من دحرج الحجر؟ براهين على قيامة المسيح

للمحامي . فرانك موريسون

حبيب سعيد نقله إلى العربية 


تقديم الكتاب

الأستاذ فرانك موريسون من كبار رجال القانون في إنكلترة، بدأ حياته متأثرا بالنزعة العلمية التي سادت القرن التاسع عشر وبآراء النقاد الذين جرّحوا روايات الإنجيل الكريم وخاصة من الألمان. وشرع يؤلف كتابا عن السبعة أيام الأخيرة من حياة المسيح في ضوء بحوث العلم. وبعد أن بحث وراجع وفنّد، أخرج في آخر الأمر كتابا عكس ما كان يريد، أثبت فيه حوادث المحاكمة والصلب والقيامة بالأدلة القانونية والمنطقية.

وقد تولى الأستاذ هذه القضية كمحام ضليع، وذهب في بحثه مذهب رجل القانون الدقيق في تصوير الوقائع وتفنيد الإعتراضات وإثبات الأدلة - متوخيا في هذا كله دقة البحث وطلاوة الأسلوب وروعة الاستنتاج وقوة المنطق.

وهو يبدأ بحثه من ليلة القبض على المسيح، ثم يسير بالقارئ خطوة خطوة، متتبعا الحوادث، معللا إياها تعليلا منطقيا رائعا، حتى يصل به إلى صباح القيامة. وقد جعل كتابه بعنوان أخاذ «من دحرج الحجر؟»(Who Moved the Stone) وكان له بين الناطقين بالانكليزية في أوروبا وأميركا رنة في عالم الدين والأدب، وأقبل عليه القراء إقبالا شديدا لروعة أسلوبه وقوة حجته وجلال موضوعه.

هذا هو الكتاب الذي نقدمه الآن إلى قراء العربية في الشرق، آملين أن يلقى من ا لتقدير ما هو أهل له، وأن يجنى من ناضج الثمر في الشرق قدر ما جنى في الغرب، والله المستعان.

الفصل الأول: الكتاب الذي لم يُكتب

لا أخال كثرة الكتّاب إلاّ مقرّين إنهم أخفوا يوماً في خبايا مكاتبهم الخاصة المسودة الغشيمة الأولى لكتابٍ لم يُقدرَّ له أن يرى النور لسبب من الأسباب.

والزمن في أغلب الأحوال هو المعتدي الأثيم الغشوم الذي ألصق طابع الرفض على هذا الكتاب والذي يحدث عادة أن تُكتب هذه المسودة في ساعة من الحماس ووحي الخاطر السريع، ثم تُلقى جانباً إلى أن يأتيها «الغد» وهيهات أن يجيء. فإن الكاهل يُبهَظ بمهمات عاجلة ومسؤوليات جسام، وتتسحب على هذه المسودَّة عوامل النسيان والإهمال. وتمر السنون سراعاً، إلى أن يستيقظ الكاتب يوماً ليرى نفسه غير قادر على إخراج الكتاب المزعوم.

أما في الحالة التي أنا بسبيلها فالأمر على نقيض ذلك!

لم يكن في حالتي هذه أن الإلهام عجز عن أن يسعفني، أو أن الفراغ لم يتوفر لي. ولكن الإلهام حين جاء ساقني إلى اتخاذ خطة غير منتظرة، وانتهاج طريق غير التي كنت أنوي السير فيها. وكأنني أشبه إنساناً اعتزم أن يعبر غابة من طريق مألوف مطروق، فوجد نفسه فجأة في اتجاه لم يخطر له على بال. كان مدخله إلى الطريق عادياً، ولكن مخرجه أدَّى به إلى غير ما أراد!

وليسمح لي القارئ أن أشرح في إيجاز ماذا أقصد من وراء هذا القول:

لما كنت شاباً يافعاً، شرعت في دراسة حياة المسيح درساً جديّاً. وقد فعلت ذلك وأنا شاعر شعوراً صريحاً أن تاريخه لم يقم على أسس ثابتة.

وإذا أنت رجعت بمخيلتك إلى الوراء، إلى مئة وخمسين سنة مضت، ألفيتَ في الإتجاه الفكري السائد تلك الفترة، ما يشرح لك هذا الذي أقول. نعم، أن الرأي السخيف السقيم الذي أنكر حتى تاريخية يسوع كان قد قُضي عليه وأمسى لا يُقام له وزن. ولكن النقاد المدققين - خصوصاً الألمان منهم - كانوا قد أفلحوا في نشر آراء بين طوائف الطلبة تقول أن قصة حياته وموته التي تلقيناها لم تؤخذ من مصادر وثيقة، وإن إحدى البشائر الأربع لم تكن إلا رسالة جدلية رائعة كتبت بعد عصره بسنين طوال، وربما بعد انقضاء أجيال كثيرة من العصر الأول.

وقد أغرقتُ، شأن كثيرين من الشبان أمثالي، في أشياء كثيرة، فلم تتهيأ لي الوسائل لتمحيص هذه الآراء وتكوين حكم مستقل. وقد ساد عالم الفكر في ذلك العصر جّو غريب تعرَّضت فيه كل كلمة في بشائر الإنجيل إلى النقد الصريح، وتباينت الآراء وتطاحنت، فلم يكن ثمة سبيل للهرب من تأثير هذا الجّو.

على أن مظهراً آخر أثَّر في نفسي تأثيراً عميقاً، ذلك أني كنت قد بدأت في دراسة العلوم الطبيعية. ولم يكن عسيراً على المرء في ذلك العصر أن يرى ما بين الفكر العلمي والعناصر المعجزية في الإنجيل من تباين وتناقض. وحتى الأشياء القليلة التي تركها النقاد دون أن يمسوها، جاء العلم وحطَّ من شأنها وخفض من قدرها. وأنا شخصياً لم أقم وزناً لآراء الناقدين قدر ما أقمت لرأي العلم في تقويض العناصر المعجزية. وخُيل إليَّ أن نقد الوثائق التاريخية قد يكون خاطئاً، ولكني استبعدت جداً أن تخطئ نواميس الكون فتحطّم نفسها بنفسها على هذا النحو. ألم يقل العلاَّمة «هكسلي»في عبارة صريحة إن «المعجزات لا تحدث»، بينما أنفق «ماثيو أرنولد» شطراً كبيراً من وقته محاولاً ابتكار مسيحية لا معجزة فيها، في إنجيله الشهير «التعقل العذب» "Sweet Reasonableness".

وكنت أحمل في نفسي توقيراً عظيماً لشخص يسوع المسيح نفسه، وتمثلته أمامي شكلاً خيالياً ومثلاً أعلى للطهر والرجولة النبيلة. وكنت أتألم شديد الألم إذا وجَّه أحدهم إليه كلمة نابية أو عبارة جافة، أو أخذ إسمه أخذاً تهكمياً. ولست أدري إلى أي حدّ أحسب في موقفي هذا خارجاً على المسيحية المحافظة على العقائد. على أن في قولي هذا تصريحاً صادقاً يعبر على الأقل عن إحساس شاب في تلك الأيام التي أخفت فيها الحذلقة السطحية الجوفاء الحقائق العميقة الثابتة الجاثمة وراءها.

حوالي هذا الزمن، رأيتني مسوقاً إلى أن أكتب - لا رغبة في النشر بل ابتغاء تهدئة عقلي الحائر - رسالة موجزة فيما حسبته أهم مظهر وأدق ناحية في حياة المسيح - وأعني بها السبعة أيام الأخيرة. وإن كنت قد تبينت فيما بعد أن الأيام التالية للصلب لها خطورتها وأهميتها. وكان العنوان الذي اخترته لرسالتي: «يسوع في المظهر الأخير». واقتفيت في هذا أثر بحث تاريخي شهير عن نابليون بقلم اللورد روزبري.

وقد اخترت السبعة أيام الأخيرة من حياة يسوع لأسباب ثلاثة:
  1. خلت هذه الفترة من العناصر المعجزية التي كانت عندي موضع ريبة، لأسباب علمية.
  2. أفسح كُتَّاب بشائر الإنجيل لهذه الفترة من حياته فراغاً كبيراً، وجاءت أقوالهم متفقة اتفاقاً يسترعي النظر.
  3. كانت محاكمة يسوع وموته حادثة تاريخية داوية تؤيدها بطريق غير مباشر كثير من الوقائع السياسية وسيل زاخر من المؤلفات التي دارت حولها.

وخُيل إليَّ أنه لو استطعت أن أتبيّن السبب الذي مات من أجله هذا الإنسان ميتة قاسية على أيدي السلطات الرومانية، وكيف نظر هو إلى هذا الأمر الشنيع، وخاصة كيف سلك في تلك المحنة القاسية - ولو استطعت هذا، أكون شارفت على حلّ هذه المشكلة العاصية.

كان هذا غرضي من الكتاب الذي فكرت في إخراجه. أردت أن أعالج فيه المظهر الأخير من حياة يسوع، بما تخلله من مآسٍ سريعة التطور عميقة التأثير، وما حفلت به من وقائع التاريخ القديم الملابس لها، وما حفَّها من لذة سيكولوجية بشرية قوية. أردت أن أجرد القصة مما أحاط بها من عقائد مبدئية ومزاعم تقليدية، لعلّي أتكشَّف حقيقة ذلك الإنسان كما كان فعلاً.

ولست بحاجة أن أشرح في هذا المقام كيف أُتيحت لي الفرصة بعد هذا التاريخ بعشر سنوات لأدرس حياة المسيح درساً وافياً كما كنت أريد، وكيف توفّرتُ على بحث مصادر روايات الإنجيل وتمحيص الأدلة القوية، وكيف كّونتُ حكمي في المشكلة التي قامت أمامي. وحسبي أن أقول هنا إن هذا البحث قد أحدث ثورة هائلة في تفكيري، وانبثقت من هذه القصة العالمية القديمة أشياء كنت أظنها مستحيلة. وتمكنَتْ من نفسي، رويداً رويداً ولكن في جزم ويقين، عقيدة راسخة أوحت إليَّ أن مأساة تلك الأسابيع المأثورة في التاريخ البشري أغرب وأعمق مما نظن. والذي ملك عليَّ عقلي ولبّي في أول ما رأيت من غرابة في كثير من حوادث هذه القصة المثيرة الأخاذة، ولم أفطن إلى المنطق القوي القاهر في معناها إلا بعد فترة من الزمن.

وسأحاول في فصول هذا الكتاب أن أشرح العوامل التي حالت بيني وبين تنفيذ المغامرة الأولى التي نويتُ، والصخور الخفيّة التي تحطمَتْ عليها هذه المغامرة، وكيف نزلت إلى شاطئ غير الذي كنت أعتزم النزول فيه.

(على من يريد تتبُّع هذه الأدلة أن يرجع إلى الروايات المدونة في أسفار الإنجيل الكريم)

الفصل الثاني: التهمة المقامة ضد المتهم

قد بدا لي أن خير طريقة للكشف عن اللفائف المتشابكة المعقّدة في الميول والنزعات والدسائس السياسية، وعوامل التحّزب والتعصب التي نُسجت في حوادث الأيام الأخيرة من حياة يسوع على الأرض - أن أجلوَ أولاً غوامض السر، ببحث التهمة التي أقامها القوم ضده.

وأني أذكر كيف ألحَّت عليَّ هذه المشكلة يوماً ما، وراحت تجذبني بقوة عنيفة غير منتظرة. ثم أخذت أصور لنفسي صعوبة الأمر، وأسائلها: ترى ما الذي يحدث لو أن جدالاً عنيفاً قام بعد ألفي سنة من هذا التاريخ الذي نحن فيه حول شخص حوكم محاكمة جنائية، لنقل في سنة ١٩٣٩ مثلاً؟ لا شك أن أغلب الأدلة الجوهرية تكون قد أمحَّت وأُسدل عليها ستار النسيان. وربما يمكن العثور بين مجموعة الآثار القديمة على قطعة باهتة من إحدى الصحف اليومية، أو ربما صفحة ممزقة من كتاب قانوني يصف القضية. ومن هذه الوثائق الباقية الباهتة يمكن للباحث أن يستنتج. ومن المؤكد أن يذهب الأحياء في ذلك الزمن البعيد الراغبون أن يستبينوا الحق عن ذلك الإنسان - إلى بحث موضوع التهمة التي قامت حوله. وأظنهم يتساءلون قبل كل شيء: ما سبب هذه الضجة كلها؟ وما الذي أقامه المدّعون عليه من التهم؟ وإن كانت التهم متعددة، كما هو الحال في القضية التي نحن بصددها، يسألون عن التهمة الأصلية الحقيقية ضد المتهم الذي حكموا عليه.

وبمجرد أن نضع هذا السؤال في مقدمة بحثنا، نصطدم على التّو بأشياء تلقي على المشكلة نوراً جديداً، ما كان يخطر لنا ببال! وتتضح لنا كنه تلك الأشياء الخطيرة لو تمكنا قبل كل شيء من تفُّهم ما هيَّة ذاتها. ذلك لأنها لم تجرِ فقط في ساعة غير منتظرة لمثل هذه الإجراءات، بل قد شابها كثير من الملابسات الخاصة. وإنظر مثلاً إلى عنصر الزمن فيها:

أجمع المؤرخون على أن وقت إلقاء القبض على يسوع في بستان جثسيماني جرى في ساعة متأخرة من الليلة السابقة ليوم الصلب. وهناك ما يحملنا على الإعتقاد أن ساعة القبض لم تكن قبل منتصف الساعة الثانية عشرة.

وهذا التقدير أساسه حساب الزمن الذي استغرقته الحوادث المدّونة بين الفراغ من حفلة العشاء في العليّة، وبين وصول شرذمة الجند المسلحة إلى البستان فوق منحدرات جبل الزيتون. وأسوق ثلاثة أشياء تدل على أن القبض كان في ساعة متأخرة:

  1. كان التلاميذ تعابى منهوكي القوى. وحتى بطرس الصياد المخشوشن الذي ألِفَ الصحو واليقظة والسهر في البحر لم يقدر على مغالبة النوم.
  2. يشير كلٌّ من متى ومرقس إلى ثلاثة فترات متقطعة من النوم، وكان يوقظهم في كل مرة منها مجيء يسوع إليهم من صلواته اللجوجة الحارة تحت الأشجار المتعانقة.
  3. كان الوقت ظلاماً حالكاً، واستطاع يسوع عند رؤيته المشاعل أن يميّز القادمين للقبض عليه من بعيد (إنظر مرقس ١٤: ٤٢) «قُومُوا لِنَذْهَبَ. هُوَذَا ٱلَّذِي يُسَلِّمُنِي قَدِ ٱقْتَرَبَ».

ومن يقرأ تفاصيل هذه القصة الرائعة، لا يسعه إلا التسليم أن زيارتهم هذه المرة إلى البستان تختلف عن سابقاتها التي أشار إليها البشير يوحنا. فإن هؤلاء الرجال كانوا قد بقوا، نزولاً على إرادة سيدهم، بعد الوقت الذي كانوا يأوون إليه عادة إلى مضاجعهم في قرية بيت عنيا. وترقّبوا شيئاً كان يترقبه هو، ويشعر في نفسه أنه لا بد حادث. وإذا افترضنا أنهم فرغوا من العشاء في منتصف الساعة العاشرة، وإنهم بلغوا البستان في العاشرة تماماً، فلا يمكن أن يكون القبض عليه وقع قبل منتصف الساعة الثانية عشرة. وهذا يحدّد لنا - بشيء من اليقين - الساعة التي بدأت فيها المحاكمة التمهيدية.

ولقد أجمع علماء العاديات وعلماء طبوغرافية أورشليم القديمة أنه كان هناك درج نازل من المدينة العليا إلى أحد أبوابها يؤدي إلى بركة سلوام، في الزاوية الجنوبية الشرقية من سور المدينة. وقد أشار إليه نحميا في سفره (ص ٣: ١٥) بقوله: «ٱلدَّرَجِ ٱلنَّازِلِ مِنْ مَدِينَةِ دَاوُدَ» وأيضاً (ص ١٢: ٣٧) «وَعِنْدَ بَابِ ٱلْعَيْنِ ٱلَّذِي مُقَابَِلَهُمْ صَعِدُوا عَلَى دَرَجِ مَدِينَةِ دَاوُدَ عِنْدَ مَصْعَدِ ٱلسُّورِ».

كان أمام الشرذمة التي ألقت القبض على يسوع طريقتان. إما أن يسيروا بمحاذاة وادي قدرون إلى أسفل الدَّرَج، ومنه إلى دار رئيس الكهنة، وإما أن يتتبعوا طريق بيت عنيا الرئيسي إلى المدينة الجديدة، ومنها إلى حيّ الكهنة. ولو أن التقاليد لم تشر إلى اتخاذ الطريق الأول، إلاَّ أن السير بيسوع وسط الحي الغاص بالسكان في المدينة السفلى لا يبدو ملائماً لأغراض القوم. إنه يحتم عليهم أن يلفّوُا دورة طويلة تضيّع عليهم وقتاً طويلاً، والوقت عامل له خطورته فيما هم بصدده من عمل حاسم في الليل.

ولو قُدرّ لنا برجعة سحرية من الزمن، أن نقف فوق نقطة مرتفعة من أسوار أورشليم القديمة، حوالي منتصف تلك الليلة المأثورة، أو بعد ذلك بقليل، لرأينا فريقاً من الناس يسوقون أمامهم في الظلام إنساناً غريباً في شكله، هادئاً لا يقاوم، من المنطقة الصخرية التي أحاطت بالناحية الشرقية من جدار الهيكل، إلى الطريق التاريخي في الجهة الجنوبية الشرقية من سور المدينة، ثم إلى معسكر أعدائه الألداء الحاقدين.

وكيف قُدِّر لذلك العبراني الممتاز - وهو أكرم من أنبته جيله - أن يقف هذا الموقف الخطير الذي يهدد حياته، في ساعة من الليل البهيم، وفي مساء يوم من أشهر المواسم اليهودية وأكثرها روعة؟ وما القوى الخفية الغامضة التي عجَّلت بالقبض عليه؟ ولِمَ اختيرت تلك الساعة غير الملائمة؟ وبعد كل هذا ما أركان التهمة التي أقيمت ضده؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة كلها لا يمكن أن يستوعبها هذا الفصل، بل أن الكتاب كله لا يكون إلا جواباً ناقصاً مقتضباً. على أن هناك شيئين يبرزان بروزاً ظاهراً في رواية هذه المحاكمة، وهما خليقان بالدرس والتقصّي: الأول ما هية التهمة التي أقيمت ضده، والثاني الأساس الذي بُنيت عليه محاكمته.

ويخيل إليَّ أننا نخطئ خطأ كبيراً إذا افترضنا أن كل الإجراءات التي اتخذها الكهنة في تلك الليلة كانت غير قانونية. طبعاً يستنتج الباحث في أدوار القضية كلها أن هناك مظاهر تغاير الشريعة اليهودية مغايرة فاضحة. وهذا يسلّم به في غير عناء كل باحث في المشنة العبرانية والتقاليد اليهودية القانونية القائمة في ذلك العصر.

فمثلاً كان غير قانوني في الشريعة اليهودية أن يقوم حرس الهيكل بأمر رئيس الكهنة بإلقاء القبض على أي إنسان، فإن هذا كان يُترك عادة إلى الشهود المتطوعين. وكان غير قانوني أيضاً أن يحاكم إنسان على تهمة تستوجب عقوبة الإعدام في أثناء الليل. ولم يكن جائزاً محاكمة متَّهم بعد غروب الشمس إلا في التهم المدنية المالية. كذلك كان غير قانوني أن يتقدم القضاة لإستجواب المتهم بعد أن تناقضت أقوال الشهود وثبت كذبها. وكان واجباً إطلاق سراحه، ومعاقبة الشهود بالإعدام رجماً - متى ثبت كذب شهادتهم عمداً.

هذه كلها أمور طافية فوق سطح الماء، ولكن يجري تحت هذه الشواهد السطحية الدالة على شذوذ المحاكمة تيار عنيف يُلبس المحاكمة شكلاً قانونياً. ويبدو هذا جلياً لكل باحث تاريخي غير متحيز لدى تدقيقه في بعض المسائل القانونية الصغرى.

وتنجلي لنا هذه الحقيقة إذا بحثنا الطريقة الفريدة في نوعها التي انتقل بها أساس التهمة في سير المحاكمة. ويعلم كل من درس رواية المحاكمة - كما وردت في الإنجيل الكريم - أن هناك ثلاث تهم أصلية أُقيمت ضد يسوع في أدوار المحاكمة المتعاقبة:

  1. هدّد بنقض الهيكل وهدمه.
  2. ادّعى أنه ابن الله.
  3. أثار الشعب ضد قيصر.

ويمكن إبعاد التهمة الأخيرة لأول وهلة. فإنها لم تكن موضع شكاة اليهود ولا علّة ثورتهم عليه، ولكنهم حاكوها لأغراض سياسية. ولم يكن القانون الروماني يقيم وزناً للتهم التي حُكم من أجلها على المسيح بالموت، ومع ذلك لم يكن مستطاعاً تنفيذ هذا الحكم دون مصادقة بيلاطس الوالي الروماني. لذلك رأى اليهود أنفسهم مضطرين إلى انتحال تهمة سياسية ليبرروا موقفهم أمام الوالي الروماني في طلب الحكم على المتهم بعقوبة الموت، التي كانوا قد بيّتوا النية عليها. فاتخذوا بهم ذريعة تهمة التآمر ضد قيصر، وهي التهمة التي تجد أذناً صاغية عند الوالي الروماني أو أي ممثل للسلطة والقضاء عليها لو أن الولاية كانت في ذلك العهد في أيدٍ حازمة غير مسترخية.

ومهما يكن من أمر، فإن التهمة الصورية التي أقيمت أمام بيلاطس ليست بذي بال كما أسلفتُ القول. والذي يهمنا أن نعرف التهمة الحقيقية التي أقامها اليهود ضد المسيح.

كان من العادات القديمة المأثورة في إجراءات الشريعة اليهودية أن الشهود هم الذين يقيمون الدعوى في المحاكمات الجنائية. ولم تكن الشريعة تبيح إجراءً غير هذا. فكان أول عمل قام به القوم في مأساة منتصف تلك الليلة بعد إحضار المتهم إلى ساحة القضاء، أن دعوا الشهود كما يقضي بذلك القانون. وقد ألمح إلى هذا صراحة كل من البشيرين مرقس ومتى، فقال الأول:

«لأن كثيرين شهدوا عليه زوراً، ولم تتفق شهادتهم».

وقال الثاني: «جاء شهود زور كثيرون».

ويؤيد البشير مرقس أن أقوال الشهود لم تتفق فلم يؤخذ بها.

وقد يبدو غريباً للذين لم يألفوا الخفايا العويصة الدقيقة في الفقه اليهودي أن ترفض المحكمة الأخذ بأدلة الشهود، وهي التي بذلت جهداً جباراً في تأييد المحاكمة بأقوال الشهود. ولو كانت قصة الشهود تلفيقاً متعمداً، لما تعذر عليهم التوفيق بين أقوالهم مقدماً. أما أن ترفض المحكمة الأخذ بأقوال الشهود، فهذا دليل على أن حتى قيافا رئيس الكنهة نفسه كان تحت ضرورة ملحّة تجبره على أن يخضع للإجراءات التقليدية اليهودية في قضية يحكم فيها بعقوبة الموت.

أما تلك الإجراءات فقد استوفت حقها من البحث في كتاب المشنة العبري. وقد سلّمت الشريعة بثلاثة أنواع من الشهادة:

  1. شهادة عابثة لا قيمة لها.
  2. شهادة قائمة.
  3. شهادة موافقة.

وقد كان هناك تمييز صريح بين هذه الأنواع الثلاثة من الأدلة. فالشهادة العابثة هي المتناقضة أو التي لا قيمة لها، وكان على القضاة أن يستبعدوها فوراً. والشهادة القائمة كانت تقبل من باب الإحتياط فقط حتى يثبت ما يؤيدها أو ما ينقضها. والشهادة الموافقة هي التي كانت تتفق فيها أقوال الشهود. ويقول الكاتب اليهودي الشهير «سلفادور» إن أقل تناقض في أقوال الشهود كان كافياً لإبطال الشهادة.

ويتضح من هذا أن الشهادات التي أشار إليها البشيران، مهما كان مضمونها، هي من النوع الثاني الذي يُقبل احتياطياً فقط. ومعنى هذا أن أقوال الشهود إما كانت مناقضة لما ألفه وعرفه قضاة المحكمة، أو كانت باطلة لأسباب فنية قانونية. وقول البشير مرقس: «لم تتفق شهادتهم» يحملنا على الأخذ بالرأي الثاني.

وهنا نرانا أمام شيء غريب. فإنه بعد أن بطلت أقوال هؤلاء الشهود واستبعدت لعدم كفايتها، تقدَّم إلى المحكمة رجلان بدليل معين عرضي. وفي هذا يقول البشير مرقس:

«ثم قام قوم وشهدوا عليه زوراً قائلين: نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأيادٍ»

ويؤيد هذا القول البشير متى، والظاهر أنه لم يقتبس عن مرقس بل استقى معلوماته من مصدر آخر، فيقول:

«ولكن أخيراً تقدم شاهدا زور وقالا: هذا قال إني أقدر أن أنقض هيكل الله، وفي ثلاثة أيام أبنيه»

ومهما يكن من أمر ما حدث في تلك الليلة المأثورة، فإن اثنين تقدما إلى المحكمة واتهما يسوع، الذي كانت أنوار المصابيح المتراقصة تنعكس على وجهه بإنه قال كلاماً أشبه بهذا. وهذه حقيقة هامة، أرجو أن يفكر فيها القارئ مليّاً.

والذي يهمنا قبل كل شيء أن نعرف هل انتحل أولئك الشهود التهمة انتحالاً، أم أرادوا لغرض في نفوسهم تشويه أقوال نطق بها يسوع فعلاً. وأنا شخصياً أتردد كثيراً في الزعم أن تلك الشهادة كانت مجرد تلفيق لا أساس له من الصحة. وأنه أمر وأدهى أن تشّوه أقوال إنسان على مسمع من الآخرين من أن تعزو له زوراً وبهتاناً أقوالاً لم يقلها. فإن تشويه الأقوال يلقى استحساناً صاخباً لدى أناس حانقين غاضبين، بينما لا يصغي إلى الأكاذيب المختلقة المفتعلة إلاَّ ذوي النزعات السليطة الوقحة. هذا هو المألوف عادة، وما من شك أنه كان كذلك في القضية التي نحن بصددها، فإن أولئك الرجال كانوا قد سمعوا المسيح يتحدث بمثل هذا في فناء الهيكل، فلم يكن ثمة شيء أفتك به من أن يتقدموا في أثناء المحاكمة ويلقوا أمام القضاة بعبارات مشوهة مقلوبة.

وشيء آخر يحملنا على الإعتقاد أن الشهادة التي أدلى بها ذانك الرجلان كانت تشويهاً وعكساً لشيء قاله المسيح نفسه في حفل عام. شهد الرجلان أنهما سمعا المتهم يتفوه بأقوال، لو أمكن برهنتها، لاستحق عليها عقوبة مزدوجة: عقوبة الشعوذة، وعقوبة تدنيس الهيكل المقدس. وكانت عقوبة الشعوذة الموت، كذلك كانت عقوبة تدنيس حرمة المعابد الموت رجماً والتشهير بجثة الميت. ومن وجهة نظر أعداء يسوع، كانت التهمة كافية لتنفيذ مأربهم فيه، ومع ذلك فقد استبعدت الشهادة: «ولا بهذا كانت شهادتهم تتفق».

ولماذا كل هذا؟ لا بد من تعليل تاريخي كافٍ لهذا الرفض. ولو كانت الشهادة اختلاقاً محضاً، أو من تلفيق قيافا وتدبيره، ولو كان الشاهدان قد جيء بهما عمداً ليلعبا دورهما، لما كان هناك داعٍ لهذه المناورة السخيفة المثيرة للغضب في غير طائل. ولم يكن لدى الشاهدين إلا قليل من الكلام، فكان هيناً جداً بقليل من الحكمة والحنكة حبك أقوالهما بحيث لا يكون فيها تناقض. وكانت القضية بعد هذا تسير سيراً سريعاً ويصدر فيها حكم الإدانة كما كانوا يأملون.

ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، فإننا نرى المحكمة على الرغم من عدم شرعية الجلسة في ساعة متأخرة من الليل، تضيّع وقتاً طويلاً في إجراءات قضائية لم تؤدِ بها إلى نتيجة ما. وبعد سماع أقوال الشهود وقف المسيح بين الجمع متهماً بريئاً لا سبيل إلى إدانته. وبدت الإجراءات كلها تتحطم لعدم انسجامها مع نقطة معينة في الشريعة اليهودية.

وينبثق من هذه الحقيقة التاريخية الهامة شيئان: أولهما أن قيافا لم يكن قوياً بالقدر الذي يمكّنه من إملاء إرادته على هذا الجمع. فقد كان بين أعضاء غرفة المشورة هذه تيارات قوية تلحّ بمراعاة قواعد الشريعة مراعاة صارمة، ولا سيما فيما يتعلق بالشهود.

ويجب ألا يغرب عن البال أن حكم هذه الهيئة لم يكن نهائياً، وكان لا بد من أن يصادق على قرارها مجلس السنهدريم الأعلى في جلسة كاملة في الصباح التالي. والظاهر أنه ثارت معارضة من عضو يدعى نيقوديموس احتج فيها على محاكمة بدون إجراءات قانونية منصفة. وكان من الميسور لهم أن يبرروا عدم شرعية المحاكمة الليلية بما اقتضته الضرورة السياسية الملحة وبسبب اقتراب موعد الفصح، ولكن أي خطأ في إجراءات إثبات التهمة كان كافياً لإرغامهم على إطلاق المتهم في ساعة كان من المحتمل جداً أن تهرع حوله الجماهير وتنضم إلى جانبه.

ثم أن غربلة أقوال الشهود على هذا النحو، والتدقيق فيها كان عاملاً من العوامل التي تحمل الشهود أنفسهم على الحذر الشديد في إبداء أقوالهم. وكان من أخطر الأمور على إنسان أن يكون شاهداً في تهمة عقوبتها الموت، لأن نظم الفقه اليهودي كانت تميل دائماً إلى تأويل الأشياء في صالح المتهم حتى تثبت إدانته. وكانت عقوبة الشهادة الزور الموت، لذلك كانت هذه المحاكمات قليلة جداً.

أما ما نستنتجه من هذه الإجراءات الشاذة فهو أن أقوال الشهود لم تُحضرّ من قبل، وإن كان عدم اتفاقها قد أذهل رئيس الكهنة، فلا بد أن تكون على الأقل أقوالاً قيلت عن حسن نية، وأنها تمتّ بشيء من الصلة للحقائق التي تمثلها. وحتى لو لم يكن كاتب بشارة يوحنا قد خلَّد لنا في سفره ما نسميه «الترجمة» الرسمية التاريخية لما حدث في أفنية الهيكل، فإننا لا شك مضطرون إلى التسليم بأن المسيح أدلى في بعض المناسبات التاريخية بأقوال تشبه إلى حد كبير الأقوال التي اتهمه بها الشهود.

فما هو الحديث التاريخي الذي كان أساساً لهذه التهمة؟ وما الذي قاله يسوع فعلاً من أقوال اتّخذها الشهود تكأة لشهادتهم؟ لدينا ثلاث عبارات نختار أيها: جاء في رواية مرقس عن تفصيلات المحاكمة أن الشهود قالوا إنهم سمعوا يسوع يهدّد بتدمير الهيكل وإعادة بنائه بطريقة سحرية في ثلاثة أيام. والألفاظ صريحة في نصها: «إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي، وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأيادٍ»

أما البشير متى فإنه يعدّل التهمة ويخففها كثيراً. وفيها نجد تلك الإعادة السحرية لبناء الهيكل، ولكن يُنسب إلى المسيح قوله فقط إن لديه القوة على ذلك: «هذا قال إني أقدر أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام أبنيه»

وهل في وسعنا قبول أحد هذين القولين كأنه النص الحرفي لما قال؟ لا أظن نستطيع ذلك دون الإجحاف بما عهدناه في يسوع، تلك الشخصية التاريخية التي رسمتها لنا البشائر التلخيصية الثلاث. فإن قدرته وإرادته على هدم هيكل هيرودس أو إزالته من الوجود، ثم بناء آخر بدلاً منه، لا يتم طبعاً إلا باستخدام قوى سحرية خارقة للطبيعة، بطريقة قاهرة لم يُعرف عن المسيح أنه لجأ إليها قط، طريقة لا يحلم بها المخدوعون من دعاة الشعوذة والسحر في الشرق. ولا يعقل أن إنساناً عاقلاً من ذوي المؤهلات الروحية الأدبية مثل يسوع، يقول شيئاً من هذا القبيل.

ويجوز أن نتصور إنساناً ماجناً طائشاً، تقرب عقليته إلى حدّ الجنون، يلقي شيئاً من هذه الأقوال لمجرد التفاخر والمباهاة في نوبة فجائية من نوبات الخبل، عالماً علم اليقين أن أحداً لن يطلب إليه تنفيذ ما يهذي به. أما المتهم في هذه المحاكمة فليس من هذا الطراز، وهو يتعالى فوق هذا المستوى علواً كبيراً. ولست تجد في قصة حياته أثراً لهذه الخواص التي تنبئ عن عقلية مزعزعة هزيلة. بل على نقيض ذلك تجد تلك الدلائل التي تتحدث عن سمّو الفكر ورجحان العقل واتزانه. وإنك تراه محباً صادقاً للحق والإخلاص، متصفاً بتلك الدعة العذبة والتواضع النبيل الذي يقترب بالإنسان نحو الله. وإنك تراه عزوفاً عن كل المظاهر الكاذبة والرياء والتفاخر. فضلاً عن أنه كان إنساناً حييّاً رقيقاً حساساً إلى أرق درجات الحساسية. ولا يسع كل بصير بالحق التاريخي الواضح في الصفحات القديمة التي تلقيناها عن قصة حياته إلا أن يدرك تماماً ما حدث يومئذٍ، حينما قدموا له إمرأة خاطئة أُمسكت في زنا... طأطأ رأسه إلى الأرض ليخطّ بأصبعه على الرمال. وإنك تلمح هنا وميضاً من حياة يسوع كما يسجلها التاريخ، الذي يدوي بصوت قوي مردداً أقواله الأدبية المأثورة عنه، ولكنك لن تجد فيها أثراً لذلك الإنتفاخ المضحك أو التفاخر المتعجرف.

إذن يجب أن تبقى أقوال الشاهدين في موضع الشبهات حتى تتوفر لدينا شهادات متفقة يحق أن تؤخذ حجة على المتهم. ولكن الأدلة التي عندنا تقودنا إلى اتجاه آخر غير هذا. فإن الذي قاله يسوع، حسب رواية البشير يوحنا هو: «أنقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه» ويضيف الكاتب إلى هذا بين قوسين: (وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده).

ولا يستطيع أي باحث مفكّر في هذه المشكلة أن ينكر ما في هذا القول من خطورة. إنه قول خطير على أي وجه نحاول تأويله. على أننا إذا أردنا الفصل بين أقوال ثلاثة متباينة، أرى أن هناك أمراً واحداً يعمق تأثيره فيَّ - وهو وجود عبارة «في ثلاثة أيام» في الأقوال الثلاثة جميعاً. ولا أظن الناس قد أدركوا ما في هذا من أهمية عظيمة. وحين نجابه في حياتنا العادية عدة أقوال متباينة متناقضة في حادثة واحدة، يكون أحكم موقف أن نفحص أولاً النقط التي يتفق عليها الرواة، ونفترض أنها تمثل وقائع ثابتة. وتبدو حكمة هذا الموقف خاصة في الحالات التي يتقدم فيها الشهود من مصادر متضادة، وتتباين أقوالهم تبايناً صارخاً في الوقائع الجوهرية الأخرى في القضية التي هي موضوع النزاع.

وتبدو غرابة العبارة «في ثلاثة أيام» في أنها لم ترد إلا نادراً في التعاليم المأثورة عن المسيح. خذ مثلاً الشواهد البارزة الثلاثة التي وردت في بشارة مرقس:

«وَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقُوم» (مرقس ٨: ٣١)

«لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلامِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (مرقس ٩: ٣١).

«هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ»(مرقس ١٠: ٣٣ و٣٤).

وقد عمد بعض البحاثة - الذين أقبلوا على قراءة هذه الآيات وفي نفوسهم إحجام غريزي عن قبول أي شيء يسمو فوق الإختبار العادي المألوف - إلى القول: «نفهم أن يتنبأ المسيح عن موته، فإنه لا بد أن يكون قد رأى الفاصل الكبير بينه وبين الكهنة، ولا يبعد أن يكون قد أعدّ التلاميذ سراً لتلقّي هذه الصدمة. أما هذه التلميحات إلى قيامته العتيدة بعد الموت فلم يُكتب في متن الكلام إلاّ بعد موته، وليست جزءاً من أقواله الأصلية».

ولنسلِّم جدلاً أن هذا هو ما يظهر لنا لأول وهلة. على أنه حين نفحص فحصاً دقيقاً المحاكمة - بما فيها من دلائل صدق، وما تخللها من تدقيق، وما اختتمت به من استماع غير مجدٍ لشهود حانقين معاندين - نتبيَّن أن الكلمات «في ثلاثة أيام» التي يقول عنها ذوو «العقول المفكّرة» إنها لم تخرج من بين شفتي يسوع - هي بذاتها الكلمات التي جعل منها الشهود تكأة وأساساً للتهمة الخطيرة التي حوكم من أجلها. ويبدو لنا غريباً حقاً ألاّ يكن للعبارة التي قامت عليها أركان التهمة الخطيرة شبيه أو نظير في الأقوال المختلفة التي حوكم من أجلها. ويبدو لنا غريباً حقاً ألا يكون للعبارة التي قامت عليها أركان التهمة الخطيرة شبيه أو نظير في الأقوال المختلفة التي نطق بها يسوع خلال السنتين السابقتين.

على أنه يتبين لنا من ظروف الحوادث كلها أن ما قاله أغرب مما نُسب إليه فقد قال: «إن أنتم قتلتموني، فسأقوم من القبر». ولا أرى محيصاً عن التسليم بهذه النتيجة المنطقية. قد يذهب المكابرون إلى أنه كان مخطئاً، أو أنه كان تحت تأثير شذوذ عقلي غريب يعاوده بين الفينة والفينة في أقواله العامة. على أنني أعتقد أن تفّوهه بهذه الأقوال الفريدة الغريبة أمر لا يجد الشك إليه سبيلاً.

بقي أن نلقي نظرة على الظاهرة الغريبة الأخرى في هذه المحاكمة. فإن يسوع الناصري قد حُكم عليه بالموت، لا بناء على أدلة المدّعين عليه، بل على اعترافٍ انتُزع منه انتزاعاً بعد أن استحلفه رئيس الكهنة.

ويبدو لنا جلياً أنه بعد استماع أقوال الشهود ورفض شهادتهم، اتخذت إجراءات القضية أوضاعاً شاذة غير قانونية. وموضع عدم المشروعية أن رئيس المحكمة حاول بتوجيه الأسئلة مباشرة إلى المتهم، أن يتلمّس الأسباب اللازمة للحكم عليه مما عجز عنه الشهود أنفسهم.

وهذا يناقض تناقضاً تاماً حرفية القانون القضائي اليهودي وروحه، وقد كان مرماه أن يحوط حياة المواطن اليهودي بكل أسباب الضمان. فإن إقامة الدعوى في قضية عقوبتها الموت كانت موكولة بحسب الشريعة اليهودية إلى الشهود دون سواهم. فكانت مهمتهم أن يلقوا القبض على المتهم، وأن يجيئوا به إلى ساحة القضاء. وكانت مهمة المحكمة أن تصون حقوق المتهم بكل الوسائل الممكنة، وتبذل كل جهد في تمحيص أقوال الشهود وإصدار حكم عادل لا تحيُّز فيه على الأدلة التي يتقدمون بها.

ونظرة واحدة إلى نص الرواية في هذه القضية تدلنا على أن المتهم فيها لم يفز بهذه الحصانة القضائية. ويبدو هذا من لهجة الحنق والغيظ التي وجَّه بها رئيس الكهنة سؤاله إلى المتهم بعد أن تهدَّمت أقوال الشهود:

«أما تجيب بشيء؟ ماذا يشهد به هؤلاء عليك؟»

ولعل الإعتراض لم يكن على هذا السؤال في حدّ ذاته، فقد كان من حقّ المسيح كمتهم أن يدلي بأي أقوال أو حقائق دفاعاً عن نفسه. وإلى هنا كان ملتزماً الصمت التام. فكان من اللائق أن يُسأل إذا كان لديه شيء يعلق به على أقوال الشهود. أما الذي يسترعي أنظارنا فهو العداء المكشوف نحو المتهم، وهو نذير بما سيجيئ بعد هذا السؤال. فإن رئيس الكهنة كشف عن نواياه، وأزال كل المظاهر التي تُلبس القضية شكلها القانوني الظاهر على الأقل.

ذلك أن قيافا وهو واقف في مكانه وسط المحكمة وجَّه إلى يسوع القَسم الأعظم في الدستور العبراني: «أَسْتَحْلِفُكَ بِٱللّٰهِ ٱلْحَي» (متى ٢٦: ٦٣) ولم يكن بدٌّ أن يجيب يسوع وهو اليهودي التقي النقيّ المحافظ على الشريعة صوناً لحرمة هذا القسم العظيم.

وقد جاء بكتاب المشنة اليهودي:

«إذا قال قائل أستحلفك بالله القادر على كل شيء، أو بالصباؤوت، أو بالعظيم الرحيم، الطويل الأناة، الكثير الرحمة، أو بأي لقب من الألقاب الإلهية، فإنه كان لزاماً على المسؤول أن يجيب».

وكان السؤال الذي وجهه قيافا رئيس الكهنة إلى المسيح مباشراً صريحاً، مجرداً عن المصطلحات العبرانية الخاصة:

«أأنت المسيح؟ أتدّعي أنك أنت هو الآتي؟»

ولم يكن المتهم بأقل صراحة من سائله، وهذه هي النصوص الثلاثة لإجابته:

«أَنَا هُوَ» (مرقس ١٤: ٦٢)

«أَنْتَ قُلْتَ» (متى ٢٦: ٦٤)

«أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ» (لوقا ٢٢: ٧٠)

وهذه الأجوبة، كما قال أحد العلماء، متفقة في معناها. والنص «أنت قلت» أو «أنتم تقولون إني أنا هو» الذي يقع على الأذن في العصر الحديث موقع المراوغة والتملص، لم يكن فيه شيء من هذا المعنى لدى الفكر اليهودي المعاصر. وعبارة «أنت تقول» كانت الوضع التقليدي الذي يجيب به اليهودي المثقف على سؤال خطير أو حزين. ونهت آداب اللياقة والحشمة أن يقول المجيب مباشرة «نعم» أو «لا».

إذن نطق يسوع بإجابته في شيء كثير من التصميم والحزم. ونرى قيافا قد سُرِّي عنه بعد أن حصل من المتهم نفسه على هذا الإقرار الهائل الخطير. ويكاد المرء يسمع رنة الفوز والظفر في صوته وهو يلتفت إلى الأحبار وشيوخ الشريعة قائلاً:

«ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ قد سمعتم التجاديف! أبصروا أنتم».

وعندي أن الباحث اليقظ المتنبّه لما أسميه الحقائق الخفية الدفينة في القصة، يرى لذة ومتاعاً في تطور القضية هذا التطور الفجائي وبلوغها هذه الذّروة المفجعة.

ترى لماذا اتخذت المحاكمة فجأة هذا الوضع المخالف للإجراءات القانونية في ساعة متأخرة من الليل، بعد ضياع زمن طويل في تمحيص أقوال الشهود ووزنها؟ وإن كان إقرار المتهم الذي أُجبر عليه كافياً، فلماذا سُمعت أقوال الشهود؟

نجد الإجابة على هذه الأسئلة في طبيعة المشكلة القانونية المعقدة التي واجهت قيافا. والمعروف أن جماعة الصدوقيين الأقوياء الذين ينتمي إليهم رئيس الكهنة كانوا قد وطنوا العزم على إبعاد يسوع من طريقهم. ولا تتحقق أغراضهم هذه إلا بعقوبة الموت. ومن الغريب أنه مع هذا التصميم لم يسعهم الإكتفاء بقضية ثبت فيها التجديف أو الشعوذة، لأن قيافا كان عليه أن يبتعد بنظره الثاقب إلى آخرين من غير طائفته، إلى جماعة المعارضين في مجلس السنهدريم، وإلى أحكام الشريعة الموسوية، وإلى ذلك الحاجز المنيع الذي أقامته روما من قوتها وتسامحها.

ولم يكن أحد أكثر من قيافا يعرف النتائج السياسية والشخصية التي تترتب على مجيء المسيا الذي ترقبته الأمة اليهودية. فإن هذا معناه ظهور نوع من الملكية يكون مقامها في أورشليم والمقادس الأخرى.ومعناه أيضاً تحدّي السلطات الرومانية في كل البلاد، وثورة الشعب عن بكرة أبيه، وقيام حملة تأديبية مريعة على يد قائد روماني أشبه بتلك الحملة المريعة التي حدثت بعد هذا التاريخ بأربعين عاماً ودمرت المدينة تدميراً.

وهذه الحقائق كلها لم تكن لتخفى على ذوي النظر الثاقب ممن أُوكل إليهم المحافظة على المزايا اليهودية التي حرص عليها الشعب كل الحرص في عهد الإحتلال الروماني. وقد كان قيافا رئيس الكهنة سياسياً أريباً وداهية ماكراً حين قال لقومه: «خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ ٱلشَّعْبِ وَلا تَهْلِكَ ٱلأُمَّةُ كُلُّهَا» (يوحنا ١١: ٥٠).

أما النتائج الشخصية التي قد تصيب قيافا على أثر مجيء المسيا المنتظر فلم تكن أقل خطورة من تلك النتائج السياسية، فإننا لا ندري أي تغيير يطرأ على دستور مجلس السنهدريم الأكبر عند حلول النظام المسياوي. قد يكون التغيير انقلاباً خطيراً. على أن شيئاً واحداً نعرفه وهو أن سيادة رئيس الكهنة وتحكّمه في مصائر الأمة لا بد يزولان. ومهما يكن من أمر الإبقاء على المظاهر التاريخية القديمة في الدستور العبراني، فلا شك أن الحاكم الحقيقي سيكون المسيا، وسيكون مطلق التصرف في توجيه سياسة أمته كمنقذ قومي وكمندوب سامٍ لإله إسرائيل. ولا جدال أن ظهور ذلك النجار الناصري وادّعاءه لنفسه هذا الحق في السلطة القومية قد أزعج كثيرين ممن يهمهم بقاء الأحوال الراهنة.

فالمشكلة إذن أن تُقام دعوى فاصلة حاسمة لا تجد معارضة من الواحد والسبعين شيخاً من أحبار السنهدريم الأكبر، وتلقى قبولاً لدى القانون الروماني.

وفي سبيل تحقيق هذا الغرض سمعت أقوال شهود كثيرين، واستبعدت شهادتهم لعدم كفايتها. ثم جيء باثنين آخرين ظُنّ أن لديهما ما يحبك التهمة، فانطوت شهادتهما على تهمتين، كل منهما تقع تحت طائلة عقوبة الموت في القانون العبري. وهنا أيضاً كانت أقوال الشاهدين موضع الشبهات والريب: وقد تنطلي الحيلة على مجلس السنهدريم، ولكن ما العمل في الوالي الروماني؟ أغلب الظن أن تهمة كهذه لا تروقه. فلا بد من اختلاق تهمة أخرى غير هذا التهديد البليد بنقض الهيكل وإعادة بنائه، يرضى عنها بيلاطس الوالي الروماني ويصدر فيها الحكم بالموت، وكان الحكم بهذه العقوبة قد انتزعه قيصر من أيدي السلطات اليهودية.

كان الإتهام كله على وشك أن ينهار لولا فطنة قيافا وذكائه الذي استنبط فوراً وسيلة لإنقاذ الموقف، وكانت إجراءاته غير قانونية، ولكنها كانت الضربة الأخيرة اليائسة من رجل كادت تطيش السهام كلها التي أعدّها فاستنجد بقَسَم الشهادة، الذي كان يعتبر حتى الصمت عنده تهمة لا تُغتفر. وقد أفلحت الحيلة أكثر مما قُدّر لها، لأن في الجواب الجريء «أنا هو!» الركن القوي لإثبات تهمة شنيعة أمام الوالي الروماني.

وقد يتغاضى قيصر عن أقوال شاذة يتفّوه بها داعية من الدعاة الطّوافين، ولكن لن يقدر أن يتغاضى عن شخص يطالب لنفسه بعرش. وفي صمت المحكمة الرهيب بعد أن نطق المتهم بهذه الألفاظ الجريئة مضت في فكر قيافا خواطر أخرى وأقوال يأخذها حجة قوية على غريمه: «إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر!».

الفصل الثالث: حوادث قبل منتصف الليل يوم الخميس

قلت من قبل إن اعتبارات الزمن لعبت دوراً خاصاً حاسماً في تقرير الحوادث التي سبقت موت المسيح. فإذا أردنا الوصول إلى كنه المسألة وتتبع هذه الأدوار، تعين علينا أن ندرسها وعيوننا دائماً ترقب عقرب الساعة، لا سيما حينما نقترب من عنصرين هامين في القضية وهما المفاوضات التي قام بها زعماء اليهود مع يهوذا، ثم مباحثاتهم مع بيلاطس البنطي.

ويبدو لنا لأول وهلة أن كلا الرجلين قد لعب دوراً غريباً من المتعذر تأويله في حوادث الأثنتي عشرة ساعة التي اختتمت بها حياة يسوع على الأرض. فلنبدأ أولاً بقضية يهوذا:

وأول شيء يتحدى الفكر في أمر يهوذا هو اضطرار قيافا وصحابته إلى استخدامه والإستعانة به. ترى لماذا يظهر يهوذا في القصة فجأة؟ وما الذي كان في وسعه أن يقدم لرؤساء الكهنة مما كان عسيراً عليهم أن يفعلوه بحكم وظائفهم؟ بل ما الداعي إلى إنفاق هذا المبلغ الضئيل ثمناً للدم في سبيل الحصول على خدمته؟

هذه أسئلة جوهرية، يتأثر بها فهمنا لهذه القضية إلى حدّ كبير. ومن السخف أن نحسب يهوذا مجرد مخبر عام تطوع لإرشاد السلطات إلى المخبأ الذي آوى إليه من كان له صديقاً من قبل. فإن يسوع لم يكن مختبئاً. ومنذ اللحظة التي وصل فيها إلى بيت عنيا عصر يوم الجمعة لم يفعل شيئاً لإخفاء حركاته فحضر حفلة عشاء أُقيمت تكريماً له في بيت سمعان الأبرص إما مساء السبت أو مساء الثلاثاء. وانطلق إلى أورشليم على مرأى القوم في ثلاثة أيام متوالية (الأحد والأثنين والثلاثاء) وكان يعود منها إلى بيت عنيا في مساء كل يوم ليبيت هناك.

ومن السخرية أن نفترض أن زعماء اليهود جهلوا حركاته وانتقالاته بينما عرفت ذلك جماهير الشعب الذين أحاطوا به وزحموه في طرقات أورشليم في صباح يوم الأحد. وما من شك في أنهم عرفوا مقره جيداً، وكان هيناً عليهم أن يبعثوا رسلهم سراً وبسرعة إلى بيت عنيا لإلقاء القبض عليه في أي مساء من تلك الأمسيات الأربعة العصيبة. فلماذا لم يفعلوا هذا؟ وما الذي حملهم على انتظار معونة يهوذا؟

وقد جرت عادة الشرَّاح أن يجيبوا عن هذه الأسئلة بما دونه الإنجيل بقولهم إن الخوف من الشعب هو الذي حملهم على هذا الموقف المحاذر. والظاهر أنه لم يفطن أحد إلى أن هذا التعليل هو نصف الحق، وأن النصف الآخر قد أخفي فلم يُذكر.

ولا يغرب عن البال أن البشائر كتبت من مواد جمعت في الأصل من الصحابة الذين كانوا على صلة وثيقة بيسوع، وأن يهوذا قد مات قبل أن يفشي السر الذي انطوت عليه جوانحه، وما كان من المحتمل أن يفشيه زعماء اليهود. فإن قلنا إن مهمة يهوذا انحصرت في أخذه حرس مجلس السنهدريم إلى بقعة معزولة موحشة حيث يتمكنون من القبض على يسوع سراً، بينما كان في وسعهم أن يفعلوا ذلك قبل أن يستيقظ القرويون من نومهم، أو في أية بقعة أخرى تلائمهم في طريق جبل الزيتون في أي مساء عدا يوم الأربعاء، أو خلال هذا اليوم نفسه وهو معتكف في تلك الغابة الصغيرة الهادئة - أقول لو أننا أخذنا بهذا الرأي، لأضعنا كلية تلك العوامل النفسية الغامضة الدقيقة التي لعبت أدوارها في ذلك الموقف.

وأرجو ألا يُساء الظن بما أقول هنا، فإني آخر من ينكر أن الخوف من الشعب كان له أثر كبير في نفوس زعماء اليهود. وما درى أحد كيف كانت تتطور القضية وأي العواقب السياسية كانت تنشأ، لو أن الزعماء ألقوا القبض عنفاً وعلانية على شخص حسبه فريق كبير من الشعب المسيا الذي أعلنت عنه النبوات. كان الموقف كله شاذاً ليس له مثيل، دقيقاً حساساً. وقد فعل الزعماء فعلتهم وهم يصوبون أبصارهم إلى الرأي العام الذي حسبوا له كل حساب.

