الحقيقة تلاشي الشكوك

اسكندر جديد


السؤال الأول: إن حمل خطايا الآخرين ظلم، فكيف توفقون بين هذه الحقيقة، وقولكم أن المسيح أتى إلى العالم، ليكون كبش الضحية من أجل خطايا الناس؟
السؤال الثاني: ورد في كتابكم المقدس هذه العبارة: «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» وإنكم لتسلمون معي أن سفك الدماء لا يتفق والرحمة، بل هو ينافي محبة الله الرؤوف العادل بذبح الحيوان؟ وما العلاقة بين مغفرة الخطايا وتعذيب الحيوان المسكين بالذبح؟ أو لا ترون معي أن هذه العبارة: «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» لا يمكن أن تكون أمراً إلهياً؟
السؤال الثالث: هل قضاء الله ينافي حرية إرادة الإنسان ومسؤوليته؟
السؤال الرابع: هل تؤمن المسيحية بالقضاء والقدر؟
السؤال الخامس: ماذا تظنون في إبليس أو الشيطان؟ هل هو مجرد قوة نفسية، أم روح مستقل يقدر أن يؤثر في الخلائق البشرية؟ وهل الأرواح الشريرة المذكورة في الكتاب المقدس تختلف عن الشيطان وإبليس المذكور في القرآن؟ هل الروح الشرير هو الذي يسميه المصريون زارا؟

السؤال الأول: إن حمل خطايا الآخرين ظلم، فكيف توفقون بين هذه الحقيقة، وقولكم أن المسيح أتى إلى العالم، ليكون كبش الضحية من أجل خطايا الناس؟

ع.ش. بيروت

ليس الخطية في جوهرها عملاً خارجياً، بل هي تصدر عن القلب، بدليل قول المسيح: «لأَنْ مِنَ ٱلْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ»(متى ١٥: ١٩). وحينما يكون موقف القلب خاطئاً، تمس الحاجة إلى نوع معين من الغفران. لا الغفران الذي يقول: لا بأس، دعنا من هذا العمل الخاطئ، بل الكفّارة التي توفق بين القلب المسيء والقلب المساء إليه.

فنحن نحاول أن نعلم أولادنا أن يكونوا منصفين عادلين، وأن يقسموا الأشياء فيما بينهم بالعدل، وأن يراعوا الإنصاف في عالمهم الصغير. وهذا صواب، غير أنه لا يسير بهم في طريق الحياة إلا مرحلة قصيرة. فإذا ذهب أخوان في رحلة إلى الصحراء، ونسي أحدهما إهمالاً منه قنينة مائه، فإن العدالة المجردة تقضي على ذلك المهمل أن يتحمل العطش طيلة اليوم. أما نحن فنرجو أن يشركه أخوه في قنينته. وفي تعبير آخر ننتظر من محبة الأخ، أن يشاطر أخاه الماء، كأنها أرفع وأسمى من عدالة الأخ الذي يشرب نصيبه من الماء كاملاً.

ويرينا يسوع شرعة أرقى وأسمى من شرعة العدالة، في قصة الإبن الضال. فلم يكن من العدل في شيء أن يركض الأب لاستقبال إبنه الشارد، الذي استهلك نصيبه من ثروة أبيه على لذاته. وأن يقبله في البيت، ويلبسه الحلة الأولى، ويقيم وليمة احتفاء بعودته. بل كان ينبغي أن تقول العدالة له: أمّا وقد عدت أخيراً، بعد أن بددت كل أموالك، فعليك أن تعمل أخيراً في مزرعة العائلة، لتكسب خبزك بعرق وجهك، وتكسو عريك، وتعوض عن المال الذي أتلفته ضياعاً. في الواقع أن هذا ما فكر فيه الابن المسكين أن يطلبه فعلاً. فحين فكر في العودة، قال في نفسه: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ» (الإنجيل بحسب لوقا ١٥: ١٨-١٩).

وقد تكون هذه تسوية عادلة من ناحية التعويض عن إتلاف المال، ولكنها ما كانت بمستطيعة أن تعيد حبل الود المنقطع بين الأب وابنه. أما شرعة الكفارة فقد قضت أن يتحمل الأب المساء إليه الخسارة المتسببة عن خطية ابنه الحبيب. فهل تكون الكفارة ظالمة وغير عادلة، لأنها عملت على مقتضى أرقى من ناموس العدالة؟ سمِّها إن شئت ظلماً، ولكن ظلماً فرضته المحبة طائعة مختارة، وسمت به فوق كل الاعتبارات الطبيعية.

