اَلنَّصُ اَلْمُؤَسِّسُ وَمُجْتَمَعُه

اَلنَّصُ اَلْمُؤَسِّسُ وَمُجْتَمَعُه

اَلسِفْرُ اَلأَوَّلُ وَاَلثَانِى

خليل عبد الكريم

 

الطبعة الأولى 2002

منشورات الجمل, كولونيا , ألمانيا

دار مصر المحروسة

13 شارع قولة امتداد محمد محمود ـ عابدين , القاهرة ـ مصر

تليفون 3960599 ـ فاكس  6360922

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

السفر الثانى

محتويات السفر الثانى

 

الباب الأول: آيات التربية  .........................................................................      247

v  الفصل الأول: التربية الخلقية     .............................................................      249

محاربة الشُح

تشريع الزكاة :

أحاديث الإثبات

الإثبات بالتفاسير

أهل الصُفّة

أساليب متنوعة لكف الصحب عن الجبانة:

خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ

                 العدوىّ والفرار من الزحف

                 إدبار عثمان الأموى

                 من شابه أباه فما ظلم

                 والجرى لصحابة آخرين

                  أنتم الكرار فى سبيل الله

                                  ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار

التفسيرات المُعْجبة

أسطرة وتقديس الصحابة

مقارنة بين القرآن والنصوص

وهروب آخر فى حنين

القرآن يوثق الهروب

التنزيل هو الحل

الخلاصة

             إلجام التُبّاع عن الاندفاع نحو المُتع الحسية:

مدخل

                                المُغَيّبات ظاهرة عامة

                                توثيق التفاسير

                                لكن أين حد الزنا

             4ـ تمقيت زواج الأم ( الاعتبارية ) وتبشيعه:‏

             5ـ كف الصحابة عن الحصول على الدخول الريعية المشبوهة:

الزراعة والعُلوج

مصادر دخول العَرَبة

صناديد قريش الديوث

فرشة للهرولة

الديوثة و الحديث

الديوثة والتفاسير

تنزيل لحظر نكاح الزوانى

نهب مهر البنت

زواج الشغار

               6 ـ أخيرًا أصبح نكاح المتعة .. حريمة

7ـ هل يصلح الإسلام كشريعة الآن

 

ختام

المصادروالمراجع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الباب الأول

آيات التربية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الأول

التربية الخلقية

 

هذا الفصل يشرح بالأسانيد من الحديث المحمدى وكتب التفسير العوالى بعض العادات والممارسات المرزولة فى مجتمع الصحابة , التى نزلت فيها آيات قرآنية, سنت فيها أحكام, فهل تصلح يا قارئنا العزيز هذه الأحكام أن تصير مصدرًا للتشريع فى وقتنا وزماننا ؟.

إقرأ, وفكرمعنا.

 

1 ـ محاربة الشُح :

 

عندما نزح تُبّاع ( سيد ولد آدم ) من مكة إلى يثرب فإن غالبيتهم كما ذكرنا فى السفر الأول تفتقر على المال وليست لديهم صنعة أو حرفة أو عمالة سوى التجارة التى لا قوام لها إلا رأس المال وبينهم عدد ملحوظ من الحلفاء والعُبدان الأرقاء والموالى ومن الذين ينتمون إلى قاع المجتمع .. وصفور اليدين من النشب ( المال ) ينسحب أيضًا على الأعراب الآخرين, إذ إنهم بعد دخولهم الإسلام فمن المحتم عليهم ـ فى بدّى الأمر ـ النزوح إلى القرية ذات الحرتين حيث ( لا إيمان لمن لا هجرة  له ).

 

وبعد حين تغير الحكم ( لا هجرة بعد فتح مكة ), وبينهما ظهر ( هجرة البادى ) أى اعتبار قاطنى البوادى نازحين ( مهاجرين ). إن تبديل الأحكام فى مسالة النزوح مرده إلى حوجة دولة قريش التى أقيمت فى بلدة بنى قيلة للرجال. ففى المبتدأ افتقرت إلى عسكر ينخرطون فى السرايا والغزوات وجماعات التصفية الجسدية. ومن ثم حتم لازم على من يعتنق الإسلام أن يهرع إلى قاعدة الدولة الوليد, ولما طفقت تتضلع من الأجناد وضاقت جنبات يثرب بهم نسخ قيد النزوح كإشارة على الإيمان وغدا البادى المسلم مهاجرًا مثله كالذى شد حاله إليها.

 

ثم بعد فتح الفتوح ( فتح مكة ) والانتصار على أئمة الكفر فى عقر دارهم وصيرورة ( المنصور بالرعب مسيرة شهر ) حاكم الجزيرة العربية حرّم النزوح ( الهجرة ).

 

ثم نعود إلى سياقة التنقير:

أولئم العربان بداهة فقراء محاويج لا يملك الواحد منهم شروى نقير.

إذن عجّت يثرب بأعداد من النازحين تفوق طاقة سكانها الأصليين ( الأوس والخزرج ).

وهؤلاء النازحون تلزم إعاشتهم من كل الأرجاء: المسكن, الطعام بل الشراب ( فلا وجود لأنهار هناك ) والعمل والملبس .. إلخ.

 

 *******

تشريع الزكاة

والحق أن بنى قيلة لم يقصروا وأبدوا كرمًا وشهامة وبذلوا الكثير, بيد أن العبء فادح والحمل ثقيل والنفوس جُبلت على الشح وفُطرت على حب المال خاصة إذا ادركت أن العطاء سيطول أمده والبذل سوف يستمر والمنح لا تلوح له نهاية.

 

طفق الأوس والخزرج وإذا تحرينا الدقة الموسرون منهم يغلون أيديهم حتى بعد صدور فريضة الزكاة التى شُرّعت خصيصًا لذلك. اخذوا يلتفون حولها فلجأوا إلى حيلة معروفة هى إخراج أردأ المال وأرذل الأشياء وأخس الأنواع. [ فى السنة الثانية من النزوح شُّرّعت الزكاة , واعتبرت ركنًا من أركان الإسلام وفرض عين, أى أن تبع ( الماجد ) ظلوا خمسة عشر عامًا لا يزكون بل ترك إخراج الصدقة لشعورهم وأريحتهم وسخاء نفوسهم, دون إلزام, وذلك طبيعى بل بديهى إذ لا لزوم للزكاة فى بكة. ولعل إلقاء الضوء على هذه الحقيقة يؤكد صحة المبدأ أو القاعدة التى ننادى بها وهى إلزامية الحفر عن الجذر التاريخى لكل تكليف شرعى دينى, لأنه يضئ حواف الفرض أو الركن ويساعد فى حالة الضرورة ـ على تطبيقه على الوجه الأمثل ومعرفة القيمة الميتغاة منه ومن ثم فلا ضرورة للتمسك بحرفياته].

 

إن هذا المسلك أزعج ( الظفور ) إذ سيفاقم العبء الملقى على عاتقه وهو رعاية المنازيح وتحديدً ذوى الخلة منهم والسهر على تدبير ولو الحد الأدنى مما يُصلح شئونهم.

 

وكما طالع القارئ الفطن اللبيب ـ فى السفرالأول ـ فإن الذكر الحكيم لا يترك ( سعد الخلائق ) يعانى تلآلام النفسية فتهل كأنوارالفجرالرائعة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة 267 ]., فهى من ناحية تأمر تبعه بضرورة إخراج الطيب ـ وهو وصف جامع لكل خير ـ من كسبهم وتحذرهم من تقديم الخبيث.

 

ومن رجا آخر فيها تقويم لمنقصة الشح وقضاء على رذيلة البخل وحرب على صفة الكزازة وطالما ردد عليهم: ( المؤمن غرّ كريم ) [ رواه أبو داود والترمذى والحاكم وهوحديث حسن ].

 

  *******

أحاديث الإثبات

ولنوثق سبب هلَ هذه الآية المجيدة من مصنفات " أسباب النزول " ثم نردفها بكتب التفسير " أسباب النزول ":

( روى الحاكم والترمذى وان ماجة وغبرهم عن البراء قال: نزلت هذه الآية [ البقرة 267 ] فينا معشر الآنصار: كنا أصحاب نخل وكان الرجل يأتى من نخله على قدر كثرته وقلته وكان الناس ممن لا يرغب فى الخير يأتى الرجل بالقنو فيه الصيص والحشف وبالقنو قد انكسر فيعلقه فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ... } الآية ). [ لباب النقول : للسيوطى ص 35 ].

 

( وعن جابر قال أمر النبى ـ ص ـ بزكاة الفطر بصاع تمر فجاء رجل بتمر ردئ فأنزل القرآن: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ... } الآية البقرة 267 ) [ أسباب النزول للواحدى النيسابورى ص 55, 56 ].

( وعن البراء قال: نزلت هذه الآية فى الأنصار: كانت تخرج إذا كان جذاذ النخل من حيطانها أقناء من التمر والبسر, فيعلقونها على حبلين بين اسطوانتيم فى مسجد رسول الله ـ ص ت فيأكل منه الفقراء المهاجرين, وكان الرجل يعمد فيخرج قنو الحشف وهو يظن أنه جائز عنه فى كثرة ما يوضع فى الأقناء ـ فنزل فيمن فعل ذلك: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ } [ البقرة 267 ].

يعنى القنو الذى فيه حشف ولو أهدى إليكم ما قبلتموه ) [ أسباب النزول للواحدى ص 56, المقبول فى أسباب النزول للأزهرى ص 145, 146 ].

 

*******

 

البراء بن عازب وجابر بن عبدالله اللذان نقلا هذه الأخبار من بنى قيلة ومن مشاهير الصحبة, وحملت دواوين السنة المحمدية العديد من أحاديثها.

فى حق الأول يؤكد قاضى القضاة وشيخ الإسلام الحافظ بن حجر العسقلانى ( أنه رُوِى عن النبى ـ ص ت جملة من الحاديث وعن ابيه وعن أبى بكر وعمر وغيرهما وروى عن عدد من اصحابة ) [ الإصابة فى تمييز الصحابة: المجلد الأول ص 416 ].

 

أما الآخر جابر بن عبدالله فهو " من المكثرين الحفاظ للسنن". [ الاستيعاب فى معرفة الصحاب: لأبى عمر يوسف بن عبد البر ـ المجلد الأول ص 220 ـ تحقيق على محمد البجاوى ـ الطبعة الأولى 1412هـ / 1992م ـ دار الجيل ـ بيروت ].

 

وترتيبًا عليه فمن غير المعقول أن يلصقا بقمومهما هذه المعايب وينسبا إليهم هذه النقائص ويلطّا بهم هذه المذام. علاوة على أن مظنة الكذب فى حقهما منتفية بالكلية فهما من خيار بنى قيلة بل من فضلاء الصحاب عامة.

 

إذن أغنياء بنى قيلة أو حتى المتوسطون منهم الذين تجب عليهم الزكاة عمدوا إلى التحلل من فرضيتها بتقديم التافه وإعطاء الخسيس ومنح الرَذل, وفى ذات الوقت ضنّوا بالطيب وحجنوا النفيس وبخلوا بالحسن.

 

بل إن كزارة اليدين طالت القدرين من المنازيح فحذوا حذو المليئين من اليثاربة المسلمين ونافسوهم فى هذا المضمار:

( عن ابن عباس قال: كان أصحاب رسول الله ـ ص ـ يشترون الطعام الرخيص ويتصدون فأنزل الله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.. } الآية 267 من سورة البقرة ). [المقبول فى أسباب النزول للأزهرى ص 147 / لباب النقول للسيوطى ـ ص 35 ].

 

فهذا هو حبر الأمة وترجمان القرآن ذكر " كان أصحاب رسول الله ـ ص ـ وهذا اللقب: أصحاب أو صحبة أو صحاب يشمل الفرقتين: النازحين واليثاربة . ولو أن الأمر اقتصر على الأخيرين لما أعجز عبدالله بن عباس أن يذكرهم منفردين.

وليس الحبر هو الذى يلقى الكلام على عواهنه ولا يفرق بين الاثنين, ولا يدرك أن عبارة " أصحاب رسول الله" تشمل الطائفتين, بل إن عددّا من أكابر علماء أمة لا إله إلا الله ذهب إلى أن كلمة أصحاب أو صحبة أو صحاب تشمل أيضًا الجن الذى آمن بـ ( الأعظم ) واجتمع به, ومنهم من يرى أن عبدالله  وابن أمته عيسى ابن الصدّيقة مريم منهم لأنه اجتمع به, كما ورد فى قصة الإسراء والمعراج, وأنه آخر الصحابة موتًأ.

وهذا الحديث أخرجه ابن حاتم وابن مردويه والضياء فى المختار مما يعلى من قيمته ويؤكد ثمانته ويوثق نفاسته.

والحبر لم يذكر التمر وما إليه قال إنهم يشترون الطعام الرخيص. والأقرب إلى المنطق أن الذين يفعلونه هم المنازيح ... وهى صورة بالغة الفحاشة, شديدة القبح وسيعة الشناعة !!.

 

إذ كيف قبل النازح ( المهاجر ) الذى أغناه الله من فضله أن يفعل ذلك بأخيه المسلم الذى هاجر معه وبعد أن رأى بعينيه صنيع عدد لا بأس به من الأثاربة الأعراب, حتى إن بعضهم عرض على أخيه النازح أن يطلق إحدى زوجاته ليبنى بها كيما يجنبه أهوال العزوبة, خاصة وهم يعرفون عن بعضهم البعض عرامة طقس ملامسة النسون وأهميته لديهم. [ مسألة عرض عدد من بنى قيلة على إخوانهم من النزحة واحدة من زوجاتهم عليهم تحتاج إلى حفرية أنثروبولوجية لمعرفة جذرها التاريخى لأن بعض القبائل فى الشعوب القديمة ـ وربما مازال مستمرًا حتى اليوم ـ بفعله تحت بند تبادل الزوجات أو كنوع من المبالغة فى إكرام الضيف, وفى أحيان ثالثة إتقاء لشر الطارق الذى دأبوا على التوجس من شرًا أ.هـ. ].

 

 هذه الصورة العميقة الدلالة التى رسمها ترجمان القرآن ابن عباس تؤكد ما أوضحناه فى كتابنا " شدو الربابة" أن أولئك الصحاب بشر من الناس, فيهم كل ما يعتور بنى آدم من ضعف ونقص وخور, وأن الصورة المبرقشة المزركشة التى ترسمها لهم اجواق الطبل والزمر صورة غير صحيحة بالمرة. [ سوف نرى فيما يستجد ان عددًا من كبارهم فر فى ميدان القتال وأطلق ساقيه للريح وترك ( أول من تنشق عنه الأرض ) يواجه العدو بشجاعة نادرة أ.هـ. ].

 

 *******

الإثبات بالتفاسير

 

نبدأ بشيخ المفسرين أبى جعفر بن جرير المشهور بالطبرى: ( عن البراء بن عازب قال: كانوا يجيئون فى الصدقة بأردأ تمرهم وأردأ طعامهم فنزلت: {  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ.. } 276 البقرة. [ تفسير الطبرى ـ جامع البيان عن تأويل آى القرآن: لأبى جعفر محمد بن جرير الطبرى ـ تحقيق محمود محمد شاكر ومراجعه أحمد محمد شاكر ـ الجزء السادس ـ ص 561ـ الطبغة الثانية 1971م ـ دار المعارف ].

 

فى هذا الحديث ميز البراء بن عازب بين من ياتون بأردأ التمر وهم بنو قيلة قومه وبين من يطرحون أسوأ الطعام وقصد النازحين من قريش وغيرهم من افناء القبائل.

 

وهذا الأثر الذى حمله إلينا مقدم تفاسير القرآن العظيم بلا مدافع يعاضده ما جاء على لسان ابن عم ( المصطفى ) وحبر أمته, والذى سبق أن زبرناه ( كتبناه )...

 

وفى خبر ىخر نفحنا به الطبرى أيضًا:

( عن الحسن: قال كان الرجل يتصدق برذالة ماله فنزلت الآية { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ } [ تفسير الطبرى ج5 ـ ص 562 ].

نجد ان كلمة ( ماله ) مطلقة فلم تخصص نوعه أهو تمر أم سواه.

 

أما القمى النيسابورى فيورد كذلك خبرًا عن الحبر عبدالله بن عباس يوثق ما ذهبنا غليه أن الخبر المروى عنه سابقًا, إنما قصد به النازحين على وجه الخصوص, لأنه فى الخبر كشف عن هوية المتصدق البخيل أو المزكى الشحيح وذلك بإيضاح ما جاء به:

( عن ابن عباس ذات يوم بعذق حشف فى الصدقة لأهل الصُفّة على حبل بين إسطوانتين فى  مسجد  رسول الله ـ ص ـ فقال النبى ـ ص ت بئسما صنع صاحب هذا فنزلت الآية 267 من سورة البقرة , وفى الهامش أورد المحققون: ذكره القرطبى فى تفسيره وقال رواه البراء وخرّجه الترمذى فى صحيحه وصححه ). [ غرائب القرآن ورغائب الفرقان: للقمى النيسابورى ـ الجزء الثانى ـ ص 599 ـ تحقيق حمزة النشرتى وآخرين ـ د.ت. ـ وغير مذكور اسم الناشر ].

 

فصاحب هذا العذق الحشف من اليسير أن ننقه أنه أحد المنازيح. وأن ما عقّب به ( أول من يفيق من الصقعة ) على هذا الشح الدنئ ( بئسما صنع صاحب هذا ) يدلنا على اتساع دائرة الألم النفسى الذى كابده من جراء مثل هذه الأفعال الذميمة.

 

*******

 

أما " أهل الصُفّة" الذين ورد ذكرهم بالأثر المرقوم بعاليه فهم ( من فقراء المسلمين من ليس له اهل ولا مكان ياوى إليه ـ أما الصُفّة فهى مكان فى آخر مسجد النبى ـ ص ـ فى شمالى المسجد ). [ الموسوعة الذهبية للعلوم الإسلامية: د.فاطمة محجوب ـ المجلد السادس ـ ص 216 ـ د.ت. ـ دار الغد العربى بمصر ].

 

ودأب ( الصادق ) على رفدهم بما تصل إليه يداه الشريفتان وعلى تفقد أحوالهم, وعل حث الموسرين من تبعه على برهم وحرص على استضافة عدد منهم على غداء أو عشاء إذا ما واتته الفرصة, ونظرًا لأن مستقرهم ومقامهم بالمسجد, فإن العادة قد جرت على تعليق حبل أو أكثر ينضوى على التمور ليطعم منهم أولئك المعوزون.

 

ومن هنا فعندما يهيمن على المتصدق أو المزكى طبعه الدنئ فإن ما ياتى به ويعلقه بين الأسطوانات يغلب عليه الشيص والجعدور والحبق والحشف. وهى أردأ التمور وأخسها وأحطا قيمة التى يعافها الإنسان ويقدمها علفًا لبهائمه وهذه السلوكيات المنحطة تثير ثائرة ( الصالح ) فهو فى ذاته مضرب المثل فى الكرم والقدوة الحسنة فى السخاء والأسوة الرفيعة فى البذل .

 

كما أن هذه الأفعال الحقيرة مضادة للخط الذى يرسمه وهو العناية الفائقة بالنازحين على وجه الخصوص لأنهم جنوده الأوفياء الذين بدونهم لن يتيسر له إفشاء الديانة التى صدع بها والدولة التى يضع أساسها بصبر عجيب لبنة فوق لبنة فى بنائها فى قرية الأثاربة.

 

وهذا مشهد من عشرات غيره من التى حركت بواعث الأسى الدفين فى صدره الكريم.

( اخرج الواحدى والحاكم عن جابر قال:

أمر النبى ـ ص ـ بزكاة الفطر, بصاع من تمر, فجاء رجل بتمر ردئ, فقال النبى ـ ص ـ  لعبدالله بن رواحة: لا تخرص من هذا التمر, فنزل القرآن { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ } ). [ المقبول للأزهرى ص 142, وأورد مصنفه أن الحاكم النيسابورى صححه فى المستدرك وأقره الذهبى ورواه الواحدى فى الأسباب, وعزاه السيوطى فى اللباب ـ وقال عن المصنف إسناده صحيح ].

 

واللوحة السابقة ليست هى اليتيمة فى معرض اللؤم والخساسة والدناءة الذى أقامه بعض الصحاب وأغلبهم من الأثاؤبة بل إن ( أبا القاسم ) يفاجأ كل يوم بأنداد لها أيشع هيئة وأقبح صورة وأشنع سحنة.