على أن الخوف من الشعب لا يعلل لنا بعض الأشياء الغريبة التي أحاطت بهذه القضية، فإن شيئاً ما قاله يهوذا لرؤساء الكهنة حملهم على تعجل الحوادث في اللحظة الأخيرة، والأسراع في تنفيذ نيتهم في وقت تعوزه كل المسوغات القانونية والرسمية. إن شيئاً قد حملهم على أن يبعثوا إلى إنسان أعزل في بستان موحش معزول بقوة مدججة بالسلاح تعززها الاحتياطات المُحكمة، مما يدعو إلى التفكير والتساؤل:

ترى ما معنى كل هذا؟ إني لعلى يقين أن وراء الخوف الظاهري المعترف به من الشعب، خوفاً آخر أشد وأعمق - خوفاً يعلل كل ترددهم وتذبذبهم، حتى بلغت أسماعهم المذهولة رسالة رحّبوا بها أيما ترحاب - وأعني بذلك الخوف من المسيح نفسه.

وخشية أن تقع هذه الفكرة على الآذان موقع الدهشة والغرابة، لنلق نظرة إلى الحقائق. ولا يسعنا أن نضع شيوخ اليهود بمعزل عن القيود العقلية والخرافات التي شاعت في عصرهم. كما أننا لا ننكر أن شهرة يسوع كانت قد ذاعت بين الناس، وعلا اسمه بين القوم وسمت شخصيته، وتناقلت الألسن قصص معجزاته في إعادة البصر للعميان وإبراء المشلولين. وانثالت هذه الأنباء على أورشليم من كل أجزاء البلاد، وسلَّم بها الناس حتى في الأوساط العليا. ويخيل إلينا أن مُعاصريه لم يرتابوا في أن لديه بعض القوى الخارقة التي لم يألفوها في جيلهم.

ولا يسع كل قارئ منصف لبشائر الإنجيل - لا سيما الفصول الختامية - إلا أن يرى هالة من الغموض الشديد قد انعقدت حول شخص يسوع، وكان لها أثرها في التدابير التي حاول الزعماء حبكها للإيقاع به. وأيقنوا طيلة الوقت أنهم أمام قوة غامضة غير معروفة لا بد لهم أن يحسبوا حسابها في تنفيذ مآربهم. وأنت تراهم في خلال الأيام الأربعة العصيبة التي سبقت القبض عليه - حينما كان في وُسع يسوع، لو أراد، أن يثير عجاج الفوضى والإضطراب في المدينة - يتصرفون كأنهم فرائس لخوف خفي يخشون حدثاً خطيراً. وإنك لا ترى منهم ذلك العمل العاجل الحاسم، وهو ما كنا ننتظره من قوم يملكون زمام السلطة في موقف خطير. بل على نقيض ذلك ترى تردداً وتذبذباً في تصرفاتهم وأعمالهم. وحتى بعد ذلك التصريح الرهيب القاصم لظهورهم الذي ألقاه يسوع في الهيكل يوم الثلاثاء. نراهم يتركونه ليكون هو البادئ في تحدّيهم. ومن الحقائق البارزة في هذه القصة أن المسيح ظلّ مسيطراً على الموقف كله إلى النهاية.

وإني أخشى شخصياً أن أولئك الناس كانوا في تصرفهم مع يسوع يخشون شيئاً لم يعرفوا ما هو. وأخالهم قد خشوا أن تتدخل قوة غريبة فتأخذه من بين أيديهم، فيعجزوا في آخر الأمر عن إلقاء القبض عليه. ومما يقّوي أثر هذا الإعتقاد في نفسي ذلك المسلك الغريب الذي بدا منهم في أمر يهوذا.

ويتضح جلياً أن عائقاً ما قد حال بينهم وبين القبض عليه في خلال ذلك الإسبوع، وراحوا يؤجلون ويسّوفون نظراً للصعوبات التي أحاطت بهم، إلى أن حانت الساعة الحادية عشرة من ليلة يوم الجمعة. والظاهر أن لقاءهم بيهوذا قد هّون عليهم الأمر.

وقد قيل في هذا:

«وَلَمَّا سَمِعُوا فَرِحُوا، وَوَعَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. وَكَانَ يَطْلُبُ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ فِي فُرْصَةٍ مُوافِقَةٍ» (مرقس ١٤: ١١).

ولو تتبعنا سير الحوادث كما دُّوِنت في البشائر، لرأينا أن هذه المقابلة تمّت على أقرب تقدير يوم الثلاثاء بعد حفلة العشاء في بيت سمعان الأبرص. ومع ذلك لم يتمكنوا من القيام بأية حركة، ولم يتبدل ترددهم عزماً إلا في يوم الخميس ليلاً، لما أسرع يهوذا من العلّية إلى نقل الأنباء إليهم. عند ذلك قاموا بعملهم العاجل الحاسم.

وهنا يلعب الزمن دوره الخطير. فلو كان القبض على يسوع قد تمَّ بعد وصوله إلى بستان جثسيماني بزمن قليل، لجاز لنا القول إن مهمة يهوذا اقتصرت على نقل الأنباء إلى السلطات وإخبارهم عن المكان الذي سيكون فيه يوم الخميس ليلاً، ثم مصاحبة المأمورين بالقبض عليه ليدلّهم على شخصيته. ولو افترضنا شيئاً من هذا، لجاز لنا القول أيضاً إن زعماء اليهود دبروا مكيدتهم للقبض على يسوع في مساء اليوم الأخير قبل عيد الفصح ليضيّعوا على الشعب كل فرصة في الهياج أو الإضطراب.

ولو أن هذا التعليل يبدو لأول وهلة سائغاً مقبولاً، فإنه لا يقوى على الثبات طويلاً أمام مجهر الفحص والإستقراء، فإن الحقائق كلها تشير إلى أن الأمر اتخذ اتجاهاً غير هذا. ولنفترض أن التفاهم بين يهوذا ورؤساء الكهنة قد تمَّ على هذا النحو:

«نحن قد اعتزمنا القبض عليه يوم الخميس ليلاً، فابقَ معه حتى تثق تماماً من كل حركاته، ثم تعال سريعاً وأخبرنا، وعلينا بقية الأمر».

أقول لو أن اتفاقاً مثل هذا تمّ بين يهوذا ورؤساء الكهنة، لترتَّب عليه أن يكون أولئك على أتم استعداد للقبض على يسوع في غير إبطاء، وأن يكون حرس الهيكل على أتم أُهبة لتعبئة القوة والتقدم عاجلاً بعد تلقي الرسالة بدقائق معدودات.

فهل سارت هذا المسرى؟ يقيناً لم يكن الأمر كذلك. فإن بضع ساعات مضت بين الزمن الذي انسحب فيه يهوذا من العلية التي تناولوا فيها العشاء وبين وصول العسكر المدجج بالسلاح إلى بستان جثسيماني. فما التعليل التاريخي لهذا الإبطاء؟ تأمل الموقف ملياً وانظر إلى غرابته، لأنه حافل بالأشياء الغريبة حقاً التي لا يمكن تعليلها بغير ذلك.

فأول كل شيء، وقبل كل شيء، أمامنا إبطاء في الزمن يقرب من الثلاث ساعات بين خروج يهوذا من وسط العشاء في العلية وبين وصول الحرس إلى بستان جثسيماني. ولا يمكن أن يكون الزمن الفاصل بين الحادثتين أقل مما قدَّرنا، بدليل الحوادث التاريخية التي تخللته. ولقد ألمحت من قبل في الفصل الثاني إلى طول الزمن الذي قضاه المسيح في البستان مستدلاً بإيقاظه التلاميذ ثلاث مرات متوالية. ومغالبة النعاس لذلك النفر من صحابته هو في حدّ ذاته دليل على أن الساعة كانت متأخرة، وهم لا بد أن يكونوا قد صارعوا النوم طويلاً قبل أن يدركهم التعب رغبة منهم في اليقظة ومشاطرة سيدهم ما قد يدهمه من الأخطار في تلك الليلة. ولسنا ندري كم من الزمن غالبوا تجربة النعاس. على أنه لا يمكن أن يكون بين اليقظة والأخرى أقل من نصف ساعة. ولو أضفنا هذا الزمن إلى ما استغرقته مسافة الطريق من العلية إلى البستان، وهو على الأقل نصف ساعة، لتوافرت لدينا من الزمن ساعتان. وإلى هذا نضيف أيضاً الزمن الذي استغرقه الحديث بعد خروج يهوذا من العلية، ثم الزمن الذي استغرقته الصلوات الليلية قبل أن تبدأ الجماعة سيرها في الطريق المؤدي إلى باب المدينة.

وإذا جلس المرء في بقعة هادئة، في ساعة الغسق، وانصرف إلى قراءة هذه القصة، وتأملها ملياً فإنه لا شك يُدهَش حين يشعّ عليه نور صدقها. بل إنه يجد عدا ذلك أن الزمن الذي نحدده أقل مما يجب أن يكون، وهو مضطر أن يذهب في التقدير إلى أبعد مما ذهبنا، فإننا لا نتصور مثلاً أن يُغرق التلاميذ على التّو في النعاس بمجرد وصولهم إلى البستان، وهم يعلمون أن أحداثاً خطيرة يخبئها المستقبل. ولم نعهد الطبائع البشرية على هذا النحو من الجمود والأستكانة. ولا ريب أن فترة طويلة تقضَّت في التهامس والتخمينات والرجم بالغيب وتبادل الظنون والأقاويل. ولا ريب أن فترة أخرى تقضَّت في الترقب الحائر والإندهاش الذاهل، حتى ثقلت جفونهم واحداً بعد واحد من فرط الإعياء الذهني والنفسي، واستسلموا للنوم.

ولا بد لنا من تعليل لهذه الفترة الطويلة التي بلغ مداها ثلاث ساعات، في مأساة خطيرة متشابكة الحوادث كهذه. ولزام علينا أن نعرف ما الذي كان يفعله يهوذا طيلة هذه المدة، ولا سيما لماذا عرف يهوذا الموضع الذي كان فيه يسوع حينما تقرر أخيراً قيام الجند للقبض عليه. وعندنا أن هذا الأمر من الوقائع الهامة في الموقف الذي نحن بصدده. ومتى عرفنا تعليله، استطعنا أن نقبض بأيدينا على مفتاح أغرب قصة في التاريخ.

والذي نلاحظه مبدئياً في فحص تفاصيل الرواية المدونة في الإنجيل، أن الرسالة التي حملها يهوذا لم تجد زعماء اليهود على أُهبة العمل الحازم. وأنا شخصياً لا أقدر أن أتملص من هذا الإعتقاد الذي يزداد في نفسي تعمقاً كلما أوغلت في دراسة القصة. ولو أن اليهود كانوا قد وضعوا خطة مدبرة لتأجيل القبض على يسوع إلى ساعة متأخرة من يوم الخميس، ثم تنفيذ هذه الخطة بغضّ النظر عما يترتب عليها من العواقب، لكان هناك شيء من التأهب وحسن التنظيم لتنفيذ الخطة في ساعتها المعينة. فأولئك القوم ما كانوا يعرفون أين يقبضون على المتهم ولعلهم فكروا أنه لا بد لهم من الذهاب إلى بيت عنيا. وما من شك في أن هذه الإحتمالات كلها نشطت في أذهانهم، فمن ذا الذي كان يتنبأ أن هذا «المجرم الهارب» في نظرهم ينتظر لهم في بستان على مقربة من معسكرهم العام؟ ولو كانت هناك خطة مدبرة لوقعت النقمة سراعاً على رأس يسوع بمجرد أن تلقَّت السلطات اليهودية النبأ السري، وذلك بعد بضع دقائق من خروج يهوذا عن مائدة العشاء بقصد إخبار السلطات.

ولكن بدلاً من هذا التنفيذ العاجل لخطة حازمة مدبرة، نرى تراخياً يمتد إلى ساعات، وهو تباطؤ كان من المحتمل أن يصيب خطتهم بفشل ذريع. ولو كان المتهم الذي يتعقبونه متهماً عادياً أو مجرماً على طراز سائر المجرمين لولّى هارباً وفشلت خطتهم.

وكلما دققنا في دراسة الحقائق التي تتألف منها هذه القصة، ازددنا اعتقاداً بأن زيارة يهوذا لرؤساء اليهود في تلك الليلة، فضلاً عن أنها لم تكن متوقعة، قد وضعت المشكلة أمامهم وضعاً جديداً على نور جديد. وكان لا بد لهم من بعض الوقت للتشاور واتخاذ قرارات خطيرة ووضع الخطط الحازمة. ولما انطلقت الحملة إلى جثسيماني، فعلت ذلك سراعاً بعد انقضاء الزمن الذي كان لازماً لهذا التشاور والقرارات العاجلة. وأعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا هو التأويل الذي تحتمله قصة الإنجيل.

وهناك عاملان تاريخيان في هذا الموقف يعللان لنا هذا التباطؤ. وهما عاملان يتداخل أحدهما في الآخر: الأول أن النبأ الذي حمله يهوذا من العلية قد تضمن بعض المعلومات الجديدة الغريبة التي أزالت شكوك الرؤساء وترددهم. والثاني أن المسيح نفسه كان يتحداهم بهذا التصرف لإلقاء القبض عليه.

ومهما تكن ألفاظ الحديث ونصوصه الذي دار بين يهوذا ورؤساء اليهود، فلا شك أنه كان في شيء من هذا المعنى:

«هو يفكر في الموت ويتحدث عنه. وهو الآن ذاهب إلى البستان عند سفح جبل الزيتون ويبقى هناك حتى أوافيه. فهيئوا أمركم على عجل وأنا سآخذكم إليه».

ولا مهرب لنا من الأخذ بهذا الإستنتاج، الذي تؤيده كل التأييد الشهادة الصامتة التي نراها في مسلك الممثلين الرئيسيين في هذه المأساة التاريخية. وتفاصيل القصة تمكّن الباحث من تعقب خُطى الطرفين فيها: فنحن نعلم أن يهوذا قاد الحملة المأمورة بالقبض إلى بستان جثسيماني دون أن يخطئ الطريق على الرغم من الظلمة في هذه الساعة المتأخرة من الليل. ونعلم أيضاً أن يسوع انتظر في ذلك البستان على الرغم من ملال صحابته. والظاهر أنه كان متأهباً لأن ينتظر هناك حتى مطلع الفجر.

ولسنا نقدر على تأويل موقف كهذا، دون أن نستنتج شيئاً ما، أدعوه «تفاهماً» من قبيل التجاوز في التعبير، لأن اللغة لا تسعفني بكلمة خاصة أدلُّ بها على هذا الموقف. ولا يذهبنَّ أحد إلى الظن أني أردت القول إنه كان ميثاق بين يسوع وبين مسلّمه. كلا. لا أذهب إلى شيء من هذا. فقد كان يسوع أستاذاً في علم النفس، فنفّذ عزمه على تسليم نفسه إلى المدّعين عليه في تلك الليلة بأساليب دقيقة خفية بلغت منتهى الدقة والخفاء. ولما خرج يهوذا من العلية للقيام برسالة بريئة في ظاهرها، عرف عن يقين أمرين: عرف أن يسوع ذاهب إلى بستان جثسيماني وعرف أيضاً أن روحه آخذة في الجنوح نحو الصليب. وكان في تينك الحقيقتين الخطيرتين، مجتمعتين معاً، فرصته الكبرى، وكان فيهما أيضاً تجربته الكبرى. وقد عرف يهوذا بدهائه ومكره أن هذا أفضل نبأ يمكن أن يحمله إلى سادته اليهود. فالعائق قد أمحى، ويسوع لم يكن متأهباً تلك الليلة على الأقل لإبداء أية مقاومة لأن مزاجه وقتئذٍ كان أميل إلى الإستسلام والخضوع، فلم يبقَ إلا الحزم والسرعة في تنفيذ مآربهم.

وقراءة يوحنا ١٣: ١٣ و ٢٨ و ٢٩ تزيد في رجحان الصدق في هذه القصة، فالإتفاق على اللقاء في جثسيماني ربما دبرته طبائع الأشياء وسياق الحوادث. والظاهر أن يهوذا كان مكلفاً بأداء بعض المهام لصحابة المسيح، فاضطر إلى التغيب عنهم بعض الوقت. وكان من الطبيعي أن يتم الإتفاق على اللقاء في مكان معين قبل رجوعهم كعادتهم في ذلك الأسبوع إلى بيت عنيا. وكان بستان جثسيماني مكاناً لائقاً لموعد اللقاء، لأنه يقع في المثلث القائم بين الطريقين الرئيسيين على أكتاف جبل الزيتون إلى تلك الضاحية الصغيرة. ويؤدي ذانك الطريقان الجبليان، علاوة على الطريق الرئيسي المتاخم للبستان، إلى بيت عنيا.

والأرجح أن يهوذا أسرع إلى دار رئيس الكهنة وعقله متشبع بهذه الفكرة الجديدة. أما المهمة الخاصة التي انتدبته الجماعة لإدائها فكانت تحتمل التأجيل. ورأى الفرصة سانحة لتنفيذ الخطة في غير إبطاء.

تُرى ماذا كان تأثير هذا النبأ في قيافا وفي الصدوقيين القلائل الذين كان همهم الأكبر القضاء على يسوع؟ من حُسن الحظ أنه من الميسور الإجابة على هذا السؤال في شيء من الدقة، لأن أمرين جوهريين في الموقف تغلّبا على كل اعتبار آخر في سياسة القوم:

الأول: أنه كان من أفدح النكبات لسمعتهم ومصلحتهم أن يبدأوا محاولة فاشلة للقبض على يسوع في ذلك المكان. فإنه لو فشلت محاولتهم لعوامل خارقة للطبيعة، لكان الخطب فادحاً لا يمكن مداواته.

والثاني: أنه كان من الخطر عليهم أن يقبضوا على يسوع ثم يضطرون إلى تأجيل محاكمته مدة السبعة الأيام التي قررها عيد الفصح. ولم يكن في وسعهم الإعتداء على هذا التقليد بأي حال من الأحوال. وكانت أورشليم في أيام الفصح بسبب ازدحامها بالغرباء والزائرين، تتهيج لأقل الأشياء وتعمد إلى الثورة والإضطراب لأتفه الأسباب. وربما كان لهم أن يركنوا إلى الذهول المؤقت الذي يطرأ على الرأي العام على أثر حادثة خطيرة كالقبض على يسوع، ولكن لا يلبث أن يعقب ذلك ردّ الفعل بعد بضع ساعات.

إلى قوم يجابهون هاتين المشكلتين، جاء يهوذا الإسخريوطي في ساعة متأخرة من ليلة الخميس بنبأ خطير أصلح موقفهم إزاء هذه المشكلة، وزاد صعوباتها عشرة أضعاف. قد أصلح موقفهم لأنه أكّد لهم إمكان القبض عليه، ولكنه زاد صعوباتهم لأنه حمل النبأ في ساعة متأخرة، وكان عليهم أن يواجهوا أمر القبض بما انطوى عليه من أخطار قد يكون فيها القضاء على سمعتهم وكرامتهم وكيانهم في الشعب.

ولعلَّ السؤال العملي الذي طُرح أمامهم للبحث هو هذا: «أفي وسعنا أن نقوم بكل أدوار الإجراءات والتنفيذ التي يتطلبها الموقف، بحيث نضمن تنفيذ حكم الإعدام فيه قبل مغيب شمس الغد؟». وكان الجواب على هذا السؤال معقداً له خطورته وخطره، وليس من الهين البتّ فيه.

ولست أعتقد أن سؤالاً كهذا يمكن الإجابة عليه فوراً حتى من رئيس الكهنة نفسه، وهو متذرع بالحكمة العالمية والإختبار الطويل اللذين ورثهما عن حميه حنان. وكان لزاماً عليه أن يتشاور على الأقل مع زعماء الأحزاب المختلفة التي تألف منها مجلس السنهدريم. وكان الموقف فريداً من نوعه لم يسبق له مثيل، والفشل في تنفيذ الإجراءات كلها حتى نهايتها منطوٍ على أوخم العواقب وأخطرها.

فإلى جانب الإجراءات نرى أن بعضاً من هذه الثلاث الساعات قد انقضى في المشاورات العاجلة والتنقلات السريعة جيئة وذهاباً بين الجلسة التنفيذية في دار رئيس الكهنة وبين زعماء الفكر اليهودي الذين لم يكن بد من استشارتهم لضمان تعضيدهم والأستناد إليهم في مجلس السنهدريم. هذا كله مكتوب بإيضاح بين ثنايا سطور القصة. فهل كان هناك شيء آخر غير هذا؟ أنا شخصياً أقول نعم!

فمهما حاولنا من تعليل للحوادث التي أدت للقبض على يسوع، لا بد أن مخابرة قد جرت بين زعماء اليهود وبين بيلاطس البنطي الوالي الروماني، قبل إصدار الأمر بالقبض فعلاً. وأنه ليصعب علينا جداً، بما نعهده في أخلاق بيلاطس وفي طبيعة الإحتلال الروماني، أن يسلم بأن قضية خطيرة كهذه تُعرض فجأة على بيلاطس في صباح الجمعة، بدون سابق علمه، وقبل التأكد من استعداده للنظر فيها.

وليس من العسير أن نعلل صمت كُتّاب الأناجيل الأربعة في هذا المقام وعدم تعرّضهم لذكر شيء من هذا، لأنهم كانوا يكتبون من وجهة نظرهم هم، أي من وجهة نظر الأفراد القلائل الذين صحبوا يسوع. فكل اتفاق بين بيلاطس وبين زعماء اليهود لا يصل إلى علمهم. أما حين نضع أنفسنا في موقف رؤساء الكهنة فإنا نراه جوهرياً جداً لهم أن يضمنوا، ولو في ساعة متأخرة من الليل، رضاء الوالي الروماني وتعاونه معهم.

وإذا أحسَّ أحد أن قصة الإنجيل الكريم لا تحمل بين تضاعيفها شيئاً من هذا المعنى، فإني أشير عليه أن يتأمل ملياً في حالة صغيرة الشأن، ولكنها كبيرة القدر: من الأحاديث المسندة القوية في المؤلفات المسيحية الأولى (ويؤيدها طبعاً بيان البشير يوحنا المفصل عن المحاكمة الرومانية) أن بيلاطس عدل عن العادة المألوفة في مثل هذه الأحوال، وتقدم هو نفسه إلى اليهود وذلك إرضاء لتقاليدهم الطقسية التي قضت عليهم بعدم دخول فناء الغريب في ذلك اليوم. وكانت علّة تمنّعهم عن هذا الدخول أن الوقت لم يعد يسمح بالتطهير الواجب قبيل الفصح. ومعنى هذا البيان التاريخي أنه لولا أن قضية يسوع عاجلة وخطيرة، لما عقد بيلاطس مجلس الحكم في ذلك اليوم، فإنه من السُخف في سير الحوادث العادية، أن يُعقد مجلس الأحكام القضائية في يوم تقضي طبيعة الأشياء أن يتغيّب فيه كبار الموظفين والشهود. وكون بيلاطس لم يجلس على منصته في ذلك اليوم، ويتقدم بلا تردد ظاهر لسماع القضية في الفناء خارج دار الولاية - يدلُّ على أن بينه وبين الزعماء تفاهماً من نوع ما.

من ثمَّ نرى أنفسنا مسوقين إلى الزعم - حين نحاول تفهُّم أفكار رؤساء الكهنة، ودراسة المشكلة المعقدة التي كان عليهم أن يحلّوها في قصير من الزمن - أنه لم يكن بدٌّ من تفاهم بينهم وبين بيلاطس الوالي الروماني. وها هم قد تلقّوا فجأة الفرصة سانحة للقبض على يسوع في ظروف موآتية. وكان الوقت ليلاً، والشعب منهمكاً في إعداد معدات الفصح. ثم أن المتهم نفسه على شيء من الإستعداد، يهّون عليهم بعوامل غامضة خفية تنفيذ تدابيرهم. فمن الوجهة السياسية المحضة كان السبيل صافياً أمامهم، والباب الذي تّوقعوا أن يفتحوه عنوة وقسراً قد انفتح على مصراعيه في غير عناء.

ومن الجهة الأخرى كانت الصعوبات القانونية هائلة - فدعوة المحكمة إلى الإنعقاد في هزيع الليل، واستجماع الشهود لإقامة الدعوى، وانعقاد السنهدريم في جلسة كاملة في صباح الغد - كل هذه استدعت تفكيراً جباراً وتنظيماً عاجلاً. نعم كان عليهم أن يتركوا كثيراً من الحوادث لأحكام الصدف، على رجاء أن تسير الأحوال وفق البرنامج على قدر المستطاع. ولم يكن بدٌّ مع هذا أن توضع تفاصيل هذا البرنامج قبل إطلاق السهم الذي كان يتوقف عليه مصيرهم - وحتى بعد إعداد الإجراءات الأولية - كتدبير أمر القبض عليه، وانعقاد جلسة منتصف الليل لإستجماع أدلة الإتهام وعناصر إثباتها، وجلسة السنهدريم في الصباح الباكر للتصديق على هذه الإجراءات - حتى بعد كل هذا بقي أمر خطير لا مناص من مجابهته. أفي وسعهم إقناع الوالي الروماني للتمكن من تنفيذ حكم الإعدام قبل حلول العيد؟ أيرضى بيلاطس أن ينظر في القضية بالظروف والملابسات التي يفرضونها على هذا النحو؟ أتراه يلحُّ على إجراء محاكمة كاملة، أم يكتفي بالتصديق على قرار أصدرته محاكمهم الخاصة؟

كل هذه مسائل يجب تسويتها بالطرق الرسمية كإجراءات إدارية عادية. وقضى القانون بإعداد جدول خاص لمحاكمة المتهمين اليهود الذين تدعو الحال إلى نظر قضاياهم أمام محكمة الوالي الروماني. ولا بد من الحصول على موافقة بيلاطس الشخصية ورضائه قبل إعداد هذا الجدول.

والسرعة التي يعملون بها الآن في هذه القضية بالذات تحول دون الأخذ بهذه الطرق الرسمية الإدارية، فالساعة متأخرة والليل قد انتصف أو كاد، فلا محيص من عمل تدبير احتياطي مؤقت والإتفاق مع الوالي على نظر القضية في بكور الصباح التالي.

ولم يكن في أورشليم كلها غير إنسان واحد يجرؤ بحكم وظيفته على مقابلة بيلاطس في ساعة من الليل مخصصة لراحته والإستمتاع بلذاته. وذلك الإنسان هو قيافا رئيس الكهنة. والأرجح أنه هو الذي قام بهذه المهمة. فهو دون سواه، يستطيع أن يدلي، بحكم مركزه السامي وسلطته الرسمية، بالأسباب التي تؤيد هذه المحاكمة.

وقد يبدو لنا شأناً تافهاً أن يكون الرئيس الأسمى للأمة اليهودية قد زار بيلاطس في ساعة متأخرة من الليلة الليلاء أم لم يزره. ولكن إذا كانت الأمور قد سارت في المسرى الذي سنبحثه في الفصل التالي، فإنه سيكون لهذه الزيارة التي لم يدونها الإنجيل شأن خطير في تعليل بعض الحوادث الغامضة علينا. وأقصد بذلك مسلك بيلاطس الغريب في اليوم التالي في الساعات الرهيبة العصيبة التي تقرر فيها مصير المسيح.

الفصل الرابع: توازٍ نفسيُّ في القُوى

يخطئ كلّ من يزعم أنه يواجه أمراً هيناً عند بحث محاكمة يسوع الناصري أمام بيلاطس الوالي الروماني. فإن الأمر غامض دقيق. ولا نرى في ظاهره إلاَّ المياه الهادئة تجري في هدوء وسكون، ولكن هذا السكون يخفي تحته تيارات عميقة متدافعة، مما يجعل هذه القضية من أعمق البحوث النفسية وأكثرها لذة وإمتاعاً في تاريخ المحاكمات كله. ونحن لا نتخلص من الأسرار التي أحاطت بالمسيح حين نجيء به إلى ساحة القضاء الرومانية، بل إنّا نزيدها عشرة أضعاف.

والشيء الغريب حقاً في هذه القصة الذي لم يكشف عنه الرواة، لا نجده في مسلك اليهود ولا في مسلك المتهم نفسه، بل في مسلك بيلاطس. وأذكر أني قرأت الروايات التي كتبها البشيرون الأربعة جنباً إلى جنب. قرأتها لا مرة بل مرات، وأنا أحاول أن أتكشف ذلك الطابع الخفي الذي امتازت به هذه المحاكمة. وكل مرة قرأتها يرسخ فيَّ اليقين أني أجد العنصر الخفي الدفين عند محاولتي تخطيط مسلك بيلاطس كما دّونه الإنجيل، ومقارنته بما عرفناه من أخلاقه وسوابقه.

ونحن نعلم بعض الشيء عن التاريخ السابق لذلك الجندي الروماني الفظّ غير المثقف. وتقول بعض التقاليد التي قد لا يركن تماماً إلى صحتها، إنه ولد في مدينة سيفل من أعمال أسبانيا، وإنه تحدر من أسرة محاربة، وكان عضواً في جماعة من جماعات الفرسان، وخدم بعض الوقت تحت إشراف جرمانيكوس في ألمانيا. ثم أقام بعد ذلك مدة طويلة في روما، أولع فيها بحبّ فتاة رومانية من بنات الطبقة الرفيعة وهي «كلوديا بروشلا» التي قُدّر له أن يتزوجها فيما بعد، والتي سنسمع عنها بعد قليل في هذه القصة. وكانت هذه الفتاة إبنة غير شرعية لكلوديا، الزوجة الثالثة للإمبراطور طيباريوس. فكأن «كلوديا بروشلا» هي حفيدة أغسطس قيصر. وظاهر من تسلسل هذا النسب، ومن علاقة الفتاة بالبيت المالك الروماني، أن هذا الزواج كان له الفضل الأكبر في ترقية مصالح بيلاطس الخاصة. وقد تعين في سنة ٢٦ ب.م بتوصية سيجانوس والياً على اليهودية. وبعد نيله هذه الوظيفة السامية طلب أن يؤذن له بامتياز لم يكن مصرحاً له لولاة الرومان، أن يأخذ زوجته معه.

هذه هي الحقائق القليلة، القوية في دلالتها، التي نعرفها عن بيلاطس قبل مجيئه إلى اليهودية. وحين نقرأ تاريخه في خلال السنين العصيبة العشر التي قضاها في اليهودية، تشعُّ على سيرته أنوار من نواحٍ أخرى. وقد حفلت تلك الفترة العاصفة من الزمن بأحداث ثلاثة: هي إدخال الأعلام الرومانية إلى أورشليم وعليها تمثال الإمبراطور، وحادث النذر أو الكنز المقدس، وحادث اللوحات المنذورة. وإلى هذه الأحداث الثلاثة يضاف حادث النصب والإحتيال السامريّ الذي كان علّة استدعائه من منصبه وإقصائه نهائياً. وكلٌّ من هذه الحوادث يرسم صورة للرجل الذي نقف أمامه الآن.

ومن يقرأ بإمعان وفي غير تحيّز الروايات القديمة التي وضعها المؤرخون المعاصرون في وصف هذه الحوادث، ويدقق النظر في مسلك بيلاطس، دون البواعث المعزّوَة إليه، يقدر أن يرسم لنفسه صورة واضحة الخطوط لرجل فظّ خشن، تعوزه الحنكة السياسية، وتطغى على عقله عوامل العناد والقسوة - صورة رجل أُعطي سلطاناً فلم يحسن سياسته، ولم يرَ فيه غير قوة لتنفيذ مشيئته، دون أي اعتبار لتبعاته نحو الآخرين. وإنك لا ترى في مسلكه أثراً للحنكة وسعة الحيلة في معاملة الشعوب الغريبة الخاضعة للإمبراطورية، مما امتاز به يوليوس قيصر مثلاً أو غيره من الولاة الرومان البعيدي النظر الذين تحدروا من أُسر عريقة. بل على نقيض ذلك قد تجسَّم في شخصه العدوان الأثيم الطاغي، مما تراه عادة في الرجال الذين تطّوح بهم المقادير إلى مراكز من السلطة دون مقدرتهم وكفايتهم، فلا يطلبون شيئاً غير بلوغ مآربهم.

أما عناده ورعونته ونقص حنكته في الشؤون السياسية العامة فقد بدت بأجلى مظاهرها في مشكلة الأعلام الرومانية ولسنا ندري ما الذي حفزه إلى إرسال الأَعلام الرومانية وبيارق الكتائب الرومانية إلى أورشليم، حاملة تماثيل قيصر التي يعدُّها اليهود أوثاناً. وكونه أرسلها خلسة في الليل دليل على أنه توقع حدوث الإضطراب. ولما وقع هذا الإضطراب كان هو محاصراً في مدينة قيصرية مدة ستة أيام وست ليال، ولكنه لم يبذل أقل جهد لحل المشكلة بطريق المفاوضة أو الحجة. وكان جوابه الوحيد في اليوم السادس أن حاصر الوفد القادم إليه بالقوة المسلحة. ولما وجد على أثر هذه التجربة البطيئة أن المخرج الوحيد لن يتم إلاّ بمذبحة هائلة (وكان تعصّب اليهود شديداً ضد هذه التماثيل) عدل عن المقاومة وسلّم أمام هذا الضغط، وسحب الأعلام والبيارق من أورشليم.

ومن حسن الحظ أنه يمكننا أن نوازن بين مسلك بيلاطس في هذه المشكلة وبين موقف والٍ روماني آخر - يدعى بترونيوس - في موقف أشبه بهذا في دقّته وتعقده. وقد روى يوسيفوس المؤرخ القصة كاملة مسهبة. والمظهر البارز في القصة هو ذلك الإعتراف الصريح الذي يبديه بترونيوس في تسليمه بأن وراء المظاهرات اليهودية الوطنية قوى أدبية متأصلة لا يصلح أن تتجاهلها السلطات السياسية الرومانية، بل تحسب لها كل حساب. وإذ وُجد في موقف كهذا، عمد إلى إزالة العقبات بالمحاجّة المعقولة والمفاوضات الهادئة في مؤتمر خاص. وقد كان له من حافز القوة والبطش لتنفيذ مشيئته أكثر مما كان لبيلاطس، وذلك لأنه كان مكلفاً من قبل إمبراطور مجنون أن يضع تمثال الإمبراطور في هيكل اليهود. وكان تقصيره في القيام بهذا الأمر يجلب عليه عواقب وخيمة. فلما اصطدم بالصخرة عينها التي اصطدم بها بيلاطس كتب تقريراً إلى كايوس دلَّ، لا على شجاعته فقط، بل على يقظته لرفع سمعة روما وإعلاء كلمتها في الشرق.

والذي أبغيه من إيراد هذه القصة بيان الفارق الصارخ بين معالجة بترونيوس لمشكلة دقيقة وبين مسلك بيلاطس في مشكلة من نوعها. وهذا الفارق المميّز لخصال رجلين، يبيّن أيضاً فارقاً بين عقلين متباعدين كل البعد عن بعضهما. والحق أن بيلاطس عالج كل المشاكل التي عرضت له بنقص في المرونة العقلية وقلّة في الإدراك والفهم.

خذ مثلاً مشكلة «النذر» أو الكنز المقدس: أن الغرض الذي أخذ بيلاطس من أجله المال لا غبار عليه في حدّ ذاته - وهو تدبير المال اللازم لحفر قناة من بركة سلوام إلى داخل المدينة. وكان يهمُّ اليهود طبعاً، أكثر من غيرهم، توفّر ماء الشرب النقي في أورشليم. وقد شغلت هذه المشكلة أفكار كثيرين من الملوك والساسة مدى أجيال التاريخ، وقد بذل زعماء اليهود جهودهم أكثر من مرة لحلّ هذه المشكلة.

ولم يكن عسيراً تدبير المال لهذا المشروع الحيوي العام، لو بسطه الوالي صراحة أمام السلطات. ولكن بيلاطس بأساليبه المعوجة الملتوية يسطو على «النذر» وهو المال المفرز كله للأغراض الدينية. ولما ثار عليه الشعب وهو أمر طبيعي، عمد إلى خلق اضطراب دموي خطير بإرساله الجنود متنكرين في ملابس مدنية وسط الغوغاء للإيقاع بالشعب.

ونرى هذه الرعونة عينها وذلك العقل المعوج التفكير في حادثة «اللوحات المنذورة» (أي التقدمات للآلهة الرومانية) التي وضعها في القصر الهيرودسي وهو مقام الوالي في أورشليم على مقربة من الهيكل، وهو غير القصر الذي كان يسكنه هيرودس والي الجليل الذي يقع الآن على مقربة من باب يافا. والظاهر أن تفكيره خلا من أي تقدير أو فهم للإعتبارات الدينية، وتجردت نفسه من أي رغبة للتفاهم والمفاوضة. ولم يرجع عن غيّه في هذه المسألة إلا بعد أن تلقىّ توبيخاً قوياً من الإمبراطور طيباريوس على أثر رسالة تلقّاها من زعماء اليهود.

وجاء في الإنجيل إشارة إلى حادث دموي مزج فيه بيلاطس دماء بعض الجليليين «بذبائحهم» (لوقا ١٣: ١). ولسنا ندري إلى أي شيء تشير هذه العبارة، ولكنها تنسجم تماماً مع المزاج الذي عرفناه في بيلاطس، وتتشابه كل التشابه مع طريقة معالجته للمشكلة التي ذكرها فيلو الفيلسوف الإسكندري في كتاباته.

هذه هي ملامح بيلاطس البنطي كما نتمثلها في بعض الروايات المستقلّة عن بعضها التي أبقاها لنا التاريخ العالمي. وكلها روايات منسجمة مع بعضها تصور الرجل المستبد العاتي كما هو في خصاله وعقله ومزاجه.

ولكن حين نعود إلى قصة الإنجيل عن محاكمة يسوع على يد هذا الوالي ينطبع في نفوسنا أثر عميق يحملنا على الإعتقاد أن الشخصية التي لعبت دورها في المحاكمة لا تنسجم تماماً مع الشخصية التي عرفناها وكّونا الفكرة عنها. ذلك لأننا لا نرى في هذا الموقف بيلاطس الحقيقي - المنتفخ، المتجبّر، العاتي، الشرس، القاسي - الذي يحاكم «إنسان الموت». وهو يبدو لنا راغباً شديد الرغبة في مهادنة اليهود ومراضاتهم، ولكنه شديد التمتع في الإستسلام لرغباتهم. ونتمثله في موقف المحاكمة إنساناً تتنازعه قوتان مختصمتان متعارضتان.

وأنا أحسُّ إحساساً قوياً أن بيلاطس لم يرد أن يمسّ هذه القضية. فإن فكرة معينة تسلطت عليه وتمكّنت منه - أن يطلق المسيح بريئاً بأي حال ومهما كلّفه ذلك. ونرى هذا الباعث متمشياً في كل الإجراءات - في محاولته نقل القضية إلى هيرودس، وفي إعلانه ثلاث مرات براءة المتهم، وفي غسل يديه، وفي محاولته اليائسة الأخيرة لإحلال باراباس محل المتهم كلقمة يسدُّ بها الأفواه الصارخة ويهدئ الحناجر الصاخبة. ولم تعتره رعشة من الخوف غلبت عليه أمره إلا حين سمع الصرخة الداوية المشئومة: «لست محباً لقيصر».

فما هو تعليل هذا التناقض الظاهر في مسلك رجل عُرف عنه قوة الإرادة وصلابة الرأي؟ ولِمَ يبدو بيلاطس الذي وصمه التاريخ العالمي بطابع الظلم والقسوة، رجلاً حائراً متذبذباً في قصة الإنجيل؟

لا أظن أننا واصلون إلى التعليل الصحيح لهذه الظاهرة الغريبة، إلاّ حين نُدخل في تقديرنا بعض الحوادث الشخصية من ناحية بيلاطس، لا سيما ما حدث منها داخل بيته في مساء اليوم السابق للمحاكمة:

قلنا بعد استنتاج الأسباب والعوامل التي أدت إلى تأخير القبض على يسوع بضع ساعات، أن بيلاطس لا بد أن يكون قد أُبلغ ما سوف يحدث في الغداة، وأن المقابلة التي تمت بينه وبين رئيس الكهنة لا يمكن حدوثها قبل الساعة الحادية عشرة في المساء.

ومع قوة الدليل الذي يثبت هذه المقابلة التي لم تدّونها القصة، فإن هناك شيئاً آخر يؤيدها ويسندها - ذلك أن كلوديا بروشلا زوجة بيلاطس كانت في القصر الهيرودسي تلك الليلة. ومما له مغزاه الخطير أن يسجل التاريخ عن كلوديا بروشلا هذه الإشارة الوحيدة التي تناقلتها الأجيال عنها في هذه المأساة، فيقال عنها: «أنها حلمت عن يسوع المسيح في الليلة السابقة لموته». وإذ نفكر في المحاكمة الرومانية سائرة حسب الأصول التقليدية التي بموجبها قدّم اليهود المتهم إلى بيلاطس في صباح الجمعة دون تدبير سابق، فإننا لا نجد معنى للإشارة إلى بروشلا. وتبدو لنا القصة في هذه الحالة عارية عن المنطق، بعيدة عن كل احتمال. أما حين نضع الأمور في نصابها ونرتّب الحوادث في تسلسلها الطبيعي، فلا نلبث حتى ينجلي الحق أمامنا. وإليك تسلسل الحوادث في تلك الليلة المأثورة:

كان بيلاطس ليلتها في «المدينة» أي أورشليم، لا لزيارة قصيرة عاجلة، بل للإقامة مدة أيام العيد العشرة. ومن المحتمل جداً أن تكون كلوديا قد قدمت معه حتى ولو لم يكن لدينا رواية متى التي تدل على أن هذا هو الذي حدث (متى ٢٧: ١٩). وقد كان أصدقاء بيلاطس وزوجته قليلين بلا شك في العاصمة الأجنبية. وكان لزاماً على رجل رسمي في مركز بيلاطس أن يضيق دائرة أصحابه الأخصاء إلى أقل عدد ممكن. وطبيعي في حال كهذه أن يطيل الرفيقان - الزوج وزوجته - التسامر معاً في مدينة كأورشليم.

ولا نبعد عن الصواب كثيراً، إذا تصورناهما في تلك الليلة جالسين معاً أمام المدفأة يصطليان في قاعة فسيحة بالجناح الخاص في قصر الولاية، لأن الليلة كانت قارسة البرد، بدليل دخول بطرس إلى فناء دار رئيس الكهنة ليدفئ يديه. ولكي نستتبع سير الحوادث تماماً، علينا أن نذكر قيود الزمن التي تثيرها هذه القضية. فإننا نعلم من رواية الإنجيل أن بيلاطس نظر القضية في بكور يوم الجمعة، وأن زيارة يهوذا العاجلة لرئيس الكهنة تمّت على الأرجح فيما بين الثامنة والتاسعة من مساء الخميس، لأن حفلة العشاء استمرت بعض الوقت بعد خروجه. وبقي علينا أن نعلل سبب الإنتظار ساعتين في البستان. فإذا كان قرار القبض على يسوع قد صدر على أثر المعلومات التي حملها يهوذا إلى الكهنة (ولدينا من الأدلة القوية ما يؤيد هذا الرأي)، فلا بدَّ أن تكون المقابلة مع الوالي قد جرت فيما بين التاسعة والحادية عشرة مساء، وإلاّ فكيف تمكَّن رؤساء الكهنة من تقديم القضية إلى الوالي في صباح اليوم التالي، وحَمْله على النظر فيها بكور اليوم؟

وكما قلت من قبل لم يكن في أورشليم كلها إلاّ رجل واحد يستطيع بحكم وظيفته الرسمية أن يقتحم آمناً الدار الخاصة التي يقيم فيها ممثل روما في ساعة متأخرة من الليل، ولأسباب سياسية عاجلة، وذلك الرجل هو قيافا رئيس الكهنة. ولست أدري كيف حصل اليهود على رضاء الوالي الروماني للنظر في القضية على وجه السرعة بعد إخطار قصير الأجل، إلا إذا سلَّمنا أن قوة شخصية وسلطة يهودية عليا لعبت دورها في الإلحاح والإقناع.

وأعتقد أننا لا نبعد كثيراً عن نطاق الإحتمالات التاريخية، إذا نحن افترضنا أن زائراً ممتازاً ذا مقام خطير يمّم وجهه صوب القصر الهيرودسي فيما بين الساعة التاسعة والحادية عشرة، ولعلّ ساعة المقابلة كانت أقرب كثيراً إلى الأخيرة منها إلى الأولى. ومن الممكن أن يكون قد سُمح للزائر أن يدخل الجناح الخاص الذي يقيم فيه الوالي، وإن كنا نرجح أن بيلاطس نفسه خرج للقائه في قاعة خارجية من قاعات القصر.

وأتصور أن ذلك الزائر الكبير قصَّ على الوالي خلاصة القضية وقال له إنه سيقبض الليلة على مهيج سياسي خَطِر، ومن الصالح العام أن تتم المحاكمة في صباح اليوم التالي، وأن يكون الحكم بأقصى العقوبة. وسأل الزائر بيلاطس: أيرضى أن ينظر في القضية في ساعة مبكرة ليمكن إصدار الحكم وتنفيذه قبيل مغيب الشمس قبل حلول الفصح اليهودي؟

وأفترض أن حديثاً آخر جرى بين الإثنين عن مشكلة التدنيس الدقيقة. وذلك لأنه لم يكن مصرحاً لذوي الوظائف الكهنوتية في الهيكل أن يدخلوا فناء الأجنبي الغريب في ذلك اليوم. ولكن المسألة عاجلة، فهل يتنازل بيلاطس في هذا الظرف الخاص، ويخرج من ساحة القضاء إلى مقابلة الوفد الذي سيجيء إليه بالمتهم وبقرارات المحكمة اليهودية؟

جرى الحديث في شؤون من هذا القبيل زهاء عشرين أو ثلاثين دقيقة. وبعد خروج الضيف عاد بيلاطس إلى المدفأة. فهل يفترض أي إنسان له بعض الإلمام بأخلاق المرأة وخصائصها أن تمرّ هذه الحادثة دون أن تحاول كلوديا الوقوف على بعض ما جرى؟ إنها لا تكون إمرأة لو لم يدفعها حب الإستطلاع إلى أن تقف على جليّة الخبر. وأكاد أوقن أن حديثاً جرى قبل الذهاب إلى مخادع النوم بين الوالي وزوجته عن تلك الزيارة المفاجئة وعن هويّة المتهم، وعن أسباب القبض عليه. وكل شيء يُشتم منه رائحة سوء التفاهم بين اليهود وبين زوجها كانت تهتم به «كلوديا بورشلا» كل الإهتمام.

وحينما آوت كلوديا إلى مضجعها في تلك الليلة كان التفكير في يسوع هذا ملأ عقلها وفكرها. فلما استيقظت في الصباح بعد حلم أليم مزعج ورأت زوجها وقد غادر القصر، عرفت أين ذهب، وعرفت القضية الدقيقة التي تحتَّم عليه اليوم أن يفصل فيها. وفي تلك اللحظة، على رواية كاتب بشارة متى، بعثت إليه برسالة - تكاد تكون أشبه برسالة برقية في قِصرَها وسرعتها - نقلت فيها إليه أفكارها ومخاوفها، وما ينبغي عليه أن يفعل في القضية:

«إياك وذلك البار. لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله»

إلى هنا نقدر أن نتتبع تسلسل الحوادث بطريقة منطقية مفهومة. وأعتقد أن القارئ يقرّني على هذا الرأي. ومن الخواص البارزة في رسالة كلوديا، كما رواها متى، تلك العَجَلة التي امتازت بها. وتدل الألفاظ في ظاهرها وقلّتها على أنها كتبت بسرعة فائقة، أرادت بها صاحبتها أن تنقل نبأ خطيراً عاجلاً بأقل ما يمكن من الألفاظ. والحق أنه ليس من الميسور أن نبتكر عبارة غيرها في إيجاز يماثلها تنقل الأفكار والمعلومات التي أرادت بروشلا إبلاغها إلى زوجها في صباح ذلك اليوم. فهي قد أرادت أن تحذره حتى لا يمس ذلك الإنسان بسوء، وأن يمتنع عن التدخل في القضية. والظاهر أنها كانت متأثرة بفكرة أن بيلاطس اعتزم أن يسلّم المسيح إلى أعدائه في الدور الأول من أدوار الإجراءات. لذلك أسرعت فأنذرته لكي لا يفعل.

ولست أريد الإطالة هنا في القول إنه متى سلّمنا بأن كلوديا قد علمت في الليلة الفائتة بظروف القبض على المتهم، فإن هذا العلم السابق يعلل تعليلاً كافياً الحلم الذي أزعجها بالليل. ولكنني أريد أن ألفت النظر إلى أمر هام، وهو أن الحلم ما كان ليزعج بروشلا على هذا النحو عند يقظتها في الصباح الباكر لو لم تكن قد عرفت أو توفرت لديها الأسباب بأن بيلاطس معتزم تسليم المتهم إلى أعدائه.

ومضمون الرسالة ونصها يؤيدان هذا الرأي:

«إياك وذلك البار. لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله»

وعلى أي وجه قلّبنا هذه الألفاظ، فإنه لا يسعنا إلا الجزم بأنها كتبت بيد إمرأة متلهفة أرادت أن تحول دون أمر كان على وشك الحدوث. والحقائق كلها تنبئ أن كلوديا أيقنت أن بيلاطس كان مصمماً على إجازة قرارات المحكمة اليهودية دون بحث مسهب في القضية، أو على الأقل بعد مراعاة القليل من الإجراءات الرسمية التي يتطلبها الموقف. وبعبارة أخرى كان معتزماً فعلاً أن يؤيد القرار اليهودي. ومن المحتمل أنه أبدى هذا الإستعداد من جانبه في حديث الليلة الفائتة مع رئيس الكهنة.

وأني أميل إلى هذا الإستنتاج بعد دراسة دقيقة للموقف السياسي الذي ساق رؤساء الكهنة إلى اتخاذ التحّوط الدقيق الذي اتخذوه. وأحسُّ أن أول شيء أراد قيافا التأكد منه قبل إصدار الأمر بالقبض على المتهم هو وجهة نظر بيلاطس ومدى استعداده للتصديق على ما يفعلون. وإذا كان بيلاطس قد رضي إقرار إجراءات السنهدريم بعد أن بسطها له رئيس الكهنة في زيارته الخاصة بأن الجرم يستحق عقوبة الموت، فإنه لا يصعب السير بالإجراءات سريعاً وتنفيذ الحكم قبل غروب الشمس. أما إذا لم يرض بيلاطس فإن الإجراءات تطول، ولا يدري أحد ما سيحدث بعد ذلك. ولو لم يضمن رئيس الكهنة هذا القبول من الوالي، لعدل حتماً عن القبض على المتهم، وآثر التربص إلى موسم آخر. أما وقد نفذ القبض عليه حسب التدبير الذي وضعه اليهود، فإني لا أشك أنهم قد استرضوا الوالي أولاً فيما هم فاعلون.

وما كنت أنتظر مطلقاً أن أتبين من دراسة هذه القضية أن الروايات المدونة عن المحاكمة الرومانية ذاتها تؤيد تأييداً قاطعاً هذا الرأي الذي أذهب إليه.

خذ روايات البشائر الأربع عن محاكمة يسوع أمام بيلاطس البنطي، وضعها أمامك قبالة بعضها في صفحة واحدة، ثم قارن بينها، تجدها مجمعة على شيء واحد وهو أن بيلاطس سأل يسوع:«أأنت ملك اليهود؟».

والمهم في الأمر هنا أن البشارتين المتقدمتين في التاريخ لم تشيرا قط حتى إلى نوع التهمة التي أقامها اليهود أمام بيلاطس. فمتى ومرقس بما عُهد فيهما من الإيجاز في القول والبُعد عن التبسيط في تفاصيل الحوادث ذكرا أن بيلاطس سأل هذا السؤال الهام مباشرة، دون أن تسبقه مقدمات تدعو إليه:

رواية مرقس رواية متى
وَلِلْوَقْتِ فِي ٱلصَّبَاحِ تَشَاوَرَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخُ وَٱلْكَتَبَةُ وَٱلْمَجْمَعُ كُلُّهُ، فَأَوْثَقُوا يَسُوعَ وَمَضَوْا بِهِ وَأَسْلَمُوهُ إِلَى بِيلاطُسَ. فَسَأَلَهُ بِيلاطُسُ: «أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟»(مرقس ١٥: ١ و٢). وَلَمَّا كَانَ ٱلصَّبَاحُ تَشَاوَرَ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ ٱلشَّعْبِ عَلَى يَسُوعَ حَتَّى يَقْتُلُوهُ، فَأَوْثَقُوهُ وَمَضَوْا بِهِ وَدَفَعُوهُ إِلَى بِيلاطُسَ ٱلْبُنْطِيِّ ٱلْوَالِي... فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ ٱلْوَالِي. فَسَأَلَهُ ٱلْوَالِي: «أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟» (متى ٢٧: ١ و٢ و١١).

 

وظاهر أنه لا يمكن أن تكون هذه بداية الإجراءات. وقد قفز ذانك الكاتبان وتخطّيا أموراً هامة نراها ضرورية، على الأقل في هذا البحث الذي نحن بصدده - وأعني بذلك كيف سيق الوالي إلى أن يسأل هذا السؤال الخطير، وما المقدمات التي أدت إليه.

ومن حسن التوفيق أن لدينا في الإنجيل الكريم روايتين أخريين تشفيان لنا هذا الغليل، وها أنا أوردهما أمام القارئ للدرس والموازنة:

رواية لوقا رواية يوحنا
فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلاطُسَ، وَٱبْتَدَأُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هٰذَا يُفْسِدُ ٱلأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلاً: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ». فَسَأَلَهُ بِيلاطُسُ: «أَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟» (لوقا ٢٣: ١-٣). فَخَرَجَ بِيلاطُسُ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَيَّةَ شِكَايَةٍ تُقَدِّمُونَ عَلَى هٰذَا ٱلإِنْسَانِ؟» أَجَابُوا: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرٍّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ!»فَقَالَ لَهُمْ بِيلاطُسُ: «خُذُوهُ أَنْتُمْ وَٱحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ». فَقَالَ لَهُ ٱلْيَهُودُ: «لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَداً». لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ ٱلَّذِي قَالَهُ مُشِيراً إِلَى أَيَّةِ مِيتَةٍ كَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَمُوتَ. ثُمَّ دَخَلَ بِيلاطُسُ أَيْضاً إِلَى دَارِ ٱلْوِلايَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ:«أَأَنْتَ مَلِكُ ٱلْيَهُودِ؟» (يوحنا ١٨: ٢٩-٣٣).

