة الله غير المنظور _ (كولوسي 1:15 ) ونطق الله الذاتي (يوحنا 1:1).

في الابن أعطى الله لعباده أن يعرفوه عن قرب كي لا يبقى محجوباً بعيداً عن خلقه، فالله لا يُرى ولا يمكن أن تدركه الأبصار والعقول، لذا كان من الضروري أن يعلن عن ذاته من خلال التجسد، اَللّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ خَبَّرَ (يوحنا 1:18)، وكلمة »خبّر« هنا تفيد الكشف أي كشف الله ما أُغلق على الأفهام وما لم يدرك كنهه البشر، وقيل في المسيح كذلك إنه الله الظاهر في الجسد (1تيموثاوس 3:16). كما أن فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً (كولوسي 2:9)، و»ملء« تعني في كامله، أو كمال الألوهية جسدياً. فبما أن الله كامل من كماله التجسد والظهور في صورة البشر، لقد أصاب الحلاج الفيلسوف الصوفي عين الصواب عندما أنشد قائلا:

سبحان من أظهر ناسوته

سرَّ سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهراً

في صورة الآكل الشارب

عمل المسيح الكفاري

لم يكن التجسّد أو الظهور الالهي اعتباطياً بلا غاية أو قصد، بل كان من أجل إنقاذ الجنس البشري كله من القصاص المحتوم على كل خاطئ انقاد وراء الضلال وحاد عن الصراط المستقيم، بتماديه في غوايته وضلاله وعصيانه لوصايا الله ونواهيه. والإنسان هو ساقط بطبيعته لأنّه وارث الخطية وهي متأصلة فيه، لأنّه ابن آدم وحواء اللذين أورثا روح العصيان والتمرد للانسانية جمعاء، لأنّهما سقطا أولاً قبل الكل، فانتقلت العدوى من جيل إلى جيل دون أن تستثني أحداً.

ولانّه وارث الخطية، أصبح بطبعه ميالاً للتمرد على الله وعصيانه، ولم يقدر بالتالي أن يستأصل الخطية من ذاته. فراح يجري وراءها يتجرّع سمومها، ويلتذّ بطعمها القاتل.

وقبل أن نتطرق لموضوع الخلاص والمخلّص، علينا أولاً أن نفهم معنى الخطية، وهذا حتما يقودنا لمعرفة الخاطئ.

مفهوم الخطية

جاءت الخطية من خطأ ومعناها »عدم إصابة الهدف«. والخطية تعني ارتكاب الذنب والإثم. وهي ليست الشر الشنيع فحسب، كما يظن البعض، بل هي كل ما هو انحراف وابتعاد عن أمر الله ونواهيه. فالخطية في أصلها ابتعاد الناس عن الله وإرادته الصالحة.

من هو الخاطئ؟

الخاطئ في نظر الله هو الذي انفصل عنه، سواء ارتكب خطايا كثيرة، أو فعل خطية واحدة، وسواء أكانت هذه الخطية بالفعل أم بالقول أم بالفكر، سوداء أم بيضاء، كبيرة أم صغيرة. فالكتاب المقدّس يعلن لنا أنّه: »لِأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي الْكُلِّ« (يعقوب 2:10). كما أنّ الوحي المقدّس لا يتوقف عند هذا الحد، بل نجده يعلن لنا بأكثر جلاء بأنّ جميع الناس قد تمادوا في الشر والعصيان وأظلمت بصائرهم إذ يقول: »الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللّهِ« (رومية 3:23). كما نقرأ في السفر ذاته: »أن الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ« (رومية 3:12). وهكذا نجد أنّ الخطية التي اقترفها الإنسان سببت عداوة بين الله والناس، فأصبحت هناك هوة سحيقة تفصل الإنسان عن الله. وتحتّم بهذا دينونة الخاطئ بالموت: »لِأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ« (رومية 6:23). وهكذا أصبح الإنسان يعيش بعيداً عن الله، كالخراف التي ضلّت الطريق وابتعدت عن راعيها، فتاهت بعيداً في القفر المخيف المرعب.

