عليه الصلاة والسلام
تأليف
أستاذ الدراسات القرآنية
جامعة القرويين: المغرب
طبعة خاصة
دار المعارف
الناشر: دار المعارف- 1119 كورنيش النيل- القاهرة ج.م.ع.
بسم الله الرحمن الرحيم
"إنما
يـُـريدُ الله ليُذهِب عنكمُ
الرُجْسَ
أهلَ البيْتِ ويُطَهرَكم
تَطهيرَا".
صدق الله العظيم
(سورة الأحزاب)
إلى أستاذى أمين الخولى:
زوجى الحبيب الذى تجلت لى معه آيةُ الله
الذى خلق لنا من أنفسنا أزواجاً لنسكن إليها
وجعل بيننا مودة ورحمة.
تحية ذكرى ووفاء...
عائشة
باسم الله أقدم هذه الطبعة الخاصة من كتاب (نساء النبى) رضى الله عنهن،
بعد أن نفذت منه نحو عشر طبعات متقاربة، فى مصر وبيروت.
ليأخذ مكانه مع تراجم سيدات بيت النبوة التى لقيتْ من إقبال القراء وتقديرهم، ما جعل طبعاتها تتوالى تباعاً.
وإذا كان رواج هذا الصنف من الدراسات فى تاريخنا الإسلامى، لافتاً إلى حاجة الحياة إليها، ومصححاً ما شاع فينا من أن القراء عندنا لا يطلبون من الزاد الفكرى والوجدانى إلا الرخيص التافه أو المسف المبتذل.
فإنه فى الوقت نفسه، يؤكد أن الوجدان القومى لأمتنا لم يفقد وعيه فى دوامة
الضجيج الإعلانى للبضاعة المجلوبة، بل ما يزال يطلب زاده من نبعنا الأصيل.
* * *
ولست أمُنُ على قراء هذه التراجم، أن بذلتُ لها ما استطعت من جهد مخلص .. بل هم الذين يمنون علىَ أن منحونى كل تشجيع ومؤازرة، فقد كان حسن استقبالهم لهذه الدراسات الجديدة فى البيت النبوى، مدداً لى: يعيننى على مواصلة الدرس، ويزودنى بطاقة على احتمال أعبائه ومشاقه، فى ظروف صعبة.
ولا بد لى من أن أشير إلى رغبة كريمة، أبداها بعض السادة القراء، ممن يؤثرون أن نطوى بعض أخبار عن الحياة الخاصة للمصطفى عليه الصلاة والسلام، تعلقت بها شبهات أعداء الإسلام.
غير أنى فى الحق، ألفيت أن طى هذه الأخبار يحجب عنا عبرتها، ويعطل تدبرنا لِهَدْى القرآن الكريم الذى حرص على أن يسجل منها ما يؤكد بشرية الرسول عليه الصلاة والسلام، كى يعصمنا مما تورطت فيه أمم غيرنا، نزهت رسلها عليهم السلام عن بشريتهـم، وأضفت عليهم من صفات الألوهية ما يشوب عقيدة التوحيد التى هى جوهر الدين كله.
وما كان لى أن أطوى ما لم يطوه الله تعالى، فى آيات عن بيت نبينا صلى الله عليه وسلم، نتعبد بها ونتلوها قياماً وقعودا وعلى جنوبنا، منذ نزل بها الوحى فى مثل آيات الإفك، والتحريم، والأحزاب، والنور..
وأنا بعد، لا أرى فى هذه المواقف، إلا آية عظمة فى نبينا الذى استطاع مع بشريته السوية، أن يضطلع بختام رسالات الدين، وأن ينقل بها الإنسانية إلى مرحلة الرشد، ويحررها من ضلال الوثنية وشوائب الشرك، ويقودها على مراقى طموحها إلى مُثُلها العليا وتحقيق وجودها الكريم ..
آية البطولة فى محمد بن عبد الله، أنه استطاع وهو بشر مثلنا، أن يدخل
التاريخ كما لم يدخله سواه، وأن يوجه سيره منذ بعث بدين الإسلام ..
* * *
أريد لأقول:
إننى فى كل ما تناولتُ من حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، لم أر فى شيء منه قط، ما أتحرج من عرضه، وقد كان مرجعى فيها جميعاً، القرآن الكريم والحديث الشريف، ومصادر إسلامية فى السيرة والتاريخ لا يرقى إليها أى شك فى حسن المقصد وصحة الإيمان.
ومنه تعالى ألتمس الهدى والتوفيق، سبحانه، عليه توكلت وإليه أنيب.
هذا حديث عن حياة محمد صلى الله عليه وسلم فى بيته، أعرضه فى صور متتابعة للسيدات الكريمات اللواتى أظلهـن هذا البيت، وكان لكل منهن أثرها فى حياة زوجهن المصطفى، ومكانها فى تاريخ القائد العظيم الذى وجه مسار التاريخ.
ولم أكتب كلمة واحدة من هذا الحديث، حتى قرأت ما فى مكتبتنا الإسلامية من مؤلفات تناولت هذا الجانب من حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام وحياة أزواجه أمهات المؤمنين. مبتدئة بالقرآن الكريم، والحديث والسيرة النبوية، والتفسير، ثم كتب التراجم والتاريخ، وضممت إليها ما وصل إلى يدى مما كتبه المستشرقون عن "محمد والإسلام" ..
على أنى حين بدأت أكتب، خليت هذا الحشد من المؤلفات إلى جانبي أرجع إليه كلما دعت حاجة أو ضرورة، وتركت قلمى يصور حياة أمهـات المؤمنين فى البيت النبوى، كما تمثلتها بعد أن وعيت الذى قرأت ..
وأعترف بأنى شعرت بتهيب حين فرغت من القراءة، هممت معه بالتراجع عن الكتابة فى هذا الموضوع، وذلك لما ملأنى من إحساس بجلاله ودقته من ناحية، ولكثرة ما كتب فيه من ناحية أخرى.
فهـؤلاء السيدات اللواتى عشن فى بيت النبي، ينزعن جميعاً إلى حواء، وقد جئن إلى بيت تلاقت فيه البشرية بالنبوة واتصلت الأرض بالسماء، وتزوجن من بشر يتلقى الوحى من أعلى، ويبلغ رسالة الله، فأنى لقلم أن يصور حياة كهذه، تموج فيها أهواء البشرية فى فيض من النور الأسنى، وتتجاذب فيها الأنوثةَ التى نعرف رقتها وضعفها ورهافة وجدانها، تياراتُ بالغة القوة والعمق، يجذبها بعضها إلى هذه الأرض الدنيا، وتشدها أخرى إلى السماوات العلا، وتتعادل من هذا بشرية سماوية، وسماوية إنسانية!.
غير أنى عدت فرأيتها حياة حافلة تغرى بالدرس والتأمل، وتجربة نادرة فذة
ليس من السهل أن أنصرف عنها بعد أن اتجهت إليها.
***
وإذ صح منى العزم على تناول هذا الموضوع الجليل الدقيق، لم أعد أتهيب كثرة ما كتب فيه، فما كانت هذه الكثرة لتحول دون تناول جديد له، وقد أعلم أن من الذين كتبوا قبلى عن حياة المصطفى عليه الصلاة والسلام فى بيته، من زين له الإيمان والإجلال أن ينزه الرسول عن بشريته التى قررها كتاب الإسلام أصلا من أصول العقيدة. وكان صلى الله عليه وسلم لا يمل من الإقرار بها وترسيخها فى عقيدة أمته.
ومنهم من أضله التعصب، فجعل من هذا الجانب فى حياة نبينا العظيم، ما يشفى غله وينفس عن حقده.
ومن هنا بقى فى الموضوع مجال لتناولٍ جديد، يتمثل حياةَ نساء النبى فى
البيت الكريم على هدى الفطرة، وبإيحاء البيئة وإملاء أصول المصادر للسيرة
والتاريخ، فى نزاهة يحميها الإيمان من عثرات الهوى وضلال التعصب.
وسيرى القارئ أنى اقتصرت فى هذا الكتاب على الأزواج اللائى شرفن بلقب
أمهات المؤمنين، ومعهن "مارية المصرية" التى كان لها إلى جانب حظوتها
عند المصطفى وشرف أمومتها لابنه إبراهيم، أثر واضح فى الحياة الخاصة لمحمد صلى
الله عليه وسلم. وفيما عدا أمهـات المؤمنين ومارية، لم أتحدث عن السيدات اللائى تزوجهن
المصطفى ولم يدخل بهن، وقد اختلفت الروايات فى عددهن وأسمائهن، فمن شاء قراءتها فليرجع
إلى الجزء الرابع من السيرة لابن هشام (طبع الحلبى) والجزء الثالث من تاريخ الطبرى
(طبع الحسينية) والجزء الثانى من الروض الأنف للسهيلى (طبع الجمالية) والجزء
الثامن من الإصابة (طبع الشرقية) والسمط الثمين (طبع حلب).
كذلك لم أتحدث عمن وهبن أنفسهن للمصطفى عليه الصلاة والسلام، ولا عن "ريحانة
بنت عمرو" التى اصطفاها الرسول لنفسه من نساء بنى قريظة، فى السنة الخامسة للهجرة،
وعرض عليها أن يتزوجها، فقالت:
"بل تتركنى فى ملكك، فهو أخف على وعليك".
فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفى عنها(1).
ولست أجهل أنه قد كان لهذه السيدة المصطفاة، ولغيرها من الواهبات أنفسهن للرسول، أثر فى حياته صلى الله عليه وسلم، العاطفية والزوجية، غير أن التاريخ المروى، لم يشأ أن يسجل ذلك الأثر، ولا عرف لهن مكاناً فى بيته، ومن ثم جاز لى أن أدعهن كى أفرغ للحديث عن أولئك اللائى دخلن حياته صلى الله عليه وسلم، مركزة جهدى فى تصوير شخصياتهن كما بدت فى البيت النبوى، فلم أتعرض لما قبل مجيئهن إليه إلا على سبيل التمهيد، ولم أتتبع حياتهن بعد المصطفى، إلا أن تكون إشارة موجزة يدعو إليها المقام.
ذلك لأننى لم أشأ لهذا الكتاب أن يجمع شتى المرويات عن نساء النبى جمعاً لَما،
ولا أردت أن أجعل من هذه الدراسة مجموعة من تراجمهن على النحو التقليدى المألوف فى
تراجم الأشخاص، وإنما عنانى تمثلُ حياة كل منهن فى البيت النبوى ومكانها منه، وتصوير
شخصيتها تصويراً يجلوها زوجاً وأنثى، ولا على القارئ بعد هذا أن أتجاوز عما وراء
ذلك من تحقيق تاريخى لسنة وفاتها، وتتبع دقيق لأنبائها بعد عصر المبعث. فليلتمسه
فى غير هذا الكتاب إذا شاء، وحسبه منى أن أقدم له من ملامح شخصيتها الأصيلة، ما قد
يضيء تاريخها كله ..
وأود بعد هذا أن يطمئن القارئ إلى أنه ما من خبر سيق فى هذا الكتاب، إلا أُخِذَ من مصادره الأصيلة، ونقل منها نقلا أميناً، ثم كان لى وراء ذلك منهجى فى التناول وأسلوبى فى الأداء، ولعلى أكون قد وفقت فيهما إلى شئ مما حاولت من النظرة الواسعة الأفق، والأمانة التى تدرك جلال الموضوع، وتقدر حرمة الكلمة:
"ربنا لا تُؤاخذْنَا إن نَسِينا أو أخطأْنَا، رَبَنَا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إصْرًا كما حملتهُ على الذينَ من قَبلِنَا، رَبَنَا ولا تحملْنَا ما لا طاقَةَ لنَا بِهِ، وَاعْفُ عنا واغفرْ لنا وارحَمْنَا، أنت مولانا فانصُرنا على القومِ الكافرين".
صدق الله العظيم
(1) السيرة لابن هشام: 2/ 256 ط الحلبى، وتاريخ الطبرى: 3/ 59 ط مصر.
"قُل
سبحَانَ ربى هل كُنتُ
إلا بشَراً رسُولا"؟.
(قرآن كريم)
الحديث عن "نساء النبى" فى بيته، لابد أن يسبقه حديث عن البيت الذى هو البيئة المكانية لحياتهن، والواقع أنه لم يكن بيتاً واحداً، بل بيتين: أولهما فى "مكة" حيث عاش "محمد" صلى الله عليه وسلم، مع زوجه الأولى وحدها، وحيث أنجب، ثم واجه التحول الأعظم فى حياته وفى حياة العرب والإنسانية جميعاً. وقد وصفتُ هذا البيت فى كتابى عن (بنات النبى)(1) ومن ثم أعفى نفسى وأعفى قرائى من التزيد بتكرار ذلك الوصف.
أما البيت الثانى فى "المدينة" حيث عاشت أمهات المؤمنين جميعاً غير
السيدة خديجة رضى الله عنها وعنهن، فيجد القراء وصفه موجزاً فى الفصل الخاص بالسيدة
عائشة من هذا الكتاب، إذ كانت أولى أمهات المؤمنين مكاناً فيه، ومن بعدها جاءت نساء
النبى تباعاً، وصار لزواج الرسول معنى اجتماعى وسياسى وتشريعى لم يُلحظ فى البيت
الأول الذى دخله "محمد بن عبد الله" شاباً فى الخامسة والعشرين من عمره،
لم يُبعث بعد برسالة، ولم يتلق وحى الله.
* * *
وكذلك ينبغى أن يسبق الحديث عن نساء النبى فى بيته، حديث عن رب هذا البيت الذى أظلهن.
ولا ينتظر القراء منى هنا تتبعاً لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام، أو عرضاً لتاريخ حياته الخالدة الحافلة(2)، وإنما أقف من هذا كله عند جانب بعينه لا أتجاوزه إلى سواه، ذلك هو محمد الزوج، أو الرجل الإنسان الذى أظل بيته هؤلاء السيدات الكريمات، ووسعتهن دنياه الخاصة، وكان لهن حظ المشاركة فى حياته الوجدانية ثم فى حياته العملية.
والفصل بين شخصية محمد زوجاً رجلا، وشخصيته نبياً رسولاً، جدُ عسير وليس الأمر كذلك فى حياة نبي آخر من حملة الرسالات رغم كونهم جميعاً بشراً، يقول الله تعالى فيهم: "وما أرسلنا من قَبلكَ إلا رجالاً نُوحِى إليهم"(3).
ذلك لأن الرسالة المحمدية قررت بشرية محمد عليه الصلاة والسلام، أصلا من أصول العقيدة الإسلامية. ولم يكن مولده خارقاً للسنن الطبيعية، كمولد "عيسى" عليه السلام: كلمة الله التى ألقاها إلى مريم فجاءت به ولم يمسسها بشر ...
كذلك لم تنزع الرسالة من قلبه عواطف البشر، ولا عصمتْه مما يجوز عليهم من
أعراض البشرية. فهو كما قال جل جلاله: "بشرُ مِثلكم"(4): يسكن إلى زوجه،
ويشغل بالأبناء، ويعانى مثل الذى يعانيه بنو آدم من حب وكره، ورغبة وزهد، وخوف
وأمل، وحنين واشتياق، ويجرى عليه ما يجرى على سائر البشر من تعب ويتم وثكل، ومرض وموت:
"وما محمد إلا رسولُ قد خلَتْ من قبله الرسلُ، أفئن مات أو قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلبْ على عقبيه فلن يضرَ الله شيئاً"(5).
ولو شاء الله لعصم نبيه من كل هذا، ولأعفاه مما ذاق من حر الثكل فى بنيه
وفداحة المصاب فى خديجة، ومحنة الإفك فى عائشة، ولجعل حياته نصراً متصلا لا يعرف
هزيمة ولا يشفق من خيبة، وأراحه من اضطهاد أعدائه وكيد خصومه ونفاق المتخاذلين من
أتباعه، ولكن سبقت كلمة الله لرسوله:
"قلْ لا أمالكُ لنفسى نفعاً ولا ضَرًا إلا ما شاء اللهُ، ولَوْ كُنتُ
أعلمُ الغيب لاستكثرتُ من الخيرِ وما مسنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ظهرت منه خمس طبعات من دار الهلال.
(2) قدمت فيها كتابى (مع المصطفى) عليه الصلاة والسلام.
(3) من آيات: يوسف 109، والنحل 43، والأنبياء7. وفصلت آية
6.
(4) صورة الكهف 110.
(5) من آية 144 سورة آل عمران.
السوءُ، إن أنا إلا نذيرُ وبشيرُ لقومٍ يؤمنون"(1).
وإنه لتكريمُ للبشرية، أن ينتمى إليها نبي يحمل رسالة الخالق جلَ جلاله. ومن
قبل كرمها سبحانه، فأمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، أبى البشر.
ولكن محمداً صلى الله عليه
وسلم، لم يكن مع ذلك كأحد من البشر، وقد اصطفاه الله من بين المخلوقين جميعاً، ليبعثه
بختام رسالات الدين! ..
هو بشر رسول، وهذا موضع الدقة والعسر فى الحديث عن حياته العاطفية والزوجية، فما يغيب عن كاتب يعرض لهذا الجانب من شخصية محمد، أنه قد كان النبى المصطفى، وأن كلمة الإسلام الأولى هى الشهادة بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً نبيه ورسوله.
ويزيد فى دقة الأمر وعسره، أن
نرى الشخصيتين مندمجتين فى المصطفى غير منفصلتين، وأن الله سبحانه وتعالى لم يدع لرسوله
حياته الخاصة يتصرف فيها على نحو ما يفعل سائر البشر، وإنما كان عليه الصلاة
والسلام يتلقى من حين إلى حين أوامر ربه فى أخص الشئون الزوجية، وكانت علاقاته
بنسائه تخضع أحياناً لتوجيه صريح من الوحى:
فمحنة الإفك مثلا، لم يحسمها إلا نزول الوحى ببراءة أم المؤمنين "السيدة عائشة" مما افتراه عليها الذين أرجفوا بالسوء ورموها بالفاحشة.
وزواجه عليه الصلاة والسلام من "السيدة زينب بنت جحش" ما كان ليتم لولا أن نزل به عتاب صريح من الله الذى كره لرسوله أن يخفى فى نفسه ما الله مبديه، وأن يخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وضيق نساء النبى بما فرض عليهن
من حياة خشنة، لم يضع حدًا له إلا قوله تعالى فى سورة الأحزاب:
"يا أيها النبىُ قل لأزوجِكَ إن كُنتن تُرِدنَ الحياةَ الدُنيا وزينتها
فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا * وإن كُنتن تُردنَ اللهَ ورسولهُ والدارَ
الآخرةَ فإن اللهَ أعد للمحْسناتِ منكنَ أجراً عظيماً"(2).
وسلوك نسائه- صلى الله عليه وسلم- كان يخضع لرقابة مباشرة على نحو غير مألوف
فى حياة غيرهن، والله تعالى يقول:
"يا نساء النبى لستن كأحدٍ من النساء، إن اتقيتُنَ فلا تخضعْنَ بالقول فيطمعَ الذى فى قلبه مرض وقلن قولاً معروفاً * وقَرنَ فى بيوتكُن ولا تبرجْنَ تبرجَ الجاهلية الأولى وأقمنَ الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجْس أهل البيت ويُطهركم تطهـيراً * واذكرن ما يتلى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة، إن الله كان لطيفاً خبيراً"(3).
وبعض هذا يكفى لبيان صعوبة الفصل بين شخصية الزوج وشخصية النبى.
فأى رجل كان نبي الإسلام؟
وأى زوج جمع بيته هذا العدد من عقائل كريمات، اختلفت أجناسهن وألوانهن. وتباعدت
أصولهن ومنابتهن، وتفاوتت أعمارهن وشخصياتهن؟..
قد نستطيع بشيء من الجهد أن نتبين بعض ملامحه المميزة، فى الشاب الهاشمى الذى صحب عميه أبا طالب وحمزة، إلى دار خديجة بنت خويلد، ليحتفل بزواجه منها فى العام الخامس عشر قبل المبعث ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) آية 187 من سورة الأعراف.
(2) آيتا 28، 29 من سورة الأحزاب.
(3) الآيات من 32: 34 من سورة الأحزاب.
كان حينذاك بشراً غير رسول، وإن يكن المهـيأ ليبعث بالرسالة ..
كان شاباً هاشمياً عريق الأصل طيب المنبت:
أبوه "عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم"، الذى وعت مكة قصة افتدائه من النحر وفاء بنذر أبيه(1)، وهى قصه مثيرة أحيت ذكرى الذبيح الأول "إسماعيل بن إبراهـيم" جد العرب العدنانية.
وأمة "آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب" أفضل امرأة فى
قريش نسباً وموضعاً(2).
وقد أمضى أعوامه الأولى فى بادية بنى سعد، فتركت هذه التربية البدوية طابعها الخاص فى شخصيته، وأكسبته صحة الجسم والنفس، وصلابة الخلق وفصاحة اللسان(3). كما أكسبته حياته اليتيمة الكادحة من بعد ذلك، قوة احتمال وشعوراً مبكراً بالمسئولية. وجاءت رحلة صباه إلى الشام فوسعت من أفقه وزادته خبرة بالدنيا والناس، فكان فى إبان شبابه الرجل الناضج الجلد الصبور، تلمح فى شخصيته آثار البادية، وفى سلوكه تهذيب الحياة المتحضرة حول الحرم: مثابة حج العرب، ومنزل قريش. كما تلمح فى عقله تجارب الرحلة والسفر، وفى خلقه شمائل هاشمى قرشى، لم يفسده الفراغ والمال، ولم يصبه الترف بآفات النعومة واللين.
هكذا كان "محمد" حين سمعت به السيدة خديجة، وبلغها ما يتحدث به القوم عن جده وأمانته وصدقه وعفته، فمهد هذا كله سبيله إلى قلبها الذى كانت قد أغلقته دون الرجال جميعاً، وفكرت فيه قبل أن تلقاه وتراه بعينها: "شابا وسيماً، معرب الملامح، أزهر اللون، ربعة فى الرجال ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، ضخم الرأس، مبسوط الجبين، مرسـل الذقن، عالى العنق، عريض الصدر، غليظ الكفين والقدمين، يتوج هامته شعر كث شديد السواد، وتشع عيناه الدعجاوان الواسعتان جاذبية تحت أهداب طوال حوالك، وتتألق أسنانه المفلجة البيضاء إذا تكلم أو ابتسم" (4).
وكان يسرع الخطو ملقياًً بجسمه إلى الأمام، ويحسن الإصغاء ملتفتاً إلى محدثه بكل جسمه، لطيف المحضر، يضحك أحياناً حتى تبدو نواجذه، فإذا غضب لم يخنه حلمه، بل ينفر عرق بين حاجبيه السابغين المتصلين، من أثر الغضب" (5).
ولم تكن السيدة خديجة وقتذاك صبية غريرة، بل كانت السيدة الناضجة المجربة التى بلت الدنيا وعرفت الناس، وتزوجت من قبل ذلك رجلين من سادة قريش، وعاملت رجالا آخرين كانوا يخرجون فى مالها إلى الشام. وإن فى إعجاب مثلها "بمحمد" وحرصها على الزواج منه لدليلا على أنها وجدت فى شخصيته الآسرة اللافتة، ما لم تجده فى أى رجل ممن تزاحموا على بابها يطلبون يدها، ولسنا بحاجة إلى أن نقرر هنا أنها لم تر فيه يومئذ سوى الرجل المثالى، لا النبي المنتظر ..
وقد عاشرته هذه السيدة الناضجة خمسة عشر عاما قبل أن يبعث، وإنها لأعوام
طويلة تكفى لأن تكشف لها عن جوهر هذا الزوج وتبدى من سجاياه وخصاله ما قد يخفى على
غيرها من الناس، وليس كالحياة الزوجية ما يمتحن الرجل أدق امتحان ويزنه أصدق ميزان
وأضبطه، ومن ثم كان إيمان السيدة خديجة برسالته دون أن يساورها أدنى ريب فى الزوج
الذى اختارته شاباً، وأحبته وعاشرته زوجاً، وعرفته رجلا، آية على عظمة ذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة 1/ 160: 163- وانظر معه كتابنا (أم
النبى).
(2) ابن هشام: السيرة 1/ 165. وانظر بنى زهرة فى (نسب
قريش 261: 275) ذخائر.
(3) لم يفتنى هنا أن العرب عموماً احتفظوا بسلامة
ألسنتهم، قبل اختلاطهم بالشعوب التى فتحها الإسلام، ولكن يبقى للبادية مع هذا،
نقاء عربيتها نسبيا بالقياس إلى بيئات غيرها عرفت الاختلاط قبل الإسلام.
(4) تاريخ الطبرى: 3/ 185- وانظر معه: الروض الأنف للسهيلى
جـ 1.
(5) من وصف الإمام على كرم الله وجهه للنبى عليه الصلاة
والسلام، فيما نقل الرواة. راجع الجزء الأول من "الروض الأنف" للسهيلى- وتاريخ
الطبرى: 3/ 185- 186.
الإنسان، فهى لم تكد تسمع
حديثه العجيب عن الوحى الأول، حتى هتفت فى إيمان ويقين:
" ... والله ما يخزيك الله أبداً .. إنك لتصلُ الرحمَ وتصدق الحديث، وتحمل
الكل، وتقرى الضيف، وتُعين على نوائب الحق" (1).
تلك كانت شهادتها لزوجها بعد معاشرة طالت وامتدت، وفيها ما يجلو لنا ملامح
من شخصيته قبل أن يبعث نبياً رسولا. وقد يؤيدها ما تناقل الرواة من وصف "على
بن أبى طالب"- كرم الله وجهه- لابن عمه الذى عاش معه طويلا فى بيت أبى طالب،
ثم انتقل معه صبياً بعد أن غادر هذا البيت وتزوج السيدة خديجة:
" ... وهو أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه أحبه ... "(2).
وفى (الاستيعاب)(3)، حديث لأم معبد الخزاعية
"عاتكة بنت خالد"، تقول وصفاً لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد رأته قبل
أن تعرفه:
"رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق .. وسيم قسيم، فى عينيه دعج، وفى أشفاره وطف، وفى عنقه سطع، وفى صوته صحل، وفى لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهـاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق، فصل، لا نزر ولا هذر .. ربعة، لا بائن من طول ولا تقتحمه عين من قصر .. له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره .. "
و"السيدة خديجة" تنفرد من بين نساء النبى جميعاً بأنها وحدها
التى عرفته رجلا وعاشرته زوجاً قبل أن تحف به أضواء النبوة، ومن هنا كانت وقفتنا
عند حياتهما الزوجية نلتمس فيها شخصية الرجل الزوج، فإذا تركناها إلى الأزواج
الأخريات اللواتى جئن بيت النبى بعدها، شق علينا تمثل حياتهن هناك، فما من امرأة منهن
دخلت حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا رأت فيه الزوج والنبي معاً، وعرفت فيه
الرجل والرسول مجتمعين ..
والذى نطمئن إليه، هو أن الزوجة منهن كانت تدخل البيت النبوى معتزةً بشرف
الزواج من النبى المصطفى، ثم ما تكاد تلقى من فى البيت من أزواج يشاركنها فى
رجلهـا، حتى ترى فيه- صلى الله عليه وسلم- الزوج قبل الرسول. ومن هنا كانت
المغاضبة والمنافسة، والغيرة التى تحتدم أحياناً حتى تجاوز المدى. وما يكون شيء من
هذا فى حياة نساء يرين فى زوجهن نبياً فحسب!
وحياة محمد "صلى الله عليه وسلم" فى بيته، تبدو رائعة فى بشريتها، فقد كان يؤثر أن يعيش فى بيته رجلا ذا قلب وعاطفة ووجدان(4)، ولم يحاول، إلا فى حالات الضرورة القصوى، أن يفرض على نسائه شخصية النبى لا غير، ونحن اليوم نقرأ ما وعى التاريخ من مرويات عن تلك الحياة الزوجية، فيبهرنا ما فيها من حيوية فياضة لا تعرف العقم الوجدانى ولا الجمود العاطفى، إذ كان صلى الله عليه وسلم سوىَ الفطرة، فأتاح بذلك لنسائه أن يملأن دنياه الخاصة حرارة وانفعالا، وينحين عنها كل ظلال الركود والفتور والجفاف.
وتاريخ الإسلام يعترف لهؤلاء السيدات الكريمات، بأنهن كن دائماً فى حياة سيدنا
الرسول، يصحبنه حين يخرج فى معاركه ومغازيه، ويهيئن له ما يرضى بشريته، ويغذى قلبه،
ويمتع وجدانه، ويجدد نشاطه، فكان له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة لابن حجر: جـ 8- والسيرة لابن هشام: 1/ 253.
(2) وانظر معه حديث أنس بن مالك، عن شجاعة الرسول عليه
الصلاة والسلام وجوده، فى تاريخ الطبرى: 2/ 186، 187.
(3) 4/ 1959- ط نهضة مصر. الدعج: شدة سواد العين. الوطف: طول الشعر فى أهداب العين.
(4) فى كتاب السمط الثمين للمحب الطبرى، حديث طويل عن رعايته صلى الله عليه وسلم لأزواجه، وسمره معهن، وصبره عليهن: ص 8: 11.
من ذلك كله ما أعانه على حمل العبء الثقيل، واحتمال ما لقى فى سبيل رسالته الخالدة من تكاليف بالغة المشقة.
وقد عاش المصطفى ما عاش فتىَ القلب حىَ الوجدان، إلى أن رحل عن هذه الأرض
وأغمض عينيه فى حجر أحب نسائه إليه وأحظاهن عنده.
فليغفر الله لمن حملهم إيمانهم على أن يجحدوا آية الله العظمى فى ابن امرأة
من قريش تأكل القديد ..
وليغفر الله لمن زعموا أن نبيه لم يخفق قلبه بحب، ولا كان لعاطفته دخل فى زواجه من نسائه رضى الله عنهن.
ويأبى الله ورسوله،
وتأبى هذه الفطرة السوية التى عرفتها الإنسانية فى "محمد" واعتزت
بها.
ويأبى التاريخ الذى وعى من أنباء حياته الزوجية ما ينفى عنها الجفاف والجمود.
* * *
ولا بد هـنا من تعرض للمسألتين الكبيرتين فى الحياة الزوجية لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام: تعدد الزوجات، وحياة الضرائر ...
وقد قال المستشرقون فى أولاهما ما قالوا، ولم يروا فى هذا الجمع بين عدد من النساء، لزوج واحد، سوى مظهر مادية مسرفة. وإنه لضلال أملاه التعصب والهوى، وانحراف عن المنهج العلمى الذى يأبى أن نقيس مسألة تعدد الزوجات بمقاييس عصرية مستحدثة، صنعتها بيئة تفصلها عن بيئة البيت المحمدى آباد وأبعاد ..
ولا أتعلق فى الرد عليهم بما تعرف الدنيا من حال القوم، يأخذون شكلياً بنظام الزوجة الواحدة، ولا بأس عليهم فى خليلات غير شرعيات.
كما لا أتعلق بالالتفات إلى أن تعدد الزوجات كان عُرف البيئة العربية، قضت به طبيعة الزمان والمكان، فى مجتمع يسوده نظام القبيلة، والبنون فيه زينة الحياة، وفخر المرأة الإنجاب، وفخر الرجال الولد وعزة النفر.
بل أنظر فيما يبدو لنا اليوم من أن التعدد كان مظهراً من مظاهر استعباد المرأة العربية ورقها المزعوم، وأنه قصد إلى إرضاء الرجال.
والحق أنه كثيرا ما ألقى على الرجل عبئاً ثقيلا، وأنقذ المرأة العربية من نظام أبشع من التعدد، وهو هذا الرق العصرى الذى يعترف بزوجة واحدة، ويدع لغيرها- ممن يعاشرهن الزوج- الضياعَ والهوان والعار ..
والمرأة الخاسرة هى التى تدفع الثمن باهظاً، ويدفعه معها مجتمع تعس، وإنسانية شقية بلقطاء مضيعين وصغار منبوذين.
وكأن الذين يتكلمون فى التعدد باسم المرأة، يؤثرون لها أن يلفظها الزوج
ويلقى بهـا خارج بيته، على أن يستبقيها فى رعايته ويحتمل عبئها إذا تزوج عليها
لسبب أو لآخر!
***
ثم إن فى مسألة التعدد، جانباً دقيقاً غفل عنه كثير ممن هاجموه. ذلك هو أن الرجال ليسوا سواء، وقد تؤثر أنثى- راضية- أن يكون لها حظ النصف من حياة رجل، على أن يكون لها غيره كاملا.
وليس معنى هذا أن نساء النبى كن سعيدات بحياة الضرائر، ولا هو يقتضى أن تستريح إحداهن إلى هذه المشاركة فى الزوج، ولكن معناه على التحديد أن "محمداً" كان نمطاً فريداً، بين الرجال، تؤثر الزوجة أن يكون لها أى مكان فى بيته، على أن تكون لها مع غيره، مملكه تنفرد بها دون مشاركة ..
وليس من أزواجه- صلى الله عليه وسلم- ممن دخلت بيته وفى حسابها أن تنفرد به، فقد كانت مسألة التعدد تبدو طبيعية إلى حد يسهل علينا تصوره، لو ذكرنا أن "خولة بنت حكيم" اقترحت على المصطفى أن يخطب عائشة بنت أبى بكر وسودة بنت زمعة فى وقت واحد (1)، وأن "أم المؤمنين، ميمونة بنت الحارث" هى التى (2) عرضت أن يتزوجها المصطفى وفى بيته ثمانى زوجات، وأن عمر بن الخطاب عرض ابنته حفصة على أبى بكر وعنده "أم رومان" حماة النبى صلى الله عليه وسلم (3)، وأن على بن أبى طالب همَ بأن يتزوج على "فاطمة الزهراء بنت النبى" وأن أبا بكر وعمر، صهرى المصطفى، رغبا فى الزواج من "أم سلمة بنت زاد الركب" حين مات عنها زوجها ..
ولو خُيرت نساء النبى بين حياتهن المشتركة فى بيت واحد، لزوج واحد، وحياة
أخرى منفردة مستقلة، فى غير ذلك البيت، لما رضين عن حياتهن بديلا ..
وكن مع ذلك مرهقات بهذه المشاركة، تضنيهن الغيرة ويشقيهن ألا تنفرد كل منهن بقلب زوجها. وقد شهد البيت المحمدى من غيرتهن ما يخيل إلينا معه أنها جعلت من هذا البيت ميداناً لمعارك نسوية لا تهدأ ولا تفتر. وإن لم تر فيه الطبيعة سوى أثر لحيوية هؤلاء السيدات، ومظهر تنافس على حب زوجهن والرغبة فى الاستئثار به والحظوة لديه ..
وما من شك فى أن المصطفى قد عانى من ذلك كثيراً، لكنه راض نفسه على احتماله، تقديراً للدوافع الطبيعية التى كانت تدفع إليه قسراً ودون اختيار، وما تزال الإنسانية تصغى حتى اليوم، وغدٍ بعده، إلى كلمته فى زوجه "عائشة" حين لجت بها غيرتها الجامحة:
"ويحها، لو استطاعت ما فعلت!"
وترى فيها آية على سلامة الفطرة وصحة النفس، وعمق الفهم لطبيعة حواء. وقد
كانت نساؤه يعرفن هذا فى زوجهن الرسول، ويلذن به كلما أخرجتهن طبيعة حواء عما
ينبغى لنساء النبى من مسالمة ووئام، ويدركن أن الغيرة مهما تجمح بهن، فمثل رسول
الله من يعذر، ويقدر ويرحم، دون أن يرى فى ضعف البشرية إثماً لا يغتفر، أو يجد فى
فطرة حواء ما يدعو إلى الإنكار.
ويحضرنى الآن حديث لعمر بن الخطاب، أستجلى فيه ملامح الزوج الرسول، وأراه
صادق الدلالة على شخصية النبى الإنسان. قال عمر رضى الله عنه:
"والله إن كنا فى الجاهلية ما نعد للنساء أمراً حتى أنزل الله تعالى
فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم. فبينا أنا فى أمر أئتمره إذ قالت لى امرأتى: لو
صنعت كذا وكذا؟ .. فقلت لها: وما لك أنت ولما ها هنا، وما تكلفك
فى أمر أريده؟ .. فقالت لى:
عجباً يا ابن الخطاب، ما تريد أن تراجع أنت، وإن ابنتك لتراجع رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟
فأخذت ردائى ثم انطلقت حتى أدخل على حفصة، فقلت لها: يا بنية، إنك
لتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يظل يومه غضبان؟
فقالت: إنا والله لنراجعه!
ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتى منها، فكلمتها، فقالت لى: عجباً لك
يا ابن الخطاب! .. قد دخلت فى كل شئ حتى تبتغى أن تدخل بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأزواجه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة: 1/ 352 وتاريخ الطبرى، الجز الثالث.
(2) السيرة: 4/ 296 ، وتاريخ الطبرى، الجز الثالث.
(3) السمط الثمين: 83- ونسب قريش: 352 ط الذخائر.
فأخذتنى أخذاً كسرتنى به عن بعض ما كنت أجد"(1)
ذلك أن عمر والصحابة رضى الله عنهم، كانوا يرون فى "محمد" النبى المصطفى، وأما نساؤه فكن يرين فيه الزوج الرسول، وهو- صلى الله عليه وسلم- راض بهذا، مقر له، غير ضَجرٍ به ولا كاره ..
***
ومن الناس من يشفقون من تناول ما كان يحدث بين نساء النبي من خصام وغيرة،
والحق أنه صلى الله عليه وسلم ما ضاق بهذا إلا أن يجاوزن المدى، فيغضب أو يزجر أو
يهجر، لعلهن يرعوين ..
وفيما عدا تلك الحالات القليلة التى اضطر فيها إلى أخذ نسائه بالشدة، لم
يكره صلى الله عليه وسلم أن يقف فى ساعات فراغه من معركته الكبرى ضد الوثنية وضد
اليهود أعداء الإسلام وأعداء البشر، ليرقب تلك المعركة الصغيرة بين نسائه، يشعلها
حبهن له وغيرتهن عليه، ولعله كان مما يرضى الرجل فيه أن يغار مثلهن على مثله، وأن
تتنافس أزواجه على الظفر بحبه ورضاه إلى حد ينسين معه أحياناً أنه ليس كغيره من
الأزواج. وما حاول- صلى الله عليه وسلم- أن يروضهن على قهر غريزة الأنثى فيهن، ولا
كان بحيث يطيب له أن تمسخ فطرتهن فيبرأن من نوازع حواء وأهوائها، ويتجردن من الغيرة
والشوق واللهفة، والرغبة فى الاستئثار بالزوج الحبيب. وما كان أحلمه صلى الله عليه
وسلم، وأرق وجدانه وألطف مزاجه، حين سمع قصة ائتمار نسائه بعروس له أشفقن من
جمالها، فأوصينها أن تستعيذ بالله حين يدخل المصطفى عليها، استجلابا لمحبته ورضاه.
ففعلت، وسرحها المصطفى قبل أن يدخل بها، وقال عن نسائه:
"إنهن صواحبات يوسف، وإن كيدهن عظيم!" (2).
***
وهذه صورة من حياة أزواجه رضى الله عنهن، أرجو أن يرى فيها القارئ شخصية هذا
المصطفى الذى آمنت به نساؤه نبياً ورسولا، وأعجبن به سيداً فارساً، وعاشرنه زوجاً،
وشاركن فى حياته الحافلة بجليل الأحداث ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المحب الطبرى: السمط الثمين 183 ط حلب. وانظر معه طبقات ابن سعد: 2/
73 ط ليدن.
(2) القصة منقولة بمزيد تفصيل، فى الفصل الخاص بالسيدة
عائشة أم المؤمنين، من هذا الكتاب.
أم المؤمنين الأولى ووزير النبى
"...
والله ما أبدلنــــى خيراً منها، آمنت بى حين
كفــر
الناس، وصدقتنــى إذ كذبنــــــــــى الناس،
وواسـتنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى منها
الله الولد دون غيرها من النساء"
محمد، رسول الله
أينع صباه واكتمل شبابه، فى بيئة تَعِدُ أمثاله من الفتية الهاشميين ما شاءوا من ملذات، لكنه كان يجد طعم الحياة فى مزاقه مرًا كلما عاودته ذكرى بعيدة...
وما فتئت تلك الذكرى تعاوده، وترده إلى لحظة طواها الزمن منذ ثمانية عشر عاماً، وما يزال يذكر موقفه فى بقعة موحشة من الصحراء بين "مكة ويثرب" أمام أمه "آمنة" والحياة تتسرب من كيانها رويدا، ثم تنطفئ إلى الأبد...
ثمانية عشر عاماً، وما يزال المشهد الأليم يتراءى له عبر السنين (1)، فيرى نفسه مُكِبًا
على الحفرة التى ألقوا فيها جثمان الغالية "بالأبواء"، ضائع الحيلة مهيض
الجناح، لا يملك أن يستبقى أمه لحظة واحدة بعد أن حان أجلها، ولا أن يرد عنها عاديات
الوحشة والبرد والظلام، بعد أن هالوا عليها الرمال.
وربما شغلته شواغل العيش حيناً عن أشجانه، وصرفته دواعى الحياة فترة عن تمثل ذاك الموت الذى غال أعز من له، أمام عينيه وبين يديه، لكنه لا يلبث أن يُنتزع من حاضره مستثارَ الحزن، فإذا قلبه يخفق بين جوانحه شعوراً بعالم بعيد، فى طريق الشمال، ليطوف بمرقد الثاوية فى جوف الصحراء، ثم ينثنى مثقلا بالأسى والشجن.
ما أكثر ما كان يمر فى مكة بالبيت المهجور الذى ضمه وأمه زمناً، ثم أوحش من بعدها وخلا !..
ما أكثر ما كان ينطلق إلى المراعى خارج مكة، فإذا حان المساء وآن له أن يئوب إلى منزله، تلبث برهة عند مدخل البلد الحرام، وتمثل نفسه عائداً من رحلته الأولى إلى يثرب، وحيداً محزوناً مضاعف اليتم، يتبع جاريته "بركة" صامتاً واجماً، وهى تسعى به إلى بيت جده الشيخ "عبد المطلب".
وكم حاول الجد الرحيم أن يذود عن أفق الغلام اليتيم تلك الرؤى الحزينة
التى تروع صباه !
كم جاهد- طوال عامين كاملين(2)- ليضمد بيده الرقيقة ذلك الجرح الدامى فى قلب حفيده الصغير اليتيم!.
لكن الزائر المرهوب الذى ألم بآل الغلام فانتزع أباه ثم أمه، عاد من جديد فطوف بحى بنى هاشم، وتلبث برهة يحوم حول فراش عميدهم الشيخ عبد المطلب، وينذر بالرحيل.
ووقف الغلام مرة ثانية، يرقب الحياة وهى تنطفئ فيمن كان له أباً بعد أبيه ..
وأصغى فى حزن ذاهل إلى صوت الشيخ المحتضر وهو يدعو إليه ولده "أبا طالب" فيوصيه بمحمد، ابن أخيه "عبد الله".
ثم يمضى...
وانتقل الصبى من بعده إلى منزل جديد، وألفى لدى عمه أباً ثالثاً، لكنه ظل يفتقد الأم.
وبقى قلبه على الأيام والشهور والسنين، ينزع نحو مرقدها الأخير فى "الأبواء"..
ولم يستطع ضجيج صبية بنى هاشم فى ملاعب حداثتهم، أن يمحو من مسمعه صدى الحشرجة
الرهيبة التى صكت أذنيه وقلبه فى جوف البيداء.
ولا استطاعت مشاهد الحياة الزاخرة الحافلة حول "البيت العتيق"
فى "أم القرى" أن تطوى فى متاهة النسيان ذلك المشهد الفاجع لاحتضار أمه
وموتها، قرب "الأبواء".
وهذا هو يقف فى المساء الساجى عند أطراف الصحراء شارد البال، والكون من حوله
موحش واجم، يلفه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة 1/177 ط الحلبى- وانظر معه ما فى كتابنا: (أم
النبى).
(1) ابن هشام: السيرة 1/178.
الغلس برداء أربد، ويتنفس فيه
الصمت العميق شجناً وإعياء.
وإذ تتكاثف الظلمة من حوله، يجمع نفسه فى جهد، ويأخذ طريقه إلي منزل عمه،
وفى نفسه إحساس مرهف بفراق وشيك، فقد آن له أن يغادر هذا المنزل الذى آواه بضعة
عشر عاماً، وحسبُ العمَ ما يحمل من أعباء بنيه الكثار ..
ولكن إلى أين؟ ..
إلى "الشام" مؤقتاً كما أراد له عمه فى صباح يومه ذاك، فلقد
حدثه فى مطلع الشمس عن رحلة مرجوة الخير، وقال له فيما قال:
"يا ابن أخى، أنا رجل لا مال لى، وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا
سنون منكرة، وليس لنا مال ولا تجارة، وهذه عِيرُ قومِك قد حضر خروجُها إلى الشام،
وخديجة تبعث رجالا يتجرون فى مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها لفضلتك على غيرك لما يبلغها
عنك من أمانتك وطهارتك، وإن كنت أكره أن تأتى الشام وأخاف عليك من يهود...