 

ونرى في هاتين الروايتين أمرين: أولاً - إنهما تقدمان لنا بياناً أوفى وأدق لما حدث. وثانياً وهو الأهم، أن سؤال بيلاطس لم يكن إلاَّ بعد محاجَّة تمهيدية مع اليهود. وإلى هذه المحاجّة التمهيدية أوجه الآن نظر القارئ:

لو لم يكن لدينا غير رواية لوقا وشهادته، لجاز لنا أن نفترض أنه بمجرد أن قدَّم الكهنة المتهم أمام محكمة بيلاطس، أقاموا ضده دعواهم قائلين:

«إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك»

لنسلّم هنا لحظة أن هذا هو الإفتتاح الطبيعي الذي بُدئت به القضية. ولو لم يكن لدينا بيانات أخرى لجاز لنا في غير حرج، بل لاضطررنا، إلى أن نفترض أن جلسة الإتهام افتُتحت بهذا القول من المدّعين. ولكن في البشارة الرابعة شيئاً آخر يسترعي النظر، وذلك لأنها تشرح الطريقة التي تقدَّم بها الإتهام اليهودي أمام بيلاطس. وليس معنى هذا أن رواية يوحنا تناقض روايات البشائر الثلاث الأخرى. بل على نقيض ذلك هي تكملها وتؤيدها. أن البشير يعود إلى الوراء لذكر وقائع سابقة، ويقدم لنا الحلقة المفقودة في قصة البشيرين الآخرين.

ويذكر البشير قبل كل شيء واقعة نحسبها قريبة الإحتمال جداً، وهي أنه عند إحضار المتهم أمام بيلاطس، سيق المتهم نفسه إلى داخل القصر، وبقي الكهنة والمدَّعون الآخرون خارجه.

وبعد فترة قصيرة، على قول البشير يوحنا، خرج بيلاطس وسأل اليهود قائلاً: «أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟» وهذا هو السؤال الذي كانت تستهل به المحاكمة الرومانية إجراءاتها، لأن القضاء الروماني يصرّ على توجيه اتهام علني، يعقبه تحقيق القاضي، ثم دفاع المتهم.

وكان جواب الكهنة على شيء من الخطورة قلَّما نفطن إليها ونحن نقرأ الألفاظ عَرضاً. قالوا: «لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك».

وقبل إمعان الفكر في معنى هذه العبارة، لنعد إلى الروايتين اللتين أوردناهما متجاورتين من لوقا ويوحنا - وواضح حتى لدى القراءة العاجلة أن هناك ثغرة في رواية يوحنا تعقب هذا الجواب الملتبس الذي أجاب به الكهنة. فإنه لا يعقل أن بيلاطس ينتقل من هذا الجواب الذي ينضح مراوغة وتملصاً وحنقاً، إلى سؤال خطير يوجهه إلى يسوع قائلاً: «أأنت ملك؟». لا بد أن بين القولين حديثاً آخر حمل بيلاطس على توجيه هذا السؤال.

ومن حسن الحظ أن العبارة الناقصة قد أوردها البشير لوقا. فنستطيع أن نورد القصة كاملة حسب تسلسلها المنطقي مأخوذة عن روايات بشائر الإنجيل الأربع:

قصة كاملة لإفتتاح المحاكمة الرومانية

تقديم المتهم إلى بيلاطس: «ثم جاءوا بيسوع من عند قيافا إلى دار الولاية لكي لا يتنجسوا فيأكلون الفصح»
طلب بيلاطس إقامة الدعوى: «فخرج بيلاطس إليهم وقال: أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟»
تمنّع اليهود عن إقامة الدعوى: «أجابوا وقالوا: لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك!»
ردّ بيلاطس: «فقال لهم بيلاطس خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم»
جواب الكهنة تهمة مرتجلة: «فقال له اليهود لا يجوز لنا أن نقتل أحداً. وابتدأوا يشتكون عليه قائلين: أننا وجدنا هذا يفسد الأمة، ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك»
سؤال بيلاطس للمتهم: «ثم دخل بيلاطس أيضاً إلى دار الولاية ودعا يسوع وقال له: أأنت مللك اليهود؟»

 

وهذه القصة المنسقة الكاملة لا تشمل فقط الحقائق الجوهرية التي رواها البشيرون الأربعة حسب الترتيب الذي أثبتوه، بل هي في الواقع القصة الوحيدة التي بين أيدينا عن الإجراءات. ويثبت لنا عند بحث الوثائق أن أولئك الكتاب الأربعة قد أجمعوا على الوقائع التي اشتركوا في تدوينها. وتبدو لنا القصة في هذا الوضع لمحة تاريخية منسقة صادقة.

وبهذا الوصف الذي أجملنا، نقدر الآن أن نتتبع أدوار القصة التي تكاد تكون فريدة من نوعها في تاريخ العالم من ناحيتيها التاريخية والنفسية:

وأول حادث في هذه المأساة التي أجملنا تاريخها فيما تقدم هو المجيء بيسوع من مكان اعتقاله (ربما في دار رئيس الكهنة) إلى مكان المحاكمة. وقد استغرق هذا على الأرجح عشرين دقيقة. ولما كانت الساعة مبكرة فمن المحتمل أنه لم يشهد هذا الموكب الصغير وهو سائر في طرقات أورشليم الضيقة إلاَّ نفر قليل من النظارة. وكان الوالي نفسه قد استيقظ باكراً في صبيحة ذلك اليوم وبقي منتظراً مجيء الوفد. وعند الوصول إلى باب القصر، لا بد أن يقف القوم دقائق معدودات ريثما تُبحث الوثائق والمستندات، وبعد ذلك يُقاد المتهم، مخفوراً بجندي روماني، إلى قاعة البلاط التي يجلس فيها بيلاطس، أما الوفد والمرافقون له فيبقون خارجاً.

وهنا نجيء إلى نقطة شيّقة. فإنه بعد فترة قصيرة خرج بيلاطس نفسه إلى الوفد اليهودي وسألهم: «أية شكاية تقدمون ضد هذا الإنسان؟» وقد كان هذا السؤال دليلاً لا شك فيه على أن بيلاطس اعتزم إعادة النظر في القضية، مما أثار حَنق رؤساء الكهنة - لأن جوابهم لم يكن فقط خلواً من اللياقة والإحترام لبيلاطس وهو يقوم بواجبه، بل يُشتمُّ منه أيضاً أن في نفوسهم حفائظ ضده في هذه القضية بالذات:

«لو لم يكن فاعل شر، لما كنا قد سلمناه إليك»

ويخيل إليَّ أن ليس لهذا الجواب الجاف إلا تعليل واحد، وهو أن الكهنة حنقوا على بيلاطس حين رأوه معتزماً إعادة بحث القضية. وذلك لأنهم جاءوا، على ما يظهر، وهم متأثرون بأن بيلاطس غير مصرّ على إعادة النظر في القضية وبحث وثائقها من جديد. وأظنهم جاءوا دون أن يجهزوا تهمة عامة لإقامتها على المتهم أمامه. ولو أسغنا لأنفسنا وضع هذا الجواب في تعبير آخر لا يبعد عن الصواب، لقلنا إن الكهنة أجابوا «أما تكتفي بالتحقيق الذي أجرَتْه محكمتنا التي اتّضح لها أن هذا الإنسان فاعل شر؟ ولماذا تريد البحث من جديد ما دمنا قد وجدناه مستحق الموت؟»

وقد أجاب بيلاطس جواباً ماكراً لبقاً: «خذوه أنتم واحكموا عليه حسب ناموسكم».

ولم يكن لهذه الهجمة اللبقة الحاذقة إلاَّ جواب واحد ينطوي على طلب جديد للتصديق على الحكم: «لا يجوز لنا أن نقتل أحداً»

ثم يبدو لنا بعد ذلك أنهم، وقد يئسوا من نَيْل ما يطلبون دون فحص القضية «ابتدأوا يشتكون عليه قائلين: إننا وجدنا هذا يفسد الأمة ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر قائلاً إنه هو مسيح ملك».

وقد كان في ذكر كلمة «ملك» مثاراً لتفكير بيلاطس، فدخل إلى القصر ووجّه إلى المسيح هذا السؤال التاريخي: «أأنت ملك اليهود»؟

وفي هذه القصة شيئان حقيقيان بالنظر الدقيق:

الأول: أنها صورة من صور الحياة.

الثاني: أن دهشة رؤساء الكهنة وحنقهم حين ألمح بيلاطس إلى عزمه على النظر في القضية من جديد، يدلاّن من غير شك على شبه اتفاق سابق بين الفريقين. فهم ما كانوا ليجسروا على مخاطبة بيلاطس بهذه القحة، والإلماع إليه بطلب التصديق على حكمهم، لو لم يكن قد أدخل في روعهم من قبل أنهم نائلون هذا في غير عناء.

وحين نضع هذه الحقيقة إلى جانب رسالة كلوديا العاجلة إلى زوجها - نتبيّن لماذا تلهفت كلوديا على إيصال رسالتها إلى زوجها قبل فوات الفرصة. فإنه إذا كانت الحوادث قد اتخذت سيرها الذي أجملنا، تكون كلوديا قد عرفت حين آوت إلى مخدعها، لا هويّة المتهم فقط، بل عرفت أيضاً أن بيلاطس كان يفكر (إن لم يكن قد وعد) بإقرار الحكم الذي أصدره اليهود. وهنا السرّ في الرسالة العاجلة التي بعثت بها إلى زوجها، ملحَّة ألاّ يسير فيما اعتزم عليه من قبل، مهما كلفه الأمر.

وإذا كان هذا هو الhستنتاج الصحيح الذي نستخلصه من القصة، فإننا نستنتج منه أن رسالة كلوديا بروشلا إلى بيلاطس في صباح يوم الصلب غيّرت مجرى التاريخ من بعض الوجوه الخاصة. ولا ريب أن بيلاطس تلقّى الرسالة عقيب وصوله إلى قاعة المحاكمة، لأن المرأة المتوترة الأعصاب تنام عادة نوماً خفيفاً. وما نعرفه من فحوى الرسالة يدلُّ على أنها كُتبت حالاً بعد اليقظة من النوم. ويبدو لي جلياً من هذا أن بيلاطس نزل إلى قاعة المحاكمة وهو معتزم أن يصدّق على الحكم الذي أبرمه اليهود. وقبل أن يجيء الوفد ومعه المتهم، حدث أمر حمله على أن يغيّر رأيه. وليس هذا كل ما في الأمر. فإن خواص الحالات النفسية، حين تتحدّاها عوامل خارجة، أن تميل إلى التطرف في ناحية تناقض ما عزمت النفس عليه. ومن ثمَّ نرى بيلاطس - في موقفه مع اليهود في صبيحة ذلك اليوم - مُعنياً بشيء واحد، هو أن ينقل تبعة هذه القضية إلى الآخرين ولا يكون له دخل فيها.

ولا يمكن محو هذه الحقيقة من بين ثنايا القصة التي بأيدينا، فإننا نراها مبدئياً في محاولته إقناع اليهود أن ينفذوا الحكم بأنفسهم، ثم نراها في محاولته إطلاق المتهم ثلاث مرات، ثم نراها في إحالة القضية على هيرودس، ونراها أخيراً في اللحظة الخطيرة التي عجز فيها عن إسماع صوته وسط ضجيج الجماهير فأخذ ماءً وغسل يديه معلناً أن لا يد له في القضية.

ومن ثمَّ يكشف لنا أحد أفراد أسرة بيلاطس الوالي الروماني ذلك التوازن النفسي في القوى التي لعبت دورها في موت المسيح. والذي نعرفه أن تأثير يسوع على المرأة كان عميقاً جداً، فلقد انتزع مريم المجدلية، التي أنقذها من قوات الشيطان، من قريتها مجدلا وجعل منها تلميذة طيّعة له. ثم أخذ الأبناء والعائلين من سالومة ومريم زوجة كلوبا، ومع ذلك فإنهما أخلصتا له الإخلاص كله وما كانتا لتخشيا الموت في سبيله، وتحمّلتا فيما بعد أكثر المعاناة والمشقة من أجله. ثم كان صديقاً ودوداً للنساء المثقفات في عصره مثل مريم وأختها مرثا. وفي بيت هيرودس نفسه كان له تابعة مخلصة أمينة هي يونّا. فهل يصح أن نضيف إلى دائرة تابعاته كلوديا زوجة بيلاطس؟

أما من حيث التلمذة له فنقول: لا. أما من حيث وقوعها بطريقة غامضة تحت نفوذه الأدبي وقوته الروحية الفكرية، فلا معدىً عن القول بنعم، فهي التي غذّت غريزة العدالة الرومانية في نفس بيلاطس في ساعة تعرَّض فيها لإمتحان قاسٍ، ومال لإعتبارات شخصية إلى مداراة نزعات التعصب اليهودي، وتسليم يسوع على أساس توصياتهم فقط. وهي صاحبة اليد التي صقلت بلون زاهٍ برّاق ذلك الظالم العاتي الذي لعب دوره بضع ساعات أمام الجمهور متخفياً في ثوب الإداري الحازم الصبور، الراغب في أن يزن الحق بأدق ميزان وأعدله. وحريّ بنا ألاّ نغضّ الطرف عن هذا الصقل الزاهي، ولو أنه صقل عابر سريع الزوال في حياة بيلاطس.

وفي الساعات التي غلب فيها هذا الحافز النبيل على نفسه وهو يعالج هذه القضية المعقدة المحيّرة، كاد يكون موقفه كاملاً لا غبار عليه. فما كان لإنسان أن يطلب من أية محكمة في ذلك العصر أكثر من هذه الإجراءات العادلة وأنت تتبين في أدوارها نفس قاض أيقن في غير مواربة براءة يسوع. ولكن حينما تراخى هذا الحافز وتوارى أمام عناد اليهود وصرير أسنانهم، وحين تخلَّع قلب بيلاطس لدى سماعه التهديد بتدخُّل قيصر، خار حزمه وعاد إلى عزمه الاول من حيث تسليم المتهم إلى أيديهم.

وهكذا انتهت المعركة بين الإرادتين بهزيمة الوالي الروماني. ولو كنا هناك، لرأينا بعد هذا الإندحار إنساناً مضطرباً مغيظاً يتعثر في طريقه إلى باحات القصر الملكي. ولا حاجة بنا الآن لأن نفكر طويلاً في هذه النكسة، فإنه بعد ساعات عاد إليه الكهنة، وإذا به قد كتب في عجلة، أو ربما في رغبة جافية لكشح معذّبيه، عنواناً مأثوراً خالداً باللغات الثلاث: «هذا ملك اليهود». وقد طلب إليه الكهنة أن يغيّر ما كتب فأبى وقال: «ما كتبتُ قد كتبت» - وانكشف في النور بيلاطس الحقيقي بعد أن ولَّت ساعة السمّو والإرتفاع في أزمة شخصية لم تقوَ فيها نفسه على معاناة التجربة.

الفصل الخامس: الموقف بعد ظهر يوم الجمعة

إذا أردنا الوقوف على سير الحوادث التي وقعت عقيب موت المسيح، تعيّن علينا أن نبحث بتدقيق الموقف كما كان حوالي الساعة الرابعة من عصارى يوم الجمعة.

وإلى هنا كان بحثنا في الموضوع دائراً كله أو جلّه من وجهة النظر الرسمية الكهنوتية، وقد كان لوجهة النظر هذه شأنها وخطورتها في الأدوار الأولى من هذه القضية. فالذين أقاموا الدعوى هم الكهنة، ولم يكن بدٌّ من معرفة ما كان وراءها من العوامل. ولكن بعد أن نالوا أربهم، يختفي مؤقتاً أولئك الممثلون الرسميون لليهودية، ويحلُّ محلهم على مسرح الحوادث قوم آخرون هم صحابة يسوع وأصدقاؤه المخلصون الذين نُعنى بهم في الفصلين أو ربما الفصول الثلاثة التالية. ولنبدأ الآن ببحث مَن كان أولئك الصحابة، وما الذي تقوله عنهم الوثائق التي بين أيدينا:

وإذا استثنينا مريم ومرثا من بيت عنيا وأخاهما العازر الذين لم يرد لهم ذكر في الحوادث الأخيرة من هذه المأساة لأسباب سنبحثها فيما بعد، فإنه يبقى بعد هؤلاء نفر قوامه ستة عشر شخصاً. كلهم من أصدقاء يسوع اصطفاهم أعواناً خلصاء:

الأحد عشر رسولاً

مريم أم يسوع

مريم زوجة كلوبا

سالومة زوجة زبدي

مريم المجدلية

يونا إمرأة خوزي وكيل هيرودس

وقد يصح أن نضيف إلى هؤلاء رجلين آخرين من طبقة أجتماعية رفيعة ذات شأن، لم يعترفا جهرة بتلمذتهما ليسوع، ولكنهما كانا يعطفان على قضيته كل العطف - وهما يوسف الرامي، والمشير اليهودي نيقوديموس، أحد أعضاء مجلس السنهدريم.

ويؤخذ من رواية الإنجيل أن كلاّ من هؤلاء الثمانية عشر شخصاً كان حاضراً في أورشليم أو في ضواحيها في ذلك العيد. ولدينا في الوثائق ما نستطيع به أن نقفوَ خطى كل منهم، لا سيما فيما يتعلق بالنساء. وسنرى أن لأدلتهن قيمة خاصة في الحوادث الطارئة فيما بعد.

والسؤال الذي يتعيّن علينا بحثه هو: كيف تلقّى أولئك الصحابة الصدمة العنيفة بعد إلقاء القبض على المسيح وصَلْبه؟ وما الظروف الدقيقة التي عرفوا فيها ما كان يجري من الحوادث، وكيف تلقوا هذه الحوادث كلها التي أدَّت، لا إلى موت زعيمهم فقط، بل إلى اضطراب عميق في حياتهم الخاصة؟

من الميسور أن نجيب على هذا السؤال في غير عناء عن التلاميذ أنفسهم. وما من شك أنهم لم يدركوا خطورة الأمر تماماً إلا في ساعة متأخرة من يوم الخميس. ونحن لا ننكر أن رنات أقوال يسوع الرزينة الخطيرة خلال تناول العشاء في العلية قد أعدّتهم لتوقُّع فاجعة من نوع ما، ولكنهم لم يدركوا تماماً حقيقة الأمر الرهيب إلاَّ حين أقبل يهوذا الخائن ومعه الجند للقبض على سيدهم، ولم يكن في وسع نفر ضعاف مقاومة القوة المسلحة التي جاءت للقبض عليه. وبعد محاولة عقيمة غير مجدية من جانب بطرس، هرب الأكثرون منهم لا يلوون على شيء. وانقضى الليل كله ويسوع بين أيدي أعدائه، وأتباعه المخلصون قد تبعثروا وارتاعوا من هول ما رأوا!

على أن إثنين من أتباعه، وهما بطرس ويوحنا، ظهرا ثانية في الهزيع الأخير من الليل في أفنية دار رئيس الكهنة، ويخيَّل إلينا أنهما دخلا المدينة في أعقاب الشرذمة التي ألقت القبض على يسوع. وقد كان أولئك الذين كُلفوا بالقبض عليه، على قول رواية الإنجيل، خليطاً غير متجانس من الناس صحبوا جنود السنهدريم إلى بستان جثسيماني. وأغلب الظن أنه قد وُضعت التدابير اللازمة للسماح لهذه الحملة بالعودة إلى المدينة من أحد أبوابها. ولم يكن متعذراً على بطرس ويوحنا أن يندسَّا في الظلام وسط الهرج والمرج ويدخلا المدينة مع الداخلين دون أن يعرفهما أحد. وما أن دخلا باب المدينة حتى اقتفيا خُطى الحملة إلى دار رئيس الكهنة، حيث أفاد يوحنا بما كان بينه وبين البوابة من تعارف، وتمكَّنا من الوقوف على بعض ما كان يجري.

أما التسعة التلاميذ الآخرون فإني أشك كثيراً في أنهم قضوا الليلة في أورشليم. والظاهر أنهم ارتاعوا وارتعبوا فولُّوا الأدبار خوفاً من القبض عليهم. ومع تسليمنا بأن قوانين الدخول من أبواب المدينة بعد مغيب الشمس كان يصيبها شيء من التراخي والتساهل في ليالي الأعياد، حينما كان يبيت كثيرون من الحجاج في مظلات وأعشاش فوق أكتاف التلال، فإنه لم يكن محتملاً أن يجازف التلاميذ الذين عراهم الخوف والرعب بالدخول في ساعة مريبة معرّضين أنفسهم لإفتضاح أمرهم وسَوْقهم موثقين مع زعيمهم. والأرجح كثيراً أنهم اتخذوا طريقاً آخر سنفصلّه في فصلٍ تالٍ.

أما النساء، فأغلب الظن أنهن جهلن كل هذه الحوادث وخفيت عليهن الأمور حتى انتهت أدوار المحاكمة الليلية. ولا يفوتنا أن ذيوع الأخبار في أورشليم القديمة لم تكن على شيء من هذه السرعة التي نشهدها الآن بعد انتشار الصحف والأجهزة اللاسلكية. ولم يكن قد بُتَّ في أمر القبض على يسوع إلاَّ في ساعة متأخرة من اليوم السابق بعد أن هجع أغلب سكان المدينة في مخادعهم. وربما عادت الحملة بالمتهم من طريق لا يغشاها إلاّ قليل من المارّة في تلك الساعة المتأخرة. وكأن الظروف كلها قد هيأت للكهنة فرصة ملائمة لتنفيذ فعلتهم بعيداً عن أعين الرقباء كما كانوا يرغبون. فلما انفتحت الأبواب عند شروق الشمس، وبدأ الناس يغدون ويروحون، ذاعت بينهم شائعات عن حوادث الليلة، وانتقل النبأ إلى بعض أنحاء المدينة. ولكن يبدو لنا من تضاعيف القصة أن الكهنة حاولوا كتمان الحوادث ما استطاعوا، ولم يقف الناس على تفاصيل الرواية كلها إلاّ بعد أن بلغت المأساة دورها الأخير الحاسم.

وأخالنا لا نبعد عن الحق كثيراً إذا افترضنا أن النساء في جماعة الصحابة لم يبلغهن نبأ هذه الحوادث الرهيبة التي تعاقبت سراعاً قبل بكور يوم الجمعة، إلا عن طريق الشائعات التي ذاعت في المدينة، أو (وهو الأرجح) نقلاً عن بطرس أو يوحنا. وكان فرضاً على من أحبّوا يسوع أن يبلغوا الخبر لأمه مهما كان الأمر ثقيلاً عليهم.

وإن كان هذا الذي أسلفنا هو التقدير الصحيح لسير الحوادث، فتكون جماعة صحابة يسوع في أورشليم قد نقص عددها في صباح يوم الجمعة من ستة عشر شخصاً إلى سبعة، بينهم خمس من النساء. ولو أن أحداً من التسعة الآخرين أفلح في الإنضمام إلى بطرس ويوحنا أو إلى النساء، لكنّا سمعنا عنه في القصة.

ومما يرجّح اختفاء التلاميذ التسعة، أن الأشخاص الذين ذُكروا في المشهد الأخير أمام الصليب كانوا من بين هؤلاء السبعة فقط. وكانوا كلهم هناك، ما عدا اثنين لهما أعذار تبرر غيابهما (هما بطرس وأظنه قد اختلى إلى مكان منعزل إنساناً كسير القلب موجعه، نادماً مستغفراً، ذليلاً متحسراً. ويونّا وأظنها كانت مشغولة بأداء واجباتها الرسمية لأن هيرودس كان مقيماً في أورشليم مؤقتاً في تلك الفترة). ومهما برّح الألم بقلب الأم، فما من شدة تستطيع أن تحول بينها وبين الوقوف في ساعة النزع الأخيرة، ومن ثمَّ نراها هناك واقفة عند قدمي الصليب. كذلك نرى هناك يوحنا على أهبة أن يتلقّى وصية البنوة للأم الثكلى، ومريم زوجة كلوبا، ومريم المجدلية، على مقربة من الصليب أيضاً.

كل هذا يتسق تماماً مع الذي نتوقعه. فحتى لو كان الأحد عشر تلميذاً شهوداً للحادث يشاطرون معاً تبعاته وآلامه وأحزانه في ذلك الصباح الرهيب، لكنّا ننتظر أيضاً أن يكون النسوة هناك، وذلك لأن أضعف النساء بنية وأهزلهنّ جسداً، ينجذبن بقوة غالبة إلى خدمة الموتى والعناية بهم، ولو كان ذلك في ظروف رهيبة مريعة تهدُّ أعصاب أقوى الرجال هدّاً. وإنّ وقوف النسوة في هذا المشهد الرهيب، ووقوف التلميذ الحبيب يوحنا في ساعة الضيق والشدة، من الأمور البشرية الطبيعية. هنا صورة من صور الحياة الحقة. ولو كتب المؤرخون المدققون وصفاً لهذه المأساة، لما كتبوا غير هذا.

ثم أُنظر الآن إلى الحوادث التي تعاقبت سراعاً: وعندي أن موت المسيح على الصليب، بالمعنى الجسماني الكامل، حتى قبل أن يخرق الجندي الروماني جنبه بحربته، من الحقائق التاريخية التي لا يتناولها ريب أو شبه ريب. فإن الوثائق والروايات كلها تؤيدها. ويقول كاتب بشارة مرقس، وهي أقدم بشائر الإنجيل، إن بيلاطس نفسه أيقن هذا الأمر بسؤاله قائد الجند الذي عُهد إليه بالصلب، قبل أن يعطي الإذن بنقل الجسد من فوق الصليب. ولم يكن يخطر ببال أحد أن يرتاب في هذه الحقيقة أو يخامره شك في أمرها في العصر الذي عاش فيه شهود العيان. ولم يجسر أحد في خلال أجيال التاريخ على إثارة شبهة، إلى أن قامت جماعة العقليين Rationalist Venturini في أوائل القرن التاسع عشر، وأبرزت للناس ذلك الزعم الغريب السقيم بقولهم أن يسوع لم يمت ولكنه أُغمي عليه فقط، ثم استفاق من هذا الإغماء حين أحسَّ ببرودة القبر المنحوت في الصخر. وقد فنّد العلامة «ستروس» هذه النظرية تفنيداً شاملاً، وسنعود إليها في فصل تالٍ من هذا الكتاب.

وقد أجمع كُتّاب البشائر الأربع أن يوسف الرامي طلب إلى بيلاطس عقب موت يسوع أن يأذن له بدفن الجسد. وهنا نرى رجلاً في مكانة إجتماعية ممتازة، وفي وظيفة رسمية محترمة، يقطع نفسه من كل علاقة بحزب الكهنة، ويلتمس إذناً من الوالي الروماني لدفن المتهم المصلوب دفناً كريماً لائقاً.

ومما يقوله بعضهم إن الباعث الذي دفع ذلك الرامي إلى هذا العمل، هو رغبته في احترام الشريعة اليهودية والقيام بشعائر الدفن التي أوجبتها. ولا يسعني أن أقبل تعليلاً كهذا وأمامي من الأدلة ما ينقضه. فقد كان هناك على الصلبان ثلاثة أجساد يجب مواراتها قبل مغيب الشمس، لا جسد واحد. ولم يُذكر، لا تلميحاً ولا تصريحاً، أن يوسف الرامي التمس الإذن بدفن اللصين الآخرين، إنما كان غرضه الأوحد أن يؤدي واجب التكريم والإحترام لجسد يسوع. ورواية الإنجيل الكريم تؤيد هذا الرأي كل التأييد. فقد قيل أنه لم يكن راضياً في مجلس السنهدريم عن قتل يسوع. ويقول البشير لوقا عنه إنه «كان ينتظر ملكوت اللّه»، ويفصح يوحنا بأسلوب غير هذا فيقول إنه «تلميذ يسوع ولكن خفية بسبب الخوف من اليهود». ولكن الحوادث الجسام تفتق في أخلاق الرجال البسالة والإقدام. وبعد أن قضى يسوع ولم يعد لأعدائه أرب ضده، ارتفع يوسف الرامي إلى مستوى الآمال الخفية التي جاشت في نفسه، وتذرَّع بالشجاعة فذهب إلى بيلاطس ليأذن له بدفن الجسد.

على أن البشير يوحنا يضيف إلى قصته معلومات أخرى ترجحها الحوادث كل الترجيح. فقد قال إنه بعد الحصول على إذن بيلاطس بدفن الجسد، أحضر الراميُّ معه نيقوديموس - وهو الحبر اليهودي الذي جاء إلى المسيح ليلاً على قول هذا البشير نفسه. وقد كان لذينك الرجلين تفكير مشترك وآمال مشتركة. فكلاهما من الطبقة الحاكمة، وكلاهما أضمر ليسوع خفية كل معاني الإحترام والإخلاص. فلم يكن من المستبعد أن ينضما معاً آجلاً أو عاجلاً. وهل هناك ساعة يحق لهما فيها أن يتواعدا ويتآلفا غير هذه الساعة التي خشيا أن يوارى فيها جسد من كان موضع احترامهما وتقديرهما في لَحْد لا يليق بكرامته؟ حقاً كانت تلك الفرصة الأخيرة والوحيدة التي يستطيعان فيها أن يؤديا للمسيح جهراً بعض معاني الإخلاص الذي أنكراه عليه في حياته.

وجدير بنا أن نذكر هنا أن شهود العيان المسيحيين الذين راقبوا ما حدث في ذلك الدور من المأساة، كانوا على الأرجح النسوة الثلاث فقط - وهنّ مريم زوجة كلوبا وسالومة ومريم المجدلية. ويكاد يكون مؤكداً أن أم يسوع قد تحطمت أعصابها تحت ضغط الحوادث. وفي رواية الإنجيل ما يُلمح إلى هذا. وطبيعي ألاّ تقوى على الوقوف صاحبة ذلك القلب المعذب التي ذاقت مرارة الكأس الرهيبة وهي تشهد متوجعة متفجعة آلام ابنها وهو ينازع الموت على الصليب. ولا عجب أن تنهار قواها الجسمانية ويدركها الأعياء والكلال بعد أن تقف ساعات عند قدمي الصليب تشاهد ابنها المعذّب المائت، فيأخذها يوحنا التلميذ الذي أودعت إلى عنايته مسنداً إياها وسط الجموع الخشنة الفظّة إلى الدار التي اتخذها مقاماً مؤقتاً في أورشليم.

ولكن في رواية الإنجيل شهادة ثابتة تؤيد أن اثنتين من النسوة على الأقل بقيتا إلى آخر مشاهد هذه المأساة، وقد ذكر أسماءهن كُتّاب البشائر الثلاث الأولى. وأجمعت الروايات الثلاث على شيء غريب، هو بقاؤهن يشهدن مراسم الدفن من بعيد. وكأن الظروف قد قضت بألا يشتركن اشتراكاً فعلياً فيها. وهذا وحده يعبّر أصدق تعبير عن احتمالات الموقف، فلو صحَّ ما ذهب إليه كُتّاب البشائر الأربع - وهو صحيح - من أن يوسف الرامي الذي قام بالدفن، رجل من ذوي النعمة والثراء، وغريب عن أولئك النسوة، فإنه طبيعي أن يتمنّع النساء عن الإشتراك معه لأنه غريب عنهن، فضلاً عن مكانته الإجتماعية التي تجعل فارقاً بينه وبينهن.

وهناك اعتبار آخر نضعه في مرتبة الحقائق التاريخية، ذلك أنه لم يكن معقولاً أن يقوم يوسف الرامي وحده بكل إجراءات الدفن دون معونة آخرين. فإن لفّ الجسد في أقمطة من الكتان طولها ثمانية أقدام (حسب التقاليد اليهودية) يحتاج على الأقل إلى أربع أيد ثم أن نقل الجثة من تلّة الإعدام إلى بستان القبر - وإن تكن المسافة قريبة - لا بد يحتاج إلى رجلين قويين لحمل جسد لم يكن من الهيّن حمله بسبب الجروح التي أثقلته وأثخنته ونلاحظ أن البشائر الثلاث الأولى التي لم تشر إلى نيقوديموس في هذا المقام، قد صمتت أيضاً، فلم تذكر أحداً من المساعدين. على أن وجودهم مع يوسف الرامي أمر مسلّم به، ولعلَّ نيقوديموس كان واحداً منهم، وهو أيضاً كان غريباً عن النسوة اللاتي وقفن من بعيد يشهدن التكفين.

ومسألة المعونة في حدّ ذاتها تافهة القدر. ولا يعنينا كثيراً أن يكون يوسف الرامي قام بالتكفين وحده أم قام به مع آخرين، على أن للمسألة وجهاً آخر يتصل بالمشكلة اتصالاً مباشراً كما سنرى فيما بعد.

* * *

تلك كانت الأزمة التي أدركت صحابة يسوع في ذلك اليوم المأثور في التاريخ البشري، يوم الجمعة العظيمة. ونحن حين نلقي اليوم نظرة على هذه الإعتبارات كلها، نتأثر أيما تأثير بتلك الحادثة البعيدة في التاريخ القديم، التي لا تنسجم فقط مع نصوص الوثائق التي بأيدينا، بل تتمشى مع أحوال الحياة البشرية وأطوارها. ثم تعود هذه القطع المبعثرة المحطمة إلى التجمع والتساند في كلٍّ لا يقبل التجزئة. ولسنا نغلو حين نقول إن هذه القصة الهادئة في سردها، المقتصدة في لفظها، تمثل الحقائق كاملة في تلك المأساة الخطيرة التي لا مثيل لها في التاريخ من حيث نتائجها وثمارها.

من ثمَّ نرى مصداقاً لقانون الإيمان المسيحي القديم، إن يسوع «تألم في عهد بيلاطس البنطي، وصُلب، ومات، وقُبر.......» وهنا وضعت نقطاً سوداء في هذا الفراغ بدل النص المشهور، وذلك لأني كنت أقف عنده متمنعاً في أيام شبابي عند تلاوة قانون الإيمان في الكنيسة، فلا لساني كان يطاوعني على النطق، ولا عقلي كان يتساهل في التسليم. والقارئ الذي يعرف نصّ قانون الإيمان يفهم علّة هذا الإحجام. أما الآن فإني أحسُّ إحساساً مغايراً. لقد تصارعت مع هذه فوجدتها أصلب عوداً مما كنت أظن. ومن الهيّن أن تقول إنك لن تؤمن بشيء لا يتَّسق والفكر العقلي في الكون. ولكن هب أن الحقائق لن يمكن صبّها في ذلك القالب العقلي، فماذا يكون موقفك؟ إن المنصف الأمين لا يسعه إلاّ بحث هذه الحقائق في صبر وهوادة، في إنصاف وغير تحيّز، ليرى إلى أين يؤدي به البحث. وهذا ما سأفعله في الفصول التالية.

الفصل السادس: بعد ست وثلاثين ساعة

كان مفروضاً، حسب التفكير البشري العادي، أن ينتهي السرّ الغامض الذي اكتنف حياة يسوع بموته ودفنه. أما كونه مات بالمعنى الجسماني الكامل فقد قلنا إنه من حقائق التاريخ التي لا يتسرب إليها شك، ورأينا كيف تتابعت الحوادث تتابعاً طبيعياً حتى انتهت بتكفين الجسد ودفنه دفناً لائقاً بكرامته. وأنا لا أجد في سياق حوادث قصة الصلب والدفن ما لا يتفق مع الأوضاع البشرية للأشياء. فالقصة كلها ترسم لنا صورة حقة من صور الحياة لا تعمُّل فيها ولا تكلُّف. ولكن حين نقلب الصفحة لقراءة حوادث الأيام التالية، نرانا في موقف لا يسلّم به الباحث الملّم بحوادث التاريخ والواقف على مجريات الفكر الحديث.

ولأني أعتقد أن وراء النصوص اللفظية للقصة، أشياء عميقة خفية لها تأثيرها في تعديل وضعها، أراني مضطراً لأن أبحث أولاً مع القارئ الكريم تسلسل الحوادث من الساعة السادسة بعد ظهر يوم الجمعة إلى ذهاب النسوة إلى القبر في فجر يوم الأحد.

وقد استطعنا أن نتعقب خُطى سبعة من صحابة يسوع التسعة الأخصَّاء الذين شهدوا المأساة يوم الجمعة في أورشليم. فالرسول يوحنا كان مع مريم أم يسوع عند قدمي الصليب، وقد غادر المكان بعد النزع الأخير ليُعنى بالأم التي عُهد أمر رعايتها إليه، ويأخذها إلى مكان هادئ أمين بعد الذي أصابها من هول الكارثة وتحطيم الأعصاب. والنسوة الثلاث - مريم المجدلية، ومريم زوجة كلوبا، وسالومة - كنّ أيضاً على مقربة من الصليب. كذلك رأينا يوسف الرامي، والحبر اليهودي نيقوديموس في ساعة متأخرة من بعد الظهر يقومان بتكفين الجسد ومراسم الدفن.

هؤلاء سبعة من الأصدقاء التسعة الذين بقوا في أورشليم. أما الإثنان الآخران الغائبان، فهما بطرس. ويمكن تعليل غيابه بما طغا عليه من موجة الحزن والندم والتحسّر بعد إنكار سيده، واضطراره إلى الإنزواء في عزلة للتفكير الحزين النادم. وأما التاسع فهو المرأة يونّا التي تعود فيما بعد إلى الظهور في موكب النسوة الذاهبات إلى القبر في فجر الأحد. وقد قلنا إنها ربما كانت منهمكة في القيام بواجباتها كزوجة وكيل هيرودس في إعداد معدّات العيد.

وبرهة من التفكير الهادئ تبين لنا من كان الأفراد العاملون «المتحركون» من صحابة يسوع الذين بقوا داخل أسوار أورشليم - وهنَّ النسوة الثلاث مريم المجدلية ومريم زوجة كلوبا وسالومة، تعاونهن على قدر ما تسمح به أعمالها الرسمية المرأة يونّا.

وحين ندرك العبء الثقيل المضني الذي وقع على أولئك النسوة الثلاث أو الأربع، اللائي قمن بأوقر نصيب من التبعات التي اقتضاها الموقف الرهيب، نتبين مدى الحوادث الأليمة التي تتابعت في آخر ذلك الأسبوع، ونتميز معنى كثير من الأشياء التي لولا هذا التتابع لظلّت خافية غامضة. والحق أن القصة تكتب في إيضاح وجلاء ما عانته أولئك النسوة من شديد الألم وحسن القيام بالواجب في الظرف الدقيق، من تلقاء أنفسهن، وهنَّ مقطوعات عن كل عون خارجي، ما خلا بعض المعونة التافهة يؤديها بطرس المضطرب المهموم، ويوحنا المشغول البال.

والآن لنحاول رسم صورة للمشهد كله، مستندين في ذلك إلى أقدم بشائر الإنجيل وهي بشارة مرقس. ومن دواعي الإرتياح أن قصته من هذه الناحية صريحة واضحة. وقد كتب في وصف المشهد الأخير للصلب:

«وكان أيضاً نساء ينظرن من بعيد بينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي وسالومة».

ثم بعد أن يصف مشهد الدفن بعبارات موجزة يقول:

«وكانت مريم المجدلية ومريم أم يوسي تنظران أين وُضع...».

«وبعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتينَ ويدهنَّه. وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس».

وفي القصة شيئان جديران بالنظر والعناية:

  1. الأسبقية التي تفوز بها مريم المجدلية كأنها زعيمة الجماعة والشخصية البارزة فيها.
  2. اختفاء إسم سالومة من قصة الدفن.

ويصح أن نتغاضى إلى حين عن النقطة الخاصة بمريم المجدلية. أما الإشارات إلى سالومة فإنها تحمل في طياتها بعض المعاني وتُلقي نوراً على القصة. ومرقس يدقق كثيراً في ذكر الأسماء والأماكن، فيضع إسم سالومة بين الواقفات عند الصليب، ثم يذكرها أيضاً بين اللائي أتين إلى القبر في الصباح الباكر. ولكنه لم يذكر إلاّ المريمتين اللتين وقفتا «تنظران من بعيد».

وحذف إسم سالومة من مشهد الدفن لم يكن عرضاً، ولا بد أن الكاتب أراد أن يبين لقارئيه أن سالومة كانت قد مضت في مهمة عاجلة.

أما هذه المهمة فيمكن استنتاجها من طريق الإحتمال الذي يكاد يبلغ حدّ اليقين. ونحن نعلم أن مريم أم يعقوب وسالومة كانتا بنات خؤولة، وكانتا تعملان في هذه المحنة باتفاق وتعاون مع مريم المجدلية. ثم أن الإثنتين تمتَّان بصلة القربى إلى مريم أم يسوع، وكانت سالومة نفسها أم الرسول يوحنا.

ولا شك أن هذه الجماعة الأمينة المتفانية قد شغلها في ساعات الصلب الأخيرة الرهيبة أمران خطيران - الأول: الجزع الممضّ على زعيمهن وهو يعاني سكرات الموت في عذاب أليم خانق. والثاني: القلق على قريبتهن أم يسوع. وما بقيت نبضات الحياة مترجرجة في الجسد المعلق على الصليب كانت عواطفهن مغمورة بالهمّ والشجن والحرقة من أجله، ولكن بعد أن أدركه الموت الرحوم بصرخة داوية من النفس المعذّبة، غلب عليهن ذلك الهمُّ الآخر من أجل القريبة التي تحطّم قلبها المتوجّع.

ولسنا نعرف، ولا نقدر أن نعرف، مبلغ الجهود العقيمة التي بذلت في ذلك اليوم لإبعاد مريم أم يسوع عن مشهد الصلب. فهي لم تكن يومئذٍ شابة في عنفوان الحياة، ولم يكن هيناً على من كان في سنها أن تقف أمام هذا المشهد الدمويّ، مشهد صلبان ثلاثة، عُلِّق على أحدها ولدها وفلذة كبدها. ولا أشك أن جماعة الصحابة من رجال ونساء قد أنفقوا من النصح والإقناع لابعادها عن هذا المشهد كلَّ ما استطاعوا. ولكن غريزة الأمومة قوية جبّارة تغالب الضعف والوهن وتستعذب الألم والضَّنى، فأصرَّت على أن تكون إلى جانب ولدها حتى المنتهى، ومن ذا الذي ينكر على الأمّ هذا الحق إذا هي ألحّت وأصرت؟

وأظننا لا نجد، بين غير المشتغلين بمهنة الطب، من يقدّر مدى الأخطار الجسمانية التي تعرضت لها الأم في ذلك الموقف الرهيب ، ولا مبلغ الإنسحاق والتصدّع الذي عاناه قلب الأمومة أمام هذا الحادث الجلل. وما أخال الأم التي اقتادها يوحنا بعد أن أسلم المصلوب روحه إلاَّ إمرأة خائرة القوى، محطّمة القلب، فاقدة الوعي، لا تلبث طويلاً حتى تهوي وتنهار تحت هذا العبء الذي لا يقوى عليه قلب الأم.

وكانت النسوة الثلاث على مقربة من الصليب، فلما سمعنَ الصرخة الداوية عرفنَ أن النهاية قد جاءت، ورأينَ يوحنا يقود الأم المحطّمة القلب وسط الجموع الواقفة، ثم إلى داخل المدينة وهو يسندها بذراعه في بطء وألم. وعندئذٍ يتشاور ثلاثتهن، ويقررن أن تذهب إحداهن إلى جانب الأم الثكلى، وتبقى الأخريات على مقربة من جسد الميت. وتتطوع سالومة لهذه المهمة لأن ولدها يوحنا هو الذي تولى رعاية الأم الحزينة ومرافقتها إلى داره.

هذا هو منطق الحوادث كما أفهمه. وهو منطق سليم نستنتجه حتى ولو لم يكن في الإنجيل أي إشارة إليه. على أن رواية مرقس تجعل هذا الإستنتاج حاسماً.

من ثمَّ نجد في أقدم بشائر الإنجيل - التي أجمعت المصادر التاريخية على قربها من زمن الحوادث - صورة رائعة للبقية الباقية من صحابة يسوع، يستجمعون فيها على الرغم من هول فاجعة الصلب، قوامهم للعمل على قدر ما تسمح به الظروف في هذه الطوارئ المفزعة - فبطرس وقد غالبه وخز الضمير والخجل من نفسه يبقى في عزلته كئيباً مهموماً، ويوحنا يتولى مع سالومة رعاية الأم المنكوبة المتفجعة التي أُوكل إليهما أمرها. ومريم المجدلية ومريم الأخرى - تعاونهما على قدر ما تسمح به الطاقة يونّا وسالومة - يتَّخذن الأهبة لاعداد ما يتطلبه الموقف لتكريم جسد الميت وأداء آخر خدمة تفرضها واجبات المحبة والصداقة.

هكذا كان الموقف كما أفهمه عند غروب الشمس يوم الجمعة، أي عند بداية يوم السبت الذي تقف فيه كل الأعمال. وفيه نرى صورة بشرية تصدق على الحياة كل الصدق، صورة يفهمها تماماً كل إنسان، بل كل إمرأة خبرت شيئاً من هذا.

* * *

واضح من تسلسل الوقائع أنها وقفت وقوفاً تاماً طول يوم السبت، وأن النسوة خلدن إلى الراحة والهدوء على أن يبدأن في صباح اليوم التالي للذهاب إلى القبر.

ومما جرت به العادة، حين يحاول امرؤ سبك حوادث قصة ما، وحبك مشاهدها، بعد مضيَّ قرون طوال كما في هذه القصة الموجزة في بيانها، أن يلجأ إلى كثير من التفاصيل الدقيقة ليكتشف مفتاح الحقائق التي تشرح الموقف كله. أما في موقفنا الحالي فالروايات ذاتها صريحة حاسمة، فالكُتّاب الأربعة يشهدون أن موعد الزيارة كان عند طلوع الفجر - أي قبل أن تحين الساعة التي يصحو فيها النائمون. فيقول البشير مرقس «باكراً جداً... إذ طلعت الشمس»، ويقول متى «عند الفجر»، ويقول لوقا «أول الفجر»، بينما يقول كاتب البشارة الرابعة (ولشهادته هنا قيمتها وقدرها)«باكراً والظلام باقٍ».

ولست أجد على الرغم مما بين هذه الأقوال من اختلاف طفيف في اللفظ من حيث طلوع الشمس أو عدم طلوعها، ما يلقي ظلاَّ من الشك على الحقيقة البارزة في الموضوع كله، وينبغي ألاّ نغفل أن الشمس تطلع مبكراً في مناطق العرض الجنوبية، وأن النساء يتأخرن عادة لأسباب وطوارئ غير منظورة حين يعزمن على العمل جماعات. وهنَّ بلا شك قد استيقظن والظلام باقٍ ولكنهن حين وصلن إلى القبر كانت الشمس قد طلعت من وراء الأفق في الشرق. وعلى أي حال فقد أجمع الرواة في الوثائق الأربع على أن الوقت كان باكراً جداً، وبعد انتهاء السبت اليهودي.

هذا فيما يتعلق بالزمن. ولنعُدْ الآن إلى الأشخاص الذين تألفَّ منهم الموكب. ولو أننا نضع الروايات الأربع تجاه بعضها، نراها تُجمِع على شيء واحد، هو أن مريم المجدلية نهضت قبيل طلوع الشمس ومضت من فورها نحو القبر.

وهذه الحقيقة قد أثبتها بعبارة صريحة كاتب البشارة الرابعة التي نالها من النقد والتمحيص أكثر مما نال أي سفر آخر من أسفار التاريخ: «وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر والظلام باقٍ. فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر. فركضت وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه، وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه!».

وما الذي نستنتجه من هذه العبارة؟ هل مضت مريم المجدلية وحدها إلى القبر؟ أن هذا السؤال خطير، وخليق بنا أن نفكر طويلاً قبل الإجابة عليه. فلو أن كاتب البشارة الرابعة أدرك يومئذٍ أن ملايين القراء في العصور المتعاقبة ستشغلهم مسألة النسوة اللائي ذهبن إلى القبر، ويجعلونها موضعاً للبحث والإستقراء، لكان عدّل الصيغة اللفظية لهذه العبارة بحيث تتفق الأفعال التي وردت بصيغة المفرد في أولها مع صيغة الجمع «لسنا نعلم» التي جاءت في آخرها.

وليس من عادة كاتب البشارة الرابعة أن يلجأ عمداً إلى الغموض أو الإبهام عند وصف الحقائق، بل هو على نقيض ذلك يتوخَّى في بشارته أسلوباً وصفياً صريحاً لا يقل في صفاء ألفاظه وجلاء معانيه عن أرقى المؤلفات التي عرفها عالم الأدب، ويمتاز بصياغة أدبية يعبّر بها عن أدق المعاني في عبارة صافية نيّرة.

ولكنه في هذه العبارة - إما لسهو غير مقصود، أو لأن ذكر صويحبات مريم لم يكن في نظره أمراً ذا بال، لا أدري أيهما - جنح إلى شيء من الغموض، فيبدأ بوصف ذهاب مريم إلى القبر في ساعة ينقطع فيها المارة إلاَّ من صويحباتها اللائي استيقظن في الصباح لمرافقتها. ثم يصفها تركض مسرعة جزعة مضطربة لتنبئ بطرس ويوحنا بما رأت. وهنا يذكر عبارة من العبارات التي تفوهّت بها لاهثة: «أخذوا السيد ولسنا نعلم أين وضعوه».

وليت شعري لماذا يثبت الكاتب العبارة بصيغة الجمع فيقول «لسنا» لو لم يكن عالماً أن مريم لم تذهب وحدها، وأنها أنبأت بما رأته أو بما لم تره مع فريق من زميلاتها! وبين بقايا المؤلفات القديمة التي تعتزُ بها المتاحف، قطعة منثورة يُقال إنها جزء من بشارة منسوبة إلى بطرس، تضمَّنت بياناً يلقي نوراً شاعّاً على هذه المسألة، وذلك لأن الكاتب يجعل مريم المجدلية في مقدمة الزائرات صاحبة الفضل الأكبر، ولكنه يضيف عبارة تزيل تماماً الغموض الذي وقع فيه يوحنا، فيقول الكاتب:

«باكراً في صباح يوم الرب، مضت مريم المجدلية، إحدى تلاميذ السيد إلى القبر، آخذة معها نساء من صاحباتها، وذلك لأنها خافت اليهود لشدة غضبهم،فلم تتمكن من القيام وحدها بما تفرضه التقاليد على النساء نحو الذين يموتون من أحبائهن».

وهنا صورة تمثل المشهد أصدق تمثيل: مريم المجدلية هي المحرّك الأول في زيارة القبر، ولكنها تصحب معها، على الأقل للإطمئنان في تلك الساعة الباكرة، وحرصاً على الكرامة واللياقة، صديقاتها المخلصات ممن يفضلنها في نضوج السنّ وحكمة الإختبار.

وحين نعود إلى روايات البشائر الثلاث الأخرى، يأخذنا إجماعها واتفاق أقوالها من هذه الناحية، فيقول ثلاثتهم، في يقين وفي جلاء، إن مريم زوجة كلوبا ذهبت مع مريم المجدلية إلى القبر. ويقول مرقس إن سالومة رافقتهما، بينما يقول لوقا إن يونّا كانت العضو الثالث في هذه الجماعة.

وكلما دقق الباحث في دراسة الأحوال الخاصة التي أحاطت بحياة هؤلاء القوم البسطاء في تلك الساعات الخطيرة، استطاع أن يصّور لنفسه ذلك المشهد، وأن يرى، حين يعود بخيالاته إلى أورشليم في ذلك الفجر الداكن من يوم الأحد الخالد في تاريخ العصور، مريم المجدلية ومريم الأخرى، تصاحبهما سالومة أو يونّا، يخطرن متثاقلات حزينات في طرقات المدينة القديمة المظلمة في طريقهن ليقمن بالواجب الأخير نحو زعيمهن المائت.

* * *

وأنه لعلى جانب من الأهمية أن نقتنع اقتناعاً لا تشوبه ريبة، ونعرف من زار القبر قبل أي إنسان آخر في صباح الأحد، وذلك لأن النسوة حينما وصلن هناك لم يجدن الجسد موضوعاً في مكانه.

وأول ما يسترعي النظر في هذا الصدد، أن الغرض الذي مضى من أجله النسوة إلى القبر كان أمراً طبيعياً مألوفاً تفرضه العادات والعرف. وأن الساعة التي مضين فيها تتفق تماماً وهذا الغرض. ومن المسلَّم به إجماعاً في الشرق أن انحلال جسد الميت يبدأ حوالي اليوم الثالث من تاريخ الوفاة. ولذلك كان لزاماً أن يقوم النسوة بالطقوس والمراسم في أقرب ساعة بعد نهاية يوم السبت اليهودي. وكانت تلك الساعة عند إشراق الشمس في صباح الأحد. وطبيعي أن يخترن ساعة مبكرة اجتناباً للتشهير. ولم يستطعن الذهاب قبل إشراق الشمس خشية الظلام، وربما لأن أبواب المدينة لم تكن تُفتح قبل هذا الميعاد.

إذن نحن أقرب ما نكون إلى الإحتمالات التاريخية الطبيعية حين نتخيل صورة النسوة الثلاث أو الأربع سائرات في طريقهن نحو القبر في غبشة ذلك الصباح. على أن هذه ليست الحقيقة الوحيدة التي دّونها الإنجيل والتي رسخت رسوخ الطود في أذهان العصور المتعاقبة، وأقصد بذلك تفكير النسوة ومشغوليتهن إزاء الصعاب التي كنّ يتوقعنها في إزاحة الحجر الكبير الذي وضع على باب القبر بإجماع كل الوثائق التاريخية.

ولا شك أن مسألة إزاحة الحجر من على باب القبر شغلت أذهان النسوة وأقلقت بالهنّ طول الطريق، فإن إثنتين منهنّ على الأقل شهدتا الدفن وعرفتا الأشياء كما وقعت، فكانت الصعوبة أمامهن إزاحة ذلك الحجر الذي كان كبيراً وثقيلاً. وحين نقرأ في بشارة مرقس - وهي أقدم بشائر الإنجيل هذه الكلمات: «وكنّ يقُلْنَ فيما بينهن: مَن يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟» لا يسعنا الشعور إلاَّ أن قلق بال أولئك النسوة من هذه الناحية لم يكن فقط ضرورة نفسية في ذلك الموقف، بل عنصراً تاريخياً تحدثنا عنه فعلاً طول الطريق إلى ساعة وصولهن إلى القبر.