لكنّ الله بدافع محبته لنا لم يتركنا في بُعدنا وتيهنا، بل مدّ يده المنقذة ليجتذبنا إليه وينقذنا من حافة الموت التي تترقبنا. وما هذه اليد المخلّصة المنقذة سوى يسوع المسيح عينه، الذي جاء خصيصاً لإنقاذنا من الهلاك الذي نندفع صوبه. فاتّخذ الله هيئة مثلنا وعاش بيننا واختبر كل ما اختبرناه فيما عدا الخطية التي انتصر عليها. فقدّم ذاته فداءً لأجل خلاصنا، لأنّ عدل الله تعالى يطلب القصاص لكل نفس خاطئة: »اَلنَّفْسُ الَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ« (حزقيال 18:20). وبهذا نرى كيف أنّ العدالة الإلهية التحمت بمحبته عندما أُسلم المسيح يسوع للصلب من أجل التكفير عن آثامنا.

فالمسيح يسوع هو الضحية الإلهية الذي لا عيب فيه. قدّم ذاته من أجل حصولنا نحن على العفو الإلهي، كي نمثل قدامه بلا عيب أو لوم، متبررين مجاناً بما فعله على الصليب من أجلنا.

وربما يسأل سائل: لم كل هذه الدراما المثيرة؟ ألم يكن بوسع الله أن يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء؟ ثم ألم يجد الله طريقة أخرى يكفر بها عن آثامنا دون سفك الدماء وصلب المسيح؟

إنّ الله عادل، وبمقتضى عدله أعطى الحرية لعباده في أن يختاروا فعل الخير أو الشر، الطاعة له أو عصيانه. كما أنّ إرادته ومشيئته لا تطلب هلاك أي نفس بل خلاصها. حيث نقرأ في كلمة الله المدونة في الإنجيل: »إنّ اللّهَ، يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ. لِأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللّهِ وَالنَّاسِ: الْإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لِأَجْلِ الْجَمِيعِ« (1 تيموثاوس 2:4-6).

الخلاص هو هبة مجانية من الله لكل من يؤمن بعمل المسيح الفدائي الذي أتمّه على الصليب. وهذا العمل شبيه بما حدث في القديم مع شعب الله في برية سيناء، عندما لدغتهم الحيات السامة. فأمر الله موسى برفع حية نحاسية على عمود ، وطلب من كل من لدغته حية، أن ينظر إلى الحية النحاسية المرفوعة على العمود، فينال الشفاء من الموت المؤكد. وبذات المعنى عُلّق المسيح على خشبة الصليب، فكل من يؤمن بعمله الفدائي ينال الخلاص والنجاة من دينونة الله العادلة القاضية بقصاص كل مَن يخطئ. كما ورد في الوحي المقدّس: »وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الْإِنْسَانِ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:14).

فالله يطلب منا الايمان به، وقبول هذا الخلاص الذي أعدّه لنا في المسيح يسوع، »لاَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 3:16).

الله هو المخلّص والمنقذ. هو الرحمان الرحيم الرؤوف بعباده. وهكذا لا يبقى أي مجال للإنسان في أن يفتخر على الله في شيء. مصداقاً لقول الله الذي جاء على لسان بولس الرسول: »لِأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالْإِيمَانِ، وَذلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللّهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ« (أفسس 2:8-9).

ثم لو أنّ الله يغفر لمن يشاء، ويعاقب من يشاء لكان ظالما، وهذا محال في طبيعته تعالى. ثم لو دبّر طريقة أخرى غير الصليب، لبقي السؤال هو هو: لماذا لم يختر طريقة أخرى غير هذه؟ فالصليب وحده هو الطريق الذي تلتحم فيه المحبة بالعدالة الالهية الحقة. وإذا كان الإنسان اليوم يعترف بأن العار لا يُغسل إلا بالدم، فكم بالحري خطايا الإنسان! وأي دم هذا يقدر على غسل آثام وأقذار بني الإنسان؟

فالإنسان هو تاج خليقة الله، الذي يحمل في كيانه نسمة الله تعالى. أولا يستحق هذا المخلوق فداء من ربه؟

إنّ الله خصّ الإنسان بعناية تامة ومحبة فائقة الوصف دفعت به أن يقدّم من أجل هذا الإنسان كفارةً لا مثيل لها، إذ قدّم ابنه الوحيد كفارة من أجل خطايانا.