وقد بلغنى أنها استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك فى أن أكلمها؟" (1).
قال محمد: ما أحببتَ يا عم...
ترى هل كلمها العم واستقر العزم على الرحيل؟
إذن فليرحل، تاركاً تدبير المستقبل للغد المطوى فى ضمير الغيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه رواية الزرقانى عن الواقدى. وانظر معها سيرة ابن هشام 1/199. والسمط الثمين للمحب الطبرى ص 13- والذى فى تاريخ الطبرى، 2/196، أن السيدة خديجة هى التى عرضت عليه، مباشرة، أن يخرج فى مالها إلى الشام تاجراً.
القافلة تغذ السير نحو أم القرى، عائدة من رحلة الصيف إلى الشام، والحُداة يهزجون بأغانيهم التى تَعدُ الإبل الراحة والظل والرى، وتمنى الركب بالأنس فى لقاء الأهل والأحباب.
والمسافرون قد استغرقتهم نشوة حالمة منذ بلغوا "مر الظهران" على مقربة من مكة، واشرأبت أعناقهم إلى معالمها التى لاحت لهم من بعيد، تناديهم فى لهفة واشتياق..
لكنه وحده، من بين هؤلاء جميعاً، انطوى على نفسه يكابد أشجانه التى هاجها مرور القافلة قريبا من "الأبواء" فى طريق عودتها إلى مكة.
وعبثاً حاول تابعه المرافق، أن يُغريه بالتطلع إلى أم القرى، أو يشغله بالحديث عما ينتظره هنالك من تقدير السيدة الثرية الكريمة التى اختارته ليخرج فى مالها إلى الشام، ووعدته أن تعطيه ضعف ما كانت تعطى غيره ممن استأجرتهم قبله...
وقال التابع "ميسرة":
"أسرع
أنا إلى سيدتى فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك، فإنها تعرف ذلك لك" ؟
فتركه "محمد" يمضى وفرغ لتأملاته:
أهذا كل ما ينتظر المسافر العائد من الشام، والحداةُ يمنون الركب بالأنس
فى لقاء العشيرة والأحباب؟!..
وكر بصره راجعاً إلى وراء، يتبع آثار طيف من أمه "آمنة"، بدا كأنما يملأ فضاء الصحراء.
وتذكر رحلته الأولى عائدا من "يثرب" بغير أم!
حتى علا ضجيج الركب مختلطاً بهتاف المستقبلين ورغاء الإبل التى أناخت على ثرى "مكة" مطمئنة، فمضى "محمد" على ناقته إلى دار "خديجة" بعد أن طاف بالبيت العتيق...
وكانت "خديجة" هناك فى دارها، ترقب الطريق من علية لها فى لهفة مشوبة بشيء من القلق، وإلى جانبها غلامها "ميسرة" يملأ أذنيها بحديث مثير عن رحلته مع "محمد"(1).
وإذ ظهر لها أخيراً يدنو من الدار بطلعته البهية وملامحه النبيلة، اندفعت تستقبله لدى الباب مرحبة، مهنئة بسلامة العودة، فى صوت يفيض عذوبة ورقة وحناناً.
ورفع إليها وجهه شاكراً، فما تلاقت الأعين حتى عاد فخفض بصره، ومضى يقص
عليها أنباء رحلته وربح تجارته وما جاءها به من طيبات الشام..
وأنصتت إليه شبه مأخوذة، حتى إذا ودعها ومضى، ظلت واقفة حيث هى، تتبعه بصرها
إلى أن توارى فى منعطف الطريق.
واتجه هو إلى منزل عمه "أبى طالب" وهو يحس شيئاً من الرضى والارتياح
أن عاد إليه من رحلته موفقاً سالماً، لم يمسسه أذى من يهود..
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر فى: ابن هشام 1/200- وتاريخ الطبرى: 2/196.
وسارت الحياة فى "مكة" على وتيرتها أياماً، وقد عكف أصحاب الأموال على مراجعة حساباتهم وإحصاء أرباحهم أو خسارتهم، وانصرف التجار العائدون إلى أهليهم يستجمون من آثار سفر شاق طويل، محفوف بالأخطار...
وصفى حساب القافلة أو كاد، وانقطع ما بين التجار وأصحاب الأموال إلى حين، اللهم إلا ما كان بين "خديجة" و"محمد" الصادق الأمين...
لقد بلت "خديجة" الدنيا وعرفت الرجال، وتزوجت مرتين، رجلين من
سادات العرب وأشرافهم: عتيق بن عائذ المخزومى، وأبى هالة بن زرارة التميمى(1)،
واستأجرت غير واحد من الكهول والشبان، فما رأت فيمن عرفت، ذلك النمط الفريد من
الرجال.
واستغرقت فى تفكيرها، تستعيد صوته العميق الآسر وهو يحدثها عن رحلته،
ويطالعها مرآه وهو مقبل عليها ملء الحيوية والجلال.
وفجأة، ألفت خواطرها تحوم حول الموضع الذى التقت فيه بالشاب الهاشمى، فهزها شعور مباغت، وانثنت تسائل قلبها:
فيم الخفقان وقد أدبر الشباب أو كاد؟..
ترى هل مسه الحب فاستيقظ بعدما طال به الهجوع وطاب له الرقاد؟
وإذ تلقت جواب القلب، انتفضت
مذعورة لا تدرى كيف تواجه دنياها بمثل هذه العاطفة، بعد أن نفضت يديها من الرجال
أو خرجت- فى حساب بيئتها- من حياة الرجال؟
كيف تلقى به قومها وقد ردت عن بابها الخطاب من سادة قريش وسراة مكة؟ (2)
عجباً! لقد فكرت فى قومها، دون أن تعرف رأى "محمد" فيها: أتراه
يستجيب لعاطفة أرملة كهلة فى الأربعين من عمرها وهو الذى انصرف حتى اليوم عن عذارى
مكة وزهرات بنى هاشم الناضرات؟
وانتابتها ما يشبه الخجل، فما هى فى كهولتها بالقياس إلى "محمد"
فى شبابه غير خالة أو أم، ولو عاشت "آمنة بنت وهب" لما جاوزت وقتئذ سن
الأربعين! .. وهى بعد ليست خلية من هموم الأمومة، فقد ترك لها زوجها عتيق بن عائذ
المخزومى ابنة أدركت سن الزواج، وخلف لها زوجها أبو هالة ابن زرارة التميمى، ولدها
"هندا" غلاماً لم يشب عن الطوق(3).
وفى غمرة حيرتها وإضرابها، زارتها صديقتها "نفيسة بنت منية" فلم
يغب عنها الذى تجد صاحبتها، فما
زالت بها حتى كشفت لها عن سرها المطوى...
وهونت "نفيسة" الأمر عليها، فما فى نساء قريش من تفوقها نسباً وشرفاً، وهى بعد ذات غنى وجمال، كل قومها حريص على الزواج منها لو يقدر عليه (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه رواية السيرة (4/193) وتاريخ الطبرى (3/ 175) والسمط الثمين (13) ومثلها فى الاستيعاب، ولكنه ذكر رواية قبلها أن السيدة خديجة تزوجت أبا هالة، ثم عتيق بن عائذ (4/1817) وانظر ترجمة عتيق وأبى هالة فى جمهرة أنساب العرب لابن حزم: ص 133، 199 ط أولى ذخائر العرب.
(2) سيرة ابن هشام: 1/201- والسمط الثمين 13.
(3) انظر ترجمة بنت
عتيق فى جمهرة الأنساب (133) وانظر ترجمة هند بن أبى هالة، ربيب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فى الاستيعاب (4/1545) وفى الجمهرة (199) ذخائر.
(4) السيرة: 1/201.
ثم تركتها وقد اعتزمت أمراً...
***
جاءت(1) "محمداً" فسألته فيم عزوفه عن الدنيا
وقضاؤه على شبابه بالحرمان؟ .. هلا سكن إلى زوج تحنو عليه وتؤنسه وتزيل وحشته؟
فأمسك الشاب اليتيم دمعة كادت تخونه وهو يذكر ما ذاق من حرمان منذ تركته أمه صبياً فى السادسة من عمره، وتكلف الابتسام ليرد على محدثته:
- ما بيدى ما أتزوج به...
قالت على الفور:
- فإن دعيت
إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟
فما مس سؤالها أذنيه حتى أدرك من تعنى:
تلك "خديجة" ورب الكعبة، ومن سواها تدانيها شرفاً وجمالاً
وكفاءة ؟
ألا لو دعته لأجاب، ولكن هل تدعوه ؟
وانصرفت "نفيسة" وتركته مشغول البال، يرنو فى رقة إلى طيف من
خديجة، وقد تراءت له فى وحدته طلقة المحيا باشة الأسارير، تشع لطفاً وحنوًا ..
وأشفق أن تبعد به أمانيه، إذ كان يعلم ردها أشراف قريش وأغنياءها، فغالب نفسه
ليستردها إلى واقعه، وأنطلق يسعى نحو الكعبة، فإذا كاهنة تلقاه فى طريقه فتستوقفه
سائلة:
- جئت خاطباً يا محمد؟
أجاب غير كاذب: كلا..
فتأملته برهة ثم هزت رأسها وهى تقول:
- ولم؟ .. فوالله ما فى قريش امرأة، وإن كانت خديجة، لا تراك كفئا لها(2).
ثم لم تك إلا فترة قصيرة المدى، حتى تلقى دعوة "خديجة" فسارع إليها ملبياً، وفى صحبته عماه "أبو
طالب وحمزة، ابنا عبد
المطلب".
وهناك فى بيتها ألفوا قومها ينتظرون، وكل شيء مهيأ لزواج سريع .. وتكلم العم
أبو طالب:
"أما بعد، فإن محمداً ممن لا يوازَن به فتى من قريش، إلا رجح به شرفاً
ونبلاً وفضلاً وعقلاً، وإن كان فى المال قُل، فإنما المال ظل زائل وعارية مسترجعة،
وله فى خديجة بنت خويلد رغبة، ولها فيه مثل ذلك..".
فأثنى عليه عمها "عمرو بن أسد بن عبد العزى بن قصى" وأنكحها
منه، على صداق قدره عشرون بكرة(3).
ولما انتهى العقد، نحرت الذبائح ودقت الدفوف، وفتحت دار خديجة للأهل والأصدقاء،
فإذا بينهم "حليمة" قد جاءت من بادية بنى سعد، لتشهد عرس ولدها الذى
أرضعته، ثم لتعود فى الغداة ومعها أربعون رأساً من الغنم،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كذا فى شرح المواهب. والذى فى سيرة ابن هشام أن السيدة
خديجة عرضت نفسها عليه من غير وساطة. وروى المحب الطبرى فى السمط، أنها بعثت إلى
محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر اسم من بعثته- وانظر تاريخ الطبرى 2/197.
(2) راجع هذا الحديث كله، فى الجزء الأول من السيرة لابن
هشام، والروض الأنف للسهيلى: 1/123.
(3) ابن هشام: السيرة 1/201، وفى رواية أخرى أنه أصدقها
اثنتى عشرة أوقية ذهباً: السمط 15.
هبةً من العروس الكريمة لتلك
التى أرضعت "محمداً" زوجها الحبيب ..
وتندت عينا "محمد" وهو يفتقد أمه "آمنة" فإذا يد
لطيفة رقيقة، تأسو الجرح القديم فى حنان غامر، وإذا به يجد فى "خديجة" عوضاً
جميلا عما قاساه من طويل حرمان ..
***
ولم يعن "مكة" من
أمر الزوجين السعيدين، سوى أن زواجاً ربط بين "محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب بن هاشم القرشى" و"خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن
قصى" (1).
ولكن التاريخ تلبث بعد خمس عشرة سنة، ليسجل يوم العرس المشهود بين أيامه
الخالدات ..
وقد انصرف إلى حين، تاركاً هذين الزوجين ينعمان بأطيب حياة زوجية شهدتها
"مكة" ويترشفان على مهل، رحيق ودً صاف عميق، سيظل حديث الزمان ..
واستغرقا فى هناءتهما خمسة عشر عاماً، ناعمين بالألفة والاستقرار، وقد أتم
الله عليهما نعمته، فرزقهما البنين والبنات: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورقية، وأم
كلثوم، وفاطمة (2) .
وأرخى الزمن لهما فى حياتهما تلك الرخية الهادئة أعواماً ذات عدد، ارتوى "محمد" خلالها من نبع الحنان، معوضاً بذلك حرمان ماضى يتيم، ومتزوداً لغد مقبل، حافل بالكفاح المضنى والأعباء الثقال.
وقد ذاقا فى تلك الفترة لوعة الثكل فى الولدين العزيزين: القاسم وعبد
الله، فكان للزوجين من حبهما وتصبرهما، ما أعانهما على تجرع الكأس التي تدور على
الناس جميعاً فلا يعفى من شربها أحد، وما كان ولداهما إلا وديعة، ولا بد يوماً أن
تسترد الودائع .. (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وأم خديجة:
فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن هرم بن رواحة. راجع الاستيعاب (4/1917) وتاريخ الطبري
(3/175)- ونسب قريش: 230.
(2) انظر الإصابة، الجزء الثامن. والسيرة: 1/202- وانظر
معه تاريخ الطبرى. 3/175 ط مصر.
(3) لم نطل الحديث هنا عن أبوة محمد وأمومة خديجة، لأن
موضع هذا الحديث فى كتابنا عن "بنات النبى". وذكر الطبرى أن هند بن أبى
هالة، كان عند أمه خديجة بعد زواجها بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وفى ترجمة هند بالاستيعاب،
أنه كان ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. (4/1445).
ثم كان الحادث الخطير، لا فى حياة هذه الأسرة الوادعة فحسب، ولا فى حياة
قريش والعرب وحدهم، بل فى حياة الإنسانية جمعاء.
لقد تلقى محمد رسالة من الله، وجاءه الوحى فألقى عليه العبء الثقيل، وبعثه
فى الناس بشيراً ونذيراً ..
وكانت الرسالة إيذاناً بحياة جديدة، شاقة كادحة، وبدءاً لعهد ملؤه الاضطهاد والعذاب، والجهاد، ثم النصر.
وفى الحق لم يكن الحادث الأكبر مفاجأة للعرب، فما أكثر ما تناقلت الجزيرة
أنباء إرهاصات عن نبى جديد قد حان مبعثه، وما أكثر ما تحدث السمار والكهان
والمتحنفون، عن رسالة سماوية منتظرة آن أوانها(1)!
و"مكة" على الخصوص، كانت الموضع الذى تتلاقى فيه تلك البشريات
وتتجمع روافدها من هنا ومن هناك وهنالك، لتصب حول "البيت العتيق": مثابة
الحج ومركز العبادة من قديم العصور والآباد ..
كذلك لم يكن الحادث الخطير مفاجأة لمحمد، فمنذ استقرت به الحياة فى رعاية
زوجه الصالحة، وأعفته ظروفه المادية من عناء الكفاح اليومي، أتيح له أن يستجيب لما
فى نفسه من نزوع إلى التأمل، وميل إلى التفكير المستغرق. وهى نزعة ظهرت فيه واضحة منذ
الصبا .. ووجدت فى ساعات فراغه- أيام رعيه للغنم- مجالا رحباً، ثم صرفه عنها كدح
العيش، لتعود فتظهر من جديد، قوية أصيلة، كأنما هى فطرة فيه.
وكثيراً ما كانت تأملاته تحوم حول الكعبة، التى صنعت تاريخ "مكة"
وتاريخ أسرته بوجه خاص(2)، ووصلت
ما بين أبيه "عبد الله" و"إسماعيل" جد العرب، برباط وثيق
نسجته يد الزمن طوال قرون لا عداد لها، فأحيت بحادث فداء "عبد الله" من الذبح،
ذكرى متناهية فى القدم، لمشهد الذبيح الأول: ابن إبراهيم.
وانبلج له نور الحق، فأنكر هذه الأصنام التى تكدست فى بيت الله، صماء عمياء، لا تملك لنفسها نفعاً ولا ترد عن نفسها ضرًا. واستبشع أن تخف أحلام قومه، فيتعبدوا لحجارة بالغة الهوان، ويقدموا القرابين لأوثان وأصنام صنعوها بأيديهم، ثم جعلوا منها آلهة لهم وأرباباً.
وأرهف التأمل حسه، فإذا هو يستشف أدق ما فى الكون من أسرار، ويلمح وراء
جلال الليل ورهبة الصحراء وسنا الضوء وبهاء السماء، قوة عظمى خفية، تدبر هذا الكون
وفق نظام دقيق ونواميس مطردة، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق
النهار، وكل فى فلكٍ يسبحون ..
***
وما شارف سن الأربعين، حتى كان
قد ألف الخلوة، فى "غار حراء" واستطاب رياضته الروحية التى يحس خلالها
كأنما يدنو من الحقيقة الكبرى ويستجلى السر الأعظم، وما كانت "خديجة" فى
وقار سنها وجلال أمومتها لتضيق بهذه الخلوات التى تبعده عنها أحياناً، أو تعكر
علية صفو تأملاته بالمعهود من فضول النساء، بل حاولت ما وسعها الجهد أن تحوطه
بالرعاية والهدوء ما أقام فى البيت، فإذا انطلق إلى "غار حراء" ظلت
عيناها عليه من بعيد،، وربما أرسلت وراءه من يحرسه ويرعاه(3)، دون
أن يقتحم عليه خلوته.
وهكذا بدا كأن كل شيء مهيأ لاستقبال الرسالة المرتقبة، لكنها- مع هذا
التهيؤ- زلزلت حين جاءت، أرجاء ذلك العالم الذى طالما أرهص بنبوة وشيكة، وهزت كيان
ذلك النبى الموعود: "محمد بن عبد الله" الذى ما رضى قط عن موضع الأصنام
بالكعبة، ولا شك لحظة فى أن حياة قومه لن تمضى هكذا على سفه وضلال ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر هذه الأنباء بالتفصيل
فى الجزء الأول من سيرة ابن هشام، ط الحلبى- وفى الجزء السادس عشر من نهاية الأرب للنويرى،
ط دار الكتب- وفى الجز الأول من (وفاء الوفا، بأخبار دار المصطفى) للسهمودى. ط السعاده
بمصر.
(2) السيرة: 1/163- واقرأ الفصل الخاص بمكة فى كتابنا
"أم النبى".
(3) السيرة لابن هشام: 1/253- والسمط الثمين: 19.
فما جاءه الوحى وهو فى "غار حراء"، حتى انطلق يلتمس بيته فى غبش
الفجر خائفاً شاحباً مرتعد الأوصال. فلما بلغ حجرة زوجه، أحس أنه وصل إلى مأمنه،
فحدثها فى صوت مرتجف عن كل ما كان، ونفض لديها مخاوفه(1):
أتراه يهذى حالماً؟ .. أم به جُنة؟ ..
وضمته إلى صدرها، وقد أثار مرآه أعمق عواطف الأمومة فى قلبها، وهتفت فى ثقة ويقين:
"الله
يرعانا يا أبا القاسم، أبشر يا ابن عم واثبت، فو الذى نفس خديجة بيده، إنى لأرجو
أن تكون نبى هذه الأمة، والله لا يخزيك الله أبداً .. إنك لتصل الرحم، وتصدق
الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق"(2).
وسُرى عنه وزايله روعه فما هو بالحالم ولا به جُنًة، وهذا صوت "خديجة" العذب، ينساب مع نور الفجر إلى فؤاده، فيبث فيه الثقة، والأمن والهدوء ..
وأحس الراحة والطمأنينة وهى تقوده فى رفق إلى فراشه، فتضعه فيه كما تفعل
أم بولدها الغالى.
واستراحت عيناها عليه برهة وهو مستغرق فى نومه الهادئ المطمئن، ورف حوله
قلبها ملء الحب والعطف، والإشفاق والإعجاب، ثم قامت فتسللت من المخدع على حذر، حتى
إذا بلغت الباب اندفعت إلى الطريق الخالى، تحث خطاها نحو ابن عمها "ورقة بن
نوفل" ومكة ما تزال تنعم بغفوة الصبح، والكون يبدأ تفتحه للضوء والحياة.
وجاءت "ورقة" فأقعدته الشيخوخة عن النهوض للقائها، لكنه ما كاد يصغى إلى ما تتحدث به حتى اهتز منفعلا، وتدفقت الحيوية فى بدنه الواهن، فانتفض يقول فى حماس:
"قدوس
. قدوس، والذى نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتنى يا خديجة، لقد جاءه الناموس الأكبر الذى
كان يأتى موسى وعيسى، وإنه لنبى هذه الأمة، فقولى له فليثبت"(3).
ولم تنتظر مزيداً من قوله، ولم تستعد كلمة واحده منه، بل طارت إلى زوجها الحبيب
تعجل له بالبشرى.
***
أخذت مكانها إلى جانبه، ترنو إليه فى حنان ولهفة، وهو مستغرق فى نومه، لا
تريد أن توقظه.
ثم إذا به ينتفض فى فراشه، وتتثاقل أنفاسه، ويتفصد العرق من جبهته .. وظل
على ذلك فترة قبل أن تعاوده سكينته وتنتظم أنفاسه، ويبدو عليه كأنما يصغى إلى محدث
غير مرئى، ثم يتلو فى بطء كأنه يستعيد درساً ألقى عليه:
"يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز
فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر"(4)
وتلقته "خديجة" من صحوه بين زراعيها، وحدثته بما سمعت من
"ورقة بن نوفل" فرنا محمد- صلى الله عليه وسلم- إليها مليًا بنظرة تفيض
شكراً وامتناناً، حتى إذا ملأ عينيه من تلك التى ملأت دنياه حباً وأمناً وسلاماً،
استدار فنظر إلى الفراش وقال فى تأثر:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 2/207.
(2) ابن هشام: السيرة 1/253- وتاريخ الطبرى: 2/205، 207-
والسمط الثمين: 10.
(3) ابن هشام: السيرة 1/254 وتاريخ الطبرى: 2/206.
(4) سورة المدثر: الآيات 1: 7- والمشهور أنها رابعة
السور فى ترتيب النزول.
- انتهى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرنى جبريل أن أنذر الناس وأن
أدعوهم إلى الله وإلى عبادته، فمن ذا أدعو ومن ذا يستجيب؟
فهتفت فى لهفة وحماس:
- أنا استجيب يا محمد، فادعنى قبل أن تدعو أى إنسان، وإنى لمسلمة لك،
مصدقة برسالتك، مؤمنة بربك..
فباركها وهو يشعر بسكينة وراحة، ثم استجاب لها فقام ينشد "ورقة"
الذى صاح حين لمحه مقبلا:
"والذى نفسى بيده، إنك لنبىُ هذه الأمة، ولتُكذبَنً، ولتؤذين،
ولتُخرَجنًَ، ولتقاتَلنً، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصراً
يعلمه!".
ثم أدنى رأسه إليه فقبل يافوخه
قال محمد صلى الله عليه وسلم:
"أو مخرجى هم؟".
أجاب "ورقة":
"نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِى، ليتنى أكون فيها
جذعاً .. ليتنى أكون حياً!"(1)
وطابت نفس المصطفى بما سمع، فآب
إلى بيته مطمئناً ليبدأ جهاده من أجل الدعوة، وليلقى فى سبيلها أفدح الأذى وأقسى الاضطهاد.
فما كانت قريش لترضى أن يعيب دينها ويسفه أحلامها، ويحقر آلهتها التى
وجدوا آباءهم لها عابدين!.
***
ووقفت الزوج المحبة المؤمنة إلى جانب زوجها النبى المصطفى، تنصره وتشد
أزره، وتعينه على احتمال أقسى ضروب الأذى والاضطهاد سنين عدداً.
فلما قُضىَ على بنى هاشم وعبد المطلب أن يخرجوا من مكة لائذين بشعب أبى طالب، بعد أن أعلنت قريش عليهم حرباً مدنية لا ترحم، وسجلت مقاطعتها لهم فى صحيفة علقت فى جوف الكعبة(2)، لم تتردد السيدة "خديجة" فى الخروج مع زوجها، بل تخلت عن دارها الحبيبة، مغنى صباها ومجمع هواها ومثابة ذكرياتها، وقامت تتبع رجلها ونبيها وقد علت بها السن، وناءت بأثقال الشيخوخة، والثكل، والاضطهاد.
وأقامت هنالك فى شعب أبي طالب ثلاث سنوات، تذوق مع زوجها المصطفى ومن تبعه
من قومه أهوال الحصار المنهك، وتكافح الوهن الذى أخذ يدب إلى جسدها منذ جاوزت
الستين، متشبثة بالحياة فى نضال باسل، كيما تظل إلى جانب رجلها فى معركته الفذة،
التى يلقى فيها بقلة مؤمنة عزلاء، جبروت الوثنية العريقة المتأصلة، وجموع القرشيين
ذوى العدد والعدة والجاه..
(1) ابن هشام: السيرة 1/ 254 وتاريخ الطبرى: 2/ 206،
207.
(2) السيرة: 1/375 وتاريخ الطبرى: 2/228.
حتى تهاوى الحصار أمام ذلك الإيمان الراسخ الصامد، وآن لمحمد صلى الله
عليه وسلم، أن يعود إلى بيته فى مكة(1)، فتحاملت
السيدة خديجة رضى الله عنها، حتى بلغت فراشها وقد نال منها الإعياء، واستنفذ
الاضطهاد والعذاب ما أبقى لها الزمن من قوة فى عامها الخامس والستين(2).
ورقدت هناك ثلاثة أيام، وزوجها المصطفى إلى جانبها يرعاها ويؤنس وحشة
احتضارها، ويتزود منها لفراق لا لقاء بعده فى هذه الدنيا. ثم أسلمت الروح بين يدى
الرجل الذى أحبته منذ اليوم الأول الذى لقيته فيه، والذى صدقته وآمنت به منذ بعث
برسالته، وجاهدت معه حتى الرمق الأخير.
***
وتلفت محمد- صلى الله عليه وسلم- حوله، فإذا الدار من بعدها موحشة خلاء، وإذا "مكة" تنبو به بعد رحيلها فليس له على أرضها مكان..
قال "ابن إسحق": "فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه
وسلم المصائب بهلك خديجة، وكانت له وزير صدق على الإسلام!"(3)
وبلغت أزمة الاضطهاد أقسى مداها فى عام وفاة السيدة "خديجة"
الذى سُمى "عام الحزن"، وخيل إلى أعدائه المشركين أن الظلمات تكاثفت
حوله فما عاد يبدو على الأفق شعاع من ضياء. وكذبتهم أمانيهم فظنوا أن الظفر به جد
قريب، وما دروا أن الظلمة تبلغ ذروتها قبيل الفجر...
ذلك أن السيدة خديجة رضى الله
عنها لم تمض إلا وأمين الوحى يرعى الرسول غادياً رائحاً، يذود عنه اليأس والإعياء،
والسابقون الأولون من المؤمنين يحيطون بنبيهم عليه الصلاة والسلام، مستبسلين
يفتدونه بالمهج والأرواح، ويرون الموت فى سبيل الإسلام حياة ومجداً وانتصاراً..
لم تمت زوجه الأولى ووزيرُه، إلا والدعوة الإسلامية قد جاوزت
"مكة" إلى أطراف الحجاز، ثم إلى ما وراءها من بلاد العرب، وحملها فئة من
صحابته عبر البيد والبحار إلى "الحبشة"(4)
مهاجرين بدينهم، متخلين عن ديارهم وأهليهم، عارضين على الدنيا خارج الجزيرة، مشهداً
رائعاً من الإيمان الباذل الصابر، مالئين الأسماع والقلوب بحديث مثير عن نعمة
الجهاد ومجد التضحية وبطولة الاستشهاد.
لم تمت رضى الله عنها، إلا وفى الموسم بمكة، رجال من "يثرب" لن
يلبثوا أن يبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم عند "العقبة" (5) ويعودوا فيعبئوا المدينة كلها لنصرته، وأقصى أمانيهم أن يخوض بهم المعركة
النبيلة، ليذهبوا على الأيام بعزة النصر، أو شرف الموت فى سبيل الله ورسوله..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة 2/14: 20.
(2) الاستيعاب: والسمط الثمين 17.
(3) السيرة 2/57 - تاريخ الطبرى: 2/299.
(4) السيرة لابن
هشام: 1/344 وتاريخ الطبرى: 2/221.
(5) المصدر نفسه: 1/73، 84.
ولكن، هل ماتت "خديجة" حقاً؟
إنها لماثلة بين عينى زوجها المصطفى، فما يسير إلا وطيف منها يتبعه، ويبدد من حوله حالك الظلمات...
وستدخل بعدها فى حياة زوجها المصطفى نساء ذوات عدد، لكن مكانها من قلبه وفى دنياه، سيظل أبداً خالصاً لهذه الزوج الأولى، والحبيبة الرءوم التى انفردت ببيت رجلها ربع قرن من الزمان(1) لم تشركها فيه أخرى، ولا لاح على أفقه ظل من شريكة سواها.
وسوف تفد على هذا البيت بعدها أزواج أخريات، فيهن ذوات الصبا والجمال،
والحسب والجاه، ولكن واحدة منهن لن تستطيع أن تزحزح "السيدة خديجة" عن
مكانها هناك، ولن تفلح فى إبعاد طيفها الذى أقام أبداً يحوم حول الحبيب ويستأثر بإعزازه
ما عاش.
سوف تشهده "المدينة" بعد أعوام عندما انتصر فى "بدر"
يتلقى فداء الأسرى من قريش، فلا يكاد يلمح قلادة لخديجة بعثت بها ابنتهما
"زينب" فى فداء زوجها الأسير "أبى العاص بن الربيع" حتى يرق
قلب الأب الرسول من رحمة وشجن، ويسأل أصحابه فى أن يمنوا على زينب بإطلاق أسيرها، ويردوا
عليها قلادتها(2).
وسيشهد البيت النبوى
"عائشة بنت أبى بكر" فى عزة صباها ونضرة شبابها وحب الرسول لها، تشغلها الغيرة
من تلك الضرة التى سبقتها إلى قلب "محمد" واستأثرت به وحدها حتى يومها
الأخير، ثم ظلت بعد موتها حيث كانت من قلب المصطفى: أقبلت "هالة بنت خويلد،
أخت خديجة" لزيارة المدينة، وسمع محمد- عليه الصلاة والسلام- صوتها فى فناء
بيته، وكان يشبه صوت العزيزة الراحلة، فهتف خافق القلب:
- اللهم هالة !
فما ملكت "عائشة" نفسها أن قالت:
"ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت فى الدهر، أبدلك
الله خيراً منها؟!"(3)
فتغير وجهه عليه الصلاة والسلام ورد على عائشة:
"والله
ما أبدلنى الله خيراً منها: آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتنى إذ كذبنى الناس،
وواستنى بمالها إذ حرمنى الناس، ورزقنى منها الله الولد دون غيرها من النساء"(4)
فأمسكت "عائشة" وهى تقول فى نفسها:
"والله لا أذكرها بعدها أبداً"(5)
وكانت قبل ذاك، لا تكف عن الكلام
فيها!
قالت له يوماً وقد ألفته لا ينقطع عن ذكرها:
"كأن لم يكن فى الدنيا امرأة إلا خديجة!"
فرد عليها صلى الله عليه وسلم:
- ... إنها كانت وكانت، وكان لى منها ولد...
ورأته صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة يقول: "أرسلوا إلى أصدقاء
خديجة". فحدثته فى ذلك مرة، فقال: إنى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر الإصابة: جـ8 والسمط 17. (2) ابن هشام: السيرة 2/207 - ولحديث القلادة فصل خاص فى كتاب "بنات النبى".
(3) المحب الطبرى،
السمط الثمين 15.
(4) السمط الثمين: 26 والاستيعاب: 4/1824.
(5) السمط الثمين: 26 والاستيعاب: 4/1824.
"لأحب حبيبها!"
وكثيراً ما سمعت عائشة رضى الله عنها تقول:
"ما حسدت امرأة ما حسدت خديجة، وما تزوجنى رسول الله صلى الله عليه
وسلم إلا بعد ما ماتت"(1)
أو تقول:
"ما غرت من امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ما غرت من خديجة
لما كنت أسمع من ذكره لها. وما تزوجنى إلا بعد موتها بثلاث سنين"(2)
وحتى يوم الفتح، وقد مضى على وفاة السيدة خديجة أكثر من عشر سنين حافلة بأجل ألأحداث، نرى رسول الله يختار مكاناً إلى جوار القبر الذى ثوت فيه زوجه الأولى، ليشرف منه على فتح "مكة" وليقيم فيه قبة ضربت له هناك(3)، تؤنسه روح "خديجة" ثم تصحبه من بعد الفتح وهو يطوف بالكعبة ويحطم الأصنام، ملتفتاً يين آونة وأخرى إلى بيتها العزيز، حيث رشف محمد من نبع الحب والحنان ما تزود به لذاك الكفاح المضنى الطويل...
وتدخل فى الإسلام من بعد "خديجة" ملايين النساء، لكنها ستظل منفردة دونهن بلقب المسلمة الأولى التى آثرها الله بالدور الأجل فى حياة نبيه المصطفى عليه ا!لصلاة والسلام. وسيذكر لها المؤرخون، المسلمون وغير المسلمين، ذلك الدور، فيقول "بودلى":
"إن
ثقتها فى الرجل الذى تزوجته- لأنها أحبته- كانت تضفى جواً من الثقة على المراحل
الأولى للعقيدة التى يدين بها اليوم واحد فى كل سبعة من سكان العالم"(4)
ويؤرخ "مرجيلوث" حياة محمد، رسولا، باليوم الذى لقى فيه خديجة "ومدت يدها إليه تقديراً". كما يؤرخ حادث هجرته إلى "يثرب" باليوم الذى خلت فيه "مكة" من "خديجة" ورقدت تحت الثرى..
ويطيل "درمنجم"(5) الحديث
عن موقف "خديجة" حين جاءها زوجها من غار حراء "خائفاً مقرورًا أشعث
الشعر واللحية، غريب النظرات. فإذا بها ترد إليه السكينة والأمن، وتسبغ عليه ودَ الحبيبة
وإخلاص الزوجة وحنان الأمهات، وتضمه إلى صدرها فيجد فيه حضن الأم الذى يحتمى به من
كل عدوان في الدنيا".
وكتب عن وفاتها:
" .. فقد محمد بوفاة خديجة تلك التى كانت أول من علم أمره فصدقته، تلك التى لم تكف عن إلقاء السكينة فى قلبه .. تلك التى ظلت ما عاشت تشمله بحب الزوجات وحنان الأمهات".
ودرمنجم هنا، يدرك ما غاب عن كثير من قومه المستشرقين الذين فاتهم أن
يقدروا حاجة الشاب اليتيم إلى الأمومة، حين تحدثوا عن زواجه بالأرملة الموسرة:
فمرجليوث يجعل لمال خديجة المكان الأول فى زواج كهذا "بين شاب فقير، وأرملة
كهذه كهلة مات عنها زوجان من بنى مخزوم وتركا لها ثروة ذات شأن" ثم يمضى فيكتب،
بكلمات تقطر سمًا وحقداً:
"إن دعوة خديجة جاءت
محمداً وهو يجتر كلمات مريرة سمعها من عمه أبى طالب حين خطب إليه ابنته أم هانئ، فردًه
لفقره وزوجها لذى مال. واستشعر محمد ذلة الفقر ومهانته، فما كاد يسمع عن رغبة خديجة
فى الزواج منه حتى أقبل متلهفاً على الثراء، يداوى به جرح كرامته التى أهدرها فقره"(6)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المرجع نفسه: ص 24. (2) السمط الثمين: 24- والاستيعاب: 4/1823.
(3) تاريخ الطبرى- حوادث السنة الثامنة للهجرة "جـ
3".
(4) بودلى: الرسول.
الترجمة العربية لمحمد فرج وعبد الحميد السحار.
(5) حياة محمد لدرمنجم: ص 58 من الترجمة العربية للأستاذ
عادل زعيتر.
(6) راجع فى أمر هذه الخطبة: طبقات ابن سعد، والسمط
الثمين 134.
وكذب "مرجليوث" فما كان مال "خديجة" هو الذى جذب
"محمداً" وجعله يتجاوز عما بينه وبينها من فرق السن، وإنما جذبه إليها
جمالُ شخصيتها ودماثة طبعها ولطف سجاياها.
وكان ما بينهما من فرق السن
كافياً وحده لأن يرضى حاجته الملحة إلى عطف الأمومة التى افتقدها منذ كان طفلا فى
السادسة، وظل على الأيام يجد لذعة الحرمان منها مرة المذاق..
وأعجب من قول "مرجيلوث" هذا، ما تحدث به "موير"(1)
عما وراء وفاء محمد لخديجة من تهيب لمركزها المالى والاجتماعى، وخوف من أن تطالبه
بالطلاق!
وكان على "موير" أن يفسر لنا: فيم إذن كان وفاؤه لها بعد موتها؟
.. وهل كان صلى الله عليه وسلم يخاف أن تطالبه بالطلاق، وهو يخاصم
"عائشة" فيها بعد وفاتها بسنين، ويأبى عليها أن تمس ذكرها؟!
لقد كانت "خديجة" ملء حياة المصطفى حية وميتة، وما جاوزت
"عائشة" الحق حين قالت لزوجها الرسول: "كأن لم يكن فى الدنيا امرأة
سواها".
وهل كان باستطاعة امرأة سواها أن تأسو جرحه القديم الغائر الذى تركه فى
أعماقه موتُ أمه بين يديه؟!
هل كان لأنثى غيرها، أن تهيئ له الجو المسعف على التأمل، وأن تبذل له من
نفسها فى إيثار نادر، ما أعده لتلقى رسالة الله ؟!
هل كان لزوجه عداها، أن تستقبل عودته التاريخية من غار "حراء"
بمثل ما استقبلته هى به من حنان مستثار وعطف فياض وإيمان قوى، دون أن يساورها فى
صدقه أدنى ريب، أو يتخلى عنها يقينها فى أن الله غيرُ مخزيه أبداً؟!
هل كان فى طاقة سيدة غير خديجة، غنية مترفة منعمة، أن تتخلى راضية عن كل
ما ألفت من راحة ورخاء ونعمة لتقف إلى جانب رجلها فى أحلك أوقات المحنة، وتعينه
على احتمال أفدح ضروب الأذى والاضطهاد، فى سبيل ما تؤمن بأنه الحق؟
كلا... بل هى وحدها، التى أعدتها الأقدار لتملأ حياة الرجل الموعود بالنبوة، وتكون لليتيم أماً وللبطل ملهمة، وللمجاهد ملاذاً وسكناً، وللنبى المصطفى وزيراً.
قال ابن إسحق(2): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيبه له فيحزنه ذلك، إلا فرج الله عنه بخديجة رضي الله عنها: إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس، حتى ماتت رضى الله عنها".
وتركت الراحلة من بعدها، بناتها الأربع ملء حياة أبيهن الرسول صلى الله
عليه وسلم. وملء التاريخ الإسلامى. وقد أفردت لهن كتابى عن "بنات النبى"
وفيه تفصيل ما أجملت هنا عن أمومة السيدة خديجة، أم المؤمنين الأولى..
أما ولدها "هند بن أبى
هالة" ربيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد شهد يوم أحد، وقيل إنه شهد بدراً
كذلك. كما شهد يوم الجمل مع على بن أبى طالب كرم الله وجهه. وفى رواية إنه مات
يومئذ، ويقال بل مات بالبصرة فى الطاعون، "فاذدحم الناس على جنازته وتركوا
جنائزهم وقالوا: مات أخو فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم .."(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) The Life of Mohamed and the History of Islam
(2) فى السيرة: وانظر السمط الثمين: 23.
(3) الاستيعاب:
4/1545، وجمهرة أنساب العرب (199) وقد تزوجت بنت خديجة- من عتيق بن عائذ- فى بنى
مخزوم. وكان يقال لولدها محمد: ابن الطاهرة، يعنون جدته لأمه: خديجة بنت خويلد.
انظر (نسب قريش: 334- والإصابة رقم 72).
أرملة المهاجر
"... والله ما بـــــى على الأزواج من حرص،
ولكنى أحب
أن يبعثنى الله يوم القيامـــــة
زوجاً للرســــــــــول عليه
الصلاة والسلام"
سودة بنت زمعة
أم المؤمنين
الأيام تمضى ثقيلات الخطو مرهقات بأعباء الدعوة وتكاليف الجهاد والليالى
كوالح مسهدات، مشحونة بالذكريات، ومحمد صلى الله عليه وسلم فى وحدته بعد خديجة: أم
العيال وربة البيت ووزيره فى الإسلام وشريكته فى الجهاد، يخلو إلى نفسه كلما أجهده
ما يلقى من قومه، ليسامر طيف التى ملأت دنياه.
والصحابة يرقبون آثار الحزن على نبيهم فيشفقون عليه من تلك الوحدة، ويودون
لو يتزوج، لعل فى الزواج ما يونس وحشته بعد "أم المؤمنين" الراحلة.
لكن واحداً منهم لم يجرؤ على التحدث إليه إبان حداده فى موضوع الزواج، فلما
انتهت أيام الحداد، كانت "خولة بنت حكيم السلمية"(1) هى
التى سعت إليه ذات مساء متلطفة مترفقة، تقول:
"يا رسول الله، كأنى أراك قد دخلتك خلة لفقد خديجة؟"
فأجاب: "أجل، كانت أم العيال وربة البيت"
فتشاغلت "خولة" بالنظر إلى بعيد، ثم أقبلت على الرسول فاقترحت عليه
فجأة أن يتزوج!
وأطرق عليه الصلاة والسلام صامتاً، يصغى إلى وجيب قلبه العامر بذكرى الراحلة، ويتذكر "نفيسة بنت منية" حين جاءته منذ بضع وعشرين سنة، تحدثه فى الزواج وتعرض عليه "خديجة بنت خويلد"!
ثم آب إلى محدثته "خولة" وسألها فى نبرة عتاب:
- من .... بعد خديجة؟
فردت "خوله" على الفور، كأنما انتظرت هذا السؤال وأعدت له
الجواب: "عائشة .. بنت أحب الناس إليك"(2) !
وتفتح قلب الرسول حين ذكر صاحبه: أول رجل صدقه وآمن به بعد أبن عمه على، ومولاه زيد، ثم وقف إلى جانبه من اللحظة الأولى، باذلا من ماله ونفسه أغلى ما يبذل أخ وصاحب وصديق(3).
وذكر المصطفى مع "أبى بكر" ابنته عائشة، تلك الصبية اللطيفة الحلوة،
التى طالما آنسته بمرحها ولطفها وحيويتها ..
ولم يستطع أن يقول لخولة: لا ...
ولو حاول أن يقولها، لما طاوعه لسانه!
أيرفض بنت أبى بكر؟
تأبى عليه ذلك صحبة طويلة مخلصة، ومكانة لأبى بكر عنده، وأنس إلى تلك الصغيرة العزيزة، الذكية الملامح، اللطيفة المحيا ..
- لكنها ما تزال صغيرة يا خولة ...
وكان رد "خولة" حاضرًا:
- تخطبها اليوم إلى أبيها ثم تنتظر حتى تنضج ..
حتى تنضج؟ ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/175 والسمط الثمين: 103، والجزء الثامن من الإصابة.
(2) تاريخ الطبرى: 3/175.
(3) ابن هشام:
السيرة 1/266، 267.
لكن، من للبيت يرعى شئونه ومن لبنات الرسول يخدمهن؟
وهل جاءت "خولة" لتعرض زواجاً آجلا، لن يتم قبل سنتين أو ثلاث؟ ..
كلا، بل جاءت وفى خاطرها اثنتان، إحداهما بِكر وهى "عائشة بنت أبى
بكر" .. والأخرى ثيب، هى "سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس ابن عبد ود
العامرية"(1) وأمها "الشموس بنت قيس" من بنى عدى بن
النجار(2) .
وأذن لها الرسول فى خطبتهما، فمرت أولا ببيت "أبى بكر" ثم جاءت بيت "زمعة" فدخلت على ابنته "سودة" تقول(3):
- ماذا
أدخل الله عليك من الخير والبركة يا سودة؟
فسألت "سودة " وهى لا تدرى مرادها:
- وماذا يا خولة؟
قالت: أرسلنى رسول الله أخطبك عليه!
وجاهدت "سودة" لتملك نفسها من فرط العجب والدهشة، ثم قالت فى
صوت مرتجف:
- وددتُ! .. ادخلى على أبى فاذكرى له ذلك.
فدخلت "خولة" عليه وهو شيخ كبير تخلف عن الحج، فحيته بتحية
الجاهلية، ثم قالت:
- إن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسلنى أخطب عليه سودة.
فصاح الشيخ:
- كفء كريم. فماذا تقول صاحبته؟
أجابته خولة: تحب ذاك.
فسألها أن تدعوها إليه، فلما جاءت تلقاها قائلا:
- أى سودة، زعمت هذه أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أرسل يخطبك، وهو
كفء كريم، أفتحبين أن أزوجكه؟
فلم تقل إلا كلمة واحدة: نعم(4)
وهنا أشار "زمعة بن قيس" إلى خولة أن تدعو إليه "محمداً"، فقامت تدعوه للزواج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من بنى عامر بن لؤى- انظر
نسب قريش: 421، وجمهرة الأنساب: 1257 ذخائر.