في الحقيقة لو أن شخصاً متسلطاً تدخل وفرض على الأب أن يعامل ولده على النحو الذي تقدم، لكان الموقف كريهاً بشعاً، ولا يمكن للعقل أن يرضى به أو يقبله. ولكن الأب كان مدفوعاً بعامل محبته الخالصة، واختار أن يدفع الثمن. هذا هو موقف الكفارة، وهذا هو حالها.

وهذا ما حدث في الكفارة التي قدمها الله في المسيح. فإن شخصاً ثالثاً لم يأمر بتحمل آلام الخطية، ولكن يسوع حملها، بدافع من حبه العجيب. وفي كلمة أخرى أن حمل الله لم يسق إلى الصحراء سوقاً، وهو لا يدري ولا يريد. بل كان الله في المسيح مصالحاً العالم بنفسه جاعلاً نفسه واحداً مع الإنسان المذنب، ليرفع خطيته. هكذا تألم البار لأجل الأثمة. وتم القول النبوي: «وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (أشعياء ٥٣: ١٢).

أتستطيع أن تفكر في طريقة غير هذه لإتمام الكفارة؟ أما أن تتصور الله ملكاً سمحاً كريماً، يقول: هذه الخطية أعفو عنها، كأنها لم تكن، فهذا يترك الخاطئ على حاله دون أن يحدث العفو أي أثر في حياته. حتى أنه ليظن أن الخطية، ليست بأمر ذي بال. وهكذا يبقى بعيداً عن أن يكون في توافق مع الآب السماوي القدوس.

أما القول بأن العدالة تتطلب أن يتحمل الخاطئ عقوبته كاملة، فهذا يحول دون التوبة ويسوق الخاطئ إلى اليأس، ويفصله نهائياً عن الآب السماوي القدوس إلى الأبد، لأن عقوبة الخطية هي الإقصاء التام عن كل خير وصلاح وبر.

قال المسيح له المجد: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (الإنجيل بحسب يوحنا ٣: ١٦). فهذه هي الكفارة التي تتيح للخاطئ أن يسبح مع جماعة المفديين: «ٱلَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلّٰهِ أَبِيهِ، لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ» (رؤيا يوحنا ١: ٥-٦).

وإذ يؤمن بهذا، تأخذ محبته التائبة الصغيرة في التسحب، لتلتقي بمحبة الله الغافرة العظمى التي تركض للترحيب ويكون الاثنان واحداً. وتبدأ حياة جديدة، ويقول الأب: لأن الكفارة قد تمت لألقي بالخطية في هوة النسيان، وكأنها لم تكن، فلا يوجد ما يفصل بيني وبين ابني.

السؤال الثاني: ورد في كتابكم المقدس هذه العبارة: «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» وإنكم لتسلمون معي أن سفك الدماء لا يتفق والرحمة، بل هو ينافي محبة الله الرؤوف العادل بذبح الحيوان؟ وما العلاقة بين مغفرة الخطايا وتعذيب الحيوان المسكين بالذبح؟ أو لا ترون معي أن هذه العبارة: «وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» لا يمكن أن تكون أمراً إلهياً؟

م.ع. تونس

حين تلقيت سؤالك، طلع في ذهني أنك مهتم بالأمور الروحية وتشغل بالك فيها. وأنك تؤمن بشيء اسمه الخطية، ويلزم غفران الذنب وبحقيقة رحمة الله. وهذا ما يجعلني أجزم بأنك إنسان ديني تعتقد بالله وبمحبته ورحمته. لذلك أضع معلوماتي المتواضعة تحت تصرفك، للجواب على أسئلتك التي تكرمت بطرحها:

  1. إن سفك الدم والمغفرة، لا يتنافى أمره مع رحمة الله، بل بالحري يؤيدها ويمجدها. فإن هذا الإله المتصف بالرأفة والكثير الرحمة، هو أيضاً قدوس وعادل، وشريعته مقدسة وعادلة، ينبغي احترامها، وإلا فتكون الحياة فوضى، ولا يكون فرق بين البر والإثم، والطاعة والعصيان. ومن الأمور التي تسلم بها، على ما يبدو من أسئلتك، أن الإنسان خاطئ في قلبه وفي عمله. فهو إذن قد تعدى على شريعة الله. وهنا يجب أن ننظر إلى إلهنا كقاض عادل، كما أنه آب رحوم كثير الرأفة.