ثم ضمن عملية الفداء، القيامة المجيدة. لأنّه لو بقي المسيح في القبر ولم يقُم، لكان إيماننا باطلاً والكفارة لا معنى لها. كما أشار إلى ذلك الرسول بولس بواسطة الوحي المقدّس: »وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَسِيحُ قَدْ قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ« (1 كورنثوس 15:14).

فقيامة المسيح في اليوم الثالث من بين الأموات عربون على قيامتنا معه، وحصولنا على غفرانه تعالى. ولقيامة المسيح يسوع من بين الأموات، شهود وإثباتات كثيرة نذكر منها

شهادة النبوات في أسفار العهد القديم، التي تشير بوضوح إلى موت وقيامة المسيح بعد صلبه واختباره أوجاع الموت.

شهادة المسيح عن نفسه. قد تحدّث المسيح مراراً وتكراراً عن طريق الصليب الذي هو سائر باتجاهه، ثم قيامته منتصراً على سلطان الموت.

شهادة الرسل والكرازة بقيامة المسيح بعد الصلب.

شهادة مؤرخين يهود ووثنيين أمثال: يوسيفوس اليهودي، وتاسيتوس الوثني الروماني، ولوسيان اليوناني. (أشار كل هؤلاء إلى حادث صلب المسيح).

شهادة التواتر. فالكنيسة منذ نشأتها تشهد للصليب والقيامة. وقد تناقل أبناء الكنيسة المسيحية عبر الأجيال حادث الصلب، وكان مركز تعليمهم ورمز انتسابهم للمسيح المصلوب والمقام من بين الأموات ظافراً

مجيء المسيح ثانية

نجد الوعد الإلهي بمجيء المسيح ثانية لعالمنا، فور صعوده إلى السماء، إذ أنبأ ملاكان أتباعه بعد الصعود: »إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ« (أعمال 1:11).

ومجيء المسيح ثانية لن يكون كما كان في مجيئه الأول. فالمجيء الأول كان قصده الخلاص وفداء البشرية. أما مجيئه ثانية فهو ليدين الأحياء والأموات، الذين رفضوه ولم يقبلوا فداءه وخلاصه الذي أعدّه لهم. هؤلاء سينالون في ذلك اليوم العذاب الأكبر.

والمجيء الثاني للمسيح له أهمية كبرى في حياة المؤمنين. فالمؤمنون الأوائل عاشوا يترقبون هذا المجيء وتطلعوا إليه بكل أشواقهم. فالمؤمن المسيحي في كل عصر يعيش حاضره على رجاء هذا المجيء، يترقبه بكل جوارحه، فيعيش حياة الترقب والانتظار على استعداد لملاقاة سيده. لذا عليه أن يحيا حياة تليق بسيده الآتي، حياة مثمرة تتماشى وإنجيل المسيح. هذا هو سر انتظار مجيء المسيح ثانية.

الإيمان المسيحي ليس حديثاً عن الماضي، بل هو حياة في الحاضر ولأجل المستقبل. فالمسيح جاء ليعطينا حياة كي نحياها ورجاء نعيشه. فالإيمان المسيحي كله رجاء للحياة العتيدة. لهذا يعيش المؤمن يقظاً، لأنّه »لَوْ عَرَفَ رَبُّ الْبَيْتِ فِي أَيِّ هَزِيعٍ يَأْتِي السَّارِقُ، لَسَهِرَ وَلَمْ يَدَعْ بَيْتَهُ يُنْقَبُ« (الانجيل حسب البشير متى 24:43).