ويتبين لكل من تستحثُّه رغبة للوقوف على الحق التاريخي، لا مجرد تفنيد الأدلة، أن الذكريات القليلة، التي تحدّرت إلينا مما حدث فعلاً في اللحظات اللاحقة لوصولهن إلى القبر، تصور لنا إختباراً غريباً فوق المألوف. وليس الأمر هنا أن الروايات اتفقت على قول معين. فلو كانت قد اتفقت لأقبلنا نحو المشكلة من وضع آخر. ولكن الروايات لم تحاول إيجاد هذا التوافق ولم تتظاهر به، وإنْ تكن أقدم الروايات جميعاً التي سطرها مرقس معروفة قبل أن يكتب كلُّ من متى ولوقا بشارته. كما أن البشائر الأولى الثلاث كانت ملكاً مشاعاً حين وضع يوحنا بشارته الرابعة. والشيء المؤكد في هذه كلها أن النسوة حين بلغن القبر، أصابتهن صدمة عنيفة لم يكنَّ متأهبات لها.

والذي اكتشفنه أن القبر قد حدث به بعض الإضطراب، وأن جسد يسوع لم يكن هناك، على عكس ما كنَّ يتوقعن. ويُجْمِل لوقا البشير شهادة كُتّاب البشائر الثلاث في عبارة موجزة بقوله: «لم يجدنَ الجسد». وكأنما في سبيل تأييد هذا الحديث المتواتر وإثباته، يذكر يوحنا البشير في بشارته عبارة صريحة تختلف عن روايات البشائر الأخرى، ويضعها في وضع يستأثر كل قارئ مهما تكن نزعته، فيقول: فركضت «أي مريم المجدلية) وجاءت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه وقالت لهما: أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه» .

ولست أريد هنا التأثير في غير ضرورة على مَن يؤثرون البشائر الثلاث القديمة الأولى على بشارة يوحنا عند البحث في حقيقة من الحقائق التاريخية. لست أريد شيئاً من هذا، ولكن لا مندوحة من القول إن هذه العبارة في المقام الذي وردت فيه، تترك عندي أبلغ أثر. وكأنني أراها سهماً من نور الشمس يشقُّ طريقه في غبشة ذلك الفجر الداكن.

وما لم نعمد إلى إغفال كلّ ما لدينا من الوثائق والروايات الباقية على الزمن، وهو مسلك أربأ بكل قارئ منصف مدقق أن يتَّخذه. فإننا مسوقون إلى أن نسلّم أن أولئك النسوة أيضاً حين بلغن القبر اصطدمن بما لم يكنّ له متأهبات، وهو أن الجسد لم يكن هناك. وأظنه أيضاً استنتاجاً معقولاً أن أقول إن هذا الكشف الذي وقف عليه النسوة قد بعث فيهن حالة من التوتر العصبي، وذلك لأنه وقع في ساعة مبكرة من الفجر، وفي ظروف مفزعة، ولعقول لم تكن متأهبة له. ويزداد فينا هذا اليقين حين نعلم أن اثنتين من النسوة قد جاوزتا سنّ الشباب. وليس لدينا ما نستدل به على عمر يونّا، ولكن المفهوم أن مريم زوجة كلوبا وسالومة لا بد أن تكونا قد أشرفتا، إن لم يكن قد جاوزتا، العقد الخامس من العمر.

وقد يبدو لنا لأول وهلة أن هذه مسألة ليست ذات بال، ولكن لها معناها الخطير من الناحية النفسية. فأولئك النسوة قد أحسسْنَ وفعلن ما تحسُّ به وتفعله جماعة من النسوة في هذا العصر، لو أنهن فوجئن في ساعة مبكرة غير طبيعية مثل هذه، وفي مقبرة حديثة، بمظهر مثل هذا في غرابته وبُعده عن المنتظر. وأول تأثير يبدو عليهن هو بلا شك شعور الذهول يعقبه سراعاً تفكير وتشاور عاجل فيما عسى أن يعملن. وأن كانت مريم المجدلية، كما هو المرجح، قد تبرعت وهي أصغرهن وأقواهنَّ للذهاب مسرعة إلى المدينة وإخبار التلميذين بطرس ويوحنا تاركة النسوة الأخريات يسرن على مهل، إن كان هذا هو الذي حدث، وهو المرجح جداً كما قلنا، فإننا نشهد صورة تتفق تماماً والقصة التي روتها البشارة الرابعة، وفيها تعليل كافٍ لقول مريم بصيغة الجمع وبصوت لاهث متقطع:«لسنا....»

على أن هذا الإستنتاج سنوفيه حقه من البحث في فصل تال، وحسبنا القول هنا إن الحقيقة الجوهرية في هذه القصة الغريبة لا تشوبها شبهة من الريب، فإن أولئك النسوة قد دبّرن القيام بخدمة لسيدهن المائت في أول ساعة من بكور النهار بعد انقضاء السبت اليهودي. وتنفيذاً لهذا الغرض قمنَ مبكرات في صباح الأحد ومضين إلى القبر. أما الحقيقة التاريخية الهامة هنا فهي أن هذه الخدمة لم تؤدَّ قط. ومهما يكن من أمر الحوادث التي وقعت في بستان القبر في صبيحة ذلك اليوم، فإن دليلاً حاسماً بين أيدينا يثبت لنا أنهن لم يجدن الجسد هناك.

الفصل السابع: الأُختان والرجال الذين فروا تحت جنح الدجى

لا مناص، قبل البحث في هذه الحقائق ومعانيها، ومبلغ الصدق الذي يقترن بالحلول المقترحة، من أن نكمل رسم الصورة العامة التي شُغلت بها أذهاننا حتى الآن.

رأينا في فصل سابق أن القبض فجأة على يسوع في بستان جثسيماني في ساعة متأخرة من يوم الخميس، قد أدَّى إلى شطر صحابة يسوع فريقين. وقد تولينا في الفصول السابقة، وفي شيء من الإسهاب، دراسة ما حلَّ بالفريق الأصغر، وهو الفريق الذي احتجز في أورشليم ذاتها. ولم نفكر إلاَّ قليلاً في الفريق الأكبر الذي كان خارج أورشليم. على أن مسلك هذا الفريق من العوامل الهامة في المشكلة التي نعالجها الآن. فهل في الوثائق التي بين أيدينا ما يلقي ضوءاً على هذه المسألة؟

ولتبديد ما قد يعلق في الذهن من الغموض، نقول إن الغائبين فريقان. ولا بد لنا من تعقُّب آثارهما لمعرفة حقيقة الموقف. فهناك التلاميذ التسعة الذين قيل عنهم إنهم هربوا بعد إلقاء القبض على يسوع، ولكن هناك أيضاً الأختين مريم ومرثا وأخاهما لعازر في بيت عنيا، الذين نحسب غيابهم عن مشهد الصلب والدفن من الظواهر الغريبة الملحوظة في القصة. فالأُختان قد أخلصتا الإخلاص كله ليسوع، وكان بيتهما الهادئ المريح ملاذه الوحيد حين كان يريد أن يحظى ببعض الراحة ونعومة الحياة ولين العيش. والأرجح أنه من هذه الدار الناعمة خرج في صباح اليوم الذي كان آخر عهده بالحرية ومع ذلك فإنه بعد أن وقعت الواقعة واحتاج الموقف إلى كل ذرة من العزاء للأعوان المنكوبين، تختفي الأختان المضيافتان الكريمتان من المشهد كلية. ولا شك أن هناك تعليلاً تاريخياً قوياً يعلل هذا الإختفاء وهو ما نحاول أن نجلوَه الآن.

ومن الأقضية السليمة في المنطق أن نفترض، عند حدوث ظاهرتين غير عاديتين في موقف شاذ غير مفهوم، وجود علاقة بين الظاهرتين. ولكن في الحالة التي نحن بصددها أسباباً تحملنا على الإرتياب في هذا الإستنتاج المنطقي، فإنه يجب ألاَّ يغيب عن أذهاننا أنه في خلال الأيام الخمسة العاصفة التي سبقت القبض، كان يسوع وصحابته يبيتون في بيت عنيا. ولطالما فكَّرت: هل كانت المعدّات المنزلية في دار الأختين كافية لمبيت ثلاثة عشر شخصاً، أي يسوع وتلاميذه؟ وما أظن أن هذا كان ممكناً، وربما بات يسوع واثنان من كبار صحابته في تلك الدار، بينما اكترى الباقون مساكن مؤقتة على مقربة منهم.

وعلى أي حال فإن الدليل متوافر على أنهم باتوا جميعاً في تلك الضيعة في خلال الأسبوع، وكانوا يقطعون رحلة ثلاثة أميال يومياً في الغدو والرواح. ثم أن التلاميذ، ما عدا يهوذا الإسخريوطي الذي كان يعرف طبعاً ما تبطنه نفسه، كانوا يتوقعون العودة إلى بيت عنيا في يوم الخميس ليلاً على مألوف عادتهم كل يوم. وما من شك أنهم حاروا في تعليل هذا الإبطاء الطويل في البستان بعد فوات الميعاد الذي ألفوا العودة فيه كل يوم، وأظن أيضاً أن الأختين في بيت عنيا قد ساورهما شيء كثير من القلق بعد أن طال الإبطاء وأوشك الليل أن ينتصف.

وبهذه الحقائق المبسوطة أمامنا، لنعُد الآن إلى المشهد في بستان جثسيماني: أجمعت الروايات كلها على أن الشرذمة التي أُرسلت للقبض على يسوع كان عددها كثيراً، بحيث لم يكن ميسوراً أن يسير الكل في عرض الطريق في جبهة واحدة. وحتى في الطريق العريض الواسع الممتد من باب المدينة إلى نقطة تقاطع طريق بيت عنيا مع طريق جبل الزيتون، لا بدَّ أنهم ساروا في صفّ طويل امتد حوالي عشرين متراً على طول الطريق. وحريُّ بنا أن نفكر في ذلك المزيج الغريب من الرجال الثائرين. وإنّي أتصورهم يتباعدون بعضهم عن بعض في خطوط منتظمة حين يبلغون مدخل البستان أما حملة المشاعل وفي وسطهم يهوذا فأخالهم قد أقبلوا في المقدمة يحفظهم حرس الهيكل، ثم يليهم «شهود» من شذاذ الناس وأفّاكيهم وغيرهم ممن التفُّوا حول هذه الجماعة من سكان المدينة.

ولا شك أن القبض قد تمَّ مباشرة بعد أن دلَّهم يهوذا على شخصية يسوع، ومن المحتمل أن يكون بطرس قد ضرب عبد رئيس الكهنة قبل أن تُطبِق عليهم مؤخرة الشرذمة المكلفة بالقبض، وقبل أن يعلم حقيقة ما هنالك. ومن المحتمل أنه كان هناك أيضاً صراخ وجلبة حين أوثق جنود السنهدريم يدي يسوع وراء ظهره، وأضواء المشاعل المرتفعة تتراقص من خلال أوراق الشجر. وفي هذه الفترة أطبق الباقون من رجال الجند على الفئة القليلة التي بقيت ملتفة حول يسوع.

وليس غرضنا الآن أن نبحث كيف افترق بطرس ويوحنا عن رفاقهما ودخلا المدينة دون أن يعرفهما أحد. والذي نرجحه أن بطرس كان واقفاً إلى جانب يسوع. ولما أخذت الجموع تحيط بهم، أُطبق على بطرس ويوحنا وسط الزحام فلم يستطيعا الإفلات خشية أن يُفضح أمرهما. وفي وسط النور الخافت المنبعث من المصابيح المتراقصة، رأى كلاهما أنه من الفطنة، وربما من الضرورة أيضاً، أن يمضيا مع الجماهير واثقين أنه ليس من العسير الولوج من أبواب المدينة في وسط هذا المزيج الغريب من شذاذ الناس. ولا يقدر الفكر أن يتصور غير هذه الوسيلة العريضة ليعلل بها مغامرة التلميذين في الدخول إلى المدينة بعيدين عن أعين الرقباء.

وإذا كان هذا هو الذي وقع فعلاً، فهو يشرح لنا بعض الوقائع التي شهدناها في أورشليم في صباح اليوم التالي لهذا الحادث.

على أن اهتمامنا في الآونة الحاضرة منصرف إلى التلاميذ التسعة الآخرين. وقبل أن نفكر في احتمال فرار هؤلاء الرجال إلى الجليل كما يزعم الدكتور «ليك» في نظرية سنتولاَّها بالتفنيد فيما بعد، قبل أن نفكر في هذا الإحتمال، ينبغي أن نلقي نظرة فاحصة على الموقف الذي كان فيه أولئك التلاميذ.

والناس يأخذهم الذعر والفزع عادة حينما يحسون باقتراب مصيبة توشك أن تدهمهم قبل أن يُتاح لهم الوقت الكافي للتفكير الهادئ أو ابتكار أساليب النجاة. وفي هذه الحالة دهمهم الخطر وهم في غفلة، وما كانوا ليستطيعوا أن يركضوا بضعة أمتار بين الأشجار قبل أن تدركهم حقائق الحال، فيعلموا ما كانوا يجهلون.

وإذا كان بستان جثسيماني يقع في المكان الذي أشارت إليه التقاليد، فهو في سفح جبل الزيتون. ولا بد أن الذين ألقوا القبض على يسوع، أقبلوا إليه من بابٍ على مقربة من طريق أريحا. فكل من يريد الهرب والإفلات من عيون الرقباء، عليه أن يتخذ طريقاً معاكساً للطريق الذي جاء منه المأمورون بالقبض على المتهم - أي الطريق الممتد على منحدر جبل الزيتون إلى ضيعة بيت عنيا. وكل خطوة يخطوها الهارب تُصعده إلى فوق وتجعله في وضع أفضل بالنسبة لمن في البستان تحته.

ومن حُسن حظ التلاميذ أن علائم الخطر كانت واضحة لهم، فإنْ سعى أحد وراءهم للقبض عليهم، كانت المصابيح المتراقصة بين الأشجار خير دليل لهم على اجتناب الخطر. وقد كان التلاميذ فعلاً في وضع موفَّق من هذه الناحية، فما كان عليهم إلاَّ أن يرقبوا نوراً مقترباً نحوهم، ويحاولوا الإبتعاد عنه.

ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. فإن المأمورين بالقبض على المتهم نزلوا إلى أورشليم بعد دقائق قلال. ولحظ التلاميذ من بعيد أنوار المصابح وهي تتلّوى في الطرقات المؤدية إلى مدخل المدينة، وباختفاء هذه الأنوار زال الخطر المباشر على التلاميذ في تلك الليلة، وما توقعوا حدوث شيء ذي بال قبل طلوع النهار.

هذا هو التعليل المنطقي المعقول للمسألة. وإذ أُمهل التلاميذ على هذا النحو، فماذا عسى أن تكون حالتهم النفسية في ذلك الموقف؟ وماذا هم فاعلون؟ وأي الحلول يستنبطون؟

لن يقدر أحد على الإجابة عن هذه الأسئلة في يقين تام. على أننا نستطيع المجازفة ببعض التخمينات، التي نصحّحها بملاحظاتنا فيما بعد. ويُخيَّل إليَّ أنه إذا كان التلاميذ قد توقفوا هنيهة ليفكروا في الموقف، فإن ثمة حقيقة رهيبة تبدّت لهم في ملء روعتها - وأعني بها غياب بطرس ويوحنا. وأظنهم يذهبون إلى أسوأ الفروض والمظانّ، ولا أعتقد أنهم عرفوا أو فكّروا في الظروف التي بها استطاعا أن ينفذا إلى داخل المدينة. وما من شك أنهم توجسوا خيفة على زميليهما، وربما استنتجوا أنه قد أُلقي القبض عليهما، وأن تقهقرهم السريع في ساعة الخطر الداهم قد أنقذهم من مصير كمصير الزميلين.

وأحسب تفكيراً كهذا قد منعهم من محاولة دخول المدينة. ومن الناحية الأخرى لو كان بطرس ويوحنا قد وقعا في القبض (كما افترض التلاميذ)، فإن موقف النسوة يسوء إلى أقصى حدّ ويتعرضنَ إلى عداء الكهنة الأهوج وإلى غضبة الدهماء الجنوبية. هذه نقطة لا بد من إدخالها في نطاق البحث. ولسنا نقدر على الذهاب إلى أبعد من هذا في الحدس والتخمين، فلا مناص من أن نترك التلاميذ التسعة المفقودين فوق تلّة جبل الزيتون، ونسلِّم أن ليس لدينا من البيّنات ما يشرح لنا ما حدث لهم بعد ذلك.

ولكن يبقى علينا أن نشرح الحقيقة الغامضة الأخرى - وأعني بها اختفاء مريم ومرثا من القصة كلها. فهل بين اختفاء الأختين واختفاء التلاميذ التسعة علاقة؟ وهل يمكن تعليل الأمرين بأسباب واحدة. وما هي الظروف التي نشأ عنها غياب الأختين من أورشليم في تلك الساعات الرهيبة السابقة واللاحقة للصلب؟ وكيف تغيب الأختان بما عُهد فيهما من إخلاص ووفاء، بينما تُظهر النساء الأخريات عظيم الإهتمام بالأمر كله؟

وعندنا أن أشعة من النور تسطع على هذه المشكلة حين نفطن إلى موقع بيت عنيا الدقيق، فقد كانت تلك الضيعة الصغيرة الجاثمة على أكتاف جبل الزيتون، الرقيب الحارس على أورشليم في طريق أريحا. فكان لزاماً على كل آتٍ من الشمال، من الطريق الشرقي الذي يعبر وادي الأردن ويتسلق الهوة العميقة عند أريحا التي خلّدها المسيح في مَثَل السامري الصالح - أن يمرّ على بيت عنيا. كذلك يمرُّ عليها كل قادم من أورشليم من الطريق العكسي إلى جهة الشمال.

ولهذه الحقيقة آثار بارزة في المشكلة التي نحن بصددها. فإذا سلّمنا أن التلاميذ التسعة انطلقوا إلى الجليل. فالأرجح أنهم جازوا على مقربة من بيت مريم ومرثا في بيت عنيا، الذي اختاروه، أو غير ملاصقاً له، مقاماً لهم في الأيام الخمسة الماضية. فإذا افترضنا أنهم ساروا إلى هذا الإتجاه تحت جنح الظلام لكي لا يراهم أحد، أفلا يجوز لنا أن نزعم أنهم نقلوا الأنباء المزعجة إلى الأختين والتمسوا عندهما النصح والمشورة؟

وهناك أسباب أخرى ترجح ذهاب التلاميذ إلى بيت عنيا.

  1. كانت بعض متعلّقاتهم وحاجاتهم في المقام المؤقت الذي اتخذوه في بيت عنيا (وطبيعي أنهم لا يسافرون إلى الجليل بدون أن يتزّودوا ببعض هذه الحاجات).
  2. كانت مريم ومرثا من أخلص صحابة يسوع، فكان على التلاميذ الفارّين أن ينذروهما بما تطورت إليه الحوادث، ليتدبرا هما أيضاً للهرب، إذا لم يكن منه بدُّ.
  3. وإذا كان النسوة في أورشليم قد عرفن أيضاً ما آلت إليه الحوادث ورأين من الحكمة الهرب من أورشليم، فإنهن يهربن على الأرجح إلى بيت عنيا.

من ثمَّ نرى موقع بيت عنيا الممتاز يجعلها الهدف الأول الذي يتجه إليه التلاميذ بحكم غرائزهم.

وسواء اقتنعنا أن التلاميذ التسعة انطلقوا حالاً إلى الجليل، أو أنهم كانوا من طراز الرجال الأشداء المجازفين الذين لا يتقاعسون عن السعي لإنقاذ النسوة اللواتي كنَّ من تلاميذ يسوع، أو أنهم لاذوا تعابى مذعورين إلى أقرب مأمن لهم سواء أخذنا بهذا أو بذاك، فإنه لا مندوحة من أن يمضي التلاميذ إلى بيت عنيا أولاً على أي حال.

الآن لنلقِ نظرة على ساكني بيت عنيا أنفسهم: نفهم مما جاء في بشائر الإنجيل أن الأختين كانتا تنتظران عودة يسوع مساء الخميس. وإذ تنقضي الساعات الطوال دون أن يعود، يتولاّهما الجزع والفزع. ولو كانت الليلة قد تقضّت دون أن يبلغهما نبأ عنه، لكانت ذهبت إحداهما إلى أورشليم في صباح اليوم التالي وتمّ الإتصال بين الفريقين. وفي هذه الحالة كنّا نسمع عن مريم أو مرثا (أو عن كلتيهما) وكنا نراهما عند الصلب والدفن.

أما رواية الإنجيل فقد صمتت صمتاً عميقاً عن ذكر شيء من هذه الناحية. وإن في صمت الروايات وامتناعها عن الإشارة إلى أختي بيت عنيا، لا سيما فيما يتعلق بما دبّره النساء من زيارة إلى القبر، ما يدعو إلى الدهشة والتفكير. والذي نستخلصه من هذا هو إما أن الأحوال في بيت عنيا قد قطعت عنهما أنباء هذه المأساة التي وقعت، وإما أنهما امتنعا لأسباب قاهرة عن الإنضمام إلى فئة الصحابة داخل أسوار أورشليم.

الفرض الأخير أقرب إلى الإحتمال، بل قد نحسُّ بين ثنايا روايات الإنجيل ونبراتها ما يؤيد هذا الفرض. وإن كان قد ذهب اثنان أو ثلاثة من التلاميذ الحيارى المذعورين يتخبّطون قي ظلام تلك الليلة إلى الدار الصغيرة في بيت عنيا، أفلا نستطيع أن نصّور لأنفسنا حقيقة ما حدث هناك؟

وهنا ينبغي أن نُدخل في حسابنا مبلغ الإضطراب والتوتر الذي أصاب أعصاب أولئك التلاميذ. فإن يسوع قد قبض عليه شرذمة من جند الهيكل بأمر رؤساء الكهنة. كذلك أُلقي القبض على بطرس ويوحنا (في رأيهم). ودلّ الهجوم من جانب المعتدين على عداء شديد ونقمة صارخة - كل هذا يرويه التلاميذ الهاربون دون إخفاء لحقيقة ما تضمره الساعة. ثم إن النساء بطبيعتهن شديدات الحساسية والتأثر، وهنَّ إذ يجهلن حقيقة الموقف يصّورن لأنفسهن الحقائق بلون قاتم أسود، ويتلفتن يمنة ويسرة، فإذا المستقبل مفعم بالخطر المدلهّم والخَطْب القريب. ويسألن عما عساه أن يكون حادثاً وراء أسوار أورشليم: لعلّ الخائن يهوذا يعدُّ فرقة أخرى لموالاة القبض على الباقين من الأتباع في اليوم التالي. وإذا نشطت حركة التعقب والمطاردة في الأودية بجبل الزيتون، فلا يمكن أن تفلت بيت عنيا من هذا الخطر. ولعلّهم يقبضون على الأختين أيضاً لما لهما من صلة بزعيم هذه الفئة من الناس.

هذه كلها خواطر دارت بعقولهم وأفكارهم. ولكن هناك اعتبارات أخرى: إن أمهات ثلاثة من أولئك التلاميذ التسعة باقيات في أورشليم عرضة للمخاطر والطوارئ. فهل يُحذَّرن قبل حلول الخطر بوقت كافٍ؟ إن صحَّ هذا فقد يأتين سراعاً ويقرعن على باب الدار الصغيرة في بيت عنيا في أية لحظة.

والذي نعلمه من التاريخ أن الموقف داخل أسوار المدينة لم يكن كما تصّوَره أهل بيت عنيا. ونعلم أن بطرس ويوحنا لم يقبض عليهما، وأن الكهنة وقد نالوا مأربهم بالقبض على يسوع لم يطاردوا أحداً سواه. ولكن هرب التلاميذ في هلع وذعر إلى بيت عنيا، إما كمرحلة أولى في طريقهم إلى الجليل، أو لأنهم حسبوها الملاذ الأمين ولو إلى حين - يجعل الجّو النفسي في تلك الضيعة أقرب ما يكون إلى الصورة التي رسمناها الآن. وما من شك أن الأوهام والشكوك والمخاوف قد سادت كل فرد يمتُّ بصلة إلى يسوع. ثم يشرق صباح اليوم التالي، فما هو بأمثل من الليلة الفائتة - بل على نقيض ذلك تزداد الشدة ويتحرّج الموقف، فقد يقع أي حادث وفي أية لحظة. توقع أهل بيت عنيا أسوأ ما يتوقعه إنسان في مثل هذه الظروف. ومن الغريب حقاً أن نفكر في حال تلك الفئة المستضعفة تعاني في ضيعة بيت عنيا أمرَّ صنوف الوهم والخوف بينما كان يسوع في أورشليم يجوز محاكمته مرحلة بعد مرحلة، وبينما كان أعداؤهم المزعومون الذين خشوا بطشهم يتابعون أغراضاً أخرى.

ومن الغريب أيضاً أن نفكر أنه بحكم طبائع الأشياء، كان مفروضاً أن تنقطع عنهم كل الأخبار. ففي الأحوال العادية كانت حركة المرور دائمة بين أورشليم وبيت عنيا، فتنقل أخبار العاصمة إلى تلك الضيعة في مدى ساعتين أو ثلاث. ولكن إعدام أكبر معلم ديني عَهدتْهُ المدينة في تاريخها الحديث قد أحدث أثره في عواطف الشعب وأحاسيسه، وانساق الناس، كما بفعل المغناطيس، إلى دار الولاية الرومانية وإلى طريق الجلجثة. وتزاحم الجماهير لمشاهدة هذه الحوادث في أورشليم يوقف بطبيعة الحال حركة المرور بين أورشليم وبيت عنيا ولو مؤقتاً.

وأغلب الظن أن أنباء حوادث أورشليم لم تُذع في القرى المجاورة إلا بعد تلك الصرخة الداوية التي صعدت من قلب المصلوب، وعودة المشاهدين إلى بيوتهم في القرى، وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب واقترب السبت اليهودي.

هذا هو الموقف كما أتصوره في تلك الساعات الرهيبة المضطربة التي عانى فيها يسوع هول الموت، وهو موقف ينسجم مع روايات الإنجيل، ويلقي بعض الضوء على الحوادث التي تبدو لنا غامضة عسرة. وأنا أقدّم هذا الإيضاح في كثير من التحفظ والتوقير كحلٍّ أراه كفيلاً بإزاحة أسباب الغموض التي تكتنف الموقف.

الفصل الثامن: بين الغروب والشروق

رأينا في فصل سابق كيف تعجَّلت الحوادث القبض على يسوع، واشتد ضغطها فدفعت أيدي السلطات إلى العمل، وأطالت ساعات المحاكمة التمهيدية، وعدّلت ماهية المحاكمة الرومانية تعديلاً كبيراً. وكأن كل شيء في هذه القضية قد ألهبه سوط غير منظور، لم يكن مردّ لأحكامه. والآن سنرى المشكلة تضيق رويداً رويداً حتى تنحصر في بحث ما حدث خارج أسوار أورشليم قبل نيف وتسع مائة وألف من السنين، في فترة من الزمن بين غروب يوم من أيام السبت وبين انبثاق أنوار الفجر في صباح اليوم التالي. ولنبدأ أولاً ببحث الفروض والمزاعم المختلفة التي أدلى بها أصحابها لتعليل الوقائع:

وثمة زعم لا ينتظر أن تناوله جدّياً وتبسَّط فيه إلاّ الأقلّون من قراء هذا الكتاب - وأعني به الزعم القائل إن التلاميذ أنفسهم هم الذين سرقوا جسد يسوع وهربوا به. ولست أريد الإطالة في تفنيد هذا الزعم تاريخياً، لأن شعور الجنس البشري قاطبة قد حكم عليه وحسبَه أكذوبة جريئة. وليس بين النقّاد الذين يُقام لأقوالهم وزن في هذا العصر، مَن يرضى أن يجعل هذا الزعم مثاراً للبحث والنقاش، وذلك لأنه مستحيل من الوجهة النفسية. ونحن نعرف جيداً التلاميذ الأحد عشر من تصرفاتهم اللاحقة ومن كتاباتهم. ومعرفتنا لهم تدلّنا على أنهم ليسوا من هذا الطراز من الرجال الذين يُقْدِمون على هذه المجازفة. وليس بينهم زعيم جريء مقدام يرسم خطة كهذه في خيالاته، ثم يُقدم على تنفيذها دون أن يفتضح أمره. وحتى لو فرضنا أن عملاً كهذا كان ممكناً، وأن التلاميذ كانوا له أكفاء، لاتَّخذ تاريخ المسيحية اللاحق طريقاً غير هذا الذي نراه، ولا نشَقَّ، عاجلاً أو آجلاً، عن الجماعة المسيحية أحد الذين عرفوا بواطن الأمور.

وإن كانت هذه الأكذوبة الجريئة على شيء من الحق، فكيف استطاعت الكنيسة المسيحية الأولى أن ترفع رأسها، وتقيم دعامتها، وتشق طريقها في بحر خضمّ من الإضطهاد والآلام - كيف يتم كل هذا على أساس واهٍ يعلم الرسل الأحد عشر أنه أكذوبة مختلَقة صاغوها بأيديهم! ولطالما سألت نفسي مراراً: أيستطيع بطرس أن يكون طرفاً في هذه الخديعة المضلّلة؟ أيفعل هذا يوحنا أو إندراوس أو فيلبس أو توما؟ ومهما يكن من تعليل للحوادث الخارقة التي تلت الصليب، فإن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب.

وتبقى بعد هذا مشكلة القبر الفارغ. فهل نجد في التأويلات الأخرى التي أدلى بها أصحابها ما يلقي عليها بصيصاً من النور؟

أعتقد أن هناك ستة حلول مستقلة أدلى بها الناقدون لحل هذه المشكلة - أربعة منها تفترض أنَّ خلّو القبر من الجسد حقيقة تاريخية، والحلاّن الآخران يشطان في التعليل ويزعمان إما أن القصة مشكوك في صحتها، وإما أن القبر لم يُفحص وينقب على نحو ما جاء في رواية الإنجيل. ويمكن تلخيص هذه المزاعم فيما يلي:

  1. أن يوسف الرامي نقل الجسد خفية إلى مرقد آخر أكثر ملائمة.
  2. أن الجسد نُقل بأمر السلطات الرومانية.
  3. أن الجسد نُقل بأمر السلطات اليهودية للحيلولة دون ما قد يُخلّع عليه من أسباب التكريم والتقديس في المستقبل.
  4. أن يسوع لم يمت موتاً نهائياً حاسماً، فاستفاق من إغمائه في برودة القبر.
  5. أن النسوة قد أخطأنَ في التعرّف إلى القبر في غبشة الصباح القاتمة.
  6. أن القبر لم يزره أحد مطلقاً، وأن القصة عن النساء اختلاق في عصر متأخر.

هذه كلها مزاعم واسعة النطاق. وتشمل، فيما أعتقد، كل الفروض التي أدلى بها الناقدون في تحدّي قصة الإنجيل. فلنلق الآن نظرات عابرة على كل منها:

١- أن يوسف الرامي نقل الجسد:

يقول أصحاب هذا الزعم إنه من المحتمل جداً أن يقدم الرجل - الذي التمس أن يُعطَى جسد يسوع من الوالي الروماني - على نقل الجسد إلى مثوى آخر لأسباب خاصة عنده. وهو زعم يبدو لأول وهلة على شيء من الوجاهة.

ولقد استنتج بعض الكتاب من روايات الإنجيل المقتصدة في أقوالها أن القبر ربما اشتراه يوسف الرامي لمنفعته الخاصة، وأن قربه من مشهد الصلب حمله على استعماله مؤقتاً في يوم السبت على أن يعود في أول فرصة لنقل الجثة إلى مثوى آخر. كل هذا قول مفهوم، ويبدو عليه شيء من مسحة الإنسجام والقوة لو أننا نظرنا إليه بمعزل عن الملابسات الأخرى التي أحاطت بالموقف كله. على أنه من المتعذر علينا أن نترك هذا الزعم التاريخي الخطير في هذه الحالة، ولا بد من تمحيصه على ضوء الملابسات الأخرى في الموقف كله، ثم نحكم له أو عليه بعد أن نكون قد استعرضنا النتائج كلها واستكشفنا بواطن الأمور ومجرياتها.

ولدى تمحيص هذا الزعم يتكشف لنا كثير من نقط الضعف والشذوذ وعدم الإنسجام مما يبعده كثيراً عن نطاق الترجيح. ونلاحظ قبل كل شيء أن الساعة التي تمَّ فيها هذا النقل المزعوم (وهي بالضرورة واقعة بين نهاية السبت اليهودي وبين تباشير الفجر في اليوم التالي) من الساعات التي قلَّما يختارها زعيم له كرامته بين الشعب لأداء عمل جائز لا حرج فيه، وقد كان في وسعه أن يقوم بمهمّة النقل على وجه أتم وبطريقة أكثر لياقة، لو انتظر طلوع النهار. ولا يغرب عن الأذهان أنه على فرض صحة هذا الزعم كان كلّ من يوسف الرامي والنسوة، كل فريق مستقل عن الآخر وغير معروف له، يتأهبون لأداء خدمة عند القبر في ساعة مبكرة جداً تتفق وحفظ فرائض السبت اليهودي. وكانت تلك الساعة بلا شك عند شروق الفجر اجتناباً للصعاب التي يتعرضون لها في الظلام. والمفروض نظرياً أن مريم المجدلية وصويحباتها قد التقين عند مجيئهن إلى القبر بيوسف الرامي وأصحابه يعملون ناشطين في هذه المهمة.

على أنه ليس هناك أثر لمثل هذا اللقاء الوهمي. ونحن لذلك مسوقون إلى أن نفترض حدوث النقل قبل هذا الأوان في ساعة من الليل لكي نتمشى مع أصحاب هذا الزعم في دعواهم. وعلينا أن نصّور لأنفسنا فريقاً من الناس يعملون على ضوء المصابيح أو المشاعل في ظروف تحيط بها صعاب جمة، يتحسَّسون طريقهم في مناطق معتمة وراء أسوار المدينة حاملين بين أيديهم جسداً ثقيلاً - ربما لمسافة بعيدة - لإيداعه مثوى آخر. ونحن نتصورهم يُعنون أولاً بتجريد الجسد من أكفانه، تاركين إياها في القبر، وبعدُ إما يلفونه في أكفان جديدة غير التي ابتاعوها وأنفقوا عليها في الدفن الأول، وإما ينقلون الجسد عارياً إلى المثوى الجديد. ونتصور أيضاً أنهم نسوا إغلاق القبر القديم، أو ربما لم يريدوا إضاعة الوقت في ذلك.

والآن لنلقِ نظرة على ما في هذا المشهد من تماسك وقوة. وهنا أتصور أحد المكارين يقول: «ألسنا هنا أمام حقيقة لا وهم. فإن الأخبار تتطاير بسرعة البرق الخاطف، ولعلَّ يوسف الرامي قد خشي أن يتجمع حوله المتسكعون من المارّة إذا هو بدأ بعد شروق الشمس في عمل يستغرق ساعتين على الأقل. أفلا يكون قد قام بالأعمال التمهيدية تحت جُنح الظلام، وحينما جاءت مريم المجدلية وصويحباتها إلى القبر، كان الفريق الآخر قد غادر إلى المدفن الآخر الذي نقلوا إليه الجسد».

وقد يفترض الزاعمون المكابرون أن هذا التأويل ينسجم مع القصة التي دّونها رواة الإنجيل. وهو يعلل دهشة النسوة حين رأين الحجر مدحرجاً عن القبر، ويعلل القبر الفارغ، ثم يتفق تماماً والرسالة التي حملتها المجدلية بأنفاس متقطعة لاهثة إلى التلميذين: «أخذوا السيد ولسنا نعلم أين وضعوه!» ولو لم تكن هناك نواحٍ أخرى للمشكلة، لقلنا إن هذا التعليل يذهب إلى حدّ بعيد في الإقناع والإنسجام مع طبائع الأشياء. على أنه لا يمكن لأية نظرية مهما بدت وجيهة مقنعة لأول وهلة، أن تقف وحدها. ولا مندوحة من أن تنسجم مع الحقائق الكبرى والصغرى في الموقف كلّه. وسنرى أن هذا التعليل لا ينسجم مع الحقائق الكبرى في الموقف الذي نحن بصدده.

وهناك طريقتان ندلّل بهما على موقف يوسف الرامي في القصة:

  1. فهو إما تلميذ متخفٍّ ليسوع أراد أن يقوم جهاراً بخدمة لزعيم لم يستطع لظروف خاصة أن يعترف له بالزعامة في حياته على الأرض.
  2. وإما عضو متدين تقيّ من أعضاء السنهدريم لم يُعنَ إلاّ بمراعاة فرائض الناموس اليهودي التي أوجبت أن يُدفن المصلوب قبل مغيب الشمس.

وقد قيل الشيء الكثير عن الإحتمال الثاني، لا سيما من جانب الذين يهمهُّم الأمر في تصوير يوسف رجلاً يتردد في إبقاء جسد يسوع في قبره الخاص. ويبدو لي أن ثمة صعوبة تُذلَّل قائمة في سبيل قبول هذا الزعم، فإن الناموس اليهودي الذي أوجب الدفن قبل غروب الشمس يتمشى على اللصين المصلوبين سواء. وليست في القصة أية إشارة إلى أن يوسف عني أو فكّر بجد في المصلوبَيْن. وهذا أمر غريب حقاً لأن الحالات الثلاث التي نفذت فيها عقوبة الإعدام كانت في نطاق السلطة الرومانية. فكان محتوماً الحصول على إذن بيلاطس في حالتي اللصين الآخرين. وما من شك أن السلطات التمست فيما بعد إذناً رسمياً بدفن الجسدين، وربما دفنا في المقابر العامة، ولكن هذا لم يتمّ إلا بعد أن أُجيب يوسف الرامي إلى رغبته الخاصة التي تقدَّم بها للوالي الروماني لدفن جسد يسوع. وفي تقدم يوسف بهذا الطلب المنفرد إلى بيلاطس دليل على أنه لم يفعل هذا بصفته الرسمية أو بشعور الغيرة على الناموس. وليت شعري ما الذي حمل ذلك الرجل الكبير والمشير الكريم وعضو السنهدريم الأعلى، على أن ينفق من ماله لشراء الطيوب والحنوط والأكفان، ويؤدي بيده عملاً وضيعاً كان يصحُّ أن يدَعه لرجال السلطة المدنية؟

ثم أن هناك تلميحات صريحة، لا في بشائر الإنجيل، بل في مؤلفات الأبوكريفا غير القانونية، تدل على أن الكهنة نقموا على يوسف الرامي واستدعوه أمام مجلسهم لمحاكمته. ولم يكن ثمة داع لهذا السخط لو أن الرجل فعل ما فعل بصفته الرسمية، وبإيعاز منهم بتنفيذ فرائض الناموس اليهودي في الدفن. والدلائل متوافرة على أنه بتكريمه جسد يسوع ودفنه دفناً كريماً لائقاً قد سفَّه تصرفات زملائه في أعين الشعب وفي عيني بيلاطس. ولا نغفل الإِشارة أخيراً إلى العبارة الصريحة التي ذكرها متى في بشارته في قوله أن يوسف هذا كان تلميذاً، والتي ذكرها لوقا في قوله إنه لم يكن راضياً عن عمل زملائه من أعضاء السنهدريم.

وهذه الإعتبارات مجتمعة تدلّنا على أن يوسف كان يعطف على يسوع أشدّ العطف، وأنه قد تأثر في أعماق قلبه بما شهد من شذوذ وتعصب في قضيته، فاعتزم أن يجهر بتكريمه هذا المعلم الكبير في دفنه. ولهذا مضى إلى بيلاطس، ولهذا اختار القبر الذي أعدَّه لنفسه، مثوىً للمعلم الذي أكرمه.

وحين نسلّم بوجهة النظر هذه عن يوسف الرامي، نسلِّم أيضاً بكثير من الآراء التي تتصل بها اتصالاً لا ينفصم. فإنه يبدو لنا بعيد الإحتمال جداً أن يعمد يوسف الرامي إلى نقل جسد يسوع في مثل الظروف التي كان فيها، وهو الرجل الذي غامر بمقامه الإجتماعي وكرامته بين مواطنيه، وعرَّض نفسه لإمتهان زملائه بإقدامه على ما فعل، وهو الرجل الذي ألقى بنفسه جهرا في زمرة صحابة يسوع. وما نظن رجلاً عاقلاً يقف مثل هذا الموقف، لو لم يكن يكنُّ ليسوع أعمق عواطف الإحترام والتوقير. وإذ قد بذل هذه التضحية في نهاية الأمر، وهي تضحية تقاعس عن بذلها في حياة يسوع، فإنه مما لا شك فيه أن فكرة غالبة طغَت على نفسه حملته على تكريم ذلك الزعيم الشهيد إرضاءً لنفسه وتعزية لها، وإبقاءً على ذكرى مقدسة ستكون بمثابة نقطة لامعة بين الذكريات الحزينة السوداء في أيام شيخوخته. وكلما أمعنا النظر في موقف يوسف، رأينا فيه رجلاً نبيلاً يعمل بحافز من نفسه، فانتهز الفرصة الأخيرة العابرة لنصرة قضية يسوع قبل أن تفوت فيندم ولات ساعة مندم. فهل يُعقل أن يفرض على نفسه هذه العقوبات الشائنة - احتقار زملائه القدماء، وإثارة عداء الكهنة ضده، وعار اتّباعه لنبيٍّ مصلوب مُهان - ثم يخلع عنه هذا الشرف ولمّا تمضِ عليه ست وثلاثون ساعة؟ لا أظن هذا مما يسيغه العقل، أو يسلّم به علم النفس.

وهناك سبب أقوى للدلالة على أن يوسف الرامي لم ينقل جسد يسوع. فإنه بعد ستة أسابيع من تاريخ الحادث كان التلاميذ في أورشليم ينادون بملء أفواههم وقلوبهم على مسمع من الناس أن يسوع قام من الأموات. فلو كان يوسف نقل الجسد بطريقة قانونية، وفي منتصف الليل (ليجتنب المظاهرة الشعبية) قبل أن تصل مريم وصويحباتها إلى القبر، لكان هيناً على الكهنة أن يعلموا سر الأمر. ثم كان هيناً أن يكتشفوا القبر الجديد الذي وضعوا فيه الجسد، لأن اثنين أو ثلاثة اشتركوا مع يوسف في عملية النقل على فرض حدوثها. فلماذا لم يجرؤ الكهنة، والمجادلات المسيحية محتدمة في أورشليم، على أن يقولوا الحق، ويضعوا حدّاً للشائعات التي لاكتها الألسن حول اختفاء الجسد؟

وأخيراً - وهذا عندي دليل قوي البيان - فإننا لا نجد في مؤلفات التاريخ المعاصرة أثراً لقبر أو مزار صار فيما بعد موضعاً للتكريم أو العبادة، على أساس أنه ضمَّ بين جنباته رفات يسوع. وهذا أمر لا يكاد يصدقه العقل لو كان قيل جدّياً في ذلك الوقت أن يسوع دُفن فعلاً في مكان آخر غير هذا القبر الفارغ. وأغلب الظن أن الشائعات كانت تحوم حول مئات من الأمكنة التي يحتمل أن يكون الجسد قد ثوى فيها، وكان كثيرون من الناس يحجّون إليها.

ويخيل إلينا أن المخرج الوحيد لتعليل هذه الظاهرة، أي عدم حجّ الناس إلى القبر، هو قبول ما روته قصة الإنجيل من أن القبر كان معروفاً، وأن فريقاً من الناس زاروه بعد ساعات من الدفن، فوجدوه فارغاً والجسدَ مختفياً.

٢و٣- أن السلطات اليهودية أو الرومانية نقلت الجسد

من اللائق أن نأخذ هذين الفَرْضين معاً، لأن الموقف الناشئ عنهما لا يختلف كثيراً عن الموقف الذي كنّا نعالجه.

ومما لا شك فيه، حتى بعد مضيّ هذا الزمن الطويل، أن ننتحل أسباباً وتعلاّت نفترض بها أن الجسد ربما نقلته السلطات الرومانية أو اليهودية، ولو أن هذا الزعم في حدّ ذاته يبدو ركيكاً واهياً. فقد كان بيلاطس رجلاً عنيداً شديد المراس بدليل تمنّعه عن تغيير العنوان الذي كتبه على الصليب. وكان يرحب في حرج موقفه بأية حجة تحلّله نهائياً من آثار هذه الحادثة الأليمة. وإذا كان قد منح الإِذن ليهوديّ ممتاز بدفن الجسد، فماذا يعوزه بعد ذلك، وما الذي يحمله في موقفه هذا على تغيير رأيه حتى بإيعاز من السلطات اليهودية؟

وفي بشائر الإنجيل، وفي مؤلفات الأبوكريفا غير القانونية، حديث مسند قوي يقول إن اليهود ذهبوا فعلاً إلى بيلاطس وطلبوا إليه أن يقيم على القبر حرّاساً. وسأعالج مشكلة الحرّاس في فصل تالٍ. ولكن الحديث كله لا يذهب إلى أكثر من طلب وضع القبر تحت الحراسة لمنع نقل الجسد، لا الحصول على تصريح لنقله. وليس في الكتابات الأولى، قانونية كانت أو غير قانونية، أية إشارة إلى أن الكهنة فكّروا في تغيير مكان الدفن، بل على نقيض ذلك تدل الروايات الصريحة على أنهم قد شُغلوا فعلاً لئلا يُقْدم أحد الأشخاص غير المأمورين على خطف الجسد وتهريبه.

على أن الزعم بأن السلطات الرسمية هي التي نقلت الجسد ينهار إلى الحضيض حين نجابه الحقائق الرائعة بعد الحادث. لأنه إذا كان الكهنة قد حملوا بيلاطس على تغيير مكان الدفن، أو أنه صرَّح لهم بذلك، فلا شك أنهم عرفوا المثوى الأخير الذي استقر فيه بعد نقله. وفي هذه الحالة ما كانوا ليلجأوا قط إلى تشويه الواقع تشويهاً يضرُّ بقضيتهم، فيقولوا كذباً إن التلاميذ هم الذين سرقوا الجسد. بل كان المفروض أن يذيعوا بين الناس المنطق السليم المعقول، فيقولوا أن الجسد نُقل لأسباب قانونية بأمر بيلاطس أو بناءً على طلبهم. ومثل هذا التصريح من جانب رئيس الكهنة كان يقضي على كل زعم، وكان يفسد كل نداء من جانب أنصاره بقيامة الجسد الفعلية، وذلك لأنه كان في وسعهم في أية لحظة، إذا تحداهم أحد، أن يُظهروا الناس على بقايا هذا الجسد. أما وقد فشل الجميع في إظهار الناس على بقايا الجسد، وعجزوا عن الإدلال إلى قبر رسمي أو غير رسمي، فإن في هذا وحده القضاء المبرم على كل نظرية تزعم أن الجسد نُقل بيد بشرية.

٤- أن يسوع لم يمت فعلاً على الصليب

وما أظن القارئ يرى في هذا الزعم الباطل أساساً صالحاً للمناقشة، ولكني أُدمجه بين المزاعم الأخرى رغبة في إستيفاء الموضوع لا غير. وهو لا يعدو في الواقع مجرد مماحكة تاريخية. فإن العالم الألماني فينتوريني وهو من أنصار المذهب العقلي، قد هالته الأدلة القوية التي أيدت القبر الفارغ، فابتكر مماحكة سمجة (نقلها عنه بعض مَن يكتبون ضد المسيحية في الشرق) وقال إن المسيح لم يمت فعلاً على الصليب ولكنه أُغمى عليه فقط، ولما أُودع القبر الرطب استفاق ثم خرج وظهر للتلاميذ. وهذا الزعم الذي يحاول به صاحبه تعليل الحادث تعليلاً عقلياً محضاً، هو أبعد المزاعم عن العقل، لأنه يتجاهل الجراح العميقة التي أُثخن بها الجسد، والضرب الوجيع الذي أحدثته السياط، وتمزيق اليدين والرجلين من أثر المسامير، وفقدان القوة الناشئ عن نزف الدماء، وطعنة الحربة التي خرقت جنبه، وانقطاع المدد البشري عن إغاثته في ساعات عصيبة هو أحوج ما يكون فيها إلى الإغاثة، والأكفان الضيقة التي أُحبكت حول جسمه الممزق، والحجر الضخم الذي وُضع على باب القبر، وكان حجمه هائلاً بحيث لم يكن في طوق بضع نساء دحرجته مجتمعات معاً، وكنّا يفكرنَ في مُعين من الخارج. ويكفي أن نحكم على سخافة هذا الزعم وبُعده عن العقل بمجرد التفكير في ما كان عليه ذلك الهيكل البشري المحطّم بعد نزف الدماء من جروح الجلد الوجيع وتاج الشوك والمسامير والحربة دون أن يُعنى أحد بتضميدها، وبعد وضعه على أرضية القبر الرطبة في يوم من أيام شهر أبريل (نيسان) محروماً من أية عناية بشرية. على أن الضربة القاضية التي أجهزت على هذا الزعم الفاسد هي التي أعدَّها العلاّمة «ستروس» والتي نقتبسها هنا لما فيها من قوة وإفحام. قال: «إنه من المحال على شخص تسلل من القبر في حالة من الإغماء والوهن والمرض، وفي حاجة إلى العلاج الطبي وتضميد الجراح والعناية والإسعاف، وفي حالة من الخنوع والإستسلام لآلامه - إنه من المحال أن يطبع شخص كهذا أثره العميق في نفوس التلاميذ، ويخدعهم بأنه قاهر الموت والقبر وأنه رئيس الحياة - ذلك الأثر البارز الذي كان أساساً لوعظهم وخدمتهم. أن مثل هذا الإنتعاش بعد الإغماء، لو أنه حدث، لما كان له هذا الأثر الذي انطبع على نفوسهم في الحياة والموت، ولما بدّل أحزانهم غيرة وحماساً، ولما حّول توقيرهم له سجوداً وتعبُّداً».

٥- أن النسوة أخطأن في التعرف إلى القبر

وهذا ما يأتي بنا إلى زعم لا يمكن أن يُوفى حقه من البحث إلاّ بعد دراسة المقابلة التاريخية عند القبر دراسة وافية. على أنه يمكن البحث هنا في بعض النتائج العامة التي تترتب على هذه النظرية.

يقول أصحاب هذا الزعم أن مريم المجدلية وصويحباتها جئن إلى القبر في صباح الأحد والظلام باقٍ، وكانت أنوار الفجر خافتة ضئيلة. والأشياء تبدو في النور المكمد القاتم على غير حقيقتها. ويذهبون إلى أن النسوة ربما أخطأن في التعرّف إلى القبر. ويزعمون أنه عند وصولهن إلى القبر التقين هناك بشاب - قيل أنه البستاني - عرف المهمة التي جئن من أجلها، فقال لهنّ إن يسوع ليس هنا، فارتعبن لقوله، ودون أن يتريثن حتى يفرغ الشاب من كلامه ويشرح لهنَّ الخطأ، أسرعن مهرولات من البستان.

ويبدو لنا، على الرغم من مسحة المعقولية التي تلابس هذه النظرية، أن بها ضعفاً هائلاً. فإنه إذا كان الوقت ظلاماً بحيث أخطأ النسوة في التعرّف إلى القبر، فكيف يكون البستاني قد صحى وبدأ في مزاولة عمله؟ أما إذا كان النور قد انبثق من وراء الأفق فكيف يخطئ النسوة في معرفة القبر؟

ولكي نبسط هذه النظرية كل البسط أشير إلى ما كتبه عنها أحد كبار شارحيها وهو الأستاذ «ليك» الذي عالج النظرية علاجاً وافياً واضحاً في كتابه «قيامة يسوع المسيح». وسأقتبس نصّ كلامه على قدر الإمكان لما امتاز به أسلوبه من صراحة:

يبدأ الأستاذ ليك - وهو على حق في ذلك - بحثه مفترضاً أن زيارة النسوة للقبر قصة صادقة من التاريخ، فإن هذه القصة بالذات أصيلة في كل المؤلفات الأولى، فهي واردة في أقدم الوثائق التي لدينا وهي بشارة مرقس، ثم في بشارتي متى ولوقا، ويؤيدها يوحنا أيضاً فيما يتعلق بمريم المجدلية نفسها. وجاءت القصة أيضاً في بشارة بطرس من أسفار الأبوكريفا. والأهم من هذا كله وردت أيضاً في الأثر القديم المستقل المأثور المتضمن الفصل الرابع عشر (آية ١٣ - ٢٤) من بشارة لوقا عن الرحلة إلى عمواس.

وليس بين المؤرخين مَن يخامره شك في تاريخية زيارة النسوة للقبر، ولذلك يعمد الأستاذ «ليك» إلى بحث مسألة القبر الذي وفد إليه النسوة، فيسأل: أهو القبر الأصلي الحقيقي أم قبر آخر غيره.

ويعالج المسألة في فصلين، فيقول في الفصل الذي عنوانه «الحقائق الجاثمة وراء التقليد»:.

«من المسائل المشكوك فيها أن يكون النسوة في وَضْع يساعدهن على تعرُّف القبر الذي وضع فيه يوسف الرامي جسد الرب.... فإذا لم يكن هو القبر بذاته، انهارت القضية من أركانها. والمفهوم أن النسوة جئن في الصباح الباكر إلى القبر حسبْنَهُ القبر الذي وُضع فيه جسد الرب وأمِلْنَ أن يرين قبراً مختوماً، ولكنهن وجدن قبراً مفتوحاً وشاباً واقفاً عند بابه، حاول بعد أن عرف موضوع مهمتهن أن يخبرهنَّ بما وقعن فيه من خطأ، فقال. ليس ههنا، إذهبن إلى المكان الذي وضعوه فيه. وربما أشار إلى قبر آخر. ولكن النسوة فزعن وارتعبن عند افتضاح المهمة التي بكّرن لأجلها، وهرولنَ مسرعات دون أن يفهمن ما سمعنه، أو ربما كان فهمهنّ له ناقصاً. ولم يدركن إلاّ مؤخراً - بعد أن عرفنَ أن الربَّ قام وأن القبر لا بد فارغ - أن ذلك الشاب الذي وقف على باب القبر كان غير الذي زعمنَ، وأنه لم يلفتهن إلى ما ارتكبنَ من الخطأ في التعرُّف إلى القبر، بل كان مزوداً بإعلان قيامة المسيح من الأموات وإبلاغ رسالته إلى التلاميذ».