( أخرج الحاكم من طريق الزهرى عن أبى أمامة سهل عن ابيه قال:

أمر رسول الله ـ ص ت بصدقة, فجاء رجل من هذا النخل بكبائس  ـ قال رسفيان: يعنى الشيص ـ فقال رسول الله ـ ص ت من جاء بهذا؟ وكان لا يجئ بشئ إلا نُسب إلى الذى جلبه.

فنزلت الآية { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ }.

قال: ونهى رسول الله ـ ص ت عن العجر, ولون الحبيق أن تؤخذ فى الصدقة.

قال الزهرى: لونان من تمر الصدقة ). [ المرجع السابق ـ ص 143 ـ وأضاف الأزهرى المصنف أن الحاكم أورده فى مستدركه وصححه وأقره الذهبى وأن الطبرانى رواه فى كبيره وابن ابى حاتم فى تفسيره ].

 

*******

أهل الصُفّـة

فى دراسة سابقة ذكرنا أن اختيار موقع الصُفّة لم يجئ خبط عشواء وأن وجودهم فى المسجد الشريف وبجوار حجرات ( الطيب )ليس مصادفة بل أمر مدروس وخطة رُسِمت بليل وأن أهل الصُفّة ليسوا كما تصفهم الكتب التراثية مجموعة من المحاويج والمساكين والمعوزين بل هم فى حقيقة الأمر بمثابة ( الحرس الملكى ) أو ( الحرس الجمهورى ) لـ ( سيد الخلق ) فهم بمثابة الدرع الواقية التى تتلقى الطعنات لو فكر اليهود أو المنافقون أن يهاجموه فى جنح الظلام أو فى عماية الفجر قبل بزوغه.

 

وهم فى ذات الوقت الكتيبة الأولى التى يمكن صفّها على عجل عند سماع أول هيعة.

 

إن صورة ( صاحب الدرجة الرفيعة ) وتُبّاعه من المهاجرين التى يصورهم بها المحدثون من كتاب السيرة المحدية المشرفة الشريفة ـ خاصة فى الفترة الأولى التى انتهت باندحار ( ولا اقول هزيمة ) أعدائهم فى وقعة ( الخندق ) ـ بأنهم نعموا بالأمان والطمانينة والسلام, صورة مزورة, لأن لهم أعداء أشداء سواء فى داخل أثرب أم خارجها يطوون صدورهم على ضغينة شديدة وكراهية بالغة وحقد دفين:

منهم اليهود وعدد من بنى قيلة ممن لم يدخل الإسلام أو من اعتنقه عن غش وخديعة, وهناك صناديد قريش والقبائل المحيطة.

 

وقد عُرف عن ( جد الحسنين ) أنه ( يحذر الناس ويحترس منهم .. ولكل حال عنده عتاد فهو العُدّة والشئ الحاضر المعد ). [ محاضرة الأبرار ومسامرة الأخبار: للشيخ الأكبر محيى الدين بن عربى ـ 560/638هـ. الجزء الأول ـ ص 64 ـ تحقيق محمد مرسى الخولى ـ الطبعة الأولى 1972 ـ دار الكتاب الجديد ـ القاهرة ].

 

وما دام كذلك فما كتبناه عن العلة الكامنة وراء اختيار شطر من المسجد ليغدوا مقرًا لكتيبة أو سرية أو مجموعة أهل الصُفّة قريب الاحتمال ويتسق الظرف التاريخى الذى مر على ( ذى النسب العالى ) وصحبه آنذاك, ومما يويده أن عددًا منهم تولى مهام قتالية على درجة من الخطورة سواء فى العهد المحمدى أو زمن خلفائه منهم سعد بن أبى وقاص وهو قائد مشهور. وزيد بن الخطاب أخو العدوىّ عمر ثانى الخلفاء حامل راية المسلمين يوم اليمامة, وهى من أخطار المعارك التى دارت بين جيوش التيمىّ عتيق بن ابى قحاغة أول الخلفاء وبين بنى حنيفة بقيادة مسيلمة الكذاب, ومنهم سالم مولى أبى حذيفة وهو أيضًا من حملة راية المسلمين فى ذات الواقعة, ونكتفى بهؤلاء الثلاثة لأننا لسنا بصدد عمل إحصائية عن من تحول إلى قائد أو عسكرى مرموق من اهل الصُفّة.

 

إذن أهل الصُفّة لهم وجهان:

1ـ منفقراء النازحين.

2ـ سرية الحراسة والطوارئ ومفرخة القواد والأجناد البارزين.

 

وعن سعد بن أبى وقاص نود أن نورد ما قيل عنه:

هذا السعد تحول من فقير يعيش على الشيص والجعدور والحشف إلى صاحب قصر فى العقيق وهو أحد أميز احياء يثرب ( مات سعد فى قصره بالعقيق ). [ صفة الصفوة: لابن الجوزى 508/597هـ ـ ص 146 ـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ الطبعة الأولى 2001م ـ دار الغد العربى ـ القاهرة].

وذلك بعد الغزو الاستيطانى النهبوى الاستنزافى الثقافى اللغوى الذى باشره أولئك العُربان ضد دول الجوار الأرقى منهم حضارة.

وممن تحول من أهل الصُفّة إلى ثرى أمثل ( خُباب بن الأرت بن جندلة ), فقد بدأ حياته عبدًا لأم أنمار مقطعة البظور واشتغل حدادًا ( قينًا ) فى مكة ثم عضوًا فى سلاية أهل الصُفّة,  يأكل الحشف والجعـدود والتمر الحبيق, لكن بعد أن تدفقت عليه الغنائم والأموال من عرق وحهد الفلاحين ( يسمونهم : العلوج ) فى الشام والعراق ومصر وفارس, وشمال إفريقيا , غدا ابن الأرت يمتلك ثروة طائلة تعد بعشرات الألوف.

( عن وائل شقيق بن سلمة قال:

دخلنا خباب بن الأرت فى مرضه فقال: إن فى هذا التابوت ثمانين ألف درهم ...) [ المرجع السابق ـ ص 170].

فسبحان مغير الأحوال !!!.

 

*******

 

تكررت من الموسرين والمساتير وقائع غلّ اليد عن رفدهم ومدهم بما يصلح شأنهم ويقيم أودهم ويصلب عودهم, مما أدى ( الرحمة المهداة للناس ) وآذاه وأقلقه.

وعهدنا بالذكر الحكيم ألا يذره وحيدًا يعانى الالآم النفسية, ومن رجا ىخر من المستحيل ترك الأتباع الذين دخلوا حظيرة الإيمان على هذه الشاكلة الذميمة

فالبخل نقيصة فى حق الرجل مثل الجبانة والكذب وجمتعها أخلاق رديئة يتعين استئصالها من شأفتها من نفوسهم, فأقبلت الآية 267 من البقرة, مضيئة متلألئة.

وإذ إننا نحايث كتب التفسير فإننا نرقم الخبرالآتى:

( عن البراء قال: نزلت فينا, كنا أصحاب نخل وكان الرجل يأتى من نخله بقدر كثرته وقلته فياتى بالقنو فيعلقه فى المسجد, وكان أهل الصُفّة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع ضربه بعصاه فيسقط من البسر والتمر فيأكل, وكان أناس ممن لا يرغبون فى الخير يأتى بالقنو فيه الحشف والشيص, ويأتى بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ..} إلى آخر الآية). [ تفسير القرآن الكريم: لابن كثير ـ المجلد الأول ـ ص 474ـ تحقيق عبد العزيز غنيم زآخرين ـ د.ت. ـ كتاب الشعب ـ بصر ].

 

والذى نقدره أنه بعد هلّ هذه الآية المجيدة كف الصحاب عن بخلهم وأقلعوا عن شحهم واستقاموا من كزازاتهم فرفدوا إخوانهم المحاويج وأعطوا أصحابهم الفقراء ومنحوا جيرانهم المساكين, وبذا ارتفعت عنهم الصفة الذميمة والخلة القبيحة.

 

فإطمان ( اللبيب ) على فقراء المنازيح علمة وأهل كتيبة الحراسة والطوارئ خاشة, وبذا أثبت الفرقان المبين وقوفه السرمدى معه, كما أن عينيه لا تغفلان عن المجتمع, يداوى أمراضه ويعالج أدواءه ويصلح عيوبه ويقيل عثراته فهل يتاح له ذلك لو أنه ظهر دفعة واحدة كإسطير عبدة الطاغوت وإخوان الخنازير؟.

 

*******

2ـ أساليب متنوعة لكف الصحب عن الجبانة:‏

 

من البديهى أن نزبر أن صفة الشجاعة وخلة الإقدام وميسم الجسارة أمور من الحتم اللازم توافرها فى أتباع ( الظفور ) لضرورة قهر القبائل على اعتناق الديانة التى بشر بها.

 

وسبق أكثر من مرة أن رقمنا أن هناك نصوصًا تأسيسية مقدسة صريحة فى حروفها ومعانيها على إلزامية إكراه العربان بالسيف كيما يتحولوا من الشرك إلى التوحيد ومن الكفر على الإيمان ومن الوثنية إلى الإسلام وهذا لا سوم فيه.

 

والبديهية الأخرى التى نخطها كارهين لزيادة التوضيح هى أن حمل شارة الديانة سواء باللسان أو حتى على الجباه ( سيماهم فى وجوههم ) هو علامة الإنضواء تحت راية دولة بنى سخينة التى شرع ( صاحب المحجة البيضاء ) فى إقامتها فى قرية بنى قيلة, حتى إنه من المستحيل أن نفصم بين دخول حظيرة الإسلام وإحناء القامة للدولة القرشية, أى هناك تفاضل وتكامل بين الأمرين.

 

ذاك واقع تاريخى من العبث إنكاره أو المحاجة فيه.

 

ولعل حروب الصدقة ( وهى غير حروب الردة ) تضع فى حجورنا الدليل الدامغ عليه.

 

فقد اعتبر التيمى بن عتيق بن أبى قحافة امتناع عدد من القبائل عن رفده أو مده بأموال الصدقة خروجًا على الدين ومروقًا من الإيمان وطلاقًا للإسلام.

وصاح بقولته المشهورة ( والله لا أفرق بين الصلاة والزكاة ) والأولى ـ كما هو معلوم للعامة وللحامة أو للكافة قبل الخاصة ـ عماد الدين من تركها فقد هدمه, نعوذ بالله منه.

أما الأخرى فقد رأى فيها أول خلفاء ( خطيب الأمم ) برهان الانقياد لدولة قريش التى تربع على دست رئاستها بكيفية غير متوقعة كما صرح خلفه العدوىّ ( لقد كانت خلافة أبو بكر فلتة ).

 

ومن ثم حارب مانعى الصدقة أو الزكاة بقسوة وشراسة, ومن أراد أن يطلع على الفظائع التى ارتكبها قائده المخزومى ابن الوليد بن المغيرة بأوامر صريحة منه فعليه بالجزء الثالث من ( تاريخ الطبرى ) وغيره من الكتب التراثية.

 

أما المؤرخون المحدثون فيغرطشون ( يتعامون أو يتعالون على الحق ) و يطوشون ( يطنشون ) ويتجاوزن ولا ندرى كيف تطاوعهم ضمائرهم العلمية؟.

 

إن من المفارقات الطريفة أنه بعد أقل من عقدين من الزمن وغِبّ تدفق الغنائم الأسطورية على حاضرة دولة بنى سخينة التى نهبت من البلاد التى وطئوها بسنابك خيولهم المبرورة, أشار الخليفة الأموى عثمان بن عفان على القبائل بتوزيع الصدقات ( الزكوات ) على فقرائها ولا موجب لنقلها إلى أثرب ( = المدينة ) هذا أمر بالغ الأهمية ولا يصح العبور عليه بخفة وسطحية لأنه ينفح عددًا من الدوال منها:

 

أن رفع شعار الدين لتبرير العنف السياسى للوصول إلى الحكم, أو السياسة العنيفة للبقاء فى الحكم, بدأ مبكرًا بعد أشهر قليلة من إنتقال محمد إلى الرفيق الأعلى , وأن أول من سنه خليفته الأول, التيمىّ عتيق, الذى برر حربه الشرسة ضد القبائل التى عارضت خلافته ( تمثلت معارضتها فى رفضها دفع الزكاة له ) بأنها فاصلت بين الركنين الأولين من العبادة : الصلاة والزكاة.

وبالمناسبة نحن نذهب إلى أن التحليلات الهشة المجانية التى طفحت بها عشرات الكتب والمقالات والأبحاث بأن الجذور التاريخية للإرهاب الذى مارسته منذ عقد ونصف عقد الجماعات التى نسبت نفسها للإسلام ترجع إلى الخوارج, قد جانبها (= التحليلات ) الصواب, والنظرة التاريخية المعمقة تثبت أن أول من مارسه عو التيمىّ عتيق.

 

أن اثنين من كبار الصحابة ومن العشرة المبشرين بالجنة ومن أعضاء مجلس الشورى ومن النجباء الأوائل والأبدل ... إلخ, اختلفا فى أمر الزكاة ـ وهى من الأركان الخمسة للإسلام ـ فأولهم رأى ضرورة توريدها أى نقلها لمقر حاضرة الخلافة وأن الجزاء على المخالفة هو شن قتال شرس ضروس تُستباح فيه كل المحرمات بل الحرمات بل لىّ رقاب النصوص الـتأسيسية المقدسة.

مثل الإلقاء من شواهق قمم الجبال والتحريق بالنار والتعليق منكسًا فى البيار ... إلخ.

وثانيهم ذهب إلى العكس أى عدم توريد الزكوات إلى يثرب ولا بأس من توزيعها فى مضلرب القبائل على المعوزين والمحاويج من أبنائها.

 

إن التجريد عند إصدار الفتاوى والأحكام خطأ مركب, إذ يتعين عدم إغفال الظرف التاريخى الذى انبثق فيه النص ( أصل أو مصدر ) الفتوى أو الحكم وإلقاء نظرة شاملة على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسة التى واكبته, فدولة بنى سخينة فى بدىّ الأمر أى فى مفتتح خلافة التيمىّ: ماليتها مهزولة ومواردها نحيفة وخزانتها ضامرة خمصانة, فأفتى رأسها بضرورة دفع الزكاة / الصدقة إلى حاضرتها يثرب بنقلها إليها.

 

وبعد أقل من عقدين من الزمان عندما تضلعت الدولة من الأموال المنهوبة من المستعمرات ( مصر / العراق / الشام / شمال إفريقيا ) حتى كادت معدتها أن تتفزر من كثرتها, رأى إمامها وخليفتها أنه لا مسوغ لحملها إلى عاصمتها أثرب وأن على أشياخ القبائل تفريقها على المستحقين لها منهم.

 

إذن الظرف التاريخى هو الذى غاير بين الفتوتين وفاصل بين النظرتين وبابين الأولى عن الأخيرة, ومن ثم نخلص إلى أنه من الحتم اللازم ضرورة الأحاطة المستقصية بكافة ظروف الفتوى أو الرأى أو الحكم.

 

*******

خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ

ثم نرجع إلى سياقة التنقير:

إن ترسيخ الشجاعة والإقدام والجراة والاقتحام فى ذوات التُبّع لا محيص عنه وبالقدر نفسه رفع الجبانة وإزالة الخور والقضاء على الخوف ومحو الرعدة وكنس الرعشة من صدورهم وقلوبهم كلها حتم خالص وقضاء مبرم بلا معوقات وإلا لا يتاح للديانة أن تهيمن ولا للإسلام أن يسيطر ولا للإيمان أن تعلو رايته. وفى الكفة المقابلة لا تتأسس قواعد الدولة ولا يرتفع بنيانها ولا ترفرف أعلامها.

 

فى الضفة المواجهة:

حب الحياة أقوى الغرائز طرًا والمحافظة عليها طبع مركوز فى الأعماق, والحرص عليها وعدم التفريط فيها فيها يولد مع الإنسان لايفارقه.

 

وبين هذين الأمرين وجد ( صاحب البراهين ) نفسه الكريمة فى المنتصف.

 

بيد أن نصوص التأسيس بكل قداستها تراقب عن كثب وتعاين عن قرب وتلاحظ من أدنى مكان { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة 186], خاصة ان لذائذ الجنة مثل: الحور العين / الكواعب الأتراب / المقصورات فى الخيام / اللاتى لم يطمثهن إنس ولا جان ... إلخ / وأنهار الماء العذب والخمر / واللبن السائغ والعسل المصفى / والولدان المخلدون كأنهم الؤلؤ المنثور. [ كاتب مصرى معاصر ( محمد جلال كشك ) أورد فى كتابه ( خواطر مسلم فى المسألة الجنسية ) أن اللواط مباح فى الجنة للرجال من أهلها, وصدر قرار من لجنة مجمع البحوث الإسلامية ببراءة الكتاب, وخلوه من أى تعارض مع الدين الحنيف لا نصًا أو تأويلاً .. والتزمت مؤسسة شئون التقديس فى مصر الصمت المطبق !! . : الطبعة الثالثة ـ 1412هـ / 1922م ـ  مكتبة التراث الإسلامى ـ 8 شارع الجمهورية ـ عابدين / القاهرة ـ مصر].

 

هذه اللذائذ لم تؤثر إلا على عدد محدود من الصحاب, ومن ذوى الشحنات الإيمانية العالية, أو من الذين يشتعل فى قلوبهم القلق الميتافيزيقى من الموت, أو أولئك الذين تروعهم النهاية المحتومة وما يعقبها من مصير مجهول لم يكشف عنه واحد من الذاهبين.

 

كلهم يرغبون أن يعثروا على الخلاص وعلى الفوز بالمكافآت بعده.

 

ورقمنا أن هؤلاء قلة من بين التُبّع لأن أغلب التُبّع عاشوا أكثر أعمارهم وهم يعتنقون العقائد السابقة على الإسلام ( يسمونها الجاهلية وهى تسمية أيديولوجية وسياسية ) وعلم الاجتماع الدينى يخبرنا أن من السذاجة تصور اختفاء العقائد السوابق سواء على مستوى الفرد او المجتمع فور اعتناق عقيدة جديدة خاصة إذا لم يمض عليه سوى بضع سنين.

 

ومن أهم عقائد ذياك الإبان هو أن هذه الحياة الدنيا هى الحيوان وما عداها تخييل وتوهم يفسره إقبالهم على الشهوات والمتع والطايب والعبّ منها لدرجة الإسراف.

 

إذن جِماع الموقف استنفر معالجة دقيقة ومرنة وذكية.

 

فالشدة أو القساوة مدعاة للنفور ومجلبة للكره وباعثة على الإعراض. والرخاوة أو اللين مظنة الضعف وشارة التهاون وعلامة التساهل, كما أن المحاسبة العسيرة تدفع للهروب, والمجازاة الوعرة تمنع من الانخراط, ... إلخ.

 

لهذا كله رأينا ( أحسن القصص ) يغفر للصحب زلاتهم وفرارهم من ميدان المعركة, ويسامح آخرين عند التقاعس عن الالتحاق بالسرايا والتباطؤ عن الانضواء تحت راية الغزوات ويتجاوز لهم عندما لا يحققون الرقم الذى حدد لهم عند لقاء العدو.

 

وكل ما يخاطبهم بشأنه هو علمه بضعفهم { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ الأنفال 66 ].

 

وفى تفسيرها يقول الإمام ناصر الدين أبو الخير القاضى البيضاوى: ( لما أوجب على الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم وثقل ذلك عليهم خفف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين ) [ أنوار التنزيل وأسرار التأويل: المسمى تفسير البيضاوى ].

 

وعند السيوطى : ( أخرج ابن راهويه فى مسنده عن ابن عباس قال: لما افترض عليهم أن يقاتل الواحد منهم عشرة ثقل ذلك عليهم وشق فوضع الله عنهم إلى أن يقاتل الواحد رجلين ) [ لباب النقول للسيوطى ـ ص 91 ].

( أخرج البخارى وأبو داود وابن أبى شيبة وابن إسحق عن ابن عباس: لما نزلت { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } [ الأنفال 65 ] شق ذلك على المسلمين فنزل  { الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ.... } ) [ المقبول فى أساب النزول : للأزهرى ص 354 ].

وهذا الخبر نفحنا به البخارى مقدم الصحاح الستة وأبو داود أحدها ورواية عبدالله بن عباس, ووصفه المصنف الأزهرى بصحة الإسناد وان رجاله ثقات.