ويحض المسيح يسوع كل مؤمن أن يعيش حياة الايمان، ولا يتوانى في الاستعداد لاستقبال سيده لأنّه يقول: »اِسْهَرُوا إِذاً لِأَنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ، أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحاً؟« (الانجيل حسب البشير مرقس 13:35). ومطلوب من كل مؤمن أن يعيش حياة الاستعداد. »فَكُونُوا أَنْتُمْ إِذاً مُسْتَعِدِّينَ، لِأَنَّهُ فِي سَاعَةٍ لَا تَظُنُّونَ يَأْتِي ابْنُ الْإِنْسَانِ« (الانجيل حسب البشير لوقا 12:40).

وهذا الإنتظار يعطي المؤمن المسيحي قوة الاحتمال والصبر، لأن مستقبلاً بهياً زهياً ينتظره مع سيده وربه. فالإنسان الذي لارجاء له يعيش في بؤس وتشاؤم مستمر، وسر انتصار المؤمن المسيحي على مشاكل العالم والآلام المحيطة به تكمن في سر هذا الرجاء وهذا الانتظار والترقب لمجيء المسيح يسوع

لا نقصد بالروح القدس الروح المخلوق، بل الروح الأزلي، روح الله. فهو جوهر الله. هو الله جلّ شأنه، (أعمال 5:3 و 4، 1كورنثوس 3:16). وأقنوم الروح ليس بخيال بل هو كيان مميز عن الآب والابن، بيد أنه غير منفصل عن الله، وكما أن روح الإنسان هو كيانه في الصميم أي جوهره بالذات، كذلك روح الله هو الله ذاته أي الله في صميم كيانه أو جوهره بالذات. إن الله حاضر في العالم من خلال روحه، ويعمل في نظام خليقته بواسطة روحه (تكوين 1:2، إشعياء 48:16، 63:6 و 10) كما أنه هو الذي يقود ويدفع خدامه بواسطة الروح القدس ليعلنوا رسالته لعباده، وذلك مصداقاً لقول الكتاب المقدّس: »لِأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ« (2 بطرس 1:21).

كما أنّ الروح القدس هو الذي يحرك القلوب للإيمان، ويمنح المؤمن قوة عمل المعجزات والتنبُّؤ (أعمال 19:6) ويعطي المصلي ما ينبغي أن يصليه، ويمنح المواهب الروحية المتعددة لكنيسة المسيح (1كورنثوس 12: 4-12)، وهو الذي يبكت ضمائر الخطاة ويدفعهم الى التوبة ويحرك في أعماقهم الدافع لقبول الإعلان الإلهي، ويمنح المطيعين لصوته حياة روحية طاهرة تنسجم وروح الله، (يوحنا 16:8، و غلاطية 6: 16-25)،كما وأنه ينمي مفعول كلام الله في الناس كي يدركوا مقاصده تعالى في حياتهم ويستنيروا بنور هديه. وهو الذي وبيده الحكمة يؤتيها من يطلبها. ويسكب المحبة في قلوب المؤمنين ويعطيهم القوة والغلبة على الشر المحيط بهم، وينصرهم على سلطان إبليس. وهو الذي يقدّس ويطهّر الى التمام، فهو كالبوتقة التي ينصهر فيه المؤمن فيظهر بريق ولمعان الله فيه.

الإنسان لا يستطيع أن يدرك الله بعقله ولا باعتماده على فهمه، لأنّه محدود. لكن الروح القدس هو الذي ينير عقولنا وينزع الظلمة من أفئدتنا والغشاوة عن عيوننا. فنستنير بقبسات من نوره. وهذا العمل لا يستطيعه أي مخلوق، ملاكاً كان أم بشراً، إلا الله وحده. ولا يمكن على الإطلاق أن يكون الروح القدس إشارة إلى أي إنسان كان، إلا إلى الله وحده.