وتبرز هذه الفكرة عينها في العبارة الآتية تعليقاً على «القصة كما رواها مرقس» فيقول الأستاذ «ليك»:

«راقب النسوة، اللواتي بقين حتى الساعات الأخيرة، دَفْنَ سيدّهن، ربما عن بُعد. ولم يكن معهن أحد من التلاميذ الذين تفرقوا عقب القبض على يسوع (ففرَّ بطرس بعد الآخرين بقليل من الزمن). وهم إما أن يكونوا قد عادوا إلى أوطانهم، وإما اختفوا في مخابئ أورشليم حتى تسنح فرصة للهرب».

وبعد قليل وجد التلاميذ أنفسهم في موطنهم القديم، فتأهبوا للعودة إلى أساليب حياتهم القديمة. ولكن لفرط دهشتهم يظهر لهم الربُّ، أولاً لبطرس ثم للآخرين - لمن سكنوا اليهودية ولمن سكنوا الجليل. وتحت تأثير ظهوره لهم مراتٍ لم تُتوخَّ الدقة في تدوينها تفصيلاً، آمنوا أن الرب قام وصعد إلى السماء، وأنهم دُعوا للرجوع إلى أورشليم وحمل أعباء رسالته.

«وفي أورشليم التقوا بالنسوة اللائي راقبن الدفن، فقلن لهم إنهن ذهبن إلى القبر في صباح اليوم الثالث لتكميل فرائض الدفن التي لم يستطع يوسف الرامي أن يقوم بها فوجدن القبر مفتوحاً، وأفزعهن شاب واقف على القبر بقوله إن يسوع الذي يطلبنَه ليس هنا. وهذه الرواية على لسان النسوة مضافة إلى اليقين الثابت الذي رسخ في أذهانهم عن حقيقة القيامة، وهو يقين اقتضاه القبر الفارغ، أدَّت إلى القول إن القيامة حدثت في اليوم الثالث».

ولقد أثبتُّ العبارتين بنصّيهما من أقوال الأستاذ «ليك» لأنهما تشرحان الدعائم التي أقام عليها مزاعمه الآتية:

  1. أن النسوة ربما أخطأن في التعرّف إلى القبر.
  2. وأنهن لم يذعن النبأ مباشرة لأن التلاميذ كانوا قد فرّوا من أورشليم.
  3. وإن التلاميذ سمعوا القصة عند عودتهم من الجليل بعد انقضاء بضعة أسابيع.

ولست أقصد هنا بحث النقط الغامضة في النصوص الأصلية، فموضع هذا في فصل لاحق، ولكني أراني هنا أمام إعتبارات ثلاثة وجيهة:

وأول كل شيء أن الحجة التي يفترضها في غياب التلاميذ أو اختفائهم في أحد القيامة (وهي حجة جوهرية لتأييد مزاعم الأستاذ ليك) مشكوك فيها ومزعزعة الأركان. وهي تسند إلى عبارة مقتضبة في بشارة مرقس. وإلى جانب هذه الحجة الواهية دليلاً إيجابياً قوياً فليس مرقس وحده هو الذي يشير صراحة وضمناً إلى حضور التلاميذ في قوله: «ٱذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلامِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ إِنَّهُ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ كَمَا قَالَ لَكُمْ» (مرقس ١٦: ٧)، بل تؤيده أيضاً روايات البشائر الأخرى.

وإذا كان في قصة الإنجيل شيء لا يتسرب إليه الشك، فهو أن التلاميذ لم يهربوا كلهم، وإنْ يكن قد قيل إنهم تركوه وهربوا. فإن واحداً منهم على الأقل صارع أهوال المدينة في تلك الليلة، وتمكن من رؤية مشهد المحاكمة في منتصف الليل - وهو بطرس.

ولا تخامرني ريبة البتة في صدق القصة المؤثرة التي رُويت عن سقطة بطرس في تلك الليلة وتوبته وندامته، فهي قصة تصّور لنا أصدق تصوير ناحية من نواحي الحياة البشرية ولا يمكن تعليلها على أساس أنها رواية خيالية، إذ كيف نعلل إدخال قصة تَصِمُ رسولاً من قادة الرسل بوصمة الخزي والخجل وسوء الأحدوثة، إلاَّ إذا كانت صورة لواقعة حقيقية لم تُمْح ذكراها. وإذا كان بطرس موجوداً في أورشليم في صبيحة يوم الجمعة، فمن الذي يدّعي واثقاً أنه وزملاءه قد فرّوا من المدينة قبل يوم الأحد التالي؟

ونرى ثانياً إن موقف النسوة يبدو غريباً شاذاً بحسب هذا الزعم. وهنَّ لسنَ مجرد معارف للجماعة الرسولية، بل يرتبطن بهم بأوثق روابط القرابة. فكانت سالومة أماً لتلميذين من المقربين، ومريم زوجة كلوبا أختها أماً لإثنين آخرين. فضلاً عن ذلك لم يكنّ من المقيمات في المدينة أصلاً، بل جئن إليها خصيصاً للعيد. وإن كان التلاميذ كهيئة عرضة للخطر، فبالأولى تكون أمهاتهم وهن نسوة ضعيفات. ولم يكن معقولاً أن يتركوهنَّ وحيدات تحت رحمة الكهنة الحاقدين وجمهور الدهماء الأحمق. ولو كان الأمر كما يذهب إليه أصحاب هذا الزعم، لما فات التلاميذ أن يكفلوا الأمن لأمهاتهم بإخراجهن عاجلاً من المدينة.

ويخيل إليَّ أن صلة النسوة بالتلاميذ الرجال واعتمادهن عليهم تُحرج نظرية الأستاذ «ليك» كل الإِحراج في أدق نقطة فيها. فهو مضطر لأن يُبقي النساء في أورشليم حتى صباح الأحد لأنه يؤمن يقيناً أنهن ذهبن إلى القبر، وهو مضطر أيضاً أن يخرج التلاميذ من أورشليم قبل شروق شمس يوم الأحد لأنه يذهب إلى أن النسوة قد صمتن ولم يفهنَ بشيء. و لكي يّوفق بين هذا وبين سردهن القصة فيما بعد بكل ما ترتب عليها من نتائج منطقية لا مفرَّ منها، نراه يضطر أيضاً إلى إبقاء النسوة في أورشليم أسابيع معدودات، بينما قفل التلاميذ راجعين إلى مواطنهم، ثم عادوا بعد ذلك إلى العاصمة على أثر بعض الحوادث.

وليت شعري ما الذي كان يفعله النسوة، في عُرْف الأستاذ ليك، طيلة هذه الأسابيع في مدينة بعيدة عن أوطانهن، بينما تجذبهن إلى الشمال روابط الأهل وموحيات الغريزة؟ أتراه هو نفسه في موقف كهذا يفرُّ لاجئاً تاركاً زوجته أو أمه في موقف الخطر المحقق؟ إنه ليصعب عليَّ تصديق هذا. فإنه إذا كان الأمن مكفولاً للنسوة ولا خوف عليهن من البقاء في المدينة والذهاب إلى القبر، فهو أيضاً مكفول للتلاميذ، ولا حرج عليهم أن يبقوا في أورشليم. أما إذا كان في بقاء التلاميذ خطر عليهم، فإنه من البديهي أن يشاركهم الفرار سالومة ومريم زوجة كلوبا وأم يسوع.

على أن هناك صعوبة أدق وأعمق من هذه. فإنه يبدو لنا أنه، لا الأستاذ «ليك» ولا «جاردنر سميث» الذي نحا نحوه مع بعض التحفظ، فَطن إلى أن هذه النظرية لو صحَّت، لوضعت سلاحاً ماضياً بتّاراً في أيدي رؤساء الكهنة. ولم يكن عسراً على قيافا وزملائه، وهم كما نعهدهم، أن يفندوا أكذوبة القبر الفارغ ويسفّهوا دعاتها بإبراز البستاني والإستشهاد بأقواله.

فهو الإنسان الذي كان في وسعه أن يتكلم بثقة وسلطان لا مردّ لهما، وكلمة منه كانت كافية للقضاء على القصة السخيفة وإطارتها عصافة في الهواء. فأين آثار المجادلات التي كان من البديهي أن تثور في وجه هذا التحدّي الذي نادى به التلاميذ عقيب القيامة؟ وأين دعاوي الكهنة بأن القبر لم يكن فارغاً، وإن بقايا الجثة البالية المتعفنة ثاوية فيه؟ لا أثر البتة لشيء من هذه المجادلات أو الأقوال - إلاَّ صدى هزيل خافت لتهمة قالوا فيها أن التلاميذ هم الذين سرقوا الجسد.

والحق أن هناك سببين قويين يمتان بأمتن صلة إلى الحقيقة التاريخية، من أجلهما لم يجرؤ أعداء المسيحية على إستدعاء ذلك الشاب الذي رُئي عند باب القبر لسماع شهادته. أما السبب الأول فهو أن ذلك الشاب لم يكن البستاني مطلقاً، كما سنرى في ما بعد، وأن وجوده أمام القبر في نور الفجر الشاحب، في صباح ذلك اليوم، كان لدواعٍ أخرى. ولكن السبب الحاسم الأقوى هو أن خلّو القبر كان حقيقة تاريخية ثابتة لم يعترضها أي شك في عصور المسيحية الأولى وفي عالم معادٍ للمسيحية. والظاهر أن الحوادث مجتمعة قد ائتمرت كلها على إثبات هذه الحقيقة فكانت بنجوة عن كل إعتراض أو شك.

٦- أن النسوة لم يزرن القبر

وهذا يأتي بنا إلى نظرية لعلّها تكون على شيء من المنطق إذا أراد المكابرون تحدّي رواية الإنجيل.

وهم لو استطاعوا أن يدللوا على أن القبر لم يزره أحد في صباح الأحد، وأنه بقي مجهولاً لم يفكّر فيه إنسان شهوراً طوالاً، لو استطاعوا شيئاً من هذا، لتحطمت الصخرة التي قامت عليها الفروض والمزاعم التي أسلفنا. وإذا لم يكن النسوة قد أعلنَّ خلّو القبر، لما كان ثمة داعٍ لأن يصطنع رؤساء الكهنة نظريتهم، ولظلَّت المدينة هادئة منصرفة إلى حياتها العادية، إلاّ ما تحدثه حادثة الصلب من جدل عادي ورجّة في الأفكار.

على إنني أراني مضطراً إلى القول إنه ما من نظرية من النظريات التي ذكرنا تتعرض لمثل ما تتعرض له هذه النظريات من التحطّم والبوار على ضوء الأسانيد العقلية. وسنرى في الفصول التالية أن الحوادث اللاحقة تسدُّ عليها المنافذ وتخنقها خنقاً.

الفصل التاسع: اللغز التاريخي في المشكلة

كل من يتقدم نحو هذه المشكلة، يجابه عاجلاً أو آجلاً، حقيقة لا يمكن تعليلها أو تذليلها بأي وسيلة من وسائل المنطق، لأنها حقيقة صلدة تصدم الوجه، لا قبل لإنسان على مناجذتها أو التعرض لصدقها وحقّها.

أما هذه الحقيقة فهي أنه فيما بين ختام الساعات الست والثلاثين التي أعقبت الصلب، وبين فترة من الزمن لا تعدو ستة أو سبعة أسابيع، شاع في نفوس النفر القليل الهزيل من التلاميذ يقين راسخ أن يسوع قد قام من القبر.

وإنه موقف غريب لا مثيل له في التاريخ. وليس الأمر أن واحدة أو إثنتين من النسوة المرهفات الشعور، ممن حضرن مشاهد الصلب الأخيرة، قد أُظهر لهما أن يسوع قد قام، فألَّحتا على هذه الدعوة كل الإلحاح أمام أصدقاء بينهم المنكر الجاحد، وبينهم المرتاب المتردد. ليس شيء من هذا ممّا لا يحتمل الضغط التاريخي. ولكن جوهر الأمر أن الجماعة كلها ومن بينهم الرجال التسعة الذين ولّوا الأدبار عند القبض، وغيرهم من الأشخاص المستقلين الذين لم تُذكر أسماؤهم في القصة من قبل - هؤلاء وأولئك اقتنعوا بأن حادثاً وقع بدَّل وُجهة نظرهم تبديلاً، فحّول اندحارهم فوزاً، وقلَب حزنهم فرحاً وبِشْراً!

ولو كان الدليل الوحيد على هذا المظهر الغريب مستمداً من عبارة مفردة جاءت في الفصول الأولى من سفر الأعمال، لجاز لنا القول إنها بيان غزير المادة فاتر العبارة أثبته أحد المؤرخين المعاصرين، ممن اتصلوا بالحركة الأولى وتأثروا بأطوارها، فصبغ القصة بوجهة نظره الخاصة. ولكن أحداً لا يقدر أن يدّعي هذه الدعوى. فإن هناك وثائق أقدم منها عهداً في رسائل بولس الرسول وبطرس ويعقوب، ومؤلفات الكنائس المسيحية التي امتدت أطرافها وسط المخاطر والموت والإستشهاد من أورشليم، إلى آسيا الصغرى، إلى سراديب روما. وغير معقول أن تتناثر هذه الشهب الملتهبة من بلد صغير كفلسطين إلى كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية إلاّ من مستودع متأجج بنيران الغيرة المتقدة. وليس من الحق أن نصرَّ على التشبُّث بنظرية العلة والمعلول في العالم الطبيعي، وننكرها في العالم النفسي. ونحن الآن تجاه مظهر من أروع مظاهر التاريخ، وحادث من أخطر حوادثه، لا يمكن تعليله إلاّ بوجود قوة هائلة دفعته دفعاً.

ولكن المواد البشرية الأصلية التي خرجت منها هذه القوة الدافعة نراها ممثلة في متشكك مرتاب مثل توما، وفي صياد ضعيف مثل بطرس، وفي شرذمة من رواد البحر مثل أندراوس ونثنائيل، وفي طائفة صغيرة من النسوة المواليات، وفي إثنين أو ربما ثلاثة غير هؤلاء.

ولست أقصد إلى الحطّ من شأن النواة التاريخية التي بزغت منها المسيحية. ولكن أحقاً نجد القوة التي يتطلَّبها الموقف في فئة هزيلة غير متجانسة قد هدَّت أعصابها قسوة الصلب، وامْتَهَن كرامتها موت الزعيم؟ ما أظن أحداً يزعم هذا. وكلما فكرنا في تفكك قواها تحت عبء الأزمة، تعذَّر علينا التصديق أن في وُسعها لمّ شعثها على هذا النحو واستجماع قواها الخائرة المبعثرة للقيام بالاعمال المجيدة التي شهدتها العصور المسيحية الأولى. ولكن التاريخ شاهد صدق على أن تلك الفئة المستضعفة قد فعلت كل هذا. إن شيئاً ما قد انساب إلى حياة أولئك القوم العاديين البسطاء، فما عادوا كما كانوا فئة ضعيفة محطّمة كالتي شهدناها في صحابة يسوع.

أما موضوع الإختبار الذي عرفوه - سواء كان جسمانياً أو نفسياً أو كليهما معاً، وسواء كان حادثاً عظيماً خارجاً عن نطاق معرفتنا أو غير ذلك - فهو اللغز الذي نتولَّى الآن دراسته.

وقبل أن نتبسَّط في دراسة وافية، خليق بنا أن نفطن إلى نقطة هامة: وهي أن الوثيقة التاريخية التي أجمعت على صدقها العصور الأولى، والتي دبجّتها براعة كاتب له علم ببواطن الأمور، روت لنا أن أول إذاعة علنية عن قيامة يسوع من الأموات أُعلنت في أورشليم في خلال عيد الخمسين، عقب عيد الفصح الذي رُّوِعت فيه صحابة يسوع، أي بعد سبعة أسابيع من تاريخ الصلب.

ترى ما علّة انقضاء هذه الفترة؟ إنه سؤال سديد مليء بالمعاني. لنفرض أولاً أن قصة القيامة كانت أسطورة. والمعروف لنا أن لوقا كتب سفر الأعمال، وهو الوثيقة التاريخية التي ألمحنا إليها من قبل، بعد وقوع الحوادث التي نحن بصددها بثلاثين أو أربعين من السنين. وكان هناك متسع من الوقت لأن تنضج الأسطورة وتتوالد - على فرض أنها أسطورة - وتبلغ أكمل وضع لها. وما كانت القصة لتفقد ما فيها من قوة إقناع بمرور الزمن، وبالأولى كانت تخلص من عناصرها الضعيفة غير المتماسكة ومظاهرها التي لا تلائم الحبكة الأسطورية.

وإذا نظرنا إلى القصة كأنها أسطورة محض، فإن انقضاء فترة الأسابيع السبعة لا تبدو لنا مظهراً يلائم طبيعة الأشياء، إنما هي خطأ في تاريخ تسلسل الحوادث من الطراز الأول، وذلك لأنها تترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لإدخال أخطر الشبهات والريب، إذ يقول الناس: إذا كان يسوع قام من الأموات يوم عيد الفصح، فلماذا لم يذيعوا النبأ من فوق سطوح المنازل من فورهم؟ ولماذا أبطأوا سبعة أسابيع حتى كاد الناس ينسون المأساة العظيمة، ثم يطلعون بعد ذلك فجأة بإعلانهم هذا؟

ولسنا نعقل أن تحمل قصة أسطورة كحادث القيامة - هذا على فرض أنها أسطورة - بذرة خصيبة كهذه تتوالد عنها الشكوك والريب. وإذا كانت القصة رواية مصطنعة، فإن واضعيها على هذا النحو ليسوا على شيء من الفهم والإدراك. وما من شك أنه لو كانت القصة مجرد أسطورة تناقلتها الألسن مدة سنوات طوال بعد الحادث، لتجنَّب واضعوها نقطة الضعف هذه، ولأثبتوا في مدّوَناتهم إعلان القيامة على الملأ في اليوم الذي كُشف فيه أمرها.

فكيف نعلل هذه الفترة من الزمن التي امتدت سبعة أسابيع قبل إذاعة الحادثة والجهر بها علناً أمام الناس؟ لا أرى إلاَّ تعليلاً واحداً لهذا الأمر، وهو أننا أمام حادث واقعي، لا قصة روائية ولا أسطورة خيالية. فالروائي يرتّب حوادثه ويصيغها بحيث تخدم الغرض الذي يقصد إليه، وكاتب القصة يبتكر ما تهيّئه له حوادث السيرة.

وأنا أفترض أن أحد قرائي قد وقف مرة فوق طريق أثري قديم استخدمه الناس أجيالاً - وعجب أن يرى انحناء فجائياً في نقطة ما، أو دورة حادة لإجتناب شيء لا يراه هو. ولعلَّه يسائل نفسه: لماذا لم تمتد الطريق في خط مستقيم نحو الهدف الذي تتجه إليه؟ فالدورة لم تقصِّر مسافة الطريق بل تطيلها، ولا تجعل الإنحدار هيناً سهلاً، بل تجعله عنيفاً حاداً، فما علَّة هذا الإنحناء أو الدوران، وكان أهون أن تمتدَّ الطريق مستقيمة؟

وأنت إذا تتبعت تاريخ هذا الطريق، يتبيَّن لك التعليل الكافي لهذا الإنحناء أو الدوران في علامة من العلامات التي طُمست معالمها، أو في فسحة من الأرض المسّوَرة، أو في حق من الحقوق المقررة التي لم يقدر أن ينازع فيه ممهّدو الطريق. إن الطريق تميل وتنحني، وتلف وتدور لإجتناب شيء ما لم يكن بدُّ من اجتنابه يومئذٍ.

ويخيَّل إلى أن شيئاً من هذا القبيل يتخلل المشكلة التي نحن بصددها. فقد كان ميسوراً، بعد انقضاء سنوات كثيرة، وبعد أن تهدَّمت معالم أورشليم واختلطت المواقع المقدسة بالأنقاض التي كدستها أحداث الخراب الماحق، كان ميسوراً جداً بعد كل هذا أن يصطنع الرواة قصة القيامة بعد أن يستبعدوا منها تلك الفترة الغريبة، التي مضت قبل إذاعة النبأ. وكان أفعل في آذان الغرباء الذين لم يشهدوا الحادث، وأقوى في إقناعهم، لو قيل في المدّونات التاريخية إن إذاعة النبأ تمَّت بعد كشف الحادثة مباشرة في غير إبطاء. وما كان ليتصدّى أحد إلى منازعة هذا الإدّعاء، لأنه كان أقرب إلى المنطق وأكثر انطباقاً على طبائع الأشياء في حادث غريب رائع كالقيامة.

على أننا ننسى هنا موقف الذين مهدّوا الطريق وخططوا منحنياتها ودورانها. فإن قصة القيامة التي أُذيعت ونودي بها في العالم القديم في خلال الأربعين سنة الأولى من العصر المسيحي، لم يَرْوِها أناس غرباء خوارج، بل أذاعها صُحابة يسوع الأصليون وهم لم ينتظروا عقدين أو ثلاثة من السنين قبل إذاعتها في العالم، ولكنهم بدأوا حملتهم المنظمة في خلال شهرين من وقوع الحادث. وما انقضى ستون من الأعوام حتى كان هلك أغلبهم على أيدي العنف والقسوة بسبب اعتصامهم بهذه القصة.

من ثمَّ يتضح لنا أن فترة الأسابيع السبعة، بما فيها من منافذ وثغرات تسهل على المتشكّكين والمرتابين سبيل الشك والإرتياب، كانت واقعة صحيحة في الرواية المسيحية تمثّل ما حدث فعلاً. وهم رووا قصة تلك الأسابيع السبعة، لأنها كانت القصة الوحيدة التي يرويها الصادقون الأمناء. هكذا كانت الحوادث، فلم يرووا إلاّ حقيقة في التاريخ.

وحين ندرك هذا، يتبين لنا أن التاريخ الذي أُذيع فيه هذا التصريح المسيحي العظيم لأول مرة في أورشليم لم يكن إلاّ في عيد الخمسين من سنة الصَّلْب - وهو التاريخ الذي يعيّنه سفر الأعمال، والذي أجمعت عليه كل الأحاديث المسيحية المسندة المتواترة.

والآن لنبحث الطريقة التي بها أذيع هذا التصريح: كانت أورشليم في حركة ناشطة من الحركات التي تألفها في أعيادها الموسمية، وكان الوقت عيد الخمسين، وهو عيد يُقبل فيه الزائرون والحجاج إلى المدينة من كل فجّ من فجاج الإمبراطورية، وإن يكن الزحام والتدافع بالمناكب أقل عادة من أيام عيد الفصح. بهذه الجموع الحاشدة التي لم يكن لها عمل أو مأرب إلاَّ الإحتفاء بالعيد، كانت تعجُّ طرقات أورشليم القديمة وأسواقها بخلق كثير ممن جرت في أعصابهم حرارة الشعور الديني.

في تلك الفترة من تاريخ أورشليم أذيعت الأخبار التي انتهت إلينا تفاصيلها في سفر الأعمال مدموغة بطابع الحق والصدق. ولنا أن نتصور طائفة مؤلفة من اثني عشر أو أربعة عشر رجلاً وربما ست من النساء، يخرجون فجأة من مساكنهم الخاصة في أورشليم وهم في حالة من الثورة الروحية العنيفة، ونتصور أيضاً جمهوراً من الشعب يلتفُّ حولهم، بعضه يسخر منهم ويتصورهم ثملين بنشوة السُّكْر، والبعض الآخر يسوقه حب الإستطلاع للوقوف على علة الثورة الحماسية. ولنا أن نتصور أيضاً صياداً مثل بطرس يقف على منصة عالية، ربما درجات أحد المنازل، ويذيع في الناس هذا التصريح الغريب.

على صور كهذه أُذيع لأول مرة في الناس نبأ الإختبار المسيحي. والآن تتبّع سير الحوادث: لو أن الإعتقاد بقيامة يسوع بقيَ مقصوراً على الفئة المختارة، يتداولونه فيما بينهم سراً ويتناقلونه بين الأخصّاء وراء أبواب مغلقة، لبقيت حالة أورشليم الخارجية دون تغيير، أما وقد خرج التلاميذ عن عزلتهم وأذاعوا في الناس نبأهم، فلم يكن بدُّ من حدوث أمرين:

الأول: نقاش حاد وجدل عنيف بين أنصار هذه الحركة الجديدة وبين أضدادها. ولم يكن الأمر خلافاً طفيفاً في الرأي في مسألة دينية ثانوية، بل كان فضيحة مشينة وافتراء شنيعاً. فإن صحَّ ما ادَّعاه التلاميذ فكأنَّ الكهنة ورجال الدين الذين ألحُّوا على قتل يسوع، قد خانوا الشعب واقترفوا أشنع جريمة أمام الله. أما إذا لم تكن دعواهم صحيحة، وكانت إذاعتهم زوراً وبهتاناً، فلا بدَّ من فضحها واستئصالها في غير هوادة. ولم يكن في الإمكان اتخاذ موقف وسط، فكان كل إنسان إمّا موالياً للحركة الجديدة، أو خصماً لها ناقماً عليها.

والثاني: أن رجال السلطات، مهما اشتد ميلهم إلى إخفاء قضية يسوع وحمل الناس على نسيانها، لم يكن في وسعهم تجاهل حملة كهذه والسماح لقوم بفضح جريمتهم الأدبية تحت سمعهم وبصرهم وفي أفنية الهيكل. إن موقفاً كهذا يعرّض مراكزهم للخطر، ولا بدّ من اتخاذ بعض الأساليب العنيفة للدفاع عن أنفسهم. وهم إذا فشلوا في هذا، انهارت كرامتهم وضعفت في الناس هيبتهم، والسكوت هنا عنوان الفشل.

ويتضح جلياً من شهادة سفر الأعمال أن ذينك الأمرين قد تمَّا فعلاً في خلال السنوات الأربع التي نشطت فيها الدعوة المسيحية ولقيت نجاحاً باهراً قبيل الإضطهاد العنيف الذي أثاره شاول الطرسوسي. فقادة الرسل أُلقي عليهم القبض مرة، بل مرتين. واقترنت المرة الأولى بحادث اضطراب حول رجل أعرج قعيد، ولكنها في الواقع من أجل تعليمهم عن يسوع. والدليل على هذا أنهم عند إطلاق سراحهم أُستحلفوا أن لا يذيعوا شيئاً عن هذا الإسم. وكانت المحاولة العميقة الأولى من جانب السلطات أشبه بمن يقبضون على ذنب الحية قبل أن يلسعهم نابها.

ولكن إزاء هذا العمل الذي لم يكن حاسماً من جانب السلطات اليهودية، كانت المسيحية تزدهر وتنتشر وتكتسب الأنصار والأتباع في نطاق واسع ما كانوا يحلمون به. والإضطهاد المرّوع الذي قام به شاول في مدن بعيدة مثل دمشق يدلُّ على أن الحركة كان قد اتسع نطاقها اتساعاً أفزع القوم وأقضّ مضاجعهم. وإذا لم يزد أهل ذلك «الطريق»، الذين حاول شاول إفناءهم، عن ثلاثة آلاف نسمة، فإن معنى هذا أن نسبة هائلة تفوز بها عقيدة ثورية انقلابية داخل أورشليم ذاتها. والرقم ثلاثة آلاف كان بلا شك أقل من الحقيقة.

وحَتْم هنا على كل قارئ أن يبحث في هذا السؤال: هل كان ممكناً أن تصادف هذه الثورة الإنقلابية - بما انطوت عليه من تضارب في الآراء والإدّعاء أن يسوع قام من الأموات - هذا النجاح الفائق، لو كانت جثة يسوع باقية رميمة في قبرها؟ هذه نقطة خطيرة جوهرية في الموضوع نضطر للعودة إليها الفينة بعد الفينة، لأنها تمسُّ لُباب الأمر كله.

إنّ الحقيقة تقوم مبدئياً على قوة الدليل، وكلُّ ما لدينا من الأدلة تنهض لإثبات عكس هذا الزعم. فلنفكر هنيهة في ظاهرة أشرنا إليها في فصل سابق، ولكنها تلحُّ علينا إلحاحاً في هذا المقام، وأقصد بها خلّو أذهان المعاصرين خلواً تاماً من الإهتمام بقبر يسوع أو التفكير فيه خلال الأسابيع والسنوات التي تلَت الصلب.

ومن يقرأ تاريخ تلك الفترة من الزمن، لا يسعه إلاّ أن يتأثر في الأعماق بهذه الفكرة، وأعني بها نسيان الناس، الأصدقاء والأعداء سواء، لقبر يسوع وعدم تفكيرهم فيه بتاتاً. فإن أحداً لم يذهب في السنوات اللاحقة إلى بستان يوسف الرامي ويقف هناك أمام القبر المنحوت في الصخر ويقول: «هنا المكان الذي دُفن فيه السيد». ولم تقم السلطات المعادية بأي سعي لتثبت للناس أن بقايا جسد هذا المعلم العظيم راقدة في القبر حيث وُضعت قبل أيام أو أسابيع أو أشهر. والأغرب من هذا وذاك أنه لم يقل أحد ممن لهم بعض الإلمام ببواطن الأمور، «دُفن هناك لا هنا!!». وبدل هذه الظواهر الطبيعية التي كنا ننتظرها على أثر هذه الحادثة الغريبة، نرى جموداً وعدم اكتراث من هذه الناحية لا مثيل لهما، ومنذ الساعة التي عاد فيها النسوة من البستان، اختفى قبر يسوع من القصة اختفاء تاماً.

والحق أنها ظاهرة غريبة فريدة من نوعها. وعلى أي وجه قلّبناها تبدو لنا حقيقة هائلة رائعة لا سبيل لنقضها. فإن عدد الذين عرفوا يسوع معرفة وثيقة في حياته من أهل أورشليم كان قليلاً جداً، ربما لا يزيد على الثلاثين. وهؤلاء الأقلُّون انتثروا وسط جمع هائل من الحجيج من الأقاليم الأخرى والبلدان النائية يبلغ عدُّهم مئات الألوف. والذي يتبادر إلى الذهن أن ينبري من وسط هذا الحشد الهائل نفر ممن سمعوا التلاميذ ينادون بقيامة يسوع، ويتولّون البحث عن القبر للوقوف على جليّة الأمر، وعندئذٍ كان يثور الجدل العنيف ويحتدم النزاع بين الفريقين.

على أن لا أثر البتة لمثل هذا الجدل، ويُخيَّل إلينا أن الإِجماع كان معقوداً على خلّو القبر. وكلُّ ما بقي لنا في القصة من تعليل سقيم مغيظ أن التلاميذ نقلوا الجسد سراً، وهي كذبة عالجناها في فصل سابق. ومرة أخرى أقول إن هذه حقيقة هائلة رائعة، تدلُّ على أن حدثاً معيناً وقع يومئذ، جعل خلّو القبر أمراً مسلماً به مفروغاً منه، فوق متناول كل نزاع أو جدال.

* * *

على أن إختفاء القبر وراء الستار، ليس الشيء الوحيد الذي يبهر الأبصار. فهناك الحقيقة الغريبة الأخرى المقابلة لها، أَلا وهي أنك لن تقدر على إنكار خلّو القبر دون خلق موقف غريب من الناحية العقلية المنطقية:

صّوِرْ لنفسك الحالة في أورشليم بعد إنقضاء أسابيع على الحادث من وجهة النظر السلبية المتطرفة - عاد صحابة يسوع إلى العاصمة بعد فترة قضوها في الجليل، ربما كانت ثلاثة أسابيع أو ستة أو سبعة. ولا يهمنا كثيراً مدى هذه الفترة، لأنه على أي حال كانت قد خمدت العواطف الثائرة التي أَهاجها الصَّلب. وفي هذه الغيبة جاز أفراد هذه الجماعة اختباراً قلب حياتهم رأساً على عقب وبدّل وجهات نظرهم تبديلاً كاملاً. واقتنعوا يقيناً بعد أن جالوا بتفكيرهم في حوادث السنتين السابقتين، ولا سيما في بعض أقوال يسوع الغامضة التي لم يفهموا معناها في وقتها، أن يسوع قد قام من الأموات، وارتفع إلى «يمين عرش اللّه». وازداد هذا اليقين شدة وثباتاً على أثر إختبارات جازها أكثر من واحد من تلك الجماعة ممن وثقوا أن يسوع المقام قد ظهر لهم وعلامات الصَّلب بادية في جسده. ونقلوا هذه الإختبارات إلى غيرهم من إخوانهم الذين كانوا على استعداد لقبول هذا الإيمان. وما انقضى زمن طويل حتى تأهبت الجماعة كلها من رجال ونساء للرحيل إلى أورشليم لإِذاعة هذا الحق الذي ملأ نفوسهم، منادين أن يسوع هذا هو المسيا المنتظر حقاً.

(وقد حاولتُ فيما أسلفتُ أن أبسط القضية في شيء كثير من الإعتدال والإنصاف. فإن أحسَّ القارئ أنه يعوزها قوة الإِقناع في تعبيرها ووضعها، فليضعها في القالب الذي يشاء).

ولعلَّه ليس ثمة خطأ أعظم من أن نفترض أن هذا التعليل الذي عزونا إليه إهتداء التلاميذ، تعليلاً أيضاً لقومة المسيحية قومة فجائية ونهضتها تلك النهضة الغريبة. فالمحكّ الصحيح لهذه الإختبارات سنراه بعد قليل...

علينا الآن أن نصّور هذه الفئة المقتنعة ولكن المخدوعة (على زعم هذه النظرية) في المدينة عينها التي يقع فيها القبر الذي لا يمكن أن يُنقل، حيث ظلَّ الناس أسابيع يقومون بأعمالهم اليومية واثقين أن القبر لم يتعرض له إنسان، ومسلّمين بأن الإِجراء الرسمي الذي قامت به السلطات في قتل يسوع إنما يمثل في نهاية الأمر مشيئة اللّه وقصده. وعلينا أن نفكر الآن في أولئك التلاميذ كقوم يتأهبون لاستمالة هذه الجموع الغفيرة إلى عقيدتهم وإيمانهم.

ولا يفوتنا أن هذا الجهد الجبار في الدعوى للإِيمان الجديد لا بد أن يتخذ قبل كل شيء شكل نداء، لا لإِثارة العواطف، بل للتأثير على العقل. فقد كان اليهود على قسط كبير من الذكاء وسرعة البديهة، وحسبنا أن نقرأ خطبة إستفانوس، وكلام بولس من فوق منصَّة درجات الهيكل، وغيرهما من الخطب التي بقيت لنا في سفر الأعمال، لنحكم كيف حاول الزعماء المسيحيون الأُول التأثير في عقول سامعيهم واستهواء ألبابهم. وسنرى فيما بعد أن تصريح التلاميذ أثار معركة جَدلية حماسية تقارعت فيها الحجج العقلية بضعة شهور في كل مجمع من مجامع اليهود قامت فيه ضجة حول هذه الدعاية.

ولو تصورنا هذا الجهد مبذولاً في كفر ناحوم أو طبرية، أو أية مدينة أخرى بعيدة عن مشاهد المحاكمة والصلب، لقدّرْنا له شيئاً من التوفيق. فإن شرذمة من الناس المتحمسين بقوة الإقتناع، وفي بيئة لا تتوافر فيها أسباب تمحيص دعايتهم والحصول على المعلومات الدقيقة فيما هم بسبيله من الأقوال، قد تُفلح في استمالة كثيرين من المهتدين إلى جانبهم.

ولكن التاريخ يثبت في جلاء أن المعركة الجدلية ثارت في أورشليم حيث لا مجال لأسباب الخداع والتغرير، وحيث يستطيع من شاء أن يذهب إلى القبر فيما بين ساعة العشاء وساعة النوم، وحيث يتيسر دائماً الإستعانة بالسلطات الرسمية المعادية وأقوال الشهود الحاسمة. في هذه البيئة الجامدة الرجعية، لا أقلَّ من ثلاثة آلاف شخص اهتدوا إلى هذا الإِيمان الجديد في يوم واحد على قول المؤرخ لوقا، ثم لم يلبث أن قفز هذا الرقم بعد قليل إلى خمسة آلاف.

تُرى ما العامل الجوهري في تدهور الطائفة اليهودية تدهوراً بلغ من الخطورة في بضع سنوات حدّاً حمل شاول الطرسوسي على أن ينظم حملة هائلة لكبح جماح العوامل التي نخرت في جسم الهيئة اليهودية؟ وما سرّ القوة التي أقنعت واحداً بعد آخر بأن المسيحيين كانوا في حقهم مجاهدين، وأن كهنة اليهود كانوا في باطلهم معتدين. وترى هل كان يفلح مجهود يبذله التلاميذ لو كانت شهادة القبر سلبية يعضدها إنكار الكهنة وتكذيبهم، وريبة الجماهير وذبذبتهم؟

على أن للمسألة وجهاً آخر لا يجوز إغفاله: كيف ساغ للتلاميذ أنفسهم الإِيمان بهذا الحادث الغريب المدهش؟

إلى هنا كنا نفترض في تحليلنا أن كل شيء جائز من ناحية التلاميذ أنفسهم. ولكن الباحث المنصف الذي يتخذ العقل البشري ميداناً لبحثه، يجد نفسه أمام مشكلة تفوق أي مشكلة أخرى في تعقيدها وبُعدها عن المنطق والمعقول. وذلك لأننا نعرف عن أولئك الأحد عشر أكثر مما نعرف عن أي فئة أخرى في التاريخ القديم. فإن أخلاقهم وخصالهم قد سُجِّلت في الروايات بحروف بارزة، ويسوع نفسه حين اختارهم لم يغفل ما فيهم من خواص عقلية وروحية.

ونحن قد أبينا في الشطر الأول من بحثنا قبول الزعم القائل إن التلاميذ سرقوا جسد يسوع، وعزونا هذا إلى ما نعهده في التلاميذ من سجايا أدبية تترفَّع عن هذا، ومن تفكير عقلي يعفُّ عن إصطناع الخيالات والأوهام. وهنا أيضاً تتصدى لنا هذه الصعوبات، وإنما في وضع أشد، حين نفكّر أنهم قد خضعوا جميعاً وبدون إستثناء لتأثير الوهم والخداع والتضليل. وما نظنه من الميسور أن نجمع في هَلوسة جامعة قوية بين بطرس الصياد المخشوشن وأخيه إندراوس، وتوما المتشكك المرتاب، ومتى العشّار الجامد الحسّ المرتب الذهن، وفيلبس البطيء في الفهم، الحارّ في الولاء. وما نظن أنه من الميسور الجمع بين هؤلاء جميعاً في حالة واحدة من الهذيان واختلاط العقل. والجهد الذي أزمعوا القيام به لا يُقدر له نجاح إلاَّ بإجماع في الرأي وثبات راسخ في العقيدة. والأهوال والإضطهادات التي تعرَّض لها هذا النفر فيما بعد وصمدوا لها، لا تدل مطلقاً على عقيدة فاترة أو إتفاق سري يشوبه شيء من الشك أو التواطؤ، فالموقف يتطلب عقيدة شديدة الصلابة قوية المراس، تشقُّ طريقها في إفهام الناس وعقولهم بالحجة المقنعة والدليل الدافع.

والظاهرة الغريبة في هذه الرسالة التي حملها التلاميذ، أنها لم تُعلَن فقط لكل فرد من أفراد صحابة يسوع الذين عرفنا شيئاً من أمرهم، بل قد حملوها أيضاً إلى أورشليم كوثيقة صِدْق لا كذب فيها، وأذاعوها متحمسين في أوساط اليهودية المتعلّمة النابهة، وتحدَّوا بها أصحاب منطق العصر، وأشد أساليب المقاومة المنظَّمة. وكانوا في هذا الجهاد من المفلحين. وما انقضت عشرون سنة حتى كانت هذه الرسالة التي حملها الفلاحون الجليليون قد طغت على المجتمع اليهودي فمزقته، وطبعت أثرها العميق في كل مدينة من مدائن شرق البحر الأبيض المتوسط من قيصرية إلى ترواس. وفي أقل من خمسين عاماً رفعت هذه الرسالة رأسها لتهدد سلام الإمبراطورية الرومانية.

وبعد أن نقول كلَّ ما يُقال عن مبلغ إستعداد صنف من الناس للإِيمان بما يريدون أن يؤمنوا به، وعن سرعة إنقيادهم إلى عواطفهم وأحاسيسهم، وعن إندفاعهم في إذاعة حقيقة كانت في أصلها بدعة وهلوسة، بعد أن نقول ما يتسع له القول في هذا المضمار، تصدمنا الحقيقة الهائلة التي يفوق سرّها كل الأسرار: لماذا أفلحت رسالتهم وكان لها ذلك الشأن الرفيع في مصير العالم؟

ولقد تكاثر عدد الداخلين إلى الكنيسة المسيحية بإضطراد، لا من حجاج أورشليم الذين وفدوا إليها في المواسم والأعياد، بل من سكانها الأصليين المقيمين فيها. ولزام علينا أن نعلل الظاهرتين الغريبتين في هذه الرسالة وهما حماس أنصارها ودُعاتها وإنكماش أعدائها ومقاوميها، كما نعلل أيضاً تدفُّق ذلك السبيل الجارف من الداخلين إلى أحضان هذا الدين الجديد. وحين نذكر أن ذوي المقامات الرفيعة في أورشليم ناضلوا لخنق هذه الحرمة في مهدها ولكنهم عجزوا، وأن شتى العقبات والحيل استُنبطت لإسكات الرسل فما بلغت مراماً، إلى حين نذكر كل هذا، ندرك أن وراء كل هذه الحيل والأحابيل حقيقة صامدة ساكنة لا تزعزعها الحوادث، ونتبيَّن السبب الذي حمل قيافا وحنان وغيرهما من زعماء الصدوقيين - الذين أهاجهم هذا التعليم الجديد وعفّر كرامتهم في التراب - على السكوت والصبر في خلال السنوات الأربع التي امتدت فيها المسيحية في أورشليم وتكاثر أنصارها ومريدوها. رأوا هذا بعيونهم وسمعوه بآذانهم، فما وجدو سبيلاً للإفلات من هذا المأزق.

وإن كان جسد يسوع باقياً في القبر حيث أودعه يوسف الراميّ، فلماذا لم يقولوا هذا؟ وهم لو أعلنوا الحقيقة مجردة على لسان أحد رجال السلطات اليهودية وفي أبهاء الهيكل، لكان عملهم هذا بمثابة صبّ ماء بارد على النار المشتعلة التي أذكتها البدعة المسيحية، وكان كافياً لتثبيت موقفهم، وحفظ كرامتهم، وصدّ تيار الداخلين إلى هذا الدين الجديد.

على أنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا، لأنهم عجزوا عنه، وأنت تنقّب في بقايا تلك المعركة الجدلية التي انتهت إلينا بعض آثارها، فما تجد أحداً من الرجال المسئولين تجرأ أن يقول إن جسد يسوع باق في القبر. وكل ما قيل لنا هو الأسباب التي تعلّل خلّو القبر. ولكن فكرة خلو القبر تتخلل كل الوثائق القديمة التي انتهت إلينا.

فهل من الميسور التهرب من هذا الدليل الجامع الدامغ؟ لا أظن هذا مستطاعاً. ويخيل إليّ أن تسلسل الحوادث وتعاقبها المنطقي قوي إلى أقصى حدود القوة. فحين نذكر تطور موقف التلاميذ من الذعر والخوف إلى الشجاعة واليقين، وفترة الأسابيع السبعة، وتهافت يهود أورشليم على الدخول إلى هذا الدين الجديد، وتراجع السلطات عن المقاومة، ونمّو الكنيسة نمّواً مضطرداً في السلطان وفي القوة، حتى هبّت العاصفة الجائحة التي أثار غبارها شاول الطرسوسي - حين نذكر كل هذا ندرك أننا أمام ظاهرة غريبة ملموسة أقوى من مجرد انعكاس نفسي كان الدليل الحاسم والشاهد الصادق الأمين الذي قضى على كل قول هراء، وسدّ المنافذ أمام كل محاولة. ولو صحّ هذا الزعم الفاسد لكان من سخرية الأقدار حقاً أن يبدأ تلاميذ يسوع حملتهم الموفّقة من مكان يبعد دقائق معدودات عن القبر الذي ثوت فيه بقايا زعيمهم وسيدهم، وينادون أنه قام من الأموات. ولو كان يسوع باقياً في القبر على الرغم من هذه المناداة، أفما كان ميسوراً القضاء على هذه الكذبة في مهدها بأقوال من شهود عيان؟

وهكذا نرى أنفسنا بعد أن تفرغت أفكارنا، نعود إلى حيث بدأنا، ونرى الدليل على صدق قصة النسوة حاسماً دامغاً في انسجامه وفي قوته. وهو من طراز الأدلّة التي يستأثرنا هدؤها وعدم تطفلها، واتجاهها إلى ناحية معينة لا زَيْغَ فيها.

وسنرى الآن أن الإتجاه لا يتغير عندما نبحث الموقف التاريخي من نواح أخرى ونستعرض أقوال شهود عيان آخرين، ممن لهم سلطة القول الحق، وممن لديهم الخبر اليقين الذي لا يُنقَض.

الفصل العاشر: دليل يقدّمه كبير الصيادين

ثلاثة من بين تلاميذ المسيح كانت أدلتهم حاسمة فاصلة. أولهم بطرس الصياد الذي قاد الهجوم على أورشليم، والذي ظلَّ سنوات زعيماً للحركة لا يُبارى. وثانيهم يعقوب العادل أخو المتهم الذي ارتضى لأسباب غير معلومة أن يقرن مصيره بمصير المسيحيين، بعد أن ظلَّ في عزلته طويلاً قبل حادثة القبض، وختم حياته أخيراً بدمه في سبيل القضية التي انتصر لها. وثالثهم شاول الطرسوسي الذي ناضل وجالد، تسانده السلطة وتعضده في سبيل القضاء على هذه الحركة الجديدة، فما لبث حتى وقع في شَرَكِها وكان لها بين أنصارها مقداماً وزعيماً.

هؤلاء الثلاثة وقعوا تحت سحر المؤثرات الخفية التي أعقبت الصلب، وكلهم ختم جهاده بدمه، وقضى في سبيل الدين الجديد على النحو القاسي الفظيع الذي اتّسم به ذلك العصر - يعقوب في أورشليم ذاتها، وبطرس وشاول في روما. وإذا عرفنا ما آمن وعلَّم به أولئك الشهود البارزون في العصر الأول للمسيحية، استطعنا أن نجلو الكثير من النقط المبهمة في هذه القضية. فلنبدأ ببطرس أولاً:

حين يُرفع الستار، ويُكشف عن صحابة يسوع في أورشليم، نشهد في مقام الزعامة والسلطان الرجل الذي ما كنَّا ننتظر أن نراه على تلك الحال لأسباب وعوامل نفسية. فهو ليس يوحنا التلميذ المحبوب الودود الذي كان موضع ثقة يسوع وحبّه، ولا متى الغيور. إنما هو رجل كان في الأصل صياداً يُدعى سمعان، أُطلق عليه فيما بعد بطرس.

ومن محاسن الصدف أننا نعرف من سيرة هذا الصياد الخشن الأولى أكثر مما نعرف عن أي فرد آخر من الصحابة. وكثير من الحوادث التي رُويت عنه من النوع الذي لا يرويه ولا يصطنعه المداهنون المتملّقون. ولكنها حوادث رُويت عنه، على ما فيها من إحراج له، لوجه الحق الخالص والصدق في الرواية.

خذ مثلاً اللوم العنيف الذي قيل إن يسوع خاطب به بطرس وهم يطوفون في أنحاء قيصرية فيلبي: «إذهب عني يا شيطان... لأنك لا تهتم بما للّه». وما أحسب هذا القول عن نوع الذكرى الكريمة التي تشرف إنساناً، لا سيما في وثيقة شبه رسمية، تُقرأ أحداً بعد آخر في عدد كبير من كنائس المسيحية. وليس هناك إلاّ تعليل واحد منطقي مفهوم لإثبات هذه الواقعة في السفر المقدس، ألا وهو الحرص على تدوين حقيقة تاريخية بين الإختبارات الغريبة التي جازها التلاميذ في خدمتهم.

أو خذ مثلاً القصة الأخرى التي تبّزها في الغرابة، والتي ذاعت مدى أجيال التاريخ - وأعني بها إنكار بطرس ليسوع في الفناء الخارجي لدار رئيس الكهنة ليلة المحاكمة. وما أشك أن هذه القصة من بقايا الذكريات التاريخية التي حفلت بها تلك الأيام البعيدة. تُرى ما التعليل الذي نستند إليه في إثبات هذه القصة المشينة في وثيقة مسيحية تحمل إسم شخص كان لبطرس صديقاً وترجماناً، إلاَّ تحرّي الصدق في القول والإخلاص في تدوين الحقائق، عارية دون صنعة أو تزويق. وإذا كنا بحاجة إلى التدليل على مبلغ ما وصلت إليه الكنيسة من الأمانة والصدق في إثبات الوقائع، فها هوذا الدليل المقنع في أرقى أوضاعه وأسماها. وإذا سلّمنا بصحة هذه الوقائع على أنها صورة من حياة بطرس، لا بد أن نسلّم أيضاً بوقائع الإنجيل التي تصّور الرجل بالصدق والحق في مواقفه الأخرى. وإن رواية الإنجيل ترسمه لنا شخصاً محبوباً ودوداً، في ظاهره خشونة، وفي داخله يلتهب بالحماس والولاء، سريعاً في الغضب ولكنه سريع أيضاً في الإعتراف بالخطأ وإدراك الحق. ومن المزايا المحببة في هذا الطراز من الناس قابليتهم إلى التفاهم بالعقل والمنطق بعد أن تخمد ثورة العاطفة وتهدأ الأعصاب المندفعة.

فضلاً عن ذلك فقد كانت مهنته صيد الأسماك، فاتّسم بما يتّسم به قرويو الجليل من سذاجة ودعة. وأنت لا تجد في الإنجيل الكريم أثراً يدل على شيء من المكر أو الدهاء أو النبوغ العقلي. وأغلب الظن أن الإشكالات الجدلية المنطقية التي كان يثيرها يسوع أحياناً لصدّ هجمات الفريسيين كانت أقل وضوحاً عند بطرس مما كانت عند الآخرين من الصحابة. ويُخيَّل إليَّ أنه تولَّى زعامة أصحابه وصار كليمهم فيما بعد، بسبب تقدُّمه في السن عليهم جميعاً، وبالأكثر بسبب ما له من قَدْر كريم صاف. فقد كان صريحاً إلى منتهى حدود الصراحة، غيوراً إلى أبعد حدود الغيرة، لا يعرف الرياء ولا المداهنة ولا المصانعة. فكان هو الرجل الذي اصطفته الصحابة لإذاعة النبأ الصارخ في أورشليم بأن يسوع قام من القبر. وقد أذاع النبأ بعد أسابيع قلائل من الصلب، وبأسلوب من الكلام حاسم قوي يستوقف أنظار الباحثين.

ومما رواه لوقا في وثيقته التاريخية، لا نجد غموضاً البتة في فحوى النداء الذي أذاعه بطرس. فقد كان أسلوبه، يوم وقف يلقي تصريحه التاريخي في حشد كبير يوم الخمسين، صافياً رائقاً لا تصنُّع فيه ولا تكلف. وتمتاز عبارات خطابه وأسلوب كلامه بذلك الطابع الذي اختصّت به الأساليب الكلامية المسيحية الأولى، قبل أن يجلس المؤرخ ويتوخى تخيُّر الألفاظ والعبارات فيما يريد أن يسجّله. والألفاظ الأصلية التي جرت على لسانه خليقة بالبحث والدرس:

«أيها الرجال اليهود، والساكنون في أورشليم أجمعون: ليكن هذا معلوماً عندكم وأصغوا إلى كلامي، لأن هؤلاء ليسوا سكارى كما أنتم تظنون، لأنها الساعة الثالثة من النهار... أيها الرجال الإسرائليون اسمعوا هذه الأقوال: يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قِبَل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون. هذا أخذتموه مسلَّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق وبأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه. الذي أقامه الله ناقضاً أوجاع الموت، إذ لم يكن ممكناً أن يُمسَك منه.... فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهود لذلك».

وأسلوب الكلام في هذا الخطاب يدلُّ على أنه خطاب أصيل قديم في تاريخ المسيحية لبساطته وصراحته، ويُشيع في نفوس سامعيه الجّو الذي ننتظره بداهة في زمن لا يبعد عن حادثة الصلب بأكثر من ستة أو ثمانية أسابيع.

«يسوع هذا أقامه الله، ونحن جميعاً شهود لذلك»

عبارة صريحة مباشرة تشير إلى حادثة وقعت مؤخراً، لا حادثة في التاريخ الماضي البعيد. فضلاً عن ذلك فقد تكررت ثلاث مرات بأسلوب وألفاظ تكاد تكون متماثلة في الأسفار الأولى من سفر الأعمال.

من ثمَّ نرى شهادة سفر الأعمال، التي كُتبت بعد الحادثة بسنوات ليست كثيرة، صريحة في أن الصياد بطرس الذي كان يومئذٍ بطل هذه الحركة، قد أعلن في الناس قيامة يسوع من الموت بالمعنى الجسماني الكامل. وقد ناصره في هذا الإعلان الجماعة كلها التي كانت له ظهيراً.

على أن هذه الوثيقة القديمة تحمل في تضاعيفها دليلاً قوياً مقنعاً غير ما نطق به بطرس، وهو دليل مستمد مما لم يقله حسب رواية لوقا.

