فترة التكوين في حياة الصادق الأمين

خليل عبد الكريم

شخصيات أثرت في حياة محمد

موجبات الاختيار المعجزات التي لازمت محمد قبل وبعد ميلاده وأثناء حياته

نقد المعجزة

: هناك زمانان للمعجزة يتعين التفرقة بينهما

أطوار التجربة الكبرى

: من الثابت مما جمعنا

في وسط جزيرة العرب وغربها وبالأخص في منطقة الحجاز وقبيل الثلث الأخير من القرن السادس الميلادي ، كانت كافة الظروف تستدعي القادم الجديد وتلح في طلبه وتستعجله

أما عن الجانب الثيولوجي فنكتفي بتسطير ما أورده ابن هشام في السيرة النبوية بشأنه

قال ابن اسحق: وكانت الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول الله قبل مبعثه لما تقارب زمانه، أما الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى فعما وجدوا في كتبهم من وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه، وأما الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أموره لا تلقي العرب لذلك فيه وبالاً حتى بعثه الله تعالى ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها

شخصيات أثرت في حياة محمد

وكانت آنذاك في قرية القداسة – مكة – فئة مع قدر معلوم من التجاوز يمكن أن نطلق عليها الأنتلجنتسيا هي أكثر أهلها تشبعاً بفكرة القادم الجديد أو النبي المنتظر وأشدها تشوقاً إلى ظهوره

ومن بين تلك الفئة السيدة خديجة بنت خويلد التي تجيد القراءة والكتابة، وهي من رهط أسد بن عبد العزى ( من قريش ) الذي ظهرت فيه النصرانية وتعمق في دراستها بعض بنيه حتى وصلوا إلى رتب منيفة فيها مثل ورقة بن نوفل ( القس ) وعثمان بن الحويرث -البطرك - وقتيلة أو أم قتال أو فاطمة أخت ورقة بن نوفل ( الكاهنة ) وهي واحدة من المرأتين اللتين عرضتا على أبي محمد عبد الله بن عبد المطلب وهو في طريقه مع أبيه كيما ينكح آمنة بنت وهب الزهرية بأن يفاخذ كلا منهما بعد أن رأتا نور النبوة بين عينيه وله مائة من الإبل لا عن ريبة أو عهورة فيهما ولكن عن عفة بقصد أن تفوز إحداهما بنور النبوة وتغدو أم القادم المنتظر

والثلاثة هم أبناء عمومة خديجة وارتفعت العلاقة بينهم خاصة القس والكاهنة وبينها إلى مستوى الحميمية المقرونة بالاختلاط

بيد أن الذي لا ريب فيه ولا يختلف بشأنه اثنان أن خديجة امتزت على الثلاثة الآخرين بخصال وملكات نفسية افتقروا إليها يأتي في مقدمها استشراف المستقبل والفراسة التي لا تخيب وموهبة الإلهام الصادقة وغريزة اختيار النبي والرهان عليه، والصبر الذي لا مثيل له للوصول إلى الهدف وتحقيق الغاية والحصول على المنية

فالطاهرة من دونهم لم تنتظر القادم الجديد فحسب، بل فلت مجتمع مكة وخاصة شبابه ودققت النظر في قوادمه وخوافيه ولم تتعجل أو تتسرع وصبرت سنوات طويلة قاربت الربع قرن حتى اهتدت إليه: إلى القادم الجديد وبمعنى أدق إلى من يصلح لذلك

وهنا ضربت عرض الحائط بالتقاليد الرواسخ رسوخ الجبال بل حطمتها فقدمت نفسها إليه ومدت هي يدها إليه ولم تعبأ بفارق السن والمال حتى إذا تشيأ الحلم على الأرض وتحول إلى واقع انتقلت من مرحلة الفرز والاختبار إلى مرحلة الإعداد والشحن والإمداد والتعبئة والتهيئة

لقد ورثت خديجة حب العرب ومكة وقريش من أبيها فرحبت واعتنقت فكرة أن يصير القادم من العرب وللعرب فكما أن لليهود نبيهم وللنصارى نبيهم فمن اللازم أن يغدو للعرب واحد مثلهما ويحمل بيده كتاباً كما قدم موسى لأتباعه كتاباً وطرح عيسى على حواريه ومن بعدهم كتاباً

وقد استغرقت تلك المرحلة من عمرها 15 عام قدمت فيها تضحيات جسيمة من المال والنفس والبدن حتى أثمرت الشجرة وآن لخديجة أن تعلن لأهل مكة: هاكم القادم الجديد الذي طال انتظاركم له وشوقكم إليه

خديجة بعدما ترامى إلى مسامعها هذا الكم الوفير مما حدث لأم محمد من أعاجيب أثناء حملها بسيد الخلق وعند وضعها إياه ربطت ذلك كله بما حدث لأبيه عبد الله وقالت مع القائلين وعلى رأسهم الجد عبد المطلب والأم آمنة بنت وهب إن لهذا المولد شأناً. وظلت عاماً بعد عام تتلقى أخبار أعاجيب محمد ومعجزاته البواهر حتى أيقنت أنه هو : الموعود المنتظر الذي طال شوق الناس وحنينهم إليه

أما ورقة بن نوفل أو القس فلم يكن دوره هامشياً أو جانبياً كما يتبادر إلى الذهن، صحيح أن ابنة عمه قد استعملته كأحد العوامل الفاعلة في تحقيق الهدف الذي ابتغته بيد أن ذلك لا يعني أنه كان ألعوبة في يدها إذ من المستحيل تصور ذلك لأنه هو الأستاذ والمرشد والمستشار والمرجعية وكان بجوارها خطوة وراء خطوة ومرحلة إثر مرحلة

كان ورقة بن نوفل واحداً من أهم الشخصيات في تيار الحنيفية الذين رفضوا التعددية الإلهية وآمنوا بالتوحيد أو بوحدانية الله بيد أنه اختار النصرانية وقرأ التوراة والإنجيل وتبحر في علوم الكتاب ولم يكتف بذلك بل خطا خطوة فذة وهو تعلم اللغة العبرية أو اللسان العبري مما أتاح له نقل أجزاء عديدة من التوراة والإنجيل الأمر الذي أتاح لمن يقرءون ويكتبون قراءتها واستظهارها. ولا شك أن الذاكرة الحافظة كانت لدى أفراد ذلك المجتمع قوية أشد ما تكون القوة . وقد طالعنا في ذلك أخبار معجبة فعبد الله بن عباس ابن عبد المطلب كان يحفظ القصيدة الطويلة بعدما تلقى عليه مرة واحدة. ومالنا نذهب بعيداً فالمسلمون الأوائل حفظوا سور القرآن وآياته بعد سماعها من محمد على الفور