فاسمع ما يقوله الروح القدس عن ذاته: »أُمُورُ اللّهِ لَا يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلَّا رُوحُ اللّهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللّهِ، لِنَعْرِفَ الْأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللّهِ، الَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضاً، لَا بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ، قَارِنِينَ الرُّوحِيَّاتِ بِالرُّوحِيَّاتِ. وَلكِنَّ الْإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لَا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللّهِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيّاً« (1 كورنثوس 2:11-14).

كما أنّ الروح القدس هو المعلم الأكبر في كنيسة المسيح عبر العصور والأزمان، حسب وعد المسيح لاتباعه: »وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 14:26)، وبدون الروح القدس لا يقدر إنسان ما أن يقول إن يسوع المسيح هو رب (1كورنثوس 12:3).

ثم أنّ الروح القدس المنبثق من الآب يشهد لعمل المسيح، فنقرأ قول المسيح لتلاميذه: »وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً لِأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الِابْتِدَاءِ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 15:26). فواضح من هنا أنّ الروح القدس هو روح وليس بملاك ولا بشر، بل هو روح منبثق من الله الآب، به يعبر الآب والابن عن نفسيهما ويعاملان البشر من خلاله، وبواسطته يتحد الله بالإنسان والإنسان بالله، فالروح القدس هو الله الذي كلم الإنسان بواسطة الأنبياء وكلم الإنسان بالمسيح، فهو الشاهد في الإنسان المؤمن لله، وهو الذي يقود الإنسان ليعمل ما يرضي الله، وهو ليس بقوة يكتسبها الإنسان المؤمن ليقوم ببعض الأفعال، بل هو قوة الله تملك المؤمن وتقوده لفعل مرضاة الله

الكنيسة المقدّسة الجامعة

الكنيسة كلمة مأخوذة عن السريانية »كنوشتا« والتي تعني مجمعاً. أما الكلمة المستخدمة في العهد الجديد (الإنجيل) فهي الكلمة اليونانية »إكليزيا« وتعني جماعة مواطنين يونان انتدبتهم الحكومة ليكونوا مسؤولين عن قرارات سكان المدينة بأسرها. وقد اختار المسيحيون الأوائل هذا الاسم لأنفسهم، لأنّه يناسب وضعهم ومسؤولياتهم، ولكي لا يجد اليونانيون صعوبة في فهم قصدهم وتجنّباً من أن يسيء أعداؤهم فهمهم، فينعتونهم بما ليس فيهم.

والمسيحيون مدعوون من الظلمة إلى النور، ومحررون من قبضة إبليس والموت الأبدي، ومدعّوون إلى الطهارة والعفة والقداسة والحرية ثم الحياة الأبدية. فهم ملح الأرض ونور العالم كما وصفهم المسيح.

كما أنّ كلمة »كنيسة« لم تُستعمل بوضوح في العهد الجديد للدلالة على المبنى الذي يجتمع فيه المسيحيون لممارسة فريضة العبادة. وبالمكان الذي يجتمع فيه الناس لمناقشة القرارات السياسة، أو اللقاءات كما هو الحال والأندية، بل هو جمع من المؤمنين تربطهم وحدة الإيمان وعبادة الصمد.

وهذه الكنيسة تتألف من كل الذين قبلوا المسيح رباً وفادياً لهم من الموت الأبدي. وكل مؤمن بالمسيح يعتبر عضواً فيها وجزءاً لا يتجزأ منها، لأنّها مؤلفة من المؤمنين المفديين بدم المسيح المسفوك من أجلهم على الصليب. وهي بكاملها جسد المسيح. ومثلما تكمل الأعضاء بعضها البعض، هكذا المؤمنون بالمسيح يؤلفون وحدة كاملة.

وهذه الجماعة أو الكنيسة لها مهمتها ومسؤوليتها التي عيّنها لها الرب. فهي مطالبة بنشر الدعوة بين الشعوب والأمم كي يتمّجد اسم الله الذي دعاها، وذلك حسب وصية المسيح لها: »اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالْإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا« (الانجيل حسب البشير مرقس 16:15).