ولعله ماثل في أذهاننا أن نظرية الدكتور «ليك»، التي عالجناها في فصل سابق، تفترض أن النسوة اللائي مضين إلى القبر في فجر يوم الأحد لم يذِعْنَ ما كشفْنَهُ مباشرة، لأن التلاميذ في زعمه إما اختفوا في مخابئ عن أعين الناس وإما فرّوا هرباً إلى الجليل. ومما قيل حول هذه النظرية إن النسوة مكثنَ في أورشليم بينما كان بقية التلاميذ يعانون اختبارهم الغريب في الجليل، وإن قصة النسوة لم تُذع إلا بعد بضعة أسابيع حينما عاد التلاميذ جماعة إلى أورشليم.

وأخال الكل مجمعين على أنه حتى إذا سلَّمنا بأن النسوة كممنَ أفواههنَّ نظراً لغياب التلاميذ أو هربهم، فإن هذا الصمت لا بد ينقطع حالاً بعد لقاء الفريقين. وإنه ليصعب علينا أن نتصور بطرس والصحابة الآخرين يعودون إلى أورشليم واثقين أنهم رأوا يسوع بعد قيامته، دون أن يخرج النسوة عن صمتهن ويروينَ قصة مغامرتهن عند القبر. فالإختباران يكمّل أحدهما الآخر. بل أن شهادة النسوة، وقد زفَّت إليهم في هذه الحالة واقعة جديدة غير معروفة لهم، تؤيد الحقيقة التي اختبروها وهم في الجليل. وهي لا تقّوي فقط يقينهم، بل تمدّهم بالأساليب لإقناع الآخرين واستمالتهم إليهم. وكنا ننتظر طبعاً أن يشير بطرس في خطابه الذي ألقاه من فوق درجات السلّم إلى هذه الحقيقة الجديدة تأييداً لبيانه الذي أدهش به الناس. ولا ريب أنه كان يذيع إعلاناً يكاد يكون بعيد التصديق لقوم لا يأخذون الأشياء أخذاً هيناً، وكان راغباً كل الرغبة في أن يستميل الناس إلى عقيدته. ومن المرجح أن النسوة، حسب رواية لوقا، كنَّ واقفات مع الفئة القليلة التي التفَّت حول بطرس وهو يلقي خطابه، ومع ذلك فإننا لا نجد كلمة واحدة، لا عن النسوة ولا عن مغامرتهن في صباح يوم الأحد. وهذا الإغفال الغريب ملحوظ أيضاً في خطابين آخرين ألقاهما بعد ذلك ودّونهما كاتب سفر الأعمال بإسهاب.

وإنه لمن الميسور، في الظاهر على الأقل، أن نعلل هذه الحقيقة بقولنا إن بطرس لم يكن يعلم بزيارة النسوة إلى القبر. فإن صحَّ هذا، كان من المؤكد أن النسوة لم يزرن القبر إطلاقاً. وإذا كانت مريم زوجة كلوبا وسالومة ويونّا لم ينقلن إلى أصدقائهن والأقربين إليهن نبأ ذلك الحادث الغريب المدهش بمجرد وصول أقربائهن من الجليل، فذلك لأنه لا شيء لديهنَّ يستحق الإنباء، وتكون تلك القصة المثيرة من أولها إلى آخرها مصطنعة من مبتكرات العصور المتأخرة. على أننا نستطيع أن ننقِّب في سفر الأعمال تنقيباً دقيقاً، فلا نجد أثراً أو همساً لقصة النسوة عند القبر، ولا يثور حولها شيء من الجدل والحوار حتى في الرسائل الأولى المتقدمة. وبعد اللحظة التي ظهر فيها أولئك النسوة على صفحات التاريخ، اختفى ذكرهن اختفاء القبر الفارغ نفسه، وأُسدل عليهن ستار كثيف من النسيان، ولم يبق إلا الذكرى الخالدة لمغامرتهن الجريئة تحفل بها الوثائق التاريخية والمدونات المكتوبة التي ادّخرتها الكنيسة مدى الأجيال.

فكيف نعلل هذا الصمت الغريب، يمتد من يوم الإذاعة العلنية في يوم الخمسين إلى عصر كتابة الرسائل الأولى؟ لا نجد له إلا تعليلاً واحداً ينسجم مع المظاهر المختلفة في هذا الموقف الغريب، وهو أن قصة الإنجيل صادقة لا كذب فيها، وأن ذلك السرّ العظيم الذي ترتبت عليه أكبر النتائج لم يبق دفيناً في صدر ثلاثٍ أو أربعٍ من النساء طيلة سبعة أسابيع، بل أذعنَه خبرا مباحاً، وعلم به الدانون والأبعدون، بحيث لم تبق حاجة لتكراره في أقوال التلاميذ اللاحقة.

ومما لا شك فيه أن قصة ذهاب النسوة إلى القبر شاعت في أورشليم قبيل حلول الليل يوم أحد القيامة، لا في الأوساط والمقامات العالية فقط، بل في أرجاء المدينة كلها. ونقرأ في قصة الإنجيل عن اثنين كانا سائرين إلى قرية بعيدة في مساء اليوم نفسه - أي الأحد - يتطارحان الحديث فقالا: «بعض النساء منّا حيرننا إذ كنَّ باكراً عند القبر». وأكاد أجزم أن القصة غدت ملكاً مشاعاً تتناقلها الألسن بعد أربع وعشرين ساعة من زيارة النسوة للقبر. وهنا نشطت الأقاويل لتفنيدها، والتُّهم لتكذيبها، وبرزت في وسط هذا الشجار، التهمة الدنيئة التي ادّعى فيها مرّوجوها أن التلاميذ سرقوا الجسد.

وحين نسلّم بهذا، نفهم لماذا لم يرَ زعيم الصحابة حاجة إلى ذكر شهادة النسوة بعد سبعة أسابيع، يوم أذاع للناس حقيقة القيامة جهاراً وارتفع بها إلى مستوى رفيع، جاعلاً إياها قضية يثور حولها الجدل السياسي والقومي.

من ثمَّ يبدو لنا واضحاً الآن علّة هذا الصمت الغريب. فحقيقة قيامة الجسد التي يؤيدها النساء، لم تعد بحاجة إلى دليل يسندها أو حجة تعضدها، لأنها اشتهرت وذاع أمرها بين الناس. فإذا افترضنا مثلاً - لا قدَّر الله - أن قلعة القاهرة احترقت الليلة، فإن القول بأن الحارس المكلف كان أول من اكتشف شبوب النار، يثير اهتماماً كبيراً وترويه البلاغات الصادرة عن الحادث. ولكن ليس من المعقول أن يُدعى الحارس بعد شهرين من تاريخ الحادث ليثبت أن ذلك البناء التاريخي العظيم قد تهدّم وأكلته النيران.

ولو أن أحد المؤرخين في المستقبل وجد وهو يقلّب مجلدات جريدة «الأهرام» القاهرية بعد سنوات، أن أحد رجال التحقيق أثبت بعد مرور سبعة أسابيع على وقوع الحادث شهادة حارس القلعة كدليل على وقوع الكارثة، فإن هذا يولّد كثيراً من الشك في نفس المؤرخ، ويحمله على التردد في التسليم بصحة الحادث من الوجهة التاريخية.

فسواء أخذنا بالأقوال المدّوَنة في سفر الأعمال، أو بما أغفل بطرس من أقوال في خطابه المأثور، نجد في شهادة الصياد بطرس على خلو القبر من الجسد، دليلاً لا قِبل لنا على دحضه. وبقي علينا مع ذلك أن نسأل شاهداً آخر مستقلاً في الرأي، فإن وراء هذه الأقوال كلها شهادة دامغة خطيرة يزجيها البشير مرقس.

وأنا على اتفاق تام مع الدكتور «ليك» في كل ما قاله في الفصل المنسَّق تنسيقاً بديعاً عن صدق شهادة البشير مرقس، وما امتازت به وقائع مرسلة على طبيعتها لا صنعة فيها. ويحسب الباحثون أن هذه الوثيقة لا مثيل لها في التاريخ، فهي كصخرة ثابتة في وسط الغمر العجاج، تتكسر عليها الأمواج قبل أن تبلغ الخط الذي يطّلع فيه الباحثون على المؤلفات المسيحية الممتازة. وهي تلقي ظلالها على كل هذه المؤلفات الساحلية جميعها، بل أنها تقسم المياه نفسها التي تتدافع نحو هذه المؤلفات.

ولقد أجمعت تقاليد الكنيسة منذ فجر المسيحية على أن ثمة علاقة وثيقة بين تعليم بطرس وبين الوثيقة القديمة، ولا ينازع في هذا إلاَّ الأقلُّون. وأنك لتتبين فيها صراحة بطرس وقولته المباشرة التي لا التواء فيها، ينقصها ذلك الصقل الناعم الذي تخلعه البراعة المثقفة اللبقة على كتب الأدب الراقية. فما هي إلا أقوال شاهد عيان مقتضبة في عباراتها، وسجل لذكريات وأقوال لا يتصل بعضها ببعض.

ولقد قال يسوع نفسه مرة: «فتّشوا الكتب لأنها تشهد لي». وهكذا يحقّ لذلك الصياد الأشعث أن يقوم من لحده ويقول: «فتشوا بشارة مرقس، لأن فيها خلاصة تعليمي».

وإن كان هذا هو الواقع، فلا مجال للشك فيما قال بطرس وما علَّم به، لأن في قلب هذه الوثيقة التاريخية القديمة، عبارة أخاذة عجيبة، صافية صفاء الليلة المقمرة وقد اكتمل بدرها، ولكنها مختصرة باردة لا تنميق فيها ولا حذلقة:

«وَبَعْدَمَا مَضَى ٱلسَّبْتُ، ٱشْتَرَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَسَالُومَةُ، حَنُوطاً لِيَأْتِينَ وَيَدْهَنَّهُ. وَبَاكِراً جِدّاً فِي أَّوَلِ ٱلأُسْبُوعِ أَتَيْنَ إِلَى ٱلْقَبْرِ إِذْ طَلَعَتِ ٱلشَّمْسُ» (مرقس ١٦: ١، ٢).

الفصل الحادي عشر: دليل يقدّمه أخو المتهم

لست أجد في هذه القصة كلها، مع استثناء شيء واحد سأعود إليه فيما بعد، أمراً يترك في نفسي من الأثر العميق، ما يتركه الدور الذي قام به الشخص الذي أطلقت عليه الكنيسة الأولى لقب يعقوب «أخي الرب»

ولا تستند معرفتنا هذا الإنسان على مصادر الدين المسيحي وحسب، فإن يوسيفوس المؤرخ اليهودي، وهو كاتب ناقم على هذه الحركة أشدّ نقمة، يذكره كما يذكر بيلاطس وغيره من الشخصيات البارزة في العصر المسيحي الأول. كذلك يذكره «هجسبوس» أبو تاريخ الكنيسة، في بعض الشذرات التي احتفظ بها يوسابيوس.

ومن الملائم أن نتتبع هذه الذكرى بحسب تسلسلها الرجعي، فنبدأ بالعبارة المأثورة التي يصف فيها يوسيفوس موت الرسول يعقوب:

قال يوسيفوس: «... كان قد مات فستوس، وكان ألبينوس في طريقه ليتقلد منصب الولاية في اليهودية، فاستدعى حنان رئيس الكهنة أعضاء مجلس السنهدريم، وأحضر أمامهم أخا يسوع الذي كان يُدعى المسيح، واسمه يعقوب، وآخرين غيره. وبعد أن أقام ضدهم تهمة الإعتداء على الشريعة، أسلمهم ليُرجموا»

وكان هذا في سنة ٦٢ ب.م. أي في الزمن الذي كانت تتهيأ فيه الظروف وتتراكم الحوادث سراعاً للتعجيل بتلك الثورة اليهودية المريعة التي حملت تيطس الروماني على محاصرة أورشليم بجيوشه، ذلك الحصار الأسود الذي لم يرْوِ التاريخ مثيلاً له في شناعته وقسوته. والعبارة المأثورة عن يوسيفوس، على إيجازها، تذكر لنا شيئين: الأول أن يعقوب كان معروفاً «بأخي يسوع»والثاني أنه ختم حياته بالإستشهاد في سبيل القضية الكبرى.

وإذ نعود إلى الوراء في سيرة حياة ذلك الإنسان، نلتقي به مرة ثانية حوالي سنة ٥٧ ب.م. وكان الرسول بولس يزور أورشليم للمرة الأخيرة. وكان قد أبحر مع لوقا وآخرين غيره من ترواس إلى قيصرية، حيث انضم إليهم مناسون من قبرس، ورحلوا معاً إلى العاصمة أورشليم. ويروي لوقا القصة بإسهاب في الفصل الحادي والعشرين من سفر الأعمال لأنه كان من شهود العيان، ويتكلم في سرد القصة بصيغة الجمع المتكلم. وفي بيانه التاريخي نجد هذه العبارة:

«وَلَمَّا وَصَلْنَا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبِلَنَا ٱلإِخْوَةُ بِفَرَحٍ. وَفِي ٱلْغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ ٱلْمَشَايِخِ. فَبَعْدَ مَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ طَفِقَ يُحَدِّثُهُمْ شَيْئاً فَشَيْئاً بِكُلِّ مَا فَعَلَهُ ٱللّٰهُ بَيْنَ ٱلأُمَمِ بِوَاسِطَةِ خِدْمَتِهِ»(أعمال ٢١: ١٧ - ١٩).

والعبارة «دخل... إلى يعقوب وحضر جميع المشايخ» تؤيد ما نعرفه من مصادر أخرى من أن يعقوب كان في تلك الفترة الزعيم المقدام للحركة المسيحية في أورشليم. وكان قد ارتفع شأنه حتى صار رئيساً للكنيسة «الأم» المقيمة في عاصمة اليهودية، فكانت له بطبيعة الحال سلطة واسعة ورأي مسموع، حتى أن بولس «دخل» إليه كممثل للمسيحية في مهدها ليحدّثه عن نتائج بعثته بين الأمم.

وهذا الإستنتاج تؤيده وتعضده تفصيلات جديدة، حين نعود إلى الوراء مرحلة أخرى، إلى سنة ٥٠ ب.م. وهنا تبدو لنا صورة يعقوب في مظهر أجلى. وكان ذلك عند انعقاد مؤتمر أورشليم الشهير، الذي أُستدعي وقتها ليقرر خطة العمل ورسم السياسة التي ينبغي على الحركة الفتيّة أن تنتهجها. وكانت الحملة بين الأمم التي قام بها بولس وغيره مبعوثين من إدارتها العامة في أنطاكية سوريا - قد أخذت تخطو وسيع الخطى في جدّ وحماسة. ولكن الطقوس اليهودية التي فرضتها الشريعة الموسوية، لا سيما طقس الختان، كانت عائقاً خطيراً أمام كثيرين من المتنصرين الغرباء عن اليهودية.

ولإزالة هذا العائق، أُرسل وفد على رأسه بولس وبرنابا من جماعة أنطاكية إلى أورشليم. وقد أُستقبل استقبالاً كريماً حاراً. وبعد أن تكلم بطرس معضداً وجهة نظر الوافدين، نسمع يعقوب رئيس المؤتمر يلقي كلمة الرئاسة الفاصلة بهذه الألفاظ.

«أَيُّهَا ٱلرِّجَالُ ٱلإِخْوَةُ، ٱسْمَعُونِي. سِمْعَانُ قَدْ أَخْبَرَ كَيْفَ ٱفْتَقَدَ ٱللّٰهُ أَّوَلاً ٱلأُمَمَ لِيَأْخُذَ مِنْهُمْ شَعْباً عَلَى ٱسْمِهِ. وَهٰذَا تُوافِقُهُ أَقْوَالُ ٱلأَنْبِيَاءِ،.... لِذٰلِكَ أَنَا أَرَى أَنْ لا يُثَقَّلَ عَلَى ٱلرَّاجِعِينَ إِلَى ٱللّٰهِ مِنَ ٱلأُمَمِ، بَلْ يُرْسَلْ إِلَيْهِمْ أَنْ يَمْتَنِعُوا عَنْ نَجَاسَاتِ ٱلأَصْنَامِ، وَٱلّزِنَا، وَٱلْمَخْنُوقِ، وَٱلدَّمِ. لأَنَّ مُوسَى مُنْذُ أَجْيَالٍ قَدِيمَةٍ لَهُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ مَنْ يَكْرِزُ بِهِ، إِذْ يُقْرَأُ فِي ٱلْمَجَامِعِ كُلَّ سَبْتٍ». حِينَئِذٍ رَأَى ٱلرُّسُلُ وَٱلْمَشَايِخُ مَعَ كُلِّ ٱلْكَنِيسَةِ أَنْ يَخْتَارُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ، فَيُرْسِلُوهُمَا إِلَى أَنْطَاكِيَةَ مَعَ بُولُسَ وَبَرْنَابَا» (أعمال ١٥: ١٣-١٥، ١٩ - ٢٢).

ولا بدّ لنا الآن أن نرجع إلى الوراء مرحلة أخرى، إلى سنة ٤٤ ب.م. لنقرأ بياناً أخّاذاً آخر عن يعقوب، بمناسبة سَجْن بطرس للمرة الثانية. وكانت الجماعة الفتيَّة تعاني يومئذٍ فترة من الضيق والخطر، وكان بطرس متكلم الجماعة وزعيمها أشد أفرادها تعرُّضاً للمخاطر، فأودع السجن للمرة الثانية. ولكنه تمكن من الهرب بوسيلة معجزية خارقة للطبيعة، وانفكت قيود السجن في منتصف الليل، وخشية أن يعرّض نفسه أو أصدقاءه للخطر إذا افتضح أمره، اتجه صوب دار يوحنا مرقس متخفياً تحت جنح الدجى.

وحينما طرق بطرس على الباب ارتاع سكان الدار، ولم يجسروا على إجابة النداء، حتى ميّزت الجارية الصغيرة المدعوة «رودا» صوت بطرس. وهذه قصة يألفها قراء سفر الأعمال، إنما الذي يعنينا فيها الآن الرسالة التي عهد بها بطرس إلى أصدقائه قبل أن يختفي في ظلام الليل إلى موضع آخر، قال:

«أَخْبِرُوا يَعْقُوبَ وَٱلإِخْوَةَ بِهٰذَا» (أعمال ١٢: ١٧).

وواضح أن يعقوب كان في غيبة بطرس مقدام الجماعة وزعيمها المختار.

وثمة عبارة أخرى قبل هذه كلها، وردت عن يعقوب في وثيقة مستقلة كتبها بولس من أنطاكية. وقد وقعت الحادثة التي تشير إليها العبارة حوالي سنة ٣٦ ب.م.

«ثُمَّ بَعْدَ ثَلاثِ سِنِينَ صَعِدْتُ إِلَى أُورُشَلِيمَ لأَتَعَرَّفَ بِبُطْرُسَ، فَمَكَثْتُ عِنْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً. وَلٰكِنَّنِي لَمْ أَرَ غَيْرَهُ مِنَ ٱلرُّسُلِ إِلاَّ يَعْقُوبَ أَخَا ٱلرَّبِّ» (غلاطية ١: ١٨ ، ١٩).

فكان يعقوب هذا شخصية بارزة في الجماعة المسيحية الأولى من تاريخ مبكّر، في سنة ٣٦ ب.م. يشاطر بطرس ويوحنا زعامة هذه الطائفة الجديدة.

فكيف انخرط ذلك الإنسان - الذي اشتهر ببروده بل بعدائه نحو أخيه في خلال حياته على الأرض، كما نستدلّ من الأسفار الأولى، والذي ساقته عواطفه وماضيه إلى الميْل نحو وُجهة نظر الكهنة - في سلك الفئة القليلة المختارة وصار من مشيريها وقادتها؟ وأنا أوجّه هذا السؤال، لا بقصد التغلّب على مُناظرٍ، بل لأن الحقيقة في ذاتها تحمل على الدهش الكثير. والذي كنّا ننتظره أن نجد يعقوب في أية طائفة أخرى ما عدا طائفة الناصريين.

ونحن نفهم أن لوقا وكتّاب البشائر المتأخرين قد حاولوا، بعد أن رأوا أمانة يعقوب وإخلاصه، أن يخففوا ما استطاعوا من وطأة القصص الكثيرة الدائرة على الألسن عن العداء الذي أبداه إخوة يسوع في بادئ الأمر نحو أخيهم، وذلك لأن الصديق لا ينبش الماضي القديم، ولا يحاول إيذاء جروح قد اندملت. ولكن بشارة مرقس وهي أقدم بشائر الإنجيل لا تدع مجالاً للشك في وجود ذلك العداء، وقد أُثر عن المسيح نفسه أقوال أثارها الخلاف بينه وبين إخوته.

وشهادة مرقس في هذه المسألة واضحة وصريحة. والظاهر أن يوسف النجار كان قد مات حين خرج يسوع من عزلته وبدأ خدمته العامة جهرة. فإننا لا نسمع عنه شيئاً. ولكن الذين نراهم في حوادث السِّيرة هم أمه وإخوته. ولو كان ثمة شعاع من دليل على وجود روابط العطف بين المسيح العبقري المجدِّد وبين أولئك الإخوة، أو حتى تلميح إلى روح عبادة البطولة التي تختلج في نفوس أفراد الأسرة عادة نحو أحدهم ممن تهيأ له الأقدار مواهب النبوغ والرفعة فوق مستوى مواطنيه - أقول لو كان شيء من هذا، لقدرنا أن نعلل بعض التعليل الحوادث التي توالت في السنين المتأخرة.

ليس لهذا من أثر في القصة التي نحن بسبيلها، بل إن ما لدينا من الأدلة يناقض هذا التمنّي. وفي الفصل الثالث من بشارة مرقس عبارتان، لا بد أن نأخذهما مأخذاً واحداً إذا أردنا فهم مغزاهما، لأنهما جزء من قصة واحدة.

  1. ... ثُمَّ أَتَوْا إِلَى بَيْتٍ. فَٱجْتَمَعَ أَيْضاً جَمْعٌ حَتَّى لَمْ يَقْدِرُوا وَلا عَلَى أَكْلِ خُبْزٍ. وَلَمَّا سَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ خَرَجُوا لِيُمْسِكُوهُ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «إِنَّهُ مُخْتَلٌّ» (مرقس ٣: ١٩-٢١).
  2. فَجَاءَتْ حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجاً وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ يَدْعُونَهُ. وَكَانَ ٱلْجَمْعُ جَالِساً حَوْلَهُ، فَقَالُوا لَهُ: «هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ خَارِجاً يَطْلُبُونَكَ». فَأَجَابَهُمْ: «مَنْ أُمِّي وَإِخْوَتِي؟» (مرقس ٣: ٣١ - ٣٣).

وظاهر من قراءة العبارة الأولى أن الغرض من مجيء أقربائه إلى البيت الذي كان فيه، أن يختطفوه ظانين أن بعقله خبالاً.

وهذا هو المعنى الذي يقصد إليه مرقس، ويؤيده استنكار يسوع لهذا الإستدعاء بقوله:

ثُمَّ نَظَرَ حَوْلَهُ إِلَى ٱلْجَالِسِينَ وَقَالَ: «هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي، لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي» (مرقس ٣: ٣٤ و٣٥).

وليست هذه المرة الوحيدة التي سُجّل فيها عدم اكتراث أفراد الأسرة بيسوع ووقوفهم حياله موقف الكراهية والنفور. فإن البشير مرقس يدّون بعد ذلك في الفصل السادس حادثة تاريخية في سيرة يسوع. وكان قد اضطر يوماً في إحدى جولاته في الجليل أن يعود إلى الناصرة. فلما جاء يعلّم في مجمع القرية، سخر منه أهله وشنّعوا به:

«وَلَمَّا كَانَ ٱلسَّبْتُ ٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُ فِي ٱلْمَجْمَعِ. وَكَثِيرُونَ إِذْ سَمِعُوا بُهِتُوا قَائِلِينَ: «مِنْ أَيْنَ لِهٰذَا هٰذِهِ؟ وَمَا هٰذِهِ ٱلْحِكْمَةُ ٱلَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُّوَاتٌ مِثْلُ هٰذِهِ؟ أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلنَّجَّارَ ٱبْنَ مَرْيَمَ، وَأَخَا يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ هٰهُنَا عِنْدَنَا؟» فَكَانُوا يَعْثُرُونَ بِهِ» (مرقس ٦: ٢ و٣).

والجواب الذي نطق به يسوع قد جرى مجرى الأمثال في كل لغات العالم:

فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَيْسَ نَبِيٌّ بِلا كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ» (مرقس ٦: ٤). والكلمات تحمل على بعض التفكير. فهي لم ترد إلاَّ في بشارة مرقس. تُرى لماذا يذهب لوقا إلى أبعد من هذا فيحذف عبارة «وفي بيته» أيضاً؟ وللوقا عادة حجته في تهذيب عبارته وأسلوبه. ولكن أغلب الظن أن يعقوب الوقور المحترم كان على قيد الحياة عند كتابة البشائر المتأخرة، فلم يرَ الكاتبون من اللياقة أن يطعنوه في غير حاجة أو يعيبوا عليه جحوده الأول.

والآن ما الذي يلوح لك من هذا؟ وماذا أنت قائل في موت يسوع الذي جمع بين أفراد مختلفي المشارب والنزعات ليجوزوا معاً طريقاً وعراً ضيقاً يلاقون فيه الإضطهاد، والإذلال، بل الموت الشنيع القاسي؟ ولماذا يأتلف هؤلاء القوم، المتوّزعة ميولهم في غير تجانس، بعد وقوع المأساة العظمى، ويقتنعون اقتناعاً راسخاً أن يسوع قد قام من القبر؟

وإنه لمن الميسور أن نصطنع الأسباب التي تعلل وقوع رجل أو إمرأة في حالات فردية تحت تأثير هذا التضليل الغريب. ولكن الحالة التي نحن بصددها تختلف كل الإختلاف. فإن وراء اهتداء هؤلاء الكثيرين ممن تباينت عقولهم وتنازعت أفكارهم، شعوراً دفيناً جاثماً في قرارة النفوس - حقيقة صامتة قوية لا سبيل إلى منازلتها أو الشك فيها.

وقد أدليتُ بشهادة هذا الرجل يعقوب، لا لأنه يحتل مكانة ممتازة في القصة، ولا لأن شهادته ضرورية في القضية، بل لأنه لم يُذكَر عنه شيء في الرواية كلها، ولم يُعرف شيء عن موقفه. وكان بعيداً عن دائرة الرسل وأصدقائهم. ولو كان للخداع أو التضليل سبيل إلى نفسه، لما انخدع في أمر واحد من أفراد أسرته يعرفه حق المعرفة، ويعلم ما وضح منه وما خفي. فموقفه إذاً، موقف شاهد محايد بعيد عن التحزب والغرض، وقد كان من ذوي قرابة المسيح ومن اللاصقين به، فلو أن الكهنة استطاعوا استمالته واكتسابه إلى جانبهم، لكان فوزهم كبيراً، ولكنهم فشلوا في هذا وقتلوه في النهاية.

ويُقال إن المسيحيين نقشوا على قبره هذه الكلمات: «كان شاهداً أميناً صادقاً لليهود واليونان على أن يسوع هو المسيح». وبعد أن عرفنا من هو يعقوب هذا، نعتقد أن شهادته فريدة من نوعها. ولو لم تفقد شهادته الفريدة بعض قوتها أمام شهادة رجل آخر كان أشدّ منه عداءً للمسيح وصحابته، وهو شاول الطرسوسي، لقلنا إن شهادة يعقوب فذَّة منقطعة النظير.

الفصل الثاني عشر: دليل يقدمه الرجل الطرسوسي

في الوقت الذي كانت تتهيأ فيه المسيحية لمنازلة خصومها، وفَد إلى أورشليم شاب امتاز بالكفاية ودقة النظر، حتى لو حكمنا عليه بمقياس العصر الحديث، ولعلنا لا نقدر أن نتصور عاملاً تاريخياً كان له من حُسن التوفيق ما كان لقدوم ذلك الشاب في تلك الفترة المعينة.

أما إسمه فكان شاول. وهو عبراني تحدَّر من سلالة محافظة حريصة على مراعاة الطقوس والفروض الدينية، ولكن تفكيره اتسع بفضل احتكاكه بالعالم الروماني اليوناني واتصاله بثقافة ذلك العصر. فكان ملماً بعض الإلمام بكتابات أراتوس، وأبيميندس، وميناندر، كما يبدو من خطبه المتأخرة.

رحل الشاب من طرسوس في كيليكية حوالي سنة ٣٤ ب.م. والذي نعنى به الآن إنما تحليل موقفه في القضية التي نحن بسبيلها. فلقد بدأ حياته شخصية بارزة في المعسكر المعادي يجادل ويحاور في عنف وجفاء، فانقلب شخصية بارزة في المعسكر الآخر. حاول أن يقضي على الحركة بأساليب العنف والقوة، فأُخضع هو نفسه واندمج فيها.

فإلى قائمة المهتدين فرادى - أمثال بطرس ومتى وفيلبس، وسالومة ومريم ويونّا، ويعقوب، ومتياس وغيرهم - نضيف ذلك الشاهد المستقلّ الجديد. ولا أشك أن كل باحث منصف في القضية يرى الحقيقة الماثلة في هذا الإنسان خليقة بالبحث والإستقصاء، فإنه لا يمكن تجاهلها أو إغفالها. ولا بد أن نعرف لماذا كان ذلك الشاب المتحمس إلى جانب رؤساء الكهنة أولاً، وما الذي حمله على أن ينقلب إلى الجانب الآخر.

وأرى أن نبحث أولاً الموقف الذي ساد أورشليم في الوقت الذي ظهر فيه شاول على المسرح وبعده بقليل.

* * *

نتبين من القصة أنه في الوقت الذي ظهر فيه شاول على المسرح كبطل الرواية، كان الجدل والحوار على أشدهما في المجتمعات العامة. وكانت الحركة قد نمت وامتدت من نواة صغيرة إلى جماعة كبيرة من الأتباع والأنصار، حتى اقتضى الحال تعيين سبعة من الشمامسة للإشراف على شؤونها. وكانت الدعاية - أي المحاجّة والتعليم الخاص والعام - الوسيلة الوحيدة التي تكاثرت بها تلك الطائفة.

ولم تكن ثمة حاجة لإثبات حقيقة صريحة كهذه، لولا أن الدكتور «ليك» أنكرها في عبارات أُثرت عنه قال فيها:

«نستدلُّ من بشارتي متى وبطرس أن قصة القبر الفارغ لم توضع على بساط البحث إلاَّ مؤخراً، في الجدل الذي ثار بين اليهود والمسيحيين. وواضح من الوجهة النفسية أن هذا الجدل لم يحتدم في الفترة الأولى من العصر المسيحي، لأن اليهود لم ينصرفوا إلى الحوار في أول الأمر ولكنهم أخذوا الأمر بالقوة والإضطهاد. ولم يتسع المجال للنقاش والحوار إلاّ بعد أن اشتدَّ ساعد المسيحيين»(صفحة ١٩٥ من كتابه).

وإذا أخذنا بهذه الأقوال حرفياً، كان معناها أن اليهود لم يجادلوا المسيحيين قط قبل سنة ٣٥ ب.م. التي وقع فيها الإضطهاد الكبير، وأن الحركة قد امتدت بأداة غامضة دون جدل أو حوار حتى تفاقم خطرها فاتجهت إليها أنظار السلطات، وقامت في وجهها الصدمات.

وهذا قول هراء باطل، وهو يناقض وقائع الحال بحيث لا يسعني الإعتقاد أن هذا هو الذي قصد إليه الدكتور «ليك». وأظن الذي يعنيه أن الرؤساء ذوي الجاه والكرامة والمناصب لم يتنّزَلوا إلى مجادلة المسيحيين ومناقشتهم.

وهم في هذا الموقف يقْفُون آثار التقاليد التي درَجَ عليها خلفاؤهم، ويكررون الأساليب الفنية التي استخدموها ضد يسوع، فإنه في الصراع ضد يسوع، لم يظهر على المسرح زعماء الصدوقيين وهم سادة الموقف، ولكنهم عهدوا بذلك إلى مرؤوسيهم من الكتبة والفريسيين لمناقشته ونصب الأحابيل الكلامية للإيقاع به، ولم يُزح حنان وصهره قيافا وزعماء طائفة الصدوقيين الأثرياء القناع عن وجوههم ويظهروا أمام الناس «على المكشوف» إلاّ بعد أن وقع العدو الأكبر بين أيديهم وتمكنوا منه فعلاً.

وهكذا كان الحال أيضاً في تاريخ هذه الحركة فيما بعد. فبين الفينة والفينة نرى رئيس الكهنة وزملاءه يظهرون شخصياتهم الرسمية كما حدث في القبض على بطرس ويوحنا وتوجيه الأسئلة إليهما. ولكنهم في أكثر المواقف يتوارون وراء غيرهم ويعملون من وراء الستار. ولعلَّ هذه هي السياسة المحنكة الحكيمة التي يجري عليها رجال الحكم والأشخاص الرسميون، ليتجنبوا الوقوع في أيدي خصومهم بالإبتعاد عن صغائر الأشياء حتى يضطرهم ضغط الحوادث إلى التدخل فعلاً.

وإن صحَّ القول إن الممثلين الرسميين للسلطات اليهودية لم يجادلوا المسيحيين، فإنه لا يصحُّ فيما يتعلق باليهود أنفسهم. فإن المتنصرين في السنوات الخمس الأولى كانوا كلهم من اليهود تقريباً. وأنت لا تتصور حركة مثل هذه يُقبل الداخلون إليها بمعدَّل ثمانية عشر شخصاً إلى عشرين كل أسبوع لمدة خمس سنوات، دون أن يحتدم الجدال ويشتدُّ الحوار في المنتديات الخاصة والعامة. وهنا معقل الدليل في هذه القصة:

فإنه حين يجلس الباحث الناقد في هدوء، ويزن الحقائق والوقائع ويفكر كيف تكاثر أتباع هذا الدين الجديد حتى بلغ عددهم في أربع أو خمس سنوات حداً يحمل الخصوم على إثارة اضطهاد ضدهم - أقول حين يُفعل هذا لا بد يصطدم بحقيقة تحيّره وتذهله - ألا وهي أن كل هذه الحوادث جرت على مقربة من القبر الذي وضع فيه يوسف الرامي جسد يسوع. ومهما يكن من أمر ما حلَّ بيوسف هذا، فإنّ القبر باقٍ هناك لم يُنقل من موضعه. وإن صحَّ ما يذهب إليه الناقدون الجاحدون، كان الأمر مدعاة إلى كثير من السخرية والتهكم، وذلك لأن التلاميذ كانوا يجادلون ويكسبون الأنصار يومياً، وهم على مسافة ألفي متر من القبر الذي كان في وسع خصومهم أن يستمدوا منه الدليل الذي يُخسرهم ويفسد عليهم دعايتهم.

ولو أن التلاميذ سلكوا سبيلاً غير هذا الذي سلكوه، لما كان موقفهم مفهوماً. ولا يخفى أنه كان من الميسور أن يُقال عن المسيح أشياء كثيرة في تلك الأسابيع الحرجة التي عقبت الصلب دون إثارة موضوع القبر الفارغ. كان ميسوراً أن يُقال إنه كان إنساناً عظيماً من الصالحين، وإن موته العنيف في عنفوان قوته كارثة قومية بل عار وطني. كان ميسوراً أن يُشار إلى تعاليمه السامية في الموعظة على الجبل وفي أمثاله الكثيرة التي ترفعه إلى أعظم مكانة بلغها نبي من أنبياء إسرائيل. بل كان ميسوراً أن يقال إن التهم التي أُقيمت ضده كانت باطلة وإن موته كان جريمة من جرائم القتل العمد، وإثماً فظيعاً في نظر الله.

ونستطيع أن نتصور الجدل يحتدم حول هذه الأقوال في المجتمعات الخاصة أو شبه العامة في أورشليم على نمط الحوار اليهودي بما يلابسه من حرارة وطلاقة لسان، ثم يتفرّق المتحاورون ويذهبون إلى دُورِهم دون أن يفكّر أحد في ذلك الكهف الصامت في بستان الراميّ. أما الذي لا نقدر أن نتصوره مهما امتدّ بنا الخيال، فهو أن تُعقد هذه الحلقات في قلب مدينة أورشليم للإحتفاء بقيامة يسوع والمناداة بها دون أن تتجه أفكار كل السامعين إلى حادثة القبر الخطيرة.

وما من شك أن حالة القبر كانت القول الحاسم الفاصل في موضوع النقاش، فإما أنه كان يضم في جنباته بقايا الجسد وإما لا. فإن كان القبر خالياً خاوياً، لا بد أن شاول وقف على هذه الحقيقة وعرفها بلا مراء من أول الامر في جدله وحواره مع المسيحيين، ولا بد أنه شرع بالإضطهاد الكبير عمداً على الرغم من وضوح هذه الحقيقة.

وكان من حق رجال السلطات أن يغضُّوا الطرف عن دعوى التلاميذ، ولكن حقيقة اختفاء جسد متهم سياسي خطير الشأن لا يمكن أن يخفى عليهم. وإن كان رجال السلطة قد وقفوا على جلية الأمر، فلا شك أن شاول عرف أيضاً.

أعتقد تماماً أن شاول وقف على حقيقة الأمر فيما يتعلق بدعوى اختطاف جسد يسوع، لا من رجال السلطة فقط، بل من جدله وحواره مع المسيحيين في المجامع اليهودية. ولو أننا فرضنا أن جسد يسوع كان ثاوياً في قبره في بستان الراميّ طيلة المدة التي كان شاول فيها يناضل المسيحيين ويكافح دعايتهم، تارة بالجدل الحامي وأخرى بالعنف القاسي، لكان معنى هذا أن الجسد ظلَّ باقياً أيضاً في مثواه بعد هذا التاريخ بثلاث سنوات حينما عاد شاول إلى أورشليم إنساناً مهتدياً، وكان معناه أن شاول هذا آمن واهتدى وهو واقف على أمر هذه الأكذوبة المفتراة. وحسبنا أن نتصوره يقضي أسبوعين كاملين يتحدث مع بطرس ويعقوب في أورشليم عن عقيدة تدور حول جسد مقام في حين أنه ثاوٍ في قبره!! وحسبنا أن نتصورهم يرسمون الخطط ويضعون البرامج لنشر الدعاية عن قيامة المسيح وهم يعلمون أن بقايا جسد زعيمهم وسيدهم رميمة في القبر!!

أكان هذا هو الموقف التاريخي؟ لا أظن. فإنه لا ينسجم مع وقائع الحال ومنطق الحوادث. فكر معي في حقيقة لها خطورتها على صغر شأنها، وهي كيف أننا لا نجد في سفر الأعمال، ولا رسائل الرسل، ولا في الوثائق التاريخية الأولى، أي أثر نستدل منه على أن إنساناً ما ذهب ليقدم فرائض الإخلاص والولاء إلى المزار الذي ثوى فيه جسد يسوع. ألم يكن بين الصحابة إمرأة تثير الذكريات شيئاً من الشجن في نفسها، فتسوقها إلى ذلك المزار المقدس لسكب دمعة من دموعها؟ ألم يكن بين الرسل الأوفياء الأمناء أمثال بطرس ويوحنا وإندراوس من تضطرم في نفسه لواعج الذكرى، فينساق إلى زيارة ذلك المقْدِس الذي ضمَّ رفات أعّز الناس لديهم؟ ألم يكن الأجدر بشاول حين تهتاج في نفسه ذكريات كبريائه الأولى واعتداده بذاته أن يذهب وحيداً ولو مرة واحدة إلى القبر، ليبلّل ثراه بدموع التوبة والندم جزاء ما اقترفت يداه ضد هذا الإسم الكريم الذي يعتّزُ به الآن؟ حقاً لو أن هؤلاء القوم عرفوا أن سيدهم دفين في قبره، لكان أمرهم من أغرب ما شهد التاريخ من أباطيل!

ثم فكّر معي ثانياً في مسألة الوثائق التاريخية: فلو كانت المسيحية بدأت مثلاً بمجرد فكرة خلود يسوع، ثم تطورت في تاريخ بطيء حتى غدت، كما هو شأن الأساطير، عقيدة في قيامته بالجسد، لكانت أقدم الوثائق التاريخية وأقربها إلى الدور البدائي، أقلها أثراً وأضألها فعلاً. فبشارتا متى ومرقس، وهما أقدم بشائر الإنجيل بإجماع الآراء، وأوجزها في التعبير، تصفان قصة القبر الفارغ بعبارات خالية من التزويق أو التصنُّع، لا خروج فيهما عن الموضوع ذاته.

ثم فكّر أيضاً أن بين اثنين على الأقل من كُتّاب البشائر وبين بولس الرسول علاقة تاريخية وثيقة، فالرجل الذي كتب الفصل الرابع والعشرين من بشارة لوقا قضى أسابيع طوالاً بصحبة الرسول الكبير، وكان له أكثر من زميل، كان صديقاً وفياً. وفي أخريات أيامه أشاد الرسول بذكر وفائه وإخلاصه فقال: «لوقا وحده معي».

والرجل الذي كتب الآيات الثماني من الفصل السادس عشر من بشارة مرقس كان، على قول جمهرة الأئمة والعلماء، يوحنا مرقس نفسه، وهو شاب ثار بينه وبين الرسول شِجار، ولكنه عاش حتى اكتسب فيما بعد عطف الرسول وتقديره. فهل اعتنق ذانك الرجلان سراً عقيدة تناقض عقيدة الزعيم الوقور الذي اتّبعاه وأُعجبا به أيّما إعجاب؟

وحين نقرأ رسائل بولس نفسه قراءة منصفة، نرانا أمام أقوال صريحة تزيح كل شك في عقيدة بولس حول القيامة.

فانظر مثلاً إلى عبارته - التي تكاد تكون اعتراضية محصورة بين قولين - والتي أدمجها في استهلاله رسالة غلاطية:

«بولس رسول، لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح واللّه الآب الذي أقامه من الأموات»

أو إلى هذه العبارة في رسالة أخرى قبلها، وهي الرسالة الأولى إلى تسالونيكي: «... رجعتم إلى اللّه من الأوثان لتعبدوا اللّه الحي الحقيقي وتنظروا ابنه من السماء الذي أقامه من الأموات، يسوع الذي ينقذنا من الغضب الآتي»

أو إلى هذه العبارة التي وردت في مقدمته الشهيرة لقائمة شهود العيان في الفصل الخامس عشر من رسالته إلى كورنثوس الأولى:

«فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَّوَلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ...» (١ كورنثوس ١٥: ٣ و٤).

أو إلى القولة الرائعة المأثورة عنه في هذا الفصل عينه:

«إِنْ كَانَ ٱلْمَسِيحُ يُكْرَزُ بِهِ أَنَّهُ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، فَكَيْفَ يَقُولُ قَوْمٌ بَيْنَكُمْ إِنْ لَيْسَ قِيَامَةُ أَمْوَاتٍ؟» (١ كورنثوس ١٥: ١٢).

وأنه ليتعذر علينا قراءة هذه الآيات، في سياق الحديث الذي جاءت فيه أو منفردة، دون أن نشعر أن فكر الكاتب بعيد كل البعد عن مجرد الخلود أو القيامة الروحية. على أن في هذا الفصل عينه عبارة نيّرة تضع الأمور في مستقرّها وتقضي على كل تقّوُل أو مماحكة:

وقد كان بولس - شأن عدد كبير من زملائه المسيحيين في ذلك العصر - يؤمن أن يسوع الناصري سيعود قريباً مكللاً بالمجد إلى الأرض، وقد توقَّع هذا المجيء في حياته على الأرض. وكان الإيمان بمجيء المسيح السريع فكرة اختلجت في نفوس عدد غفير من المسيحيين في خلال الخمسين سنة الأولى من العصر المسيحي، وبولس كان واحداً من أولئك.

وقد اقترن بتلك العقيدة سؤال عملي خطير. ذلك أن بعض المؤمنين كان قد مات، وبقي البعض الآخر أحياءً. فكيف يكون الموقف عند مجيء المسيح ثانية؟ ويجيب عن هذا السؤال إجابة صريحة بقوله:

«هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لا نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلٰكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ ٱلْبُوقِ ٱلأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَّوَقُ، فَيُقَامُ ٱلأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ» (١ كورنثوس ١٥: ٥١ ، ٥٢).

ومحال أن نقبل العبارة على ظاهرها الذي قصد إليه الرسول، دون أن نفطن أن وراءها فكرة صافية من تحّول الجسد الطبيعي إلى جسد روحي ممجّد. وكان واضحاً حقاً، كما عرف بولس، أن«لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت اللّه». ولم يكن بدٌّ من حدوث تغيير في الأحياء والأموات على السواء لإعدادهم للحياة الفضلى في الملأ الأعلى. ففيما يتعلق بالأموات ذهب بولس إلى أن هذا التغيير أو التحول سيحدث في ساعة القيامة. ولكن ما من شك أنه آمن أن الجسد الأصلي هو الذي سيطرأ عليه هذا التحّول: «يُزرع في ضعف ويُقام في قوة. يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً. يوجد جسم حيواني. ويوجد جسم روحاني». وفي موضع آخر يزيد هذا التعبير إفصاحاً وإرهافاً حين يكتب إلى أهل رومية فيقول إن اللّه «سيُحيي أجسادكم المائتة».

فكلُّ ما نعرف عن بولس الرسول يؤيد تأييداً تاماً اعتقاده الراسخ الوطيد في أن قبر المسيح كان خالياً في فجر يوم أحد القيامة. ولسنا نرى في كل أقواله تلميحاً ولا تصريحاً يُفهم منه أن الجسد كان باقياً في القبر.

على أنني لست أجد بين الكُتّاب الحديثين من حاول أن يفسّر العلاقة الهامة بين ظاهرة القبر التاريخية وبين اهتداء الرسول بولس.

وليس يقدر أن ينكر أحد أن اهتداءً عقلياً كاملاً كالذي أشرقت أنواره على ذلك الرسول الكبير، لن يمكن أن يكون أساسه فقط إقتناعه المجرد بعدالة قضية التلاميذ، ولا بد أن يكون باعث قوي أقنعه بصدق القصة كلها. ومن العجب أن تُكتب المجلدات الضخام عن العوامل النفسية في اهتداء الرسول كأنها من الموضوعات التي يمكن معالجتها بمعزل عن فكر بولس إزاء مشكلة القبر، مع أن هذه المشكلة من الأصول الجوهرية في البحث كله. ولم يكن مستطاعاً لشاول أن يبلغ حدّ التطرف الذي بلغه من النفور العنيف والكراهة الشديدة للعقيدة المسيحية دون أن يكّوِن لنفسه فكرة مستقلة. وكان مثار الجدل دائراً بين معسكرين متعاديين متعارضين، فالمسيحيون قالوا إن الجسد أُقيم من الأموات، بينما قال أحبار اليهود إنه سُرق من القبر.

وينبغي ألاّ نغفل أن شاول دخل الكفاح شريكاً للكهنة ضالعاً معهم، فهو لا شك قد عرف ما عرفوا، وشاطرهم وجهة نظرهم إلى حدّ بعيد.

ولو حاول القارئ أن يضع نفسه في مكان شاول، لوجد أنه من الصعب جداً على عقل منطقي سليم أن يعارض المسيحيين دون أن تكون له وجهة نظر منحوسة شريرة فيما يتعلق بالقبر الفارغ. وما كان في وسعه أن يجتنب الفكرة بأن التلاميذ أنفسهم، وإن كانوا لم يختلقوا الدعوى ويدّبروها، هم على الأقل متواطئون مع الذين سرقوا الجسد وأخفوه. وبهذا ينتقل الأمر من نطاق الجدل المباح إلى نطاق التزوير والخديعة المتعمدة، ويصير أمراً محتوماً أن يُستأصل دعاة الفكرة المزّورة في غير شفقة ولا رحمة بقوة القانون وسلطان الدولة.

بهذا بدأ الإضطهاد الكبير الذي كان إستفانوس الشهيد الأول باكورة ضحاياه. وما نشك أن الهدوء والثبات ورباطة الجأش التي استقبل بها إستفانوس موته، طبعت آثارها على عقل بولس كما فعلت في الآخرين. ولكن لم تؤدِ هذه إلى التخفيف من وطأة الإضطهاد والقسوة، بل أمعن المضطهدون في قسوتهم وراحوا ينقضّون كالصواعق على أوكار المسيحيين، ويزجّون الرجال والنساء في سجون الدولة انتظاراً للمحاكمة الصورية التي كانت تنتهي في أكثر الأحيان بالموت. وفرَّ آخرون إلى القرى النائية، فتعقّبهم مطاردوهم وهم ينفثون فيهم سموم الكراهة والحقد. وغدا من أخطر الأشياء على أي إنسان أن يصرح بانتمائه أو مناصرته قضية الناصري.

وبينما كانت الأشياء تسير هذا المسير، انتهت إلى شاول أنباء، من زعماء مجمع اليهود المحافظين في دمشق، تنبئه أن الأحوال في هذه المدينة العظيمة لا تسير سيراً حسناً، فالكُفر قد تأصّل فيها واستعصى أمره، واشتدّ ساعد المارقين عن دين إسرائيل بالمهاجرين الذين انضموا إليهم. وشاول لم يطق أن يبقى جامداً، ما دام بين هؤلاء المتآمرين من لم يلحقه صارم العقاب والتعذيب. فسعى إلى الحصول على رسائل من السلطات اليهودية في أورشليم تخّول له سلطان التنفيذ لدى المجامع التابعة للرئاسة الدينية في أورشليم. وبعد أن جمع إليه نفرا قليلا من معاونيه، غادر المدينة في رحلة من أهم الرحلات وأبقاها أثراً في حياته.

وبعد ستة أيام، وقد شارف الركْبُ المعفّر بالتراب مدينة دمشق، حدث أمر جلل - كان له أعمق الآثار وأبعد النتائج في تاريخ العالم. والأسباب متوافرة على أن الذين صحبوا شاول رأوا نوراً بّز في لمعانه ووهجه شمس الظهيرة، وأنهم حين رفعوا شاول من على الأرض كان شبه أعمى لا يبصر شيئاً. وقيل أنهم اقتادوه من يده المسافة القصيرة التي بلغوا بها المدينة؟ وإنها لخاتمة غريبة مرّوعة لتلك المغامرة الجريئة! ولكن لا سبيل إلى الشك في صدق الرواية من الناحية التاريخية. وما نظن أن لوقا كاتب سفر الأعمال استقى البيانات المفصلة التي سجلها عن هذا الحادث من أحد غير الرسول بولس نفسه.

فكيف نعلل هذا الحادث الغريب وما ترتب عليه من نتائج خطيرة الشأن؟ ولماذا يُنزع في لحظة خاطفة، ذلك الإنسان الأصيل في محتده الديني، السليم في منطقه العقلي، المتحمّس في غيرته وتفكيره، من وسط العقائد التي اعتّز به وامتزجت بلحمه ودمه، ويُحمل كأنه على جناح الريح إلى المعسكر الآخر بين ألدّ أعدائه وأبغض الناس إليه؟

ولسنا نُعني هنا بآثار اهتدائه وإن تكن لهذه خطورتها وقدرها. ولكن كيف يَقْوَى هذا الإنقلاب الخطير، في أفكار الرجل وعقائده، على أن يصمد ثلاث سنوات قضاها معتكفاً في الصحراء العربية، وتسع سنوات أُخر قضاها ينتظر الدعوة في طرسوس، بل كيف يقوى على معاناة صنوف الإضطهاد والعناء التي قاساها في رحلاته المضنية؟ لماذا ينتقل عقل جبار من أقطاب الفكر الذين عرفهم التاريخ، في لحظة خاطفة، من عقيدة إلى أخرى، كلتاهما على طرفي نقيض؟

لسنا ندري، وربما لن نعرف كلَّ ما اختبر شاول في طريق دمشق. فهناك طرق كثيرة تستعلن بها الحقيقة غير المنظورة وتنساب إلى قرارة نفس الإنسان. على أنني واثق من شيء واحد ومقتنع به اقتناعاً تاماً، وهو أن الحقائق التي قلبت حياة شاول هي عينها التي قّومت حياة بطرس ومتياس ويعقوب - ولكن الغريب في الأمر أنها جاءته من طريق عكسي.

فالتلاميذ بدأوا بفكرة مضطربة عن حقيقة القبر الفارغ، ووقع النبأ الذي تلقوه في بكور ذلك اليوم المأثور موقع الغرابة والدهشة من نفوسهم. أما شاول فكان موقفه غير ذلك. فلقد أقبل إلى إدراك هذه الحقيقة من اتجاه مضادّ. كان مشبَّعاً بوجهة نظر رؤساء الكهنة، فنظر إلى التلاميذ وسيّدهم نظرته إلى مضللين مخادعين، مجدفين على اللّه، ومنادين بكفر شرير أثيم. فأصرَّ على استئصالهم عن بكرة أبيهم. وبدأ رحلته إلى دمشق بهذه النية المبيّتة، ولكنه بلغها إنساناً تائباً نادماً، مهدّم الأعصاب موجع القلب. ولم يستطع شيء مما رأى أو سمع أو اختبر، بعد رؤيا طريق دمشق، أن يؤثر أقل تأثير في حالته العقلية التي استقرَّ عليها. استعاد بصره الذي فقده إلى حين، ولكنه لم يستعد ذلك الشك الذي حمله على الغلّو والإفراط، وتلك الكراهة التي نضحت من نفسه إمعاناً في القسوة. انطلق إلى الصحراء العربية شهوراً طوالاً في عزلة ليفكّر في الأمر، ثم عاد كما هو الرجل الذي اهتدى وتجدد. نادى في دمشق بالدين الجديد الذي اعتنقه، ولكن اسمه أدخل الفزع والرعب في قلوب أعدائه السابقين، ولما صار مُقامه هناك خَطِراً عليه أدلته بعض الأيدي الكريمة في سلَّة أثناء الليل من فوق أسوار المدينة. ثم تذرَّع بالشجاعة والإقدام وانطلق إلى أورشليم ليلقَى هناك الهزء والتحقير والمذلة والهوان، وقضى خمسة عشر يوماً مع بطرس الذي عرف من أمر شاول كل ما يستطيع إنسان بشري أن يعرف. ومرة أخرى حملوه على الهرب من المدينة اجتناباً للإضطراب والفوضى، وعاد إلى موطنه طرسوس.