وخديجة هي ابنة عم ورقة بن نوفل وعلى صلة وثقى به وهناك اختلاط وزيارات متبادلة وكانت تقرأ وتكتب فهي من باب اليقين قد استوعبت تلك الأسفار التي نقلها القس من العبرانية |إلى العربية من التوراة والإنجيل وحفظتها واختزنتها في ذاكرتها، تلك كانت واحدة

أما الأخرى ففي ليالي مكة الطويلة فإن عقد جلسات ممتدة يشكل ورقة أحد أطرافها أمر محتوم وفيها كان يطرح ما ورد بالتوراة من أخبار وقصص ونوازل بداية بالخلق والتكوين وآدم وحواء والشيطان والشجرة والحية ومروراً بقصص أنبياء بني إسرائيل وفي مقدمتهم قصة موسى ثم حكاية فرعون وبني إسرائيل وما جاء بالإنجيل عن عيسى وولادته الفريدة ومعجزاته المدهشة ونحن نرجح أن تلك الجلسات الطويلة كانت من أهم مكونات فترة التأسيس وأنها أفادت فوائد لا تقدر بعد إعلان نجاح التجربة

إن خديجة هي التي سعت للزواج من محمد وروايات هذا السعي الحثيث متعددة واختلف البحاث في البواعث اختلافاً كثيراً

إن زواج خديجة من محمد أثار في حينه دهشة جميع المحيطين بهما ومن بينهم خاصة أهلها، أبيها في مذهب من قال إنه كان حياً وقت إتمام عقدة النكاح وعمها عمرو بن أسد الذي أنجز العقد وكان ولي خديجة فيه. بل إن الدهش لحق بني هاشم وبني عبد المطلب لدرجة أن أبا طالب فرح فرحاً طاغياً لأنه لم يتوقعه. فخديجة سيدة قريش ذات مكانة اجتماعية سامية وتاجرة ناجحة تملك المال الوفير بكافة أنواعه: النقد والعروض والعبدان والإماء والعقارات ووصفها الوصافون بالجمال والوضاءة وتقدم لخطبتها العديد من وجوه قريش وأعيانها أصحاب الحسب والنسب الأغنياء وقدموا لها الأموال الطائلة كمهر ولكنها صدتهم فرجعوا خائبين. وفي الطرف المقابل محمد فقير مملق لا يملك شيئاً يرعى الغنم وهي عمالة لا تليق به فهو من بني هاشم أحد أفخاذ قريش السوامق

وليست خديجة فتاة طائشة ذات غفلة أو شابة مأفونة قليلة التجربة وتعوزها الخبرة بل هي سيدة عاقلة لبيبة حاذقة في طور الكهولة عركتها الحياة وأنضجت رأيها، وقد تزوجت مرتين فأنجبت البنين والبنات. اختلفت الروايات في عمرها فمن قال 40 ومن أخبر أنها 43 أو 45. فكيف تقبل أن تنكح شاباً في سن أولادها عمره 21 أو 23ر أو 25. وقد ضربت بالتقاليد والأعراف المتمكنة من النفوس والغائرة في أعماق حنايا المجتمع عرض الحائط وأهمها

1. أنها نكحت شاباً في سن ولدها وربما أصغر غير عابئة بأي نقد أو تجريح

2. أنها قدمت إليه نفسها سواء بنفسها أو بإيفاد مرسال تقول أنني رغبت في الاقتران بك وإنني ذللت كل العقبات وسهلت كل الصعاب وأزلت كل الحواجز ورفعت كل الموانع من طريقك وليس عليك إلا أن تحضر وعمومتك فستجدون كل شيء معداً حتى الجواري والرواقص في الفرح

لقد ساقت خديجة العديد من الأشخاص فيهم ذكور وإناث، أحرار وعبدان وموالي وأقارب وأباعد ومنهم من كلمه وألح عليه عدة مرات. حتى أنها استعانت بكاهنة قريش في ذلك ، حيث أن خديجة أحست أنها في أزمة، كما أن من يمارسون الكهانة لديهم من اللباقة والفصاحة والقدرة على التفهيم والإقناع ما ليس عند غيرهم كما أن الكاهنة كانت تتمتع في قبيلتها بقدر من المكانة الاجتماعية وتحظى باحترام

بعد أن حظيت سيدة نساء قريش بأمل حياتها ونعني به شرف موافقة محمد على أن تنكحه، خاضت معركة أخرى لا تقل شراسة وهي رضاء وليها في عقد الزواج - أبيها في رواية وعمها في رواية أخرى

فقد رفضت من قبل كل من تقدم لها من سادة قريش حسباً ونسباً وثروة . فكيف إذن تقبل أن تباعل يتيم قريش راعي الغنم الفقير. وفي الخبر أن الطاهرة سقت خويلد والدها خمراً حتى سكر وطيبته بطيب وخلعت عليه حلة، وفي حالة سكره البين وافق على الزواج فلما أفاق تساءل عن كل شيء: البقرة المذبوحة الطيب الفائح والحلة الغالية فسارعت خديجة وأخبرته بأنه زوجها من محمد فأنكر ذلك واستنكر وأتى ببرهانه وهو رفضها العلية من قريش فكيف يباعلها محمد

على أثر أن فلجت أم هند في نكاح محمد بعد أن بذلت في ذلك جهود مختلفة طفقت على الفور تنظر إليه وتعامله معاملة الأم الحنون لابنها الفرد الذي رزقت به

لقد اختارت الزوج الابن لكي تتلقى منه الحب والمطاوعة معاً وتسهل من ثم عملية تشكيله وإعداده فيقيض للتجربة الفوز المبين وذاك ما حدث. إن القدامى أدركوا حقيقة العلاقة بين محمد وبين خديجة إذ لم يخف عليهم شعور البنوة الذي أبداه محمد نحوها وعاطفة الأمومة الفياضة بالحنو التي سكبتها عليه

وفي بدئ التجربة –وقد عدت ذلك من بشائر نجاحها –ما إن يلقى محمد ملاك الرب جبريل فتتلقاه بين ذراعيها وتأخذه في أحضانها وتهدهده وتطمئن فؤاده وهي تفعل ذلك كما الوالدة على ولدها. ومن جانب آخر كيما تثبته حتى لا يتوقف فتفسد التجربة بأسرها ( تلك التي بدأتها مع محمد من 20 عام ) وتذهب هباءاً منثوراً أدراج الرياح كل الجهود التي بذلتها