كما يجب أن تكون المحبة الرباط الذي يشدّ كل عضو نحو الآخر. فهي أيضاً العلامة المميزة للكنيسة، التي أوصى بها يسوع أتباعه قائلا: »وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلَامِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 13:34-35).

والجماعة المسيحية مطالبة أيضاً بالشركة والوحدة وممارسة العبادة الجماعية. فليست الكنيسة فرداً بل جماعة، لذا فالعبادة الجماعية أمر مهم لا مفر منه. والمؤمن الحق هو الذي لا يفرط ولا يقلل من أهمية العبادة الجماعية والشركة مع أعضاء آخرين في الجسد الواحد، لأنّ كل فرد من أفراد الكنيسة هو كالحجر في البناء الواحد. كما أنّ الرب أعطى لكل مؤمن به موهبة يقوم بها داخل الكنيسة. والمواهب متعددة وكلها لغاية واحدة وهدف واحد هو تمجيد اسم الله. ولا توجد في الكنيسة المسيحية موهبة أفضل من الأخرى، لأنّ لجميعها هدفاً واحداً، وهي معطاة من الرب الواحد لتمجيد اسمه. والروح القدس يقسم لكل واحد هذه المواهب، بمفرده، كما يشاء.

وليس المؤمن المسيحي هو ذلك الشخص المعصوم من الخطأ والخطية، بل إنّه دوماً معرّض للخطأ والزلل. ولو أنّ هذا لا يعني أنّه ميال للخطية أو يتساهل معها، بل أنّ الطبيعة الجديدة فيه تشمئز من فعل الشر وكل أصناف الرذيلة. وإذا ما سقط وزلّ، فعليه فوراً القيام والاعتراف أمام الرب بخطئه والتوبة الصادقة. وإذا اقترف أية خطيئة ضد أي إنسان فعليه أن يطلب الصفح أولاً من الشخص الذي أخطأ إليه ثم من الله. والمسيحي المؤمن الصادق هو ذاك الذي يحتاج إلى الغفران كل يوم لأنّه: »إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا. إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ« (1 يوحنا 1:8-9

القيامة والحياة الأبدية

الكتاب المقدّس هو وحي الله، وعليه نعتمد فيما يتعلّق بالقيامة والخلود. وهو يعلّمنا أنّه توجد قيامة وحياة بعد الموت، وأنّه في ذلك اليوم سيقوم الأبرار والأشرار، وتقدّم كل نفس حساباً عما فعلت، فيكون الوعد للأبرار والوعيد للأشرار، كما أعلن ذلك المسيح يسوع له المجد حين قال: »وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. »ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ... فَيَمْضِي هؤُلَاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالْأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ« (الانجيل حسب البشير متى 25:31-34 و 41 و 46).

فمن هنا يتبيّن لنا أنّه في ذلك اليوم العسير، سيكون الجزاء للابرار والعقاب للأشرار الذين رفضوا المسيح يسوع المخلّص الذي بيده ستكون الدينونة، إذ نقرأ في الإنجيل: »لأَنَّ الْآبَ لَا يَدِينُ أَحَداً، بَلْ قَدْ أَعْطَى كُلَّ الدَّيْنُونَةِ لِلِابْنِ، لِكَيْ يُكْرِمَ الْجَمِيعُ الِابْنَ كَمَا يُكْرِمُونَ الْآبَ. مَنْ لَا يُكْرِمُ الِابْنَ لَا يُكْرِمُ الْآبَ الَّذِي أَرْسَلَهُ« (الانجيل حسب البشير يوحنا 5:22-23).