(2) فى السيرة 1/352 والاستيعاب: 4/1867 أن الشموس بنت قيس بن ذيد بن عمرو-
والذى فى (نسب قريش: 422 وجمهرة أنساب العرب: 158) أنها بنت قيس بن عمرو بن زيد.
(3) السمط الثمين: 102- وتاريخ الطبرى 3/176.
(4) الحوار بنصه، منقول من تاريخ الطبرى: 3/176.
وشاع فى "مكة" أن المصطفى قد خطب "سودة بنت زمعة" فكاد ناس لا يصدقون سمعهم، فما فى مثل "سودة" مأرب، وتساءلوا فى ارتياب: أرملة، مسنة، غير ذات جمال، تخلف "خديجة بنت خويلد" التى كانت يوم خطبها الشاب الهاشمى اليتيم الفقير، سيدة نساء مكة، ومطمح أنظار السادة من قريش؟.
كلا، لن تخلف "سودة" أو سواها "خديجة" وإنما تجيء إلي
بيت الرسول جبراً لخاطرها، وعزاء لها عن زوجها ابن عمها: "السكران بن عمرو ابن
عبد شمس العامرى"، الذى هاجرت معه فيمن هاجر إلى الحبشة(1)، ثم
مات عنها مهاجراً فى الغربة.
وتركها من بعده، قد أسلمتها وحشة الاغتراب إلى محنة الترمل.
وذكر رسول الله أولئك النفر الثمانية من بنى عامر بن لؤى، يخرجون من ديارهم
وأموالهم ويجوزون القفر المرهوب ثم يركبون أهوال البحر، لينجوا بدينهم من مطاردة شرسة
آثمة، تحاول أن تردهم قسراً إلى متاهة الضلال ومهواة الشرك.
من هؤلاء النفر الثمانية، كان مالك بن زمعة بن قيس بن عبد شمس العامرى أخو
سودة، و"السكران بن عمرو بن عبد شمس" زوجها وابن عمها، وأخواه "سليط
وحاطب ولدا عمرو بن عبد شمس" وابن أخيهم "عبد الله ابن سهيل بن عمرو"(2).
وصحب ثلاثة من الثمانية أزواجهم، وكلهن عامريات: سودة بنت زمعة ابن قيس بن عبد شمس، وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو بن عبد شمس، وعمرة بنت الوقدان بن عبد شمس(3).
وهكذا خرجت الأسرة المؤمنة، برجالها ونسائها، من دارها ووطنها، راضية بما هو أقسى من الموت، فى سبيل الله..
وتمثل الرسول عليه الصلاة والسلام "سودة" وهى تودع أرضاً عزيزة حُلًت
بها تمائمها وازدهر فيها صباها واطمأنت على أرضها كهولتها، ثم تمضى إلى بلد مجهول،
وناس لا هى منهم ولا هم منها، لسانهم غير عربى، ودينهم غير الإسلام. وقبل أن تئوب
من غربتها إلى "أم القرى"، فاضت روح زوجها "السكران بن عمرو"
لم يمهله الموت ريثما يعود كيما يدفن فى ثرى مكة، مرقد من مضوا من الأهل والعشيرة(4).
وتأثر صلى الله عليه وسلم للمهاجرة المؤمنة المترملة، فما كادت "خولة
بنت حكيم" تذكرها له، حتى مد يده الرحيمة إليها يسند شيخوختها، ويهون عليها
الذى ذاقت من قسوة الحياة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام 1/652- والسمط الثمين 101- وانظر الإصابة لابن حجر 8- وراجع
معه تاريخ الطبرى: 2/157 وجمهرة أنساب العرب 157.
(2) ابن هشام: السيرة: 1/352، وانظر معه تاريخ الطبرى: 2/222، أما سهيل، أبو عبد الله، فبقى على دين آبائه، وتولى المفاوضة عن قريش فى
صلح الحديبية، ثم أسلم فقام فى الإسلام مقاماً محموداً (الاستيعاب رقم 1106).
(3) ابن هشام: السيرة 1/352- وتاريخ الطبرى جـ 2.
(4) اتفقت الرواية
فى جمهرة الأنساب "157" وتاريخ الطبرى "3/172" على أن السكران
مات بأرض الحبشة، وفى الأولى أنه مات هناك مهاجراً، وفى الطبرى أنه تنصر ومات بها.
والذى فى السيرة "2/8" أنه مات بمكة قبل هجرة الرسول، ولم يشر قط إلى
تنصره. واقتصر فى نسب قريش "422" على أنه هلك عن سودة. وكذلك جاء الخبر
عنه فى "الاستيعاب 4/1867".
وأصبحت "سودة" ذات يوم، فإذا هى زوجة لرسول الله المبعوث بدين
الإسلام ..
وداخلتها رهبة من جلال زوجها، وقاست نفسها إليه، ثم إلى "خديجة"
الزوج الأولى، ثم إلى "عائشة" العروس الصبية المنتظرة، فأحست كأن الأرض
تميد بها من فرط دهشتها وعجبها.
ولم تخدعها نفسها قط، بل أدركت بتجربة سنها أن بينها وبين قلب محمد عليه- صلى الله عليه وسلم- حاجزاً لا سبيل إلى اقتحامه.
وعرفت من اللحظة الأولي التى جمعتها بزوجها، أن "الرسول" هو
الذى تزوجها، لا "الرجل" الذى لم تجرده النبوة من بشريته.
وأيقنت دون ريب، أن حظها من الرسول بر ورحمة، لا حب وتآلف وامتزاج ..
لكن ذلك لم يرعها، بل كان حسبها أن رفعها رسول الله إلى تلك المكانة، وأن جعل منها- أرملة السكران بن عمرو- أما للمؤمنين.
وأرضاها كل الرضى أن تأخذ مكانها فى بيت رسول الله، وأن تخدم بناته...
وكان يسعدها أن تراه صلى الله عليه وسلم يضحك من مشيتها- وكانت ثقيلة
الجسم(1)- وأن يأنس أحياناً إلى خفة روحها أو يستملح عبارة
من عباراتها..
قالت له مرة:
"صليتُ خلفك الليلةَ يا رسول الله، فركعت بى حتى أمسكت بأنفى مخافة أن يقطر الدم!".
فتبسم عليه الصلاة والسلام ضاحكاً من قولها...
وكانت فيها طيبة توشك أن تكون سذاجة. روى "ابن إسحاق":
"قُدِم بأسرى بدر، وسودة بنت زمعة زوج النبى صلى الله عليه وسلم عند
آل عفراء، فى مناحتهم على عوف ومعوذ ابنى عفراء، وذلك قبل أن يضرب على أمهات
المؤمنين الحجاب.
"قال: تقول سودة: والله إنى لعندهم إذ قيل: هؤلاء الأسارى قد أتى
بهم. فرجعت إلى بيتى ورسول صلى الله عليه وسلم فيه، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو-
أخو السكران بن عمرو- فى ناحية الحجرة، مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلا والله ما
ملكت نفسى، حين رأيت أبا يزيد كذلك، أن قلت:
- أى أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم، ألا متم كراماً؟
فوالله ما أنبهنى إلا قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت:
- يا سودة، أعلى الله ورسوله تحرضين؟
قلت: يا رسول الله، والذى بعثك بالحق، ما ملكت نفسى حين رأيت أبا يزيد مجموعة
يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت"(2)
ظلت "سودة" تقوم على بيت الرسول حتى جاءت "عائشة بنت أبى
بكر" فأفسحت لها "سودة" المكان الأول فى البيت، وحرصت جهدها على أن
تتحرى مرضاة العروس الشابة، وأن تسهر على راحتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب:
4/1867.
(2) السيرة: 2/299.
***
ثم وفدت على بيت الرسول أزواج أخريات، فيهن حفصة بنت عمر، وزينب بنت جحش،
وأم سلمة بنت أبي أمية المخزومى زاد الركب، فما ترددت سودة فى إيثار "عائشة
بنت أبى بكر" بإخلاصها ومودتها، وإن لم تظهر ضيقاً بهؤلاء اللائى يستأثرن
دونها بعواطف الزوج.
لكنه صلى الله عليه وسلم، أشفق عليها من الحرمان العاطفى، وكره لها قسوة الشعور بأنها ليست مثل الأخريات، وحاول جهد طاقته أن يفتح لها قلبه، لكن بشريته لم تطاوعه، فكان أقصى ما استطاعه لها، أن يعدل بينها وبين نسائه فيما يملك من مبيت ونفقة، وأما عواطفه فأنى له وهو بشر، أن يقسرها على غير ما تهوى أو يخضعها بإرادته لموازين العدل وضوابط القسمة!
وبدا له آخر الأمر أن يسرحها سراحاً جميلا كيما يعفيها من وضع أحس أنه يؤذيها
ويجرح قلبها، وإن لم تبد منها بادرة شكوى أو ضيق. وانتظر صلى الله عليه وسلم إلى
أن جاءت ليلتها، فأنبأها مترفقاً بعزمه على طلاقها(1).
وسمعت النبأ ذاهلة، وأحست كأن الجدران تطبق على صدرها فلا تدع لها متنفساً،
فرفعت وجهها إلي الرسول فى ضراعة صامتة، ومدت يدها مستنجدة فأمسك بها رسول الله
حانياً مشفقاً، وبوده لو استطاع أن يذهب عنها الروع الذى كاد أن يقضى عليها ..
وآبت إليها سكينتها فهمست فى ضراعة:
-
أمسكنى، ووالله ما بى على الأزواج من حرص، ولكنى أحب أن يبعثى الله يوم القيامة
زوجاً لك(2).
ثم أطرقت محزونة، وقد عزَ عليها أن تحمله صلى الله عليه وسلم على ما يكره، وأنكرت على نفسها ألا تستجيب لرغبته فى تسريحها وهى التى تهب حياتها راضية لكى تتحرى مرضاته.
وأحست برودة الشيخوخة تناوش جسدها الكليل الثقيل، فخجلت من تشبثها بزوج
تتنافس على حبه عائشة بنت أبى بكر، وزينب بنت جحش، وأم سلمة بنت زاد الركب، وحفصة
بنت عمر! .. وأنكرت أن تنتزع لنفسها بين هؤلاء مكاناً، بل شعرت أنها إذ تأخذ
ليلتها مثلهن، كأنما تأخذ ما لا حق لها فيه! ..
وهمت بأن تجيب فى قهر وعلى استحياء:
- سرحنى يا رسول الله!
لكن المكلمات تعثرت على لسانها ..
وطال عذابها، وطالت حيرتها، والمصطفى إلى جانبها ينظر إليها صامتاً فى
إشفاق وتأثر.
وفجأة، لاح لها خاطر سكنت له نفسها، فرنت إلى المصطفى فى إعزاز ثم قالت فى هدوء:
- أبقنى
يا رسول الله، وأهب ليلتى لعائشة، وإنى لا أريد ما تريد النسا(3).
فتأثر "محمد" صلى الله عليه وسلم بهذه العاطفة الفياضة وذاك
الحب السمح، وراعه أن يأتى سودة ليسمعها كلمة الطلاق- وما أبغضها !- فيكون جوابها
هذا الإيثار النبيل، تتحرى به مرضاة الزوج الكريم(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فى رواية أخرى نقلها ابن حجر فى الإصابة 8/117- أنه
صلى الله عليه وسلم بعث إليها بطلاقها. "فقعدت على طريقه، فناشدته أن يرجعها.
وجعلت يومها وليلتها لعائشة. ففعل ..".
(2) ابن حجر، الإصابة: 8/117.
(3) الإصابة: 8/117 والاستيعاب: 4/1867- صحيح مسلم-
وانظر السمط الثمين، ص 103- ويقال إنها قد أشرفت يومئذ على المائة !
(4) السمط الثمين: ص 7.
وانجابت ظلمة الليل، فخرج المصطفى إلى المسجد لصلاة الفجر، وقامت "سودة
بنت زمعة" فى مخدعها تصلى وقلبها عامر بالرضى والإيمان !
***
فلندعها فى صلاتها راضية مطمئنة، شاكرة لله أن ألهمها هذا الحل الموفق، تنجو به من محنة فراقها لخير خلق الله، دون أن تستشعر الخزى بالحرص على الأزواج فى مثل سنها العالية!
ولقد عاشت فى بيت الرسول حتى لحق صلى الله عليه وسلم بربه، وفى الخبر أنها
عمرت حتى "توفيت فى آخر زمن عمر بن الخطاب رضى الله عنه".
وقد ظلت أم المؤمنين عائشة، تذكر لها صنيعها، وتؤثرها بجميل الوفاء، فتقول: "ما من الناس أحب إلى من أن أكون فى مسلاخه، من سودة بنت زمعة، إلا أن بها حدًة"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب:
4/1867.
حبيبة المصطفى
"أى بنية،
خفضى عليك الشــــــأن،
فوالله
لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها،
لها ضرائر، إلا كثرن وكثر النـــاسُ عليها"
أم رومان
والدة
عائشة
ونعود إلى حيث تركنا "خولة بنت حكيم" تقترح على المصطفى أن يتزوج عائشة بنت أبى بكر، فيتفتح قلبه صلى الله عليه وسلم لصلة تؤيد ما بينه وبين أحب الناس إليه من صحبة وقربى، وتربطهما معاً برباط المصاهرة الوثيق.
وأدع "لخولة" الحديث عن مسعاها فى هذه الخطبة فتقول فيما نقل الطبرى
المؤرخ(1):
دخلت ببيت أبى بكر فوجدت "أم رومان" أم عائشة، فقلت لها:
- أى أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة !
قالت: وما ذاك؟
أجبت: أرسلنى رسول الله أخطب له عائشة!
فقالت: وددت، انتظرى أبا بكر فإنه آت...
وجاء أبو بكر فقلت له:
- يا أبا بكر، ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة ! أرسلنى رسول الله أخطب عائشة..
قال وقد ذكر موضعه من الرسول:
- وهل تصلح له؟ .. إنما هى ابنة أخيه...
فرجعتُ إلى رسول الله فقالت له ذلك، فقال:
- ارجعى
إليه فقولى: أنت أخى فى الإسلام، وأنا أخوك، وابنتُك تصلح لى.
فأتيت أبا بكر فذكرت له فقال:
- انتظرينى حتى أرجع...
وقالت "أم رومان" تجلو الموقف للخاطبة:
- إن المطعم بن عدى كان قد ذكر عائشة على ابنه "جُبير" ولا والله
ما وعد أبو بكر شيئاً قط فأخلف.
فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته "أم جبير" وكانت كزوجها مشركة،
فقالت العجوز:
- يا ابن أبى قحافة، لعلنا إن زوجنا ابننا ابنتك، أن تصبئه وتدخله فى دينك
الذى أنت عليه؟!(2)
فلم يرد عليها "أبو بكر" بل التفت إلى زوجها "المطعم"
فقال:
- ما تقول هذه؟
أجاب: إنها تقول ذلك (الذى سمعت).
فخرج "أبو بكر" وقد شعر بارتياح لما أحله الله من وعده، وعاد إلى
بيته فقال لخولة:
- ادعى لى رسول الله...
فمضت "خولة" إلي المصطفى فدعته، فجاء بيت صديقه أبى بكر، فأنكحه
عائشة وهى يومئذ بنت ست سنين أو سبع(3)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى 3/176، وانظر معه المحب الطبرى فى السمط الثمين ص 31.
(2) المحب الطبرى: السمط الثمين 31. (3) السيرة: 4/293- وتاريخ الطبرى: 3/177- والإصابة جـ 8.
وكان صداقها خمسمائة درهم ..
ولا يذكر التاريخ عنها وقتذاك، إلا أنها بنت ست سنين أو سبع. وأنها كانت قد
خطبت لجبير بن المطعم بن عدى، وأبوها أبو بكر بن قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن
سعد بن تيم بن مرة. وأمها أم رومان بنت عمير ابن عامر، من بنى الحارث بن غنم بن كنانة.
وقد عُرف قومُ عائشة- بنو تيم- بالكرم والشجاعة والأمانة وسداد الرأى. كما كانوا مضرب المثل فى البر بنسائهم والترفق بهن وحسن معاملتهن...
ثم كان لأبيها إلى جانب هذا الميراث الطيب، شهرة ذائعة فى دماثة الخلق وحسن
العشرة ولين الجانب. وأجمع مؤرخو "الإسلام على أنه "كان أنسبَ قريش لقريش،
وأعلم الناس بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان رجلاً تاجراً ذا خلق معروف، يأتيه
رجال قومه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه وخبرته وحسن مجالسته"(1).
فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، أضاف "أبو بكر" إلى هذا كله
مجداً جديداً، فكان الرجل السابق إلى الإسلام، المناضل عنه بكل ما يملك، الداعى
إليه فى شجاعة وبسالة. ولمن شاء أن يرجع إلى "السيرة النبوية"(2)
ليقرأ أسماء من أسلم من الصحابة بفضل أبى بكر واستجابة لدعوته. وحسبنا أن نذكر
منهم هنا: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبى
وقاص، وطلحة بن عبيد الله ..
وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:
"ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظرً وتردد، إلا
ما كان من أبى بكر بن قحافة، ما عكم- أى ما تلبث- حين ذكرته له وما تردد فيه"(3).
وسمع عليه الصلاة والسلام يقول:
"ما
نفعنى مال قط، ما نفعنا مالُ أبى بكر".
قيل فبكى "أبو بكر" وقال: يا رسول الله، وهل أنا ومالى إلا لك؟".
***
وأم عائشة "أم رومان بنت عامر الكنانية"(4) من الصحابيات
الجليلات.
كانت قد تزوجت فى الجاهلية من
عبد الله بن الحارث الأسدى فولدت له الطفيل، ثم توفى عنها فخلف عليها أبو بكر
فولدت له عائشة وعبد الرحمن. وهاجرت إلى المدينة بعد أن استقر مقام الرسول وصاحبه
بها، فلما توفيت- بعد حادث الإفك- نزل صلى الله عليه وسلم إلى مدفنها واستغفر لها
وقال:
"اللهم لم يخف عليك ما لقيتْ أم رومان فيك وفى رسولك"(5)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة: 1/267- وانظر معه مناقب أبى بكر فى (صحيح
البخارى).
(2) لابن هشام 1/267.
(3) صحيح البخارى: 2/200 ط مصر.
(4) لا خلاف فى نسبها فى بنى مالك بن كنانة.
لكن الخلاف من أبيها إلى كنانة (الاستيعاب 4/1936) راجع معه الإصابة، ونسب
قريش: 276 وجمهرة أنساب العرب: 127- ذخائر.
(5) لم يختلفوا فى وفاتها بعد حادث الإفك، ولكنهم اختلفوا
فى تحديد سنة وفاتها ما بين اخريات السنة الرابعة، والسنة السادسة للهجرة. راجع
ترجمتها فى أسد الغابة، والإصابة والاستيعاب.
كان حَسبُ "عائشة" أن تكون بنت الصاحب الصديق، ليفتح لها الرسول من دنياه موصَدَ الأبواب .. لكنها كانت إلى جانب هذه البنوة، ذات لطف آسر وذكاء لماح وصبا غض نضير.
وقد ولدت بمكة فى الإسلام، بعد أربع سنين أو خمس من المبعث، فلم يكفها أن تكون
مسلمة بالبنوة لأب مسلم، بل أسلمت هى وأختها أسماء، وكان المسلمون إذ ذاك قلة
معدودة(1).
وعرفها محمد، صلى الله عليه وسلم، منذ طفولتها الباكرة، وأنزلها من نفسه أعز ما تنزل ابنة غالية. وشاهدها تنمو بين عينيه ويتفتح صباها عن ملاحة أخاذة وبديهة حاضرة، مع فصاحة فى اللسان وشجاعة فى القلب، إذ كان الذى تولى حضانتها جماعة من بنى مخزوم.
وبلغ من إعزازه إياها، أن كان بعد خطبتها، يوصى بها أمها قائلا:
"يا أم رومان، استوصى بعائشة خيراً واحفظينى فيها"
فإذا رآها يوما غاضبة، وقف فى صفها وقال لأمها فى عتاب رقيق:
"يا أم رومان، ألم أوصك بعائشة أن تحفظينى فيها؟"
***
ولم تدهش "مكة" حين أعلن نبأ المصاهرة بين أعز صاحبين وأوفى
صديقين، بل استقبلته كما تستقبل أمراً طبيعياً مألوفاً ومتوقعاً. ولم يجد فيها أى
رجل من أعداء الرسول أنفسهم موضعا لمقال، بل لم يدر بخلد واحد من خصومه الألداء،
أن يتخذ من زواج محمد صلى الله عليه وسلم بعائشة مطعناً أو منفذاً للتجريح والاتهام،
وهم الذين لم يتركوا سبيلا للطعن عليه إلا سلكوه، ولو كان بهتاناً وزوراً ..
وماذا عساهم أن يقولوا؟..
هل ينكرون أن تخطب صبية كعائشة، لم تتجاوز السابعة من عمرها على أبعد
تقدير؟
لكنها قد ذكرت قبل أن يخطبها "محمد بن عبد الله" على "جبير
بن مطعم بن عدى" بحيث لم يستطع "أبو بكر" أن يعطى كلمته لخولة بنت
حكيم، حتى مضى فتحلل من وعده لأبى جبير.
فهل ينكرون أن يكون زواج بين صبية فى سنها، وبين رجل اكتهل وبلغ الثالثة
والخمسين؟
وأى عجب فى مثل هذا، وما كانت أول صبية تزف فى تلك البيئة إلى رجل فى سن
أبيها، ولن تكون كذلك أخراهن؟ لقد تزوج "عبد المطلب" الشيخ من
"هاله، الزهرية" بنت عم "أمنة" فى اليوم الذي تزوج فيه عبد الله
أصغر أبنائه، من تِرب هالة "آمنة بنت وهب".
وسيتزوج "عمر بن الخطاب" من بنت على بن أبى طالب، وهو في سن فوق سن أبيها!
ويعرض "عمر" على "أبى بكر" أن يتزوج ابنته الشابة "حفصة" وبينهما من فارق السن مثل الذى بين الرسول وعائشة...
لكن نفراً من المستشرقين يأتون بعد قرون ذات عدد من ذلك الزواج، فيهدرون
فروق العصر والبيئة، ويطيلون القول فيما وصفوه بأنه "الجمع الغريب بين الزوج
الكهل والطفلة الغريرة العذراء"، ويقيسون بعين الهوى، زواجاً عقد فى مكة قبلى
الهجرة، بما يحدث اليوم فى الغرب المتحضر، حيث لا تتزوج الفتاة عادة قبل سن
الخامسة والعشرين، وهى سن تعتبر حتى وقتنا هذا جد متأخرة فى الجزيرة العربية، بل فى
الريف والبوادى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة: ج 8 والسيرة لابن هشام: 1/271.
من المشرق والمغرب. وهو ما أدركه مستشرق منصف زار الجزيرة وعاد يقول:
"كانت
عائشة على صغر سنها نامية ذلك النمو السريع الذى تنموه نساء العرب، والذى يسبب لهن
الهرم فى أواخر السنين التى تعقب العشرين ..
"ولكن هذا الزواج شغل بعض مؤرخين لمحمد .. نظروا إليه من وجهة نظر المجتمع العصرى الذى يعيشون فيه، فلم يقدروا أن زواجاً مثل ذاك، كان ولا يزال عادة آسيوية، ولم يفكروا فى أن هذه العادة لا زالت قائمة فى شرق أوربا، وكانت طبيعية فى أسبانيا والبرتغال إلى سنين قليلة، وأنها ليست غير عادية اليوم، فى بعض المناطق الجبلية البعيدة بالولايات المتحدة... "(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بودلى: الرسول- ص 129 ش الترجمة العربية.
لم يرض "محمد صلى الله عليه وسلم" أن ينتزع الصبية اللطيفة
المرحة من ملاهى حداثتها، أو يثقل كاهلها الغض بأعباء الزوجية ومسئولياتها، بل
تركها حيث هى في بيت أبيها، تمرح خلية البال. مع لداتها وصواحبها وأترابها.
وكان كل حظه منها أن تسرع إليه كلما مر ببيت "أبى بكر" فتكاد
تنسيه بلطفها وإيناسها، المشاغل الجسام التى تنتظره لدى الباب، وتزيل عنه تلك
الوحشة المضنية يستشعرها كلـما أوى إلى منزله وحيداً غريباً ..
وحيداً، وإن كان فى عصمته "سودة بنت زمعة" تتفانى فى خدمته وتقوم على شئون داره وبناته.
غريبا، وإن يكن مقيماً فى مكة: بلد آبائه وأجداده منذ ما لا يحصى من الدهور والأحقاب.
وطاب له أن يسعى إلى بيت صاحبه "أبى بكر" كلما اشتدت عليه وطأة الشعور بالوحدة والغربة، ليلاطف خطيبته الصغيرة ويغرق أشجانه فى فيض من دعابتها الذكية ومرحها الفياض.
وطاب لعائشة أن ترى رسول الله بكل عظمته وجلاله ومهابته ووقاره، يرتاح إليها ويأنس إلى صحبتها ويجد فى عالمها المرح ما يجذبه إليه، فى بساطة حلوة وألفة حبيبة.
وازدهاها "ألا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يأتى بيت أبى
بكر أحد طرفى النهار، إما بكرة وإما عشية"(1).
وذات يوم- وقد بلغت محنة
الاضطهاد ذروتها القاسية، وخرج المسلمون عن مكة إلى يثرب مهاجرين، فلم يتخلف(2) مع الرسول إلا من حُبِسَ أو فتن، غير أبى بكر وعلى بن أبى طالب- علت
شمس الضحى حتى توسطت كبد السماء، وراحت تقذف الأرض بالحمم وتظلها بظلة من لهب، وران
على الكون ذلك الصمت المكدود والسكون اللاغب، وكانت "عائشة" فى فناء الدار،
يأبى عليها مرح صباها أن تهجع القيلولة.
وفجأة أحست خطوات تدنو من الباب، فأصغت فى لهفة وقد عرفت فيها خطوات خطيبها
الحبيب المصطفى.
وبادرت إلى الباب تفتحه مشوقة مرحبة، فما لمح "أبو بكر" شخص الرسول قريباً من الدار فى تلك الساعة من حر الهاجرة، حتى وثب من مهجعه وهو يقول:
"ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث".
فلما دخل المصطفى، تأخر له "أبو بكر" عن سريره، فجلس عليه
الصلاة والسلام، يبدو عليه أنه مشغول البال بأمر جلل، فأمسكت "عائشة" أنفاسها،
وكذلك فعلت أختها "أسماء"، ووقفتا خاشعتين تترقبان ..
وتكلم الرسول فقال لصاحبه دون أن ينظر إلى من في الحجرة:
"أخرج عنى من عندك" !(3).
فأجاب الصديق: يا رسول الله، إنما هما ابنتاى...
ثم أضاف مستفسراً فى قلق:
- وما ذاك فداك أبى وأمى؟
قال عليه الصلاة والسلام:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة جـ 8- والسيرة: 2/128.
(2) ابن هشام: السيرة 2/132.
(3) ابن هشام: السيرة- 2/129 وانظر تاريخ الطبرى: 2/245.
"قد أذن لى فى الخروج والهجرة .."
فهتف الصديق: الصحبة يا رسول الله .. الصحبة !
وكان كثيراً ما يستأذن الرسول فى الهجرة فيقول له:
"لا
تعجل، لعل الله يجعل لك صاحباً".
فيطمع فى أن يكونه...
وتذاكر الصاحبان- على مسمع من عائشة وأسماء- ما كان من غيظ قريش "حين
صارت لمحمد، بعد بيعة العقبة الكبرى، شيعة وأنصار من غيرهم، بغير بلدهم، ورأوا
خروج أصحابه من المهاجرين إليهم، عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا ملاذاً، فحَذِروا
خروج رسول الله إليهم، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم. فاجتمعوا فى دار الندوة- وهى
دار قصى بن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمراً إلا فيها- يتشاورون فيما يصنعون فى
أمر الرسول .. "(2)
وكان فيهم عتبة بن ربيعة- أبو هند- وشيبة أخوه، وأبو سفيان بن حرب، وطعيمة بن عدى، وجبير بن مطعم، والنضر بن الحارث بن كلدة، وزمعة بن الأسود، وأبو الحكم بن هشام- أبو جهل- وحكيم بن خزام، وأمية بن خلف، وغيرهم ممن لا يعد من قريش.
واستقروا آخر الأمر على رأى لأبى جهل بن هشام المخزومى: أن تأخذ كل قبيلة
فتى شاباً جليداً نسيباً، فيعطىَ كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إلى محمد
فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعاً،
فلا يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً، فيرضوا منهم بالدية! (3)
وأذن الله لرسوله فى الهجرة، وأختار أبا بكر له صاحباً !
وأحست "عائشة" ضيقاً وقلقاً من الفراق الوشيك، وتطلعت إلى النبى الحبيب ثم إلى أبيها العزيز، فما راعها إلا أن رأته يبكى من الفرح.
وما شعرت قط- فى سنها الغضة- قبل اليوم أن أحداً يبكى من الفرح، حتى رأت
أباها يفعل يومئذ(4).
***
وبدأ التأهب لرحيل عاجل...
بعث "أبو بكر" يدعو إليه "عبد الله بن أريقط" وكان
دليلا ثقة، خبيراً بمجاهل الطريق، فدفع إليه راحلتين يرعاهما لميعادهما الموقوت(5).
ودعا المصطفى إليه ابن عمه "على بن أبى طالب" فأسر إليه النبأ
الخطير، ثم استخلفه بمكة ليؤدى عنه ودائع كانت عنده للناس(6).
فلما حانت ساعة الرحيل، وقف المصطفى على مرتفع هناك ببيت أبى بكر، فرنا
إلى "البيت العتيق" وقتاً، ثم أشرف على "أم القرى" وقال بصوت
متهدج:
"والله إنك لأحب أرض الله إلى، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام:
السيرة- 2/138.
(2) بن هشام، السيرة: 2/124: 126.
(3) تاريخ الطبرى: 2/244.
(4) تاريخ الطبرى: 2/246.
(5) ، (6) السيرة: 2/129- وتاريخ
الطبرى: 2/247.
ثم استدار فنظر إلى "عائشة" وحاول جهده أن يبتسم لها مودعاً،
وقد أذهلها الفراق المفاجئ السريع، فما درت أفى يقظة هى أم تلك رؤيا منام ..
***
وتسلل الصاحبان من خوخة فى ظهر بيت أبى بكر، وقد حمل الصديق معه خمسة آلاف درهم هى كل ما بقى له ولأهله من مال(1)، ثم انطلقا وما يعلم أحد فى "مكة" بخروجهما إلا "على بن أبى طالب " وآل أبى بكر...
وأخذ المهاجران طريقهما إلى غار يعرفانه فى "جبل ثور" بأسفل مكة، وبقيت "عائشة" فى الدار وحيدة قلقة.
أما أخوها "عبد الله" فانطلق إلى مجتمع البلدة، يتسمع ما يقول الناس...
وأما أختها "أسماء" فشغلت بتدبير طعام تحمله خفية إلى الغار إذا
جن المساء(2).
وسمعت "عائشة" من أخيها "عبد الله" أن المشركين قد أحسوا
خروج الرسول، وجعلوا مائة ناقة لمن يرده عليهم أو يدلهم عليه ..
وكادت نفسها تطير شعاعاً،
لولا أن عصمها من اليأس أيمانها بالله ورسوله، فضلا عما كانت تسمع من حديث أخيها
إلى مولاهم "عامر بن قهيرة" أن يرعى النهار فى رعيان أهل مكة، فإذا أمسى
أراح غنم أبى بكر على الغار!.
وكانت مشغلة "عائشة" طول النهار أن تعد الدقائق وهى تمضى فى بطء
كأنها أعوام، مرهفة سمعها إلى نبأ جديد. فإذا ولى النهار وتأهبت أختها "أسماء"
لرحلتها المسائية، حملتها "عائشة" تحياتها ودعواتها للراحلين العزيزين،
ثم وقفت تحدق فى الطريق مترقبة عودة "أسماء" وقلبها يذوب من لهفة وقلق.
وتعود "أسماء" فتثب إليها عائشة معانقة، تقبل عينيها اللتين رأتا الحبيب والأب، واليد التى صافحتهما، والأذن التى سمعت صوتهما، ثم تجلس إليها لتسمع منها ما رأت من حالهما..
وتحدثها "أسماء" عن مشقة الإقامة فى الغار، وعما كان من حزن أبى
بكر حين رأى الرسول فى ضيق الغار مع فرقة الأهل ووحشة الغربة، فقال:
"إن قُتلتُ فإنما أنا رجل واحد. وإن قُتٍِلتَ أنت هلكت الأمة".
فيذهب الرسول عنه الخوف بقوله:
"لا
تحزن إن الله معنا"(3).
وتظل "عائشة" تستعيد حديث أختها المرة بعد المرة، حتى ينال منها الجهد والسهد، فتستسلم عيناها للغمض، وتحوم روحها حول الغار القريب، مأوي أعز من لها فى الوجود.
***
ومر اليوم الثانى يحمل أنباء جديدة عن خروج نفر من قريش لمطاردة محمد وصاحبه، ثم حان المساء وتسللت "أسماء" خفية تحمل الزاد، فلما عادت قصت على "عائشة" كيف أن المطاردين بلغوا الغار، وتلبثوا عنده برهة، بل هموا بالنزول إليه، لولا أن صدهم عنه نسيج من عنكبوت على فم الغار، وحمامتان وحشيتان وقعتا عليه!
وحدثتها عن قلق أبيها حين أحس بالمطاردين يقفون على قيد خطوة منهما ويتشاورون فى اقتحام الغار، فقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام،
السيرة: 2/133.
(2) ابن هشام، السيرة: 2/130، 131.
(3) قرآن كريم: سورة
التوبة، من آية 40.
للمصطفى:
- لو أن أحدهم نظر تحت قدمه لرآنا ..
فكان جوابه، عليه الصلاة والسلام:
- ما ظنك باثنين، الله ثالثهما؟!
***
فلما كانت الليلة الثالثة، وقفت "عائشة" فى مرقبها إثر نهار مشحون بالقلق، ترصد الطريق .. وطال بها الانتظار أكثر مما اعتادت، وهى مرهفة الحواس تحدق فى غسق الدجى لعلها تلمح شخص "أسماء"، وتتسمع بملء وعيها وانتباهها، لعل هواء الليل يحمل إليها حسًا من خطوات بعيدة!
ومضى وهن من الليل وهى فى وقفتها تلك تذهب بها الظنون والهواجس كل مذهب، حتى أقبلت "أسماء" أخيراً تسرى على عجل، مضطربة الخطو متلاحقة الأنفاس.
وجمًد القلق حركة "عائشة" فوقفت حيث هى، تحدق فى نطاق
"أسماء" الذى عادت به من رحلتها ممزقاً، قد غاب الشق منه!
ورحمتها "أسماء" فعجلت لها بشرى خروجهما سالمين من الغار، ثم انتظرت
لحظة تسترد أنفاسها، وأقبلت تحدث "عائشة" عما كان:
ففى هدأة المساء من تلك
الليلة التاريخية الخالدة على الدهر، جاء الدليل، "عبد الله بن أريقط البكرى"،
يسوق الراحلتين اللتين أودعهما إياه أبو بكر منذ أيام، وراحلة له ثالثة، فأناخ عند
فتحة الغار، فخرج الرسول وصاحبه، وجاءت "أسماء" بطعامها فى سفرة وقد فاتها
أن تجعل للسفرة عصاما، فلما هما بالرحيل وأرادت أن تعلقها، أعوزها العصام تربط به
السفرة إلى الرحل، فحلت نطاقها فشقته نصفين، علقت السفرة بأحدهما، وانتطقت بالشق
الآخر(1).
ونظر "أبو بكر" إلى الراحلتين يفحصهما، ثم اختار أفضلهما فقربها
إلى المصطفى قائلا: " اركب .. فداك أبى وأمى"..
فركب، ثم ركب "أبو بكر" وأردف خلفه مولاه "عامر بن فهيرة"...
وسرى الركب من أسفل مكة ممعنًا إلى الجنوب فى طريق غير مطروق، ووقفت
"أسماء" تتبعه بصرها وقلبها حتى أبعد، فعادت وحدها إلى بيت أبيها، وهى
توجس خيفة من تنبه المطاردين.
***
وغابت "عائشة" عما حولها، ومضت تسرى بروحها فى أثر الراحلين، فما
راعها إلا طرقات عنيفة تلح على الباب، فوقفت مكانها لا تملك حراكا وخرجت ذات
النطاقين تلقى الطارقين بليلٍ، فإذا نفر من قريش- فيهم أبو جهل بن هشام- يسألونها
فى غلظة:
"أين أبوك يا بنت أبى بكر"؟
أجابت: "لا أدرى والله أين أبى !"
وما كذبت، فقد كان آخر عهدها بأبيها منطلقاً مع المصطفى من الغار، ساريا
فى مجاهل الفلاة، إلى حيث لا تدرى أين بلغ به سراه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة 2/131 والإصابة: جـ 8- وتاريخ الطبرى: 2/247.
فلم تشعر إلا ويد "أبى جهل" ترتفع بغتة فتلطم خدها لطمة قاسية،
طرحت قرطها!(1)
ثم انصرفوا بغيظهم يتهددون ويتوعدون...
***
ومضت أيام وليال، لم يكن لمكة فيها من حديث إلا عن تلك المطاردة العنيفة، تعدو
فيها قريش وراء المهاجر شبه أعزل، وقد جن خوفها أن ينجو بدعوته إلى حيث يغدو
مطمئناً وما لها إليه من سبيل(2).
ونجا المصطفى وصاحبه ..
وتضاربت الأنباء فى وجهته، حتى جاء خبر من يثرب أن الأنصار هناك يخرجون إذا صلوا الصبح إلى ظاهر المدينة منتظرين، فما يبرحون مكانهم حتى تغلبهم الشمس على الظلال ..
وإذ هم يدخلون بيوتهم ذات يوم ولم يبق ظل، سمعوا صيحة رجل من يهود كان
هناك بمرصد:
- يا بنى قيلة، هذا جدكم قد جاء(3).
فخرجوا مسرعين ليروا المصطفى فى ظل شجرة ومعه أبو بكر فى مثل سنه، وأكثرهم
لم يكن رأى الرسول قبل ذلك، فحفوا بالصاحبين وما يعرفون أيهما الرسول، حتى زال
الظل عن أحدهما فقام الثانى فأظله بردائه، فعرفوا إذ ذاك نبيهم الكريم !(4).
وسرى النبأ فى أنحاء "يثرب" وتعالي الهتاف من كل مكان، وبدأت
الأفواج تملأ الطرقات ساعية فى شوق ولهفة إلى حيث تلقى المهاجر العظيم، وصيحاتُ
ابتهاجهم وأناشيد ترحيبهم، تشق أجواز الفضاء !
وعرفت "عائشة" مكان الحبيب...
وكذلك عرفت قريش، حين لم تعد تجديها معرفة، وجاء دورها لتنتظر فى خوف وذعر
ماذا يأتي به الغد..
انكمشت فى ذلة، تجرع كأس الهوان، أن أعجزها الظفر بمهاجر فردٍ، خرج من "مكة" وليس معه غير صاحب شيخ، ودليل غير مسلم. ومولى تابع...
وأرهف التاريخ سمعه، يبدأ بهذه الهجرة إلى يثرب أخطر حركة تحول فى تاريخ الإسلام،
ويبدأ بها ليثرب نفسها، عهداً جديداً مباركاً، ومجداً خالداً على الدهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة 2/132- وتاريخ الطبرى: 2/247.
(2) ابن هشام، السيرة: 1/134 وانظر تاريخ الطبرى حوادث
الهجرة.
(3) السيرة: 2/137 وانظر نسب "قيلة: أم الأوس
والخزرج" فى: (وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى" للسمهودى ص 8: 156 ط
1855.
(4) تاريخ الطبرى: 2/248.
بعد نحو شهر، جاء "زيد بن حارثة" من دار الهجرة ليصحب بنات المصطفى
إليها، ومعه رسالة من "أبى بكر" إلي ابنه عبد الله، يطلب إليه فيها أن
يلحق به، مصطحباً "أم رومان: زوج أبى بكر"، وابنتيه "أسماء،
وعائشة"(1).
وتهيأ الجمع للسفر، وخرجوا صحبة يريدون مدينة الرسول، وما تكاد الدنيا تسع "عائشة" من فرحتها وابتهاجها، وقد أمضت الأيام الأولى للسفر مرحة تتوثب، فلما كانوا ببعض الطريق نفر بعيرها فاستغاثت "أم رومان" مذعورة:
"وابنتاه،
وا عروساه!"(2).
وأسرع عبد الله بن أبى بكر، وطلحة بن عبيد الله، وزيد بن حارثة، فردوا البعير النافر، ومن ثم سكنت عائشة فوق راحلتها وأسبلت عينيها منتشية بقرب لقاء الأعزاء.
***
وفى "المدينة" كان المصطفى يهيئ مقاماً لعائشة.
حدثوا أنه صلى الله عليه وسلم أقام فى "قباء" أربعة أيام، أسس
خلالها أول مسجد فى الإسلام، وكان مقامه عليه الصلاة والسلام بقباء، فى مربد هناك
لكلثوم بن الهرم الأنصارى(3).
وركب ناقته "القصواء" يوم جمعة، فأدركته صلاتها فى "بنى
سالم ابن عوف" فصلى أول جمعة بالمدينة، ثم استأنف مسيره فكلما مر بحى من
أحياء يثرب خرج إليه رجاله مرحبين داعين:
"هلم إلينا يا رسول الله، إلى العدد والعدة والمنعة".
فيجيب شاكراً: "خلوا سبيل ناقتى".
حتى انتهت إلى مربد هناك فأناخت عليه، قريباً من دار "أبى أيوب
الأنصارى" وفيها نزل رسول الله حتى بنى مسجده ومساكنه حيث أناخت ناقته(4).
وتنافس المهاجرون والأنصار فى البناء، حتى تم بناء مسجد المدينة، ومن حوله تسع حجرات، بعضها من الجريد والطين، ويعضها من حجارة مرضومة، بعضها فوق بعض.
وكانت أبوابها جميعا تفتح على ساحة المسجد.
وفى واحد من هذه البيوت أقامت "سودة بنت زمعة" ترعى الشئون
المنزلية، وتسهر على راحة المصطفى وبنتيه أم كلثوم، وفاطمة ..
أما "رقية" فكانت مع زوجها "عثمان بن عفان".
وأما "زينب" فكانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع"
وكان لا يزال مشركاً، لم يفرق بينهما الإسلام بعد...
***
وإذ تم بناء مسجد الرسول وبيته، واستقر المسلمون فى دار الهجرة واطمأن بهم
المقام آمنين من اضطهاد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1، 2) تاريخ الطبرى: حوادث الهجرة- والإصابة 8، والاستيعاب (4/1937)
ووفاء الوفا: 1/264.
(3) السيرة لابن هشام: 2/139- وتاريخ الطبرى: 2/256 ووفاء الوفا بأخبار
دار المصطفى للسمهودى: 1/250.
(4) السمهودى: وفاء الوفا: 1/256.
عدوهم، تحدث "أبو
بكر" بعد الهجرة بأشهر معدودات، إلى محمد صلى الله عليه وسلم فى إتمام الزواج
الذى عقده بمكة منذ ثلاث سنين.
فلبى المصطفى راضياً، وأسرع مع رجال ونساء من الأنصار إلى منزل صهره الصديق،
حيث كان يقيم فى بنى الحارث بن الخزرج.
وتصف "عائشة" يوم عرسها فتقول(1) :
"جاء رسول الله بيتنا فاجتمع إليه رجال من الأنصار ونساء، فجاءتنى أمى، وأنا فى
أرجوحة بين عذقين، فأنزلتنى ثم سوًت شعرى ومسحت وجهى بشيء من ماء، ثم أقبلت تقودنى
حتى إذا كنت عند الباب، وقفت بى حتى ذهب بعض نفسي، ثم أدخلتنى ورسول الله جالس على
سرير فى بيتنا، فأجلستنى فى حجره وقالت:
- هؤلاء أهلك فبارك الله لك فيهن وبارك لهن فيك.
ووثب القوم والنساء فخرجوا، وبنى بى رسول الله في بيتى، ما نُحِرتْ على
جزور ولا ذبحت من شاة، أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلي رسول الله".
وحُمل إليهما كذلك قدح من لبن، شرب المصطفى منه، ثم تناولته العروس على استحياء
فشربت منه...
وكانت عائشة عروساً حلوة، خفيفة الجسم، ذات عينين واسعتين، وشعر جعد، ووجه
مشرق، مشرب بحمرة. وقد انتقلت إلى بيتها الجديد، وما كان هذا البيت سوى حجرة من
الحجرات التى شيدت حول المسجد، من اللبن وسعف النخيل، ووضع فيه فراش من أدَم حشوه
ليف، ليس بينه وبين الأرض إلا الحصير. وعلى فتحة الباب أسدل ستار من الشعر .. (2).