    وفي هذا المقام الخطير يحتاج الحل إلى تدبير يليق بكمال الله، الذي هو عجيب في وجوده وحكمته. وهذا التدبير الكامل اللائق بالله، لا يستطيع العقل البشري أن ينشئه. ولكنه يقبله بكل ارتياح وشكر للمدبر الإلهي. وهذا التدبير الذي أوجدته حكمة الله الفائقة، مفاده أن يستوفي عدل الله من شخص كامل ظاهر قدوس، قادر أن يغلب الموت. وحتى يعد الفكر البشري لقبول هذا التدبير، رسم الله الذبيحة الدموية البرئية، مشيراً بذلك إلى الشخص الكامل الذي تطوع للقيام بعمل الفداء عند ملء الزمان، حين يختم عهد الذبائح الدموية بذبيحة نفسه. وأننا لواجدون في كلمة الله الموحى بها، صدى التعهد الذي قطعه الفادي على نفسه ضد التسجد. وتبعاً لذلك لقب بحمل الله الذي يرفع خطية العالم، إذ يقول مخاطباً الاب: «ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً... هَئَنَذَا أَجِيءُ لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ» (الرسالة إلى العبرانيين ١٠: ٥، ٩).

    في العودة إلى ممارسات العهد القديم، نرى أن خيمة الإجتماع، أي بيت العبادة، وكل آنية الخدمة فيه، كانت تطهر بالدم. والهدف من ذلك إعلان الحق الخطير، وهو أن مسكن الله وسط الشعب كان على أساس الفداء. وبدون دم الفداء ما كان في وسع المؤمنين أن يقدموا عبادتهم لله.

    ولا أظنك تجهل أن تقديم الذبائح بفكر التكفير عن الخطايا، أمر تمارسه جميع الأمم، بما فيهم أمتكم الإسلامية. فإن الدين الحنيف جعل أعظم أعياده عيد الأضحى، الذي فيه تنحر ذبائح لا عد لها كل عام وذلك وفقاً لقول القرآن: «وفديناه بذبح عظيم» فسفك الدم والفداء مرتبطان معاً.

    وأما بالنسبة للمسيحية فعهد الذبائح ختم بذبيحة المسيح، كما هو مكتوب: «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأَجْلِنَا. وَلا لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ. فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ ٱنْقِضَاءِ ٱلدُّهُورِ لِيُبْطِلَ ٱلْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ... فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً... لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (رسالة العبرانيين ٩: ٢٤-٢٦، ١٠: ١٠، ١٤).

    والحق أنه حين نأتي إلى العبادة المسيحية، نجد أن علامة الدم موضوعة على كل ناحية فيها. وهكذا على أساس الفداء يخدم أحدنا الآخر، ونقدم ذبائح روحية مقبولة لدى الله بيسوع المسيح.

    ويا له من حق ثمين، ذلك الحق الخاص بالدم! فأينما تطلع المؤمن، يرى الدم أساساً لسلامه وفرحه، فإن تطلع إلى الوراء إلى ماضيه الأثيم، يرى دم المسيح الغالي وقد محاه. وإن تطلع إلى الأمام، إلى المجد الأبدي، يراه مضموناً بواسطة ذلك الدم الثمين.

    ومما يستحق الالتفات إليه أن التدبير الإلهي، كما هو معلن في الإنجيل، لم يكلف الإنسان شيئاً، بل هو يقدم فداء مجهزاً، ليقبله بالإيمان، فيخلص. ومن هنا صارت الكلمة الرسولية: «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ»(كورنثوس الثانية ٥: ١٨-١٩). ولعله من المفيد أن أذكر لك أن سحابة من الشهود تعد بالملايين صدقوا هذه الحقيقة وعاشوا في ظلها وحصلوا على السلام.