 

ويفسر القمى النيسابورى الضعف بقوله:

( المراد بالضعف فى البدن, قيل فى البصيرة والاستقامة فى الدبن وكانوا متفاوتين فى ذلك. والظاهر أن المراد: { يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا }[ النساء 28 ] ). [ غرائب القرآن ورغائب الفرقان: القمى النيسابورى ـ ص 373, تحقيق حمزة النشرتى وآخرين ].

 

إذن هو عتاب خفيف ولفت نظر رقيق, لأن التعنيف الثقيل تنفر من جِماعه النفوس وتلفظه الطبائع وتمجه الفطرة وتبغضه القلوب وتنتج عن كله المفارقة وتترتب عليه المفاصلة وهى أمور ليست فى صاح الديانة الجديدة وتفت فى عضد الدولة الوليدة.

 

*******

العدوىّ و الفرار من الزحف

1ـ كيف واجه القرآن الكريم فرارهم من الزحف؟

     الفرار أو الهروب أو إطلاق الساقين للريح إبان القتال وفى عز المعمعة وفى حمو الوطيس ووقت اشتداد العركة وضعه القرآن الكريم ثم  ( الأعظم ) فى مصف كبرى الكبائر وساوياه بالشرك فى الجزاء الرهيب والمصير البائس إلى جهنم : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ {15} وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {16}} [ الأنفال 15, 16 ].

 

( حذرت آيات القرآن وأحاديث النبى ـ ص ـ من التولى يوم الزحف أى الفرار يوم القتال ) [ تفسير القرآن الكريم لعبدالله شحاته ـ الجزء الرابع ـ ص 705 ].

 

ومعلوم أن أحاديثه منذ أن صنف الشافعى المطلبى القرشى رسالته المشهورة ارتفعت إلى مرتبة النص التأسيسى المقدس الأول ونعنى به القرآن العظيم.

 

ولا حاجة بنا إلى توضيح علة تشريعه بموجب النصوص التأسيسية المقدسة, ولم وسم الفرار من الزحف بهذا الميسم الشديد الذى يلقى بالهارب إى قاع سقر وما ادراك ما سقر؟.

 

فنحن نترك الإجابة لفطانة القارئ وذكائه.

كل ما نضيفه فحسب أن الباعث لا صلة له بالذُرى الإيمانية أو الروحية, بل هو سياسى صرف

 

ولا أدل عليه أن ( ذؤابة قريش ) وعظ  تبعه أن المؤمن من الجائز أن يغدو حبانًا رعديدًا [ ممن ينطبق عليه هذا الوصف حسان بن ثابت شاعر الرسول إذ لم يشترك فى آية غزوة إو سرية ويوم الخندق وضعوا الأطفال والنسون فى احد الحصون ومعهم ذلك الحسان بن ثابت ], إنما أبدًا لا يتصف بالبخول لأن الأول يحافظ على روحه وهى تستحق, أما الآخر نعنى به الباخل فهو حريص على لعاعة لا تستأهل.

 

ونرجع إلى السياقة: رغم هذه القاعدة المستقرة وهى اعتبار الفرار من الزحف أو الغزو كبيرة من أكبر الكبائر وأوعرها وأقساها جزاء ومعرفة الصحابة بها بل وحفظهم إياها, فإن عددًا كبيرًا منهم وفيهم صناديد, كسرها بل وداس عليها برجليه المرتعشتين وأطلق ساقسيه لتستبق الريح.

 

كله حدث فى أحد وحنين ومؤتة.

 

أما فى الأخية فربما يلتمس لهم العذر إذ بلغت عدة جيش الروم وحلفائهم من القبائل أكثر من خمسين ضعفًا من عسكر ( الصادع بالحق ).

( فبلغ الناس لأن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء فى مئة ألف من الروم وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء مئة ألف عليهم من بلى ) [ السيرة المحمدية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 180 ـ طبعة أخبار اليوم / وأيضًا كتاب المغازى للواقدى أ الجزء الثانى ـ ص 760 ].

 

بعكس ما حدث فى غزاة حنين فأجناد المسلمين بلغوا  من الكثافة العددية والعُدّية أضعاف أبناء قبيلة هوازن. ولقد صاح واحد من كبار التُبّاع مفتخرًا : " لن نُغلب اليوم من قلة".

ولقد أثبت الذكر الحكيم هذا الموقف اللامسئول بل إذا شئت الدقة المستهتر بقوله: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ }[ التوبة 25].

ورغم ذلك فما إن شد عليهم هؤلاء حتى منحتهم غالبية الصحبة الأماثل ظهورهم المباركة وأمعنوا فى الهرب وأفرطوا فى الفرار وبالغوا فى الزوغان حتى سخر منهم الطليق أبو سفيان بن حرب سخرية مريرة فقهقه شامتًا وأردف قائلاً:" لن تقف هزيمتهم إلا عند سيف البحر!!".

 

أما فى غزاة أحد التى شهدت أوعر نكسة منى بها أصحاب ( المؤمَّل ) فشغلتهم الغنائم والأسلاب عن العراك, إذ فى بدىّ القتال انحاز النصر إلى صفهم ولكن بمجرد أن التفتوا إليها وطفقوا يجمعونها ويتهالكون عليها ( ليس الرماة وحدهم فقط بل جِماعهم ) ونسوا الحرب وموجباتها والقتال وأشراطه والنزال وإلتزماته.

 

عندها خنس عنهم النتصار وخاصمهم الفوز وباينهم الظفر بينونة كبرى وأسرعت إليهم الخيبة وأرقل إليهم الخذلان.

 

فى كل هذه المواقع وقف ( الظفور ) مثلاً للشجاعة الفائقة وأسوة فى الاحتمال البالغ, ومعه نفر من المخلصين يأتى فى مقدمتهم رهطه آل هاشم, فى حين أن العدوىّ عمر بن الخطاب يتربع على رأس قائمة الفارين الهاربين والذين ولوا الأدبار وركبهم الذعر الشديد وسيطر عليهم الهلع السؤيع والخوف البالغ فى وقعة أحد, فما إن وقف لملاقاة الأعداء, ولم يلبث إلا قليلاً حتى منحهم طهره ونفحهم دبره وأعطاهم قفاه وظل يعدو حتى وجد ملجأ فى إحدى مغارات الجبل فإختبا فيها. هنا نتذكر قالة مخادنه وصديقه أبو بكر له " أجبار فى الجاهلية خوار فى الإسلام !!".  

 

والعدوىّ هو ذاته الذى اعترف بالتولى يوم الزحف والفرار من وجه الأعداء والهرب من الجهاد والتخلى عن الكفاح والاستقالة من الطعان, بل إنه وصف نفسه بقوله:" فررت حتى صعدت الجبل, فلقد رأيتنى أنزو كأننى أروى [ هو الوعل ويطلق على الذكر والأنثى ـ المعجم الوجيز ـ وتطلق على الحيوان لا على الإنسان إلا فى معرض التهكم والسخرية]".

 

أخرج ابن جرير كليب قال:

    ( خطبنا عمر يوم الجمعة, فقرأ آل عمران, فلما انتهى إلى قوله: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ آل عمران  155].

قال : لما كان يوم احد, هزمنا, ففررت حتى صعدت الجبل, فلقد رأيتنى أنزو كأننى أروى والناس يقولون:

قتل محمد

فقلت: لا اجد احدًا يقول: قتل محمد ـ ص ـ إلا قتلته, حتى اجتمعنا على الجبل فنزلت: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ }. [ تفسير الطبرى ـ الجزء السابع ـ الأثر رقم 8098 ص 327 ].

 

وإذ إن الذى أورد هذا الخر هو أبو جعفر بن جيري الطبرى فى تفسيره مقدم التفاسير وعمدتهم فيغدو عريًا من المطاعن, مليطًا من المعايب, عديمًا من المآخذ, ويؤيده القمى النيسابورى حقيقة فرار العدوىّ ابن الخطاب من الميدان فى عركة أحد ولكن  بطريقة  ضمنية أو غير صريحة   ( ولم يبق معه ـ ص ـ إلا أبو بكر وعلى والعباس وطلحة وسعد ). [ غرائب القرآن: القمى النيسابورى ـ المجلد الثالث ص 307 ].

 

يصف لنا القاضى البيضاوى حالة عمر ومن شاركه الهروب والفرار عند تفسيره للآية: { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 153 من سورة آل عمران: ( إِذْ تُصْعِدُونَ الإصعاد: الذهاب والإبعاد فى الأرض, يقال صعدنا من مكة إلى المدينة. وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ: ولا يقف أحد ولا ينتظره ).

 

الطبالون والزمارون من اجواق التمجيديين والتعظيميين من الكتبة قدامى ومحدثين

 الذين تناولوا سيرة العدوىّ عمر يتعامون عن هذه الواقعة ويغطرشون عليها ويلقون بها فى الظل

وذلك لأسطرة هذه الشخصية وغيرها من شخصيات حقبة فجر الإسلام لتغدو أقوالها وسلوكياتها منهاجًا للمسلم العادى

 ليظل حبيس المفاهيم الدينية الدوجماطيقية المسكرة والمسدودة , أمام المسلمين العاديين, منذ قرون, حى لا يفكر مجرد تفكير فى الانعتاق من إسارها وقيودها وتكفيرهم لكل من يسأل عنها بل ولا حتى نقدها.

 

*******

إدبار عثمان الأموى

ومن الذين أدبروا فى غزاة أحد: الأموى عثمان بن عفان وقد عيره عبد الرحمن بن عوف به , والاثنان من العشرة المبشرين بالجنة.

( عن شقيق قال: لقى عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة, فقال: له الوليد: مالى أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان؟, فقال عبد الرحمن: إنى لم افر يوم أحد ولم اتخلف عن بدر ... ) [ تفسير ابن كثير ـ الجزء الثامن ـ ص 126 ]

 

ونستدرك قليلاً للتعريف على عبد الرحمن بن عوف, فقد لعب دورًا خطيرًا فى إقصاء صاحب الحق الشرعى فى تولى الخلافة وهو الإمام على بن ابى طالب, ووضعها لقمة سائغة فى فم نديده فى الثروة والغنى عثمان , وبعد أن اعتلى الأخير عرش الخلافة. إذ هو الذى بدأ فى تحويلها إلى ملك عضوض وسار على دربه أبناء أرومته السفيانيون والمروانيون.

نقول بعد أن اعتلى ... لم يجد عبد الرحمن بن عوف ما امّله منه ولا نقول فيه ...هنا طفق يشنع عليه ويظهر معايبه ويعيره بزلاته السوابق !.

من حقنا أن نتساءل عندما فضل ابن عوف الأموى عثمان على أبى الحسنين, لِمَ تغاضى عن هذه الأخطاء وطنش عنها, وكيف طاوعه ضميره أن يفضل من هرب على من ثبت ومن قاتل ومن أصعد من صبر وجاهد؟.

والذى لا نشك فيه أن ( البشير ) بعبقريته الفاذة وبصيرته الثاقبة أدرك هذه الصفة فى عبد الرحمن بن عوف ومن ثم فما إن يلقاه حتى يلقاه يقول له:" لن تدخل الجنة إلا زحفًا يا ابن عوف".

وفى رواية أخرى: إلا حبوًا.

ولقد صدق ظنه وتحقق حدسه وفلجت فراسته كيف لا وهو( الصادق الصادوق). أ.هـ.

 

*******

من شابه أباه فما ظلم

ونستأنف السياق:

 ( أخرج البخارى فى الأدب المفرد قال: حدثنا موسى يعنى ابن إسماعيل المنقرى ـ حدثنا أبو عوانة عن يزيد بن أبى زياد عبد الرحمن بن أبى ليلى عن عمر ابن عمر قال: كنا فى غزوة فحاص الناس حيصة, قلنا: فكيف نلقى النبى ـ ص ت وقد فررنا فنزلت: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الأنفال 16 ].

فقلنا: لانقدم المدينة فلا يرانا أحد, فقلنا لو قدمنا فخرج النبى ـ ص ت من صلاة الفجر, قلنا: نحن الفرارون, قال أنتم العكارون فقبلنا يده قال: أن أن فئتكم ) [ نهاية السول فيما استدرك على الواحدى والسيوطى من أسباب النزول: للشيخ أبى عمر نادى الأزهرى ـ ص 124 ].

 

يقول المصنف الأزهرى فى الهامش:

هذا الفرار حدث عن الصحابة فى غزوة مؤتة كما جاء فى التصريح به فى رواية ابن إسحق وأوردها ابن كثير فى تاريخه وأخرجها البيهقى فى الدلائل.

ويورد القاضى البيضاوى الواقعة عن ابن عمر أيضًا:

( عن ابن عمر ـ رض ـ أنه كان فى سرية بعثهم رسول الله ت ص ت ففروا إلى المدينة فقلت يا رسول الله نحن الفارون فقال: بل أنتم العكارون وأنا فئتكم ) [ تفسير البيضاوى ص 236 ].

 

فى الفقرة السابقة الذى فر وهرب هو العدوى عمر باعترافه.

وفى هذا الخبر الذى فعلها هو أكبر أبنائه عبدالله مما يجعلنا نؤكد أن الشجاعة فى القتال والصبر على مواجهة العدو والثبات على حرارة الوطيس صفات افتقر إليها ابن الخطاب وأبناؤه الميامين وواقعة لَشْلَشَة هذا العبد الله ( الابن ) تذكرنا بالمثل القائل " من شابه أباه فما ظلم".

 

ووكدّ القمى النيسابورى خبر تولى ابن الخطاب من الزحف على النحو التالى:

( عن ابن عمر: خرجت سرية وأنا فيهم ففروا فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت: يا رسول الله نحن الفرارون, فقال: بل أنتم العكارون وأنا فئتكم ) [ غرائب القرآن: الجزء الثامن ص 388, وفسر القمى المصنف كلمة العكارون بقولهك والعكرة: الكرة ].

 

والفقيه المفسر الحنفى الجصاص يزيدها وثاقة: ( قال ابن عمر: كنت فى جيش فحاص الناس حيصة واحدة ورجعنا إلى المدينة فقلنا نحن الفرارون فقال النبى ـ ص ـ أنا فئتكم ) [ أحكام القرآن: للإمام أبى بكر أحمد الرازى الجصاص توفى 370هـ ـ المجلد الثالث ـ ص 47 ـ دون تاريخ نشر ـ دار الفكر ـ بغير ذكر المدينة أو الدولة ـ ].

 

وهكذا غدا هروب عبداله بن عمر من ميدان المعركة وارتكابه كبيرة التولى يوم الزحف موثقًا, إذ وضعه فى حجرنا شيخ المفسرين: الطبرى ومن بعده نظام الدين الحسن القمى النيسابورى وكتابه يعتبر أحد المؤلفات المتميزة فى التفسير ويحظى بوافر التقدير ثم الجصاص المفسر الحنفى.

 

كم من الكتبة سواء من السلف الصالح أو الخلف الفالح ممن صنف عن حياة عبدالله بن عمر رصد اقترافه إياها؟

 

الإجابة: لا أحد.

إن أولئك الكرام الكاتبين لا يقدمون إلا صورة مزيفة ومبرقشة عن الفاعلين الاجتماعيين فى ذيّاك الزمن المعجب ـ نعنى الصحابة ـ ويحررون مصنفاتهم بأسلوب تمجيدى من أجل أن تبرز هيئاتهم مؤسطرة ( حولت إلى أسطورة ) تحفّ بها هالة من القدسانية ومن ثم تغدو أفعالهم واحاديثهم معصومة أو شبه معصومة متعالية مستحيلة على النقد أو حتى على العرض الموضوعى المتوازن الذى يقدم الشمائل ولكن لا يغفل عن النواقص.

 

تلك الصورة أو الصور المؤسطرة التى تزداد وتتراكم أسطرتها على مر القرون هى التى تتحكم منذ ذاك الماضى السحيق فى المسلم العادى وترسم له خطاه وتحدد له طرقه, دون أن يفكر ولو للحظة خاطفة فى التحديق أو حتى مجرد النظر فيها لينقه حقيقتها الموضوعية وما أضيف إليها من تمويه وبرقشة وتزويق كيما يقضى بنفسه على ما صدر منها من أفعال أو نُسب إليها من أقوال, هل هو: صحيح أم فسيد, صواب أم خطأ, سديد أم غلط.

 

*******

والجرى لصحابة آخرين

 

 لم يقتصر الجرى من وجه العدو على عمر بن الخطاب وبكره عبدالله والأموى  عثمان بن عفان بل طال الكثيرين, منهم ذوو الأسماء اللامعة اللوامع: ( حدثنى داود بن سنان: سمعت ثعلبة بن أبى مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد, يومئذ حتى عيروا بالفرار وتشاءم الناس به ) [ كتاب المغازى للواقدى ـ الجزء الثانى ـ تحقيق مارسدن جونز ـ ص 764 ـ طبعة أولى 1965 ـ منشورات مؤسسة الأعلمى ـ بيروت ـ لبنان ـ سبق أن رقمنا أن هذا الخالد بن الوليد نافس العباس بن عبد المطلب بن هاشم عم الرسول فى الإقراض بالربا ].

 

ومنهم أبو هريرة الصحابى الذى اشتهر بكثرة التحديث ( رواية الحديث المحمدى ) عن ( صاحب البيان ) التى تصل لدرجة التشكيك فى مصداقية الأحاديث المروية عنه.

 

ومنهم سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة, وهو ابن أم سلمة إحدى الزوجات الوضيئات الأثيرات لـ ( الأزج / الأزهر ):

( أم سلمة زوج النبى ـ ص ـ قالت لامرأة سلمة: مالى لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله ـ ص ـ ومع المسلمين؟, قالت: والله ما يستطيع أن يخرج, كلما خرج صاح به الناس يا فرّار, فررتم فى سبيل الله .. حتى قعد فى بيته فما يخرج ) [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 187 ـ طبعة أخبار اليوم ].

 

هذا الخبر الذى أورده ابن إسحق والواقدى والاثنان من أميز المصنفات فى هذا المضمار يهدى إلينا عدة معطيات:

أن الفرار من الزحف شمل حتى الفتيان أو الناشئة من الصحاب لأن سلمة بطل الواقعة هو صاحب ولاية عقد نكاح أمه هند لـ ( الراضى ) ويقول الإخباريون إنه وقت ذاك صبى لم يراهق. إذن هو يوم مؤتة لم يناهز الخامسة أو السادسة عشرة.

أن اليثاربة ظلوا يعيرونه كلما خرج حتى ألزموه عقر داره ولم يبالوا أنه ابن بنت زاد الركب إحدى أجمل زوجات الرسول ومن احبهن إلى فؤاده.

ونخرج منه أن تقديس الأشخاص لصلتهم بمحمد لم يعرفه المسلمون إبان ذاك

إنما نشأ فيما بعد لأسباب سياسية ودينية.

وجود رأى عام له دور فعال, يقوم بالإفصاح عن وجهة نظره بكل جراة وبمنتهى الشحاعة وبغاية الإقدام.

إنما للأسف تقلص أو بمعنى أصح انعدم واختفى تمامًا بقيام الدولة المسماة الخلافة الأموية ومن بعدها الخلافة العباسية بعد ان تحالفت السلطة السياسية العليا والقُلّة الدينية ( الفقهاء ) واحتكرت المؤسستان كل الفضاءات: الحكم والدين والمال ـ وتركت القاعدة الشعبية مهمشة مهدورة الحقوق حتى الحق فى إظهار رأيها ـ

واستمر هذا الوضع المأساوى لدى الشعوب الإسلامية ( عربية وأعجمية ) حتى يومنا هذا.

4ـ أن ( البليغ ) لم يقمع الأثاربة ( منازيح ومستوطنين ) عندما انتقدوا فرار مؤتة بل حتى لم يمنعهم بطريقة رفيقة رقيقة من إعلان سخطهم لأنه لم ير فيه بأسًا, ولم يلف سندًا يخوله ردهم. وكل ما أقدم عليه طيّب خاطر الهاربين ـ وهذا ما سنتناوله فيما بعد.

أم أم سلمة بعل ( الحجازى ) انزعجت لعدم حضور ولدها صلاة المسلمين.