وفى هذا البيت المتواضع بدأت "عائشة" حياة زوجية حافلة، ستظل حديث التاريخ حتى يومنا هذا وغد وبعده، كما بدأت تأخذ مكانها المرموق فى حياة الرسول والإسلام.
كانت صغيرة السن، يحسبها محدثون من مؤرخى الفرنجة طفلة، لكنها بشهادة
مستشرق منهم، "منذ وطئت قدماها بيت محمد، كان الجميع يحسون وجودها. ولو أن
هناك شابة عرفت ما هى مقبلة عليه لكانت عائشة بنت أبى بكر .. فلقد كونت شخصيتها
منذ اليوم الأول الذى دخلت فيه دور النبى الملحقة بالمسجد"(3).
وأدق من هذا أن يقال إن "عائشة" قد اكتمل نموها فى هذا البيت، ونضجت
شخصيتها وتدرجت بين عينى الرسول من صبية يأتيها زوجها بصواحبها ليلعبن معها، أو يحملها
على عاتقه لتطل على نفر من الحبشة يلعبون الحراب(4) إلى
شابة ناضجة مجربة، تسألها امرأة فى مسألة دقيقة من مسائل الزينة والتجميل،
فتجيبها: "إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعى مقلتيك فتضعيهما أحسن مما هما
فافعلى !".
وتكره أن تلقى امرأة زوجها فى كآبة الحداد فتروى الحديث:
"لا يحل لامرأة تؤمن بالله أن تحد فوق ثلاثة أيام إلا على زوج".
***
ولم يكن وجود "سودة" على مقربة منها، زوجة ثانية للرجل الذى أحبـته
"عائشة" بكل كيانها، يشغل بالها فى كثير أو قليل، فما غاب عنها قط ألا
مكان لسودة فى قلب الزوج، وإنما الذى كان يشغل عائشة، هو ذلك الحب العميق الذى ظفرت
به "خديجة" قبلها من زوجها المصطفى، وتلك المكانة التى احتفظ بها لمن
استأثرت بكل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة 8- والسمط الثمين ص 32- وتاريخ الطبرى: 3/176 ووفاء الوفا:
1/260.
(2) السمهودى: وفاء الوفا 2/459 :461.
(3) بودلى: الرسول، ص 93، 130 من الترجمة العربية.
(4) المسند: جـ 6، صحيح البخارى 30/182 ط الشرقية.
عواطفه نحو ربع قرن من الزمان
!
وأشد ما كان يغيظ العروس الشابة، أن خديجة بقيت تشاركها عواطف زوجها، وهى
راقدة هنالك بعيداً تحت ثرى مكة، فما تستطيع "عائشة" أن تشتفى منها بدعابة
قاسية، أو تباهيها بشبابها الغض وصباها الفتى النضير، أو تفاخرها بأنها زُفًَتْ إلى
زوجها بكراً لم تعرف قط رجلا غيره.
وحاولت "عائشة" أن تتجاهل هذه الضرة التى ماتت، فذهبت محاولتها عبثاً. ذلك أن طيف "خديجة" بقى ماثلا أبداً أمام عينى زوجها المصطفى، واسمها الحبيب على لسانه، وصوتها فى مسمعه، وذكراها حية ملء بيته ودنياه.
وزاد فى قسوة الموقف أن الشهور مضت والأعوام، و"عائشة" لا تنجب لزوجها ولداً، على حين أنجبت "تلك العجوز من قريش"- كما كانت تصفها- البنين والبنات.
وكانت عائشة تعرف فى زوجها، وفى رجال قومها جميعاً ذلك الحب الفطرى للأبناء،
والحرص على الإنجاب، ثم ترى من تعلق زوجها ببنات خديجة، ما يرهف شعورها بوطأة
الحرمان قاسية باهظة، لولا ما يغمرها من عطف الزوج ومحبته، وما يأخذها به إيمانها
من تجمل بالصبر فيما لا حيلة لها فيه.
وكانت بحيث تجد فى بنات محمد، زوجها الحبيب، ما يلطف من وقدة ظمئها إلى
الأمومة، لو حاولت أن تتبناهن، لكنها ما تكاد تذكر أنهن، كذلك، بنات ضرتها
"خديجة" حتى تحس كأن حواجز منيعة تقوم بينها وبينهن، بل تحس أن كل واحدة
منهن، هى صورة شخصية لخديجة، تثير فيها شعوراً مراً بالعقم، وتذكرها فى كل آن بما
كتب عليها من حرمان.
والتفتت عائشة حولها تلتمس من أبناء إخوتها من تفيض عليه عواطف أمومتها المحرومة
كى، لا يرهقها الكبت، فأنزلت ابن أختها أسماء "عبد الله بن الزبير"
منزلة الابن، وبه كانت تكنى فيقال: "أم عبد الله"(1). ولما
مات أخوها الشقيق "عبد الرحمن" ضمت إليها ابنه القاسم وابنته الطفلة،
فيقول القاسم:
"فما رأيت والدة قط أبر منها".
وكذلك حاولت أن تستعين على ما تجد من حرمان، بما عرفت لها من موضع في قلب المصطفى لم تبلغه أخرى بعد السيدة خديجة، وما حظيت به من حب الزوج، وتدليله وإيثاره ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب:
34/188.
وإذ هى سعيدة بهذا الحب تحاول أن تجد فيه عوضاً عن حرمانها، "آملة أن تستطيع به- ولو بعد حين- تناسى ضرتها التى ماتت، فوجئت بزوج جديدة تفد إلى بيت النبى، وتشغل الحجرة التالية لحجرتها وحجرة "سودة"، وتشاركها فى حياتها الزوجية، يوما بيوم وليلة بليلة!
ومن الزوج الجديدة؟
إنها "حفصة" بنت عمر بن الخطاب الذى أعز الله الإسلام به!
وروع "عائشة" أن يتزوج عليها محمد صلى الله عليه وسلم، وما تزوج قط على خديجة، حتى ماتت فى الخامسة والستين!
وأشقاها ألا يحميها شبابها ومجد أبوتها، وحب الرسول لها، من ذلك الهم
البغيض المرير، الذى لم يرض المصطفى لخديجة أن تذوقه ما عاشت!
وجاءت من بعد "حفصة" أزواج أخريات، حتى امتلأت بهن البيوت التسعة...
كانت فيهن "زينب بنت جحش" الشابة الجميلة، و"أم سلمة بنت أبى
أمية زاد الركب" الحسناء الأبية المترفعة، و"جويرية بنت الحارث"
التى تأخذ العين بملاحتها، و"صفية بنت حيى" سليلة اليهود، الناعمة
الساحرة، و"أم حبيبة" بنت أبى سفيان زعيم مكة وقائد جيشها...
ثم كانت هناك، "مارية" المصرية الجذابة، أم إبراهيم بن محمد.
وريحانة بنت عمرو: حسناء بنى قريظة، لم يتزوجها الرسول، لكنها أقامت فى ملكه
ما عاش.
وكان هذا بحيث يجعل "السيدة عائشة" تسبغ هذه المشاركة على مر
الأيام، لكن يخطئ من يزعم أن "عائشة" أساغت يوما مرارة الضرائر، ويجهل فطرة
حواء من يظن أن "عائشة" استراحت من ألم حرمانها من الأبناء ووجدت فى كنيتها
بأم عبد الله، أو فى أمومتها للمؤمنين جميعاً، ما يطفئ شوقها لأن يكون لها ولد من
زوج حبيب، عز مثله فى الأزواج.
ولم تدر "عائشة" أول الأمر كيف تدفع هذا الضر المحتوم، فقد كانت
تعرف- كما يعرف سواها- أن الرسول يتزوج لحكمة، وإن لم تبرأ بشريته من رغبة.
وكانت تعلم، ويعلم المسلمون جميعاً، أن عائشة هى الزوج الحبيبة المفضلة، رغم
تعدد الزوجات.
فهل تسكن إلى رضى واستسلام؟
كلا، وإنما عليها أن تذود هؤلاء الأخريات عن مكانها فى قلب زوجها مهما يكلفها الأمر، وأن تحاول بكل أنوثتها وذكائها وصباها، أن تلزمهن موضعاً بعينه لا يتجاوزنه.
وأعانها على ذلك أن كان الرسول بشراً لا يتجرد من بشريته ولا يحمل "عائشة"
أو غيرها من نسائه على التجرد منها.
فلتستجب "عائشة" لفطرتها دون كبت أو قهر، ولتكن لأزواجه مشاغلهن النسوية وشواغلهن العاطفية، ولو جمحت بهن الغيرة، وكلفته صلى الله عليه وسلم من أمرهن شططا.
***
وكانت "عائشة" بين أزواج النبى أشدهن غيرة عليه، ونضالا فى سبيل
الاستئثار بحبه.
وعذرها أنها أول من تفتح لها قلبه بعد "خديجة"، وأنها وحدها التى تزوجها بكراً، وأنها "عائشة بنت أبى بكر".
وقد نظرت إلي ضرائرها تقيس نفسها إليهن، محاولة قدر ما وسعها الجهد أن تزن
كل واحدة منهن بإنصاف، لا لكى تعترف لهن بفضل أو ميزة، بل لأن معرفة الخصم أول
سلاح للمحارب!..
وبدأت، فأسقطت من حسابها غير ذوات الخطر منهن، ممن لا قبل لهن بمنافستها، مثل "سودة بنت زمعة"، و"زينب بنت خزيمة" التى لم تلبث أن ماتت بعد زواجها بأشهر معدودات.
ووجدت من بعد ذلك ألا طاقة لها بمحاربة ضرائرها مجتمعات، تظاهرهن
"فاطمة الزهراء" التى أرادت لها "عائشة " منذ جاءت البيت المحمدى،
أن تكون لها ضرة وخصماً.
وقررت أن تختار من هؤلاء، أبعدهن عن الخطر فى ميدان المنافسة، فتوددت فى شجاعة ولباقة إلى "حفصة بنت عمر"(1) متخذة من تقاربهما فى الأبوة سبيلا إلى هذا التودد.
واستجابت "حفصة" لهذا التودد وقد سرها أن تؤثرها "حبيبة المصطفى" بالمودة، وأن تقدر أن بنت عمر، أقرب الضرائر إلى بنت أبى يكر...
واتخذت "عائشة" من "حفصة" موضع سرها منذ سمعت بزواج الرسول من "أم سلمة" فشكت لحفصة أنها وجدتها أجمل مما يقول الناس...
وهونت "حفصة" من خطر "أم سلمة" فإنها على جمالها كبيرة السن، وإن الجمال ليذبل سريعاً فى مثل سنها، فلتبق عائشة غيرتها لمن تستحق...
وفعلت عائشة ..
ادخرت غيرتها للشابة القرشية الحسناء "زينب بنت جحش" وتأهبت لها
قبل أن تجيء، فما أعلن الرسول زواجه من بنت عمته، بعد أن عاتبه فيها الوحى، حتى
قالت عائشة فى غيرة وغضب:
"ما أرى ربك يسارع فى هواك"(2).
وراحت "عائشة" – تؤازرها حفصة- ترقب الزوج الجديدة وتحصى
الدقائق والساعات التى يقضيها زوجها معها، فلما رأته يطيل المكث لديها، فكرت فى
حيلة تصرفه صلى الله عليه وسلم عنها.
وأشركت معها، حفصة وسودة، أيتهن دخل الرسول عليها إثر انصرافه من عند
زينب، فلتقل له:
"أكلت مغافير؟"(3).
والمغافير ثمر حلو كريه الرائحة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يطيق
الرائحة الكريهة.
وجاء المصطفى "عائشة" فتشممت أنفاسه وقالت: "إننى أشم
رائحة مغافير، أكلت مغافير؟".
وكذلك قالت حفصة ..
ولما مر بسودة سألته مثل ذلك فأجاب: "لا".
سألت: "فما هذه الريح؟".
قال: "سقتنى زينب شربة من عسل".
فقالت سودة بلهجة الخبيرة بمراعى البادية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فى حديث السيدة عائشة عن حزب النساء، أن حزبها كان فيه حفصة وسودة وصفية، والحزب الآخر فيه أم سلمة وسائر الأزواج رضى الله عنهن (السمط الثمين: 39).
(2) ذكرت رواية أخرى
فى كلمتها هذه. انظر السمط الثمين: 82.
(3) السمط الثمين: 80، 81- وفى رواية أن التى سقته شربة
العسل هى السيدة حفصة رضى الله عنها.
"رعت نحلُة العرفط".
والعرفط: الشجر الذى يثمر المغافير.
فما كان من محمد، عليه الصلاة والسلام، إلا أن حرم على نفسه، من يومه، شرب
العسل عند "زينب".
وأحست "سودة" ندما فقالت لصاحبتيها: "سبحان الله! والله
لقد حرمناه"! (1).
فنظرت إليها عائشة، أن اسكتى!
***
حتى جاءت وافدات أخريات شغلن "عائشة" حيناً عن أم سلمة وزينب،
وإن عرفت أن هاتين أحب أزواج المصطفى إليه، بعدها ..
وإحدى هؤلاء الوافدات من كندة، وأخرى من مصر.
أما الأولى فكانت "أسماء بنت النعمان" التى أحست
"عائشة" خطر جمالها منذ وقعت عليها عيناها، وقدرت أنها إذا لم تحل يينها
وبين زوجها المصطفى، فسوف تكلفها من أمرها عسراً.
ومن ثم قررت أن تفرغ منها قبل أن يتم الزواج!
وبدأت تعمل على الفور مستعينة بصواحبها!
دعت إليها حفصة، وأخرى ممن يحرصن على إرضائها، فقالت لهما:
"قد وضع يده فى الغرائب يوشكن أن يصرفن وجهه عنا".
واتفقن على خطة موحدة: أقبلن
على العروس مهنئات، يجلونها للزفاف ويوصينها بما تفعل وما تقول استجلاباً لرضى
الزوج العظيم ومحبته، فكان مما نصحن به أن تستعيذ بالله إذا ما دخل عليها!
وفعلت المسكينة !
لم تكد ترى المصطفى مقبلا عليها، حتى استعاذت بالله(2)، وفى
حسابها أنها تستجلب محبته ورضاه!
فصرف رسول الله وجهه عنها وقال:
لقد عُذتِ بمعاذ"...
وغادرها من لحظته، وأمر أن تلحق بأهلها.
فبعثت إليه، أو بعث أبوها، من يشفع لها عند المصطفى لردها ويحدثه عما كان من نسائه معها، فلم يملك عليه الصلاة والسلام إلا أن يبتسم ويقول:
"إنهن
صواحبات يوسف، وإن كيدهن عظيم!".
وبقى عند كلمته، فلم يمسك تلك التى عاذت بمعاذ.
وتخلصت عائشة من منافسة خطرة!
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين: 80، 81- وفى رواية أن التى سقته شربة
العسل هى السيدة حفصة رضى الله عنها.
(2) اختلفت الروايات فى اسم التى استعاذت بالله عندما
دخل عليها الرسول، فقيل هى أسماء بنت النعمان، وقيل هى ابنة عم لها من كندة، (السيرة
4/297) وفى الطبرى أنها ملكة بنت داود الليثية: 3/123- أو فاطمة بنت الضحاك الكلابية:
3/139.
وأما "مارية المصرية" فلعل "عائشة" لم تأبه لها أول
الأمر، إذ كانت أمة أجنبية فى منزل دون منازل أمهات
المؤمنين.
وربما استكثرت "عائشة"عليها أن تعدها منافسة لها، وهى التى تعيش
خارج بيت النبى.
لكن "مارية" لم تكد تحمل من محمد صلى الله عليه وسلم، حتى هاجت غيرة "عائشة" وغيظها، فبدأت تكيد لها، والرسول يحاول أن يحميها من كيد الحبيبة المدلة بمكانتها.
حتى جاوز الأمر المدى: جاءت "مارية" ذات يوم تلتمس لقاءه فى شأن
لها، فخلا بها فى بيت حفصة التى كانت حينذاك تزور أهلها. فلما عادت "حفصة"
إلى بيتها ألفت الستر مسدلا وعلمت أن "مارية" هناك، فأقامت تنتظر على
أحر من الجمر، حتى إذا انصرفت "مارية" دخلت "حفصة" على زوجها
باكية مقهورة، ولم تهدأ حتى حرًَم "مارية" على نفسه، موصياً "حفصة"
بكتمان ما كان(1)..
لكن حفصة لم تستطع أن تكتم سراً عن عائشة، فكأنما أشعلت فيها النار. واندفعت "عائشة" تستثير ضرائرها، فما زالت بهن حتى انضممن إليها وقد تناسين غيرتهن منها، وكانت كلمتهن:
"صبرنا
على إيثار الرسول لابنة أبى بكر، وما بقى إلا تلك الأمة القبطية، فأى هوان !".
ولجت عائشة فى غيرتها، والنساء
يظاهرنها على زوجهن الرسول، غيظاً من "مارية" التى حملت منه دونهن،
وترفق المصطفى بهن ما استطاع، مقدراً بواعث هذا التظاهر، لكنهن تمادين فى اللجاج
إلى حد الشطط، مستمرئات عطف الرسول ورفقته بهن ..
وما كان صلى الله عليه وسلم فارغ البال لهذا العبث النسوى المسرف، ولا كان
يستطيع أن يرخى لعائشة وحفصة والباقيات أكثر مما فعل، فاعتزلهن جميعاً فى صرامة لم
يألفنها، وأعلن فى حزم أنه منقطع عنهن، منصرف عن مؤامراتهن الصغيرة إلى شواغله
الكبار..
وسرت شائعة بين المسلمين أن النبى مطلق نساءه، وانكمشت المتظاهرات فى البيت النبوى حزينات نادمات، فقد جاوز الأمر ما قدرن، وأوشكن على الوقوع فى الهوة التى حفرنها لمارية، وما لهن من عاصم يقيهن سوء المصير، إذا لم تدركهن رحمة الله تعالى، وعفو رسوله عليه الصلاة والسلام.
على أن "عائشة"- قائدة الثورة وزعيمة المتظاهرات- لم تفزع لغضب زوجها،
بقدر ما فزعت لما مسه صلى الله عليه وسلم من مشقة. وكان قلبها يتمزق، كلما تمثلت
الحبيب يعود من ميدان الجهاد مثقل الكاهل بأشق المسئوليات، فيأوى إلى خزانة له ذات
مشربة(2)، يرقى إليها على جذع خشن من جذوع النخل، ويجلس
غلامه "رباح" على عتبتها ما أقام عليه الصلاة والسلام بها، وما من يد رقيقة
تمسح عن جبينه الطاهر قطرات العرق، وتنفض عنه غبار المعركة، ولا من صوت رقيق يهدهد
مضجعه حتى ينام !
ومضى شهر بأكمله والرسول عليه
الصلاة والسلام فى شغل عنهن، و"عائشة" فى شغل به، وأمهات المؤمنين مروعات
بالهجر، والمسلمون يرقبون نبيهم عليه الصلاة والسلام فى عزلته، دون أن يجرؤوا على
مفاتحته فى موضوع أزواجه.
***
ولكن الرسول لم يطلق نساءه.
والله، جل جلاله، لم يتخل عنهن، بل اكتفى بإنذارهن إن لم يتُبن فعسى ربه
إن طلقهن، أن يبدله أزواجا خيراً منهن! (3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين: 85. (2) انظر وصف المشربة
التى اعتزل فيها نساءه، بكتاب (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى) للسمهودى: 2/ 463. (3) سورة التحريم.
وطارت البشرى إلى أمهات المؤمنين أن الرسول صلى الله عليه وسلم عائد إلى
بيته، فوقفن بأبوابهن فى لهفة يلتمسن نظرة إلى وجهه الكريم إذ يعود من معتزله، على
حين بقيت "عائشة" داخل حجرتها تستعد للقاء الحبيب العائد، إذ كانت تعرف
عن يقين أن إليها أول المطاف! (1).
***
وأمسكت قلبها أن يذوب حين سمعت خطواته تقترب من بابها، ولاذت بكل ما
استطاعت من تماسك لتتلقاه قائلة فى عتاب رقيق:
"بأبى أنت وأمى يا نبى الله! قلتُ كلمة لم الق لها بالا، فغضبتَ علىَ".
وإذ أقبل عليها مصغيًا، استطردت تقول فى دعابة حلوة:
"أقسمتَ أن تهجرنا شهراً، ولما يمض منه غير تسع وعشرين!".
فأشرق وجهه عليه الصلاة والسلام بابتسامة عذبة، وقد سره أن يعرف أنها كانت
تحصى ليالى الفراق عدًَا..
وأجابها بأن شهرهما ذاك، تسع وعشرون ليلة!..
***
ونجت "السيدة عائشة" من محنة الهجر، ومن قبل نجاها الله من محنة
أدهى وأقسى، وتجلت لها رحمته تعالى حين أظلمت الدنيا حولها، وأوشكت، على الضياع...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين:
53.
حدث ذلك فى نحو السنة السادسة للهجرة، بعد أن تزوج المصطفى بنت عمته:
" السيدة زينب بنت جحش".
وكان عليه الصلاة والسلام يتأهب لغزو بنى المصطلق، فأقرع بين نسائه على
عادته، كلما خرج فى سفر أو غزوة، فخرج سهم "عائشة"(1).
وانطلقت فى صحبته سعيدة هانئة، وقد سرها أن تنفرد بزوجها الحبيب أياماً
وليالى لا تشاركها فيه أخرى.
وكانت فألا حسناً على البطل الغازى، فعاد من غزوته منتصراً، وسار ركبه
الظافر يغذ السير إلى "المدينة" التى كانت إذ ذاك تهزج بأغانى النصر..
وفى الطريق، قريباً من المدينة، أناخ العسكر فباتوا بعض الليل، ثم أذن فيهم بالرحيل، فارتحلوا، وما يخطر ببال أحدهم أن السيدة عائشة قد تخلفت حيث أناخوا.
ويلغ الركب المدينة فى مطلع الصبح، واقتيد بعير أم المؤمنين إلى مناخه
أمام بيتها، وأنزل الهودج فى رفق، فإذا أم المؤمنين ليست فيه!
ولبث المصطفى وصحبه ساعة من نهار، حائرين قلقين، وانطلق بعضهم فى الطريق يلتمسون العزيزة الغائبة...
حتى بدت من بعيد، تركب بعيراً، يقوده رجل عرفوا فيه "صفوان بن المعطل
السلمى".
واطمأن زوجها، عليه الصلاة والسلام، أن وجدها بخير، وسمع حديثها عن سبب
تخلفها فما أنكر منه حرفاً.
قالت:
"خرجت لبعض حاجتى، قبل أن يؤذن فى الناس بالرحيل، وفى عنقى عقد لى فيه جزع "ظفار"- مدينة باليمن- فلما فرغتُ انسلَ من عنقى ولا أدرى. فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه فى عنقى فلم أجده، وقد أخذ الناس فى الرحيل، فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه فالتمسته حتى وجدته، وجاء القوم- وأنا بعيدة- فرحلوا بعيرى وأخذوا الهودج وهم يظنون أنى فيه- إذ كنت خفيفة لم يُثقلنى اللحمُ- فاحتملوا الهودج فشدوه على البعير ولم يشكوا أنى فيه. ثم أخذوا برأس البعير فانطلقوا به، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب، قد انطلق الناس...
"فتلففت
بجلبابى، ثم اضطجعت فى مكانى، وعرفت أنْ لو قد افتُقَدتُ لرُجِعَ إلى. فوالله إنى
لمضطجعة، إذ مر بى صفوان بن المعطل السلمى، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته فلم
يبت مع الناس، فرأى سوادى فأقبل حتى وقف علىَ- وقد كان يراها قبل أن يضرب عليها
الحجاب- فلما رآنى قال:
- "إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله صلى الله عليه وسلم!
ما خلفك يرحمك الله؟!
فما كلمته..
ثم قرب البعير فقال: اركبى.
واستأخر عنى، فركبت، وأخذ برأس البعير فانطلق سريعاً يطلب الناس، فو الله ما
أدركنا الناس وما افتُقِدتُ، حتى أصبحتُ ونزل الناس. وطلع الرجل يقود بى"(2).
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/67- السيرة: 3/310 وانظر طبقات ابن سعد: 4/46 ليدن.
(2) ابن هشام: السيرة 3/310- وتاريخ الطبرى: 3/68.
وأوت "عائشة" إلى فراشها فنامت هادئة، والمدينة يقظى لا تنام!
ذلك أن اليهود، وقوما من ذوى الضغن
والنفاق على رأسهم "عبد الله بن أبى ابن سلول"- الذى ما برئ من حقده على
الرسول وما فتئ يكيد له- تلقفوا الحادثة فنسجوا حولها ما شاءوا من مفتريات، ليشفوا
وترهم وأحقادهم..
وانتقل حديث الإفك من أوكار اليهود ودار "ابن سلول" ومن لف لفه،
إلى أحياء المدينة، وردده ناس من المسلمين، فيهم "حسان بن ثابت" شاعر
الرسول، و"مسطح بنى أثاثة" قريب أبى بكر وموضع بره، و"حمنة بنت جحش"
ابنة عمة النبى وأخت زوجه زينب!..
وبلغ الحديث أذنى محمد صلى الله عليه وسلم، كما بلغ مسامع أبى بكر وأم رومان فصكها صكاً! لكن أحداً منهم لم يستطع أن يواجه "عائشة" بالشائعة الرهيبة، إذ كانت منذ عادت من غزوة بنى المصطلق، معتلة تشتكى شكوى شديدة، فظلت لا تدرى ما يقول الناس عنها ولا يبلغها من ذلك شئ. إلا أنها أنكرت من رسول الله جفوة ظاهرة، وقد عودها من قبل إذا اشتكت أن يلطف بها ويغمرها بحنان وافر، فأمست هذه المرة ولا حظ لها من ذلك العطف والحنان، إلا أن يدخل عليها من حين إلى حين، وعندها أمها تمرضها فيسأل:
"كيف
تيكم؟" لا يزيد على ذلك! (1)
ولم تشأ أن تسأله عما يريبها من جفائه، فقد كان يبدو لها واجماً مشغول البال، وكانت تحس بقلبها أنه صلى الله عليه وسلم يكابد هماً ثقيلا، فتماسكت متجلدة، وهى تعلل نفسها بانقشاع هذه السحابة التى غشيت دنياها.
حتى جاوز جفاؤه احتمالها، فقالت لزوجها المصطفى:
"لو أذنتَ لى، فانتقلتُ إلى أمى، فمرضتنى؟"
فلم يزد، صلى الله عليه وسلم، على أن قال: "لا عليك"
فتقول "عائشة":
"فانتقلت إلى أمى ولا علم لى بشيء مما كان، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة...
"فخرجت
ليلة لبعض حاجتى ومعى أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف- وكانت أمها بنت
صخر بن عامر بن كعب بن سعد ابن تيم، خالة أبى بكر- فوالله إنها لتمشى معى إذ عثرتْ
فى مرطها فقالت:
- تَعِسَ مسطح!
قلت:
- بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدراً!
فسألت فى دهشة:
- أو ما بلغك الخبر يا بنت أبى بكر؟
قلت: وما الخبر؟
قالت: نعم والله، لقد كان....
فوالله ما قدرت على أن أقضى حاجتى، ورجعت فمازلت أبكى حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدى، وقلت لأمى:
- يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لى من ذلك شيئا؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين:
64 وتاريخ الطبرى: 3/68 ط مصر.
قالت:
- أي بنية! خفضى عليك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل
يحبها، لها ضرائر، إلا كثرَن وكثر الناسُ عليها! (1)
لكن "عائشة" باتت مسهدة لا يرقأ لها دمع ولا يغمض لها جفن..
***
وبعيداً عنها كان زوجها المصطفى يعانى مثل الذى تعانيه: قلبه يحدثه أنها
ضحية افتراء فاحش ظالم، وأذناه تصغيان إلى الشائعات المرجفة بالسوء. وقد قام فى
الناس يخطبهم ولا علم لعائشة بذلك، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
"يا أيها الناس، ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ويقولون عليهم غير
الحق؟ .. والله ما علمت عنهم إلا خيراً، ويقولون ذلك لرجلٍ والله ما علمت منه إلا
خيراً، وما يدخل بيتاً من بيوتى إلا وهو معى".
فتكاد أفئدة المسلمين تنخلع تأثراً لنبيهم فى محنته، ويثورون غضباً لشرف سيدة
كريمة وعقيلة محصنة حرة، فتختلط أصواتهم فى طلب الانتقام والتأديب، ويتماسك الأوس
والخزرج متصايحين مطالبين بأعناق أصحاب الإفك من هؤلاء وأولئك، حتى كاد يكون بين
هذين الحيين من الأوس والخزرج شر(2).
وتمضى عائشة فى وصف محنتها فتقول:
"ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علىَ، فدعا "على بن أبى طالب وأسامة بن زيد" فاستشارهما.
فأما أسامه فأثنى علىَ خيراً وقال:
- يا رسول الله، أهلك، ولا نعلم منها إلا خيراً، وهذا الكذب والباطل..
وأما "على" فإنه قال:
- يا رسول الله، إن النساء لكثير، وإنك لقادر على أن تستخلف، وسل الجارية
فإنها ستصدقك.
"فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريتى (بريرة) ليسألها، فقام إليها على بن أبى طالب فضربها شديداً وهو يقول:
- اصدقى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتقول بريرة: "والله ما أعلم إلا خيراً، وما كنت أعيب على عائشة شيئاً إلا أنى كنت أعجن عجينى فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتى الشاة فتأكله!".
ويخرج محمد، صلى الله عليه وسلم، مثقل الكاهل محزون الفؤاد.
ثم يعود بعد حين إلى بيت أبى بكر، فإذا عائشة هناك مقرحة الأجفان تبكى، فتبكى لها زائرة عندها من الأنصار، وأبواها ينظران إليها فى صمت وأسى.
ولأول مرة منذ شاع حديث الإفك، جلس المصطفى يحدث عائشة .. قال:
"يا عائشة، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس، فاتقى الله. وإن كنت قد قارفت سوءاً مما يقول الناس فتوبى إلى الله، فإن الله يقبل التوبة من عباده".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة 4/311- والسمط الثمين ص 65- وتاريخ الطبرى 3/68.
(2) انظر حديث الإفك بالتفصيل فى: (صحيح البخارى: 3/27 ط
الشرقية والسمط الثمين: 63، وتاريخ الطبرى: حوادث السنة السادسة 3/67: 71 والسيرة
جـ 3).
فما هو إلا أن قال لها ذلـك حتى جف دمعها وهرب الدم من عروقها لهول ما سمعت. وحاولت أن تتكلم فعصى لسانها، وعندئذ تلفتت إلى أبويها، منتظرة أن يجيبا عنها رسول الله.
وإذ سكتا لا يحيران جوابا، صاحت فيهما بملء عذابها:
- ألا تجيبان؟
قالا معا بصوت تخنقه العبرات:
- والله ما ندرى بم نجيب؟
فأسعفتها عيناها بفيض من الدمع أطفأ اللهب المشتعل فى كيانها، ثم اتجهت إلى زوجها الرسول تقول فى إصرار:
"والله لا أتوب إلى الله مما ذكرتَ أبداً، والله إنى لأعلم لئن أقررتُ بما يقول الناس، والله يعلم أنى بريئة، لأقولن ما لم يكن. ولئن أنا أنكرت ما يقولون، لا تصدقوننى".
وحاولت أن تتذكر أسم "يعقوب" لتتأسى به فما استطاعت، واستطردت:
"ولكن سأقول كما قال أبو يوسف: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون"
ثم صمتت(1).
فلم يبرح مجلسه عندها، حتى تغشاه صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه من
نزول الوحى، فسُجى بثوبه، ووُضِعت له وسادة من أدم تحت رأسه.
وأمسك الأبوان أنفاسهما حتى ظنت عائشة لتخرجن نفساهما، فرقاً وقلقاً، وأما
هى فما فزعت ولا خافت، إذ كانت تعرف براءتها وتعلم أن الله عز وجل غير ظالمها.
ثم سُرىَ عن رسول الله، فجلس يمسح العرق عن جبينه ويقول:
"أبشرى يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك!"
وتنفس أبو بكر كمن أزيح عن صدره كابوس جاثم، ووثبت أم رومان من مكانها وقد
استخفها الفرح، فأشارت إلى عائشة أن تقوم إلى زوجها، فقالت عائشة فى عزة وإباء:
"والله لا أقوم إليه، فإنى لا أحمد إلا الله عز وجل، هو الذى أنزل
براءتى".
ثم التفتت إلى أبيها، وهو يدنو منها فيقبل رأسها وعيناه نديتان بالدمع
فرحاً وانفعالا، فقالت له: "يا أبتاه هلا كنت عذرتنى!".
فأجاب: "أى سماء تظللنى وأى أرض تقلنى إن قلت بما لا أعلم؟".
وأما المصطفى، فرنا إليها فى عطف وهو يتذكر ما كابدت من إفك ظالم، وخرج
إلى المسجد وتلا على الناس من وحى الله:
"إن الذين جاءوا بالإفك عُصبَةُ منكم، لا تحسبوه شَرًا لكم بل هو خير
لكُم، لكُلَ امرئ منهمْ ما اكتسب من الإثمِ والذى تَولى كِبره منهم لهُ عذابُ عظيم
* لولا إذ سمعتُموه ظنَ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفكُ مبينُ
* لولا جاءوا عليه بأربعة شهداءَ، فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون * ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه فى الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه
عذاب عظيم. إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً
وهو عند الله عظيم * ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، سُبحانك
هذا بهتان عظيم * يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين * ويبين الله
لكم الآيات والله عليم حكيم * إن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين 67- وتاريخ الطبرى 3/67.
الذين يحبون أن تشيع الفاحشة
فى الذين أمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون"(1)
وجُلدَ الذين تقولوا بالفاحشة:
"والذين يَرمُون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء، فجْلِدُوهم
ثمانينَ جَلْدةً ولا تَقْبلوا لهم شهادةً أبداً، وأولئك همُ الفاسِقُون"(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النور، آيات: 11، 19.
(2) سورة النور: آية 4.
وعادت أم المؤمنين السيدة "عائشة" إلى مكانها فى بيت الرسول، تحف بها هالة من آيات النور، ويزدهيها النصر الإلهى الذى جعل براءتها قرآنا يتعبد به المسلمون...
عادت لتستأنف حياتها الزوجية الحافلة، وتمرح ما شاء لها صباها ودلالها فى ظل الحبيب، وتباهى ضرائرها قائلة:
"أية امرأة كانت أحظى عند زوج منى!"
ولا تفتأ تردد على مسامعهن قوله عليه الصلاة والسلام:
"حبك يا عائشة فى قلبى كالعروة الوثقى".
أو تنقل إليهن ما كان من سؤال عمرو بن العاص للنبى عليه الصلاة والسلام :
- يا رسول الله، من أحب الناس إليك فأجاب: "عائشة"
قال عمرو: إنما أقول من الرجال ..
فأجاب المصطفى: "أبوها!"(1)
وفى السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما خرج إلى خيبر غازياً،
فى جمادى الأولى سنة سبع من مهاجره- بعد نحو عام من محنة الإفك- اتخذ رايته الأولى
من بُرْدٍ لزوجه عائشة. روى "ابن سعد" فى غزوة خيبر: "ولم تكن
الرايات إلا يوم خيبر، وإنما كانت الألوية، فكانت راية النبى صلى الله عليه وسلم
السوداء من بُردٍ لعائشة، تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفعه إلى علي بن أبى طالب"(2)
وكان المسلمون يعلمون حب المصطفى لعائشة وإيثاره إياها، فينتظرون حتى يكون
فى بيتها ويبعثون إليه بالهدايا. ومع أنه كان يرسل لكل واحدة من أزوجه نصيبها مما
يتلقى وهو فى بيت عائشة، إلا أن الغيرة استفزتهن، فتشاورن فى وضع حد لما يلقين من
بنت أبى بكر.
وانتهى بهن الرأى إلى أن يلتمسن من "السيدة فاطمة الزهراء" مخاطبة
أبيها صلى الله عليه وسلم فى الأمر، واستجابت رضى الله عنها فدخلت على أبيها
وعائشة عنده فقالت:
"يا أبى، إن نساءك أرسلننى إليك، وهن ينشدنك العدل فى ابنة أبى بكر
بن أبى قحافة"
سألها أبوها المصطفى:
"أى بنية، أتحبيننى؟"
فهتفت بملء إيمانها: بلى يا أبى.
قال: "فأحبيها"(3)
وعادت الزهراء إلى أزواج أبيها فنقلت إليهن ما سمعت، فألححن عليها أن
تعاود الحديث فى الموضوع ثانية، لكنها أبت أن تكلم أباها عليه الصلاة والسلام فيما
يكره.
واخترن من بينهن إحدى اثنتين، هما أحب نساء النبى إليه بعد عائشة: زينب بنت جحش، أو أم سلمة. فتحدثت إليه صلى الله عليه وسلم فيما يشكو نساؤه، مرة ثانية وثالثة، إلى أن قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخارى: 1/ 201 ط الشرقية.
(2) الطبقات الكبرى: 2/ 77 ط ليدن.
(3) السمط الثمين للمحب الطبرى: 40.
"لا تؤذينى فى عائشة .."(1)
وهكذا رد المصطفى عن عائشة ضرائرها.
وكذلك رد عنها والدها "أبا بكر" عندما كان يحاول فى عنف أن يخفف
من غلوائها ..
وحين كانت الغيرة تشتط بها، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يوسع لها العذر فيقول:
"ويحها،
لو استطاعت ما فعلت!"
وقد يسألها: أغرت؟
فتجيب: وما لى أن لا يغار مثلى على مثلك؟(2)
وصدقت السيدة "عائشة" ..
ووهم الذين ادعوا تجردها من البشرية وترفعها عن أهواء حواء وبراءتها من فطرة
الأنثى.
أو كما قالت الزميلة "الدكتورة زاهية قدورة" فى رسالتها عن "عائشة أم المؤمنين": "إن الغيرة لم تكن لتتغلغل إلى أعماقها، بل كانت تقف عند الحدود التى تقضى بها قواعد الدين والعدل .. وإن الأمر لم يكن ليدخل فى باب الخصومات الحزبية كما يحلو لبعض كتاب التاريخ الإسلامى من الإفرنج أن يصفوها(3) .. ولعل ما يرد على هؤلاء، ما رأيناه من صور الوفاق الرائع بين الضرائر، وتفانيهن فى إرضاء زوجهن رسول الله".
سبحان الله!
وهل كان تحزبهن فى قصة المغافير، وتظاهرهن ضد مارية، من صنع الفرنجة؟
أو كانت وصيتهن للعروس أن تستعيذ بالله إذا دخل عليها الرسول، داخل ما
تسميه الزميلة: الحدود التى تقضى بها قواعد الدين والعدل؟ أو كان اتفاقهن على
مغاضبة الرسول إذ خلا بمارية وهى حل له، من بين هذه الصور للاتفاق الرائع بين
الضرائر؟
اللهم لا، وإنما كانت "عائشة" أنثى سليمة الفطرة، ينزع بها ميراثها
العاطفى إلى حواء فتستجيب له دون أن تتكلف نفاقاً أو مداراة.
وما غيرتها الجامحة، بعد هذا كله، إلا مظهر حب عميق لزوجها الغالى، ودليل تعلق بالمصطفى عليه الصلاة والسلام، ورغبة لا تقاوم فى الاستئثار بالحظوة لديه..
ونظلمها، ونظلم نبينا الكريم، إذا تكلفنا نفى هذه الغيرة عنها ووصفنا ما بينها وبين ضرائرها "بالاتفاق الرائع".
وما لها ألا يغار مثلها على مثله؟!
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين للمحب الطبرى: 40.
(2) السمط الثمين: 80.
(3) فى السمط الثمين للمحب الطبرى ص 29، حديث عن عائشة رضى الله عنها، أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كن حزبين.
كانت السنوات التى تلت محنة الإفك حافلة بجليل الأحداث ..
وقد أقامت "عائشة" ما عاش زوجها المصطفى تشهد أمجاده، وتتلقاه عائداً مظفراً من غزواته، وترقب دعوته وهى تنتشر وتمتد، كنور الفجر يغزو الظلمات فتنجاب أمامه قطع الليل.
ثم آن للبطل أن يستريح بعد حياة ناصبة مناضلة مجاهدة..
وآن للرسول البشر، أن يرقد بعد طول نصب وسهاد.
عاد من حجة الوداع إلى "المدينة" فما أقام بها غير قليل حتى أرق
ذات ليلة، فخرج إلى البقيع يحيى الراقدين هناك ..
فلما أصبح مر بعائشة فى الغداة فوجدها تشكو صداعا وتئن متوجعة:
"وا رأساه !"
قال وقد بدأ يحس ألم المرض:
"بل أنا والله يا عائشة وا رأساه !"
فلما كررت الشكوى داعبها بقوله:
"وما ضركِ لو متَ قبلى فقمتُ عليك، وكفنتك، وصليت عليك، ودفنتك؟"
فصاحت وقد هاجت غيرتها:
قلت: "ليكن ذلك حظ غيرى! والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك، لقد رجعتَ
إلى بيتى فأعرستَ فيه ببعض نسائك"(1)
فأشرق وجهه صلى الله عليه
وسلم بابتسامة لطيفة، وسكن عنه الألم هونًا ما، ثم قام يطوف بأزواجه، لكن الألم ما
لبث أن عاوده واشتد عليه، حتى إذا وصل فى طوافه إلى بيت "ميمونة" لم يعد
يحتمل مغالبة ألمه، فنظر إلى أزواجه أمهات المؤمنين، وقد اجتمعن حوله، ثم قال
متسائلا:
"أين أنا غداً؟ .. أين أنا بعد غد؟"
وأدركت نساؤه على الفور ما وراء سؤاله من تطلع إلى يوم "عائشة" فطابت
نفوسهن بأن يمرض رسول الله حيث أحب، وقلن جميعاً:
"يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لعائشة"(2)
وانتقل إلى بيت الحبيبة، فسهرت عليه تمرضه وبودها لو تفتديه بالروح.
وحانت لحظة الرحيل، ورأسه صلى الله عليه وسلم فى حجرها ..
قالت عائشة تصف اللحظة الرهيبة:
"وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثقل فى حجرى، فذهبت انظر إلى
وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة: 4/292- وتاريخ الطبرى: 3/191.
(2) ابن هشام: السيرة 4/292 والسمط الثمين: 55. وفى
تاريخ الطبرى أنه صلى الله عليه وسلم استأذن نساءه أن يمرض فى بيت عائشة، فأذن له
"3/191" فى صحيح البخارى.
- بل الرفيق الأعلى من الجنة ..
قلت: خُيرتَ فاخترت والذى بعثك بالحق.
وقُبِضَ رسول الله بين سحرى ونحرى .. فمن سفهى وحداثة سنى أنه صلى الله
عليه وسلم قُبِضَ وهو فى حجرى، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب
وجهى"(1).
***
وكادت تكون فتنة، عصم الله المسلمين منها حين ألهم "أبا بكر" أن يقف فى المسلمين فيقول:
-
أيها الناس، إنه من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن
الله حى لا يموت ..
ثم يتلو فيهم قوله تعالى فى كتابه المنزل على خاتم النبيين، محمد بن عبد
الله:
"وما محمد إلا رسول قد خَلَت من قبله الرسُلُ، أفإن مات أو قُتِلَ
انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلبْ على عَقِبيهْ فلن يضر الله شيئاً، وسيجزى الله
الشاكرين"(2)
فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت، حتى تلاها "أبو
بكر" يومئذ !
ودُفن المصطفى فى بيت "عائشة بنت أبى بكر"
وتولى أبوها الصديق الخلافة من بعده...
***
وعاشت "السيدة عائشة" لتكون المرجع الأول فى الحديث والسنة، وليأخذ
المسلمون عنها نصف دينهم كما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال الإمام "الزهرى": لو جُمِع عِلْمُ عائشة، إلى علم جميع
أزواج النبى صلى الله عليه وسلم، وعلم جميع النساء، لكان علم عائشة أفضل(3)
وروى هشام بن عروة عن أبيه، قال: "ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بطب ولا
بشعر من عائشة"(4)
عاشت لتصحح رأى الناس فى المرأة العربية المسلمة، وتعرض لها صورة أصيلة
حية، ستظل تبهر الدنيا ما أدبر ليل أو اقبل نهار ..
عاشت لتشارك فى حياة الإسلام أعنف مشاركة، فتخوض معركة الفتنة الكبرى التى
صنعت التاريخ الإسلامى منذ مقتل "عثمان بن عفان" رضى الله عنه، وتقود
الجيوش لمحاربة أمير المؤمنين "على بن أبى طالب". الذى ما غفرت له قط
موقفه من فرية الإفك، ولعلها ما نسيت له كذلك أنه زوج الزهراء، بنت ضرتها السيدة
خديجة أم المؤمنين الأولى ..