والقيامة، كما ذكرها الوحي المقدّس، تختلف كلياً عن تعليم الفلاسفة اليونان أمثال أفلاطون الذي أقرّ بخلود النفس بعدما تتحرّر من سجن الجسد. وكذلك عن تعاليم بعض الفلاسفة المسلمين أمثال الفارابي الذي كان متأثراً بالفكر اليوناني وخاصة بفكر أفلاطون وأفلوطين، عندما قال بعدم بعث الأجساد، لأنّ الجسد هو من عالم العناصر فيبقى فيه، والخلود يكون فقط في عالم العقول المفارقة. كما أنّ تلميذه ابن سينا يتفق مع معلمه الفارابي بعدم بعث الأجساد. ولكنّه يلطف من حدة قول الفارابي بخلود الأنفس العالمة فقط. لقد اعتبر ابن سينا النفس البشرية خالدة بطبيعتها لأنّها جوهر روحاني بسيط، إذ أنّها تستطيع أن تدرك الماهيات، والماهيات بسيطة. هذا ما وصل إليه الفكر الفلسفي بالنسبة للقيامة.

أما بالنسبة للدينونة فقد اتفق ابن سينا مع الفارابي بسعادة الأنفس العالمة، وشقاء الأنفس الجاهلة. والسعادة ستكون بتأمل الحقائق الأزلية في العقل الفعال. والشقاء سيكون بشعور هذه الأنفس بأنّها بعيدة عن هذه الحقائق وعن مصدرها. أما الوحي المقدّس فهو يحدثنا عن قيامة الأجساد، التي ستكون روحانية، فنقرأ قول بولس الرسول: »لكِنْ يَقُولُ قَائِلٌ: »كَيْفَ يُقَامُ الْأَمْوَاتُ، وَبِأَيِّ جِسْمٍ يَأْتُونَ؟«... وَلكِنَّ اللّهَ يُعْطِيهَا جِسْماً كَمَا أَرَادَ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُزُورِ جِسْمَهُ... ‚هكَذَا أَيْضاً قِيَامَةُ الْأَمْوَاتِ: يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ. يُزْرَعُ فِي ضُعْفٍ وَيُقَامُ فِي قُوَّةٍ. يُزْرَعُ جِسْماً حَيَوَانِيّاً وَيُقَامُ جِسْماً رُوحَانِيّاً. يُوجَدُ جِسْمٌ حَيَوَانِيٌّ وَيُوجَدُ جِسْمٌ رُوحَانِيٌّ... ‚الْإِنْسَانُ الْأَوَّلُ (آدم) مِنَ الْأَرْضِ تُرَابِيٌّ. الْإِنْسَانُ الثَّانِي (يسوع) الرَّبُّ مِنَ السَّمَاءِ. كَمَا هُوَ التُّرَابِيُّ هكَذَا التُّرَابِيُّونَ أَيْضاً، وَكَمَا هُوَ السَّمَاوِيُّ هكَذَا السَّمَاوِيُّونَ أَيْضاً. وَكَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ السَّمَاوِيِّ« (1 كورنثوس 15:35 و 38، 42-44، 47-49).

والدينونة بحسب ما جاء في الكتاب المقدّس لن تكون مجرد شعور الأنفس الشقية ببُعدها عن الله، بل سيكون هناك عذاب أليم بعد أن يقف الجميع أمام الديّان. »لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنَّنَا جَمِيعاً نُظْهَرُ أَمَامَ كُرْسِيِّ الْمَسِيحِ، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا كَانَ بِالْجَسَدِ بِحَسَبِ مَا صَنَعَ، خَيْراً كَانَ أَمْ شَرّاً« (2 كورنثوس 5:10).

فالعدالة الإلهية ستطلب دينونة كل شخص رفض كفارة المسيح واستهان بعمل الفداء. فهؤلاء سيكون جزاؤهم عذاباً أليماً وسيتعذبون في الجحيم. أما الذين قبلوا خلاص الله الذي أعدّه لهم في المسيح يسوع فلهم ميراث أبدي لن يفنى وسيسعدون في عالم الخلود، إنما هذه السعادة لا تُقارن بالسعادة الأرضية ولا بالأمور المادية الفانية كما هو الحال في عالمنا الأرضي، لأن عالم الروح غير عالم المادة الفانية، والدينونة العتيدة كذلك لا تُقارن بآلام الزمن الحاضر ولا بالعالم المادي الفاني المعرض للزوال والإندثار
 

الصفحة الرئيسية