هل لوازع دينى؟. نعم بلا شك ـ بيد أنه ليس هو التحضيض اليتيم أو المفرد هناك بجانبه دافع سياسى هو: أن شهود المسلم إياها دليل على خضوعه لدولة بنى سخينة ( قريش ) وانضوائه تحت بيرقها ووقوفه تحت لوائها والعكس صحيح, ومن ثم خشيت هند بنت زاد الركب أن بكرها لمروره بلمحنة التى لاقاها فى وقعة مؤتة قد حاك فى صدره شئ وطفق يفكر فى التمرد والعصيان, وأول مخايله الإضراب عن التوجه إلى المسجد المحمدى الذى يعتبر بمثابة مقر الحكم ومركز السلطة, وهذا يرسخ ما كتبناه مرارًا, فيما سلف من أن قراءة سيرة ( المحمود ) بطريقة متأنية تنفح معطيات بالغة الثمانة شديدة النفاسة تساعد بدورها على إدراك بل وتفسير العديد من الأحداث المعاصرة وكيف أن لها جذورًا غوائر فى التاريخ.

 

*******

أنتم الكرار فى سبيل الله

وكيما ندرك كثافة الصحبة الذى تفضلوا مشكورين وتصدقوا بأكتافهم على الروم ومن حالفهم من أوشاب القبائل, وبالمثل لكى ننقه مدى قوة الرأى العام فى أثرب إبان حياة ( خير من مشى على أديم الأرض ) والذى اضمحل ثم تلاشى على أيدى من انتسب إلى قبيلته قريش ( بنى أمية من بنى سفيان وبنى مروان ) أو من أرومته ( بنى العباس ) وغِبّ أن تحول الإسلام ـ شانه شأن سائر الأديان ـ من ثورة إلى مؤسسة:

 

( عن أبى بكر بن عبدالله بن عتبة يقول ما لقى جيش بعثوا معنا ما لقى أصحاب مؤتة من أهل المدينة, لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله, فيدق عليهم الباب أن يفتحوا له, يقولون ألا تقدمت مع أصحابك؟.

فأما إن كان كبيرًا من أصحاب رسول الله ـ ص ت فجلس فى بيته استحياء, حتى جعل النبى ـ ص ـ يرسل إليهم رجلاً يقول أنتم الكرار فى سبيل الله ) [ كتاب المغازى للواقدى ـ الجزء الثانى ـ ص 765 ].

 

هذا الخبر يدل على أن الرأى العام الأثربى غدا فى عُرام الهيجان على الفارين حتى حولهم إلى عقائل فى إدبار دورهم لا يجرءون على مبارحتها ولا يقدرون على المروق منها ولا يستطيعون مغادرتها.

 

ويقطع بأن صحابة أكابر من بين الهرّابين بلغ بهم الاستحياء ووصل بهم الخجل وشملهم العىّ لدرجة أنهم خنسوا عن لقاء ( الضارع / المتبتل ) إنما لأخلاقه الرفيعة ومحامده الوفيرة بادر من جانبه بإرسال من يطيب خاطرهم ويجبر كسرهم ويخبرهم أن ما فعلوه كر لا فر وتحرّف لا هروب, وميل لا زوغان وانعطاف لا دحور!!!.

 

*******

ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار

 

مقدم كتاب السيرة المحمدية التى هى أزكى السير, ننسخ ما يلى:

( وجعل الناس يحثون على الجيش التراب, ويقولون: فررتم فى سبيل الله!!, فيقول رسول الله ـ ص ـ ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى ) [ السيرة المحمدية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 187 ].

 

هذا الاستقبال الحافل الذى أعده بنو قيلة والمنازيح للصحاب الذين أطلقوا سوقهم  الرعديدة يسابقون بها الدبور [ ريح تهدم البنيان وتقلع الشجر وهى القاصف والصرصر : المعجم المبتكر للتقوى ـ ص 188 ].

 

استبقيناه واتينا به فى مؤخرة الفاصلة لأنه أجدر بختامها:

لقد بلغت فوة الرأى العام أقصى مدى فهم التقوا فرار مؤته بالتراب يرمونه فى وحوههم ثم يجابهونهم بأقسى العبارات وأشدها إيلامًا وأبلغها جرحًا للمشلعر وشقًا للأحاسيس.

 

والأبلغ أن جِماعه حدث فى حضرة ( الصادق / الصادوق )

ولم ينههم, وفى علم الحديث أن هذه سنة إقرارية وتعنى وقوع فعل أمام ذاته الشريفة ولا يعترض عليه.

إذن نخرج منه أن حق القاعدة الشعبية العريضة فى الإفصاح عن رأيها وإعلانه بالصورة المناسبة شرع تأكد بسنة محمدية إقرارية.

 

بيد أن هذا الحق الطبيعى رحل إلى الظل ونقل إلى العتمة وغُيّب فى الظلام وتعاون على التعتيم عليه وتعاضد على إخفائه وشارك فى التضبيب عليه مؤسستان: السلطة السياسية أو الحاكمة والقلة أو الذروة الدينية , فهما الإثنتان من مصلحتيهما أن تظل القاعدة الشعبية العريضة مخدرة وتبقى فاقدة الوعى.

 

فالسلطة السياسية / الحاكمة يهمها أن تغدو الطبقة الشعبية معدومة الصوت, وقطوعة اللهاة, مبتورة اللسان حتى لا تزعجها بالمطالبة بحقوقها.

 

والذروة الدينية تفضّل الشعب الأبكم والمحكومين الخرس والرعية الصامتة التى لا تحتج على انحيازها للحكام وممالأتها للسلاطين وتعاونها مع الطغاة.

 

*******

التفسيرات المُعْجِبة

هذا موقف على قدر من الحروجة فمن ناحية ( الصالح / الصبور ) هناك قاعدة أصولية هى أن الفرار من الزحف إحدى الكبائر الوعرة والجزاء هو القرار فى قاع الجحيم, وبديهى أن الدافع على النص عليها أو تشريعها هو التحريم على أجناده الهروب من ميدان القتال وإلا ما تمكن من نشر الديانة التى جاء بها ولما استطاع دحر القبائل التى ترفض الديانة والانضواء تحت لوائه وهو يؤسس الدولة الحلم التى داعيت خيال جدوده قصىّ وهاشم وعبد المطلب.

 

( إن الإنهزام محرم إلا فى حالتين فقال: { إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } هو الكر بعد الفرار يخيل إلى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو من خدع الحرب { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ  } إلى الجماعة ـ من المسلمين سوى الفئة التى هو فيها .... وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف فى غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر ) [ غرائب القرآن: للقمى النيسابورى ـ المجلد الخامس ـ ص 322 ].

 

ويذهب الفقيه الحنفى أبو بكر الجصاص أن الثبات فى القتال وعدم الفرار من وجه العدو.........إلخ. ( كان ذلك فرضًا عليهم قل أعداؤهم أو كثروا ) [ أحكام القرآن ـ المجلد الثانى ـ ص 47 ].

 

بل إن من يترك موقعه لينتقل إلى آخر فيه جمع من المسلمين دون مبرر فإنه اعتبر فى حكم الفار أو الهارب وليس متحرفًا أو متحيزًا إلى فئة وأنه قارف الكبيرة.

( أما إذا أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور فى قوله تعالى:{ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ} [ أحكام القرآن ـ المجلد الثانى ـ ص 48 ].

 

هذه القاعدة التشريعية فى مضمار القتال والتى هى كما السيف الباتر خالفها عن عمد عدد من كبار الصحابة وأعداد وفيرة منهم وبعضهم اعترف لـ ( الخالص ) فما المخرج؟.

 

لو طبق الحكم بحذافيره طال أولئك جميعهم وفيهم كما تَوَضّح أصحاب أسماء لوامع بالإضافة إلى الجم الغفير: ( وأقبلوا منهزمين فذاك: إذ يدعوهم الرسول فى أخراهم ولم يبق مع النبى ـ ص ـ غير اثنى عشر رجلاً ) [ صحيح البخارى ـ الجزء السادس ـ ص 48 ـ طبعة 1378هـ ـ كتاب الشعب بمصر ].

 

منا تتهادى آية كريمة:

{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }[ آل عمران 155 ].

 

وهى خاصة بالذين فروا فى غزاة أحد: ( خطبنا عمر فكان يقرأ على المنبر آل عمران ويقول: إنها أُحدية.

ثم قال: تفرقنا عن رسول الله ـ ص ـ يوم أحد .... إلخ )[ أخرجه الطبرى فى تفسيره 7/327 رقم 327 ].

وأكده فى ذات الصفحة عند تفسيره لـ { يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } يوم التقى جمع المشركين والمسلمين فى أحد, ثم أضاف " اختلف أهل التأويل الذين عنوا بهذه الآية فقال بعضهم: عنى بها كل من ولى الدبر عن المشركين باحد" [ المصدر السابق ].

 

أما ابن كثير فقد سبق أن ذكرنا له تعبير عبد الرحمن بن عوف للأموى عثمان بن عفان عن فراره يوم أحد  ورد الأخير عليه.

فقال: كيف يعيرنى بذنب قد عفا الله عنه فقال: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ...... } [ تفسير ابن كثير ـ المجلد الثانى ـ ص 126 ].

 

يؤكد القرطبى أنها بشأن الهاربين يوم أحد:

( والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد, عن عمر ـ رض ـ وغيره عن السدى يعنى من هرب إلى المدينة ... وقيل هى فى قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبى ـ ص ـ وقت هزيمتهم ) [ الجامع لأحكام القرآن ـ المشهور بتفسير القرطبى: لأبى عبدالله محمد بن أحمد القرطبى ـ المجلد الثالث ـ ص 1485 ـ دار الريان ـ د. ت. ].

 

ثلاثة من كتب التفسير الشوامخ: الطبرى / ابن كثير / القرطبى, أطبقت على أن الآية الشريفة المذكورة بزغت لمناسبة الفرار من أحد.

ذكرت الآية أن الشيطان استزل الفارين, ويفسر القاضى البيضاوى الاستزلال بأنه: " ذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتل قبل استخلاص التوبة والخروج من الظلمة". [ تفسير البيضاوى ص 93 ].

 

وليس البيضاوى الذى انفرد بهذا التفسير المعجب بل نسخه أيضًا القرطبى. [ تفسير القرطبى ـ مصدر سابق ].

 

ومن الطبيعى بل من البديهى أن ينسخ على نولهم ويقتفى خطاهم ويسير فى دربهم المفسرون المحدثون فيتبنون هذا التفسير الفطير:

( ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفروا يوم التقى الجمعان فى الغزوة أنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها, فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ وسقطوا ) [ فى ظلال القرآن: لسيد قطب ـ المجلد الأول ـ الجزء الرابع ـ ص 497 ـ الطبعة الشرعية الحادية عشرة 1402هـ / 1982م ـ دار الشروق ـ القاهرة ].

 

وهو ذات المنحنى الذى ذهب إليه صاحب ( الرحاب ):

( ...... تولوا فارين إنما أوقعهم الشيطان فى هذا الخطأ بسبب بعض أفعالهم السايقة فإن الذنب الذى يفعله الإنسان يترك نقطة سوداء فى القلب فينفذ منها إلى الإنسان ويوحى إليه بالسوء ) [ فى رحاب التفسير: لعبد الحميد كشك: الجزء الرابع ـ ص 730 ـ الطبعة الأولى 1408هـ / 1988 م ].

 

 *******

أسطرة وتقديس الصحابة

وصفنا هذا التفسير مرة بأنه مُعجِب والأخرى فطير ( غير ناضج ) لأنه غير مقنع ولا منطقى, فلو أن الشيطان ذكرهم بذنوبهم السوابق ففروا حتى تتم توبتهم ويخرجوا من مظالمهم, فإن الأقرب إلى البديهى أن يكفروا عنهم بنوالهم الأجر الجزيل والثواب الوفير بالثبات والمضى فى القتال ونصرة الدين الذى آمنوا به وشد أزر ( قائدهم محمد ) الذى بشرهم به, والاستشهاد فى سبيله ومعلوم لهم المنزلة التى يحظى بها الشهيد.

 

هذا من ناحية ومن رجا آخر:

هل الذين استمروا فى القتال ولم يولوا الأدبار خلاء من الذنوب العظيم؟.

 

ومن ثالثة وأخيرة:

من بين الذين أعطوا ظهورهم للمشركين وأصعدوا ولم يلووا: العدوىّ عمر, والأموى عثمان وغيرهما الأماثل المبشرون بالجنة.

فهل ينطبق عليهم هذا الادعاء الفسيد؟.

 

وإذا جاءت الإجابة بنعم, فما هو حال عامة الصحاب الذين لم يدخلوا الإسلام إلا منذ عهد قريب؟.

 

إذ معلوم أن عركة احد وقعت بعد النزوح من بكة إلى أثرب بثلاثة أعوام على الأكثر, أى أن غالبية من ثبت مع ( أبى القاسم ) فى العركة وهم من بنى قيلة لم يمض على إسلامهم سوى فترة يسيرة, فى حين أن العدوىّ والأموىّ عريقان فى اعتناق الديانة وانقضى على كل منهما أكثر من خمسة عشر عامًا.

 

أليس من الأسهل والأوفق لتوجيهات الإسلام وأبسطها الجهر بالحق مهما بلغت مرارته أن يسطر أولئك المفسرون أن الجبانة والحرص على الحياة هما الدافعان اللذان وزا الفارين على الهروب؟.

 

ويفسرون استزلال الشيطان لهم بدخوله إليهم من هذه الموالج.

 

وهنا يتقدم سؤال على قدر من الأهمية:

لماذا يسلك المفسرون قدامى ومحدثون هذا المنهج المعوج؟.

 

فى رأينا أن باعثهم الحثيث عليه هو ما سبق أن رقمناه:

عملية الأسطرة وإضفاء القداسات الزيوف والهالات المصطنعة على شخوص حقبة الفجر فهم لا يصح أن يظهروا فى هيئة الجبن ولا فى صورة الخوف ولا فى زى الرعدة ولا بمنظر الرعشة. بل هى شخصيات كاملة مثالية نموذجية لا يقرب منها شين ولا يمازجها عيب ولا يخالطها عوار.

 

والحق أن المفسرين وأضرابهم من الإخباريين والفقهاء وأصحاب السير بعد أن غربت فترة التوهج والتألق والطزاجة نجحوا نجاحًا منقطع النظير فى أسطرة تلك الشخصيات, حتى إنها ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا لدرجة أن كاتبًا معاصرًا صدّر مؤلفه عن العدوىّ عمر بن الخطاب يالاستئذان فى الدخول !!.

 

أرأيت لهذا الحد وصل التقديس وبلغت الأسطرة؟.

 

مع ان الاستئذان فى القرآن العظيم باستثناء المماليك على أسيادهم والمحتملين من الأطفال على ذويهم لم يرد إلا فى حق ( الأعظم ) وحده دون غيره. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاء ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {58}  وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {59}} [ النور 58, 59 ].

 

والكاتب المذكور ينقهه أو من المفروض لأنه شيخ أزهرى وأنداده يردفون أسماءهم بعبارة ( من العلماء ).

بيد أن الأسطرة التى استمرت ما يزيد على اثنى عشر قرنًا غسلت مخ المؤلِف وأنسته توجيهات الذكر الحكيم فى نطاق الاستئذان.

 

إن الذى يثير الاستغراب ويستنفر الذهن ويحض عل التعجب أن الكاتب انطلق من أرضية تبشر باستنارة واعدة ولكنه نكص على عقبيه بل تبرأ من فاتحته!!.

 

نفحنا القارئ هذا المثال لنبرهن له على مدى تأثير الأسطرة, لأنها على المسلم العادى أشد وقعًا وأعمق فعالية وأوعر غورًا وأمر حصادًا.

 

ومن البديهى أن نؤكد أن زحزحتها سواء بالنسبة إلى النصوص الثوانى أو الأشخاص مهمة ثقيلة بيد أنها ليست مستحيلة كما نقدر وغيرى من البحّاث المفكرين ممن يسيرون معى أو أسير معهم فى ذات الاتجاه.

 

*******

مقارنة بين القرآن والنصوص

 

هذه النقطة وهبيتنا فرصة لنجرى مقارنة بين منحى البشرى ونعنى القرآن المجيد ومنهج النصوص الثوانى وفى مقدمتها التفسير والفقه, فالأول جاء صريحًا مباشرًا مفتوحًا:

فرار واستزلال من الشيطان ثم عفو من الله جل جلاله لأنه غفور رحيم, غفر للهرابين ضعفهم البشرى وتغلب غريزة حب الحياة عليهم....إلخ.

أما الآخر " منهج النصوص الثوانى" ونعنى تفسير المفسرين فاتسم وما زال باللف والدوران والتعمية والتغطية والتغبيش والتضبيب والأدلجة.

 

ونذكّر القارئ هنا بما زبرناه فى المقدمة فى " السفر الأول" عن الفرق بين القرآن الذى حفظه الصحب فى صدورهم والقرآن الذى دُون و عُرِف فيما بعد بـ " مصحف عثمان" ونكرر أنه لا خلاف فى السور والآيات إنما فى التلقى والاستقبال والتعامل.

 

الأول شفوى والآخر مسطور وليرجع القارئ إلى ما حررناه آنفًا فى هذه الخصوصية لأن المراجعة سوف تزيده فهمًا لما نؤم وإدراكًا لما نقصد ونقهًا لما نبغى ووعيًا بما يزيد.

 

الخلاف بين الاثنين يتمثل فى الغاية التى استهدفها كل منهما.

 

فالذكر الحكيم رمى إلى معالجة لحظات الخذلان وساعات الخور وأوقات التضعضع التى تضرب نفوس البشر عندما يمرون بامتحان عسير واختبار وعر وفتنة عمياء, أما خربقات المفسرين التراثيين والمعاصرين فتنزع إلى التبرير الفج والتسويغ البائخ والتجويز المسيخ, لماذا؟.

 

لأن عددًا من أولئك الهاربين فى نظرهم لا يتعرضون للوهن ولا يعتريهم الغلط ولا يجوز عليهم الخطأ.

 

مع أن ( سيد ولد آدم ) قال:( كل بنى آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) [ رواه الترمذى وابن ماجة والحاكم فى المستدرك عن أنس ين مالك ].

 

ثم نرجع إلى سياق الدراسة:  

 

*******

و هروب آخر فى حنين

فى غزاة حنين التى وقعت فى السنة الثامنة ولّى الصحاب البررة مدبرين ولم يبق مع ( المزمل ) إلا نفر قليل فى مقدمتهم أهل بيته وعلى رأسهم أبو تراب  وأيضًا أسامة بن زيد ( الحب ابن الحب ) وأيمن ابن أم أيمن ( ظل صامدًا حتى استشهد ) بالإضافة إلى التيمىّ عتيق والعدوىّ ابن الخطاب ( لعله أراد أن يكفر عن خطيئته بوم أحد ).

هناك العديد من كتب التراث التى يضعها المسلمون فى أعلى محل تؤكد أن الذى بقى مع ( صفوة الكائنات ) اثنان فحسب عمه العباس وابن عمه أو سفيان بن الحارث. [ تفسير البيضاوى, تفسير الجلالين, الكشاف على سبيل المثال ].

 

وعدد الصحاب الميامين الذى خرجوا للقاء هوازن عشرة آلاف ودعك من الألفين من الطلقاء من أهل قرية التقديس الذين أسلموا بعد فتح الفتوح: ( ثم خرج رسول الله ـ ص ـ ومعه ألفان من أهل مكة مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ففتح الله بهم مكة, فكانوا اثنى عشر ألفًا ) [ السيرة النبوية لابن إسحق ـ المجلد الثانى ـ ص 277 ـ طبعة اخبار اليوم / الفصول فى اختيار سيرة الرسول ـ ص ـ تأليف الحافظ أبى الفداء إسماعيل ابن كثير 701/774 هـ تحقيق وتعليق محمد العبد الخطراوى وآخر ـ الطبعة الأولى ـ 1420هـ / 1999م ـ ص 182 من منشورات: مؤسسة علوم القرآن ـ دمشق ـ بيروت ـ ودار القلم ـ دمشق ـ بيروت ].

 

قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وكببنا على الغنائم فاستقبلونا بالسهام وانكشف المسلمون عن رسول الله ـ ص ـ واختلفوا فى عدد عسكر  رسول الله ـ ص ـ فقال عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفًا, وقال قتادة: كانوا اثنى عشر ألفًا: عشرة ألاف الذين حضروا مكة وألفين من الطلقاء. وقال الكلبى: عشرة آلاف. وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف ). [ مفاتيح الغيب ـ التفسير الكبير: لفخر الدين الرازى ـ المجلد السابع ـ ص 614 ـ طبعة دار الغد العربى ].