صعق محمد لموت خديجة حتى أنه سمى عام وفاتها ( عام الحزن ) خاصة وأن فيه توفى عمه أبو طالب حاميه وكافله . ويذكرنا حزنه الدفين عليها بحزنه الشديد عند موت القس ورقة الذي اقترن به فتور الوحي أو انقطاعه لدرجة أنه هم مرات عديدة أن يلقي بنفسه من رؤوس شواهق الجبال لولا أن كما حدثنا في آخر لحظة يظهر له ملاك الرب جبرائيل فيثنيه عن عزمه. كان الأسى المرير على فقد خديجة أمر بديهي لأنها الأم الرؤوم والوالدة الحنون والزوجة الحبية التي آزرته وعضدته ولولاها لما أكمل التجربة حتى نهايتها وهي التي فتحت له خزائنها يغرف منها كيفما يشاء والتي وصفت بين يديه كل ما تملك ودفعت عن كاهله هم الرزق وخوف الخلق وفرغته كيما يجتاز المراحل مرحلة مرحلة . وهي التي أتاحت له التماس بالقس ورقة وغيره مثل عداس وبحيري وقضاء الليالي الطوال مع ابن نوفل في المدارسة والمذاكرة والمحاورة. أو تقرأ له وهو الأمي بشهادة القرآن الصحف التي قام القس بنقلها إلى اللسان العربي. لقد تفرغ أو بمعنى أصح فرغته الطاهرة للتجربة، ففي النهار يمشي في الأسواق يقابل ويحادث ويحاور أصحاب مختلف العقائد والملل والنحل الذين ماجت آنذاك بهم قرية القداسة من يهود ونصارى وأحناف وصابئة ومجوس وغنوصية وكانوا يقصدونها لأغراض متباينة : الموعظة ، الدعوة ، التجارة ، الجاسوسية ، الحج إلى البيت الحرام ، ولا يفوته حضور الأسواق التي تنصب أو تقام في مواعيد معروفة مثل عكاظ ومجنة وذي مجاز ويسمع خطبهم ومحاوراتهم وأشعارهم فيها. أما بالمساء وفي ليل مكة الطويل شتاءاً فمع الطاهرة بمفرهما أحياناً وبحضور القس أحياناً أخرى تتم في تلك القعدات

مذاكرة الإصحاحات التي نقلها ورقة من اللسان العبراني إلى اللسان العربي إما بتلقيها منه مباشرة ثم إدارة الحوار بشأنها وإما بتلقيها من خديجة التي لا شك أنها أجادت القراءة والكتابة وقرأت تلك الإصحاحات وخزنتها في ذاكرتها أو أنها طفقت تقرأها له مباشرة

1. أما ما لم يقم بتعريبه فإنه يترجمه مباشرة دون كتابته ويتولى شرحه وإيضاحه

مدارسة المسائل التيولوجية التي تعتبر من القواعد الأساسية في كافة العقائد كالتي تتعلق بالألوهية والخلق وصلة المتعالي بالأرضي والكائنات غير المنظورة مثل الملائكة والجن والخلود والتكوين والكائنات

التحدث في شأن النبوة والأنبياء والوحي ووسائطه

العقاب والثواب والجنة والنار والموت والبعث والنشور والسراط والميزان

المقارنة بين كافة الملل والنحل والديانات التي ماجت آنذاك بها قرية القداسة وهي اليهودية، النصرانية، المجوسية ، الصابئة ، واستعراض عقائدها وشعائرها

وكل هذا يجري تخزينه وبرمجته في ذاكرة العبقري خاصة وقد آمنا أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب والأمي –أي أمي – يتمتع بذاكرة حديدية وحافظة واعية أشد الوعي

فمنذ فجر التجربة أدركت خديجة ببصيرتها النافذة وعقلها الراجح أن احترافه التجارة بما يتطلبه من سفر وعقد صفقات ورسوم ومقابلات سيستنزف وقته وجهده بالكامل ولا يدع له فسحة من الوقت. في حين أن التجربة تحتم ضرورة التفرغ الكامل لها. كذلك فإن التجربة علاوة على ما ذكرنا لها جانب شديد الأهمية بالغ الخطر وهو الانعزال عن الناس لفترة معينة في كل عام للتحنف والخلوة والتبرر وهذه كلها تمثل الجانب الروحي وإعداد النفس والجسم معاً لتلقي الرؤى والهواتف واستقبال الكائنات العلوية غير المنظورة للناس العاديين والحديث معها. وتراث أهل الكتاب ومرويات غيرهم من سائر الملل والديانات الأخرى مليئة بأمور مماثلة أو حتى مشابهة

إذن خديجة من الذؤابة العليا من قريش ومن رهط بني أسد ومن ثم فهي من النخبة التي اتصلت مثل غيرها من طبقتها بأحبار اليهود ورهبان النصارى الذين فتئوا يتحدثون عن القادم المنتظر وأن ذلك كله مسطور في كتبهم المقدسة حتى أوصافه الخلقية مذكورة فيها وأنهم لمسوا آيات وعلامات تقطع بأن زمانه قد أظل وبديهي أنها لم تقف عند ذلك لهذا أخذت تتدارس هذا الأمر مع جهابذة العلم الديني في منطقة الحجاز عامة وقرية التقديس مكة خاصة وعلى رأسهم بحيرا الراهب وعداس الراهب

كما أقدمت خديجة على شراء العبدان النصارى وتشغيلهم في أعمالها عيوناً على رجالها

فكان العبدان النصارى في بيت خديجة هم أفراد الحلقة الكتابية الداخلية التي أحاطت بها - وكان ميسرة عبد نصراني على علاقة حميمة بالراهب نسطورس

وهناك أخرى مماثلة خارجية اتصلت بها وهم

1. ورقة بن نوفل

عداس وكان مملوك وكان راهباً

2. سرجيوس وكان راهباً زنديقاً منفياً ذهبت له خديجة بعد أن ارتجف محمد بعد ظهور جبريل أول مرة

بحيرا الراهب ونرجح أنه شماس أو مقدم إبرشية الحجاز واختلفت المصادر في اسمه، فبعضها سماه بحيرا والآخر نسطورا أو سركيس

وقد وصلوا جميعاً إلى درجة رفيعة من العلم بالكتاب

كانت خديجة من النفر القليل الذين نبذوا عبادة الأصنام واقتنعوا بأنها باطلة فضلاً عن عدم معقوليتها

وقد انتشرت النصرانية في أجواء مكة لعدة أسباب منها

1. هناك من حاول نشر الثقافة النصرانية في مكة منهم عثمان بن الحويرث أحد بني أسد

موقع مكة الخطير على ملتقى القوافل الذاهبة إلى كل اتجاه ومن ثم فإن أعين الفرس والروم لم تغفل عنها فوجد فيها جواسيس وتجار روم وهؤلاء حاولوا نشر ثقافتهم النصرانية

الخصام الذي استحكم بين فرق النصارى وضيق الخناق على الأبيونيين واليهود المتنصرين والنصارى الموحدين فلم يجدوا مناصاً من النزوح وشطر منهم رحل إلى الحجاز ومن طبائع الأمور أن هؤلاء لا يظلون ساكتين بل طفقوا ينشرون ثقافتهم النصرانية من خلال الأسواق التي تقام بمناسبة الحج في أماكن قريبة من مكة، ومنهم من اتخذ مهنة الطب وسيلة لجذب أهل مكة وما حولها لثقافته خاصة وأن عرب ما قبل الإسلام علمهم بالطب معدوم وكل ما لديهم من معارف محدودة استقوها من التجارب