***
ثم ماتت فى السادسة والستين من عمرها، بعد أن تركت أعمق الآثار فى الحياة
الفقهية والاجتماعية والسياسية للمسلمين ..
وكانت وفاتها، على الأرجح، ليلة الثلاثاء لسبع عشرة مضين من رمضان عام
ثمانية وخمسين(5)، وصلى عليها"أبو هريرة" ثم شيعت جنازتها
فى غسق الليل إلى البقيع، على أضواء مشاعل من جريد مغموس فى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/197. (2) سورة آل عمران: آية 144.
(3، 4) الاستيعاب: 4/1883.
(5) تاريخ الطبرى، حوادث سنة 58 هـ- والسمط الثمين: 82-
والاستيعاب: 4/1885.
الزيت،وسارت الجموع من ورائها باكية معولة، فلم تُرَ ليلةُ أكثرَ ناساً منها.
وأودع جثمانها مع أمهات المؤمنين، وقد ألغى الموت ما كان بينها وبينهن من
غيرة وتنافس، وأخمد الزمن ذاك اللهب الذى احتدم أعواماً فى ذلك الكيان الرقيق اللطيف.
وفى (صحيح البخارى) أن عائشة رضى الله تعالى عنها أوصت عبد الله ابن
الزبير- ابن أختها أسماء- أن يدفنها مع صواحبها بالبقيع(1)
ونزل معها إلى القبر ولدا أختها أسماء ذات النطاقين: عبد الله وعروة ابنا
الزبير، والقاسم وعبد الله ابنا أخيها محمد، وعبد الله ابن أخيها عبد الرحمن(2)
***
ونامت أخيرا، وخلفت الدنيا من ورائها ساهرة فيها، والتاريخ مشغولا برصد
دقائق حياتها منذ كانت فى السادسة من عمرها، معنياً بتتبع حركاتها وكلماتها طوال الأعوام
الستين التى عاشتها ملء الحياة!
(1) انظر وصف قبرها وموضعه، فى (وفاء الوفا بأخبار دار
المصطفى) للسمهودى: 3/913.
(2) تاريخ الطبرى، ومثله فى (الاستيعاب: 4/1885).
حافظة المصحف الشريف
".. يا بنية، لا يغرنك هذه
التى أعجبهــــا
حسنها وحب
الرســــول صلى الله عليه
وســـــــــــــــلم لها. والله لقد علمت أن
رســـــــــــــــــــول
الله لا يحبك، ولولا أنا
لطلقك".
أبو حفصة،
عمر بن الخطاب
لم يشهد "يوم بدر" من بنى سهم غير رجل واحد، هو الصحابي الجليل
"خنيس بن حذافة بن قيس بن عدى السهمى القرشى"(1)، وكان
من أصحاب الهجرتين: هاجر إلى الحبشة مع المهاجرين الأولين إليها، ثم إلى المدينة. وقد
شهد "أحُداً" كذلك، ثم مات بعدها فى دار الهجرة، من جراحة أصابته فى
"أحد".
وترك من ورائه أرملته "حفصة بنت عمر بن الخطاب".
وتألم "عمر" لابنته الشابة التى ترملت فى الثامنة عشرة من عمرها. وأوجعه أن يلمح الترمل يغتال شبابها ويمتص حيويتها وصباها، وبدأ يشعر بانقباض أليم كلما دخل بيته، ورأى ابنته فى حزنها فبدا له بعد تفكير طويل، أن يختار لها زوجاً، قد تأنس إلى صحبته فتسترد بعض الذى أضاعت فى حداد استغرق ستة أشهر أو تزيد...
وقع اختياره على "أبى بكر بن قحافة " صفى الرسول وصهره، وصاحبه
الصديق.
وارتاح للفكرة، فإن أبا بكر فى رزانة كهولته وسماحة خلقه ووداعة طبعه،
كفيل بأن يحتمل "حفصة" بما ورثت عن أبيها من حدة المزاج، وما ابتلاها به
الترمل من كآبة وضجر.
وأرضاه أن يصهر إلى أحب رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يتردد عمر، بل سعى إلى أبى بكر فحدثه عن " حفصة" والصديقُ
يصغى فى عطف ومواساة.
ثم عرض عليه أن يتزوجها، وفى يقينه أن "أبا بكر" سيرحب بالشابة التقية، ابنة الرجل الذى أعز الله الإسلام به.
لكن" أبا بكر" أمسك لا يجيب ..!
وانصرف "عمر" واجداً، لا يكاد يصدق أن صاحبه رفض
"حفصة" بعد أن عرضها أبوها عليه.
وسارت به قدماه إلى بيت "عثمان بن عفان" وكانت زوجه "السيدة
رقية" بنت الرسول قد مرضت بالحصبة، بعد عودتها من الحبشة، والمسلمون يلقون عدوهم
فى بدر، ثم ماتت بعد أن تم النصر لأبيها والمؤمنين(2)
وتحدث عمر إلى عثمان، فعرض عليه "حفصة"، وهو لا يزال يحس مهانة
الرفض من أبى بكر، وإن حاول جهده أن يكظم غيظه، فلعل الله سبحانه قد اختار لحفصة "عثمان"
والخيرة فيما يختاره الله.
وكان جواب عثمان أن استمهله أياما، جاءه بعدها فقال:
"ما
أريد أن أتزوج اليوم !"(3)
فكاد "عمر" يتميز غيظاً من قسوة الموقف، ثم ثار به الغضب، فانطلق
إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، يشكو صاحبيه ..
أمثل حفصة، فى شبابها وتقواها
وشرفها، تُرفَض؟
وممن ؟ من أبى بكر وعثمان، صاحبى الرسول وصهريه، وأولى المسلمين بأن يعرفا
قدر عمر، وأحق الصحابة بألا يردا مثله صهراً؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر السيرة لابن هشام: 3/6،
341 وتاريخ الطبرى: 3/ 177 مع الاستيعاب والإصابة. وفى تاريخ وفاة
"خنيس خلاف"، انظر فى "الوفا للسمهودى" 3/ 900. (2) انظر حديث السيدة رقية فى كتابنا (بنات النبى) ط دار الهلال.
(3) هذه رواية الاستيعاب (4/1811) وفى رواية أن عمر عرض
حفصة على عثمان، ثم على أبى بكر – رضى الله عنهم – ارجع إلى السمط الثمين: 83.
ودخل "عمر" على المصطفى وما يملك نفسه من غضب وألم، فتلقاه عليه
الصلاة والسلام هاشاً باشاً ملاطفاً، وأقبل عليه يسأله فى عطف ومودة عما يؤلمه ..
ونفض "عمر" لدى الرسول الكريم ما يرهقه ويضنيه، وكشف له عما كان
من أبى بكر بن أبى قحافة، وعثمان بن عفان ..
فتبسم عليه الصلاة والسلام، وقال:
"يتزوج حفصة من هو خير من عثمان، ويتزوج عثمانُ من هى خير من حفصة".
وردد عمر مأخوذاً بروعة المفاجأة: "يتزوج حفصة من هو خير من
عثمان؟".
وأشرقت فى خاطره لمحة مضيئة: أيتزوج المصطفى من ابنته؟
ذاك والله شرف لم تتطاول إليه أمانيه.
ونهض إلى الرسول يصافحه متهللا، وقد زال عنه ما كان يجد من مهانة الرفض.
وخرج مسرعا ليزف إلى ابنته، وإلى أبى بكر وعثمان، وإلى المدينة كلها، بشرى الخطبة المباركة.
وكان أبو بكر أول من لقيه، فما نظر إليه حتى أدرك على الفور سر تهلله وفرحته، فمد يده مهنئا معتذراً يقول:
"لا
تجدْ على يا عمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حفصة، فلم أكن لأفشى سر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها لتزوجتها".
ومضى كلاهما إلى ابنته:
أبو بكر ليهون على "عائشة" من وقع الخبر.
وعمر ليبشر "حفصة" بأكرم زوج.
وباركت المدينة يد المصطفى وهى تمتد لتكرم عمر بن الخطاب وتأسو جراح ابنته
حفصة.
كما باركت بعد قليل زواج عثمان من "أم كلثوم بنت محمد" فى جمادى الآخرة، من السنة الثالثة للهجرة.
وتهيأ بيت النبى لاستقبال "حفصة" التى" تزوجها المصطفى فى
شهر شعبان، من تلك السنة(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
(1) السمط الثمين: 83-
والاستيعاب: 4/1811. (2) تاريخ الطبرى:
3/9. وفاء الوفا للسمهودى: 3/900.
جاءت العروس، وفى البيت "سودة" و"عائشة".
أما "سودة" فرحبت بها راضية، وأما "عائشة" فغاظها أن يأتيها زوجها بضرة، وما فعل ذلك قط مع "خديجة".
وضايقها ألا تجد فى "حفصة" مغمزاً، فهى من هى، شباباً وتقى، وعزة
نسب..
لقد كانت عائشة تزهو على سودة وخديجة من قبلها، بشبابها الغض وأبيها الصديق، وحظ "حفصة" من هذين، ليس بالذى ينكر أو يجحد.
و"عائشة" كانت تضيق حين يمضى زوجها ليلة بعد أخرى فيبيت عند "سودة" التى ما اكترثت لها عائشة كثيراً، فكيف يكون موقفها حين يبيت زوجها عند حفصة؟
واحتارت ماذا تفعل، إذ كانت تقدر مغزى زواج كهذا يُرضى عمر بن الخطاب، ويباركه الإسلام والمسلمون.
وسكتت على مضض وغيرة، إلى أن وفدت على بيت النبى أزواج جديدات، فتناست
"عائشة" ما كانت تجد من "حفصة" وحاولت أن ترى فيها أقرب ضرائرها
إليها. وأجدرهن بأن تقف معها فى وجه الخطر المشترك.
وأدركت "حفصة" أنها إذا جاز لها أن تنكر ضرة لها، فليس من الحق
ولا من العدل أن تكون هذه الضرة هى "عائشة" وقد سبقتها إلى بيت الرسول، وإلى
قلبه.
وربما جرح قلبها أن تعرف حب المصطفى لعائشة، لكنها حين تتابعت الضرائر، وقفت
دون تردد، إلى جانب بنت أبى بكر.
وكان "عمر" يراقب موقفها فى قلق مبهم، فيريبه هذا التقارب غير
الطبيعى، بين ابنته وبنت أبى بكر، حتى إذا استبان له ما وراء تقاربهما من ائتمار
بالأزواج الأخريات، كره لحفصة أن تساير صاحبتها وليس لما مثل حظها من حب الزوج ولا
مكانتها من قلبه. فأقبل على ابنته يحذرها أن تتشبه بالصبية المدللة، ويردها عن جموحها
بمثل قوله:
"أين أنت من عائشة، وأين أبوك من أبيها؟"
وإذ سمع يوما من زوجه أن ابنته تراجع الرسول حتى يظل يومه غضبان، انطلق من فوره حتى دخل عليها فسألها إن كان ما سمعه حقاً؟ فلما أجابت بأنه حق، صاح يزجرها:
- تعلمين
أنى أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله. يا بنية، لا يغرنك هذه التى أعجبها حسنها وحب رسول
الله صلى الله عليه وسلم لها، والله لقد علمت أن رسول الله لا يحبك، ولولا أنا
لطلقك!"
ومضى عمر وفى حسابه أنه قد رد ابنته حفصة إلى ما يبغى لها من خضوع ومجاملة. لكنها كانت معتدة بذاتها مدلة بشخصيتها، لا ترى فى منزلة عائشة أو سواها ما يجور على مكانتها، أو ما يلزمها بأن تتكلف ما ليس فى طبعها. بل تركت نفسها على سجيتها، فلم تكن تتحرج من معارضة زوجها حين يبدو له من الأمر ما لا يرضيها، وربما سمعت منه حديثاً فردَت عليه غير متهيبة إذا بدا لها وجه آخر فيما يقول، روى "ابن سعد" فى حديث الحديبية وبيعة الرضوان، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر عند حفصة أصحابه الذين بايعوه تحت شجرة الحديبية فقال: "لا يدخل النار إن شاء الله أصحابُ الشجرة الذين بايعوا تحتها" قالت حفصة: "بلى يا رسول الله!" فانتهرها، فتلت الآية: "وإن منكم إلا واردها كان على ربَك حتما مقضياً" فقال النبى صلى الله عليه وسلم: قال الله: "ثم ُنَنجى الذين اتقوا ونََذََرُ الظالمين فيها جِثِيَا"(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الطبقات الكبرى: 2/73 ط ليدن- والآيتان من سورة مريم: 71، 72.
ولعل إباءها هو الذى فرض عليها أن تدارى غيرتها من "عائشة"
وتحاول أن تلتمس فى صحبة هذه الشابة المرحة، ومشاركتها فى معاركها الصغيرة ومؤامراتها
الذكية، ما يشغلها عن ذاك الهم المطوى..
ويرخى لهما الزوج المصطفى ما استطاع، ويشفع لهما عنده أنوثة ضعيفة تستثير رحمته، وبنوتهما لأعز صاحبين.
حتى خلا يوما بمارية فى بيت "حفصة" فعاد جرحها النفسى يقطر
دماً، وتمثل لها أبوها يقول:
"والله لقد علمت أن رسول الله لا يحبك، ولولا أنا لطلقك!"
فلما انصرفت "مارية" دخلت "حفصة" حجرتها وقالت للزوج:
"لقد رأيت من كان عندك، والله لقد سببتنى، وما كنت لتصنعها لولا
هوانى عليك!"(1)
ثم استعبرت بالكية ..
ووقعت كلمتها من رسول الله موقعا أليماً، فما كان ليهين بنت عمر، وقد
تزوجها تكريماً لصاحبه.
وأقبل عليها يترضاها(2)، وهان
عليه أن يُسِرً إليها أن "مارية" حرام عليه، فلتتناس "حفصة"
ما كان، ولتعتبره كأن لم يكن.
ورضيت "حفصة" ..
وسعدت ليلتها بقرب الرسول وعطفه، حتى إذا مضى عنها الغداةَ ولمحت عائشة
قريبة منها، لم تستطع أن تكتم عنها ما تطوى من سر خطير، فنبأت به صاحبتها التى
انتهزت الفرصة السانحة، لتنال من غريمتها "الأمة القبطية".
ولم تُقَدر "حفصة" وهى تذيع السر، أنها بسبيل إشعال نار فى
البيت النبوى، فإن عائشة لم تهدأ حتى جمعت نساء النبى فى مظاهرة ثائرة بمارية،
مصرة على ألا يبقى لها فى مدينة الرسول مكان ..
وتلا ذلك ما نقلنا عند الحديث عن عائشة من اعتزال الرسول نساءه مدى شهر من
الزمان، شاع فيه أنه صلى الله عليه وسلم مطلق أزواجه ..
والذى يعنينا هنا، هو ما يتصل بحفصة وأبيها "عمر"، فقد كانت هى
التى نبأت بالسر الذى أوصاها الرسول أن تكتمه، فأشعلت النار من حيث لا تدرى ولا
تقدر.
فيقال إن الرسول طلق
"حفصة" فعلا، وهو خبر يرويه "ابن حجر" فى الإصابة(3)
من طرق شتى، اتفقت على أن الرسول طلق حفصة تطليقة واحدة، ثم ارتجعها ..
وفى هذا الارتجاع تختلف الروايات: فتذهب رواية إلى أن ذلك كان رحمة بعمر
الذى حثا التراب على رأسه وقال: "ما يعبأ الله بعمر وابنته بعدها". فنزل
جبريل من الغد على النبى صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله يأمرك أن تراجع
حفصة رحمة بعمر"
وفى رواية أخرى، أن جبريل نزل على الرسول فقال له:
"أرجع حفصة فإنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك فى الجنة"(4).
والراجح أن هذا الطلاق والارجاع، قد كانا قبل أن تستفحل ثورة
"عائشة" ومن معها من نساء النبى، فلما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)، (2) السمط الثمين: 85.
(3) الإصابة: 8/52- وانظر معه الاستيعاب: 4/1813.
(4) جاءت الروايتان فى السمط الثمين: 85، والاستيعاب:
4/1812.
اعتزلهن الرسول، كان من
الطبيعى أن يكون إحساس "حفصة" بالندم أوفر من إحساس أمهات المؤمنين
الأخريات، وشعورها بالخطأ فى حق المصطفى أفدح من شعورهن فما كان لها وهى التقية
العابدة، بنت عمر بن الخطاب، أن تذيع سرًا ائتمنها عليه الرسول، وأن تخلف ما وعدت
به من كتمان، ولا أن تلقى ترضية زوجها لها وإكرامه إياها، بمثل ذاك الجحود
والنكران.
وفى الإصابة(1):
"دخل عمر على ابنته وهى تبكى، فقال:
- لعل رسول الله قد طلقك، إنه كان قد طلقك مرة ثم راجعك من أجلى، فإن كان
طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبداً.
وخرج إلى المسجد قلقاً، فألفى المسلمين هناك ينكتون الحصا مطرقين ويقولون:
طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه.
ولم يكن أحد قبل ذلك قد جرؤ على أن يكلم الرسول فيهن منذ اعتزلهن. لكن
"عمر"- وابنته هى السبب- لم يطق على ذلك صبراًُ، بل قصد إلى الخزانة
التى يقيم بها الرسول عليه الصلاة والسلام، وغلامه "رباح" قائم على
عتبتها، فاستأذن عمر فى الدخول على الرسول، وكرر النداء، و"رباح" لا
يجيب.
هنالك رفع "عمر" صوته وقال فى ضراعة وأسى:
"يا رباح، استأذن لى عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنى
أظنه ظن أنى جئت من أجل حفصة .. والله لئن أمرنى بضرب عنقها لأضربن عنقها"
وبلغ صوته سمع المصطفى فتأثر، وأذن له فدخل، وأجال بصره فى الخزانة وبكى
..
قال الرسول: ما يبكيك يا ابن الخطاب؟
فأشار "عمر" إلى الحصير الذى كان المصطفى مضطجعاً عليه وقد أثر
فى جنبه، وإلى قبضة من شعير ومثلها من قرظ، كانتا كلً ما بالخزانة من طعام.
ثم امسك عبرته وقال:
- يا رسول الله، ما يشق عليك من أمر النساء؟ إن كنت طلقتهن فإن الله معك
وملائكته وجبريل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ..
فابتسم له الرسول، ورد إليه طمأنينته، فما طلق نساءه وإنما هجرهن شهراً
لعلهن يرعوين ..
ورُدَت الروح إلى "عمر"، فاستأذن الرسول ونزل إلى المسجد فنادى
يعلن البشرى بأعلى صوته:
"لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه"
ونزلت آيات التحريم:
"يا أيها النبى لم تُحرمُ ما أحل الله لكَ تبتغى مرضاة أزواجك والله
غفور رحيم * قد فرض الله لكم تحلِةَ أيمانكم والله مولاكم وهو العليمُ الحكيم *
وإذ أسَر النبى إلى بعض أزواجه حديثًا، فلما نبأت به وأظهره الله عليه، عرَف بعضه
وأعرضَ عن بعضٍ، فلما نبأها به قالت مَن أنبأك هذا، قال نَبأنى العليمُ الخبير *
إن تتوبا إلى الله فقد صَغَتْ قلوبكما، وإن تَظَاهَرا عليه فإن الله هو مولاه
وجبريلُ وصالحُ المؤمنين، والملائكةُ بعد ذلك ظهير * عسى ربُه إن طلقكن أن يُبْدِ
له أزواجًا خيراً منكن، مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ تائباتٍ عابداتٍ سائحات، ثيباتٍ
وأبكاراً"(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الجزء الثامن: ص
52. (2) سورة التحريم، الآيات 1: 5 وانظر الأقوال الأخرى فى سبب النزول، فى
(تفسير الطبرى).
وعت نساء النبى هذا الدرس، وثابَتْ "حفصة" إلى طمأنينتها وقد كادت تهلك أسى وندماً.
ولا نعرف أنها من ذلك الحين، قد اشتركت فى مؤامرة نسوية ببيت الرسول، أو
تسببت له فيما يكره ما عاش، فلما أنتقل صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه الأعلى
كانت "حفصة" هى التى اختيرت من بين أمهات المؤمنين جميعا- وفيهن عائشة- لتحفظ
النسخة الخطية للقرآن الكريم.
ذلك أن "عمر" أشار على "أبى بكر: أول الخلفاء
الراشدين" أن يبادر فيجمع ما تفرق من القرآن الكريم فى صحف شتى، قبل أن يبعد
العهدُ بنزوله، ويمضى حفظته الأولون.
فاستجاب "أبو بكبر"، وجمع المصحف الكريم وأودعه عند أم المؤمنين
"حفصة بنت عمر".
وبقى المصحف لديها فى مأمن، حتى أخذه أمير المؤمنين "عثمان بن
عفان" فى خلافته، فنسخ منه النسخ الأربع التى وزعت على الأمصار، وأمر بإحراق
ما عداها، حسما لما يحتمل من اختلاف المسلمين فى قراءة أحرف من كتاب الإسلام.
وتفرغت "حفصة" من بعد ذلك للعبادة، حتى إذا كانت الفتنة وتهيأت
"عائشة" للخروج من مكة، فى الجيش المطالب بدم عثمان، أرادت أن تخرج معها
"حفصة"، فكرهت أن ترد طلباً للزميلة التى آثرتها بمودتها حين جمعهما بيت
زوجهما المصطفى، وتهيأت لمصاحبتها ثم عادت فعدلت عن الخروج فى الفتنة، بعد أن
حذرها أخوها "عبد الله بن عمر" من هذا الخروج.
***
وعاشت رضى الله عنها صوامة قوامة، حتى ماتت فى السنين الأولى من عهد
"معاوية"(1).
ودفنت بالبقيع، فى مقبرة أمهات المؤمنين(2).
وخلدت فى التاريخ: أم المؤمنين الحافظة لأول نسخة من المصحف الشريف، كتاب
الإسلام ومعجزة نبيه عليه الصلاة والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواية الواقدى أنها ماتت رضي الله عنها فى شعبان سنة 45 هـ، وفى رواية
أخرى نقلها المحب الطبرى فى السمط: 86، أنها ماتت سنة إحدى وأربعين، وقيل ماتت فى
خلافة عثمان رضي الله عنه. وانظر الاستيعاب: 4/1812.
(2) السمهودى: وفاء الوفا 3/911.
أم المســــــــــــاكين
"كانت تسمى أم المســـــــاكين
لرحمتها إياهم
ورقتها علـــيهم".
السيرة: لابن هشام
لم يكن قد مضى على مجيء "حفصة" إلى دور النبى غير وقت قصير، حين
وفدت زوجة رابعة. كانت هى الأخرى أرملة شهيد عزيز من شهداء "أحد".
تلك هى "أم المؤمنين: زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو
بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة"(1).
ويبدو أن قصر مقامها ببيت النبى صلى الله عليه وسلم، قد صرف عنها كُتَاب السيرة والتاريخ، فلم يصل إلينا من أخبارها سوى بضع روايات متناثرة شتى، لا تسلم من تناقض واختلاف.
وكأنما كان الذى يعنى المؤرخين من أمرها، أنها زينب بنت خزيمة الهلالية
العامرية، وقد استشهد زوجها فى "أحد" فتزوجها النبى صلى الله عليه وسلم،
ثم لم تلبث أن ماتت.
أما اسم الزوج الذى استشهد ومات عنها فيختلفون فيه:
قيل هو "عبد الله بن جحش" ابن عمة الرسول وأخو زوجته زينب .. (2).
وقيل: "كانت عند الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف" وأضاف
ابن حجر وابن عبد البر: "ثم خلف عليها شقيقه عبيدة بن الحارث"(3).
وفى رواية ثالثة "كانت قبل الرسول صلى الله عليه وسلم عند عبيدة ابن
الحارث بن المطلب بن عبد مناف، وكانت قبل عبيدة عند جهم بن عمرو بن الحارث، وهو
ابن عمها"(4).
واختلفوا كذلك فى وقت استشهاد زوجها:
فى (الإصابة) أنه عبد الله بن جحش، وقد استشهد يوم أحد.
وعن "ابن الكلبى": كانت عند الطفيل بن الحارث فطلقها، فخلفه عليها أخوه فقتل عنها يوم بدر، فخطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفى تاريخ الطبرى:
"وفى
هذه السنة- الرابعة- تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جزيمة من بنى
هلال، فى شهر رمضان .. وكانت قبله عند الطفيل ابن الحارث فطلقها"(5).
واختلفوا مرة ثالثة فيمن تولى زواجها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
عن "ابن الكلبى" أن الرسول خطبها إلى نفسها فجعلت أمرها إليه فتزوجها...
وعن ابن هشام:
" زوجه إياها عمها: قبيصة بن عمرو الهلالى، وأصدقها الرسول، عليه
الصلاة والسلام، أربعمائة درهم"(6).
واختلفوا رابعة فى المدة التى أقامتها ببيت النبى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة والاستيعاب. وانظر جمهرة أنساب العرب: 262، وتاريخ الطبرى:
3/179.
(2) ابن حجر: الإصابة 8/94 والاستيعاب 4/1853.
(3) تاريخ الطبرى: 3/33، 179، والإصابة 8/944، والسمط الثمين: 112.
(4) السيرة لابن هشام: 4/297.
(5) تاريخ الطبرى 2/33، وانظر أيضاً: 3/179.
(6) السيرة: 4/296.
ففى (الإصابة) رواية تقول: "كان دخوله صلى الله عليه وسلم بها، بعد
دخوله على حفصة بنت عمر، ثم لم تلبث عنده شهرين أو ثلاثة وماتت".
ورواية أخرى عن ابن الكلبى:
"فتزوجها فى شهر رمضان سنة ثلاث، فأقامت عنده ثمانية أشهر وماتت فى
ربيع الآخر سنة أربع".
ونقل ابن العماد الحنبلى(1):
"وفيها- يعنى السنة الثالثة- دخل بزينب بنت خزيمة العامرية، أم
المساكين، وعاشت عنده ثلاثة أشهر وتوفيت"(2).
***
ولم تكن عناية المحدثين بتتبع أخبارها وتحقيق هذا الاختلاف فيها، أكثر من
عناية الأقدمين: يجزم "الدكتور هيكل" بأنها قد كانت زوجاً لعبيدة بن
المطلب الذى استشهد يوم بدر، فلم تلبث إلا سنة أو سنتين، ثم قبضها الله فكانت بعد
خديجة، الوحيدة من أزواج النبى التى توفيت قبله".
وينقل بودلى:
"... تبع زواج محمد من حفصة زواج آخر، وكان زواجاً شكلياً، أكثر من
أى شيء آخر، كانت العروس أرملة عبيدة بن الحارث- ابن عم لمحمد سقط فى بدر- وكان
اسمها زينب بنت خزيمة، وما ضمها محمد إلى نسائه إلا بدافع الشفقة، وما اهتمت عائشة
أو حفصة بها أبداً، وماتت بعد زواجها بثمانية أشهر"(3).
ومر آخرون بزينب، فلم يذكروها فى كثير أو قليل.
***
على أنه مهما يختلف المؤرخون وكتاب السيرة فى أمر "زينب بنت خزيمة"،
فقد اتفقوا جميعا على شئ واحد لم يختلف فيه اثنان: ذاك هو وصفها بالطيبة والكرم والعطف
على الفقراء. ولا يكاد يعرض اسمها فى أى كتاب مما أوردنا إلا مقروناً بلقبها الكريم:
أم المساكين.
فيقول ابن هشام:
"وكانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ورقتها عليهم"(4).
وفى الإصابة:
"وكان يقال لها أم المساكين، لأنها كانت تطعمهم وتتصدق عليهم"(5).
ومثل ذلك فى الطبرى(6) وشذرات
الذهب(7) والاستيعاب(8).
وقال بودلى: "وكانت طيبة خيرة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) شذرات الذهب:
السنة الثالثة.
(2) حياة محمد: 288- وانظر تاريخ الطبرى: 3/179.
(3) الرسول: 176 من الترجمة العربية.
(4) السيرة: 4/896. (5) الجزء 8/94.
(6) 3/33.
(7) 1/10.
(8) جـ 4 ص 1853 ط نهضة مصر، وانظر معها: طبقات ابن سعد.
وذكر هيكل: "ولم تكن ذات جمال، وإنما عرفت بطيبتها وإحساسها حتى لقبت
بأم المساكين".
ولا بد لى من أن أشير هنا إلى مقال كتبه فضيلة الأستاذ "الشيخ محمد المدنى" فى مجلة الرسالة- عدد 1103 تاريخ 4/3/1965- جاء فيه ما نصه:
"وكانت زينب بنت جحش رضى الله عنها هى أجودهن- يعنى أزواج النبى- وأبرهن باليتامي والمساكين .. حتى كانت تعرف بأم المساكين".
ولست أدرى من أين جاء، رحمه الله، بهذا اللقب للسيدة زينب بنت جحش. فكل
مصادرنا عن السيرة وطبقات الصحابة وكتب التاريخ الإسلامى الأولى، تجمع على أن لقب
أم المساكين إنما كان للسيدة "زينب بنت خزيمة"!
***
والراجح أنها ماتت فى الثلاثين من عمرها كما ذكر "الواقدى"
ونقله "ابن حجر" فى الإصابة.
وهى سن رآها المحدثون "متوسطة قد تخطت الشباب".
ويفوتهم أن حكمهم عليها بتخطى الشباب وهى بعدُ فى الثلاثين أو ما حولها،
يكفى رداً على ما أطالوا الحديث فيه عن طفولة "عائشة".
***
ولو حاولنا أن نسأل كتاب السيرة والتراجم مزيداً من أخبار "زينب" فى بيت زوجها المصطفى عليه الصلاة والسلام، لما ظفرنا وراء ذلك بشيء ذى بال: فحسبنا أن نتمثلها هناك قريرة العين بما نالت من شرف الزواج بالنبى صلى الله عليه وسلم وأمومة المؤمنين، منصرفة عن شواغل الحريم، بما كان يشغلها من أمر المساكين، قانعة بما ينالها من رعاية زوجها المصطفى، لا يرهقها طمع ولاتنهكها غيرة...
ولم تطل المقام هناك، بل مرت رضي الله عنها كطيف رقيق عابر، ثم رقدت فى سلام كما عاشت فى سلام، وخلدت فى تاريخ الإسلام أماً للمؤمنين، وأماً للمساكين ..
بنت زاد الركــــــــــــــــــب
"لما تزوج رســـول الله صلى الله عليه
وسلم "أم سلمة" حزنت حزناً شديداً
لما ذكر لنا من جمالــــــــها، فتلطفت
حتى رأيتها، فرأيت أضــــــــــــــــــعاف
ما وصفت
به".
عائشة بنت أبى بكر
أم المؤمنين
خلا بيت "أم المساكين" فى دور النبى، وقتا غير قصير، ثم جاءت السيدة "أم سلمة" فشغلته.
قالت، فيما روى ابن سعد فى (طبقاته):
"... فتزوجنى، فنقلنى إلى بيت زينب بنت خزيمة، أم المساكين".
واسمها: هند بنت أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم:
القرشية المخزومية(1).
ودخل بها المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فى شهر شوال من السنة الرابعة
للهجرة، كما نقل الطبرى(2).
وأحدث دخولها ضجة فى دور النبى، وأشاع قلقاً فى الزوجتين الشابتين،
"عائشة وحفصة، ابنتى أبى بكر وعمر".
ولم لا، وهذه زوج جديدة عزيزة، عريق المنبت، ذات جمال وإباء وفطنة، تزفها إلى بيت النبى أمجاد طوال عراض:
أبوها: أحد أبناء قريش المعدودين، وأجوادهم المشهورين، وقد ذهب دونهم على
الدهر بلقب "زاد الركب" أن كان إذا سافر لا يترك أحداً يرافقه ومعه زاد،
بل يكفى رفقته من الزاد(3).
وأمها: عاتكة بنت عامر بن ربيعة بن مالك بن جذيمة الكنانية. من بنى فراس
الأمجاد. وكان جدها جذيمة بن علقمة، يلقب بجذل الطعان(4).
وزوجها الذى مات عنها قبل أن
يتزوجها المصطفى: أبو سلمة، عبد الله ابن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن
مخزوم، الصحابى ذو الهجرتين، ابن عمة الرسول: برة بنت عبد المطلب بن هاشم، وأخوه-
صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة، أرضعتهما ثويبة، مولاة "عبد العزى بن عبد
المطلب الهاشمى"(5).
وكان لعبد الله المخزومى، ولزوجه هند، إلى جانب هذا النسب العريق، ماض
مجيد فى الإسلام، فقد كانا من بين السابقين الأولين، وهاجرا معاً إلى الحبشة، حيث
ولدت هند هناك ابنهما "سلمة"(6)
ثم قدما مكة، حتى ضاقت بالمسلمين وألحت فى اضطهادهم، فأجمع "أبو سلمة" أمره على أن يهاجر ثانية فيخرج بأهله إلى يثرب، فكانت قصة خروجهما مأساة لا تزال، على بعد العهد بها وتطاول الآماد، عنيفة الإثارة أليمة الوقع.
ولندع "أم سلمة" تروى المأساة فتقول(7):
"... لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة، رحل بعيراً له وحملنى
وحمل معى ابنى سلمة، ثم خرج يقود بعيره، فلما رآه رجال بنى المغيرة قاموا إليه فقالوا:
- هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه، علام نتركك تسير بها فى البلاد؟
ونزعوا خطام البعير من يده
وأخذونى، فغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، وأهووا إلى ولدنا سلمة وقالوا لرهط زوجى:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة 1/345، 4/294، وتاريخ الطبرى: 3/177.
(2) تاريخ الطبرى: 3/42.
(3، 4) نسب قريش: 300، 326.
(5) السيرة: 3/102 والاستيعاب (639، 1682) وانظر معهما: جمهرة
أنساب العرب. ونسب قريش (337). وعبد العزى، عم محمد صلى الله
عليه وسلم. كان من أشد المشركين عداوة للإسلام، وكنيته فى القرآن: ابو لهب.
(6) السيرة: 1/ 345. (7) السيرة: 2/112، والسمط
الثمين: 87.
- والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا.
فتجاذبوا ابنى سلمة حتى خلعوا يده، وانطلق به رهط أبيه، وحبسنى بنو
المغيرة عندهم.
ومضى زوجى أبو سلمة حتى لحق بالمدينة. وفرق بينى ويين زوجي وابنى، فكنت أخرج
كل غداة وأجلس بالأبطح، فما أزال أبكى حتى أمسى، سنةً أو قريبا منها.
حتى مر بى رجل من بنى عمى، أحد بنى المغيرة، فرأى ما بى، فرحمنى، فقال
لبنى المغيرة:
- ألا تُخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وبين ابنها!
ومازال بهم حتى قالوا: الحقى بزوجك إن شئت.
ورد على بنو عبد الأسد عند ذلك ابنى، فرحلت بعيرى ووضعت ابنى فى حجرى ثم خرجت
أريد زوجى بالمدينة، وما معى أحد من خلق الله..
حتى إذا كنت بالتنعيم- على فرسخين من مكة- لقيت عثمان بن طلحة(1) فقال: أين يا بنت أبى أمية؟
قلت: أريد زوجى بالمدينة.
فقال: هل معك أحد؟
فقلت: لا والله إلا الله، وابنى هذا.
فقال: والله ما لك من مَتْرَك.
وأخذ بخطام البعير فانطلق معى يقودنى، فوالله ما صحبت رجلا من العرب أراه
كان أكرم منه. إذا نزل المنزلَ أناخ بى ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا
الرواح قام إلى بعيرى فقدمه ورحله، ثم استأخر عنى وقال: أركبى.
فإذا ركبت واستويت على بعيرى، أتى فأخذ بخطامه فقاد حتى ينزل بى، فلم يزل
يصنع ذلك حتى قدم بى المدينة، فلما نظر إلى قرية بنى عمر بن عوف بقباء- وكان بها
منزل أبى سلمة فى مهاجره- قال:
- إن زوجك فى هذه القرية، فادخليها على بركة الله.
ثم انصرف راجعاً إلى مكة"(2).
فكانت أم سلمة- بين المهاجرات- أول ظعينة دخلت المدينة، كما كانت أول
مسلمة هاجرت إلى الحبشة(3).
وكذلك كان زوجها أبو سلمة، عبد الله بن عبد الأسد المخزومى، أول من هاجر
إلى يثرب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(4).
وفى المدينة، عكفت على تربية صغارها(5)، وتفرغ زوجها للجهاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كان عثمان يومئذ على كفره، وإنما أسلم فى هدنة
الحديبية، وهاجر قبل الفتح مع خالد بن الوليد. فلما فتحت مكة، دفع المصطفى مفاتيح
الكعبة، إلى عثمان بن طلحة وإلى ابن عمه شيبة بن عثمان ابن أبى طلحة.
وقتل عثمان شهيداً بأجنادين فى خلافة عمر- الروض الأنف: 1/285 وانظر ترجمته فى الطبقات، والإصابة، والاستيعاب.
(2) السيرة 2/112
والإصابة: 8/240- والاستيعاب: 4/1939.
(3) الإصابة: 8/240 والاستيعاب 4/1939. (4) السيرة: 2/112.
(5) لا خلاف فى أنها ولدت لأبى سلمة، ولديه سلمة وعمر. وفى الطبرى (3/177) أنها ولدت له كذلك بنتيه زينب وبرة، أو: درة فى جمهرة
الأنساب (134) ونسب قريش (337) لكن جاء فى ترجمة زينب بنت أبى سلمة بالاستيعاب
(4/1855) أنها قالت: كان اسمى برة، فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة ذى العشيرة، فى جمادى
الأولى من السنة الثانية للهجرة، وهى الغزوة التى وادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم بنى
ضمرة، اختار من بين أصحابه أبا سلمة، فاستعمله على المدينة(1).
وشهد مع الرسول غزوة "بدر" الكبرى، فكان أحد ثلثمائة وأربعة عشر
رجلا، تم بهم النصر على ثلاثة أضعافهم من المشركين، فى أولى المعارك الحاسمة بين
الوثنية والتوحيد..
وحين طمع الطامعون فى المسلمين عقب موقعة "أحد" وبلغ المصطفى
بعد شهرين اثنين من المعركة، أن بنى أسد يدعون إلى مهاجمة محمد فى داره بالمدينة،
دعا إليه "ابا سلمة" فعقد له لواء سرية عدتها مائة وخمسون رجلا، فيهم
أبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبى وقاص..
ونفذ الفارس "أبو سلمة" ما أمر به رسول الله صلى الله عليه
وسلم، من أخذ العدو على غرة، فأحاط بهم فى عماية الصبح على غير أهبة منهم لقتال،
وقاد معركة ظافرة، ثم رجع وصحبه إلى المدينة غانمين، قد أعادوا بعض ما ضيَعت
"أحد" من هيبة المسلمين(2).
وكان "أبو سلمة" يقود معركته وغيه جرح خطير أصابه يوم
"أحد" ثم التأم التئاماً سطحياً، فلما أجهده القتال مع بنى أسد، عاد
الجرح فنغر وظل به حتى قضى عليه.
وحضره النبى صلى الله عليه وسلم وهو على فراش موته، وبقى إلى جانبه يدعو
له بخير حتى مات، فأسبل بيده الكريمة عينيه، وكبر عليه تسع تكبيرات.
قيل له: يا رسول الله، أسهوت أم نسيت؟
فأجاب: "لم أسه ولم أنس، ولو كبرت على أبى سلمة ألفاً، كان أهلا لذاك"(3).
وترك من بعده أرملته ذات الهجرتين: "أم سلمة، هند بنت زاد الركب".
***
تلبث كبار الصحابة حتى انتهت عدة "أم سلمة" فتقدم إليها منهم
"أبو بكر الصديق" خاطباًً، فردته فى رفق.
وتلاه "عمر بن الخطاب" فلم يكن حظه منها غير حظ صاحبه.
ومن بعدهما، بعث إليها المصطفى عليه الصلاة والسلام يخطبها، فتمنت لو يتاح لها ذاك الشرف العظيم، لكنها أشفقت- وقد جاوزت سن الشباب، ومعها عيال لها صغار- ألا تملأ مكانها في بيت النبى، إلى جانب عائشة وحفصة.
وأرسلت إلى المصطفى تعتذر، وتقول إنها: غَيْرى، مُسِنَة، ذات عيال..
فأجاب محمد عليه الصلاة والسلام:
"أما أنك مُسنة، فأنا أكبر منك، وأما الغيرة فيذهبها الله عنك، وأما العيال
فإلى الله ورسوله"(4).
***
وتم الزواج..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة: 2/248،
وتاريخ الطبرى، حوادث السنة الثانية للهجرة- والاستيعاب: 4/1682. وانظر غزوة ذى العشيرة فى طبقات ابن سعد 2/4 ط ليدن.
(2) طبقات ابن سعد: 2/35.
(3) تاريخ الطبرى: 2/177، والإصابة: 8/340.
(4) السمط الثمين: 89.
وتكلفت "عائشة وحفصة" ما أطاقتا من شجاعة، لتستقبلا الزوج
الجديدة بشيء من المجاملة، لكن "عائشة" لم تطق صبراً على هذا التكلف، فكشفت
لحفصة عما تطوى من حزن وغيرة. وفى ذلك تقول عائشة:
"لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة، حزنت حزناً شديداً لما
ذكر لنا من جمالها. فتلطفتُ حتى رأيتها، فرأيت والله أضعاف ما وُصِفت به، فذكرت ذلك
لحفصة فقالت: ما هى كما يقال..
وذكرتْ كبرَ سِنها..
فرأيتها بعد ذلك فكانت كما قالت حفصة، ولكنى كنت غيرى"(1).
وما من شك فى أن "أم سلمة" قد سرها أن تلمح تأثير دخولها على عائشة،
الزوج المفضلة، ولعلها- لذلك- قد رضيت أن تبعث بطفلتها "زينب" إلى
حاضنة، كى تفرغ لزوجها.
وكانت قد جاءت بها صغيرة إلى بيته، فبقيت معها حتى جاء عمار ابن ياسر- اخو
هند من الرضاعة- فانتزعها من حجرها قائلا لها:
"دعيها فقد آذيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم"(2).
وفى (الإصابة) أن رسول الله كان يأتى أم سلمة فيقول: أين زناب؟- تدليلا
للصغيرة- "حتى جاء عمار بن ياسر فقال: هذه تمنع رسول الله حاجته"(3).
***
وبدا واضحاً أن "أم سلمة" تعرف لنفسها قدرها، وتأبى على
"عائشة" أو سواها المساس بمكانتها فى البيت المحمدى، وقد أعزها مجد عتيق
موروث وآخر حديث مكتسب.
وكذلك أبت على "عمر" أن يتكلم فى مراجعة أمهات المؤمنين لزوجهن الرسول،
وقالت له منكرة:
"عجباً لك يا ابن الخطاب، قد دخلت فى كل شئ حتى تبتغى أن تدخل بين
رسول الله وأزواجه؟"(4).
وما قالت كلمتها هذه إلا وهى
معتزة بمكانها عند زوجها الرسول وفى بيته، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعدها من
أهله: حدثوا أنه كان يوماً عندها وابنتها زينب هناك، فجاءته ابنته الزهراء مع ولديها
الحسن والحسين رضى الله عنهم، فضمهما إليه ثم تلا الآية:
"رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد".
فبكت "أم سلمة" فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألها
فى حنو: ما يبكيك؟ .. أجابت: يا رسول الله خصصتهم، وتركتنى وابنتى. قال: "إنك
وابنتك من أهل البيت".
وقد شبت زينب فى رعاية الرسول "فكانت من أفقه نساء أهل زمانها"،
ويروى أنها "دخلت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل فنضح فى وجهها، فلم
يزل ماء الشباب فى وجهها حتى كبرت وعجزت"(5).
وبلغ من إعزازه صلى الله عليه وسلم لربيبه "سلمة" أن اختاره
زوجاً لابنه عمه الشهيد "حمزة بن عبد المطلب" رضي الله عنه(6).
***
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة: 8/241. (2) السيرة: 2/171 والسمط الثمين 90.
(3) الإصابة: الجزء الثامن ص 240. (4) السمط الثمين: 2- والاية من سورة هود: 73.
(5) الاستيعاب: 4/1855.
(6) تاريخ الطبرى: 3/177 ط مصر، وجمهرة أنساب العرب
(124) ونسب قريش (337) والسمط الثمين 16.
وكان الوحى ينزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت "عائشة"
فتباهى بذلك ضرائرها، حتى جاءت "أم سلمة بنت زاد الركب" فأوحى إلى
الرسول عليه الصلاة والسلام وهو عندها قوله تعالى:
"وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن
يتوب عليهم، إن الله غفور رحيم"(1).
وفى سبب نزول الآية يروون أن الرسول حين غزا بنى قريظة فى السنة الخامسة
للهجرة، وحاصرهم حتى جهدهم الحصار، قذف الله فى قلوبهم الرعب فبعثوا إلى رسول الله
أن يرسل إليهم صاحبه "أبا لبابة بن عبد المنذر" ليستشيروه فى أمرهم.
فأرسله إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى
وجهة، فرق لهم.