ثم تنقضي تسع سنوات، وحين تذكر الكنيسة الفتيّة الناهضة في أنطاكية الغيرة التي عهدتها في شاول، وترسل برنابا لإستدعائه، يرونه هناك في وطنه الرجل الممكّن في عقيدته، الثابت على الحق الذي عرفه. ونحن إذ نقرأ الرسائل التي كتبها في منتصف حياته وأواخرها، لا نجد فيها أثراً للهزال العقلي. بل بالعكس نستشفُّ من بين ثناياها نضوج عقل كبير رزين ومنطقاً سليماً شديد الإتزان.

ولم أشأ هنا إلاَّ إثبات الوقائع الجوهرية بلهجة هادئة، لأن الحقائق في ذاتها رزينة هادئة. فأنت لا تستطيع أن تعلّل هذا الولاء الصادق في حياة طويلة كهذه بطارئ من الطوارئ العاصفة، أو اختبار من الإختبارات الهستيرية الزائلة. وإن اقتضانا وصف كيفية إيمان بولس بالمسيح، اللجوء إلى المحسّنات اللفظية وعبارات البديع والبيان، فإننا نكون جدّ مخطئين.

وقد يكون الإختبار الفعلي الذي جازه في طريق دمشق منسجماً بطريق ما مع مزاجه الخاص ونزعته الخاصة. وقد يكون - كما قال الدكتور «ليك» نفسه - إن شخصاً غير منظور وقف فعلاً على قارعة الطريق، وإن شاول رأى شيئاً أشبه بما تحسُّه الحيوانات أحياناً بقوة الإحساس دون أن تراه بالعين الطبيعية. وقد يكون سمع صوتاً. ألم نسمع قط أسماءنا ينطق بها في إيضاح وتمييز في حين لا يوجد إنسان منظور لنا؟ فليس ثمة غرابة أن يسمع الزملاء شاول يتكلم دون أن يروا أحداً.

على أن الحقيقة التي يوردها المؤرخ لوقا في سفر الأعمال تقول إن المسافرين مع بولس سقطوا جميعهم على الأرض بتأثير ما رأوه، ثم قاموا ووقفوا صامتين ينتظرون ما عساه سيحدث بعد ذلك. وسمعوا ما قيل لبولس ولو أنهم لم يفهموا كلمات المتكلم. لقد رأى بولس النور، وسمع صوت المسيح وكلماته، بينما المسافرون معه رأوا النور ولم يروا المسيح، وسمعوا الصوت دون أن يميّزوا الكلمات (أعمال الرسل ٩: ٢٢، ٢٦).

وفي هذه الآراء كلها نحن لا نذهب إلى أبعد ما يستوعبه علمنا الحاضر. على أن الناحية العقلية في هذه الظاهرة الغريبة حق صراح. فإنه حين اقتنع بولس أنه رأى المسيح المقام، لاحت في عقله لأول مرة بقوة دافعة فكرة القبر الفارغ، وكأنما الحجر الكبير قد تدحرج داخل نفسه فحطّم خطوط دفاعه تحطيماً. وعرف أنه إذا لم يكن التلاميذ مخادعين مضللين، فهم على حق في ما ادّعوه، وأدرك أنه يستحيل على إمرئ معاناة استشهاد عنيف، كالذي عاناه إستفانوس بروح البسالة والروعة، لمجرد اعتناق فكرة كاذبة مبنيّة على أكذوبة مختلقة كسرقة جسد ميت، ثم الإدعاء أنه قام من الأموات. وأخذ شاول من تلك الساعة يفهم علّة ثبات بطرس، وصدق يقين الآخرين الذين نهَجوا نَهْجَه، ممن امتزج اقتناعهم بعاصفة من الفرح والتهليل.

والأمر الغريب حقاً هو الظاهرة البارزة في هذه القصة العجيبة - وهي أنه بمجرد الإقتناع بها، يتأثر العقل تأثراً رائعاً عميقاً. فخلّو القبر حقيقة تاريخية، ثابتة لا تتغير، كلما تعاقبت الأجيال زادت ثباتاً ورسوخاً. فهي لم تتزعزع قط في حياة بولس، وهي اليوم باقية كالطود الراسخ شامخة بأنفها، لا يضيرها نقد ولا إفك.

الفصل الثالث عشر: دليل يقدمه الحجر الأَصمّ

لا أظن أحداً يقرأ أول بيان كتبه البشير مرقس في وصف القيامة إلاّ تملكه الدهش حِيال ما قيل عن ذلك الحجر الكبير الذي أُحكم به باب القبر.

ونحن نعرف مبلغ الصدمة التي يختبرها الإنسان حين يلقاه أمر فجائي لم يكن منتظراً، كآثار الأقدام في الرمال التي نقرأ عنها في قصة روبنصن كروزو مثلاً. وكل حادث فجائي مثل هذا يوقظ العقل ليبحث عن تعليل له. وهذا اختبار يلقاه، فيما أظن، كلُّ من يقرأ قصة البشير مرقس. وهنا نرى أنفسنا مسوقين، على غير انتظار، وبحكم منطق الحوادث، إلى فحص قصة أخرى يرويها بشير آخر وهي قصة الحرّاس.

وإني لأذكر كيف أثارت هذه القصة دهشاً في نفسي لأول مرة، وذلك لأني كنت قد ألِفْتُ أن أحسب قصة الحراس حادثاً ثانوياً لا أعلّق عليه شيئاً من الأهمية. ومما قاله الناقدون إنه لم يُسمع قط أن ينعس الجنود، وخاصة الجنود الرومان، وهم يقومون بواجب الحراسة. ولو أنهم اعترفوا بذلك لما صدّقهم أحد. ويقولون أيضاً إن الأسباب الداعية إلى إقامة الحراس على القبر لم تكن في حدّ ذاتها وجيهة أو محتملة التصديق كثيراً.

وفي أول أمري قبلت هذه الأقوال في غير تساؤل، وافترضتُ أن أحداً لم يخطر على باله أن يذهب إلى القبر فيما بين مغيب الشمس في يوم الجمعة وساعة الفجر التي ظهر فيها النسوة عند القبر، وزعمت مع الزاعمين أنه لا الرومان، ولا كهنة اليهود، عنوا بقبر المسيح بعد أن ثبت لدى الآخرين أن مراسم الدفن قبل مغيب الشمس قد رُوعيت مراعاة تامة.

ولشدَّ ما كان دهشي حين وجدت أن رواية مرقس (وهي أقدم ما بين أيدينا من الروايات عن القيامة) لا تسند هذا الرأي بتاتاً بل تثبت ما ينقضه. ورغبة في تسهيل الفهم على القارئ نثبت هنا النص الحرفي للرواية

«وبعد ما مضى السبت اشترت مريم المجدلية ومريم أم يعقوب وسالومة حنوطاً ليأتين ويدهنَّهُ. وباكراً جداً في أول الأسبوع أتين إلى القبر إذ طلعت الشمس، وكنَّ يقلن فيما بينهن: من يدحرج الحجر عن باب القبر؟ فتطلعن ورأين أن الحجر قد دُحرج، لأنه كان عظيماً جداً. ولما دخلن القبر رأين شاباً جالساً عن اليمين لابساً حلّة بيضاء، فاندهشن. فقال لهن: «لا تندهشن! أنتنّ تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام! ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذي وضعوه فيه. لكن إذهبن وقُلْنَ لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم». فخرجن سريعاً وهربن من القبر، لأن الرعدة والحيرة أخذتاهن ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنَّ خائفات» .

وهذه هي الرواية الأصلية التي خلدها لنا التاريخ، وهي أقدم الوثائق وأقواها حجة فيما حدث للنسوة. وهي أقرب النصوص التي تمثّل ما وقع فعلاً لأولئك النسوة كما روينه، وكما تناقلته الألسن في العصور الأولى.

وماذا عن الجّو الذي أحاط بالحادث؟ يتعذر علينا أن نقرأ قراءة بعيدة عن الغرض منزهة عن الغاية دون أن نتأثر بصراحتها في التعبير وخلوِها من الحواشي التي لا تمسُّ الموضوع، رواية صريحة، رائقة، صافية في صيغتها، لا صنعة فيها ولا تكلف، تصف القصة وصفاً واقعياً. وفضلاً عن ذلك - وهو أمر له خطورته ومعناه - تخلو بتاتاً من كل الحوادث التي تميل بالضرورة إلى التهويل والنعوت الخارقة للطبيعة والمألوف. فهي تصّور النسوة يتخذن طرقهن إلى القبر قبيل انبثاق الفجر، وتصف حيرتهن وجزعهن حيال الحجر الكبير، وكيف وجدن ذلك الحجر مدحرجاً، فدخلن ورأين شاباً جالساً بثياب بيض، ألقى إليهن رسالة، كان لها في نفوسهن المضطربة أعمق الأثر، فهرولن مسرعات وخرجن يجررنَ أذيال الخوف والروع.

مشهد روائي وغير عادي. ولكن القصة كلها غير عادية، من القبض الفجائي على يسوع، إلى صلبه، إلى دفنه في قبر رجل غنيّ. وحين نفكر في ساعة النهار المبكرة، وفي النور القاتم، وفي الإحساس الذي يساور الأحياء وهم في محلاّت الموت، وفي عدم تأهب النسوة أن يرينَ ما رأين - حين نفكر في كل هذا نحكم أن مسلكهن في ذلك الموقف يمثّل مشهداً من مشاهد الحياة الحقة الواقعية.

ولكن أنا مُعنى الآن - كما قلت - بالحجر فقط، ذلك الشاهد الصامت الذي لا يكذب. وحول هذا الحجر حقائق معينة تدعو إلى كثير من البحث والدرس.

ولنبدأ أولاً بحجمه وماهيته. والرواية التي سطرتها هنا لا تدع مجالاً للشك في أنه كان كبيراً وثقيلاً. وهذه حقيقة يؤيدها صراحة أو تلميحاً كل الكُتّاب الذين أشاروا إليه. فيقول مرقس: «كان عظيماً جداً» ويقول متّى: «حجراً كبيراً». ومن الأدلة الأخرى على كبر حجمه ما أبداه النسوة من الحيرة حين أقبلنَ إلى القبر وتشاورن فيمن يدحرجه لهنَّ. ولو لم يكن الحجر ضخماً وثقيلاً، لكان في مقدور النسوة الثلاث مجتمعات أن يدحرجنه. والذي نستنتجه من هذا كله أنه كان كبيراً بحيث لم يكن النسوة قادرات على دحرجته دون مساعدة خارجية. ولهذا كله أثره في أطوار القضية.

أما الحقيقة البارزة التي تُذكَر صراحة في كل الوثائق الباقية بين أيدينا، فهي أن النسوة وجدن الحجر مدحرجاً عند مجيئهن إلى القبر.

ولست أظن أن التضاعيف المادية المنطوية عليها هذه الواقعة قد فُحصت تماماً. فمعناها الصريح أن النسوة لم يكنّ أول من جئن إلى القبر، وإن واحداً ممن يعنيهم هذا القبر قد سبقهن إليه. وهذا هو الإستنتاج الذي يستخلصه كل من يؤمن أننا أمام واقعة تاريخية لا شك فيها.

وما لم نتمسك بالقول إن الحجر قد دحرجته قوة خارقة للطبيعة، أو أنه قد دُفع دفعاً من الداخل، أو أنه أزيح عَرضاً على أثر هزة أرضية (من نوع الهزات التي كانت تكثر في اليهودية)، ما لم نتمسك برأي من هذه الآراء يتحتم علينا أن نعرف من هو الشخص أو الأشخاص الذين أُتيحت لهم الفرصة وتوافرت لديهم البواعث لإزاحة الحجر من مكانه، وذلك لأن الثابت من وقائع الرواية أنه أُزيح قبل الفجر في صباح الأحد.

وهذا بحث هائل متشعب النواحي، يشمل فيما يشمله إعادة القول في بعض الأسئلة التي حاولنا الإجابة عنها، ولست أجد مهرباً من هذه الإعادة. وإن كانت زيارة النسوة إلى القبر واقعة تاريخية، فإن إزاحة الحجر واقعة تاريخية أيضاً. ولا مناص أن نقبلها عنصراً مادياً من عناصر بحثنا.

وعلينا الآن أن نبحث على التوالي النواحي الثلاث التي يُحتمل أن يصدر منها تدخُّل لدحرجة الحجر من على القبر. فهل يُحتمل أن يكون يوسف الرامي قد عاد - وهو صاحب الحق في هذا - إلى القبر فيما بين ختام السبت وبين الساعة التي أقبل فيها النسوة في صباح الأحد؟

وجوابنا عن هذا السؤال يشمل قبل كل شيء بيان الغرض الذي جاء من أجله. فإن قلنا إنه جاء سرّاً ومنفرداً (ليلقي مثلاً نظرة أخيرة على جسد الزعيم المائت) فإنه لا مناص من استنكار هذا الرأي ونبذه لسببين: الأول، لأننا نستبعد مجيئه لهذا الغرض في منتصف الليل، والثاني لأن الظروف لن تمكّنه من تحقيق الغرض الذي ابتغاه. وإذا كان ثلاث من النسوة قد أحسسن بعجزهن عن دحرجة الحجر بسبب كبر حجمه وثقله، فإنه لا بد من وجود رجلين على الأقل ليتمكنا من إزاحته. فلو كان يوسف قد جاء وحده، لما استطاع أن يصل إلى القبر مطلقاً.

يبقى علينا إذن أن نفترض أن يوسف جاء مع فريق من العمال. ولعلَّه اختار ساعات الظلمة ليخفي نفسه عن أنظار الجماهير، ولينقلَ الجسد إلى مثوى آخر يليق به. ولطالما شعرت أن هذا الزعم هو التعليل العقلي المحض الذي يعلّل هذه الظاهرة الغريبة في حالة تعذُّر الوصول إلى حلّ مقنع آخر. وذلك لأنه يشرح علّة خلو القبر عند مجيء النسوة، ويشرح أيضاً السبب في عدم تعيين المكان الذي نُقل إليه الجسد.

على أن هذا التعليل ينهار انهياراً في نقطة معينة. وذلك لأنه لا يبيّن لنا علّة صمت العمال الذين اشتركوا مع يوسف في نَبْش الجثة ليلاً وإعادة دفنها، حينما تجاوبت في أرجاء أورشليم بعد أسابيع قليلة صيحات المنادين أن يسوع هذا قد قام من الأموات ورآه تلاميذه بعيونهم. ولو كان أولئك العمال قد صرَّحوا بما يعلمون، لأجزلت لهم السلطات العطاء وخصَّتهم بأكبر جزاء.

وهناك أيضاً نقطة خطيرة ينهار عندها هذا الفرض ويتنافر مع الأدلة المادية. وذلك لأنه لا يلقي نوراً البتة على ما ادّعاه النسوة وسجّلته أقدم الوثائق التاريخية وأقربها إلى عهد وقوع الحوادث بأنهن وجدن شاباً يحتلُّ القبر.

وأنه ليبدو لي أن أولئك الناقدين الذين استمسكوا بالقول إن ليس في رواية مرقس ما يدعو بالضرورة إلى شيء خارق للطبيعة في إمكان التعرّف إلى هويّة ذلك «الشاب»، قد هيأوا لقضية الحق خدمة جليلة. فإنه إذا صحَّ الدليل على أن النسوة ذهبن إلى القبر ورأينه مفتوحاً، فهو صحيح أيضاً فيما يتعلق بقولهن إنهن رأين هناك شاباً وقد وجّه إليهن كلاماً عند رؤيتهن.

على أنه يبعد جداً أن نتصور يوسف الرامي ورجاله يتخذون هذا التحّوط، فيتركون وراءهم رجلاً يحتلُّ القبر بعد إخلائه. وما من شك أنهم محتاجون إلى الأيدي العاملة كلها لإتمام عملية النقل. وهم ليسوا بحاجة في مثل موقفهم إلى ترك رقيب وراءهم. وعلى فرض أنهم كانوا ثلاثة من العمال، فإن حمل الأنوار والأدوات ونَقْل التابوت فيما بينهم، كان يقتضي تعاونهم معاً بحيث لا يسعهم أن يتركوا وراءهم رقيباً لا تدعو إليه ضرورة. فضلاً عن هذا فإن الرسالة التي تلقتها النسوة ليست مما يقوله رقيب القوم في مثل تلك الظروف التي كانوا فيها. وبعد هذا نرى أنفسنا مضطرين إلى نبذ الزعم القائل إن يوسف الرامي هو الذي نقل الجسد، لأنه زعم لا ينسجم مع الأدلة المادية المتوافرة بين أيدينا.

والآن نجيء إلى الفريق الثاني في نطاق بحثنا - إلى صحابة يسوع وتلاميذه. قلت في فصل سابق من هذا الكتاب إن الإجماع البشري تقريباً يستبعد جداً أن تجسر تلك الفئة المنسحقة في موقفها الذليل على عمل من هذا النوع، أو أن تفكّر فيه. ولقد عرفنا من مسلك التلاميذ وأخلاقهم مما لا يدع مجالاً للظن أن يقدم التلاميذ، كأفراد أو كجماعة، إلى حبك هذه الخديعة. واهتداء بولس وحده يؤيد هذا الرأي. فلقد انتقل إلى معسكرهم بعد أن عرف أن التلاميذ أمناء صادقون في دعواهم، بل أنهم على حق وصواب.

وبعد أن تُسد أمامنا منافذ المزاعم، نجيء إلى الفريق الثالث ونفترض أن السلطات اليهودية هي التي فعلت هذا، وهنا يتسع أمامنا نطاق البحث، وذلك لأن ثمة أسباباً تحمل على الإعتقاد أن السلطات اليهودية قد اهتمت بأمر القبر في خلال الفترة التي نتحدث عنها.

ويرتاب بعض الناقدين الحديثين في أمر إقامة الحراس على القبر مستندين في هذا الإرتياب إلى أمرين:

  1. الأول أن قصة الحراس تبدو «دفاعية» لتبرير ما حدث، وربما كانت من مبتكرات العصور المتأخرة.
  2. والثاني أنها بعيدة الإحتمال في حدّ ذاتها، ولا تنسجم مع الحقائق الموثوق بها في هذا الموقف.

ونحن نسلِّم جدلاً أنه إذا كان المسيحيون قد أحسّوا في السنين المتأخرة بحاجتهم إلى دليل يسند دعواهم، فقصة كهذه تزيل كل شك وتثبّت إيمان الكنيسة الناشئة. ولكن هذا الموقف لا يتغير متى كانت القصة حقيقية تسند إلى دعامة من الحق متينة. والبحث كله يدور في الواقع حول أمرين: هل القصة بعيدة الإحتمال في حد ذاتها؟ ثم هل هي غير منسجمة مع الحقائق الأخرى المعروفة في هذا الشأن؟ وبعد البحث والإستقصاء أستطيع أن أجيب بالنفي القاطع على السؤالين.

فالمعروف لنا أن قصة إقامة الحراس مدّونة في ثلاثة مصادر في كتب التاريخ القديمة: مرة في الإنجيل الكريم، واثنتان في سفرين قديمين لا نحسبهما طبعاً في مرتبة الإنجيل من حيث قوة الحجة، أحدهما يُعرف بإنجيل «بطرس» والآخر بإنجيل «نيقوديموس».

والقصة تختلف في المصادر الثلاثة في بعض تفصيلاتها الدقيقة. ففي بشارة متى، وهي البشارة الوحيدة في الإنجيل التي روت قصة الحراس، ينقل الحراس النبأ إلى الكهنة، فينقذهم هؤلاء رشاوى لإذاعة بيان كاذب. وفي بشارة بطرس ينقل الحراس النبأ إلى بيلاطس مباشرة، فيأمرهم هذا أن يصمتوا ولا يقولوا شيئاً. أما في بشارة نيقوديموس فيحذو الراوي حذو متى في بشارته.

على أن الروايات الثلاث اتفقت اتفاقاً تاماً في نقطتين:

  1. أن المسئولين قد تقدموا إلى بيلاطس والتمسوا منه إقامة حراس على القبر.
  2. وإن الحراس قاموا بمهمتهم في الليلة السابقة لمجيء النسوة إلى القبر.

وهنا نرى التقدم إلى بيلاطس يدعو إلى شيء من التعليق. لقد كان موقف اليهود حيال جسد يسوع دقيقاً غاية الدقة. فهو وإن كان يهودياً، وحوكم بإيعاز من قادة اليهود، فإن الحكم والعقوبة كانتا وفق القانون الروماني. ومن الوجهة القانونية، كان جسد يسوع ملكاً للرومان، ولهم وحدهم حق التصرف فيه. وبعد أن لقي اليهود صدّاً من بيلاطس حول كتابة العنوان الذي وضعه على الصليب، لم يكن هيناً عليهم محاولة تحدّي سلطة بيلاطس مرة أخرى، أو التعدّي على القانون الروماني. على أنه إذا كان كهنة اليهود قد اهتموا بقبر يسوع، فإنه لم يكن بدُّ من أن يُفْضُوا إلى بيلاطس بما يساورهم من ارتياب، والحصول منه على تفويض لما يرونه من تحّوط وحرص.

كل هذا يؤيد صدق القصة، أما الإشارة إلى سلطة بيلاطس في التصرف بجسد المصلوب، فأمر تافه في حد ذاته. ولكن الباحث المؤرخ يجد في التوافق بين الرواية وبين مقتضيات الموقف التاريخي، مجالاً للقول والتخريج.

وهذا يجيء بنا إلى السؤال الأصلي: هل كان هناك وازع قوي، أو وازع ما، يحمل رؤساء الكهنة على الإهتمام بقبر المسيح؟ وهل كان هذا الوازع كافياً لأن يتحمَّل القادة اليهود في سبيله ما قد يتعرضون له من صدّ وجفاء في الإستعانة بالوالي الروماني مرة أخرى؟ وهم قد عرفوا أن بيلاطس كان في حالة عصيبة، وأن إصالة الرأي تملي عليهم أنهم ذهبوا إليه مرة ثانية؟

أن الذين ينكرون هذا يغفلون عنصرين خطيرين في الموقف. فهناك أولاً ما يبعث على الظن أن ذلك البستان كان بطبيعة الحال خاضعاً لنوع من أنواع الحراسة الوقتية. ولو كان جسد يسوع قد وُضع، كما كانت توضع أجساد المجرمين المحكوم عليهم، في المقبرة العامة، فإنه كان من الطبيعي أن يقام حرس رسميّ على المكان. وكانت أورشليم في الأعياد والمواسم تكتظ بالوافدين وتثور فيها الإضطرابات لأتفه الأسباب. ولم يكن المحكوم عليه مجرماً عادياً كسائر المجرمين.

فلم يكن من المعقول أن يُترك جسد، كجسد يسوع، يعتّزُ به قوم ويمقته آخرون، في مكان مفتوح تدلف إليه الجماهير في غير استئذان. ومن سُخف القول أن نزعم شيئاً مثل هذا لا تجيزه حكومة متحضرة كحكومة أورشليم في ذلك العصر. والذي نعتقده أن الإحتياطات اللازمة كانت تُتّخذ حسب مقتضيات الموقف دون أن يكون في الأمر شيء غير عادي.

على أن الحق التاريخي الذي لا نزاع فيه، أن جسد يسوع لم يلق هذا الهوان. وقد أجمعت الوثائق على أن يوسف الرامي، وهو رجل يهودي ذو كرامة وجاه، ذهب إلى بيلاطس وطلب الجسد، فأجابه بيلاطس إلى طلبه. ومن ثمَّ نفّذ الرامي تدبيره، ووارى الجسد قبراً، ربما اختاره لقربه من الصليب، ولكنه كان قبره الخاص الذي أعدَّه لنفسه.

ولست أظن أن جمهرة الباحثين قد أدركوا تماماً كيف أن هذا الحادث البسيط، الذي يبدو تافهاً لأول وهلة، قد غيَّر الموقف القانوني فيما يتعلق بجسد يسوع، فوطّد الأمن والنظام في أورشليم.

وقد كان حفظ الأمن والنظام في المواسم والأعياد التي اكتظت بها المدينة منوطاً بالسلطة المدنية. ولو كان قد حُكم على المسيح بعقوبة غير الموت، لكانت حمايته والمحافظة عليه نيطت بها السلطات اليهودية، ولكن الإمبراطور الروماني نزع سلطة الحكم بالموت من اختصاص الهيئات والطوائف الدينية، فبمجرد النطق بحكم الموت، انتقلت سلطة التصرف القانوني بالمتهم من مجلس السنهدريم اليهودي إلى السلطة الرومانية. فبيلاطس كان مسؤلاً من الوجهة القانونية عن نتائج تصرفاته.

وقد كان هذا ملائماً لرئيس الكهنة ومشيريه، وذلك لأنه إذا حدثت مظاهرات أو اضطرابات في مكان الصلب أو عند الدفن، فإن الوالي الروماني كان مضطراً بحكم وظيفته إلى قمعها.

ولكن سير التاريخ لم ينحُ هذا النحو. فلشدَّ ما كان حنق السلطات اليهودية وخيبتها أن ترى واحداً من رجالها يذهب سراً ويطلب الجسد من بيلاطس. وكان من جرَّاء هذا انقلاب الموقف، إذ عادت مسئولية حراسة القبر والمحافظة على النظام إلى السلطات اليهودية. ومن ثم كان الحنق والسخط الذي صّوبه اليهود المسئولون نحو يوسف الرامي على ما تقول أسفار الأبوكريفا.

وحتى لو لم يكن الإنجيل قد ألمح إلى ما جرى، فإننا كنا نفترض من تلقاء أنفسنا أن مسئولية حفظ النظام بعد أخذ جسد يسوع على النحو الذي تمَّ قد همَّت رئيس الكهنة ومشيريه. وكأن بيلاطس بطريقة صريحة قد غسل يديه مرة ثانية من كل تبعة في قضية هذا الناصري، فهو قد سلَّم الجسد إلى يهوديّ تولَّى دفنه (ربما لمقتضيات الساعة) في مكان مفتوح على مقربة من باب المدينة. فإذا حدث اضطراب أو ثورة عند مكان الدفن فإن رؤساء الكهنة هم المسئولون عن قمعها، ولا شك أن بيلاطس ألحَّ عليهم لمراعاة هذا.

وأسلم طريق للخروج من هذا المأزق أن يذهب الكهنة إلى بيلاطس ويلتمسون إليه أن تتولى السلطات الحربية حراسة البستان مؤقتاً. وقد كان هذا أمراً طبيعياً، ولدى بيلاطس العدد الوفير من احتياطي الجند في حين لم يكن لدى قيافا إلاَّ حرس الهيكل، وهم نفر قليل لا يكفي عدده لقمع ثورة خطيرة. ويبدو لنا من رواية البشير متى أن الكهنة تقدموا إلى بيلاطس بهذا الرجاء ولكنهم لم يفوزوا بطائل. ومما يفيد البحث أن نثبت الرواية بنصها كما جاءت في بشارة متى:

«وفي الغد الذي بعد الإستعداد، اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس. قائلين: يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضلّ قال وهو حيّ إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث، لئلا يأتي تلاميذه ليلاً ويسرقوه، ويقولون للشعب إنه قام من الأموات. فتكون الضلالة الأخيرة أشرّ من الأولى. فقال لهم بيلاطس: عندكم حرَّاس. اذهبوا واضبطوه كما تعلمون. فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر»

هذا هو أقدم بيان تناولناه من التاريخ المقدس عن هذه القصة. وهو بيان، كما يبدو للقارئ، مسبوك في أسلوب صحيح خالص.

ولو أمعن القارئ النظر في هذا البيان وما تضمن من حقائق، لاستخلص لنفسه أربع وقائع:

  1. أن الإجتماع لم يحدث في يوم الصلب بل في اليوم التالي له. وهذه واقعة مدونة بصريح اللفظ: «في الغد الذي بعد الإستعداد»
  2. أنه طُلب إلى بيلاطس حراسة القبر: «مُرْ بضبط القبر»
  3. أن بيلاطس رفض هذا الطلب: «عندكم حراس. اذهبوا واضبطوه كما تعلمون»
  4. أن رؤساء الكهنة فعلوا كما أملت عليهم مصالحهم العاجلة: «فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر»

هذا تسلسل منطقي معقول للحوادث، يتفق تماماً وموقف الإضطراب والفزع الذي وُجد فيه رؤساء الكهنة، كما يتفق وأخلاق بيلاطس المعروفة عنه. ثم هو يبين لنا أنه لم يكن لدى النسوة فرصة لتغيير الخطة التي أعددنها.

ومما يذهب إليه بعض الكُتّاب الذين يُعنون بهذا البحث في العصر الحديث، أنه يتعذر العثور على قصة الحراس في التقاليد الأولى التي دّونها المؤرخون، وأنه لو عرف النسوة أن القبر تحت الحراسة، لما بكّرن في الذهاب لإداء مهمتهنّ.

والحق أنه كان متعذراً على النسوة التفكير في الذهاب إلى القبر، لو علمْنَ منذ أول الأمر، وعند ساعات الدفن، أن القبر سيوضع تحت الحراسة. ولكن رواية متى تقول إن رؤساء الكهنة اجتمعوا إلى بيلاطس. «في الغد بعد الإستعداد» أي بعد أربع وعشرين ساعة من وضع الجسد في القبر. ويخيل إلينا أن زعماء اليهود لم يشعروا بهذه الضرورة الملحّة إلا قبيل انتهاء السبت اليهودي وعودة الحياة في المدينة إلى مجراها العادي. فكيف ننتظر أن يعرف ثلاث أو أربع من النسوة ما كان يدور في الخفاء وراء جدران قصر الوالي الروماني في مساء السبت، لا سيما أنهن آوينَ، كما هو المرجح، إلى فراشهن في ساعة مبكرة تأهبا لليقظة الباكرة في الفجر؟

ورأى ثانياً أن القول بعدم احتمال قيام رؤساء الكهنة بأي عمل في هذا الصدد مشكوك فيه جداً. ومما يبدونه تبريراً لهذا القول أن العذر الذي قدمه اليهود لبيلاطس (أي خشيتهم أن يسرق التلاميذ الجسد) بعيد الإحتمال جداً، وأن مسلك التلاميذ أنفسهم يبيّن أنه لم يخطر على بالهم ولم يؤمنوا من قبل أن المسيح سيقوم، وإنْ يكن هو قد سبق وألمح إلى ذلك أمامهم. ولذلك يكون من الفروض المستبعدة أن يُقام حرس رسمي للحيلولة دون وقوع حادثة غامضة يكتنفها كثيف الظلال.

وأنا لا أنكر قوة هذه الحجة ووجاهتها لو أنها تتفق مع قصة محاكمة يسوع، ولكنها في الواقع لا تتفق معها. ومن عجب أن المحاكمة من أولها إلى آخرها تدور حول عبارة تفّوه بها المسيح وتتضمن هذه الكلمات الغامضة الغريبة: «في ثلاثة أيام».

ونحن هنا لسنا أمام قوم سذّج يعسر عليهم المغالطة وتمويه الحقائق وإلباس الباطل ثوب الحق في الحيل والأساليب السياسية، ولكننا أمام نفر من أكبر الأدمغة اليهودية في ذلك العصر وأوسعهم حيلة وأشدّهم مكراً. فوراء كل مناورتهم، وسعيهم لإحضار شهود كذبة، ثم انهيار التهمة بعد أن لم تتفق أقوال شهودهم - وراء كل هذه الحيل والألاعيب، الحقيقة التاريخية التي تشبثوا بها وهي أن يسوع قال في مناسبة من المناسبات عبارته المأثورة عن «الثلاثة أيام»، التي أهاجت سخط قادة الصدوقيين، ولكنها لم تقوَ على احتمال المعنى الذي حاول الشهود أن يصيغوه إفكاً وبهتاناً.

فإن كان الإتهام قد تركز - كما يُؤخذ من القصة - في هذه العبارة المأثورة عن يسوع، فالإستنتاج الذي ذهبوا إليه صريح. فكأن يسوع لم يتفّوه فقط بالعبارة التي دُّوِنت كاملة في بشارة يوحنا (ص ٢: ١٩) ولكن اليهود أنفسهم عرفوها عنه، واختاروها عمداً تكأة يقيمون عليها اتهامهم.

كل هذا يخلق لنا موقفاً يناقض تماماً ما نزعمه من عدم اكتراثهم لمسألة دفنه وإعارتها عنايتهم. وما كان في وسع إنسان أن يتنبأ بما عساه أن يحدث في عقول الجماهير الذين قبل أيام قلال هتفوا ليسوع واستقبلوه استقبال المنقذ السياسي. فإذا هم تركوا القبر دون حراسة، في حين أن الظروف تسمح لهم بالتقدّم إلى بيلاطس ليضمنوا عدم الإعتداء على القبر ممن تسّول لهم نفوسهم هذا الإعتداء، يكونون قد مهدّوا السبيل لما يجهدون أنفسهم لمنعه.

ولست أذكر هذه الإعتبارات للتدليل بها على أن الحرّاس قد أُقيموا فعلاً، فإن الإدلاء بإثبات لهذه الواقعة - غير البيان الصريح الذي أثبته الإنجيل - بعد مضي هذه الحقبة الطويلة من الزمن، يكاد يكون متعذراً. إنما أذكرها لأبيّن فقط أن إقامة حرسٍ على القبر في ذلك الظرف الدقيق ليس بعيد الإحتمال كما يُخيَّل إلى بعض الناقدين.

على أننا حين نبحث انسجام القصة مع الحقائق الثابتة في الموقف، نرانا وقوفاً على قدم راسخة، وذلك لأن أبرز الحقائق وأوكدها في الموقف كله هي أنه في وقت ما بين الساعة التي فرغ منها يوسف الرامي من عملية الدفن، وبين انبثاق أنوار الفجر في صبيحة الأحد، دُحرج الحجر الكبير من على القبر. وقد رأينا من قبل أن ثلاثاً من النسوة شككن في مقدرتهن على دحرجة الحجر، وهذا يحملنا على أن نفترض أن الذين دحرجوا الحجر لا يقلُّ عددهم عن اثنين من الرجال أو ربما أكثر. ويكاد يكون مؤكداً أن الوقت كان في ساعات الظلمة بين غروب الشمس في يوم السبت وقبل شروقها في يوم الأحد، لأن دحرجة الحجر لم يكتشف أمرها إلا باكراً في فجر الأحد.

نحن إذن مضطرون إلى أن نقول - من قبيل الفرض فقط - إنه اجتمع حول القبر في خلال الساعة الحالكة قبيل انبثاق نور الفجر نفر من رجال تقوى عضلاتهم على إزاحة الحجر. فإن كان هؤلاء الناس الذين أتوا هذا العمل الغريب ممثلي السلطة اليهودية، فإن باعثاً هاماً غير عادي هو الذي حملهم على النظر إلى داخل القبر. وما دامت أعين النسوة اللائي ذهبن في الفجر لم تقع على أحد من هؤلاء، فإننا نستنتج أيضاً أنهم انطلقوا مسرعين لنقل الخبر إلى رؤسائهم.

وهذه الإستنتاجات هي بالضرورة احتياطية، أساسها الإفتراض أن الحراس هم الذين أزاحوا الحجر. وفي طوقنا طبعاً أن نقترح حلاً غير هذا. فإن لم يرَ القارئ الدليل أمامه كافياً لإقناعه بوجود الحرَّاس، فيمكنه أن يفترض أن فريقاً آخر من الناس أقبلوا في ساعات الظلمة بقصد شرير آثم. وهذه هي النظرية القديمة التي زعمت سرقة الجسد، وهي نظرية أثبتنا بطلانها في موضع آخر من هذا البحث. ولمتابعة هذه الفكرة، علينا أن نعرف أي الأشخاص كانوا في أورشليم في تلك الفترة، ممن تحفزهم نفوسهم إلى ارتكاب هذه السرقة، وما الذي كانوا يرونه من هذه الفعلة، ولأي غرض سرقوا الجسد؟

ولكني أذهب إلى أبعد من هذا. فإنه يُخيل إليّ أنه لا يمكن إثبات تاريخية أية نظرية تتعلق بحوادث هذه القصة بالذات، ما لم نعلّل في الوقت نفسه - لا مجيء النسوة فقط في الساعة التي جاءوا فيها ووقوفهن أمام القبر فارغاً، بل مواجهتهن أيضاً لذلك الشاب داخل القبر، والرسالة التي أبلغنَها، على قول البشير مرقس.

وليس في نص القصة ما نتبين منه أن النسوة حسبنَ هذا الفرد مخلوقاً غير عادي. فهو في نظرهن شاب فقط يرتدي حلة بيضاء، يرونه داخل القبر، ورداً على سؤالهن وهنّ مشدوهات مذعورات، يعطيهن جواباً غريباً:

«لا تندهشن. أنتن تطلبن يسوع الناصري المصلوب. قد قام. ليس هو ههنا. هوذا الموضع الذي وضعوه فيه. لكن اذهبن وقلن لتلاميذه ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم».

ولكي نفهم حقيقة هذا الموقف الروائي، لا بد أن نستعرض في أذهاننا كيف ظهر النسوة فجأة في هذا المشهد. ونحن نتصورهن ماضيات إلى القبر في غسق الفجر الباكر، ولا ينتظرن أن يشهدن مخلوقاً هناك في مثل تلك الساعة. وقد شُغلت أفكارهن بالحجر وكيف يدحرجنهَ، وكان كل همهنّ أن يزحنَه ليتوصلن إلى جسد سيدهن الممزق.

لسنا نعرف على أية مسافة لمحنَ التغيير في وضع الحجر، ولكن الأرجح أنهن اقتربن إلى المكان فرأينه في غير الموضع الذي كان فيه، فإن يدا دحرجته إلى أحد الجوانب، وبانت فجوة الكهف مفتوحة. والأغلب أن إدراك هذه الحقيقة أفزعهن إلى حين. ولكنهن تقدمن بعد قليل حثيثات السير نحو القبر. ولشدَّ ما كان جزعهن ورعبهن أن يرين شبحاً جالساً داخل القبر المظلم، فتراجعن إلى الوراء مذعورات مرتعدات. وفي الوقت نفسه كان الشبح الجالس في داخل القبر قد تنبّه على أصوات تلغط في الخارج، ووقع ظلال القادمات من النور إلى الظلام، فالتفت إليهن وإذا بهن قد تراجعن خائفات. وإني أتصوره يركض وراءهن، ويدعوهن قائلاً: «لا تخفن. أنتن تطلبن الناصري. ليس هو ههنا. هوذا المكان الذي وضعوه فيه....» لكن النسوة قد أدركهن الخوف الشديد، فلم يستطعن مبادلة الكلام. وكما يقول الراوي مرقس في وصفه المؤثر: «خرجن سريعاً وهربن من القبر، لأن الرعدة والحيرة أخذتاهنَّ».

وإن كانت حقيقة المشهد هي كما صّورها لنا الراوي في عبارته الموجزة الرائعة، فإننا أمام واقعة جديدة خطيرة الشأن. ويزداد الموقف تعقيداً بظهور زائر غريب للقبر مضى إليه لعلّة ما، قبل النسوة، وهو لم يعرف نبأ زيارتهن.

فهل هذا الزائر شخص تاريخي، أم هو شخص خياليّ؟ إن قلنا إنه تاريخي، فكيف يتفق حضوره على هذا النحو مع الحقائق التي نعرفها عن الموقف كله؟

وقبل أن نبحث شهادة الراوي مرقس عن هذا الأمر الخطير، لا بد من الإشارة إلى واقعة خاصة، وأعني بها ذعر النسوة، الذي حملهن على الفرار من القبر. وما أظن أن هذا العنصر النفسي الذي نشأ عن الرعب، كما رواه مرقس، قد نال حظه من البحث الدقيق الذي يستحقه. ومما لا شك فيه أن النسوة، وقد مضين لغرض معين هو تطييب جسد ميت، كنَّ متأهبات لملاقاة الظروف المحزنة، بل المخيفة، التي يتطلبها هذا العمل، ونستبعد جداً أن يفزعن هذا الفزع لمجرد رؤية القبر فارغاً، أو لمجرد تصورهن إنساناً تخلقه خيالاتهن.

على أنك إذا فكّرت في ثلاث من النسوة الباسلات في حالة عقلية عادية يمضينَ إلى قبر في غسق الفجر الباكر لتطييب جسد ميّت، وإذا فكرت فيهن وهنَّ مقبلات قدُماً نحو القبر واثقات أنهن سيجدن جثة مضطجعة ملفوفة في أكفانها، فإذا بهن أمام شبح جالس في حلة بيضاء.... أقول إنك إذا فكرت في الموقف على هذا النحو، أدركت عوامل الفزع التي استسلم إليها هؤلاء النسوة، وأسباب فرارهن من المكان لينجون بحياتهن. ويؤخذ من القصة كما رواها مرقس أنهن هربنَ دون أن ينتظرن سماع النبأ الكامل من الشاب الذي جرى وراءهن. هذا هو استنتاجي من القصة كما أفهمها، وهو استنتاج أراه ضرورياً لفهم الواقعة كلها.

وإن كان هذا الشاب شخصية تاريخية في القصة، فإنه يُظهرنا على عامل جديد في المشكلة التي نعالجها، ويقدم لنا خيطاً جديداً في نسيج الحوادث التي تزاحمت حول مركز واحد هو قبر المسيح. فهل هناك فرض من الفروض نستطيع به تعليل هذه الحوادث المنفصلة غير العادية التي جرت كلها في وقت واحد؟

وفي المظاهر الغريبة في المشكلة أن الجواب السليم لكل هذه الأسئلة نجده مطموراً في الرواية الموجزة التي سجلها مرقس. ومفتاح الحل نعثر عليه في الكلمات الثلاث الأخيرة من الرسالة التي قيل إن الشاب أعطاها للنسوة الخائفات: «أنه يسبقكم إلى الجليل. هناك ترونه كما قال لكم». ومتى قال يسوع لتلاميذه إنه يسبقهم إلى الجليل؟ قلّب صفحات القصة قبل المحاكمة والصلب، حتى تعثر عليها في رواية مرقس ذاته:

وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ ٱلْخِرَافُ. وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ» (مرقس ١٤: ٢٧، ٢٨).

والذي نلحظه خاصة في هذه الكلمات القليلة، أنها قيلت وهم في الطريق إلى جثسيماني. وكانوا قد فرغوا من عشاء الفصح، وكان يهوذا قد سبقهم ليحبك دسيسة مع رؤساء الكهنة، وكانوا قد نهضوا من فوق الوسائد ونزلوا إلى الطريق يسيرون مع زعيمهم وقد نقص عددهم فصاروا أحد عشر. وفي أثناء الطريق، على قول مرقس، نطق يسوع بهذه الكلمات.

وهنا نسأل: هل كان معقولاً أن يسترق أحد سمع هذه الكلمات التي تفّوه بها المسيح؟ أمّا نحن فلا نحجم عن الجواب بالسلب القاطع، لأن مكان العشاء قد كُتم أمره ولم يعرفه أحد، خشية أن يتعجل المتآمرون أمر القبض عليه، فيفسدوا عليه ذلك المؤتمر الهادئ مع صحابته.

ونحن نتصور أنهم قد أطفأوا أنوار العلّية، ثم نزلوا في هدوء إلى الطريق العام، تأهباً للسير إلى جثسيماني. فلم يكن ثمة مجال لدخيل يندسُّ فيما بينهم، ولا لمناصر غريب من أعضاء الصحابة الرسولية.

ومع ذلك.... فقد تعقَّب خطاهم إلى بستان جثسيماني في تلك الليلة، شخص آخر، شاب، على قول مرقس. ولست أرى حلاً لصيغة الكلام الذي يدّونه مرقس عن هذه الواقعة إلاَّ الجزم بأن مرقس نفسه هو ذلك الشاب الذي دخل البستان مع التلاميذ، وتقول الرواية إنه تبع يسوع (مرقس ١٤: ١٥). ولا معنى للكلام عن نفسه في هذا المقام إلا من حيث تقرير الحوادث. والواقعة في حد ذاتها لا وضع لها في سرد الكلام إلاَّ من حيث كونها عنصراً في مغامرته الجريئة الخالدة في الليلة المأثورة.

قلت من قبل في فصل سابق أن بشارة مرقس تقف كصخرة هائلة في عرض البحر تستند إليها المؤلفات المسيحية، وهي تأخذ بألباب، حتى القارئ الناقد، لما حوت من دقة بيان وصريح عبارة. وأظهر ما تكون هذه الدقة وتلك الصراحة في الوصف الدقيق المفصّل عن الساعة الأخيرة التي قضاها المسيح في غير تكلّف مع صحابته. ولا يمكن أن يكون هذا الوصف ابتكاراً خيالياً أدبياً في عصر متأخر، فمن ذا الذي كان يجسر على اصطناع قصة التلاميذ وقد غلبهم النوم من فرط الإعياء في أخطر ساعة في حياة سيدهم، أو واقعة إيقاظ السيد لهم مرتين وهو يعود إليهم في رفق في فترات متقطعة من مصارعته تحت الأشجار البعيدة، أو كلماته الناهية بعد أن غَلَب في الصراع وبلغ الرأي الفاصل فيما هو فاعل: «ناموا الآن واستريحوا!»، ثم كلماته الأخرى وقد لمح من بعيد وهج المصابيح المتراقصة: «قوموا. هوذا الذي يسلّمني قد اقترب»؟

لا شك أن هذا تسجيل صحيح لحوادث تلك الليلة التي لن تُمحى. وليس في القصة شيء من اعتلاج العاطفة أو ثورة الحماس وخاصة من التلاميذ أنفسهم، بل نراها سجلاً هادئاً رزيناً، بعيداً عن كل صنعة، يروي حادثة من أروع حوادث التاريخ البشري. وإن وُجد شيء يؤيد صدق هذه القصة، فهو الحادثة التي حُشرت حشراً غريباً عن هذا الشاب الذي اختُطفت عباءته في الصراع فهرب عرياناً كسهم يشقُّ سدفة الظلام. ترى لماذا تُذكر القصة دون موجب لها، إلاَّ لكونها من الوقائع التي حدثت فعلاً؟ ولست أشك أن شبح ذلك العريان الهارب في الظلام كان من الآثار العميقة التي نُقشت في ذكريات الذين شهدوا هذا الفصل من الرواية.

وفي هذا كله شيء في منتهى الغرابة وخليق بالبحث الدقيق. ووجه الغرابة نراه في تماسك الظواهر الثابتة وتوافق الوقائع المسجلة في هذا الموقف.

وكل باحثٍ يتناول قصة مغامرة النسوة كما سجلها البشير مرقس، وينظر إليها، لا كشعاعة من أشعة نور القمر، بل كواقعة من وقائع التاريخ، لا يلبث أن يجد نفسه متأثراً بشيء آخر غير ذهاب النسوة إلى القبر أو حتى القبر الفارغ - وهو أنهن لم يكنَّ أول من ذهب إلى القبر قبيل الفجر، وأن شخصاً آخر سبقهن، تدلُّ الدلائل على أنه انطلق من أورشليم قبلهن بدقائق معدودات.

هذا فيما أرى، هو المعنى الذي قصده كاتب أقدم بشائر الإنجيل وأقرها إلى زمن الحوادث. وفي رواية مرقس لا شيء مطلقاً ينبئ عن مظهر خارق للطبيعة في وجود ذلك الشاب. وما هو إلاَّ طرف رابع مع النسوة في مغامرة جريئة غير عادية. ولعلَّ دهشته من وجود النسوة في تلك الساعة لا تقل عما عراهنّ من دهشة وذهول لرؤيتهن إياه. وتراجعهنّ السريع عند رؤيته داخل القبر يعلل الإيجاز الذي نحسُّه في رسالته، وإني أتصوره يناديهن بصوت عالٍ وهنّ مسرعات مهرولات، والكلمات التي أبلغهن إياها لا غموض فيها، تتفق تماماً مع الموقف الذي كان فيه. ولم يستطع أن يزيدهن قولاً لأنهن كنّ على الأرجح قد ابتعدن عن مرمى السمع.

وحين نفكّر في ذلك الشاب، لا كزائر خيالي من فوق أطباق السحب، بل كحقيقة ثابتة من حقائق ذلك الفجر المنير، نرانا أمام موقف شائق حقاً. ونحن نعلم سبب ذهاب النسوة إلى القبر في تلك الساعة المبكّرة، ويبدو إنهن أعددن العُدّة في مساء الجمعة، وفي الساعة المعينة قبيل انطلاق خيوط الفجر من وراء رُبى الشرق، انطلقن لإداء مهمتهن الحزينة المؤلمة.

ولكن ما الذي حمل شاباً عبرانياً - المفروض أنه قضى الليلة في أورشليم - على التبكير والذهاب إلى قبر المسيح قبلهن؟ هذا سؤال جدير بالبحث لأنه يعالج موقفاً خاصاً. ولو كانت الأدلة المتوافرة لدينا تنبئ أن قبر يسوع كان سليماً لم تمسسه يد عند وصول النسوة، لكنّا مضطرين إلى تلمُّس سبب معقول يعلل لنا ذهاب شاب بمفرده إلى القبر في تلك الساعة المبكرة من صباح يوم بارد من أيام شهر إبريل. ولكن الأدلة تتجه إلى عكس هذا، وهي مقنعة في قوتها وانسجامها. فالحق الدافع الذي تحدَّر إلينا جيلاً بعد جيل، هو أن النسوة وجدن القبر فارغاً، والحجر الكبير مدحرجاً.

وأننا نرى في هذه الحقيقة تضاعيف لا مهرب لنا منها، أولها أن القبر كان بلا ريب على حالته هذه ردحاً من الزمن. وقد عرفنا بالدليل أن الحجر كان أثقل من أن تزيحه يدا رجل واحد، ولم ترَ النسوة على مقربة منه نفراً من الرجال حتى كان يُقال إنهم هم الذين دحرجوا الحجر. فالذي أزاحه كائناً من كان، لا بد أن يكون غادر المكان في الصباح الباكر جداً، قبل أن يرفع ستار الظلمة عن وجه الأرض.

هذا ما يبدو لنا من ظاهر الموقف. على أن هناك أمراً آخر أعظم وأعمق أثراً. فإنه يبقى علينا أن نعلل، لا دحرجة الحجر فقط، بل الباعث الذي أيقظ شاباً في أورشليم، وحمله في ثورة من الحماس وحب الإستطلاع، على الذهاب باكراً إلى القبر قبل النسوة بدقائق معدودات. ونحن أمام أمر هام حقاً، لأن الوسيلة الوحيدة التي يُنقل بها نبأ حدوث ظاهرة غير عادية في قبر يسوع إلى أي إنسان في أورشليم قبل وصول النسوة إليه، لا تكون إلاّ عن طريق قوم أشاعوا النبأ وعادوا سريعاً. ومن الغريب أن هذا الوصف ينطبق تماماً على الحرّاس الذين أشارت إليهم قصة الإنجيل!

ولو كان قبر يسوع عبثت به أيدي طغمة من اللصوص النهّابين، أو أيدي أثمة أرادوا العبث بالجسد لأغراض شريرة، لكانوا اختفوا في الظلام وتسللوا خلسة من أعين الرقباء. وما كانوا يذيعون جريمتهم في طرقات أورشليم، بعد دقائق قلال من ارتكابها..

ولو كان يوسف الراميّ هو الذي فتح فجوة القبر قبيل الفجر لنَقلْ بقايا الجسد إلى مثوى آخر، لظلَّ باقياً منهمكاً في مهمته عند المدفن الجديد، ولانتقل هذا الخبر بسرعة البرق إلى آذان السلطات الرسمية....

أما إذا كان قد هرول في طرقات أورشليم الضيقة في غبشة الصباح الداكنة بعد أن ولَّت ظلمة الليل، رجال مُسْتَثارون يذيعون أن حَدَثاً غريباً عجيباً وقع في قبر يسوع الناصري - أقول: إذا عرفنا هذا، نفهم لماذا يستيقظ أكثر من نائم واحد ليرى حقيقة هذا الحادث الغريب، وليسمع بعض الهمسات الغريبة التي أشاعها الرواة المشاهدون. وإن كان بين الذين سمعوا هذا النبأ الذي شاع في أورشليم في غبشة الصباح، أو الذين انتهت إليهم الشائعة بطريقة من الطرق - إن كان بين هؤلاء ذلك «الشاب» الذي جازف فتبع يسوع في بستان جثسيماني، وتسمَّع تلك الكلمات الغريبة التي قالها في الطريق لتلاميذه، أفلا يختطف أي رداء تصل إليه يده ويركض مسرعاً بقدر ما يستطيع إلى بستان القيامة؟!

الفصل الرابع عشر: سر القبر الفارغ

والآن ما سرّ هذا القبر الفارغ المختوم؟ سؤال يستحثُّنا للإجابة عليه، وهو ما سأعالجه في هذا الفصل.

في هذه القصة أشياء تؤثر فيَّ أعمق تأثير، وهي ليست من الأشياء الثانوية التافهة التي يمكن إغفالها أو التغاضي عنها، ولكنها أشياء تمسُّ المشكلة في الصميم. ولست أؤمن، ولا يسعني أن أؤمن، أن جسد يسوع الناصري رقد في بستان يوسف الراميّ في أية فترة من الزمن معاصرة لقومة المسيحية ونشأتها الأولى.

وإذا استطاع إنسان أن يدلَّنا على وثيقة واحدة من وثائق العصر الأول التي عالجت صلب يسوع ودفنه، تُلمح ولو من بعيد، إلى أن الجسد كان ثاوياً في القبر، فأنا من جانبي لا أتورّع عن أن أقيم لهذا التلميح وزناً، فهو تكأة، وإن تكن هزيلة مرضوضة، يقوم عليها بعض الشك. على أن الوثائق كلها شديدة الصلابة قوية الإجماع على صدق هذا المظهر الخارق الذي تبدَّى للعيان في فجر يوم القيامة.