2. التسري بالإماء الروميات واليونانيات النصرانيات ووجد منهن عدد وفير في مكة والطائف وأقبل على اقتنائهن أثرياء مكة

وجود أعداد كبيرة من العبدان النصارى في بيوت أثرياء مكة. ولا شك أنه دارت حوارات بينهم وبين سادتهم

3. صلابة الجالية النصرانية في مكة بل في الحجاز عامة ومنهم من ربطته صلة حميمة بالسادة الغطاريف

لم يعد من المستغرب إذن أن ما يمثل رمزي النصرانية: مريم وولدها عيسى ظل قائماً في الكعبة وأن هذا الرمز قد عومل معاملة خاصة من محمد فقد أمر بمحو كافة صور الأنبياء بما فيهم ابراهيم أبو الأنبياء ومقدم البطاركة ما عدا صورة عيسى بن مريم وأمه بل إن تمثالها ظل قائماً طوال العهدين المحمدي والخليفي وشطراً من الخلافة الأموية

إن هناك من توسم في نفسه أن يغدو هو القادم المنتظر مثل أمية بن أبي الصلت والقس ورقة بن نوفل، وأن الأخير عندما تيقن في نفسه أنه لا يصلح لافتقاره إلى الصفات الجوهرية اللازمة ( الشخصية الآسرة وموهبة الخطابة والتأثير في المخاطبين ) اقتنع بحسن اختيار الطاهرة وساهم معها في التجربة الفذة وهي صناعة القادم المبارك وأشرف على الخطوات أو المراحل التي تنقل فيها محمد حتى صار القادم المنتظر بكفاية يعز نظيرها . إنما لتقدمه في السن خشي أن يموت قبل أن يرى المعجزة تتحقق فطفق يستعجل خديجة ولكنها لحكمتها وسعة أفقها ورجاحة عقلها لم توافق على التسرع وتمسكت بحبال الصبر لأنها أدركت أن التجربة تحتاج زمناً حتى يقيض لها النجاح وهذا ما حدث بالفعل بصورة مذهلة

كما إن دواوين السيرة المحمدية وضعت في أيدينا معطى في منتهى الخطورة هو أن وفاة القس تزامنت مع انقطاع الوحي أو فتوره

موجبات الاختيار

خليل عبدالكريم

كانت خديجة نديدة لآمنة بنت وهب ( أم محمد ) وكانتا على صلة حميمة ولا غرابة فكلتاهما تؤوب إلى بطن سامق. وإذا صح ذلك وهو صحيح فإن عمر الطاهرة على أبعد الفروض بلغ 15 عام لأن الجارية في ذلك الزمان تتزوج ما بين 14 و15 عام وقد حملت آمنة فور التقائها بزوجها عبد الله بن عبد المطلب. كما أن كتاب السيرة المحمدية يجمعون على أن الفارق في العمر بين خديجة ومحمد 15 عام

ومع التسليم الجدلي أن الفرق هو 15 عام فمن يبلغها يدرك ويعي جميع ما يدور حوله فضلاً عن أن مكة قرية محدودة المساحة ضامرة الكثافة السكانية والمستوطنون فيها شبكتهم قرابة متينة وهم أميون ليس لديهم ما يشغلهم سوى لوك الكلام بين النسون أما بين الفحول ففي دار الندوة أو في المجالس بالمنازل وليس أكثر مدعاة للكلام من حوادث الميلاد والوفاة

المعجزات التي لازمت محمد قبل وبعد ميلاده وأثناء حياته

1. نذر عبد المطلب ذبح أحد أبنائه لو بلغوا 10 ووقعت القرعة على عبد الله فهم بذبحه لكنه افتداه بمائة من الإبل

2. هناك مرأتين هما قتيلة بنت نوفل وفاطمة بنت مر الخثعمية تعرضتا لعبد الله حتى يركبهما كيما ينتقل نور النبوة الذي في جبينه إليهما وتعطيانه 100 من الإبل ( مثل النذر ) لكنه امتنع

3. كان أبو طالب نائماً في الجحر بجوار الكعبة فجاءته رؤيا، فسرتها له كاهنة قريش على أن هناك رجل سوف يخرج من صلبه يملك الشرق والغرب ويدين له الناس

4. قالت كاهنة قريش ( سودة بنت زهرة ) وهي عمة وهب والد آمنة أم النبي أن في بناته نذيرة، فلما عرض بناته عليها أشارت إلى آمنة وأكدت أنها سوف تلد نذيراً له شأن وبرهان. وصلة رهط بني أسد بفرع بني زهرة وثيقة لأنهما من الذؤابة العليا من قريش

5. رأت سيدة من نساء قريش عبد الله ( أبو محمد ) فقالت إني أرى نوراً بين عينيه

6. بينما نساء مكة عكوف عند وثن لهن ( وقد اختلفوا في عيد كان لهم في رجب ، لم يتركوا شيئاً في إكبار ذلك العيد إلا أتينه ) مثل الوثن كرجل أو في هيئة رجل حتى صار قريباً منهن وبشرهن بنبي وإن استطاعت أي منهن أن تكون زوجة له فلتفعل. فأغلظن له النساء. وفي بعض الروايات أنه كان رجلاً يهودياً خديجة شهدت تلك الواقعة ولكنها لم تفعل ما فعلته القرشيات الأخريات من تقبيح اليهودي وتغليظ القول له لأن لديها مخزوناً من العجائب والمدهشات تمحورت حول محمد

7. كان تاجر يهودي بمكة قد تعود على مجالسة جحاجح من قريش وفي ليلة أنبأهم بمولود يصير هو المأمول وأعطاهم بعض علامات له

8. عندما رأى أسقف نجران النبي مع جده نظر إلى عينيه وقدميه فقال أن هذا هو النبي من ولد إسماعيل

9. راهب طبيب في ناحية عكاظ يبطئ في الاستجابة لنداء عبد المطلب ومعه محمد ( وقد أصابه رمد شديد ) فيتزلزل ديره ويوشك على الانهيار عليه. وما أن وقعت عينه على محمد حتى بشره أنه هو الذي ينتظره العرب

وهكذا ساهم أهل الكتاب وخاصة رهبان النصارى الذين استوطنوا الحجاز في ذاك الزمان في شد بصر وجلاء بصيرة خديجة إلى تحديد معالم المنتظر وملامحه وقسماته ولعبوا دوراً خطيراً في وقوع اختيارها على محمد لتباعله وتجعله موضوعاً للتجربة الفذة

10. لما حملت آمنة بمحمد خرج نور منها أضاءت له قصور بصرى. كما انها لم تشعر أثناء الحمل به بأي ثقل. أيضاً أتاها آتِ وهي بين النوم واليقظة أخبرها أنها حملت بسيد هذه الأرض ونبيها