    وهناك حقيقة عرفت بالاختبار، وهي أن الخاطئ عندما يجد أن الخطية عوملت بعدل في ذبيحة المسيح البار، يكون أمامه أمران مهمان جداً، الأول كراهية الخطية، والثاني انتظار عقابها الصارم، إن لم يتب عنها ويقبل خلاص الله المقدم له بالنعمة.

  2. أما عن قولك إن ذبح الحيوانات لا يسر الله الرؤوف، فالواضح في كتب الله، أن ذبح الحيوانات والطيور لطعام الإنسان محلل. وهل فاتك أن ملايين من هذه تذبح كل يوم؟ وهل فاتك أن حيوانات كثيرة تذهب كل يوم طعاماً للكواسر، وفقاً لنواميس الطبيعة التي أعدها الله.
  3. أما عن اعتبارك أن آية العهد القديم لا يمكن أن تكون أمراً إلهياً، فاعتبارك لا قيمة له، لأن العهد الجديد قد صادق على هذه الآية واقتبسها في الرسالة إلى العبرانيين ٩: ٢٢. وأيضاً رجل الله يوحنا المعمدان، الذي هو حلقة الاتصال بين العهدين، حين رأى يسوع مقبلاً إليه قال مسوقاً بالروح القدس: «هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (الإنجيل بحسب يوحنا ١: ٢٩)، والحمل هو الخروف البريء الذي ذبحه الأقدمون، وتنبأ الأنبياء عن الشخص الذي يرمز إليه. وأيضاً يوحنا الرائي الملهم، نقل إلينا شهادة من السماء أن المفديين قد غلبوا الشيطان بدم الخروف وكلمة شهادتهم (رؤيا ١٢: ١١).

السؤال الثالث: هل قضاء الله ينافي حرية إرادة الإنسان ومسؤوليته؟

ن.ف.ف. الاسكندرية - مصر

كلا، فقد جاء في إقرار الإيمان الوستمنستري في هذا الشأن أن الله «قضى بكل ما يحدث قضاء اختيارياً لا يتغير، إلا أنه لم يصر الله بذلك منشئ الخطية ولم تغتصب إرادة خلائقه، ولم تنزع حرية الأسباب الثانوية، ولا إمكان حدوثها. بل بالحري تثبت» (فصل ٣ رقم ١). والحق أنه يضاد العقل السليم أن الله قضى بالويل على أحد لأجل عمل قام به وهو غير مخير فيه. لأن ذلك لا يليق بعدله تعالى.

ولما كان الله قد قضى أن تكون أعمال البشر اختيارية، أي تنشأ عن إرادتهم الحرة، كان قضاؤه، يثبت حرية الإرادة، ويؤكد أن المخلوقات العاقلة حرة ومختارة.

صحيح أن أعمال ربنا يسوع المسيح، كان مؤكداً قبل مجيئه أنها تكون مقدسة وطاهرة، ومع ذلك كان مختاراً في عملها. وأنه لبديهي أن التائبين يؤمنون ويثبتون في القداسة، ومع ذلك لا يزالون ذوي اختيار في أعمالهم. إذاً لا منافاة بين قضاء الله واختيار الإنسان. وبعبارة أخرى، إن كان قضاء الله يعم كل الأمور، إلا أنه لا يجبر خلائقه ولا ينزع اختيارهم البتة.

إن الذين اعترضوا على اعتقاد فاسد في ماهية الحرية وشروطها غير مقدرين عمل العقل الذي يعرف ويدرك بواسطة الحس قيمة الأشياء ويشعر برغبة في أمر ما، لأنه يراه حسناً ولذيذاً. أو يأنفه لأنه يراه قبيحاً مؤلماً. وبواسطة الضمير يحكم الإنسان بالوجوب، أو بالجواز، أو بالمنع، ولكنه يختار بالإرادة وحدها.

ومما لا ريب فيه أن الإرادة هي القوة التي بها يعمل الإنسان بموجب أحكام عقله وأشواق قلبه وحث ضميره. وهي في ذات الوقت خادمة مع القوى الأخرى، لإتمام مقاصد الإنسان وأمياله. غير أن هذه الخدمة اختيارية، قد تختار الخير وقد تختار الشر.