وسواء رجعنا إلى بشارتي متى ولوقا من بشائر الإنجيل، أو إلى ما يسمونه بشارة بطرس غير القانونية خارج الإنجيل، أو إلى بشارة يوحنا أو وثيقة عمواس التي بقيت من آثار لوقا، أو بشارة مرقس أقدم أسفار الإنجيل - في هذه كلها نصطدم بشهادة قوية ثابتة تدلُّ على اختفاء الجسد. ولو كان الأمر عكس ذلك، ولو أنه طُلب إلينا أن نؤمن بشيء أنكرته الوثائق كلها التي بقيت على الأجيال، لما تردَّدْنا في التشبُّث بهذا الإنكار واتخاذه دليلاً قوياً لا سبيل إلى تفنيده. على أن بين أيدينا وثائق ومؤلفات من مصادر عدّة تناولناها من عصور بعيدة، وكتبها أشخاص تفاوتت أمزجتهم، ومن وجهات نظر مختلفة، عن سير الحوادث - وليس فيها مطلقاً أي تلميح أو تصريح يغاير الحقائق التي أثبتها مرقس في بشارته، وهو أول رواة هذه القصة وأسبقهم في التاريخ. ولست أشك أن هذا الإجماع الصارخ من جانب الكُتّاب والمؤلفين يلقى ما يستحقه من التقدير لدى كل باحث منصف.

على أن هناك شيئاً آخر أبعد غوراً من هذه الشهادة التي أجمع عليها هذا الإجماع الرائع كل الكتّاب والمؤلفين. ولست أدري كيف يقدر أبرع النقاد المحدثين على مواجهته دون أن يعروه شيء من الإضطراب والقلق الفكري، وأعني بذلك صمت الآثار صمتاً رهيباً عن الإشارة إلى قبر يسوع في التاريخ اللاحق لموته.

وإنه لغريب حقاً أن يصمت علم الآثار هذا الصمت الطويل الرهيب إزاء بقعة كان لها بلا شك قدسية وحرمة في نفوس ألوف من الناس خارج دائرة المؤمنين المسيحيين أنفسهم. ألم يوجد وقتها من يرمق بعين التوقير والإحترام القبر الذي ضمَّ بين جنباته جسد أعظم معلم عرفه شعب إسرائيل بعد عصر الأنبياء؟ ألم يكن لأمثال يوسف الراميّ، ونيقوديموس الحبر اليهودي، نظائر وإخوان بين الجماهير العاملة التي زحمت يوماً ما سفن الصيد في بحيرة الجليل، وعجَّت بهم من قبل طرقات كفرناحوم وقانا والناصرة؟ لا شك أنه إلى جنب كل إمرأة أو رجل وقع تحت تأثير التلاميذ، مائة غيره أو غيرها ممن لم تخطر بأذهانهم فكرة عن القبر، ولكن قلوبهم تثقَّلت بالأسى والشجن والتفجع إزاء موت المسيح المبكر قبل الأوان.

ومع كل هذا فإنك تنقّب عبثاً عن إشارة أو تلميح أو همسة تستخلص منها أن سيلاً من الحجيج دَلف إلى ذلك القبر الصامت في خلال السنوات الأربع التي نادى فيها المسيحيون بعقيدتهم الغريبة داخل أسوار مدينة أورشليم. ولسنا نسمع أي صدى خافت لجدل أو حوار بين الكثيرين الذين عرفوا الحقائق كما هي، ولا بين القليلين المضللين الذي نادوا بما لا يؤمنون. فتُرى لماذا تبقى على الزمن ما نتخيله أغرب عقائد المسيحية وأبعدها عن التصديق، دون أن تترك وراءها أثراً لنظرية تباينها، كنا ننتظر بحكم المعقول أن تطغى عليها وتنتصر دونها؟

بل خذ المشكلة من وجه آخر ودُرْ حولها كيفما شئت: وهنا أطلب إلى القارئ الكريم أن يجلس في هدأة غرفته ويفكر تفكيراً رزيناً جدّياً في مسألة لها مع بساطتها قدرها العظيم: لماذا صارت أورشليم ذاتها مركز القيادة لهذه الدعاية الغريبة عن القيامة، التي قُدِّر لها فيما بعد أن تُذاع في أقصى أطراف الإمبراطورية الرومانية؟ لماذا فُضِّلت أورشليم على كفرناحوم أو الناصرة مثلاً؟ وهناك أسباب لا حصر لها تحملنا على الظن أن أسطورة واهية مثل قيامة يسوع بالجسد - هذا على فرض أنها أسطورة - كانت تلقَى مرتعاً خصيباً في ربوع الجليل الطيبة اللينة، ولكنها تذبل في المنطقة التي كان بها القبر الحقيقي.

وغير خافٍ أن أورشليم كانت دائماً معادية للمسيح، ناقمة عليه رافضة له، بينما كان الجليل موطنه الذي حنَا عليه ورحّب به. والذين أحبوه أشد الحب، وبكوه أمرّ البكاء، هم الذين استوطنوا هذا الإقليم الضاحك الباسم. وما انقضت أربعة عشر يوماً على حادثة الصلب حتى كان بطرس وإندراوس وغيرهما من الصحابة الرسولية قد هرعوا إلى شطئان تلك البحيرة حنيناً إلى صناعتهم القديمة الشريفة. ولنماشِ أصحاب المزاعم ونفترض جدلاً أن رؤيا سيدهم قد لاحت لواحد منهم أو ربما لكلهم. فلماذا لم تنشأ جماعة المؤمنين هذه - التي كان أساس إيمانها الرؤى والأحلام! - في الجليل، وتضرب أصولها العميقة في تلك الأرض الطيبة اللينة، في ذلك الإقليم الذي كان موطن يسوع الروحي، والذي دوت في ربوعه تعاليمه، وسرى فيها سحر شخصيته؟ لماذا ينجذب كل الذين سحرتهم هذه الفورة إلى أورشليم إنجذاب الفولاذ إلى المغناطيس؟ ولماذا تزدهر هذه العقيدة غير المعقولة في الوسط الذي أُنكرت فيه، وتتأصل وتتماسك أمام الذين افتروا عليها وجحدوها؟

ليس لهذه الأسئلة إلاّ جواب واحد، هو الذي يتماشى مع الإجماع الرائع في القصة ومع منطق الحوادث التاريخية ومطاليبها - هو أن قصة زيارة النسوة الحقيقة التي لا كذب فيها - قصة تروي الوقائع عارية، وتمثل حقائق التاريخ أصدق تمثيل في أبسط عبارة.

* * *

وحين نقبل قصة النسوة واقعة تاريخية صادقة، لا أسطورة مختلَقَة في عصر متأخر، نتميز بين ثنايا رواية مرقس مميزات خاصة تدمغها بطابع الصدق والحق:

أنظر أولاً إلى شخصيات النسوة اللواتي زُرن القبر: كنا نحسبه غريباً حقاً ألاَّ يفكر أحد في أداء الواجب الأخير لصديق كريم ودود مثل المسيح. وكنا نحسبه أغرب من هذا لو أن الباكين عليه كانوا من غير النساء، أو غير اللواتي ذكرت القصة أسماءهن. والحق أن هؤلاء النسوة بالذات يناسبنَ الموقف أتمّ مناسبة، لأن يسوع كان سيدهنّ ومعلمهنّ، وكنَّ له تابعات مخلصات. فلو كان قيل لنا أن كلوديا بروشلا، أو لعازر، أو حتى نيقوديموس، هم الذين قاموا بهذه الزيارة الخفيّة للقبر، لكنا نرتاب في الأمر بعض الريبة، إذا انتفت الأدلة القوية التي تسند القصة. ولكن مَن كان أولى بهذه الخدمة الأليمة على النفس للزعيم المائت من أمهات صحابته، والمرأة التي انتشل حياتها من وهدة البؤس والشقاء؟

أجل، حين نقبل هذه القصة حقيقة تاريخية، نراها مؤسسة على دعائم صلدة، هي دعائم الإختبار البشري المحض.

ونظرة أدقّ إلى القصة نستبين منها صدقها إذا حسبناها واقعة تاريخية، وبطلانها إذا اعتبرناها أسطورة مختلَقَة. فإن البشير مرقس يقول إن النسوة هربنَ مهرولات بعد اللقاء الذي أفزعهنَّ عند القبر، والأسلوب الذي يصف به هذا الهرب يدل على ذعر وهلع: «خرجن سريعاً وهربن من القبر لأن الرعدة والحيرة أخذتاهنّ، ولم يقلن لأحد شيئاً لأنهن كنَّ خائفات....».

ولسنا نعرف الكلمات التي ختم بها الكاتب هذه العبارة، لأن هذا الأثر الشهير الخالد ينقطع فجأة عند هذه النقطة. على أنه مهما تكن الألفاظ الختامية فإن المعنى واضح من سياق الكلام. فالنسوة قد قررن فيما بينهنَّ - بعد أن شهدنَ الدفن عصارى يوم الجمعة - أن يقمنَ بواجب التكريم والمحبة نحو يسوع في الصباح الباكر من يوم الأحد. وكانت زيارتهن خفية. ويرجع بعض هذا التستُّر إلى أن البستان كان ملكاً خاصاً كما هو المرجح. والأغلب أنهن كنّ خائفات من الكهنة وزعماء اليهود. وإنكار بطرس لسيده في فناء رئيس الكهنة أقرب دليل على الخطر الذي كان يتعرض له مَن تربطه صلة - ولو من بعيد - بصحابة ذلك الناصري، في تلك الساعات العنيفة الجامحة التي أُطلقت فيها الشهوات والنزوات عن عقالها.

بدأ النسوة السير حسب تدبيرهنَّ السابق قبيل الفجر، في ساعة يقلُّ فيها المارة ويخلو البستان حسب تقديرهنّ. ولم يكنَّ يتوقعن أي شيء خارق للعادة. وانحصر كل همهنّ في الحجر الذي عرفن من قبل حجمه، وخشينَ أن لا يقدرنَ على دحرجته. وبعد أن أدار النسوة أبصارهن ذات اليمين وذات الشمال لئلا يكشف أحد أمرهنَّ، تقدمنَ بهدوء نحو القبر، ولكن بعد دقائق معدودات كنت تراهنَّ هاربات مهرولات من مدخل البستان إلى الطريق العام.

هذه هي قصة مرقس في عبارتها الصريحة، تصّور واقعة من الحياة أصدق تصوير. وما يعتورها من نقصٍ كأسطورة مختلَقَة، هو أقوى دليل على صدقها التاريخي. فذُعْر النساء ورعبهنّ، وعجزهنّ عن الوقوف واستقصاء جليَّة الخبر، وتقهقرهنَّ السريع وصمتهنّ الخائف - كل هذه تبدو عناصر غريبة في قصة اختلقها الراوي بعد ثلاثين سنة من وقوع الحادث لإثبات عقيدته. ولكن حين ننظر إليها كحقيقة تاريخية، نحسُّها كنسيم من الحق يهفهف ليناً وادعاً في جّو البستان، في ذلك الصباح الرائع في تاريخ الإنسانية.

* * *

ونرى في هذه المسألة حقيقتين بارزتين من الحقائق التاريخية اليقينية: أولاهما أن طائفة من النسوة من صحابة يسوع ذهَبنَ إلى القبر في الساعات المبكرة من صباح الأحد. والثانية أنهن هربن من البستان في حالة من الذعر والهلع. ويخيّل إليَّ أننا مضطرون إلى التسليم - بغضّ النظر عما روته بشارة مرقس - بأن النسوة لقينَ إنساناً عند القبر، وهو ما يعلل اضطراب أعصابهن وفرارهن السريع - فلو كان البستان خاوياً مهجوراً، ولو كنَّ قد وجدن فقط القبر خالياً (أو حتى مختوماً ومغلقاً)، لوقفن حائرات مذهولات، ولما هربن خائفات مذعورات. ولكن ظهور إنسان في تلك الساعة المريبة هو الذي صدَم أعصابهنَّ فهرولنَ لا يلوينَ على شيء. وأرجو أن يقف القارئ عند هذه النقطة متأملاً مفكراً:

وإنه طبيعي أن يضطرب المرء ويجزع حين يلقى فجأة وعلى غير انتظار إنساناً آخر في داخل قبر وفي ساعة مريبة من ساعات الفجر الغابشة. فإن موقفاً كهذا يحفل بطبيعة الحال بشتى الإحتمالات المرعبة، وينشأ عنه ذلك الجزع العقلي والأدبي الذي أشار إليه مرقس في روايته. وغير خافٍ أن هذه الزيارة إلى القبر كانت مجازفة خطيرة حافلة بكل أنواع المخاطر، ولم يقع اختيار النسوة الأمينات المخلصات على ساعة الفجر صدفة واتفاقاً، ولم يكن ذكر الرواة لها تدبيراً مفتعلاً لحبك القصة، إنما كانت الفرصة الذهبية السانحة لهنَّ، وكل دقيقة تمضي بعد شروق الشمس تجعلهنَّ أكثر عُرضة للخطر. ومن بدء الأمر خاف النسوة لئلا يراهنَّ أحد، وهذا هو المعنى الذي تحمله رواية البشير مرقس.

* * *

إذن نقف الآن وجهاً لوجه أمام حقيقة شائقة حقاً، ونرى القصة كيفما قلّبناها تشعّ بنور الحق والصدق. وأنت إذ تقرأها لا تحسُّها قصة مبتكرة كُتبتْ بعد سنوات طوالٍ لتسند النظرية المسيحية عن القيامة، بل تتمثلها ذكريات صريحة أصلية عن حدث وقع فعلاً. الحق أن القصة كما دُّونت في بشارة مرقس، ذلك الأثر القديم الخالد، ليست إلاَّ من الحقائق التاريخية المحضة. ولن نفهم مشكلة القيامة فهماً صحيحاً حتى ندرك أن قصة مغامرة النسوة في الذهاب إلى القبر كما روتها تلك الوثيقة التاريخية القديمة تمثل أصدق تمثيل الوقائع التي جرت، لا من حيث ذهاب النسوة فقط وهربهن عند رؤية شخص آخر هناك، بل أيضاً من حيث أن المكان الذي ذهبنَ إليه هو القبر الأصلي الذي وُضع فيه جسد يسوع.

والذي أرجوه أن يخلوَ القارئ بنفسه إلى مكان هادئ ويفكّر في الأمر ويستخلص ما يجرُّه إليه تفكيره من نتائج منطقية. وليذكرْ قبل كل شيء أن كل الفروض والمزاعم التي أثارها ألدُّ أعداء المسيحية وأصلب النقّاد عوداً، ممن حاولوا تعليل مظاهر القيامة من أقدم العصور - كلُّهم قد افترضوا فرضاً أساسياً، هو خلّو القبر الأصلي من جسد المسيح.

ومن الغريب أيضاً أنه لم يفكّر أحد في أن يواجه صحابة يسوع - وخصوصاً النسوة - بذلك الإنسان الذي عرف يقيناً ما حدث، لأنه كان هناك شاهد في البستان في صباح ذلك اليوم. فإن كان ذلك الشاب الذي تخيّله النسوة في البستان هو البستاني، فلماذا لم يُسأل، وعنده الخبر اليقين لأنه شاهد عيان؟ فإنه ليس معقولاً أن يذكر مواجهته لثلاث من النسوة المذعورات في ساعة كهذه غير منتظرة، وللغرض الذي جئن من أجله.

أجل، كان هناك الشاب الذي يمكن له أن يدلي بالقول القاطع. فهل يجوز لنا أن نتصور - مع وجود هذا الدليل - أن أعداء صحابة المسيح، وهم كثيرون، يغفلون عن مثل هذا التفكير، ويفلت من أيديهم دليل حاسم كهذا؟

لا نظن ذلك. وهذا الجواب وحده كافٍ لدحض النظرية القائلة إن النسوة أخطأن في التعرّف إلى القبر. وحسبُ القارئ أن يفكّر في السنوات الأربع التي نشطت فيها الدعاية فلقيت نجاحاً باهراً، وأن يفكّر في المناقشات الأسبوعية والمنازعات الجدلية في مجامع اليهود، وفي الحوار والنقاش بين الأفراد عن حقيقة المسيح أهو المسيا أو غيره، وأن يفكّر في الصدوقيين ذوي الكرامة والمقام الرفيع الذين لم يألوا جهداً في كبح جماح الدعوة وطمس معالم القضية، وفي قوة المقاومة التي ثارت فجأة يغذيها عقل منطقي جبار وعزيمة عنيدة صلبة - هو عقل شاول وعزيمته....

حَسْبُ القارئ أن يفكر في هذه الأشياء التاريخية البارزة، ثم يفكّر أن الدليل الذي كان في مقدوره أن يقضي على كل هذه الفقاقيع، لا يبعد أكثر من نصف ميل يقطعه الكهنة لإستنطاق البستاني!!

وأنا مقتنع شخصياً أنه لم يكن مستطاعاً لأية جماعة من الرجال أو من النساء، تنادي في أورشليم بتعليم منطوٍ على خلّو القبر، ما لم يكن ذلك القبر خالياً حقيقة. فالحقائق كانت كلها قريبة إلى الأذهان، والقبر كان ملاصقاً للحياة التي عجّت بهذه الدعوة الغريبة. ولم يكن في مقدور أية وسيلة من وسائل الإقناع في العالم أن تشتري هذا الصمت الرهيب الذي التزمته الآثار والعاديات، ولا ذلك الإجماع الرائع المؤثر الذي نلمسه في الوثائق التاريخية. وليس يقدر على الظفر بهذا كله إلاَّ الحق الأبلج في صراحته وبساطته.

* * *

وأريد هنا أن ينتبه القارئ أيضاً إلى نقطة غريبة مليئة بالمعاني في القصة، ما أظن أنها لقيت من الرعاية والتفكير ما تستحقه. تلك هي حادثة الشاب الذي قيل عنه في رواية البشير مرقس إنه أفزع النسوة إذ رأينَه داخل القبر. ولم يترك البشير مرقس في روايته شكاً في موضع ذلك الشاب، فلا حاجة بنا إلى أن نسأل أكان الشاب واقفاً على مقربة من القبر أم كان يعمل على مسافة منه، لأن الراوي يقول في صريح اللفظ عن النسوة إنهن «لمّا دخلنَ رأينَ شاباً جالساً عن اليمين». فكأنه كان محجوباً عن الأنظار، ولم يُكشف أمره إلاَّ حين همَّ النسوة بالدخول إلى القبر. ومن هنا كان فزعهنّ وهربهنَّ. ولو كان ذلك الشابُ البستاني المعيّنَ هناك، ولو كان يعمل في تلك الساعة في العراء، لما أقبل النسوة نحو باب القبر. بل كنَّ يترددنَ ويقفنَ على مسافة منه حتى لا يراهنَّ، بل لفكّرن في العودة متخفّيات متسللات. على أن هذه ليست الصورة التي ترسمها رواية مرقس، فإنها تمثّل فزعاً طارئاً حلَّ بهنّ، وذعراً أخذهنّ وهنّ غافلات عند باب القبر، ما لم يكنَّ متأهبات له.

وإذا كان عنصر المفاجأة والذعر من مقّومات الصورة التي رسمها البشير مرقس، فماذا عسانا نقول عن مهمةّ ذلك الزائر، وماذا كان يفعل في ذلك المكان؟ إن داخل القبر المظلم المهجور، لا يصحُّ أن يكون مكاناً يستريح فيه عامل منهوك القوى في ساعة الفجر الباكر. وإذا كان هو البستاني فماذا كان يفعل داخل القبر، وقد كان في وسعه أن يستريح خارجه في مكان ظليل يستروح نسمات الفجر العليلة؟ وما الحاجة إلى طلب الراحة في جّو القبر الخانق، بعد أن تكون قد بزغت أنوار الفجر من المشرق؟ ليس هناك سبب مفهوم يحمل إنساناً بشرياً عادياً على اللجوء إلى غرفة من غرف الموت الرطيبة وفي ساعة غير منتظرة، إلاّ إذا كان ذلك الإنسان قد جاء وفي نفسه غرض معين، مسوقاً إلى القبر بدافع قويّ واهتمام شديد.

وما من شك أن هذا الإهتمام الشديد بالقبر ومَن فيه هو الذي يعلل ذهاب الشاب إلى القبر في ساعة كهذه، ثم جلوسه في داخله. وما من شك أن فكرة عنيفة قد ألحَّت عليه وهو في ذلك القبر الفارغ، لا سيما حين رأى الأكفان موضوعة في مكانها والجسد ليس ملفوفاً فيها. ونقدر أن نتصوره جالساً مستغرقاً في التفكير في هذه الظاهرة الغريبة، وإذا به يسمع وقع أقدام وهمسات أصوات. وبعد لحظة يقع على المشهد ظل إمرأة تطلُّ من الخارج، فيظلم النور الضئيل الباهت المنبعث من الباب، ويخرج الشاب سريعاً ليرى من القادم، فإذا بثلاث نسوة مضطربات يجرين في خوف وحيرة.

* * *

وهناك سبب آخر أقوى من هذا يحملنا على اليقين أن المكان الذي زاره النسوة لا يمكن أن يكون إلاّ قبر المسيح الأصلي. ولا ريب أن مريم المجدلية وصاحباتها قد روينَ قصتهنَّ عند سنوح أول فرصة حرصاً على سلامتهنّ وسلامة التلاميذ. ومن السخف والحماقة أن يزعم إنسان أن ثلاثاً من النسوة (بينهن اثنتان قد شارفتا على دور الكهولة) يجزْنَ اختباراً عنيفاً كهذا، له أثره العميق في عقولهن، دون أن يقلنَ شيئاً عنه لأقرب الناس إليهنَّ. ولا ريب أن التلاميذ كانوا على علم بالقصة قبل يوم الخمسين المشهور.

وهنا نصطدم بحقيقة لها خطورتها التاريخية العظيمة، وهي أن التلاميذ لم يلجأوا إلى هذه القصة كدليل على قيامة المسيح. فأنت لا تجد كلمة واحدة عن اختبار النسوة في كل عظات يوم الخمسين، يوم بدأت الحركة المسيحية سيرها التاريخي الظافر. كما أنك لا تجد أية إشارة إلى هذا الإختبار في كل الخطب التي سجلها سفر الأعمال، وكأنما قد تأيد صكُّ الكتمان هذا بذلك الصمت الغريب عن هذا الحادث في رسائل الإنجيل، ومنها رسالة بولس إلى كورنثوس، التي كنا ننتظر أن نجد فيها تلميحاً إلى حادث النسوة عند كلامه عن القيامة. وإنه لمن الغريب حقاً أن نلحظ في كل هذه المؤلفات والرسائل إغفالاً لهذا الحادث يكاد يبلغ حدّ التعمُّد في الإخفاء والكتمان. ومع ذلك فإن لوقا البشير الذي لعب دوره في عمل الكنيسة الأولى، والذي كان رفيقاً لبولس في رحلاته شهوراً طوالاً، عرف القصة لأنه رواها في بشارته. كذلك عرفها مرقس الذي قضى أيضاً مع بولس زمناً.

فما علّة هذا الكتمان الملحوظ لمظهر أخّاذ من مظاهر القيامة، قُدِّر له أن يكون فيما بعد من أحبّ الذكريات المسيحية وأروعها؟ ولماذا نجد قصة النسوة على نقيض ذلك قد احتلّت مكانتها الرفيعة عند ظهور كتب السيرة التي وضعها البشيرون وسجلوا فيها الحوادث والأحاديث التي استخلصوها من ذكريات الكنيسة مما نُقش بأحرف من نور على أذهان الأنصار والتابعين؟ أراني أمام تعليل واحد يحلُّ هذا الإشكال حلاً مرضياً مقنعاً:

لنعُدْ إلى الساعات الأولى من صباح القيامة. وهناك أسباب - لا تخفى عن كل من يقرأ بشائر الإنجيل الكريم بإمعان - تحملنا على الظن أن الرسالة التي حملتها مريم المجدلية إلى المدينة بُعَيد الفجر، لم يكن مؤدَّاها أن يسوع قام، بل أن الجسد قد نُقل لأسباب لا تعلمها. وهذا هو الذي تشهد به رواية الإنجيل على لسان إحدى النسوة بعد دقائق معدودات من وقوفهن أمام القبر الفارغ.

وهنا نتصور النسوة الثلاث يركضن مهرولات بأقصى سرعتهن، بعد ذلك الإختبار المخيف عند القبر، نحو الطريق العام. وهنَّ لم يكنَّ في سنّ واحدة، فالمجدلية كانت شابة قوية، بينما كانت الأخريات والدتين لرجلين ناضجين في السنّ. فبعد أن بلغنَ الطريق العام، رأينَ أن تتقدم إحداهن مسرعة لإخبار التلاميذ، ويكاد يكون محققاً أن المجدلية هي التي تطوعت لهذه الخدمة لخفة حركتها وصِغَر سنها، تاركة المرأتين الأخريين تسيران وراءها على مهل. وبعد دقائق من هذا المشهد نقرأ عن إمرأة لاهثة مضطربة تطرق على باب دار في أورشليم، لتلقي رسالتها التاريخية المأثورة:«أخذوا السيد من القبر ولسنا نعلم أين وضعوه».

تلك كانت الرسالة، التي جاءت بها المجدلية إلى التلميذين بطرس ويوحنا وهي إن دلت على شيء، فعلى يأس ولهفة. ثم أني أميل إلى الظن أن المرأتين الأخريين المتقدمتين في السنّ، بعد أن رجعتا إلى البيت، روتا لصديقاتهما قصة كاملة مما حدث وخاصة عن الزائر الغريب الذي سبقهنَّ إلى القبر. وليس من المستبعد أن يكون قد خطر ببالهن أن ذلك الشاب هو ملاك من السماء. وهذا يعلل البيان الصريح في قصة عمواس التي رواها البشير لوقا في قوله:

«... بَعْضُ ٱلنِّسَاءِ مِنَّا حَيَّرْنَنَا إِذْ كُنَّ بَاكِراً عِنْدَ ٱلْقَبْرِ، وَلَمَّا لَمْ يَجِدْنَ جَسَدَهُ أَتَيْنَ قَائِلاتٍ: إِنَّهُنَّ رَأَيْنَ مَنْظَرَ مَلائِكَةٍ قَالُوا إِنَّهُ حَيٌّ» (لوقا ٢٤: ٢٢ و٢٣).

وهكذا تقضّت الساعات الأولى من الصباح في غمرة من الحيرة والإضطراب والتساؤل حول معنى الحوادث التي جرت في البستان.

ولو أن الأمر انتهى عند هذا الحد، لاتّخذ سير التاريخ طريقاً آخر، لأنه لم يكن شك في أن التلاميذ كانوا بطبيعة الحال يقبلون شهادة النسوة كبرهان قوي بعد أن يكونوا قد اقتنعوا أن الرب قام، وكانوا أيضاً يبحثون في هّوية الشاب الذي وُجد عند القبر، بل أن حادث اللقاء الغريب كله في البستان كان يُوضع على بساط الجدل والمناقشة....

على أن الحوادث، حسب قول رواة الإنجيل، قد اتخذت طريقاً غير هذا، فإنه قبل أن ترتفع شمس الضحى، ذاعت إشاعة في طرقات المدينة وأسواقها، من مصادر مسئولة بين حرس الهيكل، مؤداها أن التلاميذ سرقوا جسد الناصري (متى ٢٨: ١١ - ١٥).

وكانت ضربة ظالمة قاسية هوت فجأة على رؤوس نفر مضطرب من الناس لم يلمّوا شعثهم بعد الهرب في ليلة الخميس. وقد هدّدت هذه الإشاعة الكاذبة سلامة كل من يمتُّ بصلة إلى الناصري من قريب أو من بعيد. فاضطر التلاميذ في مساء ذلك اليوم أن يجتمعوا خفية وراء أبواب مغلّقة. وفي تلك الليلة كما تقول الأحاديث المسندة، بدأ المسيح يظهر لهم من عالم الخلود، في عالم الحسّ والشعور.

ومع الإضطراب الذي اعترى القوم الذين شهدوا هذه الحوادث وسمعوها، فإن حقيقة واحدة تبدو صافية صفاء البلّلور، هي خلّو القبر من الجسد. وحين ندرك هذا، نفهم الأسباب التاريخية التي دعت إلى إخماد قصة النسوة والسكوت حيالها.

والذي أراه أن اختبار النسوة لم يُلجأ إليه كدليل في المناقشات التي دارت بين المسيحيين واليهود في ذلك العصر الأول لسببين:

أولهما، أن قصة النسوة لا تبرهن في الواقع على شيء ينكره الجانب الآخر. فإنَّ كل ما نخرج به من القصة هو أنه حوالي الساعة السادسة من صباح الأحد لم يكن جسد يسوع في القبر حيث وضعه يوسف الراميّ، فما فائدة القصة في أثبات واقعة كانت شائعة بين الناس، وقد اتخذها الأعداء مادة لتهمة خطيرة ضد التلاميذ أنفسهم؟

والثاني، أن القصة تحمل بين ثناياها نقطة ضعف لقضية التلاميذ، وذلك لأنها تعترف أن فريقاً من صحابة يسوع كانوا فعلاً على مقربة من القبر في ساعة مريبة وفي ظروف تدعو إلى إثارة الشبهات. ولا يخفى أن في هذا الإعتراف خطراً على التلاميذ في ظروفهم الخاصة. ومن أصول الدفاع السليم في تهمة خطيرة أن يُثبت الإنسان عدم وجوده في المكان والزمان اللذين وقعت فيهما الجريمة. فإذا أُتهم أحدهم مثلاً بجريمة قتل في مدينة القاهرة، واستطاع أن يثبت بالدليل أنه في ساعة ارتكاب الجريمة كان نائماً في بيته في الإسكندرية، أو غائباً في مدينة القدس مثلاً، فمن المرجح جداً أن يُطلق سراحه. أما إذا اعترف في التحقيق بأنه كان يجول على مقربة من المكان الذي وقعت فيه الجريمة بُعَيد وقوعها، وأنه كان يبحث فعلاً عن الشخص المقتول، فإن هذا الإعتراف يقّوي الشبهة ضده ويزيد مصاعب محاميه الذي يتولَّى الدفاع عنه عشرة أضعاف.

هذا هو الموقف، كما أفهمه، الذي كان فيه أتباع يسوع. فلقد اتُّهموا علانية بأنهم سرقوا الجسد. ولم يكن من الميسور دحض تهمة كهذه، حتى لو توفّرت لهم حرية القول والظهور بين الناس، فما قولك وقد كانوا مختفين وراء أبواب مغلّقة؟ وكيف يرون من أصالة الرأي، وهم على تلك الحال من الذعر والخوف أمام تهمة شنيعة، أن يعترفوا جهاراً أن النسوة منهنَّ كنَّ عند القبر؟ أليس في هذا الإعتراف تسليم السلاح للخصوم الذين كانوا يذيعون بين الناس أن المسيحيين باعترافهم كانوا يحومون حول البستان في ساعة الفجر، وهذا دليل يثبت عليهم تهمة سرقة الجسد؟

وكل باحث منصف في القضية يرى أن الظروف قضت على التلاميذ أن لا يكثروا من التحدث عن زيارة النسوة إلى القبر في ذلك الأسبوع الأول الذي كانت تترصَّدهم فيه المخاطر وتبطن لهم الأيام ما كانوا يجهلون من حادثات. ومن الغريب أن تمنُّع المسيحيين الأولين عن الإشادة بزيارة النسوة للقبر قد امتدَّ زمناً في السنين الأولى من تاريخ المسيحية.

وأنت لا تقرأ الفصول الأولى من سفر الأعمال وبياناتها المفصلة عن الدعاية المسيحية البدائية، إلاَّ ويأخذك العجب من اختفاء كل نزاع وجدل في موضوع القبر. ولو كان هناك شك في اختفاء الجسد، لاضطر المدافعون عن العقيدة المسيحية بقوة ضغط الحوادث إلى وضع قصة النسوة في مقدمة الأدلة، وكان عليهم، قبل السير في دعايتهم، القضاء على هذه الشكوك أولاً بكل ما ملكت أيديهم من أدلة الإثبات.

على أن التلاميذ لم تعوزهم الحالة إلى التورط في مثل هذا النزاع العقيم، فإن حقائق القبر الفارغة كانت معروفة بحيث أحسّوا أن حملتهم تلقى أوفر النجاح في أورشليم ذاتها حيث كان القبر الفارغ المهجور. وبهذا هان عليهم (كما يؤخذ من سفر الأعمال) أن يركّزوا جهودهم في الأمرين الجوهريين اللذين شطرا اليهودية شطرين وهما: أن يسوع هو المسيا الموعود به، وأنه قد أُقيم بيمين الله القادرة. ولم يكونوا يستطيعون أن يبلغوا هذا الطور في دعايتهم الأولى، لو لم تكن قد صارت قصة القبر الفارغ حقيقة مفروغاً منها، معلومة للقريب والبعيد.

* * *

وهكذا نرى كيف نُسيت قصة مغامرة النسوة إلى القبر إلى جانب الحقائق الجوهرية الأخرى التي قررتها الحوادث. ولم تبق ذكراها إلاّ في عقول النسوة أنفسهنَّ، لأنهن هنَّ اللائي دبَّرنَ القيام بخدمة إنسانية كريمة لجسد سيّدهن في ساعة تعرَّضن فيها للخطر وسوء المصير. وكانت القصة معروفة أيضاً للتلاميذ أنفسهم، وما من شك أنهم كانوا يتناقلونها في الساعات الهادئة التي كانوا يلقّنون فيها التعليم الجديد للكنيسة الناهضة. وكان من آثار تلقين القصة في كنائس أوروبا وآسيا أن رواها الكُتّاب في بشائر الإنجيل، على أن وراء إثباتها في السفر المقدس، الحقائق التاريخية الصريحة التي لا تُمارى.

وحين ندرك هذا كله، نستطيع أن نفهم بعض المعنى الذي تضمنته تلك الوثيقة العجيبة التي أطلقت عليها في بحثي اسم بشارة مرقس البدائية. فإنه بعد سنوات حينما أخذت تزول الآمال في مجيء المسيح السريع كما كانوا يتوقعون، وحينما أخذت الكنيسة تستقر في وضعها التاريخي، أحسَّ القوم بحاجتهم إلى تدوين الحوادث البارزة في سيرة يسوع وموته. وكانت أولى تلك السير بشارة مرقس الشهيرة. وإن كان كتبها يوحنا مرقس، فهو بلا شك أَوْلَى الناس بكتابة هذه السيرة وخاصة فصولها الختامية. فقد كان من أهل أورشليم، وقضى سني شبابه في فترة من التاريخ عاصفة مضطربة.

ويبدو لنا من دقة سرده للحوادث، وإخلاصه في تسجيل التفاصيل الصغرى- أنه ثقة وحُجَّة في حوادث الأسبوع الأخير. فلا يستطيع، إلاَّ كاتب واقف على بواطن الأمور وخفايا الحوادث، أن يرسم تلك الصورة البديعة التي انعكست عليها أنوار القمر الفضية في بستان جثسيماني. وفي قصة مغامرة النسوة دقائق وصفية تدلُّ على أن كاتبها يكتب عن ثقة وصدق.

وقد آمن مرقس أن يسوع لم ينبئ مقدماً بموته فقط، بل بقيامته أيضاً. وآمن أيضاً أنه صرَّح بهذا قبيل موته في طريقه إلى جثسيماني. وبهذه الأفكار التي اختلجت في عقله، وبالمعلومات التي استقاها من مصادر وثيقة، صاغ قطعة رائعة من الأدب الوصفي التاريخي، وهي تمتاز عن زميلاتها بإيجازها في الموضوع الجوهري، وبصفاء أسلوبها في السرد القصصي.

فهو يصف اليقظة في البستان، والقبض في منتصف الليل، بألفاظ مستندة إلى الحقائق الصريحة، ثم يسرد بيانات رائعة صافية عن المحاكمة أمام قيافا، وسقطة بطرس، والمحاكمة الرومانية، والطريق إلى الجلجثة، والصلب. كل هذا بأسلوب رائع في بساطته، أخاذ في عمق تأثيره، حتى أن القارئ يحسّ، على حدّ قول أحد كتّاب الإنكليز، أن الحجارة تتدحرج عليه.

ثم يصف كيف ذهب يوسف الراميّ، في الساعة التي بلغت فيها المأساة ذروتها، إلى بيلاطس ملتمساً أن يُؤذن له بدفن جسد الميّت، وكيف اقتفى النسوة الباكيات الحزينات خُطى الراميّ ليعرفنَ موضع الدفن، وكيف أُحكم الحجر الكبير على باب القبر في الساعة التي غَرُبت فيها الشمس. ويصف أيضاً كيف أعدّ النسوة الحنوط والأطياب في فجر الأحد وذهبن إلى القبر.

* * *

وفي بحث ما يعقب هذا، ينبغي ألاّ ننسى أن مرقس كان يسجل كتابةً اختبارات يوم القيامة ربما لأول مرة. ولأن قصة النسوة لم تلقَ العناية الأولى بين الدعايات التي نادى بها الرسل الأولون، فقد انفسح المجال لاختلاف كبير في الرأي والعقيدة إزاء ما حدث فعلاً عند القبر. لذلك كانت مهمّة شاقة دقيقة تلك التي تصدَّى لها مرقس حين أراد أن يسجل كتابة حوادث تلك الأيام. وقد كان شاباً يافعاً في وقت الصلب، فكان أحد الأحياء الباقين القليلين في الكنيسة الأولى. وهو قد عاش في أورشليم أثناء ذلك الأسبوع الخطير المفعم بالحوادث - وعرف جوهر الحقيقة كما عرفها التلاميذ الاصليون.

وقد خُيّل إلى بعضهم أنه كان من المستغرب ألاّ يعمد النسوة إلى إذاعة نبأ القيامة سريعاً، واستدعاء أورشليم كلها لرؤية القبر، ولكن مرقس عرف الحقائق. ولكي يشبع هذه الرغبة في المتسائلين كتب عبارة تبدو مقتضبة، قال:

«لم يقلنَ لأحد شيئاً لأنهن كنا خائفات...»

وقد كُتب الشيء الكثير تعليقاً على هذه الآية، وأراد الكاتبون أن يثبتوا أن النسوة صمتن صمتاً مطبقاً وكفى. ولسنا ننكر أن هذا موقف غريب من جانبهنَّ، ولكن ها هي الكلمات تنطق بما حدث ولا تخفي تحتها معاني أخرى.

وليس حقاً ما يذهب إليه بعض النقاد حين يزعمون أن صمت النسوة كان بلا قيد ولا شرط. فإن البشير أضاف عبارة، كأنما أراد أن يجيب على ما قد يجول بفكر من يقرأ روايته من تساؤل. فقد يقول الناس: «إن كان النسوة قد كشفن القيامة في ساعة مبكرة من صباح الأحد، فلماذا لم يوقظن كل أورشليم لتشهد ما رأين؟» ومرقس يجيب على هذا التساؤل: «لم يَقلن شيئاً لأنهنَّ كنَّ خائفات....»

فإلى قائمة الشهود الذين كنّا نفحص شهادتهم في هذه الفصول - بطرس الصياد الذي وقف في صدر المعركة في أورشليم، وكُتّاب البشائر لوقا ومتى ويوحنا، ويعقوب العادل، وشاول الطرسوسي، ومؤلفي أسفار الأبوكريفا غير القانونية وبشارتي بطرس ونيقوديموس، بل شهادة الحجر الأصمّ ذاته - إلى هذه كلها نضيف أخيراً شهادة أخرى هي شهادة مرقس في بشارته التي نعتبرها أشهر وثيقة موجزة العبارة في عالم الأدب والتاريخ.

الفصل الخامس عشر: خادم الكاهن

ترى مَن هو ذلك الشاب - لو صحَّ هذا التعليل الذي ذهبنا إليه - الذي سبق النسوة إلى القبر، وشاركهنَّ اختباراتهن في ذلك الفجر المأثور في التاريخ؟ لعلّنا لا نعرف. فإنه إذا كان مرقس البشير قد أخفى إسمه، فلأسباب وجيهة. على أن في هذا الموقف فكرة أجرؤ على أن أُبديها، وهي تحتمل كثيراً من الدرس والتمحيص:

ولو فكّر القارئ ملياً في الآيات الثماني الأخيرة من بشارة مرقس (فصل ١٦ آية ١ - ٨) ذاكراً أنها أقدم الروايات عن الحادث، يجد نفسه متأثراً بحقيقة بارزة - وأعني بها خلّو القصة من أي تصريح أو تلميح إلى كيفية دحرجة الحجر من تلقاء ذاته. فإن ستاراً كثيفاً يُسدل فجأة على ختام الدفن في عصارى يوم الجمعة، ولا يُزاح إلاّ في فجر الأحد حين يُقال إن الحجر قد دُحرج. فلماذا هذا؟ ألم تعرف الكنيسة شيئاً حتى سنة ٥٨ ب.م. عما حدث في تلك الفترة العصيبة، أم أن مرقس كتب روايته تحت ضغط كثير من التحفُّظ والتمنُّع؟

هذه نقطة جديرة بالتفكير، لأن هذا التحفّظ نفسه في الإشارة إلى علَّة دحرجة الحجر يبدو واضحاً في الروايات الأخرى التي رواها لوقا ويوحنا. فيقول لوقا:

«ثم في أول الأسبوع أتين (أي النسوة) إلى القبر حاملات الحنوط الذي أعددنَه. فوجدن الحجر مدحرجاً عن القبر. فدخلنَ ولم يجدنَ جسد الرب يسوع»

ورواية يوحنا لا تقل عن هذه غرابة وتحفظاً:

«وفي أول الأسبوع جاءت مريم المجدلية إلى القبر والظلام باق. فنظرت الحجر مرفوعاً عن القبر، فركضت....».

وفي كلتا الحالتين يجيء النسوة إلى القبر، ويجدن الحجر مدحرجاً، دون أن يشير البشيرون إلى كيفية حدوث ذلك. أما حين نقرأ رواية متى، نراه يقول أن ملاكاً نزل ورفع الحجر عن القبر.

والشيء المهم في الأمر أننا حين نقرأ كتابات الأبوكريفا غير القانونية، لا نجد أي تلميح إلى أن السيد نفسه هو الذي رفع الحجر بيده، بل أجمعت كلها على أن الحجر دُحرج من تلقاء نفسه، أو أن كائنات علوية هي التي نزلت ودحرجته. ولسنا نجد في أية رواية إشارة إلى أن يسوع نفسه هو الذي دحرج الحجر.

فلماذا لم يقل أحد إن السيد نفسه، بقوته واقتداره، أزاح الحجر وأطلق نفسه من قيود القبر؟ ولماذا أجمعت كل الوثائق التي تصدَّت إلى هذه القصة على أن الحجر قد دُحرج من الخارج، إما بيد ملاك أو بقوة غير منظورة؟

أراني هنا أمام حقيقة تاريخية بعيدة الغور عميقة المعنى - حقيقة ألحّت على كل كاتب وحملته أن يتخذ سياقاً آخر في حديثه. فإن دحرجة الحجر لم تُعْزَ إلى قوة الرب المقام، لأنه كان في أورشليم أناس وقفوا على بواطن الأمور التي حدثت في ساعات الظلمة التي سبقت بزوغ فجر يوم الأحد. وهذه الحقائق التي عرفها الناس حالت دون الإفتراضات والمزاعم. وللتدليل على ذلك لا مندوحة من الرجوع مرة أخرى إلى قصة الحراس الغريبة المبتذلة.

بيّنْتُ فيما سبق أن الكهنة ذهبوا إلى بيلاطس عصارى يوم السبت أو بعد الغسق ليلتمسوا منه أن يقيم على القبر حرّاساً - وهو تحّوُط مرغوب فيه لأن رجال الشرطة خشوا أن يتطور موقف الجماهير بعد أن تزول موانع السبت وتعود إليهم حرّية العمل والقول - ولكن بيلاطس رفض هذا الطلب كما يشير إلى ذلك صراحة البشير متى. فلم يكن أمام الكهنة إلاّ مخرج واحد، وهو أن يعهَدوا إلى حرس الهيكل بمهمّة الحراسة.

وهذه الحقيقة تبدو لنا بارزة في أسلوب الضمان الذي قيل إن الكهنة أتحفوا به الأفراد الذين كُلفوا بالحراسة، حيث قيل على لسان الكهنة حين علموا بخلّو القبر: «وإذا سُمع ذلك عند الوالي فنحن نستعطفه ونجعلكم مطمئنين». وإذا كان الحراس من الفرقة الرومانية، وممن أقامهم بيلاطس كما كان يُظن، فإن هذا الضمان يبدو سخيفاً بعيداً عن المنطق كل البعد، لأن عقوبة النوم في وقت أداء الواجب كانت الحكم بموت الجندي. ولم يكن في مقدور حنّان، ولا قيافا، ولا أي فرد آخر من زعماء اليهود، أن يحمي جندياً واحداً من غضب روما.

على أنه كان في سلطة قيافا بحكم وظيفته كنائب رئيس كهنة، وصاحب الكلمة العليا في تقرير الشؤون المدنية في اليهودية، أن يحمي رجال جنده الذين رضخوا لأمره في حادث قيل إن الوالي الروماني نفض يده منه وفّوض الأمر فيه إلى السلطات اليهودية. والعبارة القائلة «وإذا سُمع ذلك عند الوالي....» تبيّن عدم إمكان حدوث شيء مثل هذا.

على أن هناك دليلاً آخر أهم وأوقع يثبت صدق القصة التي دونتها الأسفار من ناحيتها التاريخية. وهذا نجده في كلمات الكهنة الأخيرة: «قولوا إن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه ونحن نيام»

تُرى ما ضرورة هاتين الكلمتين في وثيقة مناصرة للمسيحية ذاعت في طول فلسطين وعرضها، لو لم تكن تمثّل أمراً واقعاً وحقيقة فعلية في التهمة الأصلية؟ لنفرض جدلاً أنه كان لقصة إقامة الحراس عند القبر قيمة دفاعية في نظر المسيحيين الأولين، لأنها جعلت من العسير على النقّاد المنصفين أن يصدقوا خطف الجسد. غير أن قوة هذا الدفاع إنما في بقاء الحراس ساهرين،ولم يكن للمسيحيين أدنى فائدة في حراس نعسوا أثناء الحراسة، بل إن هذه الدعوى تضرُّ بدفاعهم ضرراً بليغاً. فلماذا إذن ذكرت القصة هذه الإشارة الغريبة إلى نوم الحراس، لا في متن التهمة فقط، بل في القصة المسيحية التي روت الحادث؟

أعتقد أن حرَج الموقف ومنطق الحوادث، لم يتركا منفذاً للكهنة، لأنهم عجزوا عن الجهر بالحق كله. وقد يكون حقاً أن الحراس ناموا فعلاً من فرط الإعياء بعض الوقت في تلك الليلة المأثورة. وليس هذا الأمر بعيد الإحتمال حين نذكر أن الحراس جُرّدوا على عجل من فرقة شرطة الهيكل الذين ظلوا يعملون دائبين بلا انقطاع منذ ساعة القبض على المتهم في يوم الخميس الفائت. فضلاً عن أن السهر على حراسة بستان مهجور خارج أسوار المدينة في ساعات الظلمة، وفي ليلة من ليالي شهر أبريل، وبعد جهاد طويل لا راحة فيه، كان عملاً مملاً لا لذة فيه. وهم لم يروا أي أثر لطارق ليلي، فلا عجب أن يدركهم النعاس بعد مرور ساعات مضنية طوال.

ونحن لا نقدر أن نستوثق من حقيقة الأمر، فليس بين أيدينا من الوثائق ما يحملنا على الجزم بقول. على أن هناك تلميحاً في وثيقة غامضة منسيَّة، تلميحاً له عندي فيما أعتقد وزنه وقدره. جاء هذا التلميح في أثر قديم من الأسفار غير القانونية لم تبقَ منه إلاّ جُمل مبعثرة - وهو المسمى بإنجيل العبرانيين. وقد ورد بتلك الوثيقة نصٌّ يصف كيف ظهر يسوع بعد قيامته لأخيه يعقوب. وإليك هذا النص حرفياً:

«وبعد أن سلّم الرب ثياب الكتّان إلى خادم الكاهن، ذهب وظهر ليعقوب (لأن يعقوب هذا كان قد حلف ألاّ يذوق خبزاً من تلك الساعة التي شرب فيها من كأس الرب حتى يراه قائماً من بين الراقدين). ثم أخذ خبزاً وبارك وكسر وأعطى ليعقوب قائلاً: كُلْ خبزك يا أخي لأن ابن الإنسان قد قام من بين الراقدين»

تُرى ما الذي يسترعي نظرنا وفكرنا في هذه العبارة الغريبة؟ أول كل شيء أن الواقعة التي تتحدث عنها يؤيدها دليلان تاريخيان، مستقلٌّ كل منهما عن الآخر. أولهما أن يعقوب هذا أخا يسوع، على الرغم من عدائه في أول الأمر، انضم إلى حظيرة الكنيسة، واستُشهد في سبيل نصرتها، على قول يوسيفوس المؤرخ الشهير. والثاني ذلك الصوت الداوي الذي تردد صداه مدى الأجيال المنبعث من فم بولس الرسول قائلاً: «ظهر ليعقوب». واتفاق هذين الدليلين يخلعان على العبارة التي أوردناها من إنجيل العبرانيين معنى خاصاً.

تُرى ما التعليل الصحيح لهذه العبارة المستغربة التي تقول إن يسوع سلّم «ثياب الكتّان إلى خادم الكاهن». أهي محض اختلاق، أم فلتة من فلتات الخيال، أم نحن أمام ذكرى من الذكريات الغامضة لتفاصيل ما وقع في تلك الليلة؟ وهنا أرجو ألاّ يتسرع القارئ في الإجابة قبل التفكير.

وإن كان هناك شيء في العهد الجديد لا يمكن لأية قوة أن تتحدّاه، فهو حقيقة ظهور المسيح مرات بعد موته، فلا يمكن أن تكون هذه الظاهرة الرائعة من نسج الخيال، بل أنها تعبّر عن قوة عظيمة خفيَّة لم ندركها بعد، والتعليل الوحيد لها أن يسوع ظهر بشخصه فعلاً لتلاميذه أكثر من مرة.

ويدور في فكر، لا أستمدُّه فقط من تلك العبارة المفردة في إنجيل العبرانيين، يوعَز إليَّ أنه عند انبثاق الفجر في ذلك البستان الهادئ حدث أمر حمل أحد الحراس على أن يوقظ زملاءه على عجل ليروا القبر وقد يكون ذلك الحادث حفيفاً بين أوراق الشجر، أو قرقعة باب حمل النسيم صوته، بل قد يكون شيئاً خارقاً أشبه بما حدث فيما بعد لبولس فأذلَّه وألان روح عناده وعجرفته «ظهر لصفا... ثم للأثني عشر.... وظهر ليعقوب.... وآخر الكل كأنه للسّقط ظهر لي أنا»

فهل ظهر أيضاً أول ما ظهر إلى «خادم الكاهن» أي حارس الهيكل الذي أقامه اليهود على القبر؟

إن صحّت هذه الفكرة، فنكون قد عثرنا، ونحن لا ندري، على الجواب الصادق لسؤال من أعمق الأسئلة التي شغلت أفكار الكنيسة من عهد الآباء الأولين حتى اليوم - وهو لماذا وثق التلاميذ وثوقاً راسخاً من أن القيامة وقعت في الساعات الباكرة من صباح الأحد؟

«.... تألم على عهد بيلاطس البنطي، وصُلب، ومات، وقُبر، وقام أيضاً في اليوم الثالث...»

هذه عبارة قانون الإيمان القديم، وما من شك أنها تستند إلى أساس تاريخي متين، تأصلت جذوره في أعماق الحق والتاريخ.

مسابقة الكتاب

عزيزي القارئ

إننا نرحب باستلام أجوبتك على الأسئلة التالية. وجائزة لاجتهادك سنرسل لك كتابا قيما من كتبنا. الرجاء كتابة اسمك وعنوانك بكل وضوح.

  1. لماذا اختار فرانك موريسون الأيام السبعة الأخيرة من حياة يسوع على الأرض ليهدم بها قصة القيامة؟
  2. اذكر ثلاثة أسباب تبرهن أن القبض على المسيح تم في ساعة متأخرة.
  3. ما هي الاتهامات الثلاث التي وُجهت ضد يسوع وقت محاكمته؟
  4. لماذا أرسل شيوخ الكهنة قوة مدجَّجة بالسلاح، تعزّزها الاحتياطات المحكمة للقبض على يسوع، مع أنه أعزل وفي بستان موحش معزول؟
  5. لماذا يقول فرانك موريسون إن رئيس الكهنة التَقَى ببيلاطس قبل القبض على المسيح؟ وماذا كان موضوع الحديث في تلك المقابلة؟
  6. اشرح عبارة فرانك موريسون «عندي أن موت المسيح على الصليب، بالمعنى الجسماني الكامل، من الحقائق التاريخية التي لا يتناولها ريب أو شبه ريب».
  7. ما هي الحلول الستة التي قدمها الناقدون لحل مشكلة فراغ قبر المسيح من جسده؟
  8. كيف تبرهن أن يوسف الرامي لم ينقل جسد المسيح من القبر؟
  9. كيف تبرهن أن السلطات اليهودية أو الرومانية لم تنقل جسد يسوع من قبره؟
  10. كيف تبرهن أن يسوع مات فعلا على الصليب؟
  11. كيف تبرهن أن النسوة لم يخطئن الوصول الى القبر الذي دُفن فيه يسوع؟
  12. كيف ساغ لتلاميذ المسيح أن يؤمنوا بقيامته، بعد هروبهم ليلة القبض عليه؟
  13. برهن من عظة بطرس يوم الخمسين أن المسيح حقا قام.
  14. لماذا كانت شهادة يعقوب، أخي الرب، لقيامة المسيح شهادة قوية؟
  15. لماذا يعتقد المؤلف أن إعلان حقيقة حدوث القيامة في أورشليم أصعب من إعلانها في الجليل؟
  16. كيف أثَّر وجود قبر المسيح فارغا على شاول الطرسوسي فغيّر فكره؟
  17. لماذا وثق التلاميذ أن القيامة حدثت في الساعات المبكرة من صباح الأحد؟
  18. وضّح كيف قدَّم الحجر الأصم برهانا قويا على قيامة المسيح؟
  19. لماذا لم يركز المسيح على قصة القبر القارغ - كما روتها النسوة - لمَّا أذاعوا خبر قيامة المسيح؟
  20. من يكون خادم الكاهن - كما روى فرانك موريسون في الفصل الأخير من هذا الكتاب؟ وما دوره في برهنة حقيقة القيامة؟

عنواننا

Call of Hope
P.O.Box 100827 
D-70007 
Stuttgart 
Germany

 للاتصال بنا

:
:

الصفحة الرئيسية