وسألوه: يا أبا لبابة، أترى أن ننزل على حكم محمد؟
فأجاب: "نعم، إنه الذبح". وأشار بيده إلى حلقه.
فما زالت قدماه من مكانهما حتى عرف أنه خان الله ورسوله.
وانطلق على وجهه، فربط نفسه إلى عمود من عمد المسجد، وقال:
"لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله علىَ مما صنعت".
وبلغ الرسول خبره- وكان قد استبطأه- فقال عليه الصلاة والسلام:
"أما أنه لو جاءنى لاستغفرت له، فأما إذ فعل ما فعل فما أنا بالذى
أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه"(2).
نقل ابن هشام(3):
"... أقام أبو لبابة مرتبطاً بالجذع ست ليال، تأتيه امرأته فى كل وقت
صلاة فتحله للصلاة، ثم يعود فيرتبط بالجذع ..
حتى نزلت توبة أبى لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو
فى بيت أم سلمة، فقالت، وقد سمعته يضحك:
- مم تضخك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟
قال: تيب على أبى لبابة.
قالت: أفلا أبشره يا رسول الله؟
فقال: بلى، إن شئت.
فقامت على باب حجرتها، فقالت:
- يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك.
فثار الناس ليطلقوه، فأبى وقال: لا والله حتى يكون رسول الله صلى الله
عليه وسلم هو الذى يطلقنى بيده.
فلما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا إلى صلاة الصبح، أطلقه".
***
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة التوبة: آيه 102. (2) تاريخ الطبرى:
حوادث السنة الخامسة للهجرة (3/54 ط مصر).
(3) السيرة: 3/24.
وفى العام السادس للهجرة، صحبت "أم سلمة" زوجها المصطفى عليه
الصلاة والسلام فى رحلته إلى مكة، وهى الرحلة التي صدته فيها قريش عن دخول البلد الحرام،
وتم عهد الحديبية الذى عده الإسلام نصراً مبيناً.
وكان لأم سلمة فى "هدنة الحديبية" دور جليل يذكره لها تاريخ
الإسلام.
ذلك أن أصحاب الرسول تذمروا حين بلغهم نص العهد، ظناً منهم أنه بخس المسلمين
حقهم وهم المنتصرون الغالبون. ويكفى أن نذكر من مظاهر ذلك التذمر، أن عمر بن
الخطاب- حين تم الاتفاق على شروط الصلح ولم يبق إلا كتابته- وثب فأتى أبا بكر
يسأله:
"أليس برسول الله؟"
"أو لسنا بالمسلمين؟"
"أو ليسوا بالمشركين؟"
فيجيب أبو بكر فى كل مرة: بلى.
قال عمر: فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟
فحذره أبو بكر ثم قال: إنى أشهد أنه رسول الله
قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله
ثم مضى "عمر" فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله مثل ما سأل
أبا بكر، حتى إذا بلغ قوله:
"فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟"
أجابه الرسول عليه الصلاة والسلام:
"أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعنى"(1).
واستفحل الأمر إلى حد منذر
بخطر، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يقوموا فينحروا ثم يحلقوا،
فما قام منهم رجل، فعل ذلك ثلاث مرات وما منهم من يستجيب. فدخل على زوجه "أم سلمة"
فذكر لها ما لقى من الناس فقالت:
"يا نبى الله، أتحب ذلك؟ .. اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى
تنحر بدنتك وتدعو حالقك فيحلقك"
وأصغى المصطفى إلى مشورتها فخرج فلم يكلم أحداً منهم كلمة حتى نحر وحلق، فلما
رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً وندما(2).
وثاب المسلمون إلى عقولهم بعد أن غلبتهم عليها عواطفهم، فأدركوا أى صلح
خطير عقد الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ما فُتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم
منه، فلقد دخل فى الإسلام بعد الحديبية، مثل من كان قبل ذلك وأكثر.
***
وصحبت "أم سلمة" الرسول كذلك فى غزوة خيبر، وفى خروجه لفتح مكة،
ثم فى حصاره الطائف(3) وغزو هوازن وثقيف.
حتى إذا عادت إلى المدينة فى السنة الثامنة للهجرة، أثارت نساء النبى
غيرتها على "مارية" وما زلن بها إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة 3/13- وتاريخ الطبرى: 3/79.
(2) تاريخ الطبرى: حوادث السنة السادسة للهجرة (2/80 ط
مصر).
(3) المرجع نفسه: حوادث السنة الثامنة للهجرة (3/133) ط
مصر.
أن استجابت لمنافستها الأولى
"عائشة" ورضيت أن تظاهرها فى الكيد "لمارية".
فكانت المغاضبة التى حملته صلى الله عليه وسلم على اعتزالهن شهراً.
وساد الهدوء ببيت النبى بعد تلك العاصفة، حتى إذا مرض سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، أذنت له "أم سلمة" وسائر أزواجه فى أن يمرض حيث أحب، فى بيت عائشة.
حاولت أم المؤمنين "أم سلمة" من بعده- صلى الله عليه وسلم- أن
تتجنب الخوض فى الحياة العامة، إلى أن كانت الفتنة الكبرى فاندفعت بالرغم منها
تؤازر أمير المؤمنين على بن أبى طالب: ابن عم الرسول، وزوج ابنته الزهراء، وأبا
الحسن والحسين.
ودًتْ لو تخرج فتنصره، لكنها كرهت أن تُبتلى وهى أم المؤمنين بمثل ذاك الخروج، فجاءت "عليًا" كرم الله وجهه وقدمت إليه ابنها عمر قائلة:
"يا
أمير المزمنين، لولا أن أعصى الله عز وجل، وأنك لا تقبله منى، لخرجت معك. وهذا ابنى
عمر، والله لهو أعزُ على من نفسى، يخرج معك فيشهد مشاهدك"(1).
ثم مضت إلى "عائشة" فقالت لها فى إنكار:
"أى
خروج هذا الذى تخرجين؟ .. الله من وراء هذه الأمة! .. لو سرتُ مسيرك هذا ثم قيل
لى: ادخلى الفردوس، لاستحييت أن القى محمداً هاتكةً حجاباً قد ضربه على".
***
لكن "عائشة" مضت فى طريقها لا تلوى على شئ ..
وتقدم العمر بأم سلمة حتى امتُحنت، كما أمتحن الإسلام كله، بفاجعة "كربلاء"
ومذبحة أهل بيت الرسول هناك. وتقول رواية إنها ماتت فى آخر سنة إحدى وستين بعد ما
جاءها نعى الإمام الشهيد "الحسين بن على" رضي الله عنهما(2).
وقيل بل امتد بها الأجل عاماً آخر، وماتت حين سمعت بالجيش الذى جهزه
"يزيد بن معاوية" للفتك ببقية آل على فى "المدينة" سنة ثلاث
وستين.
وشيع المسلمون بنت زاد الركب، آخر من مات من أمهات المؤمنين، وصلى عليها
"أبو هريرة" الصحابى الجليل، ودفنت رضي الله عنها بالبقيع(3).
ولم يبق بعدها من أمهات المؤمنين غير ذكرى وتاريخ!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1،2) الإصابة: 8/241.
(3) انظر فى قبرها "وفاء الوفا للسمهودى":
3/912.
أكرمهن ولياً وأكرمهن سفيرا
"يا رســـــــــول الله،
ما أنا كإحدى
نســـــائك:
ليست امرأة منهن إلا
زوجـــــها
أبوها أو أخوها أو أهلها،
غيرى .. زوجنيك الله من السماء"
زينب بنت جحش
حين دخلت "أم سلمة" بيت النبى، وتحدثت "عائشة" إلى "حفصة" عما تجد من لوازع الغيرة لما رأت من جمال العروس، لفتتها "حفصة" إلى أنها على جمالها كبيرة السن، ثم أوصتها أن تستبقى غيرتها لمن هى أولى.
وكأنما كانت "حفصة" تنطق بظهر الغيب، فما مضى على زواج المصطفى من
"أم سلمة" غير عام أو بعض عام(1)، حتى
دخلت بيته من هى أولى بغيرة عائشة ..
دخلته "زينب بنت جحش بن رئاب" الشابة الشريفة الحسناء، سليلة
بنى أسد بن خزيمة المضرى، وحفيدة عبد المطلب، وابنة عمة محمد صلى الله عليه وسلم(2).
وصفتها الرواية بأنها "كانت بيضاء سمينة من أتم نساء قريش"
وكانت معتزة بهذا الجمال، كما كانت معتزة بنسبها الرفيع فى آل سيد البشر.
***
ولو كانت "زينب" قد جاءت معتزة بجمالها وشبابها وقرابتها للمصطفى
فحسب، لكانت بهذا كله كفيلة بأن تثير غيرة من فى بيت النبى من أزواجه، فكيف وقد
كان زواجها منه أمراً نزل به الوحى من عند الله جل فى علاه؟
ولا نعرف من بين أمهات
المؤمنين رضي الله عنهن، من شغل زواجها مدينة الرسول مثل "زينب بنت
جحش"، ذلك لما سبق هذا الزواج، وأحاط به، من ظروف خاصة، وما أثاره من شبهة وخلاف،
حسمهما القرآن الكريم بآيات محكمات..
ونحتاج هنا إلى استطراد يسير، نرجع به إلى ما قبل المبعث، حين عاد "حكيم
بن حزام بن خويلد" من رحلة له بالشام، ومعه رقيق، فيهم غلام يدعى زيداً.
وما كان "زيد" عبداً، وإنما هو "زيد بن حارثة بن شراحيل بن
كعب" من بنى زيد اللات، خرجت به أمه "سعدى بنت ثعلبة" لتزيره أهلها
بنى معن بن طيئ، فأصابته خيل من بنى القين بن جسر، فباعوه بسوق من أسواق العرب، وكان
حكيم بن حزام هو الذى اشتراه(3). وجاءت
"السيدة خديجة" وهى يومئذ زوج محمد بن عبد الله، تزور ابن أخيها، فعزم
عليها أن تختار من شاءت من مواليه، فأخذت "زيداً" وعادت به إلى بيتها.
ورآه سيدنا "محمد" فاستوهبه منها فوهبته له راضية(4).
وكان "حارثة" أبو
زيد قد جزع عليه أشد الجزع، وخرج يلتمسه حتى سمع بمكانه في مكة. فانطلق مع أخيه
"كعب" حتى وقفا على محمد بن عبد الله فقالا له:
"يا ابن عبد المطلب. يا ابن سيد قومه، أنتم جيران الله. تفكون العانى
وتطعمون الجائع، وقد جئتك فى ابننا. فتحسن إلينا فى فدائه؟"
سألهما محمد: أو غير ذلك؟
قالا: ما هو؟
أجاب: "أدعوه وأخيره. فإن اختاركما فذاك، وإن اختارنى فوالله ما أنا
بالذى أختار على من اختارنى أحداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تزوج الرسول أم سلمة فى شوال من السنة الرابعة، وتزوج زينب فى السنة
الخامسة: الطبرى 3/42.
(2) أمها: أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم- انظر نسب قريش: 19 وجمهرة أنساب
العرب: 180.
(3) انظر تفصيل الخبر فى السيرة: 2/264.
(4) هذه رواية ابن هشام فى السيرة: 2/264- وفى السمط
الثمين رواية أخرى أن محمداً صلى الله عليه وسلم اشترى زيداً فى الجاهلية، فى سوق
عكاظ، ثم أعتقه وتبناه- ص 108.
قالا معاً: قد زدتَ على النصفة.
وَدُعِىَ زيد، فعرف أباه وعمه، وخيره محمد: إن شاء ذهب معهما وإن شاء أقام
معه.
فاختار سيده!
وتوسل إلية أبوه فى ضراعة:
"يا
زيد، أتختار العبودية على أبيك وأمك، وبلدك، وقومك؟"
فتماسك "زيد" ليجيب:
"إنى قد رأيت من هذا الرجل شيئاً، وما أنا بالذى أفارقه أبداً"
فعند ذلك أخذ محمد بيده، وقام به إلى الملأ من قريش فأشهدهم أن زيداً ابنه
وارثاً وموروثاً.
ودعى الغلام: زيد بن محمد
وكان أول من أسلم، بعد "على بن أبى طالب"(1).
وعندما هاجر الرسول إلى المدينة، وآخى بين أصحابه، كان زيد وحمزة عم
المصطفى، أخوين(2).
وبلغ "زيد" سن الزواج فاختار له المصطفى عليه الصلاة والسلام
"زينب" بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب.
وكرهت زينب، وكره أخوها "عبد الله بن جحش" أن تزف الشريفة القرشية
المضرية إلي مولى من الموالى.
وفزعا إلى ابن خالهما المصطفى يسألانه ألا يلحق بهما مثل ذلك العار، فما
كانت بنات الأشراف ليتزوجن من موالٍ وإن أعتقوا .. وقالت زينب فيما قالت يومئذ:
"لا أتزوجه أبداً .."(3)
فحدثهما المصطفى عن مكان "زيد" منه ومن الإسلام، وعن أصله العربى النقى، لكنهما على حبهما للرسول وحرصهما على طاعته، لم يذعنا حتى نزل فيهما قوله تعالى:
"وما
كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قَضَى الله ورَسولُهُ أمْراً أن يَكُونَ لهُمُ الخِيَرةُ مِنْ
أمرِهِمْ، وَمَنْ يَعْصَ الله ورسُولَهُ فقَدْ ضَلَ ضَلَالاً مُبِيناً"(4).
وتزوجت "زينب" زيدا ..
وتم للرسول عليه الصلاة والسلام ما أراد من تحطيم فوارق الطبقات، وإعلاء
كلمة الإسلام.
***
لكن حياة الزوجين لم تَصفُ لهما، فما نسيت "زينب" قط أنها الشريفة لم يجر عليها رق، ولا أساغت لحظة أن تكون تحت مولى كهذا، دخل بيت آلها رقيقا!
وقاسى "زيد" من صدها وجفائها وترفعها ما استنفد صبره، فشكا إلى رسول الله غير مرة، ما يجد من سؤ معاملة زينب، والرسول يطلب إليه مزيداً من الصبر والاحتمال، ويأمره أن "أمسك عليك زَوْجَكَ واتق الله.."
ثم حدث ما يرويه "الطبرى" أن رسول الله افتقد زيداً فجاء منزله
يطلبه، فهرعت "زينب" تستقبله، قائلة:
"ليس هو ها هنا يا رسول الله. فادخل بأبى أنت وأمى"(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة: 2/263- وتاريخ الطبرى 2/215. (2) السيرة: 2/151.
(3) السمط الثمين: 112. (4) سورة الأحزاب: آية 36.
(5) تاريخ الطبرى 3/42-
وانظر كذلك السمط الثمين: 107.
وفى رواية أخرى، نقلها الطبرى كذلك: "أن الرسول جاء يطلب زيداً وعلى
باب زينب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر فانكشف عنها وهى فى حجرتها حاسرة فوقع
إعجابها فى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم"(1).
ودعته إلى الدخول فأبى، ومضى- عليه الصلاة والسلام- وهو يهمهم بكلمات ميزت فيها زينب قوله: "سبحان الله العظيم، سبحان الله مصرف القلوب"
وأقامت "زينب" فى مكانها تفكر فيما سمعت من قول ابن خالها، حتى
جاء "زيد" فكان أول ما لقيتْه به، أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى منزله.
سألها زيد: ألا قلت له، ادخل..
فأجابت: بلى، قد عرضت عليه ذلك فأبى.
واستطرد "زيد" مستفسراً: فسمعته يقول شيئاً؟
قالت: سمعته يقول حين ولى: "سبحان الله العظيم، سبحان الله مصرف
القلوب"(2).
فأطرق "زيد" برهة، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال:
"يا رسول الله، بلغنى أنك جئت منزلى، فهلا دخلت بأبى أنت وأمى؟"
ثم أضاف متسائلا: "فأفارقها؟"
فقال عليه الصلاة والسلام:
"ما لك؟ أرابك منها شيء؟"
أجاب زيد: "لا والله يا رسول الله، ما رابنى منهـا شئ ولا رأيت إلا خيراً،
ولكنها تتعظم على لشرفها، وإن فيها كِبراً، تؤذينى بلسانها"(3).
قال عليه الصلاة والسلام:
"أمسك عليك زوجك"
وأذعن زيد، وعاد ليجرب الاحتمال من جديد، ويكابد مزيداً من الشقاء.
لكن زينب هجرته، فما استطاع إليها سبيلا بعد ذلك اليوم(4).
حتى نفد احتماله ففارقها، وكان الطلاق(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/43 ط مصر.
(2) الحوار بنصه من تاريخ الطبرى: 3/42.
(3) تاريخ الطبرى: 3/42- والسمط الثمين: 107.
(4) العبارات بنصها،
من تاريخ الطبرى: 3/ 43.
(5) السمط الثمين: 108 وتاريخ الطبرى: 3/ 43.
ورقَ قلبُ محمد- صلى الله عليه وسلم- للشابة التى أكرهت على الزواج ممن لا
ترضى امتثالا لأمر الله ورسوله، وود لو يستطيع أن يجبر خاطرها المكسور، وحدثته
نفسه أن يتزوجها، ولكن كيف؟ أو لم يعلن فى الملأ من قريش أن زيداً ابنه؟ .. فماذا
يقول الناس إذا تزوج ممن كانت امرأة ابنه؟ .. وهل تراهم يصغون إليه إذا ذكرهم بأن
المتبنى غيرُ الابن، وقد جرت تقاليدهم على أن يلصقوا المتبنى بأبيه، ويجعلوا له
حقوق الابن وحرمة النسب؟
وآثر أن يكتم رغبته، وأن يقاوم عاطفته نحو بنت عمته التى انتزعها زهرة من أشرف بيت فى مضر، فزفها بالرغم منها إلى زوج مُلصَق، يُدعَى لغير أبيه!
فبينما هو صلى الله عليه وسلم يتحدث مع أم المؤبنين عائشة، إذ أخذته غشية
الوحى، ثم سُرى عنه وهو يبتسم ويقول:
- من يذهب إلى زينب يبشرها بأن الله زوجنيها(1)؟
وتلا- عليه الصلاة والسلام- ما أنزل إليه من وحى ربه:
"وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق
الله، وتخفى فى نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاهُ، فَلما قضى زيد
منها وطراً زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج أدعيائهم إذا قضوا
منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً"(2).
قالت "عائشة": فأخذنى ما قَََرُبَ وما بعد، لما يبلغنا من
جمالها، وأخرى هى أعظم الأمور وأشرفها، ما صنع الله لها: زوجها .. فقلت: تفخر
علينا بهذا(3)..
وكان زيد يُدعَى زيد بن محمد، حتى نزلت الآية المحكمة:
"...
وما جعل أدعياءكم أبناءكم، ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل *
ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم
وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمًدت قلوبكم، وكان الله غفُوراً رحيماً".
فدُعِى من يومئذ: زيد بن حارثة(4).
***
تلك هى قصة زينب، نقلناها من أوثق مصادرها الإسلامية، لم نكد نتصرف فيها
بكلمة. ولست أدرى ما الذى أنكره "الدكتور هيكل" منها حتى اندفع يردها
إلى مفتريات المستشرقين والمبشرين "الذين أضفوا عليها من أستار الخيال، حتى جعلوها
قصة غرام ووله"، ثم يقول: ويكفى لهدم كل القصة من أساسهـا، أن تعلم أن زينب
بنت جحش هذه، هى ابنة عمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأنها ربيت بعينه
وعنايته .. وأنه كان يعرفها أهى ذات مفاتن أم لا قبل أن تتزوج زيداً، وأنه شهدها
فى نموها تحبو من الطفولة إلى الصبا إلى الشباب، وأنه هو الذى خطبها على زيد
مولاه. إذا عرفت ذلك تداعت أمام نظرك كل تلك الخيالات والأقاصيص، من أنه مر ببيت زيد
ولم يكن فيه فرأى زينب فبهره حسنها وقال: سبحان مقلب القلوب. أو أنه لما فتح باب
زيد، عبث الهواء بالستار على غرفة "زينب" فألفاها فى قميصها وكأنها "مدام
ريكاميه" فانقلب فجأة ونسي سودة، وعائشة، وحفصة، وزينب بنت مخزوم (؟!)، وأم
سلمة، ونسى كذلك ذكر خديجة"(5).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/43. (2) سورة الأحزاب:
آية 37.
(3) العبارة بنصها منقولة من (تاريخ الطبرى: 3/43). (4) الاستيعاب: 4/1850
والآية من سورة الأحزاب (5، 6).
(5) حياة محمد: 291 وقوله: "زينب بنت مخزوم" فيه وهم: فليس بين أمهات المؤمنين من تدعى بهذا الاسم، وإنما فيهن "زينب بنت حزيمة: أم المساكين" ولم تكن، كذلك، فى البيت المحمدى عندما دخلته "زينب بنت جحش" بل توفيت قبل ذلك بزمن.
وعند الدكتور هيكل، أن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم من زينب لم يدفع إليه ميل ولا عاطفة، وإنما أراد أن يأتمر بحكم الله فيما أبطل من الحقوق المقررة للتبنى والادعاء، ثم أشفق مما يمكن أن يقول الناس فى خرقه لعادة لهم قديمة متأصلة، فلم يرض له الله أن يخفى فى نفسه ما الله مبديه، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه.
وأضاف الدكتور هيكل:
"أفيبقى
بعد ذلك أثر لهذه الأقاصيص التى يكررها المستشرقون والمبشرون؟ ولكنها شهوة التبشير
المكشوف تارة، والتبشير باسم العلم أخرى، والخصومة القديمة للإسلام تأصلت فى
النفوس منذ الحروب الصليبية، هى التى تملى على هؤلاء جميعاً ما يكتبون، وتجعلهم فى
أمر زواج النبى، وفى أمر زواجه من زينب بنت جحش، يتجنون على التاريخ ويلتمسون أضعف
الرواية فيه مما دس عليه ونسب إليه"(1).
وفى الحق إن القصة فى جوهرها لم تكن قط "قصة غرام ووله" وآيات
القرآن فيها تشهد بأن المصطفى عليه الصلاة والسلام تحرج من هذا الزواج خشية أن يقول
الناس: تزوج ممن كانت زوجاً لابنه .. لكن المرويات الإسلامية فى الستر من الشعر
الذى رفعته الريح، وانصراف المصطفى عن بيت زيد وهو يقول: "سبحان الله مقلب القلوب"
قد كتبت قبل أن تسمع الدنيا بالحروب الصليبية، بأقلام نفر من مؤرخى الإسلام ورواة
السيرة، لا يرقى إليهم اتهام بعداء النبى عليه الصلاة والسلام والدس على الإسلام(2).
***
ثم فلننظر، هل فيها ما يريب؟
إن آية العظمة فى شخصية نبينا عليه الصلاة والسلام، أنه بشر يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، وما نعرف فى تاريخ الأبطال- ولا أقول الأنبياء- من أصر على تقرير بشريته إصرار محمد بن عبد الله، ولا عرفت الإنسانية كتاب دين يجعل من بشرية المبعوث به، أصلاً من أصول العقيدة، وقرآناً يتعبد به المؤمنون: كما فعل كتاب الإسلام.
ولا يكون أحدنا مؤمناً وهو ينكر هذه البشرية وينزه عنها رسولا أوحى إليه:
"قُل إنما أنا بَشَرُ مثلكم"(3).
"قُل سُبحان رَبى هل كنت إلا بشـراً رسُولا"؟
فقالها، واعتز بأنه "ابن امرأة من قريش تأكل القديد"
أفينكر على بشر رسول، أن يرى مثل زينب فيرق قلبه لها؟
وماذا يطلب من مثله- فى سمو خلقه وعفة ضميره- أكثر من أن يشيح بوجهه عمن
رق قلبه لها، وهو يسبح باسم الله العظيم، مقلب القلوب؟
وأى ضبط للنفس ينتظر من بشر رسول، أكثر من أن يجيئه زيد فيستأذنه من جديد
فى طلاقها، فيأبى عليه إلا أن يمسكها ويتقى الله!؟
إن القصة- وقد نقلها إلينا رواة غير متهمين- لترتفع برسولنا عليه الصلاة والسلام إلى أقصى ما تطيقه بشرية من عفة وضبط للنفس وكبح للهوى وإنها لجديرة بأن تعد مفخرة لمحمد والإسلام، فما ادعى نبينا قط أن قلبه بيده يصرفه حيث شاء، ولا زعم مرة، أنه مبرأ من عواطف البشر، وقد كان يقول فى إيثاره عائشة على غيرها من أزواجه اللاتى أمره ربه بالعدل بينهن:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حياة محمد: ص 293، 294.
(2) راجعها بالتفصيل فى تاريخ الطبرى: 3/42، 43 وطبقات ابن سعد، وفى السمط الثمين: 107- وفى الإصابة جـ 8.
(3) من آية 110 سورة الكهف- وانظر معها الآيات: 6 فصلت، الإسراء93، القمر 24، الأنبياء34.
"اللهم هذا قسَمى فيما أملك، فلا تَلُمْنى فيما تملك ولا أملك".
فكيف نخاف عليه لوماً إن مال قلبه إلى "زينب"، بنت عمته، فى موقفها الصعب وما كابدت من شقاء وقهر، ثم أبى مع هذا الميل، إلا أن يأمر زوجها بإمساكها، على ما يعرف من شقائهما بهذا الإمساك؟
من نحو تسعة قرون، كتب "الزمخشرى": أن رسول الله "أبصر زينب بعد ما أنكحها زيداً فوقعت فى نفسه، فقال: سبحان الله مقلب القلوب. وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا تريدها، ولو أرادتها لاختطبها.
فإن قلت: ما الذى أخفى فى نفسه؟ قلت: تعلق قلبه بها، وقيل: مودة مفارقة زيد إياها.
فإن قلت: كيف عاتبه الله فى ستر ما استهجن التصريح به، وما له لم يعاتبه فى
نفس الأمر، ولم يأمره بقمع الشهوة وكفَ النفس عن أن تنازع على زينب وتتبعها، ولم
يعصم نبيه صلى الله عليه وسلم من تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة؟ قلت: كم من شئ
يحتفظ منه الإنسان ويستحى من إطلاع الناس عليه وهو فى نفسه مباح متسع وحلال مطلق،
لا مقال فيه ولا عيب عند الله .. لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته غير موصوف
بالقبح فى العقل ولا فى الشرع، لأنه ليس بفعل الإنسان، ولا وجوده باختياره"(1).
فإن يكن من المستشرقين والمبشرين من تعلقوا بهذا التأويل ومثله، فليس يجدى
أن نتهمهم بافترائه ونسجه من الخيال بعد الحروب الصليبية.
بل الأولى أن يقال إنهم أخذوا ما أخذوا من المرويات الإسلامية فى تأويل آيات الأحزاب، بمعزل عن سياقها فى موضوع التبنى الذى هو جوهر القضية ومناط التشريع.
وحسبنا هنا أن نتلو الآيات المحكمات:
"وما
كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن
يعص الله ورسوله فقد ضَلَ ضَلالا مبيناً * وإذ تَقُولُ للذى أنعم الله عليه وأنعمت
عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى فى نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق
أن تخشاهُ، فَلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج فى أزواج
أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً * ما كان على النبى من حرج
فيما فرض الله له، سُنةَ الله فى الذين خلوا من قبل، وكان أمر الله قَدراً مقدوراً
* الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله، وكفى بالله حسيباً *
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وكان الله بكل شئ
عليماً".
صدق الله العظيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الكشاف: سورة الأحزاب.
طار البشير إلى "زينب" بالخبر السعيد، قيل حملته إليها سلمى خادم الرسول(1) وقيل بل مضى به إليها "زيد" نفسه(2)، فتركت ما بيدها وقامت تصلى لربها شاكرة.
وكانت وليمة العرس حافلة: ذبح المصطفى شاة، وأمر مولاه "أنس ابن مالك" أن يدعو الناس إلى الوليمة، فترادفوا أفواجا، يأكل فوج فيخرج، ثم يدخل فوج. إلى أن قال أنس:
- يا رسول الله، دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه..
فقال صلى الله عليه وسلم: ارفعوا طعامكم(3).
وللمرة الثانية، تدخل الوحى فى الحياة الزوجية للرسول صلى الله عليه وسلم وزينب رضى الله عنها.
ذلك أن بعض المدعوين قد طابت
لهم الجلسة بعد أن فرغوا من الطعام، فأقاموا يتسامرون. وحين طال مكثهم، بدا المصطفى
كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك منهم قام يزور نساءه ريثما ينفض
المجلس، فانصرف القوم إثر قيامه، إلا ثلاثة نفر ظلوا حيث هم، إلى أن طاف كعادته
بنسائه جميعا وتلقى تهنئتهن بالعروس الجديدة وآن له أن يخلو إلى "زينب"
فإذا الثلاثة جلوس ما يزالون يسمرون. ومنعه حياؤه الشديد أن يصرفهم من بيت العروس
التى كانت تجلس هنالك مولية ظهرها إلى الحائط(4)، فخرج
متجهاً نحو حجرة أم المؤمنين عائشة، وبقى "أنس" منتظراً مع الضيوف حتى
انصرفوا فأسرع إلى الرسول ينبئه بذلك، فجاء صلى الله عليه وسلم واتجه نحو حجرة
زينب، حتى إذا بلغ عتبتها أرخى الستر بينه وبين أنس بن مالك.
ونزلت الآية الكريمة:
"يا
أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكمُ إلى طعام غير ناظرين إناه،
ولكن إذا دُعيِتُم فادخُلوا، فإذا طُعِمتمُ فانتشروا ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم
كان يؤذى النبى فيستحيى منكم، والله لا يستحيى من الحق، وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن
من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن، وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن
تنكحوا أزواجه من بعده أبداً، إن ذلكم كان عند الله عظيما"(5).
ومن يومئذ، فُرض الحجاب على نساء النبى رضى الله عنهن، وعلى المؤمنات
جميعا، رمز تصون وعزة، وسمة كرامة وترفعٍ عن الابتذال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 2/ 127.
(2) الاستيعاب 40/ 1851- وتفسير الكشاف: سورة الأحزاب.
(3) تفسير الكشاف: 3/ 244.
(4) السمط الثمين: 107، 110 وتفسير
الكشاف: 3/ 344.
(5) أية 53: سورة الأحزاب.
ودخل محمد صلى الله عليه وسلم بتلك التى زوجه إياها الوحى.
وباتت "عائشة" ليلتها فريسة الغيرة، قد أخذها- فيما قالت- ما قرب وما بعد، لما تعرف من جمال زينب، ولما هى حَرِية أن تفخر به من صُنع الله لها.
وكذلك غارت نساء النبى رضى الله عنهن، وضقن جميعا بهذه العروس الجديدة:
تعتز بجمال وشباب وشرف، وبأن الله هو الذى زوجها.
ولم تكذب زينب ظنهنَ، فإنها ما لبثت أن واجهتهن- وقد أدركت ما يطوين لها-
مباهية: "أنا أكرمكن ولياً، وأكرمكن سفيراً: زوجكن أهلكن، وزوجنى الله من فوق
سبع سماوات!"(1).
وإذا كانت "أم سلمة" قد سرها أن ترى أثر الموقف على عائشة،
الزوج المفضلة، فلا ريب أن زينب قد أرضاها أن تجيء فتتقدم "أم سلمة" منافسة
لعائشة!
ولم تكتم عائشة غيرتها من زينب، كما لم تكتمها من أم سلمة، بل اعترفت بأنهما:
"كانتا أحب نسائه إليه- فيما أحسب- بعدى".
ثم تؤثر زينب وحدها بخصومتها فتقول:
"لم تكن واحدة من نساء النبى تناصينى غير زينب"(2).
أى تنازعنى وتبارينى، من: ناصيت فلانا إذا أخذت بناصيته ونازعته.
أو تقول: لم يكن أحد من نساء
النبى صلى الله عليه وسلم تسامينى فى حسن المنزلة عنده، غير زينب بنت جحش(3).
وقد مر بنا ما كان من ضيق "عائشة " بميل المصطفى إلى زينب "وإطالته المكث لديها" ثم تآمرها مع حفصة وسودة، أيتهن دخل عليها إثر إنصرافه من عند زينب، فلتقل له: "إنى أجد ريح مغافير".
وكان يحدث أحيانا أن تحتدم بينهما المنافسة فى حضرة الزوج المصطفى، فيدعهما
وشأنهما لعل فى هذا راحة لهما وتنفيساً عن مشاعرهما. وقد استطاعت "عائشة"
مرة أن تغلب "زينب" فما زاد المصطفى على أن تبسم وقال(4):
"إنها بنت أبى بكر".
وحدث مرة أخرى، أن أفلت لسان "عائشة" بكلمة غضب لها الرسول عليه الصلاة والسلام. فقد تلقى هدية وهو فى بيتها، فأرسل إلى كل واحدة من نسائه نصيباً منها. لكن زينب ردت ما جاءها، فلم تملك عائشة أن قالت لزوجها الرسول:
"لقد
أقمأتْ وجهك حين ترد عليك الهدية".
فقام صلى الله عليه وسلم عنها مغضباً وهو يقول:
"أنتن أهون على الله من أن تقمئننى".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد: 8/ 73.
(2) ابن هشام: السيرة 3/311.
(3) الاستيعاب: 4/ 1850.
(4) السمط الثمين: 40.
على أن هذه الخصومة المحتدمة بين الزوجين الأوليين، لم تمنع حفيدة عبد المطب من الدفاع عن "عائشة بنت أبى بكر" فى محنة الإفك، وقد ذكرت لها عائشة هذا الموقف النبيل فقالت:
"وكان
كِبْرُ ذلك- الإفك- عند عبد الله بن أبىَ بن سلول فى رجال من الخزرج، مع الذى قال
مسْطَحُ وحَمْنَةُ بنت جحش. وذلك أن أختها زينب كانت عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ولم تكن امرأة من نسائه تناصينى فى المنزلة عنده غيرها .. فأما زينب فعصمها
الله تعالى بدينها فلم تقل إلا خيراً، وأما حمنة بنت جحش فأشاعت من ذاك ما أشاعت
تضارنى لأختها، فشقيت بذلك"(1).
أجل عصمهـا الله تعالى بدينها، وقد كانت "زينب" صالحة تقية.
شهدت لها بذلك كله ضرتها السيدة عائشة فقالت:
"ولم
أر امرأة قط خيراً فى الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثا، وأوصل للرحم، وأعظم
صدقة، وأشد ابتذالا لنفسها فى العمل الذى يُتصدق به ويتقرب به إلى الله عز وجل"(2).
وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب:
"إن
زينب بنت جحش أواهة، فقال رجل: يا رسول الله: ما الأواه؟ .. قال: الخاشع، المتضرع.
ثم تلا عليه الصلاة والسلام: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب"(3).
وكانت كذلك كريمة خيرة، تصنع بيديها ما تحسن صنعه ثم تتصدق به على المساكين،
عيال الله الذى أكرمها وأعزها وآثرها بما لم يؤثر به زوجة سواها.
***
وألغى موت محمد، صلى الله عليه وسلم، ما بين "زينب" وضرائرها من أثر التنافس على زوجهن المصطفى، فلم يعدن يذكرن إلا أنها كانت له صلى الله عليه وسلم زوجاً حبيبة، وللمؤمنين أمًا رحيمة، ولربها عابدة قانتة.
ذكرتها "أم سلمة" فترحمت عليها وذكرت ما كان يكون بينها وبين "عائشة" ثم قالت:
"كانت زينب لرسول الله- عليه الصلاة والسلام- معجبة، وكان يستكثر منها، وكانت صالحة قوامة، تعمل بيديها وتتصدق بذلك كله على المساكين".
وسُمِعت "عائشة" تقول حين بلغها نعى "زينب":
"ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل".
ثم قالت:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن لحاقاً بى أطولكن
يداً".
"فكنا إذا اجتمعنا فى بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم، نمد أيدينا فى الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، ولم
تكن بأطولنا، فعرفنا حينئذ أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد طول اليد
بالصدقة، وكانت زينب امرأة صناع اليدين تدبغ وتخرز، وتتصدق فى سبيل الله"(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة 3/312. (2) السمط الثمين: 110-
والاستيعاب: 4/ 1851.
(3) الاستيعاب: 4/ 1852- والآية من سورة هود: 75.
(4) السمط الثمين: ص 110- والاستيعاب: 4/ 1851.
وفى الخبر أن "عمر بن الخطاب: أمير المؤمنين" أرسل إليها عطاءها
اثنى عشر ألفاً، فجعلت تقول:
"اللهم لا يدركنى هذا المال فى قابل، فإنه فتنة"(1).
ثم قسمته فى أهل رحمها وفى أهل الحاجة، فبلغ "عمر" ذلك، فوقف رضى الله عنه ببابها وأرسل إليها بالسلام وقال:
"بلغنى
ما فرقت، فأرسل ألف درهم تستبقينها؟"
وأرسل الألف، فتصدقت بها جميعاً، لم تبق منها درهماً.
وحين حضرتها الوفاة، سنة عشرين(2)، قالت:
"إنى
قد أعددت كفنى، وإن عمر أمير المؤمنين، سيبعث إلى بكفن، فتصدقوا بأحدهما"(3).
وكانت سنها يوم ماتت، رضى الله عنها، ثلاثا وخمسين سنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين: 111.
(2) فى رواية أنها توفيت
سنة إحدى وعشرين، عام فتح العرب للإسكندرية (الاستيعاب 4/1852).
(3) الإصابة: جـ
سيدة بنى المصطلق
"لما
قسم رسول الله سبايا بنى المصطلق
وقعت جويرية بنت الحارث فـــــــــــــــــــى
السهم لثابت بن قيس أو لابن عـــــــم له
فكاتبته على نفسها. وكانت امـــــــــــــرأة
حلوة ملاحة، لا يراها أحـــــــــــــــــــــد
إلا
أخذت بنفسه، فأتت رســـــــــــــــــول الله
تستعينه فى كتابتها. فوالله ما هــــــــــــو
إلا أن رأيتها على باب حجرتــــــــــــــــــى
فكرهتها، وعرفت أنه سيرى فيهــــــــــــــا
صلى الله عليه وسلم ما رأيت".
عائشة بنت أبي بكر
أم المؤمنين
شغل المصطفى عليه الصلاة والسلام، إثر زواجه بزينب بنت جحش، بأحداث هامة
كبار ملأت النصف الثانى من السنة الخامسة للهجرة: ففى شهر شوال وأوائل القعدة(1)،
كانت وقعة "الخندق" التى لقى فيها الرسول والمسلمون جموع الأحزاب من
المشركين الذين أغراهم بالخروج لحرب الرسول فى مدينته، نفر من اليهود وعدوهم
النصر. لقيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فى ثلاثة آلاف من المسلمين، وراء الخندق
الذى حفره حول المدينة، وقد أقبلت قريش فى عشرة آلاف، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل
تهامة، وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد(2).
ونقض اليهود العهد الذى قطعوه على أنفسهم بالحياد، وعظم البلاء بالمسلمين واشتد الخوف، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وزلزلوا زلزالا شديداً حتى ظن المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق.
وتخاذل الذين خرجوا للقتال مع الرسول طمعاً فى الغنيمة، فلما ظنوا أنه مهزوم، كروا راجعين إلى ديارهم.
وكان حصار مرهق استغرق سبعة وعشرين يوماً، ثم دارت الدائرة على المشركين،
وتم النصر للرسول والذين آمنوا معه.
***
ووضع المسلمون السلاح وقد أجهدتهم المعركة، وأووا إلى بيوتهم فى الصبح يلتمسون راحة طويلة، فما انتصف النهار حتى تناهى إلى أسماعهم صوت داعى الرسول يؤذن فى الناس:
"من
كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا فى بنى قريظة"(3).
واستأنفوا القتال، وحاصروا يهود بنى قريظة خمساً وعشرين ليلة قبل أن يتم
التسليم فى شهر ذى القعدة وصدر ذى الحجة.
وأقبلت السنة السادسة، لتشهد الرسول عليه الصلاة والسلام يغزو بنى لحيان ثم
يتبعها غزوة ذى قرد(4)، ويعود إلى المدينة فما يقيم بها شهراً وبعض شهـر،
حتى يبلغه أن بنى المصطلق- وهم حى من خزاعة- يجمعون الجموع لقتال النبى عليه
الصلاة والسلام، بقيادة زعيمهم "الحارث بن أبى ضرار"(5).
وخرج إليهم الرسول ومعه من نسائه "عائشة بنت الصديق" حتى لقيهم على
ماء لهم يقال المريسيع، فكان قتال مرير، انتهى بهزيمة بنى المصطلق.
وسيقت نساؤهم سبايا، وفيهن "جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار" سيد القوم وقائدهم.
وقفل المصطفى راجعاً إلى المدينة، ليفتقد "عائشة" ثم لم يلبث أن رآها تدخل المدينة على بعير "صفوان بن المعطل السلمى" فاطمأن عليها، وخرج ليوزع الغنائم على المجاهدين فى قتال بنى المصطلق.
ثم انصرف إلى بيته خالى البال إلا من شئون الدعوة التى أوشكت أن تقضى على الوثنية المشركة والضلال الموروث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فى السيرة (3/ 24) أن غزوة الخندق كانت فى شوال سنة خمس، ومثله فى تاريخ الطبرى (3/ 43) وقريب منه، ما فى طبقات ابن سعد (2/ 47) من أنها كانت فى ذى القعدة سنة خمس من مهاجره.
وفى رواية نقلها الزرقاتى: قال موسى بن عقبة فى مغازيه: كانت سنة أربع!.
(2) ابن هشام: السيرة 3/ 230 وطبقات ابن سعد: 2/47، وتاريخ الطبرى: 3/ 46.
(3) تاريخ الطبرى: 3/ 53- والسيرة 3/ 301.
(4) تاريخ الطبرى، حوادث السنة السادسة للهجرة.
(5) تاريخ الطبرى: حوادث السنة السادسة للهجرة. وانظر جمهرة أنساب العرب 228.
فبينما هو جالس يوماً فى حجرة عائشة، سُمِعت أنثى تستأذن فى لقاء الرسول بصوت شجى مؤثر.
وقامت "عائشة" إلى الباب لترى من تلك، فإذا شابة حلوة مفرطة الملاحة، "لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه"(1)، فى نحو العشرين من عمرها(2) ترتجف قلقاً وذعراً، وقد زادها انفعالها حيوية وسحراً.
وكرهتها "عائشة" من النظرة الأولى، فوقفت حيالها وبودها لو تحول بينها وبين زوجها المصطفى، الذى كان وقتئذ يستريح.
لكن الشابة الغريبة ألحت فى الاستئذان على الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم
تملك "عائشة " إلا أن تستأذن لها كارهة، وفى نفسها هاجس من قلق.
ودخلت الشابة المليحة فقالت فى ضراعة تمازجها عزة:
"يا
رسول الله، أنا بنت الحارث بن أبى ضرار سيد قومه، وقد أصابنى من البلاء ما لم يخف
عليك، فوقعت فى السهم لثابت بن قيس .. فكاتبتُه على نفسى، فجئتك أستعينك على أمرى"(3).
فتأثر صلى الله عليه وسلم للكريمة المهانة والعزيزة المستذلة .. واستثار شهامته موقف سيدة حرة تلوذ به، وهو الذى هزم قومها، لتنجو من مهانة السبى وعار الرق.
ورق قلبه لجويرية، العربية الخزاعية، بنت سيد بنى المصطلق، إذ تقف ببابه مستطارة اللب مستثارة القلق، تترنح على حافة الهاوية، ولا من ينقذها سواه...
ولم يهن عليه أن يقطع ذلك الخيط من الرجاء، تتعلق به فى محنتها ليعصمها من
الانهيار.
***
وتكلم محمد صلى الله عليه وسلم أخيراً:
"فهل لك فى خير من ذلك؟"
سألت فى لهفة وحيرة:
"وما
هو يا رسول الله؟".
أجاب: "أقضى عنك كتابك، وأتزوجك!".
فتألق وجهها الجميل وهتفت وهى لا تكاد تصدق أنها قد نجت من الضياع والهوان:
"نعم يا رسول الله!".
قال: "قد فعلتُ"(4).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن إسحاق فى السيرة: 3/
307، وتاريخ الطبرى: 3/ 66 والاستيعاب 4/1804.
(2) السمط الثمين: 117.
(3) السيرة: 3/307- وتاريخ
الطبرى 3: 66- والاستيعاب: 4/ 1804- وانظر طبقات ابن سعد 2/46.
(4) الحوار بنصه من السيرة: 3/307- وتاريخ الطبرى: 3/66- والاستيعاب: 4/ 4 180.
وما أسرع ما خرج الخبر إلى الناس أن رسول الله قد تزوج بنت الحارث ابن أبى ضرار، فتداعى أصحاب المصطفى لتكريم السيدة التى أعزها نبيهم بالزواج.
وأقبلوا على من بأيديهم من أسرى قومها، فأرسلوهم أحراراً وهم يقولون:
"أصهار رسول الله".
ودخلت العروس بيت النبى، وما من امرأة أعظم على قومها بركة منها: أعتق
بزواجها من الرسول، أهلُ مائةِ بيت من بيوت بنى المصطلق(1).