11. النجوم دنت من البيت الذي ولدت فيه آمنة محمد حتى أن أم عثمان بن عفان خشيت أن تقع عليها

12. على غير العادة التي جرت مع الصبيان أو الذكور خرج من بطن أمه مختوناً ومسروراً - مقطوع السرة- تكلم محمد وهو رضيع وأول كلام له قال فيه: الله أكبر والله الحمد كثيراً

13. جاء ملاكين وهو عند حليمة مرضعة بني سعد فشقا صدره وأخرجا علقة سوداء من قلبه فنظفاه ثم أعاداه إليه

14. الإسراء والمعراج

لازمت المعجزات محمد طوال أطوار حياته حتى نكحته خديجة ولا يعني ذلك أنها توقفت عند المباعلة إنما المقصود استمرارها حتى تفطنت خديجة أنه هو المأمول المنتظر

إن توالي الخوارق يضاعف من لفت النظر وشدة الانتباه وهذا يصح سواء لدى خديجة أو سواها لأن المولود الذي تحدث له خارقة واحدة سرعان ما تنسى إذ يقال عنها أنها فلتة بعكس الذي تتعدد لديه وتتنوع فلا واحد له أن يدعي أنها محض مصادفة أو ضربة حظ ويتأكد أن صاحبها أو بطلها شخص له شأن أو خطر

نقد المعجزة

إن من يقبل معجزة واضحة الإعجاز ثم يأتي لأخرى أقرب منها قبولاً وأدنى تصديقاً ثم يرفضها أو يتجاهلها. فهذا هو التذبذب المقيت الذي تأباه قواعد البحث

أما نحن فقد رضينا بكلا النوعين من المعجزات : ما حمله القرآن وما ورد بكتب السنة والسيرة المحمدية لا من باب المعقولية ومدخل المنطقية ولكن من طريق اتفاق المعجزات مع المستوى الحضاري والثقافي والمعرفي والعلمي والإدراكي ومطابقتها لخصائص مجتمعهم وبيئتهم ووسطهم وتفكيرهم

من هذه المناظير تصبح صحيحة بل ونصدقهم ونفهم علة تصديقهم إياها وقبولهم ممن يتفوه بها. لماذا ؟

لأننا قسناها بمقاييسهم ونظرنا إليها بعيونهم وعايرناها بمعاييرهم

وكما أننا نصدق دون دهشة أو استغراب أن ذكورهم وإناثهم يخرجون من خيامهم بغير سراويل وأنهم يتداوون بالسنا والسنوت وشرطة محجم وشربة عسل والحبة السوداء. وأن الكسوف والخسوف عندهم من علامات غضب السماء ويتعين الدعاء لرفعهما وأنهم يعتقدون أن الأمطار من الممكن أن تهطل بمجرد ترديد بعض الأدعية وتحويل الرداء من جانب لآخر والدعاء للسماء وهو بهذه الهيئة وأن الرقى تشفي من عدد من الأمراض وأن النوازل التي صبت على فرد أو عشيرة هي نتيجة لعين حسودة شريرة وأنه يمكن إبطال فعلها وأن المرأة أو الدار أو الفرس قد تجيء منحوسة أو محظوظة

نقول كما نصدقها جميعها عنهم فبنفس القدر نتقبل منهم إيمانهم بالمعجزات وتأكيدهم هم بوقوعها فعلاً وأن الذي رأى منها شيئاً فقد عاينه حقيقة وعلى الطبيعة وهو عندنا غير متهم بكذب أو تلفيق أو اختراع

فهم أبعد الناس عنها ومن ثم فإن حكوهم عنها مليء بالدفء والحماس .. الناشئين عن التلقائية والعفوية والبساطة

وترتيباً على ذلك يحق لنا أن نضيف أنهم لو لم يقصوها علينا لبدا الأمر شديد الغرابة ظاهر الدهش بادي العجب إذ كيف لا يفرز ذاك المجتمع صاحب كل هذه الملامح والقسمات ذاك الجمع من الخوارق والأعاجيب لأنها من ألزم لزومه وأبسط موجباته ولو لم يطرحها لناقض طبائع أموره

 

: هناك زمانان للمعجزة يتعين التفرقة بينهما

الأول: هو زمن حدوثها وتلقيها من قبل من عاينها أو شهدها أو حضرها ونسميه الزمن المعاصر لها

الآخر: هو زمن من سمع بها أو قرأ عنها ونسميه الزمن اللاحق لها

ولكل منهما أحكامه على الحدث – وهما بالضرورة مختلفان – وكلما تباعدت المسافة بينهما تباين النظر إلى الحدث وبالتالي تقديره

فإذا جاء الزمان اللاحق بعد الزمان المعاصر بمائة سنة فإنه مقارب له إذ لازالت أصداؤه تتردد وربما يوجد من الأشخاص من قابل فرداً أو أكثر من الذين شاهدوه أو عاينوه ومن ثم يتلقاه منهم وهو لا زال فيه نبض وإثارة من حياة وبقايا من الانفعال به – هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فالظروف الاجتماعية والثقافية والمعرفية والفكرية .. تجمل بعض قسمات وملامح الزمن المعاصر لحدوث المعجزة

أما إذا تباعدت المسافة بين الزمنين – ألف سنة مثلاً فالأمر يختلف تماماً .. الحدث أصبح ذكرى فإن تسيدت في الزمن اللاحق الثقافة الشفهية ولم يعرف التدوين وجانب الكتابة، فإن صورة الحدث تغدو شاحبة وباهتة لا نقول أنها منبتة الصلة بينها وبين الصورة الأصلية للحدث إنما تشبهها من بعيد. وعندما تتغلب في الزمن اللاحق الثقافة الكتابية وسبقه تدوين الحدث فإن تم تعقبه بفترة معقولة فإن هيئة الحدث تحتفظ إلى حد كبير بملامحها وقسماتها مما يتيح الفرصة لتقييمها تقييماً قد لا يجيء دقيقاً تماماً بل قريب من الدقة

ونوع الثقافة هنا هو الذي حدد الفارق بين الصورتين

كذلك تباعد المسافة بين الزمانين – بغض النظر عن الثقافة المهيمنة يخلق هوة من الصعب وربما من المستحيل تجاوزها أو تخطيها بين أحوال مجتمع كل زمن من كافة الأقطار والنواحي والجوانب وهذا يساعد كثيراً على تسرب دواعي التوهين ودوافع الإضعاف للحدث بالنسبة للمعجزات التي لها خصوصية اعتقاديه وهو ما يفسر لنا قول الباحثين: هذا أمر تعجز عقولنا عن إدراكه إذ كيف تستطيع أفهامنا القاصرة استيعابه فنكل أمره إلى الله

 