 

ويؤكد أبو البركات النسفى هذه الأعداد إن فى جانب تُبّاع ( أول من تنشق عنه الأرض ) أو بالنسبة لعدوه: ( حنين واد بين الطائف ومكة كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفًا بين هوازن وثقيف وهم أربعة آلاف ... ) [ تفسير النسفى لأبى البركات عبدالله النسفى ـ لجزء الثانى ـ ص 122 ـ د.ت. دار إحياء الكتب العربى بمصر ].

 

وملأ الزهو نفس ابن أبى قحافة لما نظر إلى ذلك الجيش العرمرم " فقال أبو بكر: لا نُغْلَب اليوم من قِلّة" [ الطبقات الكبرى: لابن سعد ـ الجزء الثانى ـ ص 200 ـ طبعة 1358هـ ـ سلسلة التاريخ الإسلامى ـ لجنة نشر الثقافة الإسلامية ـ مصر ].

 

نلحظ أن ابن سعد كاتب الواقدى وصاحب الطبقات وله مقام مشهود بين كُتاب السيرة المحمدية التى يؤكد كل سطر فيها عبقرية صاحبها وطبقاته من أميز الكتب فى هذا المجال ـ ذكر قالة التيمىّ أبى بكر بصيغة التأكيد, بيد أن أحد الكتبة المحدثين عندما نقلها أوردها بصيغة التمريض والتوهين والتهزيل " قيل" : " قيل إن أبا بكر الصديق: .. قال: ... إلخ" [ فقه السيرة: لمحمد الغزالى ـ ص 409 ـ الطبعة الثامنة ـ 1402هـ / 1982 م ـ دار الكتب الإسلامية بمصر ].

 

لماذا فعلها الغزالى. ليُفْرِخ فى ورع قارئه أن التيمىّ من المستحيل عليه أن يداخله الزهو أو يخالطه الغرور أو يمازجه الافتخار

وأن هذه العبارة دُسّت عليه ولم يقلها, متجاهلاً أن ابن سعد وهو من هو أوردها مؤكدة دون تشكيك. .

 

وكيما ينزع عن أبى بكر حقيقته التاريخية وصفته البشرية وطبيعته الآدمية فهو ليس كغيره من الناس فلا يزهو ولا يغتر ولا يتفاخر.

 

إنه منهج أسطرة الأشخاص وإضفاء الهالات عليهم ونفحهم القداسات

 الذى استمر قرونًا ممدودة حتى غدوا فوق الزمان والمكان .... إلخ.

 

وما زال المسلم ينظر إليهم هذه النظرة التجريدية اللا تاريخية .. ثم عود إلى سياق الدراسة.

 

*******

القرآن يوثق الهروب

 

أولئك الألوف من الصحابة ما إن هجم عليهم فرسان هوازن حتى أخذوا يسابقون الدبور ( الريح فائقة السرعة ).

( فكان أنس بن مالك يحدث يقول: فلما تحدرنا فى الوادى فبينما نحن فى غلس الصبح, أن شعرنا إلا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادى وشعبه فحملوا حملة واحدة فانكشف أول الخيل ـ خيل سليم ـ مولية وتبعهم أهل مكة وتبعهم الناس منهزمين ما يلوون على شئ .

قال أنس: فسمعت رسول الله ـ ص ـ وإلتفَتَ عن يمينه ويساره والناس منهزمون وهويقول: يا أنصار الله ... يا أنصار رسوله ... أنا عبدالله ورسوله ). [ كتاب المغازى للواقدى ـ الجزء الثالث ـ المجلد الخامس ـ ص 897, 898 ].

 

ولم يثبت مع ( صاحب القدر الرفيع ) إلا أولئك النفر الذين ذكرناهم وسجل القرآن العظيم هذا الهروب الكبير أو الفرار الجماعى الذى حققه هذا العدد الهائل من المرات القليلة فى التاريخ ولكن بقوله: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } [ التوبة 25 ].

 

وليس هناك ما هو أشد توثيقًا من آى الذكر الحكيم.

 

{ وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ.. } والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا فى الأرض ذات الطول والعرض موضعًا يصلح لهزيمتكم وكانما ضاقت عليكم { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } أى انهزمتم انهزامًا. [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ المجلد الخامس ـ ص 422 ].

 

وهو ما زبره الزمخشرى فى ( كشافه ): فانهزموا حتى بلغ فلّهم مكة ... { بِمَا رَحُبَتْ } أى مع رحبها .. والمعنى: لاتجدون موضعًا تستصلحونه لهربكم إليخ ونجاتكم لفرط الرعب فكانها ضاقت عليكم, { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ثم انهزمتهم, { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } رحمته التى سكنوا بها,{ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الذين انهزموا. [ الكشاف للزمخشرى 467/538هـ ـ المجلد الثانى ـ ص 182 ـ د.ت. ـ دار المعارف ـ بيروت ـ لبنان ].

 

ولقد سجلت الآية الشريفة موقف التباهى الذى اعترى عتيق بن ابى قحافة { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ }  ولا يقدح فى وجهة النظر هذه لان اسم أبى بكر لم يرد فيها فالقرآن المجيد درج على محو أسماء الأشخاص والأماكن والأزمان عندما يتناول سرد أى حادثة. [ الاستثناء الوحيد هو ذكر اسم زيد ابن حارثة ورقمناه فيما سبق علته, وكذا ذكر حنين فى الآية الخامسة والعشرون من سورة التوبة ] . كيما تتسم آياته بالتعالى والتسامى والتجريد, هذا من ناحية , ومن ناحية اخرى: ولو انها أقل أهمية وأخفض قيمة وأضعف قدرًا من الأولى أن إثبات أسامى الأشخاص قد يحرج إحساس المذكور لو جاء فى معرض الحرج أو الوهن أو الضعف. أما لو اتى فى مجال الإشادة والثناء الجميل والذكر الحسن فمن ورد اسمه قد يداخله الإعجاب بذاته, وغيره ينفسه عليه ويغار من والذكر المحكم ( السور والآيات ) حريص على أن تظل نفوس الصحابة راضية وقلوبهم مطمئنة وصدورهم منشرحة.

 

كيف لا؟ وهم العدة فى نشر الديانة والسلاح لتوسيع رقعة الدولة.

 

وقبل أن نغادر هذه النقطة لغيها نقارن بين منحى القرآن الكريم الذى وقت ذاك ما زال شفويًا أومكنونًا فى الصدور ولم يسوّر عليه بين دفتى مصحف عثمان الأموى وبين تلاعبات المفسرين الذين عاشوا على هامشه.

 

فقد رقم أحسن الحديث حالة العنجهية والخنزوانة والتشامخ التى صربت الصحابة والتى عبر عنها كبيرهم عتيق بن أبى قحافة التيمىّ حينما رأوا كثرة العدد وأكدوا نصرهم على عدوهم.

 

أما الكاتب الذى نسخنا اسمه فيما سلف فقد نقلها بصيغة توحى بعدم الوقوع وتشى باستحالة الحدوث وتشف عن استبعاد التشيؤ, وهو مثل لما فعله سلفه الصالح ويفعله أنداده المعاصرون وهذا هو الصادع الذى يفصل بين الصدق والتفتح والطهارة, وبين اللف والدوران واللولبة والالتواء, وإذ أردفت أو أضيفت ( النصوص الثوانى ) على حواشى أو هوامش النصوص المقدسة الأصلية وانتسبت إليها نالها قدر من التقديس آنا كبير وحينًا صغير وبالتقدم الطويل يترسخ ذلك.

 

وليس مصادفة أو خبط عشوائى أن عددًا وفيرًا من التفاسير خاصة التراثية تدون وتطبع على جوانب المصحف الكريم, بل إن هذا العمل ما زال مستمرًا حتى الآن. [ انظر على سبيل المثال السريع " التفسير الميسر" لرئيس مؤسسة شئون التقديس الشيخ محمد سيد طنطاوى ـ والأمر الذى لا يخفى على الفطن معناه أنه مطبوع بـ " مطبعة المصحف الشريف بالأزهر" ـ أ.هـ. ].

 

وهى ( النصوص الثوانى ) غدت ـ لعدة عوامل ـ لا مجال هنا لذكرها ـ واسعة الانتشار قريبة المنال بل فى راحة اليد.

 

ومن هنا يصبح تأثيرها على القارئ العادى أو حتى المثقف أشد غورًا وأعمق شقًا وأنفذ مفعولاً

وهذا أحد الروافد المهمة فى تكليس العقول وتحجيرها وتنفيرها

 إلا من الثقافة الضيقة أى التقليدية المغلقة على نفسها.

 

*******

التنزيل هو الحل

 

بفرار عشرة آلاف صحابى وتوليهم وجريهم لا يلوون على شئ تخلقت أزمة من الوزن الثقيل إذ كيف يُسم هذا الحجم الغفير وفيهم مرازبة جحاجح وسادة غطاريف ونُجُب أسياد: منازيح وابناء قيلة بهذه الكبيرة الباهظة والإثم الفظيع والخطيئة الغليظة؟.

 

أولاهما: معنوية وهى الحكم على هؤلاء جميعهم بأن غضب الله تعالى نزل عليهم وأن مأواهم جهنم وبئس المصير.

وآخرهما: مادية وهى لا سبيل إلى الاستعانة بهم وحتى معاملتهم, إذ كيف تستعين بهُرّاب فُرّار تولوا يوم الزحف وينتظرهم المآل المحتوم إلى النهاية؟.

 

فإذا تم فكيف ومتى وأنّى يمكن تعويض العشرة آلاف؟.

 

فنا يأتى دور ( الحبل / القرآن ) فيتفضل بتقديم الحل فتهلّ الآيات الكريمات : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ {25} ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {26} ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {27} } [ التوبة 25 ـ 27 ].

 

فهنا نزلت السكينة من السماء على الذين منحوا أكتافهم العريضة لعدوهم الذى لم يصل إلى ثلث عدتهم أى الذين أمعنوا فى الفرار والجرى حتى وصلوا مشارف مكة مع أنهم فى بدىّ الأمر انتصروا فما إن لمحوا الغنائم الجزيلة, حتى ألفوا أسلحتهم وطفقوا يجمعونها فعاد إليهم فرسان هوازن وهجموا عليهم ثانية, فما إن شعر الصحاب البواسل بعودة الهوازيين إلى الطعان حتى منحوا سيقانهم للريح وحدّس الطليق أو الطلقاء الأموى سفيان بن حرب ألا شئ سيوقفهم من غلإدبار إلا ساحل الحر, أى على أولئك الشجعان المغاوير الذين تركوا قائدهم وسيدهم مع نفر قليل من الثابتين.

 

( واذكر { َيَوْمَ حُنَيْنٍ } واد بين مكة والطائف { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } فقلتم لن نُغلب اليوم من قلة وكانوا اثنى عشر ألفًا والكفار أربعة ىلاف { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } أى مع رحبها أى سعتها فلم تجدوا مكانًا تطمئنون إليه لشدة ما لحقكم من الخوف { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } منهزمين { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } طمأنينته ) [ تفسير الجلالين ـ تصحيح ومرتجعة: محمد صادق قمحاوى ـ ص 156ـ د.ت. ـ مكتبة الجمهورية العربية بمصر ].

 

بيد أنه من الجائز أن يعترض قارئ قائلاً: إن السكينة التى نصت عليها الآية الشريفة المذكورة حددت من نزلت عليه { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ }, والذين ولوا مدبرين من المستحيل أو حتى من الصعب وصفهم بالإيمان ومن ثم فهى لا تعمهم؟.

 

بيد أن المفسرين أو للدقة التى نحاول أن نتحراها فى كل بحث أو دراسة: عددًا منهم اكدوا أن السكينة ضمت الذين ثبتوا والفُرّار.

{ ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } رحمته التى سكنوا وأمنوا.

{ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله حين وقع الهرب. [ غرائب القرآن: للقمى النيسابورى ـ المجلد الخامس ـ ص 422 ].

 

والقاضى البيضاوى يعاضد القمى النيسابورى فى هذا المذهب:

( { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ } برحبها أى سعتها لا تجدون فيها مقرًا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه. { ثُمَّ وَلَّيْتُم } الكفار ظهوركم. { مُّدْبِرِينَ } منهزمين والإدبار الذهاب إلى الخلف, خلاف الإقبال .. { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ } رحمته التى سكنوا بها وآمنوا. { عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } الذين انهزموا ) [ تفسير البيضاوى ص 251 ].

 

أما القرطبى فيذكرها بطريقة ضمنية:

( قوله تعالى: { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أى أنزل عليهم ما يسكنهم ويذهب خوفهم حتى اجترءوا على قتال المشركين ). [ تفسير القرطبى ـ المجلد الخامس ـ ص 2940 ].

 

فإذهابه الخوف وإعادة الجرأة على القتال التى فسر بها السكينة كلها لا تنال إلا الهرابين الذين ركبهم الفزع وعمهم الهلع وإمتطتهم اللشلشة.

 

وبمفوم الموافقة فإن إنزالها من السماء يعنى العفو والمغفرة والصفح عن كبيرة والاكتفاء بعتاب رقيق هادئ ولفت نظر بسيط بعدم الاغترار بكثرة العدد.

 

وهكذا انحلت عقدة هزيمة الصحب فى مفتتح غزوة حنين وهربهم من وجه عدوهم وعاد الهدوء إلى ( الأعز/ الأعظم ) واعترى صحبه سرور عارم لا بالتجاوز عن الكبيرة التى ارتكبوها فحسب, بل لنوالهم غنائم جزيلة لم يحصلوا عليها فى أى غزوة انتصروا فيها.

 

ولا شك أن تقسيم الغنائم على الجميع دون تفرقة بين من ثبت مع ( الغوث ) ومن ولىّ الإدبار يدل على صحة تفسير أن السكينة التى وردت فى الآية الكريمة جاءت عامة ولم تخص أولئك الأبطال المغاوير الذين ظلوا يقاتلون ولم يهربوا.

 

*******

الخلاصة

يبين من جِماع ما تقدم أن الأساليب تنوعت والوسائل تباينت والطرق تعددت فى كف الصحابة عن الجبانة ونهيهم عن الرعشة أو الارتعاش وتنفيرهم من الخور, وبالمقابل حضهم على الشجاعة وترغيبهم فى الثبات ودفهم إلى البسالة.

 

فمرة: يقال لهم إنها زلة شيطانية وقد عفا الله عنها إذ هو الغفور الرحيم.

وأخرى: يقال عكّارون لا فرّارون وإن ما بدر منهم مجرد تحرّف فى القتال وتحيّز على فئة وذكر لهم ( الأمين ) وهو الذى لا ينطـق عن الهوى    ( أنا فئتكم ) أى أن هروبهم حتى يثرب هو انحياز إلى قومهم وهو على رأسهم, وسبق أن رقمنا أن لهم عذرهم لأن جيش العدو خمسون ضعفًا.

وثالثة: ينزل السكينة عليهم فينعطفون على المشركين ويهزمونهم.

 

هذه الأساليب المتنوعة, كما نلاحظ, الهدف منها التربية, إذ راعت كل حالة وقدرت كل ظرف و وزنت كل نازلة.

 

وهكذا يثبت الذكر الحكيم أنه دائمًا مع ( الموقر ) وجماعة المؤمنين لا يغفل عنهم خاصة فى المحن والشدائد والأزمات.

 

 

*******

3ـ إلجام التُبّاع عن الاندفاع نحو المُتع الحسية:

 

مدخل

 

تناولنا بالدراسة الموضوعية ـ فيما سبق ـ اشتعال غريزة الجنس فى ذاك المجتمع لدى الذكور والإناث دون تفرقة وسردنا أسبابه ولا نرى داعيًا للتكرار. [ انظر كتابنا ( مجتمع يثرب ـ العلاقة بين الرجل والمرأة فى العهدين المحمدى والخليفى ) دار سيناء ومؤسسة الانتشار العربى ـ بيروت ـ وقد طبع مرتين ].

 

وقد عانى ( أذُن خير ) الأمرين وهو يقوّم اعوجاج التُبّع فى هذا المجال وتربيتهم على السيطرة على نوازع الحسّ وتعليمهم التسامى بتلك الغريزة.

 

وكما تعودنا لم يذره " أحسن الحديث" يحارب فى هذه المعركة الشرسة منفردًا بل وقف إلى جنبه يؤازره ويعاضده.

 

السلوكيات الفلوت والتصرفات الطائشة والأفعال المنحرفة التى صدرت من عدد من التُبّع جاءت متنوعة, بيد انها تشى بغلبة دوافع الجسد وسيطرة الغريزة وقوة الشهوة التى تصل فى احيان كثيرة إلى درجة الشبق, لأن الذى يُقدم على اغتصاب مَرَة أخيه وهو يعلم علم اليقين أنه خرج مجاهدًا فى سبيل ذات الديانة التى يعتنقها هو بل وربطته بالزوج الغائب آصرة قوية, نقول إن هذا الشخص هيمنت عليه الغريزة وحولته من غنسان إلى حيوان أبجر. [ هو من امتلأت بطنه ولم يشبع ـ ورجل أبجر ومَرَة بجراء " المعجم الوجيز" أى بلغت به النهامة "إفراط الشهوة" أقصى حد ].

 

( أخرج الترمذى والنسائى والبخارى فى تاريخه والواحدى عن أبى اليسر قال: أتتنى امرأة تبتاع تمرًا, فقلت إن فى البيت تمرًا أطيب منه, فدخلت معى البيت, فأهويت إليها فقبلتها, فأتيت أبا بكر فذكرت ذلك له فقال: استر على نفسك وتب, فأتيت عمر فذكرت ذلك له, فقال: استر على نفسك وتب ولا تخبر أحدصا, فلم اصبر فأتيت رسول الله ـ ص ت فذكرت له فقال: أخلفت غازيًا فى سبيل الله فى أهله بمثل هذا, حتى انه لم يكن أسلم إلا تلك الساعة, حتى ظن انه من اهل النار.

قال وأطرق رسول الله ـ ص ـ حتى أوحى الله إليه: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [ هود 114 ] ). [ المقبول لأبى عمر نادى الأزهرى ـ ص 408, وأضاف المصنف: أورده الخطيب فى تاريخ بغداد والطبرانى فى الكبير والواحدى فى أسباب النزول ووصف إسناده بأنه حسن, وكذلك لباب النقول للسيوطى ـ ص 102 وأضاف: وورده نحو من حديث أبى إمامة بن جبل وابن عباس وبريدة وغيرهم ].

 

أما الواحدى النيسابورى فقد أكد علم أبى اليسر أن المَرَة زوجة أحد أجناد البعوث " السرايا" وأنه لما قص حكاية فعله المخزى على ( البشير ) قال له على الفور خُنت رجلاً غازيًا فى سبيل الله بهذا. [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 180, 181 ].

 

إن هذا الأبا اليسر ليس هو الفارس الوحيد فى هذا المضمار فثمة تمّار آخر يرتكب الفُحش ذاته:

( أخرج الثعلبى من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس فى قوله: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ آل عمران 135 ], قال: هو نبهان التمار, أتته امرأة حسناء جميلة تبتاع منه تمرًا, فضرب عجيزتها, فقالت: والله ما حفظت غيبة اخيك, ولا نلت حاجتك, فسقط فى يده فذهب إلى النبى ـ ص ت فأعلمه, فقال: إياك أن تكون إمراة غازٍ؟ فذهب يبكى ثلاثة ايام يصوم النهار ويقوم الليل فأنزل الله عز وجل فى اليوم الرابع هذه الآية, فأرسل إليه فأخبره, فحمد الله وأثنى عليه وشكرهة وقال: يا رسول الله هذه توبتى فكيف لى بأن يقبل شكرى؟ فأنزل الله عز وجل: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } [ هود 114 ].

 

عندما نؤكد أن هذا المنزع يتجاوز التصرف الذاتى ويكاد يتحول إلى ظاهرة اجتماعية, فليس فى هذا اقل مبالغة, قهذا أحد الصحبة الميامين يقارف نفس الخطيئة ولا يكفى بالتقبيل كأبى اليسر أو بالتحسيس باليد على العجيزة المكتنزة للمَرَة المشترية إمرأة أخيه الغازى مثل ما اقدم عليه نبهان التمّار, إنما اوعر منه لولا أن همته لم تسعفه ومذاكيره خذلته ورجولته خَنَسَتْ عنه.