وظلت "جويرية"(2) ما عاشت، تبارك تلك اللحظة السعيدة التى لقيت فيها النبى عليه الصلاة والسلام، فنجت من العار، وأعتقت قومها من الأسر، وشُرفت بالزواج من سيد البشر.
وكذلك ظلت "عائشة" تذكر تلك اللحظة، لكن فى مرارة وألم، فتقول فى صراحة مؤثرة:
"
.. وكانت امرأة حلوة ملاحة، لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله
عليه وسلم تستعينه فى كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها.
وعرفت أنْ سيرى منها صلى الله عليه وسلم ما رأيت... "(3).
وهل من حرج على المصطفى فى أن ينظر إليها، وهى أسيرة حرب؟
لو كانت حرة. لأمنت عائشة من أن يملأ الرسول عينه منها، إلا أن تتجه نيته إلى نكاحها. قال "السهيلى" فى الروض الأنف: "وأما نظره عليه السلام لجويرية حتى عرف من حسنها ما عرف، فإنما كان ذلك لأنها امرأة مملوكة. ولو كانت حرة ما ملأ عينه منها .. وجائز أن يكون نظر إليها لأنه أراد نكاحها .. وقد ثبت عنه عليه السلام الرخصة فى النظر إلى المرأة عند إرادة نكاحها. وقال للمغيرة حين شاوره فى نكاح امرأة:
"لو نظرت إليها. فإن ذلك أحرى أن يدوم بينكما"، وقال مثل ذلك لمحمد بن مسلمة حين أراد نكاح بثينة بنت الضحاك".
وقد كان ما توقعت "عائشة" وخافت:
نظر زوجها المصطفى إلى الأسيرة الحسناء، وأصبحت "جويرية بنت الحارث" شريكة لعائشة فى بيته.
كما أصبحت، وقد أسلمت وحسن إسلامها، أما للمؤمنين.
يروون أن أباها "الحارث" جاء المدينة قبل أن يعلن الرسول زواجه بها،
فقال للنبى عليه الصلاة والسلام:
"يا محمد، أصبتم ابنتى وهذا فداؤها، فإن ابنتى لا يُسبى مثلها".
فقال له الرسول:
"أرأيت أن أخيرها، أليس قد أحسنت؟".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن إسحاق فى السيرة: 3/307- وتاريخ الطبرى: 3/66 والاستيعاب: 4/1804.
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم جعل صداقها عتق كل أسير من قومها بنى المصطلق. انظر طبقات ابن سعد: 2/46.
(2) وقع فى بعض الروايات أن جويرية كان اسمها بر فسماها الرسول جويرية كراهة أن يقال: خرج من عند برة (السمط: 117 والاستيعاب- 4/1815) لكن سياق الخبر فى الاستيعاب يخلط بينها وبين أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث. ويأتى ذكر جويرية فى السيرة وطبقات ابن سعد، وتاريخ الطبرى، وجمهرة أنساب العرب، باسم جويرية، لا غير.
(3) الإصابة: 8/ 44-
وتاريخ الطبرى 3/ 66- والاستيعاب: 4/ 1804.
فأجاب: "بلى".
فأتاها أبوها فذكر لها ذلك فقالت:
"اخترت الله ورسوله".
وقيل كذلك إن "الحارث" سمع من المصطفى عليه الصلاة والسلام حديثاً عما جاء فيه من فداء ابنته، فصاح بصوت جهير:
"أشهد
أن لا إله إلا الله، وأنك محمد رسول الله".
فخطب المصطفى إليه ابنته، فزوجه إياها وأصدقها أربعمائة درهم(1).
***
على أن "عائشة" ما لبث أن شغلت عن "جويرية" وغير جويرية، بما أعقب تخلفها عن الركب العائد من بنى المصطلق، من قيل وقال.
حتى إذا انجلت غمة الإفك، وعادت عائشة إلى بيت النبى معتزة بما أنزل الله
فى براءتها من آيات، واجهتها "جويرية" فما كان من عائشة إلا أن قالت فى
زهو، وهى تنقل بصرها بين جويرية، وزينب بنت جحش، وأم سلمة، وحفصة، وطيف ماثل من خديجة:
"لم يتزوج، صلى الله عليه وسلم، بكراً سواى"(2).
ذلك أن "جويرية" كانت قبل أن تُسبى، زوجة لمسافع (مالك؟) ابن
صفوان المصطلقى(3).
وقد عاشت إلى أن استقر الأمر لمعاوية، وتوفيت رضى الله عنها بالمدينة بعد
منتصف القرن الأول الهجرى(4).
وعرفت فى تاريخ الإسلام، بأم المؤمنين التى لم تكن امرأة أعظم على قومها
بركة منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة: 3/308، 4/295، والسمط الثمين: 117.
(2) السمط الثمين: ص87.
(3) اسمه فى الاستيعاب 4/1804،
والسمط الثمين ص 116: مسافع بن صفوان المصطلقى. والذى فى تاريخ الطبرى (3/177) أنه
مالك بن صفوان ذى الشقر بن مسرح بن مالك بن المصطلق. والذى فى السيرة (4/296): وكانت
عند ابن عم لها يقال له: عبد الله.
(4) الإصابة: 8/ 44- والاستيعاب: 8/1804.
عقيلة بنى النضير
"وأمر صلــى الله عليه وسلم بصفية
فحيزت خلفه وألقى عليــــها رداءه،
فعرف الناس أنه اصطفاها لنفسه".
السيرة النبوية
انتهت السنة السادسة للهجرة، بعد أن أحدثت فى البيت النبوى ضجة ما مثلها ضجة: تزوج فيها المصطفى بجويرية بنت الحارث، وابتلى بمحنة الإفك فى أعز أزواجه وأحبهن إلى قلبه بعد خديجة أم المؤمنين الأولى.
وفيها أيضا، تم صلح الحديبية.
وبزغ هلال المحرم من سنة سبع، والرسول عليه الصلاة والسلام يتهيأ لمعركة حاسمة تقطع دابر اليهود اللئام الذين كشفت وقعة الخندق عما ينطوون عليه من حقد خبيث، وما يُبيتُون للإسلام من شر!.
وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام فى النصف الثانى من المحرم(1) إلى "خيبر" معقل العدو، فما أشرف عليها حتى هتف:
"الله
أكبر، خَرِبَتْ خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"(2).
وخربت خيبر: فتحت حصونها حصناً حصناً، وقتل رجالها، وسبى نساؤها، وفيهن عقيلة
بنى النضير: صفية بنت حُيى بن أخطب، التى ينتهى نسبها، فيما يقال، إلى هرون أخى موسى
عليه السلام، وأمها برة: بنت سمؤل(3).
ولم تكن قد جاوزت السابعة عشرة من عمرها.
لكنها على صغر السن، تزوجت مرتين قبل خراب خيبر.
تزوجت أولا من فارس قومها وشاعرهم: "سلام بن مشكم".
ثم خلف عليها "كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق"(4) صاحب حصن "القموص" أعز حصن فى خيبر.
وقد اقتحم المسلمون الحصن بعد نضال مرير، وجىء بكنانة حياً، وكان عنده كنز بنى النضير، فسأله الرسول عنه فجحد أن يكون يعرف مكانه، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام:
"أرأيت إن وجدناه عندك، أأقتلك؟".
قال: نعم...
فلما اكتشف مخبأ الكنز عنده، دفعه المصطفى إلى "محمد بن سلمة" فضرب
عنقه بأخيه "محمود بن سلمة" الذى قتله اليهود فى المعركة(5).
وسيقت نساء القموص سبايا، وفى مقدمتهن "صفية" زوج كنانة، وابنة عم لها، يقودهما "بلال" مؤذن الرسول.
ومر بهما بلال على ساحة امتلأت بالقتلى من يهود، فهمَت "صفية" أن تصيح، لكن الصيحة احتبست فى حلقها لا تنطلق.
أما ابنة عمها فأعولت صارخة، وصكت وجهها وحثت التراب على رأسها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كذا فى تاريخ الطبرى والسيرة. وفى طبقات ابن سعد أن غزوة خيبر كانت فى جمادى الأولى سنة سبع (2/ 77).
(2) السيرة: 3/ 344 وطبقات ابن سعد: 2/ 77.
(3) السيرة: 3/ 344 وانظر غزوة
خيبر فى تاريخ الطبرى: 3/ 92- وطبقات ابن سعد: 2/75).
(4) كذا فى السيرة (3/351) ومثله فى الطبرى (3/ 95، 178)
ولكن الذى فى طبقات ابن سعد (2/77) أن اسمه "كنانة ابن أبى الحقيق"
ومثله فى الاستيعاب (4/1871).
(5) تاريخ الطبرى: 3/ 95 والسيرة: 3/ 351- وانظر طبقات
ابن سعد 2/ 81.
وجىء بهما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
"صفية"
فى حزنها الصامت وجزعها المكبوت، تحاول أن تتماسك فى ترفع وكبرياء، وما من أحد يعرف
فيم كانت تفكر، وإن بدا أنها تلوذ أمام القائد المنتصر بآخر ما كان لها من عزة
وجلال.
والأخرى، شعثاء الشعر معفرة بالتراب ممزقة الثياب، لا تكف عن عويل ونواح. وقد أشاح صلى الله عليه وسلم بوجهه عنها.
ثم دنا من صفية، وقد بدا عليها راغبة فى أكثر من حماية النبي العربى الفارس، فألقى عليها نظرة رحيمة وهو يقول لبلال:
"أنُزعت
منك الرحمة يا بلال حين تمر بامرأتين على قتلى رجالهما ؟"(1).
ثم أمر بصفية فحِيزتْ خلفه، وألقى عليها رداءه، فكان ذلك إعلاناً بأنه- صلى الله عليه وسلم- قد اصطفاها لنفسه.
وكان المسلمون قد قالوا: ما ندرى أتزوجها أم اتخذها أم ولد، فلما حجبها عرفوا
أنه صلى الله عليه وسلم قد تزوجها(2).
وفى حديث عن "أنس، رضى الله عنه" أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما أخذ صفية بنت حُيى، قال لها: هل لك فىَ ؟ قالت: يا رسول الله .. قد كنت
أتمنى ذلك من قبل، فكيف إذا أمكننى الله منه فى الإسلام ؟..
فأعتقها عليه الصلاة والسلام وتزوجها.
وكان عتقها صداقها(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/ 94- والسيرة: 3/ 351- وانظر طبقات ابن سعد: 2/ 81.
(2) طبقات ابن سعد: 2/ 84.
(3) طبقات ابن سعد: 2/85-
والاستيعاب: 4/ 1872- وانظر السمط الثمين: 120.
وانتظر المصطفى بخيبر حتى هدأت المناحة، وظن أن الروع قد ذهب عن "صفية"
أو كاد، فحملها وراءه وانطلق بها إلى منزل فى أطراف خيبر- على بعد ستة أميال منها-
فمال يريد أن يعرس بها، لكنها تمنعت وأبت عليه أن يفعل(1).
فوجدها، صلى الله عليه وسلم- فى نفسه، وشق عليه تمنعُها ورفضُها، ثم استأنف مسيره راجعاً بعسكره إلى المدينة، فلما كان بالصهباء- بعيداً عن خيبر- نزل هناك يستريح، فبدا له أن "صفية" متهيئة للعرس:
جاءتها ماشطة- نقل ابن إسحق أنها أم سليم بنت ملحان، أم أنس ابن مالك- فمشطتها وجملتها. وظهرت "صفية" عروساً مجلوة، تأخذ العين بسحرها حتى لتقول ماشطتها إنها لم تر بين النساء أضوأ منها.
ووراء جلوة العُرس المرتقب، غابت آثار الحزن والألم، وكأن العروس نسيت
الهزيمة الساحقة التى ألقت بأهلها على ساحة خيبر صرعى مجندلين، "وأخرجتها من
حصن القموص" ذليلة أسيرة، تساق بين السبايا!(2).
وثمت، أقيمت وليمة العرس حافلة، وأكل الناس من طيبات خيبر حتى شبعوا، ثم دخل المصطفى على "صفية" وما يزال فى نفسه شئ من رفضها الأول.
وأقبلت عليه العروس بادية اللهفة تحدثه حديثاً عجيباً:
قالت: إنها فى ليلة عرسها بكنانة بن الربيع، رأت فى المنام أن قمراً وقع
فى حجرها، فلما صحت من نومها قصَت رؤياها على كنانة، فقال غاضباً:
"ما هذا إلا أنك تُمنين ملِكَ الحجاز محمداً!"(3).
ولطم وجهها لطمة ما يزال أثر منها فيه.
ونظر محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى أثر اخضرار فى عينها، وقد سره ما سمع من حديثها، وهم بأن يقبل عليها، لكنه أمسك وسأل:
"ما حملك على الامتناع أولا؟"، أو قال: ما حملك على إبائك فى المنزل الأول؟.
وأجابت العروس على الفور:
"خشيتُ
عليك قربَ اليهود"(3).
فزال ما كان يجد فى نفسه من جفوة، وأشرق وجهه الكريم بابتسامة راضية.
وتسترجع "صفية" ذكريات لها عن إرهاص أهلها اليهود بنبى منتظر يعرفونه
من أسفارهم، ثم حقدهم وغيظهم يوم استقبلت يثرب النبى المهاجر الذى طالما بشرت يهود
بقرب مبعثه، تستغل البشرى لحماية ثروتها هناك من كل غاز وطامع، أو تتفاخر بها على
العرب الأميين، فيما تتفاخر من علمها بالكتاب.
تقول صفية بنت حيى بن أخطب:
"كنت
أحبَ ولد أبى إليه وإلى عمى أبى ياسر، لم ألقهما قط مع والدهما إلا أخذانى دونه. فلما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، غدا عليه أبى وعمى مغَلَسين، فلم يرجعا
حتى كان مع غروب الشمس، فأتيا كالين ساقطين يمشيان الهوينى. فهششت إليهما كما كنت
أصنع، فوالله ما التفت إلى واحد منهما مع ما بهما من الغم. وسمعت عمى أبا ياسر وهو
يقول لأبى: أهو هو؟ قال: نعم والله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين: 120.
(2) السيرة: 3/354- واقتصر ابن
سعد عل كنيتها- أم سليم (2/84). وانظر ترجمة السيدة صفية فى (الإصابة)جـ
8.
(3) السيرة: 3/350- وتاريخ الطبرى: 3/94- والسمط الثمين:
120.
قال عمى: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم.
قال: فما فى نفسك منه؟ أجاب: عداوته والله ما بقيت"(1).
***
وهناك خارج القبة التى دخل فيها محمد صلى الله عليه وسلم على صفية، بات
رجل من الأنصار: "أبو أيوب خالد بن زيد" يقظان ساهراً، متوحشاً سيفه، يطيف
بالقبة على غير علم من المصطفى، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم سمع حركته ورأى
مكانه فسأله:
"ما لك يا أبا أيوب؟".
أجاب:
"يا رسول الله، خِفْتُ عليك من هذه المرأة، قد قتلت أباها وزوجها وقومها،
وكانت حديثة عهد بكفر، فخفتها عليك".
فيروى أن الرسول دعا له قائلا:
"اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظنى".
أو قال: "رحمك الله يا أبا أيوب" مرتين(2).
ولم يكن المسلمون قد نسوا بعد، الفعلة الخبيثة لامرأة من يهود خيبر، زوجة
سلام بن مشكم، أحد زعمائهم القواد.
دخلت على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مطمئن البال بعد أن استسلم اليهود
لمصيرهم ونزلوا على شروط القائد المنتصر، فأهدت إليه شاة مسمومة، وكانت قد سألت بعض
الصحابة: أى عضو من الشاة أحب إلى رسول الله، قيل لها: الذراع.
فأكثرت السم فى الذراع حتى سرى منها إلى سائر الشاة.
ووضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم ومعه صاحبه "بشر بن البراء"
فتناول الرسول الزراع، وأعطى صاحبه أبن البراء قطعة أخرى أكلها غير مستريب.
لكنه، عليه الصلاة والسلام، لم يسغ الذراع، بل لفظها وهو يقول:
"إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم".
ودعا بامرأة سلام، فاعترفت بأنها سمت الشاة عامدة. ولما سألها صلى الله عليه وسلم عما حملها على ذلك، أجابت:
"بلغتَ من قومى مالا يخفى عليك، فقلت: إن كان نبياً فسيُخبَر، وإن كان ملكاً استرحت منه".
فتجاوز عنها النبى عليه الصلاة والسلام، ومات "بشر بن البراء"
من أكلته التى أكل(3).
فلعلَ "أبا أيوب الأنصارى" ذكر هذه الفعلة اليهودية، حين بات
ساهراً حول القبة التى دخل فيها المصطفى، على "صفية" عقيلة بنى النضير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
(1) السمهودى: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى: 1/270 والسيرة لابن هشام: 2/165.
(2) ابن هشام: السيرة: 3/355، وطبقات ابن سعد: 2/84.
(3) ابن هشام: السيرة: 3/ 352- وتاريخ الطبرى3/ 95. وروى ابن سعد حديث الشاة المسمومة التى أهديت إلى الرسول صل الله عليه
وسلم يوم فتح خيبر، عن أبى هريرة.. وفيه أن الذين سموها وأهدوها، جماعة من اليهود
(2 / 84).
***
وبلغ الركب المدينة...
وآثر المصطفى ألا يدخل على أزواجه بالعروس، فأنزلها فى بيت لصاحبه "حارثة
بن النعمان".
وتسامعت نساء الأنصار بها، فجئن ينظرن إلى جمالها، ولمح المصطفى زوجه "عائشة"
تخرج متنقبة على حذر، فتتبع خطواتها من بعيد، فرآها تدخل بيت حارثة بن النعمان.
وانتظر حتى خرجت، فأدركها وأخذ بثوبها وسألها ضاحكاً:
"كيف رأيت يا شقيراء ؟".
فأجفلت عائشة، وقد هاجت غيرتها، ثم هزت كتفها، وهى تجيب:
"رأيت يهودية!".
رد عليها النبى عليه الصلاة والسلام:
"لا تقولى ذلك، فإنها أسلمت وحسُن إسلامها!"(1).
ولم تعلق "عائشة" بكلمة، بل سارت إلى البيت حيث كانت حفصة فى انتظارها، مشوقة إلى أن تسمع رأيها فى العروس.
ولم تنكر "عائشة" أنها جميلة حقاً، وزادت فحدثت "حفصة"
عما كان من تتبع المصطفى لها، وحواره معها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سنن ابن ماجة- والإصابة: جـ 8- والسمط الثمين: 80.
ثم انتقلت "صفية" إلى دور النبى، فواجهتها هناك مشكلة محيرة: كانت عائشة ومعها حفصة وسودة فى جانب، وسائر نساء النبى فى جانب ومعهن السيدة فاطمة الزهراء، رضى الله عنها وعنهن.
وكان على "صفية" أن تختار، وإنه لموقف دقيق صعب، فما كانت فى ذكائها بالتى تناصب "الزوج الأثيرة" أو "الابنة الغالية" عداء أو شبه عداء!.
ثم أسعفتها لباقة طبعها وواتاها حذرها الموروث، فقررت أن تتقرب من عائشة وحفصة والزهراء جميعاً!.
وكان مظهر تقربها إلى ابنتى أبى بكر وعمر، إظهار استعدادها للانضمام إليهـما ..
أما "الزهراء" فأهدتها "صفية بنت، حيى" حلية لها من
ذهب، رمزاً لمودتها وإعلاناً عن مسالمتها! (1).
وما من شك فى أن "صفية" أرادت أن تحتمى بهذا الموقف اللبق، مما كانت تخاف من تعريض بأصلها اليهودى، وتذكير بما لقى المسلمون من كيد يهود وضغنهم.
وما كان لها، فى الحق، أن
تخشى أذى من "الزهراء" فإنها- رضى الله عنها- كانت أحرص الناس على سلام،
وأبر بأبيها المصطفى من أن تشارك فى هذا الضجـيج النسوى، اللهم إلا أن تُدفَع إلى شئ
من ذلك دفعاً، كالذى أشرنا إليه من سفارتها لأزواج النبى عند أبيها صلى الله عليه
وسلم، فى أمر السيدة عائشة.
وإنما الخوف كل الخوف من "عائشة" فى غيرتها الحادة، وضيقها بكل حسناء
تدخل بيت زوجها المصطفى وتشاركها فيه!.
ولم يعصم "صفية" مما كانت تخاف، تقربُها من عائشة وحفصة، فما أكثر
ما سمعت التعريض جهراً وتلميحاً بالدم اليهودى الذى يجرى في عروقها ؟! وما أكثر ما
صكت أذنيها سهام جارحة، تأبى عليها أن تسكن وتطمئن، فى ظل أكرم زوج ورعاية أعز رجل!.
والذى آلم "صفـية" أن عائشة وحفصة- اللتين انضمت إليهما- كانتا تشاركان سـائر نساء النبى فى النيل منها، ومفاخرتها بأنهن قرشيات أو عربيات، وهى الأجنبـية الدخيلة..
***
وبلغ "صفية" كلام عن حفصة وعائشة، فلما حدثت النبى به وهى تبكى، قال صلى الله عليه وسلم وهو يمسح دموعها بردائه ويده:
"ألا
قلت: وكيف تكونان خيراً منى، وزوجى محمد، وأبى هرون، وعمى موسى؟"(2).
ونزل كلام الرسول على "صفية" برداً وسلاماً، وكان لها منه حمى
وملاذ.
***
وكان- صلى الله عليه وسلم- يحس غربة "صفية" فى داره بين أزواجه،
فيتأهب للدفاع عنها كلما أتيحت له فرصة.
حدثوا أنه صلى الله عليه وسلم، كان فى سفر ومعه "صفية" و"زينب
بنت جحش" فاعتلَ بعير "صفية" وفى إبل زينب فضلُ، فقال لها:
"إن بعير صفية اعتل، فلو أعطيتها بعيراً؟".
ردت زينب في ترفع: "أنا أعطى تلك اليهودية؟".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة: ج 8/ 127. (2) الإصابة: 8/ 127-
والسمط الثمين: 121.
فولى الرسول عليه الصلاة والسلام عنها مغضباً، وتركها شهرين أو ثلاثة ثم
أتاها بعد، وعاد إلى ما كان عليه معها"(1).
ولم تُحرم "صفية" هذه الحماية حتى آخر أيامه عليه الصلاة والسلام:
يروون أن أمهات المؤمنين اجتمعن حول فراشه فى مرضه الأخير، فقالت صفية:
- إنى والله يا نبي الله، لوددت أن الذى بك بى.
فتبادلت الأخريات نظرات ذات معنى، فما راعهن إلا أن قال عليه الصلاة والسلام:
"مضمضن!".
تساءلن فى دهشة: "من أى شئ ؟".
قال:
"من
تغامزكن بها، والله إنها لصادقة"(2).
***
ولحق محمد صلى الله عليه وسلم بربه الكريم،، وافتقدت "صفية" تلك الحماية الطيبة، فما نسى الناس لها أنها منحدرة من سلالة يهود، وما أنفوا من مهاجمتها من تلك الثغرة التى لم يكف لسدها حسنُ إسلام صفية، وزواجها من نبى المسلمين عليه الصلاة والسلام.
فى الخبر أن جارية لها أتت "أمير المؤمنين عمر بن الخطاب" فقالت: "يا أمير المؤمنين، إن صفية تحب السبت وتصل اليهود".
فبعث "عمر" ألى صفية يسألها عن ذلك فأجابت:
"أما
السبت فإنى لم أحبه منذ أبدلنى الله به الجمعة، وأما اليهود فإن لى فيهم رَحِماً
فأنا أصلُها!".
ثم انثنت إلى جاريتها فسألتها عما حملها على مثل ذلك الافتراء، فأجابت الجارية:
الشيطان!.
وردت أم المؤمنين: اذهبى فأنت حرة(3).
***
واندفعت "صفية" راضية أو كارهة، تشارك فى المعركة السياسية التى
بدأت فى عهد "عثمان". وكان موقفها فى الفتنة شبيهاً بموقفها بين عائشة
والزهراء: فعلى الرغم من حرصها على مودة عائشة التى كانت حينذاك ذات نفوذ سياسى
قوى، ومكانة فى الدولة الإسلامية رفيعة، لم تألُ "صفية" جهداً فى الولاء
لأمير المؤمنين "عثمان"، الذى ما فتئت "عائشة" تحرض عليه، حتى
بلغ بها الأمر أن دلَََت قميص رسول الله من بيتها وصاحت فى المسلمين:
"أيها الناس، هذا قميصُ رسول الله لم يبلَ، وقد أبلى عثمان سنته...".
حدث مولى لصفية يدعى كنانة- وقيل هو ابن أخيها- قال:
"قدمت صفية- فى حجابها- على بغلة لترُدَ عن عثمان، فلقيها الأشترُ فضرب وجه البغلة، وهو لا يعرف راكبتها. فقالت لى صفية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب: 4/1850،
والإصابة: 8/ 127، وسنن أبى داود.
(2) الإصابة: 8/127.
(3) الإصابة: 8/ 127- والاستيعاب: 4/ 1872، السمط الثمين:
112.
- رُدَنى لا تفضحنى!.
ثم وضعت معبراً بين منزلها ومنزل عثمان، فكانت تنقل إليه الطعام والماء وهو
فى محنة الحصار"(1).
وماتت "صفية" حوالى سنة خمسين، والأمر مستقر لمعاوية...
ودفنت بالبقيع، مع أمهات المؤمنين رضى الله عنهن...
وتركت اسمها فى السيرة النبوية وكتب الحديث، ومن بين الذين رووا عنها:
ابن أخيها ومولاها كنانة، ومولاها الآخر يزيد بن متعب، والإمام زين
العابدين على بن الحسين، ومسلم بن صفوان(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإصابة: 8/ 127.
(2) السمط الثمين: 123.
بنت أبى سفيان
"ثم
خرج أبو ســـــــــــــــــفيان حتى قدم
المدينة
فدخـــــــل عل ابنته "أم
حبيبة".
فلما ذهب
ليجلس على فراش رســــول
الله صلى
الله عليه وســــــلم طوته عنه.
فقـــــــــــال: يا بنية، ما أدرى أرغبت بي
عن هــــــــذا الفراش أم رغبت به عنى؟
قالت: بل
هو فراش رســــــــــــــــول الله
صلى الله
عليه وسـلم وأنت رجل مشرك
فلم أحب أن تجلس عليه".
ابن إسحاق:
السيرة النبوية
عاد البطل المظفر إلى مدينته وقد تم له النصر بفتح "خيبر" وتزوج عقيلة بنى النضير، وسيقت بين يديه غنائم اليهود.
وتأهبت "المدينة" للقاء الجيش العائد، وقد أعدت للبطل أسعد
مفاجأة ترضيه!.
فهناك فى "المدينة"، والرسول غائب فى خيبر، كان مهاجرو الحبشة
قد جاءوا فى صحبة "عمرو بن أمية الضمرى" الذى بعثه النبى إلى
"النجاشى" ليعود بمن بقى فى بلاده من المهاجرين الأولين(1).
وحملهم "عمرو" فى سفينتين، فبلغ بهم "المدينة" حيث
الأهل والأنصار ومعركة "خيبر" فى ذروة احتدامها(2).
وأعقب وصولهم إعلان فتح "خيبر" والنصر المبين على يهودها، وخرج أهل "المدينة" لاستقبال الجند المنتصر، فضاقت بهم أرجاء الوادى، وقد بُحَت أصواتهم من هتاف ودعاء.
وأهلَ عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فلمح من بينهم أصحابه الذين هاجروا
من "مكة" فى محنة الاضطهاد والعذاب، أولئك الذين كان آخر عهده بهم، يوم
تسللوا من أم القرى، خارجين من ديارهم وأموالهم فى سبيل الله، وأقصى ما يتمنا
أحدهم أن يموت على الإسلام غريباً مهاجراً.
وكانوا قد تواعدوا على اللقاء فى الدار الآخرة، وهاهم أولاء يلتقون فى أرض الوطن، يوم الاحتفال بفتح خيبر، وقد صارت للإسلام الكلمة العليا فى جزيرة العرب!.
وثب المصطفى من فوق راحلته، فالتزم ابن عمه "جعفر بن أبى طالب" معانقاً، وقبل عينيه وهو يقول فى غبطة:
"ما أدرى، بأيهما أنا أسرُ: بفتح خيبر، أم بقدوم جعفر؟".
والتفت، عليه الصلاة والسلام، من بعد ذلك يلتمس بقية صحبه المهاجرين وقد كانوا
فيما أحصى "ابن إسحق" ستة عشر رجلا(3).
وهناك بين المهاجرات العائدات، كانت "أم حبيبة، بنت أبى سفيان بن حرب" تنتظر المصطفى ليحملها إلى بيته!.
ذلك أنه قد تزوجها وهى فى هجرتها بالحبشة.
ولهذا الزواج قصة تبدأ منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/89.
(2) ابن هشام: 4/3.
(3) السيرة: 4/ 5،3.
كانت "رملة" بنت أبى سفيان زعيم مكة وقائد المشركين، زوجة لابن
عمة الرسول، عبيد الله بن جحش الأسدى. وقد أسلم عبيد الله فأسلمت معه
"رملة"، وأبوها "أبو سفيان" على الكفر.
وخشيت أذى أبيها، فهاجرت مع زوجها إلى الحبشة وهى مثقلة بحملها، وتركت أباها "بمكة" وقد جن غيظه، وقهره أن أسلمت ابنته وليس له إليها سبيل. وهناك فى الحبشة، وضعت "رملة" بنتها "حبيبة بنت عبيد الله" التى كنيت بها فصارت تدعى "أم حبيبة".
وإذ هى فى غربتها تكتم حنينها إلى الوطن، وتحاول أن تجد فى زوجها وطفلتها عوضا عمن فارقت من أهل وعشيرة، قامت ذات ليلة من نومها مذعورة، فقد روعت برؤيا "عبيد الله" بأسوأ صورة(1)، واستيقظت لتعلم أن "عبيد الله" قد ارتد عن دينه الذى من أجله هاجر إلى الحبشة، وأعتنق "النصرانية" دين الأحباش...
وحاول أن يردها عن دين الإسلام فصبرت على دينها(2).
وكادت "بنت أبي سفيان"، تهلك غماً وأسى وحسرة.
فيم كانت هجرة عبيد الله إذن، وفيم كان عذاب الاضطهاد ومحنة التشرد وأشجان
الاغتراب، ومرارة التنكر للآباء والأجداد، وهذا هو يصبأ عن الإسلام الذى من أجله
احتملت "رملة" كل ذلك، ورضيت أن تذيق أباها عذاب القهر والحسرة؟
لقد كان أكرم لعبيد الله، أن يبقى على دين آبائه وأن يقاتل عنه مع قومه
وعشيرته دفاعاً عن مقدسات موروثة عن الأجداد من قديم الحقب والآباد ..
أما أن يكفر بهذا كله، ويرضى بالإسلام دينا ليجئ إلى الحبشة فيكفر بالإسلام،
ويستبدل به دينا غريباً لقوم غرباء، فى بساطة ودون تحرج، كما يبدل ثوباً بثوب،
فأية مهانة وأى عار ؟!.
وهذه الابنة الحبيبة، ما ذنبها لكى تولَد لمثل هذا الأب الصابئ المرتد؟ وما
جريرتها لتخرج إلى الحياة فى أرض غريبة، وقد انبتَ ما بين أبويها وتمزق شمل أسرتها
وتوزعت أهلها ديانات شتى: فأبوها نصرانى، وأمها مسلمة، وجدها مشرك عدو الإسلام!.
واعتزلت "رملة" الناس شاعرة بالخزى لفعلة الرجل الذى كان لها زوجاً، ولا يزال لطفلتها والداً..
وأغلقت الباب عليها وعلى طفلتها "حبيبة" مضاعفة الغربة، لا تريد
أن تلقى الناس فى دار هجرتها، ولا سبيل لها إلى أرض الوطن، حيث أبوها يعلن حرباً
شعواء على النبى الذى صدقته وآمنت به ..
وأين تراها تقيم فى "مكة" لو عادت؟.
أفى بيت أبويها وقد حيل بينها وبينه منذ أسلمت؟
أم فى دار "آل جحش"، رهط زوجها، وقد أقفرت بهجرة أهلها وصارت
منهم خلاء؟
لقد بلغها من أنباء مكة أن عتبة بن أبى ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، وأبا جهل بن هشام بن المغيرة، مروا وهم مصعدون إلى أعلى مكة بدار بنى جحش "فنطر إليها عتبة تخفق أبوابها يباباً ليس فيها ساكن، ثم تنفس الصعداء وقال:
وكل دار وإن طالت سلامتُها يوماً
ستدركها النوباء والحُوبُ
أصبحت دار بنى جحش خلاء من أهلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين: 96.
(2) السيرة: 3/6 وتاريخ الطبرى: 3/117- والاستيعاب: 4/1929.
فقال أبو جهل: وما تبكى عليه؟ .. ثم قال:
- هذا
عمل ابن أخى، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا(1).
كلا، لا سبيل لرملة إلى "مكة"، والمعركة محتدمة بين أبيها
والنبى الذى تؤمن بدينه، ودار بنى جحش تخفق أبوابها يباباً!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: السيرة: 2/115.
ومرت فترة من الزمن وهى فى عزلتها الحزينة، فما شعرت ذات يوم إلا وطرقات تلح على بابها الموصد، مستأذنة لجارية من جوارى النجاشى...
وفتحت "أم حبيبة،" الباب، فدخلت الجارية وأدت إليها رسالة النجاشى:
إن الملك يقول لك: وكلى من يزوجك من نبى العرب، فقد أرسل إليه ليخطبك له!.
واستعادت "رملة" حديث الجارية مرة ومرتين وثلاثا، حتى إذا
استيقنت البشرى نزعت سوارين لها من فضة فقدمتهما إليها حلاوة البشرى(1).
ثم أرسلت إلى "خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس"- كبير
المهاجرين من قومها بنى أمية- فوكلته فى زواجها.
وفى المساء، دعا النجاشى إليه من بالحبشة من المسلمين، فجاءوا يتقدمهم
جعفر بن أبى طالب: ابن عم الرسول، وخالد بن سعيد: وكيل رملة، أم حبيبة.
وتكلم النجاشى وترجم المترجم:
"إن محمد بن عبد الله كتب لى أن أزوجه أم حبيبة بنت أبى سفيان، فمن أولاكم بها؟".
أجاب القوم: "خالد بن سعيد، قد وكَلته".
فاتجه إليه النجاشى قائلا:
"فزوجها
من نبيكم، وقد أصدقتُها عنه أربعمائة دينار".
وسكب الدنانير، فقام خالد وقال:
"قد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجته أم
حبيبة بنت أبى سفيان".
وقبض الصداق.
وأولم لهم النجاشى وليمة الزواج قائلا: "اجلسوا، فإن سنة الأنبياء إذا
تزوجوا أن يؤكل طعام على التزويج"(2).
ثم أتوا باب "أم حبيبة" مهنئين مباركين.
وباتت بنت أبى سفيان بن حرب، فى مُهاجرها بالحبشة، وهى "أم
المؤمنين"!.
وأصبحت فجاءتها جارية "النجاشى" تحمل إليها هدايا نساء الملك من
عود وعنبر وطيب، فقدمت إليها "أم المؤمنين"، خمسين ديناراً من صداقها
قائلة:
"كنت أعطيتك السوارين بالأمس وليس بيدى شئ من المال، وقد جاءنى الله عز وجل بهذا".
فأبت أن تمس الدنانير، وردَت السوارين وهى تقول: إن الملك أجزل لها العطاء، وأمرها ألا تأخذ من أم المؤمنين شيئاً، كما أمر نساءه أن يبعثن إليها مما عندهن من طيب.
وتقبلت "أم حبيبة" الهدية شاكرة، فاحتفظت بها حتى حملتها معها إلى
بيت النبى، فكان صلى الله عليه وسلم يرى عندها طيبَ الحبشة وعودها فلا ينكره(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب: 4/ 1930. والسمط الثمين: 97، والإصابة: جـ 8. (2) الاستيعاب لابن
عبد البر: 4/1930.
(3) تاريخ الطبرى: 3/89، الإصابة: جـ 8 والسمط الثمين:
97، 98 والاستيعاب 4/1929، 1931.
احتفلت "المدينة" بدخول بنت أبى سفيان بيت الرسول.
وأولم "عثمان بن عفان" وليمة حافلة، نحر فيها الذبائح وأطعم
الناس.
وباتت "مكة" ساهدة مؤرقة، تردد قول زعيمها أبى سفيان بن حرب وقد بلغه النبأ:
"هذا
الفحل لا يُجْدَع أنفه!".
ولم يكن قد مضى على زواج محمد- صلى الله عليه وسلم- من عقيلة بنى النضير،
غير أيام معدودات!.
واستقبلت نساء النبى زميلتهن "أم حبيبة" بشئ من المجاملة، ولم تر "عائشة" فيها أول الأمر ما يشعل غيرتها، إذ كانت "رملة" تدنو من عامها الأربعين، وليس لها سحر صفية، ولا ملاحة جويرية، ولا حُسن أم سلمة، ولا جمال زينب...
وأبدت "عائشة" استعدادها لقبول الزوجة الجديدة فى صفها، لكن "بنت أبى سفيان" أنفت أن تكون تابعة لأخرى...
وبقدر ما أنكرت "عائشة" ألا تسارع "رملة" إلى كسب رضاها كما فعلت "حفصة بنت عمر"، أنكرت "بنت أبى سفيان" على "عائشة" الزهو الطامح إلى الاستئثار بالنفوذ فى بيت النبى!...
لكن الجفوة بينهما لم تشتد إلى درجة الخصومة السافرة المعلنة(1) ، وإن بقيت "عائشة" تهاب "رملة"، وتخشى وقوفها فى
سبيل ما تشتهى من تفرد بالكلمة العليا بين أزواج النبى! (2).
وكانت "رملة" بحيث تفعل ما تخشاه "عائشة" لولا أن ظلت تحس فى أعماقها حزناً قاسياً، لأن أباها ما يزال على الوثنية الضالة العمياء.
وآلمها أن تظل الحرب بين زوجها وأبيها قائمة، تأكل من رجال أعزة عليها،
فما من قتيل إلا وهو من شيعة أبيها، وما من شهيد إلا وهو من صحابة زوجها، أبنائها
المؤمنين!.
***
وتناهى إليها يوماً أن قريشاً نقضت عهد "الحديبية"، وأدركت
بفطنتها وبما تعرف من خلق زوجها الرسول، أنه صلى الله عليه وسلم لن يسكت على ضيم
ولن يرضى أن يُغدَرَ به أو ينقض له عهد، فهل تراه يغزو "مكة" ليهدم الأصنام
على رءوس المشركين، وفيهم أبوها، وإخوتها، وسائر أهلها وعشيرتها؟.
كذلك لاحت نذر الخطر فى "مكة" فاجتمع قادتها يتشاورون فى أمر
"محمد" الذى يوشك أن يسير إليهم ولا قبل لهم به، لقد كانوا من قبل
يستهينون به ومن اتبعه، فهل تراهم يستهينون به اليوم وقد بلغ من القوة والمنعة ما
بلغ؟.
واستقر رأيهم على أن يوفدوا رسولا
منهم إلى المدينة يفاوض محمداً-صلى الله عليه وسلم- فى تجديد الهدنة ومد أجلها عشر
سنين، ولكن من يكون رسولهم إليه؟.
أبو سفيان بن حرب، ولا أحد سواه!
على هذا أجمعوا أمرهم، ولم يستطع "أبو سفيان" إلا أن يذعن، وأنى
له أن يعتذر وهو الذى أشعل النار وسهر عليها يمدها بالوقود من فلذات أكباد مكة؟...
فليصل اليوم حرها، وليمض إلى "محمد" خصمه الألد، يسأله الموادعة والمسالمة!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/ 90 ، الإصابة: جـ 8- والسمط الثمين: 99- والاستيعاب 4/1845.
(2) تاريخ الطبرى: 2/111.
وخرج "أبو سفيان" من مكة صاغراً مكرها يريد المدينة، فلما بلغها أشفق من لقاء النبى عليه الصلاة والسلام، وذكر أن له ابنة هناك فى بيت عدوه، فتسلل إليها يستعين بها على ما جاء من أجله.
وفوجئت به "أم المؤمنين" يدخل بيتها، ولم تكن قد رأته منذ هاجرت
إلى الحبشة، فوقفت تجاهه بادية الحيرة، لا تدرى ماذا تفعل أو ماذا تقول..
وأدرك "أبو رملة" ما تعانيه ابنته، فأعفاها من أن تأذن له
بالجلوس، وتقدم من تلقاء نفسه ليجلس على الفراش، فما راعه إلا أن وثبت فاختطفت
الفراش وطوته فى إعزاز ثم وقفت تلهث.
سألها وهو يلوذ بالصبر:
"أطويته
يا بنية رغبة بى عن الفراش، أم رغبة بالفراش عنى؟".
وجاءه ردها:
"هو
فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه!".
قال والألم يفرى كبده:
"لقد أصابك يا بنية بعدى شر"(1).
وانصرف واجماً مقهوراً..
واستندت هى على جدار بيتها، عصية الدمع، معطلة الحواس.
حتى جاء رسول الله أخيراً فعلمت ما كان من أمر "أبى سفيان":
ذهب إلى النبى فكلمه فى العهد فلم يجبه بشيء..
فتوسل بأبى بكر إلى الرسول لكن أبا بكر رفض..
فكلم عمر بن الخطاب، فرد عليه فى عنف وجفاء:
"أنا
أشفع لكم إلى رسول الله؟ .. فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به!"(2).
وانطلق أبو سفيان إلى بيت "على بن أبى طالب" وعنده فاطمة بنت رسول
الله، وولدها الحسن يدب بين يديها، فقال:
- يا على، إنك أمَسُ القوم بى رَحِماً، وإنى قد جئت فى حاجة... فاشفع لى
إلى محمد.
فكان جوابه، كرم الله وجهه:
- ويحك
يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن
نكلمه فيه.
فالتفت أبو سفيان إلى السيدة فاطمة وسألها فى ضراعة:
- يا ابنة محمد، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب
إلى آخر الدهر؟.
قالت رضى الله عنها:
"والله
ما بلغ بُنَى ذاك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه
وسلم".
وإذ سُدت السبل فى وجهه، التمس نصيحة ابن عم الرسول، على بن أبى طالب، فقال كرم الله وجهه:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سيرة ابن هشام: 4/ 38 وتاريخ
الطبرى: 3/112 والسمط الثمين: ص 100.
(2) ابن هشام، السيرة: 4/38 وتاريخ الطبرى: 3/11.
"والله ما أعلم شيئا يغنى عنك شيئا، لكنك سيد بنى كنانة، فقم فأجِرْ
بين الناس ثم الحق بأرضك. وما أظن ذلك مغنياً، ولكنى لا أجد لك غيره"(1).
فذهب "أبو سفيان" إلى المسجد، وهناك أعلن أنه أجار بين الناس، ثم
أسرع إلى راحلته وانطلق بها يعدو فى طريق مكة، كأنه يفر من مطارد....
***
سمعت أم المؤمنين ما جرى لأبيها، فما زادت على أن دعت لزوجها الرسول بالنصر، وقد رأته صلى الله عليه وسلم يتأهب للمعركة الحاسمة فى البلد الحرام.
ولعل نساء النبى راقبنها وهى فى موقفها ذاك الدقيق الحرج، ترى جيش المدينة
يتأهب لأخذ قومها فى معقلهم، ومكة لا تزال فى حيرة من الأمر، تستمع إلى ما كان من
أمر أبى سفيان الذى رجع من وفادته خائباً على غير قرار، يقول:
"جئت محمداً فوالله ما رد علىَ شيئاً، ثم جئت ابن أبى قحافة فلم أجد
فيه خيراً، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو"(2).
كان الموقف صعباً دقيقاً حرجاً، فانتصار محمد صلى الله عليه وسلم، يعنى
القضاء على أبيها وعشيرتها، وإن "أم المؤمنين" لتناصب قومها العداء،
وتبرأ منهم إلى الله ورسوله، ولكن هل يبرأ دمها من دماء لهم سيطت به؟... وهل يبرأ
قلبها من الحزن للمصير الفاجع الذى ينتظرهم؟!.
وإذ هى فى حيرتها المضنية، لا لها شعاع من الأمل:
ألا يمكن أن يسلم أبو سفيان، كما أسلم عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد،
وأبو العاص بن الربيع، زوج بنت الرسول؟.
إنه لأمل واه، أقرب إلى أن يكون سراباً، ولكن أم المؤمنين تشبثت به
ليعصمها من الحيرة والجزع، فتوجهت إلى السماء، تدعو الله أن يهدى أبا سفيان إلى
الإسلام!.
وأحست طمأنينة وسلاما، فتلت من آى الكتاب الكريم المنزل على محمد رسول الله:
"عسى
الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور
رحيم"(3).
وكان هذا أقصى ما تملك "أم المؤمنين، بنت أبى سفيان" لأبيها
وأهلها..