إن التفرقة بين الزمنين في غاية الأهمية. لماذا ؟

لأن الخلط بينهما هو الذي يفرز البلبلة والتخليط اللذين وقع فيهما الغالبية العظمى من الباحثين بتجاهلها تماماً والإعراض عنها أو رفضها دون سند واضح إلا العقلانية الزائفة. ونعيد لفت النظر إلى أن ذلك تم بخصوص المعجزات التي حملتها الأحاديث الشريفة والسيرة التي هي غذاء الروح والوجدان

أما المعجزات التي جاءت بها آيات القرآن فهي معصومة من أدنى ذرة تشكيك أو ارتياب بجزاء عقوبة الردة وظلت هذه الحماية سارية المفعول منذ قرأها محمد على أتباعه حتى الآن أما ما يقرب من أربعة عشر قرناً وربع قرن

أطوار التجربة الكبرى

خليل عبد الكريم

كيف تحول محمد بن عبد الله بن عبد المطلب من فتى هاشمي قرشي إلى المنتظر أو المأمول أو القادم الذي تشوفت جزيرة العرب عامة ومنطقة الحجاز خاصة وتحديداً أو حصراً النخبة أو الإيليت إلى ظهور هلاله ؟

إن الفترة من نكاح خديجة محمد وتبعلها إياه حتى حدوث واقعة حراء هي أشد فترات السيرة المحمدية تعتيماً وأشحها معطيات. في حين نجد الفترة السابقة التي تبدأ منذ مولده بل قبله حتى اتصاله بالطاهرة تعج بالأخبار والنوازل والوقائع. ثم الحقبة التالية لها وهي زمن حدوث واقعة الرؤيا في مغارة حراء إلى وقت انتقاله إلى الرفيق الأعلى تنفح بانوراما عريضة فيها تطالع الأخبار من كل لون ووزن

في رأينا أن التجربة حرص أفرادها الثلاثة على تكتمها وسريتها وإخفاؤها عن الأعين وإبعادها عن الآذان والقيام بها وراء الحجب وخلف الستائر. حتى الذين قدموا أيادي لنجاحها أثبتوا أنهم لا يقلون حنكة وخبرة ودراية عن أبطالها الثلاثة في حفظ السر ودفنه في صدورهم. فقد كانوا جميعاً يعلمون أن هناك أعداء بلغوا الذروة في الشراسة سواء داخل قرية القداسة أو في خارجها خاصة أصحاب الديانتين السابقتين وعلى وجه التحديد اليهودية - فالراهب بحيرا عندما عاين محمد مع عمه عبد مناف وأبي طالب في سفرته الأولى للشام نصحه بأن يعود فوراً إلى مكة لأن يهوداً لو تحققوا مما فيه من علامات القادم المنتظر لقتلوه على الفور

كما أن اثنين من أطراف التجربة وهما خديجة وورقة قد انتقلا إلى رحمة الله قبل أن تتاح لهما الفرصة للحديث عنها بعد نجاحها وإعلانها للملأ والقبيل. وأما الثالث وهو محمد فقد التزم الصمت وكل ما ذكره عنها أحاديث شريفة عن واقعة الغار وبعدد قليل للغاية. ربما يؤوب ذلك إلى انشغاله في مسؤوليات جسام بعد أن غدا سيد الجزيرة كلها دون مدافع وديان العرب جميعهم بلا مزاحم. أو لأنه لم ير فائدة من الكلام عنها لأنها في رأيه لن تتكرر إذ هو آخر القادمين وخاتم المنتظرين وعليه أيضاً نص القرآن المجيد. وهناك سبب آخر لا يقل اقتناعاً وهو اختلاف طبيعة التجربة عن غيرها من الوقائع

إن محمد قبل أن يحظى بأن تنكحه خديجة لم يعرف عنه أي اهتمامات تيولوجية ولا توجهات دينية ولا قصود عقائدية. أما ما نسب إليه من ميل إلى العزلة فذلك يؤوب إلى شعوره الدفين باليتم إذا مات أبوه وهو جنين وفي رواية 3 أعوام ثم أمه وهو في السادسة ثم جده حين بلغ الثامنة وهكذا عانى مرارة فقد الحاني والكافل 3 مرات في وقت قصير فكيف لا يشمله الإحساس بالعزلة ويميل إلى البعد عن الناس والاغتراب عن الجماعة. إذن الدافع أو الباعث عائلي واجتماعي لا علاقة له بالدين ولا دخل له بالعقيدة ولا شأن له بالتيولوجي. فإن كل هذا عديم الصلة به ولم يبدأ انعطافه نحو الغيبيات والماورائيات إلا بعد أن نكحته خديجة وأنضجته في التجربة بحنكة انقطع ضروبها

ولا يفهم من ذلك بأي صورة من الصور انشراح صدره أو حتى إقباله بصورة عادية على عقائد وعبادة وطقوس قومه بل على العكس نفوره منها ومرد ذلك رجاحة عقله وفطانته وسعة أفقه ونقاء فطرته إذ أدرك فسادها وعطنها ولا معقوليتها

ومع فساد مجتمع مكة وضرورة إصلاحه لاستحالة دوام تلك الأحوال من ناحية أو لكشف الغطاء عن جانب شديد الأهمية في تكوين البنية النفسية لمحمد وانغراس بذرة الثروة من ناحية أخرى في وجدانه. هذا يتضامم مع هيمنة النظرة الحزينة على ذاته لنشوئه يتيماً فقيراً محروماً من نوال الوضع الاجتماعي الذي يتوافق مع نسبه الرفيع ورهطه الشامخ

: هذان العاملان قد شكلا أمرين لهما قدر من الخطر

أ‌. ترجيح ترشيحه من طرف خديجة كيما يغدو القادم المنتظر

ب‌. صلاحيته وجدارته ليصبح موضوع التجربة عن كفاية واستحقاق

من المؤكد أن خديجة سمعت عن فصاحة محمد فقد دأبت على استقباله عند عودته من سفريته من سوق حباشة إما منفرداً أو بصحبة زميل له في العمل وكانت تخبئ لهما طعاماً وفي أثناء تنازل الطعام كانت تجلس معه ومع زميله وفي تلك الجلسات توثقت خديجة من طلاقة لسان محمد وحسن بيانه وبلاغته في التعبير وقدرته على التوضيح ومكنته على الإبانة. وازداد عندها ذلك ثبوتاً إثر عودته من رحلة الشام التي صاحبه فيها عبدها الأمين ميسرة وما حكاه لها عنه

إن طلاقة لسان محمد أمر مجمع عليه ومعترف به حتى من خصومه الألداء وهي من الأمور البديهية فهو من قريش ولهجة قبيلته خلاصة لهجات الجزيرة وزبدتها، كما أنه استرضع في بني سعد فسلم من اللكنة والعجمة، ثم مشى في الأسواق والتقى بالأعاريب والعرب الذين يحضرون موسم الحج والأسواق واستمع إلى الخطباء والفصحاء والشعراء المفلقين وجميعهم أصحاب إبانة وبلاغة فازداد بل تضاعف محصوله المعجمي ومخزونه اللغوي ورصيده البياني