 

( أخرج الإمام أحمد والبيهقى والبزار وغيرهم أن رجلاً من أصحاب النبى ت ص ت كان يهوى امرأة فاستأذن من النبى ـ ص ـ فى حاجة فأذن له فانطلق فى يوم مطير فإذا بالمرأة على غدير فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة, ذهب يحرك ذكره, فذا هو هُدبة, فقام فأتى النبى ـ ص ـ فذكر له ذلك, فقال النبى ـ ص ـ صل أربع ركعات, فأنزل الله تبارك وتعالى: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } [ هود 114 ] ). [ المقبول للأزهرى ص 407 ].

 

   وذكر المصنف أن الهيثمى قال عنه فى الزوائد:  رجاله رجال الصحيح وأن الخطيب رواه فى تاريخ بغداد  و العراقى أورده فى  تخريج  الإحياء ( يعنى تخريج احاديث إحياء علوم الدين للغزالى ) وعزاه له ابن مردويه بإسناد جيد ووصفه المصنف الأزهرى بأنه صحيح.

 

*******

المُغَيّبات ظاهرة عامة

فى كتابنا " مجتمع يثرب" نسخنا أن " المغيبات" أى زوجات الذين يجندون فى الغزوات والسرايا والبعوث شكلن معضلة اجتماعية لأنهن صيد سهل للرجال الباقين فى أثرب وهم وهن حديثو عهد بالإسلام وغرائزهم ملتهبة ذكورًا وإناثًا وجِماعه دعا ( المدثر ) إلى إصدار أحاديث تشدد على نهى التماس بهن, بيد أن طغيان الغريزة التى هى بطبيعتها مشتعلة عندهم والملابس التى يرتدونها والأخبية والخيام وحتى مبانيهم الساذجة البدائية كلها ساعدت على سهولة الالتقاء.

 

ولذا ألفينا فى غالبية الحوادث التى هى على هذه الشاكلة أن النسون اللائى تم التحرش بهن أو اغتصابهن هن بعلات عساكر الغزو.

 

وإذا إتضح من الأخبار المتقدمة أن ضمير الرجل أو المرأة قد استيقظ, فالأدنى إلى المنطق والأقرب إلى طبائع الأمور أن هناك العشرات من اللقاءات تمت سرًا ولم يبلغ عنها أطرافها: رَجَلة (= جمع رجل ) أو نسوة بل لقيت من الجميع الرحابة والانبساط.

( ..... عن ابن عباس أن رجلاً لقى عمر فقال إن المرأة جاءتنى تبايعنى فأدخلتها المولج فأصبت منها كل شئ إلا الجماع, فقال ويحك لعلها مُغيب ( أى زوجها ) فى سبيل الله قلت اجل, قال إئت أبا بكر: فقال ما قال لعمر ورد عليه مثل ذلك, وقال: إئت رسول الله ـ ص ـ فسله فأتى رسول الله ـ ص ـ فقال مثل ما قال لأبى بكر وعمر. فقال رسول الله ـ ص ـ لعلها مُغيب فى سبيل الله , فقال: نعم, فسكت عنه ونزل القرآن: { وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ }. فقال الرجل: إلى خاصة رسول الله أم للناس عامة؟ فضرب عمر صدره وقال: لا ولا نعمة عين ولكن للناس عامة, فضحك رسول الله ـ ص ـ وقال: صدق عمر ). [ أسباب النزول للواحدى النيسابورى ـ ص 181 ].

 

إن تكرار سؤال ( الأزهرى ) والتيمىّ والعدوىّ / الرجل: لعلها مُغيب فلا سبيل الله أى لعل زوجها غائب عنها فى غزاة أو سرية أو بعث؟ يشى بإدراكهم العميق لأبعاد هذه المشكلة الاجتماعية, وأنها لم تعد حالات فردية بل ظاهرة عامة.

 

عندما قرأت الخبر تعجبت لجرأة عمر, فالرجل يتوجه بسؤاله إلى ( سيد الكائنات ) هل الآية تخصه أم تعم سائر التُبّاع؟ فإذا به أىّ العدوىّ لا يلزم غرزه ولا يقف عند حده, ولا ينتهى عند موقعه ... فيسرع بالإجابة: إنها لكل الناس ولم نعهد فى غيره من التُبّع من يقدم على مثل هذا الصنيع.

 

*******

توثيق بالتفاسير

 بعدها نأتى على التفاسي:

{ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ } قال المفسرون نزلت فى أبى اليسر عمر بن غزية الأنصارى كان يبيع التمر فأتته امراة فأعجبته, فقال لها إن فى البيت أجود من هذا فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبضها وأصاب منها كل ما يُصيب الرجل من زوجته سوى الجماع ثم ندم, فأتى رسول الله ـ ص ـ فأخبره بما فعل فقال انتظر أمر ربى, فلما صلى صلاة العصر نزلت, فقال نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت, فقيل له هذا له خاصة أم للناس عامة فقال: بل للناس عامة ) [ غرائب القرآن للقمى النيسابورى ـ الجزء السادس ـ ص 25, 26 ].

 

وفى تنوير المقباس:

( نزلت فى شأن رجل تمار يقال له أبو اليسر بن عمر ) [ تنوير المقباس من تفسير ابن عباس: ص 125, 146 ].

 

ويؤكد صاحبا تفسير الجلالين أن الحديث رواه الشيخان:

( نزلت فيمن قبل أجنبية فاخبره ـ ص ت فقال إلىّ هذا فقال: لجميع أمتى, رواه الشيخان ) [ تفسير الجلالين ص 192 ].

 

وسبق أن أوضحنا ما تعنيه كلمة " الشيخين" فى دائرة علم الحديث, أى البخارى ومسلم وإذ إنهما يتربعان على قُلّة ( ذروة ) الصحاح الستة فإن الحديث الذى يتفقان عليه يغدو الطعن فيه من الصغار الذى لا يليق.

 

الخبر الذى وضعه فى حجورنا القمى النيسابورى ينبغى لنا قراءته بحرص شديد, فبعدما سمع ( خير قرابين الله ) القصة من التمّار الشبق الذى لم يراع أى حرمة, رد عليه بقوله ( انتظر أمر ربى ) أى أنه على يقين كامل أن السماء لن تدعه يواجه هذا الموقف بمفرده خاصة أن الممارسات الجانحة تكررت وتحولت على ظاهرة.

 

وإن المرء ليعجب أشد الإعجاب بحلم ( خير من وطئ الأرض ) وصبره, فهو عندما سمع تلك الحكاية المخجلة خاصة أنها مورست مع مُغيبات ورغم نهيه الباتر كما السيف الصارم عن الاتصال بهن بأى صورة, ولأى ظرف لم ينفعل, ولم يعنف مرتكبيها, ولم يوجه لهم كلمة عتاب, ولا نسطر كلمة لوم. لماذا؟.

 

لأنه من ناحية: يدركه عرامة غزيرة الاتصال بالآخر لديهم ذكورًا وإناثًا وأنهم لم يعتنقوا الديانة التى بشر بها سوى قبل قليل وانهم ( مرتكبى التصرفات الفلوت ) الاحتياطى أو الرديف الذى من أقرب الاحتمالات تجنيده فى الغزوات والسرايا والبعوث, فلو قسا عليهم فسوف يترك ندوبًا فى قلوبهم أو صدورهم تدفعهم إلى التباطؤ وتحثهم على التراخى وتحضهم على التكاسل.

 

ومن رجا آخر: ليس من الحصافة التهويل بشأنها لأنه سوف يوزّ عساكره فى السرايا والبعوث .. إلخ, على الانسحاب ويشجعهم على التخلى ويغريهم على الاستقالة لأنه مهما بلغت مغريات الجهاد من مغانم وأسلاب وانفال فى الدنيا, وحور عين وولدان مخلدين وانهار خمور وعسل ولبن فى الآخرة, فإنها لا تعوض الواحد منهم ـ نزولاً على موجبات مجتمعهم البدىّ ـ عن ثلم العرض والتعدى على الحمى وانتهاك الحرمات. كلها يتحاشى وقوعها ( المدثر ) إذ تباعد بينه وبين نشر الديانة وتحول دونه وتحقيق حلم الجدود: إقامة دولة قريش.

 

 *******

لكن أين حد الزنا؟

نفحنا القرآن هذه الآيات المجيدة الأدلة المؤكدة انه على صلة وثقى بالمجتمع المدهش الذى حظى أفراده برؤية ( أبى إبراهيم ) والملتبك به, فتناولت الموضوع بيد أنها مسته مسصا رقيقًا به عفو وسماح ورحمة مع تكليف بسيط للغاية لو أداه الصاحب الجانح لذهبت سيئاته وامّحت ذنوبه وزايلته خطاياه.

 

برهان ساطع على تاريخية السور والآيات وارتباطها بإكراهات المجتمع الذى انبثقت فى حناياه وبسلوكيات الفاعلين فى جنباته.

 

لا كما يذهب غليه التقليديون أنها مجردة ومتباعدة ومتغربة عمن خوطب بها وتحلق فى فضائيات مثالية لا وشيجة لها مع واقع الناس.

 

*******

4ـ تمقيت زواج الأم ( الاعتبارية ) وتبشيعه:

 

فى بدىّ الأمر نعنى بالأم الاعتبارية: زوجة الأب.

 

( وقد درج العُربان على نكاح امراة الأب بعد وفاته, لافرق فيه بين بنى سخينة " قريش" وبنى قيلة " الأوس والخزرج" ولا بين علية القوم وأغمارهم " سفلتهم". وممن فعله " حصن بن أبى قيس" تزوج امراة ابيه كبيشة بنت معن, والأسود بن خلف تزوج إمراة أبيه, وصفوان بن أمية بن خلف تزوج إمراة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب, ومنصور بن مازن تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة ) [ أسباب النزول للواحدى النيسابورى ص 98, تفسير الطبرى ـ الجزء الثامن ص 133, ولو ذكره مع بعض الاختلاف مثلاً منظور بن زيان بدلاً من ابن مازن كما عند الواحدى. , وتفسير القرطبى ـ المجلد الثالث ـ ص 1673 ـ وأضاف " وكانت فى قريش مباحة مع الترضى", وتفسير القرآن العظيم لابنكثير ـ المجلد الثانى ص 214 ].

 

مرجعه إلى: غلظ حسهم, وكثافة شعورهم, وفساد ذويهم وأن الواحد منهم يعدد بعلاته, ويظل يكرره طوال حياته, ولا مانع لديه أن ينكح من هى فى سن أولاده أو أحفاده, فيتوفى عنها وهى ( أو هن ) فى ريعان شبابها, فيرضيها. ويحظى لديها أن يتزوجها ابنه الشاب المفتول العضل, الملئ بالفحالة الفائض القوة لتعوض ما فاتها من متعة ولذة أيام أبيه الشيخ.

 

من ناحية الابن فإن النكاح سيوفر عليه المهر وسائر التكاليف التى تبهظ كاهله لو أنه نكح اخرى خاصة فى كثير من الأحيان مليط من المال, خالى الوفاض, عاريًا من النشب.

 

بينما العلة الكبرى التى تكمن وراء هذه العادة الذميمة هى تخلف المجتمع وبداوة البيئة وحوشية الوسط.

 

*******

 

نؤكد أن العرف الفاحش وقع فى نفس محمد موقع النفور ونزل فى صدره منزل الكراهية, وارتأى أنه من الحتم إلغاؤه ومن الضرورى رفعه والقضاء عليه.

 

وسنحت الفرصة:

( إذ توفى أبو قيس وكان من صالحى الأنصار, فخطب ابنه قيس إمرأه, فقالت أنا أعدك ولدًا وأنت من صالحى قومك, ولكن آتى رسول الله ـ ص ـ واستأمره, فأتت رسول الله ـ ص ـ فقال: إن أبا قيس توفى, فقال لها رسول الله ـ ص ـ خبرًا, قالت: وإن ابنه قيس خطبنى وهو من صالحى قومه وإنما كنت أعده ولدًا, فقال لها  رسول الله ـ ص ـ ارجعى إلى بيتك فنزلت الآية: { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً } [ النساء 22 ]. أخرجه ابن أبى حاتم والطبرانى فى الكبير. [ المقبول للأزهرى وقال عنه حديث حسن, وأسباب النزول للواحدى ص 8, ولباب النقول للسيوطى ص50 وأضاف لابن أبى حاتم والطبرانى: الفريانى .. عن عدى بن ثابت ].

 

بورود الحديث فى اثنن من اميز كتب الأسباب التراثية المصادر وثالث من المراجع الحدثية ووصفه إياه بالحسن, غدا موثقًا.

 

*******

 

من التفاسير: تفسير القرطبى أورد الحديث بأكمله. [ تفسير القرطبى ـ المجلد الثالث ـ ص 1673/1674 ].

ونسخه ابن كثير فى تفسيره بنصه. [ تفسير القرآن العظيم لابن كثير ص 412 ].

 

أما شيخ المفسرين الطبرى فقد سطره بصيغة مغايرة :

( قال عكرمة: نزلت فى كبشة بنت معن بن عاصم من الأوس توفى عنها أبو قيس بن الأسلت فجنح عليها ابنه فجاءت النبى ـ ص ـ فقالت: يانبى الله لا انا ورثت زوجى ولا تكركت فأنكح, فنزلت هذه الآية ) [ تفسير الطبرى ـ الجزء الثامن ـ بند 8873 ص 106 ].

 

وفى موضع لاحق ذكر الطبرى:

( نزلت فى ابى قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد صخر كانت تحت الأسلت أبيه ) [ تفسير الطبرى ـ الجزء الثامن ـ بند 8940 ص 133 ].

 

لاختلاف اسم الزوجة علق المحقق الشيخ محمود محمد شاكر بالآتى:

( فأخشى أن يكون الخبر السالف وهذا الخبر مجتمعين على أنه جنح على إمرأتين من نساء أبيه: كبشة بنت معن وأم عبيد بنت صخر ) [ نفس المصدر والجزء ـ هامش ص 134 ].

 

وأضاف أن الثعلبى ذكر فى تفسيره: أن الابن جنح على كبيشة. لمعايشتنا الطويلة فى الكتب لمجتمعهم المعجب وبيئتهم المدهشة نؤيد الشيخ محمد شاكر فى خشيته بل نرجح أن الأب ترك زوجتين وأن الولد جنح على كليهما.

 

إذ من البديهى ألا يفوّت الفرصة النادرة التى فتحت امامه الباب على مصراعيه ليمتع مذاكيره بمَرَتين لا واحدة دون ان يدفع درهمًا.

 

ومن مصنفات التفسير المحدثة, تفسير القرآن الكريم لعبدالله شحاته فقد زبر الحديث بنصه وقصه. [ الجزء الرابع ص 805 ].

 

*******

وسواء نط الابن على واحدة أو على اثنتين فقد ثبتت صحة الحديث غبّ أن قدمته المصادر العوالى من امهات ذخائر التراث فى الدوائر الثلاث:

أسباب النزول, والتفسير, وتراجم الصحاب.

 

ونلخص الموقف فى الآتى:

عرف اجتماعى ممعن فى الفحاشة بالغ الدناءة, شديد الحقارة تمنى ( المكى ) زواله وتطهير تبّاعه منه فلبى القرآن طلبته وحقق رغبته واستجاب لأمنيته فأقبلت الآية الكريمة تتهادى تحرم هذا النوع من النكاح وتصفه بأقصى النعوت: الفاحشة أى العلاقة المحرمة مثل الزنا, والمقت وهو أقصى درجات الكراهية وأعلى مراتب البغض .

 

وساهمت فى تهذيب أخلاقهم وتقويم إعوجاجهم وتعديل انحرافاتهم, ووقفت فى صف الآيات المجيدة التى تُعنى بشئون الدولة الجديدة .

 

*******

5ـ كف الصحابة عن الحصول على الدخول الريعية المشبوهة:

 

الزراعة والعُلوج

اعتاد العرب العيش على الدخول الريعية, إذ لاطاقة لهم قديمًا وحديثًا ببذل الجهد وسفح العرق ومعاناة التعب فى سبيل الحصول على الرزق ومن ثم فلم تقم فى جزيرتهم المباركة صناعة رغم توافر المواد الخام!!.

 

العمل الوحيد الذى يمكن إدخاله فى دائرتها هو صنع السيوف, تولاه بنو سليم ومما له دلالة عميقة أنهم أطلقوا عليهم ( القيون / جمع قين أى عبد ) فهم فى نظرهم عُبدان.

 

والزراعة لديهم محصورة فى بضع واحات منها:

1ـ اليمامة: محصولها الرئيسى القمح أو الحنطة وبلغت مستوى من الجودة أن ضُري بها المثل, وفيما درجوا على إرسالها لقصور الخلفاء الأمويين والعباسيين.

 

ولم ينج بنو حنيفة من سخرية الأعاريب فتندروا عليهم وعيروهم بأن مساحيهم ( = جمع مسحاة, آلة زراعية ) هى سيوفهم, أى ليس لهم فى القتال.

 

ثبت فيما بعد أن هذا الهزو غير صحيح لأن بنى حنيفة أهل اليمامة حاربوا بشراسة فى ( حروب الردة ) هكذا سماها المؤرخون والإخباريون فى حين أنها حرب أهلية بكل المقاييس, لأن القبائل الكبيرة مثل بنى حنيفة وتميم أنفت من حكم بنى سخينة بعد وفاة ( سيد ولد آدم ) الذى له جانبه الثيولوجى وكبدوا دولة بنى سخينة فىعهد التيمىّ عتيق خسائر فادحة. فى وقعة ( حديقة الموت ) لقى مئات من الصحابة حتفهم وللأسف من بينهم قراء أى حفاظ القرآن وهو الأمر الذى وز العدوىّ ابن الخطاب على أن يشير على الخليفة الأول بجمعه.

 

والله سبحانه زتعالى وحده يعم مدى النكبة النكباء:

( عن ابن الأنبارى عن ابن شهاب ( الزهرى ) أنه قال:

 بلغنا أنه قد نزل قرآن كثير, فقُتل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا

 قد أودعوه ولم يُعْلم بعدهم ولم يُكتب )

[ البيان فى تفسير القرآن: للإمام أبو القاسم الموسوى الخوئى ـ ص 202, 203ـ عام 1984م ـ مؤسسة الأعلمى للمطبوعات ـ بيروت نقلاً عن ( جدل التنزيل ) للدكتور رشيد الخيون ـ ص 22 الطبعة الأولى 2000 منشورات الجمل ـ كولونيا ـ ألمانيا ].

 

الزهرى هو " أبو بكر محمد بن مسلم الزهرى من اهل المدينة ونزيل الشام وكان من المحدثين المعروفين ويقدر عدد الأحاديث التى رواها بألفى حديث وقيل إنه أول من دون فى علم الحديث توفى سنة 124هـ ". [ سيرة أعلام النبلاء: لشمس الدين محمد أحمد الذهبى ـ الجزء الخامس ـ ص 326 ـ 1982 مؤسسة الرسالة ـ بيروت نقلاً عن ( جدل التنزيل ) ص 27 ].

 

أما الأنبارى فهو أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنبارى أحفظ أهل الكوفة, فكان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهد على القرآن وكان ديّنًا صدوقًا توفى ببغداد السنة 37 هـ . [ طبقات النحويين واللغويين: لمحمد بن الحسن الزبيدى: تحقيق أبو الفضل إبراهيم ـ ص 153 ـ د.ت. ـ دار المعارف بمصر نقلاً عن ( جدل التنزيل ) ص 27 ].

 

الزهرى وابن الأنبارى من المستحيل أن يرويا خبرًا معلولاً.

 

ويدعمه ما نقله الخوئى عن السيوطى أن:

( عمر ـ رض ـ قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله؟

قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت ما ظهر ) .

[ البيان ص 203, نقلاً عن ( جدل التنزيل ) ص 22 ].

 

السيوطى علم فى فناء الفكر الإسلامى وكتابه ( الإتفان فى علوم القرآن ) من اميز كتب التراث فى هذا المضمار,

 فكيف يسمح له ضميره العلمى أن ختلق على العدوىّ ما لم يقله؟.