مما تقدم يمكننا القول أن الإنسان فاعل مختار، لأنه قادر على إنشاء الأفعال بنفسه. صحيح أنه في أحيان يضطر إلى عمل ما لا يرغب فيه، لخوف أو لحيرة. إلا أنه يستطيع الرفض. وهناك حقيقة جديرة بالملاحظة، وهي أن الله وهب الإنسان عقلاً، لأجل البحث في المسائل وإدارك حقائقها. وأعطاه ضميراً لينظر إلى الأمور الأدبية، ويميز بين الخير والشر. وذلك لتكون رغائبه موافقة للعقل ومن باب الصواب.

وخلاصة القول أن الإنسان يقدم على أعماله بدون حاجز أو معارض من خارج يجبره بخلاف ما يريد. صحيح أن الإنسان بعد السقوط صار نزاعاً إلى عمل الشر، ولكنه لم يفقد الميل إلى الصلاح. ويمكنه بقبول ما أعده الله له من وسائل النعمة المخلصة، أن يتحرر من نزعة الشر. ولكنه مع ذلك، يبقى ذلك الكائن الحر يعمل بحسب أمياله الغالبة.

السؤال الرابع: هل تؤمن المسيحية بالقضاء والقدر؟

ج.ع. السودان

يعتقد بعض الناس أن الإنسان لا يملك شيئاً من أمره، وإنما هو كائن يسيره القضاء والقدر. مثله كخروف مندفع في قطيع شرود، لا يملك أن يتوقف. هذا الاعتقاد خاص بفرق دينية، لا تمت للمسيحية بصلة. ويقول أصحاب هذا المذهب: لا يصيبنا خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدر علينا مكتوب عند الله. وكونه مكتوباً عند الله، يدل على كونه معلوماً عند الله، مقضياً به عند الله. فإن ما سواء ممكن، والممكن لا يترجح إلا بترجيح الواجب، والممكنات بأسرها منتهية إلى قضائه وقدره.

وقالوا أن الله لما كتب جميع الأحوال في سجله المحفوظ، فقد علمها وحكم بها. فلو وقع الأمر بخلافها، لزم انقلاب العلم جهلاً، والحكم بالصدق كذباً، وكل ذلك محال.

وقالوا أن القضاء والقدر يتناولان مصائب الأنفس. فيدخل فيها كفر الناس ومعاصيهم. وبما أنها مكتوبة في السجل المحفوظ، ومثبتة في علم الله، فكان الامتناع من تلك الأعمال محالا. لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها، والجمع بين المتنافيين محال. فلما حصل العلم بوجودها، وهذا العلم ممتنع الزوال، كان الجمع بين عدمها وبين علم الله بوجودها محالا؟

وقالوا أن الذي كتب عليه الكفر، لا يمكن أن يؤمن ولو أنذر. لأنه لو صدر منه الإيمان، لزم انقلاب خبر الصدق كذباً. والكذب عند الخصم قبيح، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما محالان على الله، والمنفي إلى المحال محال. فصدور الإيمان ممن كتب عليه الكفر محال، والتكليف به التكليف بالمحال.

وقالوا أن كل أعمال الإنسان تجري بقدر محتوم، حتى في مسألة الدينونة والغفران. فهم يقولون أن كل المسائل موقوفة على سلطة الله وإرادته. أما البشر فلا يمكنهم أن يعملوا فيها شيئاً، بل عليهم فقط الإذعان والخضوع.

ويدعي أصحاب هذا المذهب أن بعض الناس مقدر عليهم أن يكونوا صالحين، وان ينالوا الفردوس. وأن بعضهم كتب عليهم في سجل الله الأزلي أن يكونوا أشراراً، وتبعاً لذلك يعاقبون عقاباً أبدياً في جهنم النار وبئس المصير. ويؤكدون أن لا فائدة من محاولة هؤلاء التعساء لإصلاح حياتهم وترضي وجه الله.

فمصير البشر بحسب هذه العقيدة ليس مؤسساً على أي مبدأ من مبادئ العدل، وإنما متوقف على إرادة الله المطلقة.