لماذا تحتم على خديجة الالتفات إلى بلاغته والتثبت منها فيه والتي في نظرنا شكلت باعثاً حثيثاً لاختياره ؟

إن المرشح كيما يغدو القادم المنتظر لابد أن يمسك بيده كتاباً يعلنه على أهل مكة. ( هاؤم اقرأوا كتابيه ) مثلما قالها موسى لليهود وعيسى للنصارى. والعرب المخاطَبون به أهل لسن وفصاحة وبلاغة. ليس لديهم من سمات الحضارة غيرها هذا مع التجاوز الكبير في عدها من شارات الحضارة، فهم عراة من العلوم والآداب والفلسفة. ومن ثم فإن الكتاب الذي يطرح عليهم يجب أن يجيء مثلاً أعلى لهذه السمة اليتيمة المفردة التي يمتلكونها وإلا فلا يؤمنون به ولا بمن قدمه إليهم بل أنهم سوف يستهزءون به - إذ يصير في مقدورهم أن يأتوا بمثله أو حتى أبعاض منه

كما إن دروس أو معارف أو معلومات الليالي الطويلة والذي ستختزنها الذاكرة الحديدية ذاكرة الشاب الأمي العبقري، يتحتم بطريق الحتم واللزوم أن تتلى على أهل مكة والحجاز وغيرهما من الناس بلسان عربي بلغ القمة في الفصاحة كيما يأتي الكتاب بمفعوله الأكيد دون ذرة من شائبة من هنا كان حرص خديجة على الاستيثاق من فصاحة محمد

ولقد أدرك السلف ضرورة خضوع القادم ( أي قادم ) لمرحلة التصنيع التي تتم في أحشائها أدوار الصنفرة والتهيئة والتدريب . ولكنهم استكثروا أن يحمل ثقلها ناس من الناس فهم من ناحية لا يرون أن واحداً أو نفراً من المخالطين له يصلح لهذا الشرف ومن ناحية أخرى يتوهمون أنه يغض من قدره ويحط من شأنه ويهبط بمستواه. فماذا فعلوا ؟

هداهم خيالهم الخصيب إلى أن السماء لم توكل بشراً بمهمة التصنيع أو الصناعة كما فعلت مع موسى وابن مريم بل تفرغت هي لإنجازها بواسطة ملاك يسمى إسرافيل اضطلع بها على أكمل وجه بأن لازم محمد لمدة 3 أعوام قبل أن يظهر له جبرائيل في حراء في المنام ويغته غتاً كيما يقرأ باسم ربه الذي خلق

إن المرحلة الأولى التي رأت هندوز التجربة أنها تناسب محمد وهو في الحالة التي وصفناها هي الاختلاط بالناس بكافة طبقاتهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم دون تفرقة بين مللهم وعقائدهم وأديانهم والاستماع إلى سائر أطروحاتهم حتى أساطيرهم ومخاريقهم بل نرجح أن خديجة أوصت بهذا الشق وألحت عليه ليكسب ما نطلق عليه موسوعة أو دائرة معارف دينية للزومها له إذ كيف يتُصور أن تعلنه لأهل مكة الذين طال انتظارهم لمجيئه وليس لديه أي فكر ديني أو ثقافة عقائدية. فإذا حاجوه وخاصموه وجادلوه فكيف يرد عليهم وجعبته خالية

:وقد قصدت أمرين

الأول: أن تكسر طوق العزلة التي تعود عليها قبل أن تنكحه، فمحمد من باب الحتم واللزوم لابد أن يعي أحوال مجتمعه ويتعرف على الذين سوف يخاطبهم ويلمس بيديه عقلياتهم وهمومهم ومشاكلهم وآلامهم وآمالهم ويزداد علماً بطبقاتهم وطرائق تفكيرهم وآليات فهمهم كيما يجيء خطابه إياهم موائماً

والآخر: من بين من سوف يخالطهم أصحاب شتى الملل والنحل والعقائد والأديان مثل اليهود والنصارى والصابئة والمجوس الذين ماجت وازدحمت بهم مكة علاوة على سدنة وكهان الأصنام

إن محمد في هذه الفترة كان يختلف إلى الأسواق والمنتديات يستمع إلى أحبار اليهود وكهنة النصارى وما يبشر به كل منهم في أمر دينه وما يعارضون به العرب في شأن أصنامهم. والتماس بهم على قدر وفير من الأهمية إذ من البديهي أن محمد ناقلهم الحديث واستمع منهم معتقداتهم واستضوحهم إياها ورويداً رويداً حاورهم فيها .. الأمر الذي يرضي أصحابها لأن من بينهم نسبة كبيرة من الدعاة إليها والداعي لا يسره شيء قدر إنصات الناس إليه والإقبال على ما يبشر به. ويوماً بعد يوم تنمو ثقافته الدينية ويزداد معجمه العقائدي ويتعمق فهمه لسائر الأديان وفروعها والنحل ومذاهبها

وبعد أن يسير شوطاً في الفصل الأول من التجربة تتدرج به في الشطر الآخر من ذات الفصل وهو مدارسته فيما سمع وحفظ واستوعب ومذاكرته فيما وعى وتبسيط الصعب وحل المعقد. حيث أن خديجة كانت تتمتع بثقافة دينية ذات قدر معقول جاء متوافقاً لسد موجبات الشطر الآخر هذا بمعنى أنه أتى كافياً للإجابة على استفسارات واستيضاحات وتساؤلات محمد

ففي ليالي مكة الطويلة وخاصة في الشتاء والربيع تجلس خديجة إلى زوجها تقرأ له على مهل وتطالع له صفحات من تلك الأبعاض والإصحاحات وتشرحها له بقدر ما تتسع ثقافتها الدينية وتطلب منه أن يحفظها كلها لا يترك منها شيئاً وتستقبل هي استيضاحاته وتربط له ما قرأته عليه مع ما ينقله لها. وإذا أشكل عليها أمر أو التبس عليها شأن هرعت إلى ورقة تستوضحه ليفسر لها ما أبهم ويشرح لها ما خفي

فهو المرجعية التي توضع على عتبتها التساؤلات والاستفهامات. كما سبق أن أوردنا أنها كانت على علاقة بأشخاص ذوي مكانة عالية في النصرانية وكانت لها حلقة نقاش داخلية ( متمثلة في عبدانها النصارى ) وأخرى خارجية منهم عداس وبحيرا وسرجيوس .. بعد أن ارتجف محمد بعد ظهور جبريل له أول مرة – توجهت خديجة وقد استولى عليها قلق شديد إلى سرجيوس وكان راهباً زنديقاً منفياً فطمأنها بأن أكد أن الملاك كان يُرسل إلى كافة الأنبياء