ثم نرجع إلى السياق:

      لولا أن العبد وحشيًا اغتال مسيلمة قائد بنى خنيفة وبنى تميم بطريقة غادرة كما فعل مع حمزة بن عبد المطلب فى غزاة احد لما تمكنت جيوش التيمىّ عتيق من هزيمتهم.

 

نخلص منه جميعه أن بنى حنيفة أصحاب واحة اليمامة لم يقض امتهانهم للزراعة على قدرتهم على القتال أو على بسالتهم كما زعم العُربان نحقيرًا وزراية.

 

2 ـ الطائف: بلدة بنى ثقيف ولعدد من صناديد قريش فيها مزارع وبساتين وهؤلاء وأولئك استخدموا العُبدان فى الزراعة وسبق أن رقمنا قصة عداس عبد ( غلام ) بن ربيعة. [ فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين: خليل عبد الكريم ـ ص 336 ـ الطبعة الأولى 2001م ـ دار ميريت ـ مصر].

وهذا على سبيل المثال:

ولما ذهب ( المنصور بالرعب مسيرة شهر ) إليها ليبشر بدين الإسلام سلط عليه كبراؤها عبيدهم وسفهاءهم فقذفوه بالحجارة حتى دميت قدماه الشريفتان.

من هذين الخبرين نستدل على وجود الأعبد بكثافة فيها وهم الذين ينوءون بالزراعة لحساب ساداتهم الذين ينعمون بحصيلة كدهم وشقائهم.

 

3 ـ يثرب: الواحة الثالثة, زرع أراضيها ـ بخلاف اليهود ـ بنو قيلة وهم الأوس والخزرج الذين لم يستنكفوا  منها لأن جرثومتهم من اليمن, حيث لا تعد الزراعة عملاً يزرى بالكرامة أو يحط من الاعتبار أو يقلل من القيمة شأنها شأن الشعوب المتحضرة.

 

بلغ استكبار العربان فى نظرتهم إلى الزراعة حدًا جعلهم يطلقون على الفلاحين فى البلاد التى دعسوها بسنابك أحصنتهم ـ دون أى مسوغ ـ ونهبوا خيراتها واستنزفوا ثرواتها واستوطنوا أراضيها وفرضوا عليها لغتهم وثقافتهم: " العلوج" وهى مقلوب "العجول".

 

مُنيت مصر المحروسة بالعديد من الغزو والاحتلال ولكن لم يقم أى من الغزاة والمحتلين بمثل ما قام به العُربان,

نهبوا خيراتها واستوطنوا أراضيها وشمخوا بأنوفهم المحدوبة على شعبها,

أعرق شعوب الأرض قاطبة وصاحب أقدم وأزهى حضارة عرفتها البشرية,

ولم يكتفوا  .. بل أقدموا على ما هو أوعر:

 أجبروهم على التخلى عن لغتهم وأكرهوهم على تعلم لسانهم الفصيح وأجبروهم على الأخذ بثقافتهم..

 

يطلقون على الفلاحين ( العُلوج ) مقلوب ( العجول ) جع عجل.

فى معاجم اللغة : العلْج = الرجل الضخم من كفار العُجم. [ المصباح المنير للفيومى ].

بعضهم يطلق ( العلْج ) على الكافر المطلق. [ ذات المصدر ].

أى أن مجرد رفض إنسان / ابن آدم الدخول فى دينهم يحوله إلى حيوان: عِجْل أو عِلْج

 

*******

مصادر دخول العَرَبة

إذن ماهى أهم مصادر دخول العربة؟.

 

تتقدمها غزوات النهب والسلب والخطف.

 

لأن الخساسة متأصلة فى طباعهم والدناءة متجذرة فى أعماقهم والجبانة أهم صفاته فهم لا يشنون الغارات إلا فى حالتين:

الأولى: فى عماية الصباح ـ قبيل الشروق ت حيث يغط عدوهم فى نومعميق فيفاجأون بهذه الكبسة ولا يجدون ذرة من وقت للدفاع عن أنفسهم. ويسمون هذا الفعل الذى لا يمت إلى الأخلاق بأدنى صلة ( يوم الصباح = يوم الغارة = التصبيح ).

 

الأخرى: عندما تخبرهم عيونهم أن قبيلة خرجت لشن غارة فيلتهبونها نُهزة سانحة ويقومون بدورهم بالإغارة عليهم إذ لا يوجد سوى الشيوخ والعجائز والنسون والأطفال الذين لاطاقة لهم بالوقوف فى وجوههم وصدهم.

صورة اخرى للحقارة وانعدام المروءة والانحطاط الخُلقى.

 

فى كلتا الحالتين يعمدون بمنتهى السرعة إلى خطف كل ما تناله أياديهم الرعديدة: السبايا, الأطفال, النوق, الجمال, الملابس, الكراع ... إلخ ويرقلون عائدين.

 

دافع العجلة مرده:

فى يوم الصباح يخشون استعداد المهاجَمين لملاقاتهم,

وفى الحالة الثانية: كى لا يعود فرسان القبيلة فيلقنونهم درسًا قاسيًا.

 

تأتى التجارة مُصلية ( تالية ) للغارات.

فيها يعتمدون على العبدان والأجراء والوكلاء التجاريين الذين يقع على كواهلهم الكليلة العبء الأكبر, وما على السادة الغطاريف سوى تحصيل الأرباح الطائلة.

 

ويتفرع عنها تسليف المال بالربا الفاحش عند عجز المدين يغدو رقيقًا للدائن.

 

مورد آخر هو عَرق الأعبد:

إذا أتقن العبد حرفة مثل النجارة أو الحدادة أو صقل السيوف أو البناء أو دبغ الجلود .. إلخ, فيعمل فيها منذ انبلاج الفجر حتى الليل وما يدفع له من اجر يصب فى جيب سيده.

 

*******

صناديد قريش الديوث

 

تكاليًا على الدخول الريعية التى تأتى بلا تعب لم ير الواحد منهم عارًا فى أن يصير ديوثـًا, فيفشل جواريه العهورة ولا يشعر بادنى غضاضة من الاستحواذ على عرق أفخاذهن البوائس. 

 

لا يستنفر العجب ولا يدعو للاندهاش ولا يبعث على الاستغراب ان من بين من فعلها عددًا من كبار صناديد بنى سخينة بل ومن فروعها الشامخة. فى مكة / قرية القداسة وُجدت ( تسع صواحب رايات ) لهن رايات كرايات البيطار يعرفونها:

أم مهدون جارية السائب بنأبى السائب المخزومى,

وام غليظ جارية صفوان بن أمية,

وحبّة القبطية جارية العاص بن وائل. [ أليس من مهازل التاريخ أن هذا الديوث الذى عاش على دخل الإماء القحاب هو والد ( عمرو) الذى غزا مصر أم الدنيا والحضارة, وفعل هو وجنوده فيها الأفاعيل؟.

كم باحثًا ومؤلفًا .... إلخ سواء من القدامى أو المحدثين كتب فى سيرة هذا الـ ( عمرو ) مُؤلَـفًـا أو بحثـًا أو دراسة وذكر أن والده رباه من عرق فخذ أمة قبطية؟.

هل يمكن أن نرجع أعمال ( ابن الديوث ) التى ارتكبها فى المحروسة إلى نتيجة لعقدة نفسية ترسبت فى أعماقه منذ الصغر وهو يرى ويحس أنه نشأ وترعرع مما تتكسبه الجارية القبطية التى دفعها أبوه لاختراف الدعارة والعهورة".

لم يكتف العاص بن وائل والد ( فاتح وغازى وقاهر ) مصر المحروسة باحتراف ( الديـاثـة ) بل يُعد فى مقدمة من ناوأ محمد من المشركين فى مكة, وهو يدعو إلى دين الإسلام ومجابهته بكل فظاظة وخشونة بما يكره:

" ورجع بعض المفسرين أن الآية 78 من سورة يس { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } نزلت فى حق العاص بن وائل وأتى إلى رسول الله ـ ص ـ بعظم حائل, ففتهبين يديه ثم ذراه فى الريح فقال: يا محمد من يحيى هذا وهو رميم؟ فقال رسول الله ـ ص ـ الله يحييه ثم يميتك ثم يدخلك النار" [ المختصر فى تفسير القرآن ـ مختصر الإمام الطبرى لابن صمادح التجيبى ـ تحقيق عدنان زرزور ـ عند تفسيره لسورة يس ـ ص 356 ـ الطبعة الأولى 1399هـ / 1979م ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ لبنان ]

وماذا ينتظر من ذاك الديوث؟

ومن ناحية أخرى فجماعه يفسر لنا أعمال ابنه سواء فى ( أم الدنيا ) أو فى ( واقعة التحكيم ) بين الطليق ابن الطليق وبين غلأمام على ـ رض ـ صاحب الحق الشرعى فى الإمامة العظمى ا.هـ. ].

 

ومرية جارية ابن مالك بن عمثلة بن السباق,

وجلالة جارية سهيل ابن الأسود,

وقرينة جارية هشام بن ربيعة,

وفرتنا جارية هلال بن أنس

وكانت بيوتهن تسمى فى الجاهلية ( المواخير). [ أسباب النزول للواحدى ـ ص 211 ].

 

ينضم لهؤلاء الأماجد: عبدالله بن جدعان التيمىّ من بنى تيم رهط عتيق بن أبى قحافة,

وعبد الله بن أبى بن سلول له جاريتان: مسيكة وأميمة يشغلهما فى الفجور,  فأسلمتا ورفضتا فشرع فى إكراههما وفى شأنهما انبثقت الآية:     { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء } [ النور 33 ].  

 

ورد هذا الخبر فى العديد من كتب ( أسباب النزول ) و ( التفاسير ).

عبد الله بن ابى ترأس المنافقين فى قرية الحرتين وقرب وصول ( الحبيب المصطفى ) أوشك بنو قيلة ( الأوس والخزرج ) أن ينصبوه ملكًا عليهم ثم عدلوا لتغير الظروف بالكلية.

 

ألا تعجب معى لأولئك العربة؟.

كيف تسمح لهم نفوسهم أن تملّكوا عليهم ديوثـًا صاحب ماخور؟.

ألا يقف الحق معنا بكل قوته عندما نقرر ـ من خلال الوقائع الموثـقة ـ أن ذياك المجتمع يختلف عن مجتمعنا المعاصر بصورة جذرية؟.

ومن ثم يتعين علينا دراسته من كل أقطاره دراسة متأنية

كيما ننقـه ( النصوص التأسيسية المقدسة ) على وجهها الصحيح.

ولنوضح التباين بين المجتمعين:

هل يقبل اهل قرية مصرية فى الصعيد أو الدلتا أن يُعين ديوث عمدة لقريتهم؟.

الإجابة لاتحتاج إلى تسطير أو رقم.

 

إذن يوجد تباين رئيسى بين الفاعلين فى ذاك المجتمع والفاعلين فى مجتماعاتنا: من نواحى البناء النفسى للفرد, والتقاليد, والقيم والأخلاقيات, والسلوكيات, وهو يحتم ما ندعو إليه.

النصوص تخلفت فى رحم مُجتمع مباين تمامًا, وفى ظروف تاريخية مغايرة, وفى بيئة مفاصلة وغير مؤتلفة ولا متوافقة.

فكيف يتم تطبيقها بحذافيرها وحذوك  القِـذة بالقِـذة؟.

وهل من الصواب التمسك بحروفها وأشكالها؟.

 

*******

فرشة للهرولة

رقمنا أن التقاليد والأنساق الاجتماعية تؤثر فى الشخص الذى نشأ فى أحضانها وأن ما تنتجه من قيم وتوجيهات ومحددات سلوكية تظل متجذرة فى أعماقه خاصة إذا سلخ من عمره شوطـًا.

 

فإذا تلقى الشخص ثقافة جديدة تنافر ما رُبّى عليه, فإن هذا لايزول أو يُمّحى, بل يغيب أو يتوارى حتى تواتى الفرصة ليستعلن مرة أخرى, خاصة إذا حسبنا عهده بالقيم الحديثة أو الطارئة فوجدناه قصيرًا بالنسبة إلى الأعوام التى عاشها.

 

 هذا لا يغض من مقام الثقافة الجديدة ولا ينال من مكانة القيم الحديثة, ولا يزعزع رتبة المبادئ المستضافة. غنما عامل الزمن هو الذى يساعد على الترسيخ ويعاضد على التثبيت ويؤازر على التعميق.

 

بمعنى ان الثقافة الوافدة بكل شموخها بظريق الحتم واللزوم إلى مدى طويل كيما يتاح لها الهيمنة وتتهيأ لها السيطرة وتتمكن من الاستعلاء.

 

وحتى إذا افلحت, فليس معناه نفى القديم أو تغريبه او استبعاده. غذ يلجا إلى المناورة ويعمد إلى المداراة والمراوغة.

يظل يتربص حتى تلوح له فى الأفق البعيد بوادر رأى نُهزة فيرقل إلى الظهور واحتلال موقعه السايق الذى تنازل عنه مؤقتًا ولوقت معلوم للقادم الجديد.

 

فرشة قصيرة وضرورية لتوضيح العلل والكوامن وراء هرولة بعض الصحاب إلى اكتساب دخول ريعية ولو على حساب المبادئ السامية التى لقنهم إياها ( المعصوم من الناس ).

 

*******

الديوثة و الحديث

( أخرج النسائى عن عبدالله بن عمرو قال:

كانت امراة يُقال لها أم مهزول وكانت تسافح فأراد رجل من أصحاب النبى ت ص ـ أن يتزوجها, فأنزل الله: { الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور 3 ] ). [ لباب النقول للسيوطى ـ ص 122 ].

أخرج الحديث النسائى أحد أصحاب الستة الصحاح.

وورد به أن بطل القصة " رجل من أصحاب النبى ".

تعبير دقيق له مغزى عميق, إذ سوف نرى فى الأخبار التالية جملاً مثل: رجل من المسلمين أو رجال من المسلمين أو الناس.

هى صيغة تقطع بأنه من أصحاب ( أول من تنشق عنه الأرض ) تمييزًا عن غيره ولو أن الجميع يطلق عليهم لقب صحابى. [ انظر هذه الخصوصية فى السفر الأول من كتابنا ( شدو الربابة ) ـ ابن سينا للنشر ومؤسسة الانتشار العربى ـ بيروت ].

 

أورد الحديث ذاته أبو عمر نادى الأزهرى وزاد عليه:

( أخرجه النسائى فى الكبرى وفى تفسيره ورواه الإمام أحمد فى مسنده والطبرانى فى الأوسط والحاكم فى المستدرك وصححه وأقره الذهبى والبيهقى فى سننه وجهم عن عبدالله بن عمرو.

ووصف إسناده بالصحة. [ المقبول ص 475, 476 ـ مع هامش الأول ].

 

رقمه أيضًا الواحدى النيسابورى. [ أسباب النزول ص 212 ].

 

تأكد الحديث إذن وتوثقت صحته بعد ما نسخناه بشأنه.

 

الصحابى لم يشعر أدنى ذرة من حرج أو مُسكه من حياء أو بقية من خجل فى أن يتزوج العاهرة أم مهزول, وتنفق عليه من كسبها الخبيث من التقحب.

 

إنه لايرى أى عار فى أن يتحول إلى ديوث يرحب بأى زبون  ( عربية فصيحة ) يأتى إلى منزله ليسافح زوجته بل يدله على حجلاتها ... ما دام سيدفع الجُعل.

 

ولولا أن المجتمع لا يستنكر هذا الضرب من النكاح لما أبدى الصحابى رغبته فيه.

فمن المعلوم أن الفرد لا طاقة له بالوقوف فى وجه أفراد المجتمع بالخروج على تقاليدهم, لا يستطيع أن يتحداهم بهذه الصورة السافرة بل الوقحة لو أن العرف يحظره.

 

إذن هذا التصرف لا غبار عليه إيانهو فهو مباح ومتعارف عليه بل ربما عد موعًا من الشطارة, ودربًا من الفتاكة.

 

وجه من وجوه البينونة الكبرى بين مجتمعهم والمجتمع المعاصر:

اليوم أفقر مواطن مصرى يفضل الموت جوعًا ولا يتاجر بعرضه.

قد ينبرى فلحاس ( فلحوص ) فيصيح معترضًا , أنها حادثة فردية, فلا يصح تعميمها.

 

ونرد علبه:

لولا أنها ظاهرة اجتماعية لما بزغت بشأنها آية من القرآن العجب.

فلا يعقل أن تتهادى بطلعتها المضيئة لعلاج داء أصاب فردًا واحدصا. لا نتعكز على المحاجات المنطقية رغم عرامتها, نلجأ إلى المنقول إذ نعلم أنه أبلغ أثرًا خاصة فى بيئة تغلب عليها الثقافة التقليدية.

( نزل ذلك  لما هَمّ فقراء المهاجرين أن يتزوجوا بغايا المشركين وهن موسرات لينفقن عليهم ) [ تفسير الجلالين ص 292 ].

سبق أن أوضحنا بالبراهان أن من بين فقراء المهاجرين أصحاب أسماء لوامع ومنهم من غدا فى مقدم الشموس الساطعة, لأن المشركين المكاكوة لم يسمحوا لهم بأخذ شئ معهم عند نزوحهم إلى أثرب.

 

ولنتفرس فى الخبر. فقد ذكر الجلالان ( فقراء المهاجرين ) بصيغة الجمع والشمولية.

 

القاضى البيضاوى الإمام ناصر الدين أبو الخير عبدالله ثبت الخبر.

( الآية نزلت فى ضعفة المهاجرين لما هموا أن يتزوجوا بغايا يكرين أنفسهن لينفقن عليهم من أكسابهن على عادة الجاهلية) [ أنوار التنزيل وأسرار التأويل: تفسير البيضاوى ص 463 ].

بداية: الضعبف تطلق على الفقير والمملوك والمرأة, والضعفان بالمعنى ذاته وهى جمع.

إذن ضعفة المهاجرين: فقراء النازحين ومحاويجهم ومعوزوهم.

 

المفسر البيضاوى ذكرها بإطلاق دون تبعيض أو تجزئ.

وأثره أوسع تبيينصا إذ كشف عن العلة: لينفقن عليهن, ومعلومة أخرى وهبها لنا مشكورًا: ( على عادة الجاهلية ).

 

أى هو أمر معروف لديهم وليس منكرًا أو مستنكرًا أو مستهجنًا وهذا يؤيد ما ذكرناه عن استحالة إقدام الواحد منهم علبه والهم به والشروع فيه لو أن مجتمعه ينفر منه أو يزدريه , بل إنها عادة جاهلية معروفة.

 

*******

الديوثة و التفاسير

( قال مجاهد وعطاء بن أبى رباح وقتادة: قدم المهاجرون وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة, ولكل واحدة منهن علامة كعلامة البيطار, أنها زانية, وكان لا يدخل عليها إلا زان مشرك, فرغب فى كسبهن ناس من فقراء المسلمين, قالوا نتزوج بهن على أن يغنينا الله عنهن فاستاذنوا رسول الله ـ ص ـ فنزلت هذه الآية ). [ مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير: للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازى 544/606هـ ـ المجلد الحادى عشر ـ ص 453, 454 ].

 

الخبر المرقوم رواه مجاهد وعطاء بن أبى رباح وقتادة وهم من سادة التابعين الكبار ومثلهم لا يتصور أن ينقل أثرًا ضعيفًا أو مجروحًا ولا نقول ملفقـًا.

 

حمله كتاب ( مفاتيح الغيب ) وهو من أجل التفاسير وصاحبه هو الإمام فخر الدين الرازى من الأئمة الأعلام.

إذن هو صحيح لا شائبة فيه ولا مطعن عليه ولا قدح يلحقه.

وعباراته تقطع بأن الحضيض ( الدافع ) عليه هو الرغبة فى كسب العواهر فحسب ونفحنا بمعلومة طريقة هى أن القحاب وأبن على اتخاذ علامة مثل علامة البيطار ليعرفن ولإرشاد الزانين إلى بيوتهن.

 

هذه المعلومة تساعد علماء الاجتماع على تحليل ذياك المجتمع تحليلاً موضوعيًا وتقييمه تقييمًا صحيحًا يعاضد المفسر على تفسير النصوص التأسيسية المقدسة, وعلى فهمها على الأوجه ألمثل.

 

بلغت الجرأة بأولئك ( الناس ) أن يتوجهوا لـ ( متمم مكارم الأخلاق ) كيما يأذن لهم بنكاح هاته البغايا, ولا أدرى كيف دار بخلدهم أو طاف ببالهم واعتمل فى قلوبهم وحاك فى صدورهم أنه سيوافق, ألا يدل هذا على أنهم يجهلونه؟.