ومع أن كثيرين من الناس يذهبون إلى ما يشبه هذا المذهب من وجوه كثيرة، إلا أن هذه الأفكار تخالف التعاليم المسيحية المدرجة في العهد الجديد كل المخالفة. وإنه لمن دواعي غبطتنا أننا لا ندين بإله مستبد متقلب يقضي بالرحمة لفئة من الناس، وبالقهر لفئة أخرى. بل نعبد إلهاً طبيعته وصفاته العدالة الكاملة والمحبة الكاملة. وهذا الإله لا يليق بقداسته الفائقة، أن يقدر على أحد أن يخطئ، ثم يعاقبه على فعل ما كان لا بد منه!

إن الله القدوس العادل المحب، لا يحرك الإرادة البشرية. لأن كل ما يتحرك من خارج، فإنه بقسر الإنسان، وحاشا لله أن يقسر الإنسان. والحق لو كان الله هو الذي يحرك إرادة الإنسان، لما استحق أحدا ثواباً أو عقاباً على الأفعال التي يجريها.

حين نتأمل في كلام الله، ترى أنه أعطانا شخصية حرة وإرادة مخيرة، حتى أصبحنا مسؤولين عن تصرفاتنا إذا أخطأنا. وهو سبحانه زودنا بكل الإمكانيات لمقاومة التجارب، والعيش منتصرين على الشر، بحيث نستطيع أن نقول للخطية: لا!

وفي تعبير آخر أقول: أن الله الذي خلق الإنسان على صورته كشبهه، حراً، ذا عقل وإرادة، لا يمكن أن يجبره أو يغتصبه شخصيته الحرة، أو يسلبه إرادته المخيرة، التي هي من أعظم هباته لبني البشر. ومن جهة الدينونة وجهنم، يخبرنا الكتاب العزيز أن الله «لا يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (رسالة بطرس الثانية ٣: ٩). ولنا من الله نفسه هذا الإعلان المبهج:«حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لا أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال ٣٣: ١١). «اِلْتَفِتُوا إِلَيَّ وَٱخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي ٱلأَرْضِ لأَنِّي أَنَا ٱللّٰهُ وَلَيْسَ آخَرَ»(أشعياء ٤٥: ٢٢).

السؤال الخامس: ماذا تظنون في إبليس أو الشيطان؟ هل هو مجرد قوة نفسية، أم روح مستقل يقدر أن يؤثر في الخلائق البشرية؟ وهل الأرواح الشريرة المذكورة في الكتاب المقدس تختلف عن الشيطان وإبليس المذكور في القرآن؟ هل الروح الشرير هو الذي يسميه المصريون زارا؟

م.ب. القاهرة – مصر

الشيطان كائن حقيقي، وهو رئيس رتبة من الأرواح النجسة (الإنجيل بحسب متى ١٢: ٢٤). ويسجل لنا الكتاب المقدس طبيعته وصفاته وحالته وكيفية اشتغاله وأعماله ومقاصده. أما طبيعته فهي روحية. وهو ملاك سقط بسبب الكبرياء. وهو خبيث قائد العصاة على الله، يعمل ضد البر والقداسة، ومملوء بالكبرياء والمكر والقساوة. حالته تنطبق على صفاته. فلكونه تمرد على الله، طرده الله من وجهه إلى عالم الظلمة، غير أن طرده لا يمنع اشتغاله في الأرض، كعدو الإنسان اللدود. وفكره مستغل على الدوال بالأعمال التي مآلها قلب مقاصد الله وأعماله.

أما أعماله بين الناس منذ البدء، فهي الغدر والمخاصمة والكيد. وهو بشخصه، أو بواسطة ملائكته، يجرب الناس للخطية، أو يصدهم عن القداسة، ويعرضهم للشقاوة الحالية والمستقبلة (الإنجيل بحسب متى ٤: ١-١١، يوحنا ٨: ٤٤).

أما أعوانه في التجارب التي يضعها في سبيل الناس، فهم عصبة الأرواح الساقطة، الذين اشتركوا في العصيان الأول. ويعملون معه للإضرار بأولاد الله الأبرياء (أفسس ٦: ١١).