على حين بلغ الجزع برجل من الصحابة المهاجرين الذين شهدوا بدراً، أن بعث كتاباً مع امرأة من "مكة" تدعى "سارة" ووعدها مكافأة سخية إذا هى أبلغت كتابه قريشاً، ليعلموا الخطر الذى يوشك أن يدهمهم.
وعلم النبى صلى الله عليه وسلم بكتاب صاحبه "حاطب بن أبي بلتعة" فبعث على بن أبى طالب والزبير بن العوام فأدركا "سارة" وما زالا بها حتى أخرجت الكتاب من ذوائب شعرها.
ودعا النبى إليه صاحبه، فسأله عما حمله على ذلك. قال حاطب:
"يا رسول الله، أما والله إنى لمؤمن بالله وبرسوله. ما غيرتُ ولا بدلتُ، ولكنى كنت امرأ ليس له فى القوم من أهل ولا عشيرة، وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتُهمْ عليهمْ".
فوثب به "عمر بن الخطاب" واستأذن الرسول فى أن يضرب عنقه، لكنه صلى الله عليه وسلم حال دونه، إذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام، السيرة: 4/38 وتاريخ الطبرى: 3/11.216 (2) السيرة: 4/39 وتاريخ
الطبرى: 3/113.
(3) السمط الثمين: 110- والآية من سورة
الممتحنة"7".
كان أحد أصحاب "بدر"(1).
وإنما جئت بحديث "حاطب" هنا، لنقدر صعوبة الموقف على "أم
المؤمنين بنت أبى سفيان" حين رأت زوجها الرسول عليه الصلاة والسلام وهو خارج
فى عشرة آلاف من أصحابه يريد مكة، فى السنة الثامنة للهجرة.
***
وتم الفتح..
وطارت البشرى إلى "المدينة" بما أفاء الله على رسوله من نصر...
وتسامعت دار الهجرة بما كان من لقاء المصطفى صلى الله عليه وسلم بأبى
سفيان بن حرب، الذى أرسلته مكة حين رأت نيران العسكر الغازى تتوهج قريباً منها،
ليستطلع أمر هذه الجيوش الزاحفة نحو البلد الحرام.
وعرف "العباس بن عبد المطلب" أبا سفيان فقال ينبئه بالخبر:
"ويحك يا أبا حنظلة، هذا رسول الله فى الناس، واصباح قريش إذا دخل
مكة عنوة! فأسلم ثكلتك أمك وعشيرتك".
قال أبو سفيان:
"فما الحيلة فداك أبى وأمى؟".
فأردفه "العباس: عم المصطفى" وراءه وسار به خلال المعسكر، ماراً بعشرة آلاف أوقدوا نيرانهم لتلقى الرعب فى قلوب المشركين.
فلما مرا بنار "عمر بن الخطاب" عرف رضى الله عنه أبا سفيان
فأسرع إلى خيمة النبى صلى الله عليه وسلم مستأذناً فى أن يضرب عنقه...
وجاء العباس، على أثره فقال:
"إنى يا رسول الله قد أجرته".
وأمسك القوم أنفاسهم، حتى سمعوا كلمة الرسول عليه الصلاة والسلام:
"اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتنى به".
وقضى "أبو سفيان" ليلته مؤرقاً يترقب حكم "محمد بن عبد الله"
فى كبير قريش(2).
فلما كان الصبح جئ بأبى سفيان إلى حضرة النبى صلى الله عليه وسلم، وفى
مجلسه كبار المهاجرين والأنصار(3).
وتكلم النبى صلى الله عليه وسلم:
"ويحك يا أبا سفيان، ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟".
أجاب الرجل:
"بأبى أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت أن لو كان
مع الله إله غيره، لقد أغنى شيئاً بعد!".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام
السيرة: 4/40- والإصابة: حاطب بن أبى بلتعة.
(2) السيرة: 4/ 45- وتاريخ الطبرى: 3/40- طبقات ابن سعد:
2/ 98. (3) السيرة: 4/ 45- وتاريخ الطبرى: 3/40.
قال المصطفى:
"ويحك يا أبا سفيان: ألم يَأنِ لك أن تعلم أنى رسول الله؟".
ردَ أبو رملة:
"بأبى
أنت وأمى، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه، فوالله إن فى النفس منها حتى الآن
شيئاً!".
ولكن "أبا سفيان" ما لبث أن أعلن إسلامه..
فالتمس "العباس" من النبى صلى الله عليه وسلم أن يكرم الرجل بشئ يؤلف قلبه ويبقى على مكانته فى قومه. فأجاب النبى الكريم:
"
نعم... من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد
الحرام فهو آمن"(1).
وبعث أبو سفيان مَن نادى فى مكة:
"من دخل دار أبى سفيان فهو آمن... "
فما زالت أصداء النداء تنتقل فى الأفق حتى بلغت سمع ابنته "أم حبيبة"
فهتفت وقد هزها الفرح:
"من دخل دار أبى فهو آمن!".
ألا ما أكرم زوجها المصطفى، وما أحلمه، وما أنبله، وما أوصله!.
وسجدت لله شاكرة...
وقامت لترى وقع النبأ الجليل على عائشة ، وحفصة، وأم سلمة، وسائر أزواج
المصطفى عليه الصلاة والسلام.
***
وأحست أن قد أزيح عن كاهلها عبء باهظ، ومن تلك اللحظة لم تقبل قط أن تتحداها "عائشة"، أو تمارس معها ما اعتادت أن تمارسه من تحكم وزهو ومباهاة.
وظلت ما عاشت، تقف لعائشة بالمرصاد، وتتصدى لها كلما أسرفت فى غلوائها أو اشتطت فى اعتدادها بمكانتها.
حتى إذا حان الرحيل، دعت إليها "عائشة بنت أبى بكر"، فقالت لها وهى تحتضر:
"قد
كاد أن يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فتحلليننى من ذلك؟".
أو قالت: "قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر، فغفر الله لى ولك ما كان من ذلك".
فحللتها عائشة واستغفرت لها، فأشرق وجهها بنور الرضى وهمست:
"سررتنى سرَك الله".
وفعلت مثل ذلك مع "أم سلمة بنت زاد الركب"(2).
ثم رقدت رضي الله عنها بسلام، وأودع جسدها ثرى البقيع الطيب، فى مدينة
زوجها المصطفى، سنة أربع وأربعين من الهجرة، فى عهد أخيها معاوية بن أبى سفيان(3).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: 4/46- وتاريخ الطبرى: 3/117 وطبقات ابن سعد: 2/98.
(2) السمط الثمين: 101.
(3) الاستيعاب:
3/1929- وانظر فى قبرها، (وفاء الوفا للسمهودى) 3/912.
أم إبراهــــــــيم
"استوصوا
بالقبط خيراً
فإن لهم
ذمة ورحماً"
محمد، رسول
الله
وغير بعيد من بيت النبى، فى منزل خاص، كانت تقيم واحدة من نساء النبى، لم تلقب
بأم المؤبنين، ولكنها حظيت دونهن جميعاً بشرف أمومتها لإبراهيم بن محمد صلى الله
عليه وسلم.
وهى لم تقم فى دور النبى الملحقة بالمسجد، إلا أن أثرها فى هذه الدور وساكناتها كان جد بعيد، وحسبنا أن نذكر أنها وحدها التى تظاهرت عليها أزواج النبى جميعاً، فكدن يظفرن بتحريمها على زوجهن المصطفى، لولا أن نزلت فيها آيات التحريم:
"يا
أيها النبي لم تحرم ما أحلَ الله لك تبتغى مرضاة أزواجك"(1).
فمن تكون هذه السيدة؟ وكيف دخلت حياة الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وأى موضع كان لها فى هذه الحياة؟.
***
فى قرية من صعيد مصر، تدعى "حَفن" قريبة من بلدة "أنصنا"(2) الواقعة على الضفة الشرقية للنيل تجاه الأشمونين، ولدت "مارية بنت شمعون" لأب قبطى، وأم مسيحية رومية.
وأمضت بها حداثتها الأولى قبل أن تنتقل فى مطلع شبابها الباكر مع أختها "سيرين" إلى قصر "المقوقس" عظيم القبط.
وقد سمعت هنالك بما كان من
ظهور نبى فى جزيرة العرب يدعو إلى دين سماوى جديد. وكانت فى القصر حين وفد
"حاطب بن أبى بلتعة" موفداً من هذا النبى العربى يحمل رسالة إلى
المقوقس.
وأذن له فى الدخول، فأدى الرسالة:
"بسم الله الرحمن الرحيم".
"من محمد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع
الهدى. أما بعد فإنى أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت
فإنما عليك أثمُ القبط: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا
نعبد إلا الله ولا نُشركَ به شيئاً، ولا يتَخذَ بعضُناً بَعضاً أرباباً من دون الله
فإن تَولَوا فقُولوا اشهدوا بأنَا مُسلِمون)".
وقرأ المقوقس الكتاب ثم طواه فى عناية وتوقير، ووضعه فى حق من عاج دفعه إلى واحدة من جواريه.
ثم التفت إلى "حاطب" يسأله أن يحدثه عن النبى ويصفه له، فلما فعل،
فكر المقوقس ملياً ثم قال لحاطب:
"قد كنت أعلم أن نبياً قد بقى، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وهناك كان
مخَرج الأنبياء، فأراه قد خرج من أرض العرب... ولكن القبط لا تطاوعنى، وأنا أضن
بملكى أن أفارقه..".
ثم دعا بكاتبه فأملى عليه رده:
" .. أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه، وقد
علمت أن نبياً قد بقى. وكنت أظن أنة يخرج بالشام...
وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان من القبط عظيم، وبثياب، ومطية
لتركبها، والسلام عليك".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من آية 1 "سورة التحريم" وانظر السمط الثمين: 141.
(2) ابن هشام، السيرة: 1/7- وراجع
معه القاموس الجغرافى لرمزى جـ 1 ط دار الكتب المصرية- وللأستاذ حفنى ناصف، بحث فى
"موطن مارية القبطية من الديار المصرية" قدمه إلى مؤتمر المستشرقين
بأثينا عام 1915.
ودفع "المقوقس" كتابه إلى "حاطب" معتذراً بما يعلم من
تمسك القبط بدينهم، وموصياً إياه بأن يكتم ما دار بينهما، فلا يسمع القبط منه
شيئاً.
وانطلق "حاطب" عائداً إلى النبى صلى الله عليه وسلم ومعه
"ماريه" وأختها "سيرين"(1) وعبد خصى،
وألف مثقال ذهبا، وعشرون ثوباً لينا من مصر، وبغل مسرج ملجم، وحمار أشهب، وجانب من
عسل "بنها" وبعض العود والند والمسك...
وشعرت الأختان بوحشة لفراق الوطن، فسارتا تملآن أعينهما من الوادى الحبيب،
حتى إذا غابت عنهما آخر معالمه، ألقتا نظرة وداع دامعة، على الأرض التى حُلَت فيها
تمائمهما، ودرج عليها صباهما، وتفتح شبابهما.
وأحس "حاطب" ما تجد الأختان الشابتان من شجن الفراق، فأقبل عليهما
يحدثهما عن تاريخ لبلاده عريق، ويروى لهما ما وعى من قصص وأساطير نسجها الزمان حول
مكة والحجاز طوال قرون لا عداد لها. ثم أنثني يتحدث عن النبى المصطفى، حديث صَحابىَ
مؤمنٍ، فأخذت الشابتان بما سمعتا وانشرح قلباهما للإسلام ونبيه الكريم.
واسغرقهما التفكير فى الحياة الجديدة التى توشك أن تستقبلهما، وفى السيد
النبى الذى ينتظر فى "المدينة" رجوع صاحبه "حاطب" برد
المقوقس.
***
حتى بلغ الركب المدينة سنة سبع من الهجرة، وقد عاد الرسول عليه الصلاة والسلام وشيكاً من "الحديبية" بعد أن عقد الهدنة مع قريش.
وتلقى صلى الله عليه وسلم كتاب المقوقس، وهدية مصر..
وأعجبته "مارية" فاكتفى بها، ووهب أختها "سيرين"
لشاعره "حسان بن ثابت".
وطار النبأ إلى دور النبى: أن
شابة مصرية حلوة، جعدة الشعر، جذابة الملامح، قد جاءت من أرض النيل هدية للمصطفى، فأنزلها
صلى الله عليه وسلم بمنزل لحارثة بن النعمان، قرب المسجد.
وتكلفت "عائشة" ما استطاعت من جهد، لكى تعلل نفسها بألا خطر عليها من هذه الشابة الجديدة، فما كانت سوى جارية قبطية غريبة، أهداها سيد إلى سيد.
لكنها راحت ترقب فى كثير من القلق، مظاهر اهتمام زوجها بتلك المصرية الغريبة،
وقد جزعها أن تراه صلى الله عليه وسلم يكثر من التردد عليها، ويمكث لديها طويلا(2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذا هو المشهور، وفى رواية أن المقوقس بعث إلى الرسول عليه الصلاة
والسلام أربع جوار منهن مارية وسيرين. انظر تاريخ الطبرى: 3/85.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد- وانظر السمط الثمين: 140.
مضى عام أو نحو من عام، و"مارية" سعيدة بحظوتها لدى السيد الرسول، قد اطمأن بها المقام فى كنفه، وأرضاها أن يضرب عليها الحجاب، شأن أزواجه أمهات المؤمنين.
وانحصرت أمانيها وخواطرها، بل انحصر وجودها كله فى شخص ذلك السيد العظيم الذى ربطها القدر به على غير ميعاد، فكان لها السيد والصاحب والأهل والوطن، وصار همها أن تظل أبداً موضع حظوته ورضاه.
وكانت تحمل فى كيانها سحر مصر، وفى أعطافها أريج وادى النيل كما كانت تحف بها
رؤى مثيرة وأطياف باهرة، لإيزيس فى حبها العبقرى، ونفرتيتى فى جمالها البهى،
وحتشبسوت فى ملكها العتيد، وكيلوباترة فى جاذبيتها الآسرة، وحيويتها الفياضة..
ولم يغض أبداً ذلك النبع الدافق الذى كان يمدها فى كل آن بعذب الحديث وشهى
السمر، على أنها كانت مرهفة الشوق إلى قصة "هاجر" الأمة المصرية التى
جاءت من أرض النيل، وحملت من سيدها "إبراهيم" فأثارت غيرة امرأته السيدة
"سارة" فما زالت بزوجها حتى مضى بتلك المصرية وابنها إلى جوار البيت
العتيق(1).
وكم شاق "مارية" أن يحدثها السيد الرسول عن نجدة السماء التى هدت
"هاجر" إلى نبع زمزم، وأن يصف لها كيف بدأت الجزيرة العربية حياة جديدة بانبثاق
ذاك النبع المبارك، وكيف عاشت "هاجر" ملء التاريخ، وصارت هرولتها
ومسعاها بين الصفا والمروة، شعيرة مقدسة من شعائر حج العرب فى الجاهلية والإسلام...
وألفت "مارية" حين كانت تخلو إلى نفسها، أن تفكر فى "هاجر"
ومصريتها وأمومتها لإسماعيل جد العرب العدنانية(2)، فلم
تخطئ فيها ملامح شَبَهٍ بها: فكلتاهما جارية مصرية، وكانت "هاجر" هبة من
سارة للنبى إبراهيم، كما أن "مارية" هبة من المقوقس للنبى محمد، وقد
أثارت كلتاهما غيرة الزوجات فى بيت السيد النبى: إبراهيم، أو محمد، عليهما السلام.
ولكن "هاجر" كانت أما لولد إبراهيم، فهل تغدو "مارية" أماً لولد محمد؟!...
ما أبعد الأمنية، بل ما أدناها من المستحيل!..
لقد تزوج محمد، عليه الصلاة والسلام، بعد وفاة السيدة خديجة، عشر أزواج، منهن
الشابة الفتية، والمرأة الناضجة، ومنهن من كانت ذات ولد. ولكن أرحامهن جميعاً
أمسكت فما تجود بولد واحد للمصطفى الذي تخطف الموت أبناءه من السيدة خديجة، فلم
يدع له سوى بنت واحدة، هى السيدة "فاطمة الزهراء".
وقد شارف السيد الرسول سن الستين من عمره، وبدا كأنه كفَ عن تمنى الولد.
فأنَى لمارية أن يكون لها مثلُ ما كان لهاجر من أمومتها لإسماعيل؟.
يا لها من أمنية أبعد من الوهم، ويا له من أمل أوهى من السراب!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: 1/57. (2) ابن هشام: 1/7.
استقبلت "مارية" عامها الثانى فى حياة السيد المصطفى، وما تكف
عن ذكر هاجر وإسماعيل.
وفجأة أحست بوادر حمل مستكين، فكذبت إحساسها واتهمت يقظتها، وخيل إليها أن
المسألة لا تعدو أن تكون وهماً جسًمه شوقُها المُلحُ إلى الأمومة، وتفكيرها الدائم
فى هاجر وابنها..
وكتمت ما بها شهراً وشهرين وهى فى ريب من الأمر، لا تدرى أحق هو أم ذاك حلم
يقظة ورؤيا منام .. حتى تجسمت البوادر الأولى وصارت أوضح من أن تتهم.
عندئذ أفضت به إلى أختها "سيرين" فأكدت لها أنْ ليس فى الأمر وهم ولإ شِبهُ وهم، وإنما هو جنين حى.
وكاد يغشى على "مارية" من فرط الانفعال والفرح، فما حسبت أن السماء
سوف تستجيب لدعائها، وتحقق أملها الذى بدا عقيما واهياً كالسراب.
واستغرقتها نشوة حالمة، حتى جاء السيد الرسول، فأفضت إليه بالسرَ الخطير
الذى تُجنه فى رحِمها.
وتذكر ما كان يلحظه من توعكها وقلقها وزهدها فى الطعام، وهى أعراض عرفها
من قبل فى زوجه "خديجة" فى مستهل كل حمل، لكنه حسبها فى "مارية"
وعكة طارئة لا تلبث أن تزول.
ورفع إلى السماء وجهاً مشرق الأسارير يشكر لخالقه ذاك العزاء الجميل الذى
منً به على عبده الرسول، إثر فقده ابنته الغالية "زينب" بعد أن ماتت
قبلها أختها رقية، وأم كلثوم، ومات أخوها عبد الله، والقاسم...
وإذ حدثته مارية عن ريبتها الأولى فى حملها، ذكر آية ربَه فى زكريا:
"قال رب أنَى يكونُ لى غلام وكانت امرأتى عاقراً وقد بلغتُ من الكِبرَ
عتياً * قال كذلك قال ربُكَ هو على هيَن وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تك شيئا"(1).
كما ذكر قوله تعالى فى إبراهيم:
"هل
أتاك حديثُ ضيفِ إبراهيمَ المكرَمين * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلامُ قوم
مُنكَرون * فراغ إلى أهله فجاء بعِجْلٍ سمينٍ * فقرَبه إليهم قال ألا تأكلون * فأوجَسَ
منهم خيفةً قالوا لا تَخَفْ وبشَروه بِغلامٍ عليم * فأقبلت امرأته فى صَرةٍ فصَكتْ
وجهَها وقالت عجوزُ عقيم * قالوا كذلك قال ربُكِ إنه هو الحكيم العليم"(2).
فضحكت مارية وقالت مدلة بشبابها الدافق:
- لكنى لست عجوزاً يا رسول الله!...
وفاض عالمهما المشترك بالهناءة والغبطة.
وسرعان ما سرت البشرى فى أنحاء المدينة أن رسول الله ينتظر مولوداً له من "مارية
المصرية"، وما بنا حاجة إلى تصوير وقعها الأليم على نساء النبى.
أتحمل هذه الغريبة الطارئة، ولما يمض عليها فى المدينة سوى عام واحد، وإن منهن من أمضت فى بيت زوجها الرسول عدة أعوام بلا حمل؟...
أيؤثرها الله بهذه النعمة الكبرى، وأمهات المؤمنين، وفيهن بنتا أبى بكر وعمر، وبنت زاد الركب وحفيدة أبى طالب، محرومات لا يلدن؟.
وهاجت غيرتهن فما يدرين ما يقلن وما يفعلن، وسرت همسة مريبة تتهم "مارية"
بمثل ما اتهمت به قبلها أم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة مريم: الآيتان: 8، 9.
(2) صورة الذاريات، الآيات 24: 30.
المؤمنين، عائشة بنت الصديق(1).
ولقد بُرئت السيدة عائشة بنت أبى بكر بآية من الوحى، فهل تطمع بنتُ شمعون
فى آية مثلها تشهد ببراءتها؟...
وتجلت لها رحمة الله تعالى من
حيث لم تحتسب، فظهر دليل حاسم على كذب ما رميت به من فرية الإفك: حدث محمد بن عبد
الله الزهرى عن أنس ابن مالك قال: "كانت أم إبراهيم سرية النبى صلى الله عليه
وسلم فى مشربتها، وكان قبطى(2) يأوى
إليها ويأتيها بالماء والحطب، فقال الناس فى ذلك: علج يدخل على علجة. فبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل سيدنا على ابن أبى طالب رضي الله عنه، فوجد
القبطى على نخلة هناك، فلما أخذ"سيدنا على" سيفه، وقع فى نفسه وألقى
الرداء الذى كان يستره فتعرى، فإذا هو مجبوب. فرجع "على" إلى النبى صلى
الله عليه وسلم فأخبره بما رأى من القبطى .. ثم جاء جبريل أمين الوحى فقال:
"السلام عليك يا أبا لإبراهيم"، فاطمأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم"(3).
وخاف على "مارية" فنقلها إلى "العالية" بضواحى
المدينة، توفيراً لراحتها وسلامتها، وعناية بصحتها وصحة جنينها.
قالت عائشة:
"ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية، وذلك أنها كانت جميلة
جعدة، فأعجب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أنزلها أول ما قدم بها فى بيت
لحارثة بن النعمان، فكانت جارتنا، فكان عامةَ الليل والنهار عندها .. فجزعتُ،
فحولها إلى العالية، وكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدَ علينا، ثم رزقه الله
منها الولد وحُرمناه منه"(4).
***
وسهر المصطفى عليها يرعاها، وكذلك فعلت "سيرين" حتى بلغ الجنين
أجله، وحانت ساعة الوضع ذات ليلة من شهر ذى الحجة سنة ثمان من الهجرة.
ودعا المصطفى قابلتها "سلمى: زوج أبى رافع" ثم انتحى ناحية من
الدار، يصلى ويدعو ..
فلما جاءته أم رافع بالبشرى(5) أكرمها
كل الإكرام، وخف إلى مارية فهنأها بولدها الذى أعتقها من الرق(6)،
ثم حمل وليده بين يديه فى حنان وغبطة، وسماه "إبراهيم" تيمناً باسم جد
الأنبياء.
وتصدق صلى الله عليه وسلم على مساكين المدينة بوزن شعر الوليد ورقاً، وتنافست
الأنصار فيمن يرضعه، وأحبوا أن يفرغوا مارية للنبى صلى الله عليه وسلم لما يعلمون
من هواه فيها، فاختار الأب المصطفى مرضع ولده، وجعل فى حيازتها سبعاً من الماعز كى
ترضعه بلبنها إذا شح ثدياها(7).
وراح يرقب نموه يوماً بعد يوم، ويجد فيه أنسه ومسرته، ويود لو شاركته دنياه
كلها فى هذا الأنس.
حمله يوماً يين ذراعيه إلى "عائشة" ودعاها فى تلطف وبشر، لترى ما
في الصغير من ملامح أبيه، فأحست "عائشة" كأن سهماً نفذ إلى قلبها، وكادت
تبكى مما تجد، لكنها أمسكت عبرتها فى غيظ مكبوت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السمط الثمين: 1/ 14- والاستيعاب 3/ 1912. (2) هو الذى جاء
معها من مصر، هدية من المقوقس.
(3) الاستيعاب: 4/1912 والطبقات الكبرى لابن سعد- والسمط
الثمين: 141.
(4) السمط الثمين: 140.
(5) وفى رواية أن الذى حمل البشرى إلى الرسول، زوج سلمى (السمط: 140) وانظر الاستيعاب: 1/54.
(6) السمط الثمين: 142- وانظر الاستيعاب: 4/ 1913.
(7) الإصابة لابن
حجر: جـ 1 والاستيعاب: 1/ 55. وفى رواية أنه صل الله عليه
وسلم، حلق رأس ولده يوم سابعه، وتصدق بزنة شعره فضة، وذبح كبشين (وفا الوفاء: 1/
316).
وأدرك على الفور ما تكابد، فانصرف بولده وهو يرثى لعائشة...
***
وظلت النار ترعى تحت رماد من التجمل والتكلف والمداراة، حتى كان اليوم الذى اجتمع فيه المصطفى بمارية فى بيت "حفصة" فاندلع الضرام من تحت الرماد متوهجاً، وكان ما كان من قصة التحريم.
بعدها، خيل لمارية أنها بلغت مناها، فهذه هى تلد للنبى ولداً كما ولدت "هاجر"لإبراهيم
ابنه إسماعيل.
وهذه هى محنة الغيرة تنتهى على خير لها، فتكون حادثة تحريم الرسول إياها على نفسه، ثم عودته إليها، آية تتلى فى الكتاب المنزل على النبى العربى، أبى إبراهيم، كما كان الأمر مع "هاجر" حين ألقت بها غيرة "سارة" إلى القفر الموحش والوادى الأجرد غير ذى زرع..
ولم يسعد "مارية" شئ قدر ما أسعدها أن تهب السيد الرسول على اليأس
والكبر غلاماً تقر به عينه، يتعزى به عمن فقد من أبناء السيدة خديجة رضي الله
عنها.
لكن سعادتها لم تطل سوى عام وبعض عام، ثم كانت المحنة الفادحة والثكل المرير...
مرض "إبراهيم" ولما يبلغ عامين من عمره، فجزعت أمه ودعت إليها
أختها سيرين، وقامتا ساهرتين حول فراشه تمرضانه ونفساهما تذوبان عليه من لهفة
وقلق.
لكن الحياة أخذت تنطفىء فيه رويداً رويداً .. فجاء أبوه معتمداً على يد "عبد الرحمن بن عوف" لشدة ألمه، فحمل صغيره من حِجر أمه وهو يجود بنفسه، ووضعه فى حجره محزون القلب ضائع الحيلة، لا يملك إلا أن يقول فى أسى وتسليم:
"إنا
يا إبراهيم لا نُغْنى عنك من الله شيئاً"(1).
ودمعت عيناه وهو يرى ولده الوحيد يعالج سكرات الموت، ثم أصغى واجماً إلى حشرجة احتضاره، مختلطة بعويل الأم الثكلى والخالة المفجوعة..
وانحنى على جثمان فقيده فقبله والدمع يفيض من عينيه ثم تمالك نفسه، فقال:
"تدمع
العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضى الرب، وإنا يا إبراهيم عليك لمحزونون، وإنا
لله وإنا إليه راجعون".
ثم نظر إلى مارية فى عطف ورثاء، وقال يواسيها:
"إن
له لمرضعاً فى الجنة"(2).
وأقبل ابن عمه صلى الله عليه وسلم "الفضل بن عباس" فغسل الصغير
الميت، وأبوه المصطفى جالس يرنو إليه فى حزن بالغ(3).
وحُمل جثمان "إبراهيم" من منزل أمه على سرير صغير، سار وراءه أبوه وصحابته إلى البقيع، فصلى عليه النبى، وأضجعه بيده فى قبره، ثم سوى عليه التراب ونداه بالماء.
وآب المشيعون إلى "المدينة" واجمين، وقد غام الأفق وانكسفت الشمس، فقال قائلهم: "إنها انكسفت لموت إبراهيم".
وبلغت الكلمة مسمع رسول الله، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه، وقال:
"إن
الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا تُخسَفان لموت أحدٍ ولا لحياته... "(4).
وطوى جرحه فى قلبه الكبير صابراً مستسلماً لقضاء الله فيه، واعتكفت "مارية" فى بيتها تحاول أن تتجمل بالصبر حتى لا تنكأ الجرح فى قلب الأب الثاكل، فإذا عَزَ الصبر خرجت إلى البقيع فاستروحت لقرب فقيدها، والتمست راحة فى البكاء.
***
ولكن أيام المصطفى لم تطل بعد موت ولده "إبراهيم" فى السنة العاشرة
للهجرة، فما هل هلال ربيع الأول من السنة التالية حتى شكا صلى الله عليه وسلم، ثم
لحق بربه الأعلى، وترك "مارية" من بعده تعيش خمس
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الاستيعاب: 1/ 57.
(2) الإصابة لابن حجر: إبراهيم
بن محمد.
(3) انظر الاستيعاب: 1/ 55- والسمط الثمين 143.
(4) فى كتاب صلاة الكسوف
بالموطأ، والصحيحين. مع الإصابة والاستيعاب: الجزء الأول.
سنوات فى عزلة عن الناس، لا
تكاد تلقى غير أختها سيرين، ولا تكاد تخرج إلا لكى تزور قبر الحبيب بالمسجد، أو
قبر ولدها بالبقيع.
فلما ماتت سنة ست عشرة من الهجرة، أخذ أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه
يحشد الناس لجنازتها، ثم صلى عليها ودفنها بالبقيع(1).
وكل نفس ذائقة الموت، فحسب "مارية" أنها دخلت فى حياة خاتم النبيين
عليهم السلام، وأن رحمة الله حمتها حين تظاهرت نساء النبى عليها، وأنه سبحانه
وتعالى آثرها بفخر أمومتها لإبراهيم عليه السلام.
ثم حسبها بعد هذا كله، أن دعمت ما بين مصر والحجاز من صلة عريقة بدأت بهاجر من أعماق الماضى الموغل فى القدم، فجعلت نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام يوصى أمته بقوم مارية قبط مصر فيقول:
"الله الله فى أهل الذمة، أهل المدرة السوداء، السحم الجعاد، فأن لهم نسباً وصهراً".
النسب، من أمومة "هاجر" المصرية لإسماعيل جد العرب العدنانية.
والصهر من "مارية" وقومها: قبط مصر.
ويقول عليه الصلاة والسلام:
"استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحماً".
ولقد ترك صلى الله عليه وسلم هذه الوصية ميراثاً بعده، فيقال إن الإمام الحسن بن على رضى الله عنهما، طلب إلى معاوية فى مفاوضات الصلح بينهما، أن يرفع الخراج عن أهل قرية "حفن" وفيها خئولة إبراهيم عليه السلام.
كما يقال إن "عبادة بن الصامت" لما جاء مصر بعد فتحها، بحث عن تلك
القرية وسأل عن موضع بيت مارية، فبنى به مسجداً...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
(1) الإصابة: جـ 8، والسمط الثمين: 143. والاستيعاب: 4/ 1912.
أخراهن، وأتقاهن
"ذهبت والله ميمونة... أما إنها والله
كانت من
أتقانا وأوصلنا للرحــــــم"
عائشة بنت
أبى بكر
لم يكن هنالك ما يشغل المسلمين بعد فتح "خيبر" وعودة مهاجرة الحبشة،
مثل التفكير فيما نص عليه "عهد الحديبية" الذى عقد آخر سنة ست: أن
"يعود محمد وأصحابه إلى مكة فى العام الذى يليه، فيدخلوها ويقيموا بها ثلاثة
أيام ومعهم من السلاح السيوف فى قربها، ولا شيء غيرها"(1).
وبات المهاجرون يحلمون بالعودة إلى "أم القرى" ويتمثلون أنفسهم وقد
آبوا إلى أرض الوطن، فطافوا بالبيت العتيق ثم ملأوا عيونهم من مراتع الصبا ومثوى الأجداد.
لقد مضت أعوام ذات عدد منذ أخرجوا من ديارهم وحيل بينهم وبين البيت الذى جُعل مثابة للناس وأمنا، يأتون إليه من كل فج عميق.
فلما سعوا إليه فى العام السادس للهجرة معتمرين مسالمين وصاروا من
"مكة" على مرحلة، قام لهم المشركون فصدوهم عن المسجد الحرام، وإن قبلوا
أخيراً أن يتركوهم يعودون إليه فى قابل..
***
ومرت الأيام بطيئة والليالى طويلات، حتى أتم العام القمرى دورته، ونادى الرسول
عليه الصلاة والسلام فى الناس كى يتجهزوا للخروج إلى مكة.
وركب ناقته "القصواء" وتبعه ألفا راكب يتلهفون شوقاً إلى أقدم بيت
عُبد الله فيه، وحنيناً إلى أول أرض كانت لهم مهداً وموطناً ومراحاً.
وتراءت لهم على البعد رؤى حافلة للقرية المباركة: مهد اليتيم الهاشمى المصطفى،
ومنزل الوحى.
وارتفعت أصوات الحداة تبشرهم باليوم الموعود. وأمامهم الشاعر "عبد
الله بن رواحة الأنصارى" آخذا بخطام "القصواء" ينشد حادياً(2):
خلوا بنى الكفار عن سبيله
خلوا، فكلُ الخير فى رسولهْ
يا ربَ إنى مؤمن بقيلِهْ
أعرف حق اللهِ فى قبولهْ
حتى دخلوا مكة، آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، وقد جلا عنها الكفار المشركون فما فيها منهم يومئذ أحد.
وتلوا آية الوعد الحق:
"لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق لتدخُلُن المسجد الحرام إن شاء
الله آمنين مُحَلقين رءوسَكم ومُقَصرِينَ لا تَخافون، فعِلمَ ما لم تَعلموا، فجَعَلَ
مِنْ دونِ ذلك فتحاً قريباً"(3).
تم هتفوا فى صوت واحد ملبين:
"لبيك
اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك".
فتجاوبت أرجاء "مكة" بالهتاف المؤمن، ومادت الأرض تحت أقدام المشركين
الذين ضربوا خيامهم خارج
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبرى: 3/79. (2) ابن إسحاق فى السيرة: 4/ 13.
(3) آية 37 سورة الفتح.
البلد الحرام، وأحسوا كأن الجبال
الشم الصلاب تكاد تتصدع من خشوع وخشية ..
فما بقى مكى إلا وقد أيقن أن يوم النصر الأكبر للمؤمنين جد قريب...
***
وكان للمشهد المهيب أثره النافذ العميق فى مكة.
فإذا سيدة من أكرم سيدات قريش يهفو قلبها إلى "محمد" صلى الله
عليه وسلم.
تلك كانت "برة بنت الحارث بن حزن الهلالية المضرية" إحدى أخواتٍ أربع قال فيهن الرسول عليه الصلاة والسلام: "الأخوات المؤمنات".
واحدة منهن شقيقة لها، هى "أم الفضل، لبابة الكبرى بنت الحارث"
زوج العباس بن عبد المطلب، وأول امرأة آمنت بعد خديجة رضى الله عنها، والسيدة التى
يذكر لها الإسلام أنها تصدت لأبى لهب عدو الله ورسوله، حين دخل بيت أخيه العباس
فاحتمل مولاه "أبا رافع" فضرب به الأرض ثم برك عليه يضربه لأنه أسلم. فقامت
أم الفضل إلى عمود هناك، فشجت رأس أبى لهب شجة منكرة وهى تقول: استضعفته أن غاب
عنه سيده؟!".
فقام مولياً ذليلا مقهوراً(1).
والأخريات اختان لبرة من أمها: "أسماء بنت عميس الخثعمية" زوج
جعفر بن أبى طالب ذى الجناحين، وأم ابنه عبد الله، وقد تزوجت من بعده أبا بكر
الصديق فولدت له محمداً، ثم خلف عليها الإمام على بن أبى طالب فولدت له يحيى. رضي
الله عنهم".
و"سلمى بنت عميس" زوج حمزة بن أبي طالب، أسد الله وشهيد أحُد ..
وأمهن جميعاً، هند بنت عوف بن زهير بن الحارث، التى قيل فيها: "أكرم
عجوز فى الأرض أصهاراً هندُ بنت عوف. أصهارها: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو
بكر الصديق رضى الله عنه، وحمزة والعباس ابنا عبد المطلب رضي الله عنهما، وجعفر وعلى
ابنا أبي طالب رضى الله عنهما"(2).
وكان لهند غير هؤلاء، أصهار آخرون من ذوى المكانة: الوليد بن المغيرة المخزومى،
زوج لبابة الصغرى بنت الحارث، أم خالد، وأبى بن خلف الجمحى، زوج ابنتها عصماء بنت
الحارث، أم أبان، وزياد بن عبد الله بن مالك الهلالى، زوج عزة بنت الحارث(3)
لبابة، وعصماء، وعزة، بنات الحارث: شقيقات لبرة...
كانت "برة" إذ ذاك أرملة فى السادسة والعشرين من عمرها، مات
عنها زوجها أبو رهم بن عبد العزى العامرى(4).
وأفضت "برة" إلى شقيقتها "أم الفضل" بما يهفو إليه قلبها، فتحدثت به الأخت إلى زوجها العباس، وجعلت له يدها.
وما كان "العباس" ليتردد فى حمل رسالة كهذه، بل مضى من فوره إلى ابن أخيه، فخاطبه فى أمر "برة" وعرض عليه أن يتزوجها، واستجاب المصطفى وأصدقها أربعمائة درهم، وبعث ابن عمه جعفر- زوج أختها أسماء- يخطبها...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: 2/301. (2) السمط الثمين:
113- والاستيعاب: 4/1915.
(3) هذه رواية ابن إسحاق فى السيرة: 4/196، وانظر
الاستيعاب 4/1915 والسمط الثمين 115.
(4) هذه رواية ابن إسحاق فى السيرة: 4/196، والاستيعاب.
وفى اسم الزوج خلاف- راجع تاريخ الطبرى: 3/178- والاستيعاب: 4/1916 والسمط الثمين
115.
وفى رواية أن "برة بنت الحارث" هى التى وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها:
"وامرأة
مؤمنةً إنْ وَهَبتْ نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها خالصةً لك من دون
المؤمنين"(1).
وكانت الأيام الثلاثة التى نص عليها عهد الحديبية(2)، قد
قاربت نهايتها فود المصطفى لو يمهله المكيون ريثما يتم الزواج، فيكسب بهذا الإمهال
مزيداً من الوقت، ليمكَن للإسلام من هؤلاء الذين لا يزالون يكفرون بألسنتهم عناداً
وحسداً...
فلما جاءه مبعوثا قريش يطلبان إليه أن يخرج، إذ انقضى الأجل المنصوص عليه فى
العهد، قال مسالما:
"ما عليكم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم، وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه؟"(3).
لكن وافدى قريش، أدركا أن مكة لن تلبث أن تفتح أبوابها لمحمد طائعة، إذا امتد مقامه بها أياماً أخريات.
وأجابا فى جفاء: "لا حاجة لنا فى طعامك فاخرج عنا".
فنزل رسول الله على كلمتهما وفاء بعهده، وأذَن فى المسلمين بالرحيل مخلفاً
مولاه "أبا رافع" بمكة، ليلحق به في صحبة العروس "برة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن هشام: 4/296، والاستيعاب: 4/1917 والآية من سورة
الأحزاب: 50.
(2) نص العهد على أن يرجع الرسول وأصحابه فلا يدخلوا مكة
عامئذ، السنة السادسة هـ، ثم يدخلها بأصحابه فى عام قابل، فيقيموا بها ثلاثة أيام-
راجع نص العهد فى تاريخ الطبرى 2/79 وطبقات ابن سعد: 2/ 70، مع السيرة النبوية:
3/331.
(3) سيرة ابن هشام: 4/14 وتاريخ الطبرى: 3/100.
وفى "سرف"، قرب التنعيم، جاءت "برة" يصحبها أبو رافع..
"فبنى بها محمد- صلى الله عليه وسلم- هناك(1)، ثم انصرف
بها راجعا إلى "المدينة".
وسَماها "ميمونة" أن كان زواجه بها فى المناسبة الميمونة
الغراء، التى دخل فيها أم القرى، لأول مرة بعد سبع سنين من هجرته، ومعه أصحابه آمنين
لا يخافون...
ودخلت "ميمونة" بيت النبى مسالمة، قد اكتفت من دنياها بما من
الله عليها به من نعمة الإسلام، وشرف الزواج من خير البشر.
وما من ريب فى أنها وجدت لذع الغيرة من "عائشة" ثم من "مارية":
أن استأثرت الأولى بأوفى حظ من حب الزوج، وكان للثانية شرف أمومتها لإبراهيم.
ولعلها كذلك لم تستطع أن تقاوم عاطفة الجماعة، حين جمحت الغيرة بنساء
النبى، وهى منهن، فى التظاهر على مارية.
لكن مؤرخى الإسلام وكُتاب السيرة، لا يذكرون لها خصومةً انفردت بها، أو شجاراً
شبته فى بيت الزوج المصطفى.
وإنما يذكرون أنه صلى الله عليه وسلم كان فى بيتها حين اشتد به الألم فى
مرض الموت، فرضيت أن ينتقل حيث أحب، إلى بيت عائشة.
***
فلما انتقل عليه الصلاة والسلام إلى جوار ربه الأعلى، عاشت "ميمونة"
تذكر اليوم الميمون الذى جمعها بالمصطفى، وتحن إلى البقعة المباركة فى "سرف"
حيث بنى بها..
وقد أوصت رضي الله عنها أن تدفن فى موضع قبتها هناك، فلما ماتت بعد منتصف
القرن الأول للهجرة، أرقدوها حيث أحبت(2)...
وتركت من ورائها ذكرى عاطرة..
حدث "يزيد بن الأصم":
"تلقيتُ
عائشة من مكة، أنا وابن لطلحة من أختها(3)- أم
كلثوم- وقد كنا وقفنا على حائط من حيطان المدينة، فأصبنا منه .. فأقبلت عائشة على
ابن أختها تلومه، ثم أقبلت على فوعظتنى موعظة بليغة ثم قالت: أما علمت أن الله ساقك
حتى جعلك فى بيت من بيوت نبيه؟ .. ذهبت والله ميمونة، ورُمى بحبلِك على غاربك. اما
أنها كانت والله من أتقانا لله، وأوصلنا للرحم".
سلام على ميمونة..
وسلام على سائر نساء النبى صلى الله عليه وسلم، أمهات المؤمنين رضي الله
عنهن..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السيرة: 4/14، وتاريخ
الطبرى: 3/101، والاستيعاب: 4/1918، وفاء الوفا للسمهودى: 1/316.
(2) السمط الثمين: ص 115- والاستيعاب: 4/1918.
(3) أم كلثوم بنت أبى بكر- أخت عائشة لأبيها- ولدت لطلحة
بن عبيد الله: زكرياء وعائشة ابنى طلحة. انظر (نسب قريش: 278) وترجمة أم كلثوم فى
(الإصابة: رقم 1475 نساء).
مفتاح كنوز السنة
الموطأ كتب الحديث الستة الأمهات
ابن هشام: السيرة النبوية ط
الحلبى بالقاهرة 1936
ابن جرير الطبرى: تاريخ الأمم والملوك ط الحسينية بالقاهرة
ابن سعد: كتاب الطبقات الكبير ط بريل (ليدن)
1325 هـ.
ابن حجر: الإصابة ط مصر.
ابن عبد البر: الاستيعاب فى معرفة الأصحاب نهضة مصر بالقاهرة.
نور الدين السمهودى: وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى ط السعادة 1374 هـ، 1955م
المحب الطبرى: السمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين ط حلب.
المصعب الزبيرى: نسب قريش ط أولى
الذخائر.
ابن حزم: جمهرة انساب العرب ط أولى
ذخائر.
السهيلى: الروض الأنف الجمالية
بمصر 1914.
المحب الطبرى: السمط الثمين حلب
بالشام
من تراجم سيدات بيت النبوة، للدكتورة بنت الشاطئ:
1- "أم النبى" ترجم إلى الأندونيسية والأردية
والتركية
2- "نساء النبى" يترجم إلى
الفرنسية والإسبانية
3- "بنات النبى"
4- "السيدة زينب: بطلة كربلاء" ترجم إلى الفارسية والأردية
5- "سكينة بنت الحسين" ترجم إلى الفارسية والأردية
مقدمة الطبعة الأولى.............................................................................6
البيت: والزوج...................................................................................8
خديجة بنت خويلد: أم المؤمنين الأولى.........................................................16
سودة بنت زمعة: أرملة المهاجر...............................................................30
عائشة بنت أبى بكر: حبيبة المصطفى.........................................................37
حفصة بنت عمر: حافظة المصحف الشريف..................................................65
زينب بنت خزيمة: أم المساكين.................................................................72
أم سلمة: بنت زاد الركب........................................................................76
زينب بنت جحش: أكرمهن ولياً وأكرمهن سفيراً
.............................................85
جويرية بنت الحارث: سيدة بنى المصطلق....................................................96
صفية بنت حيي: عقيلة بنى النضير............................................................101
أم حبيبة: بنت أبي سفيان........................................................................110
مارية القبطية: أم إبراهيم.......................................................................120
ميمونة بنت الحارث: أخراهن وأتقاهن........................................................129
رقم الإيداع: 5347/1979
الترقيم الدولى: 8- 902- 247- 977 ISBN
383/ 79/ 1
طبع بمطابع دار المعارف (ج. م. ع.)
7/9/2005
21/1/2006