إن المرحل التي تنقل فيها محمد من مسيرة التجربة وقصص أنبياء بني اسرائيل المترجمة عن التوراة ما انفكت تؤتي ثمارها المرجوة بأن تفرز إيحاءات متنوعة عليه منها سماع أصوات إذا أبعد وخلا دون أن يرى مصدرها وقد عبر عنها مرة بـ( نداء ) وثالثة تخاطبه باسمه ففزع وخشي على نفسه إما من الجنون أو أنها مس من الشيطان فينطلق هارباً وكالعادة لا يجد ملجأ إلا بين ذراعي خديجة فتطمئنه

إن مرحلة الرؤى هذه هي التي أدت بالتدريج إلى الرؤيا التي أخبر محمد أنه رأى فيها بمغارة حراء الملاك أو جبريل أو الكائن العلوي الذي أمره أن يقرأ فقرأ وأفرزت طاعته له أو استجابته للأمر افتتاحية لأخطر ما أنتجته التجربة وقد تمحورت عليه بصفة رئيسية الديانة التي أسسها محمد حيث بدأ كتابه بسورة اقرأ

كما أن القصص التي سمعها محمد في الأسواق وفي جلسات القراءة تركت في نفسه أخاديد عميقة وأصبح على قناعة بأن القادمين لابد أن يسمعوا أصواتاً يقولون عنها آتية من الملأ الأعلى. وإذا استمر الأمر جميعه بلا كلل ومن غير ملل سنين عديدة تسربت الفكرة إلى الإعمال وتغلغلت في الغور وهو ما سوف يحدث في الخطوة القادمة ونعني بها الرؤى التي بدأت بأصوات يسمعها

إن حادثة حراء لم تكن حادثاً عارضاً من خوارق القدر أي أنها ليست من الماورائيات، فحادثة حراء استغرقت من التهذيب والتمهيد والإعداد سنوات وسنوات أي منذ أن نكحت خديجة محمد إلى لحظة ما حكاه عن لقائه لملاك الرب في غار حراء

وقد اعتبرتها خديجة إعلاناً على نجاح التجربة بدرجة امتياز وأنه قد حان لها الأوان أن تهدأ بالاً وتستقر نفساً وتتأكد أنه القادم المنتظر وقد غدا حقيقة بعد أن ظل سنوات حلماً وطيفاً

أما أن ما حدث في المغارة مع ملاك الرب أو جبريل أو الشخص فهي مجرد رؤيا فهذه حقيقة مؤكدة جاءت بها المصادر العوالي

وقد سبق ابن خلدون فرويد وأدلر وخطا خطوة أوسع وهي أن الإنسان المتشوف أو المتمني لا يجيء موقفه سلبياً حتى تتحقق الرؤيا بل قبل أن يضع جنبه على السرير ليضطجع عليه أن يشحن بطاريته النفسية بالفكرة التي يحن إليها ويرجوها ويؤكد ابن خلدون أنه سيراها في نعاسه. فما بالكم إذا انضم إلى الشخص المتشوف اثنان من اللزيقين به أحدهما يظل معه حتى يأوى إلى فراشه ويستمر في تعبئته حتى ينام

إن النوم في حمى الأماكن المقدسة لجلب رؤى لها نكهة ثيولوجية أو التواصل مع الملأ الأعلى أو لتحسس اتجاهات السماء أو معرفة الأمور المغيبة تقليد قديم اهتدت إليه العقائد والأديان القديمة في العديد من البلاد. ومما يجلب الرؤى بالإضافة إلى ما ألمعنا إليه إقدام النائم على الصيام أو على الأقل التخفف من الطعام والتجافي عن الأكلات الشهية والاختصار على الوجبات الخشنة. وهذا ما يكشف لنا الغطاء عن اختيار خديجة ( الكعك بالزيت ) وهو طعام الرهبان ليغدو طعام محمد إبان دفعه للخلوة في المغارة وهي الخطوة التالية لحقبة الرؤى بما فيها فاصلة الصوت والضوء. وقد علمت خديجة أن الخلوة مرحلة ضرورية يتعين على القادم المنتظر أن يمر بها بسبب مطالعتها للإصحاحات التي نقلها ورقة بن نوفل إلى العربية. فقد انتهى إلى علمها أن الخلوة أو الخلاء مرحلة لازمة للقادم المأمول وتيقنت أن ملائكة الرب لا يحلو لها أن تظهر للبطاركة والأشخاص المباركين ومؤسسي الديانات إلا فيها وهذا يصل إلى حد البداهة إذ كيف يتسنى لها أن تظهر لأحدهم بين الناس

وكيما تنجح تلك الشعيرة وتطرح ثمرتها أصرت خديجة على مصاحبة بعلها وهو يؤديها وقد ناهز عمرها 55 عام وتترك دارها المليئة بالإماء والعبدان وتسير معه إلى الجبل والمغارة

: من الثابت مما جمعنا

1. أن خديجة هي التي وزت محمد على دخول آخر مراحل التجربة الفاذة وهي مرحلة الخلاء

2. أنها في كل مرة لازمته فيها ملازمة الظل لا تتركه يغيب عن عينيها لحظة واحدة

3. أنها اختارت له هذه المرحلة لأنها من ثقافتها الدينية ذات المصادر المتعددة أدركت خطرها

4. أنها لم تفكر مجرد تفكير في المتاعب والمصاعب والجهود والمشاق التي سوف تتعرض لها وهي تذهب معه في كل عام شهراً كاملاً إلى الجبل إذ نقهت أنه ثمن قليل لنجاح التجربة

5. أنه في إحدى المرات نضجت التجربة وتمثل نضجها في الرؤيا المنامية في المغارة بظهور كائن علوي له في أماكن اختلفت الروايات في تحديدها وأشهرها مغارة حراء

إن غار حراء هو أعلى جبل حراء وبينه وبين مكة ميل ونصف وهو جبل منفرد على طريق حنين – مكة. وهو منيف صعب المرتقى لا يصعد إلى أعلاه إلا في موضع واحد في صفاء ملساء والموضع الذي نزل فيه جبريل في أعلاه من مؤخره

بعض الحنفاء والمؤمنين بالله تعالى اعتادوا على أن يتحنثوا ويخلوا لأنفسهم وكانت عبادة هؤلاء تشمل إطعام المساكين ممن يلجأن إلى الغار لأنه من نسك قريش في الجاهلية أن يطعم الرجل من جاءه من المساكين في هذا المكان. وكان لمحمد شغف بالوحدة منذ الصغر ولكن وحدته طفلاً وفتى ويافعاً وصبياً كانت وحدة الحزن والألم إذ ولد ونشأ يتيماً ولكن وحدته في غار حراء كانت من نوع آخر فقد كان ينشد المعرفة بطريق الاستشراف ويستلهم ما في الكون من أسبابها

عودة الى الرئيسية