أما كيفية الإيقاع بالناس وجذبهم إلى الخطية وتجربتهم، فهي مزدوجة: طريق الغش، وطريق الاحتيال. فالشيطان يتقلد مظهر ملاك نور أحياناً (كورنثوس الثانية ١١: ١٤)، وأحياناً أخرى مظهر التنين المخيف. كما أنه يعمل دائماً لمنع الناس عن فعل الخير (الإنجيل بحسب مرقس ٤: ١٥)، وذلك بصرف نظرهم عن إتمام المقاصد الخيرة.

وقد أطلقت كلمة شياطين على الأرواح الشريرة (الإنجيل بحسب مرقس ١: ٣٤) فاعتقد اليهود كغيرهم من الشعوب السامية بوجود هذه الخلائق، وبأنها تقدر أن تؤثر تأثيراً شريراً على الإنسان.

والفكر الذي ساد في زمن العهد الجديد، ان هذه الأرواح الشريرة كانت تحوم حول العالم خاضعة لرئيسها الشيطان. وذكر أنها كانت تدخل الناس والبهائم فتحدث فيهم أعراض الجنون والصرع. وقد صرح المسيح بأن هذه الأعراض أحياناً ما تكون من نتيجة الشيطان (الإنجيل بحسب متى ١٢: ٢٤-٢٨). وذكر في الإنجيل أن تلك الأرواح كانت تخرج من الناس عنوة بفعل قوة فائقة لها سلطان على طرد هذه الأرواح وإقصائها عن الإنسان.

وفي الوقائع التي ذكر فيها أن يسوع طرد هذه الأرواح الشريرة نلاحظ أمرين: الأول أنه استخدم قوته الشخصية ضد قوة الروح الشرير. والثاني أنه لم يكن بد من الإيمان من جانب الشخص المصاب أو أبويه، الإيمان بأن يسوع قادر على إبراء المصاب. وبدون هذا الإيمان أبى يسوع أن يخرج الأرواح الشريرة.

ويجب أن لا ننسى أن المسيح جاء لكي ينقض أعمال إبليس (رسالة يوحنا الأولى ٣: ٨). أما نهاية الشيطان فإنه سيقبض عليه، ويقيد بالسلسلة ويطرح في الهاوية، ويختم عليه لكي لا يضل الأمم في ما بعد. وفي النهاية يطرح في بحيرة النار والكبريت، ويعذب نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين (رؤيا ٢٠: ١ و٢ و١٠).

كذلك نجد في الإسلام ذكراً للشياطين والجن كأنها مخلوقات لها ذاتية مستقلة. وهي مخلوقات حية أرفع من الإنسان، بدليل قول القرآن: الرحمن... خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار (سورة الرحمن ١٥). ويقول القرآن أن هذا كان سبباً لافتخار الشيطان على الإنسان إذ يقول: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين. قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (سورة الأعراف ١٠-١١). ويعتقد المسلمون أن للشيطان تأثير على الناس بدليل قول القرآن: قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس، من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس (سورة الناس). ويعتقدون أيضاً أن الجن والشياطين تسكن في القلب وتتسلط عليه. وكلمة الزار، التي ربما انتقلت إلى بلاد العرب من الحبشة، تدل على أن هذه الأرواح الشريرة، تقدر على تملك الإنسان. حتى أن كل لون من ألوان الجنون، ينسب إلى شيطان أو جن. ومن هنا جاءت كلمة مجنون. ويظن كثيرون أن هذه الأرواح الشريرة، يمكن مراودتها وأقصاؤها بالرقى والتعاويذ، أو بالحجائب والتمائم، أو بتكرار آيات من القرآن.

وللإمام الغزالي بحوث مطولة عن فعل هذه الأرواح الشريرة. كما يتحدث العلامة المؤرخ ابن خلدون عن كائنات شيطانية تلح على الأنفس لكي تقترن بها. فتتأثر الطبيعة البشرية لضعفها بهذا الإلحاح وتخضع للروح الشريرة، فتضطرب وتتلوى وتتشنج، ويفقد الإنسان المسكين كل سلطان على حواسه ويمسي مجنوناً.

وبعد هذا، فلا بد من القول أخيراً أن العالم الروحي، ما يزال سراً غامضاً لم يقدر الإنسان حتى اليوم على سبر أغواره.


Call of Hope  P.O.Box 10 08 27
D-70007
Stuttgart
Germany
 

 للاتصال بنا

:
:

الصفحة الرئيسية