 

*******

 

تنزيل لحظر نكاح الزوانى

الأزمة التى طقطقت ( = فرقعت أو سمع لما صوت ذو دوى ) بين صفوف النزحة أو بين الفقراء والضعافين منهم لها دوافع اقتصادية وبيولوجية وعاطفية.

 

إذ ليس لهم موارد رزق يقتاتون منها ولا مساكن يأوون إليها, وبين جوانبهم غريزة ماتهبة تمسك بمخانقهم كيما يرووا ظمأهم المتأجج ... ويبغون مثل إخوانهم تأسيس أسرة: زوجة يلقون لديها المودة وأولاد يلاعبونهم, فهداهم حسهم الغليظ ـ إن صح أنه يهدى ـ وأفقهم الضيق وعقلهم العبيط الساذج إلى فكرة الزواج بالزوانى إذ سيوفر لهم كل هذه الرغائب.

 

وفقراء النزحة ـ كما رفعنا الستار عن حقيقة توصيفهم ـ هم الأجناد الأوفياء وأعضاء كتيبة الحراسة وأفراد سرية الطوارئ والملبون لأول هيعة والمستجيبون لأول صيحة والمسارعون لأى استغفار.

 

فمثلهم لا يرد بعنف ولا يصد بقساوة ولا يصك بغلظة ولا يصت بشراسة وكما هو متبع: لا يدع ( أحسن الحديث / القرآن المجيد ) .. ( سيد الناس وذؤابة العرب ) يواجه الموقف الحساس دون مؤازرة:

فإما أن يُغضب شطرًا مفرشحًا من عسكره عندما يسفه مراغبهم, وإما أن يلبى طلابهم ويوافق على النزوة الحمقاء الرعناء التى ارتفعت كالنبت الشيطانى فى أدمغتهم الصعلاء والتى تنافى المبادئ السامية وتناقض القيم الرفيعة وتعارض الأخلاق العالية التى نادى بها, وكثيرًا ما علمهم أنه ما جاء إلا ليتمم مكارم الأخلاق.

 

إذن لا مشاحة فى ضرورة أن تتلألأ من القرآن آية كريمة توضح للصحاب عمومًا ولكل ضعفان من النازحين أن نكاح الزوانى وزواج العواهر ومباعلة القحاب عمل فسيد وسلوك طفيس وتصرف ممجوج لا يليق بالمؤمن.

 

قد يفعله المشرك ويقدم عليه الكافر ويقبله الزانى ويرتكبه الفاسق إنما هو على المؤمنين والتُبّع المخلصين حرام قطعًا. ارتدع فقراء النزاحة وخنسوا وتنازلوا عن طلبتهم الدنسة إذ علموا أن التحريم أو النهى أو الحظر لم يأت به ( الظفور ) إنما سفرت به آية من ( الفرقان / القرآن ) الذى تعنو له جباههم.

 

بذا اتحفتنا الآية { الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور 3 ] ببرهان إضافى على أنه فى علاقة جدلية متجددة الحيوية بالغة النشاط, شديد الآده.

 

وأنه متين الآصرة بالمخاطَبين به لا يغفل وحاشاه أن يفعل عن جميع شئونهم لا يتباعد عنها أو ينفصل بل هو حميم القرب منهم.

 

*******

نهب مهر البنت

 

نوع آخر من ضروب الحصول على الدخول الريعية التى تأتى دون بذل نقطة عرق: الاستيلاء على مهر البنت.

( {  وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا } [ النساء 4 ], أى مهورهن .. قيل الخطاب للأولياء لأن العرب كانت فى الجاهلية لا تعطى البنات من مهورهن شيئًا ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له ابنة, هنيئًا لك النافحة يعنون أنك تأخذ مهرها إبلاً فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أى تعظم ). [ غرائب القرآن: القمى النيسابورى ـ المجلد الثالث ـ ص 483 ].

 

من ـ المعلومة ـ الإجتماعية التى نفحنا به القمى النيسابورى اعتبر أولئك العُربان أن نهب صداق الابنة عمل طيب يستحق التهنأة والمهر عباؤة عن إبل. وهو الأصل فى تسميته بالـ ( سياق ) لأن الإبل تُساق إلى بيت ( خباء ) خيمة العروس.

 

المعنى من منظور المجاز عند الزمخشرى: أن المهر وصل إلى ولى من عُقد عليها كأنه رزق هبط عليه من السماء كما أن سوق الإبل(المهر) هو المنظور المادى أو العينى. [ أساس البلاغة ـ الجزء الأول ].

 

من البديهى أن العرف الاجتماعى الذميم استمر بعد الإسلام وهو يؤكد أن الأنساق الاجتماعية من المحال أن تتغير بمجرد المواعظ والخطب وأنها تظل كامنة فى أعماق الفرد حتى غبّ اكتسابه ثقافة جديدة مهما بلغت من السمو والرقى والامتياز.

 

( أخرج ابن أبى حاتم عن أبى صالح قال: كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك فأنزل: {  وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ ...  } [ لباب النقول للسيوطى ص   28 ].

 

 يقول القاضى البيضاوى ( والخطاب للأزواج والأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور مولياتهم ) عند تفسيره لسورة النساء. [ أنوار التنزيل وأسرار التأويل للقاضى البيضاوى ].

 

ويبين لنا شيخ المفسؤين ما درجوا عليه:

( عن أبى صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيمه أخذ صداقها دونها فنهاهم الله تبارك وتعالى عن ذلك ونزلت: { وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ ... } إلى آخر الآية ) [ تفسير الطبرى ـ الجزء السابع ـ ص 553 ].

 

ويؤكد أبو جعفر ابن جيري الطبرى فى موضع آخر العرف الخبيث ورسوخه فى مجتمعهم: ( { وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } أولياء النساء وذلك أنهم كانوا يأخذون صدقاتهن ) [ ذات المصدر والصفحة ].

 

*******

زواج الشغار

بيد أنه أطلعنا على صورة أخرى متفرعة عن الأصل وهى أنه: ( كان ذلك من أولياء الناس بأن يعطى الرجل أخته لرجل على ان يعطيه الآخر أخته على ألا  يكون كثير مهر بينهما, فنُهوا عن ذلك ) [ تفسير الطبرى ـ الجزء السابع ـ ص 553 ].

 

أى أن الأمر لم يقتصر على اغتيال مهر الوليد أو البنت بل تعداه إلى هبش.

ثم أردف بأثر آخر يدعمه فى الصفحة التالية برواية مماثلة:

( حدثنا محمد بن عبد الأعلى, قال حدثنا المعتمد بن سليمان, عن أبيه قال: زعم حضرمى أن أناسًا كانوا يعطى هذا الرجل اخته وياخذ أخت الرجل ولا يأخذون كثير مهر, فقال الله تبارك وتعالى : { وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } ).  [ القاموس المحيط ـ مهر الأخت ].

 

بيد أن تبادل زواج الأخوات أوالبنات بدون مهر نوع من النكاح عرفه العُربان قبل الإسلام ويُطلق علبه ( الشغار ) واسمه كما يدل عليه أى         ( الخلاء ) من المهر أو الصداق .

أى شغر تعنى:  خوى وصفُر وفرغ من ...

 

ثم حظره ( أول من يفيق من الصعقة ).

فى هامش الصفحة 553 كتب محقق تفسير الطبرى وهو الشيخ محمود محمد شاكر: ( وذلك هو الشغار / شغار المتناكحين بغير مهر, ألا يضع وليته أو أيمه.

وكان ذلك فى نكاح الجاهلية فنهى رسول الله ـ ص ـ عنه ).

 

ونضيف أنه ورد فى ثلاث من الصحاح الستة .. أبى داود والترمذى والنسائى [ جوامع الكلم من احاديث سيد العرب والعجم: تجميع صلاح الدين سيد التجانى ـ ص 351 ـ طبعة مهرجان القراءة للجميع 2000 ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ].

 

ووصف المصنف بأنه: حديث صحيح.

وعرف الشغار بأنه: وهو يزوجه ابنته أو أخته على أن يزوحه ابنته أو أخته, إذن غدا الخبر الذى ساقه الطبرى موثقًا.

 

وبالتالى إذ إن هذا الضرب من حرمان الأيم حقها فى المهر واغتصابه بمعرفة وليها سواء الأب أو العم أو الأخ أو غيرهم, من أشكال الظلم البين, الذى حرص ( المزمل ) على رفع وتطهير المجتمع منه, فقد أشرقت الآية الرابعة من سورة النساء تأمر الأولياء بإيتاء الأيامى (النساء ) مهورهن نحلة أى عن طيب نفس ورضا فهدأ بال ( الذى جعلت له الأرض مسجدًا ) وانشرح صدره ومن رجا آخر سرت وانبسطت النسون بعودة حقهن إليهن.

 

وعلى طول المدى يؤكد ( المهيمن / القرآن ) قربه القريب ممن يوجه إليهم الخطاب وعدم انفصامه عنهم, أو غربته عن واقعهم.

 

*******

6 ـ أخيرًا أصبح نكاح المتعة .. حريمة:

 

هاجس معافسة ( امتطاء ) المَرَة لا يفارق الواحد من أولئك الأعاريب لا فى ظعنه أوعدنه ولا فى سفره أو إقامته ولا ترحاله أو حله ولا فى البادية أو الحاضرة.

 

لدرجة أن تقول ـ دون مبالغة ـ إنه شغله الشاغل وهمه المقيم وعزمه المستديم وعقد قلبه الذى لا يريم, إذا ارتحل وغادر خباءه ومضرب قبيلته إلى بلدة أخرى فأول ما يفعله هو أن يُنبش عن إمرأة عزب يطفى فيها شهوته الملتهبة وإذ إنها تماثله فى العرامة وتشاكله فى التأجج وتماثله فى الاشتداد وفى الرغبة فى التموضع تحته فإنها تقبل أى أجر يقدمه: نعل, مال, إزار .. إلخ.

لا تهمها القيمة بل التماسّ به فحسب.

ويتفقان على مدة معينة غالبًا فترة إقامته فى مضرب قبيلتها.

بعدها يتركها دون أى إلتزام عليها ولا  أى  حق لها قبله.

أطلقوا على هذا الضرب من التلاقى زواج أو نكاح المتعة.

 

( كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة يقدر ما يرى أن يقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه ) [ نهاية السول فيما استدرك على الواحدى والسيوطى من أسباب النزول: للشيخ أبى عمر نادى الأزهرى ـ ص 163 ـ الطبعة الأولى 1415هـ / 1995م ـ دار الصحابة للتراث طنطا ـ مصر ].

 

استمر هذا النسق الاجتماعى حتى بعد أن أشرق الإسلام وسطع نوره وإذ إن الصحبة الميمونة تعودوا عليه فعند خروجهم فى الغزوات والسرايا والمهام الخاصة يفعلونه فيقعدون على أيامى عقود النكاح متعة, يستمتعن بهن والبائسات يجدن فيه عوضًا عن أيام الشرق والتحاريق التى اكتوين بلظاها إبان العزوبة. ومن سيرة ( العين ) العاطرة علمنا أن يحوز بجدارة على الشمائل الممتازة الفريدة ومنها الحنكة البالغة والحصافة الفاذّة والحكمة العميقة.

 

رأى بثاقب نظره ونافذ بصيرته وسعة أفقه وسداد رأيه أنه لو حظر ( نكاح المتعة )

 لضاقت نفوس تُبّاعه وحَصِرت صدورهم وزمجروا.

وترتيبًا على جِماعه يتقاعسون عن الخروج ويخنسون عن الانخراط  فى صفوف الجيش ويتباطأون عن القتال .

وهذا لا يدخل فى باب الفطانة ولا يلج نهج الزكانة ولا يُعدّ من الفقاهة,

فدولة بنى سخينة وليد ما زالت تحبو والديانة فى بدىّ أمرها وأول طورها ومفتتح شأنها.

 

وهنالك الكثير مما يتعين القيام عليه ويلزم الإتيان به ويتوجب إنجازه ولا يتم شئ بغيرهم فتركوا وشأنهم:

( أخرج الترمذى عن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة فى أول الإسلام ) [ ذات المرجع والصفحة ].

والترمذى صاحب واحد من الصحاح الستة التى تعتبر مقدم كتب السنة أو الحديث المحمدى الشريف.

( ... عن قيس عن عبد الله قال: كنا نغزو مع النبى ـ ص ـ وليس معنا نساء فقلنا ألا نختصى فنهانا عن ذلك فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج المرأة بالثوب ثم قرأ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة 87 ].

 

يؤيد القرطبى تحليل زواج المتعة فى مبدأ الإسلام:

( وقد كان للمتعة فى التحليل والتحريم أحوال, فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله ـ ص ـ زمن خيبر ثم حللها فى غزاة الفتح ثم حرمها بعد قالة ابن جرير منداد من أصحابنا وغيره, وليه أشار ابن العربى ) [ تفسير القرطبى ـ المجلد السابع ـ ص 4498 ].

 

ولسنا بصدد بحث عن ( نكاح المتعة ) إنما الثابت مما أورده القرطبى أن التحريم النهائى جاء بعد ( غزاة الفتح ).

أى فتح مكة المسمى بـ ( فتح الفتوح ) إذ أصبحت دولة قريش الحاكمة المطلقة على شبه الجزيرة وغدا قائدها ( سيد الناس ).

كما هيمن الإسلام على ربوعها إلا بعض الجيوب القبلية تم القضاء عليها ودخلت فيه وأنوفها راغمة.

فى ذياك الظرف بالضرورة خفت صوت العسكر ولم تعد لهم طاقة على الزمجرة ولا نرقم المعارضة.

هنا أضاءت بنورها الباهرة الآية: { إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المؤمنون 6 ].

وفيها كما قال ابن عباس: ( فكل فرج سواهما حرام ) [ نهاية السول للأزهرى ـ ص 163 ].

ويعنى بسواهما: الأزواج وملك اليمين.

 

ومما له دلالة فى هذه الخصوصية أن الآية هلّت مفتوحة, بيد أن النزعة الذكورية كما هى العادة هيمنت على المفسرين وحجّروا النص بدون مسوغ حتى ولو أفتى به العدوىّ عمر بن الخطاب بأن قصروا الحق على الزوج الذكر فى ملك اليمين أى أن له أن ينكح الجوارى والإماء كما يحلو له.

 

أما الزوجة فلا.

ليس لها أن تنكح مملوكها أو تتسرى به طبعًا إلا إذا أعتقته فصار حرًا. وإن فعلت عدّوها زانية تستحق الرجم عند إحصائها من قبل ( سبق زواجها ) أو جلدها إذا علموها بكرًا.

 

تفرقة لا مبرر لها إلا المنحى الذكورى, إذ إن نص الآية لا يبيحها, ومن رجا آخر: توثق مذهبنا, أن انفتاح النصوص التأسيسية المقدسة سكره أى خنقه. [ القاموس المحيط ].

 

الذين تولوا تفسيره وتحكمت فيهم رغبات واتجاهات شتى.

لو أبيح للمرأة أن تتسرى  بعبدها كالرجل بأمته ألا دَلّ على سماحة الإسلام وإصراره على مساواتها بالذكر والعكس صحيح؟

هكذا أساء أولئك المتشددون إليه.

 

*******

7ـ هل يصلح الإسلام كشريعة الآن:

 

نزلت الآية: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [ النساء 94 ].

 

حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السدي: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }... الآية. قال: بعث رسول الله  ـ ص ـ سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة، فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر، فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتبعه أسامة، فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال: السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله! فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته. وكان النبي ـ ص ـ إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا، ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون النبي ـ ص ـ ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة ولقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فشد عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: "كيف أنت ولا إله إلا الله"؟ قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا، تعوذ بها. فقال له رسول الله ـ ص ـ: "وهو شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ " قال: يا رسول الله إنما قلبه بضعة من جسده. فأنزل الله عز وجل خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول: { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } فلما بلغ: { فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ } يقول: فتاب الله عليكم، فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله ـ ص ـ فيه.‏ [ جامع البيان عن تأويل آى القرآن : للطبرى ]

وردت فى بعض الأخبار { فَتَبَيَّنُواْ } وفى البعض الآخر { فَتَثَبَّتُواْ } .....

( قال قرأ أبو جعفر: واختلف القراء فى قراءة قوله { فَتَبَيَّنُواْ }.

فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين وبعض الكوفيين والبصريين { فَتَبَيَّنُواْ } بالياء والنون من ( التبين ) بمعنى التأنى والنظر والكشف عنه حتى يتضح.

وقرأ ذلك عُظم قرأة الكوفيين { فَتَثَبَّتُواْ } بمعنى التثبت الذى هو خلاف العجلة . [ تفسير القرطبى ـ التاسع ـ ص8 ].

 

ويؤيد القمى النيسابورى اختلاف القراءتين:

{ فَتَثَبَّتُواْ } من التثبيت وكذلك فى الحُجرات ( هكذا قراها ) حمزة وعلى وخلف والباقون قرأوها { فَتَبَيَّنُواْ } من التبين. [ غرائب القرآن ـ المجلد الرابع ـ ص 64 ].

 

هذا ينفحنا دليلاً على أن النص فى بدىّ أمره جاء منفتحًا.

بيد أنه فيما بعد اُغلق وأحكم إغلاقه ورتاجه ومن ثم فإن ما جاء بمصحف عثمان { فَتَبَيَّنُواْ }

 

واختلفت القراء في قراءة قوله: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ } فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين والكوفيين { اَلْسِلْم } بغير ألف، بمعني الاستسلام، وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: { السَّلاَمَ } بألف، بمعنى التحية.

ثم ثبت لفظ { السَّلاَمَ } بالألف.

فمن قرأها { اَلْسِلْم }  أراد الانقياد والاستسلام للمسلمين .. ومن قرأها { السَّلاَمَ } بالألف فله معنيان:

أحدهما: أن يكون المراد السلام الذى يكون تحية المسلمين, أى لا تقولوا لمن حياكم بهذه التحية إنه قالها تعوذصا فتقدموا عليه بالسيف لتأخذوا ما له ولكن كفوا وإقبلوا منه ما أظهره.

ثانيها: أن يكون المعنى : لا تقولوا لمن اعتزلكم ولم يقاتلكم لست مؤمنًا, وأصل هذا من السلامة لأن المعتزل طالب للسلامة. [ مفاتيح الغيب ـ التفسير الكبير للرازى ـ المجلد الخامس ـ ص 394 ].

 

الأخرى: الذى يشدّ الانتباه فى هذا النص هو تفسير الفخر الرازى لكلمة { اَلْسِلْم }  أن المراد بها هو الانقياد والاستسلام للمسلمين.

أى طاعتهم والدخول فى دينهم وقبول الوقوف تحت راية دولة قريش.

وقد فسر أبا البقاء العكبرى إلقاء السلام بالاستسلام. [ التبيان فى إعراب القرآن: لأبى البقاء عبدالله العكبرى 538/616هـ ـ الجزء الأول ـ ص ـ 191 ـ الطبعة الأولى 1980ـ المكتبة التوفيقية ـ القاهرة ].

 

يؤيده ما سبق أن سطرناه وقدمنا الأدلة عليه وهو:

أن انتشار الدين الإسلامى فى داخل الجزيرة العربية إنما تم بحد السنان.

 

ومن البراهين التى طرحناها آية السيف والحديث المحمدى:

صحيح مسلم باب الإيمان حديث 29, 30, 31, 32, 33, 34:

النص: {  حَدَّثَنَا ‏ ‏قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ‏ ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عُقَيْلٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏الزُّهْرِيِّ ‏ ‏قَالَ أَخْبَرَنِي ‏ ‏عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏أَبِي هُرَيْرَةَ ‏ ‏قَالَ :‏لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏وَاسْتُخْلِفَ ‏ ‏أَبُو بَكْرٍ ‏ ‏بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ ‏ ‏الْعَرَبِ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ‏ ‏لأَبِي بَكْرٍ ‏ ‏كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  ‏أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فَقَدْ ‏ ‏عَصَمَ ‏ ‏مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ ‏}.‏  

 

( وأن عليه القتال بعد البلاغ, والحرب بعد البيان والأكراه بالقتل على الدخول فى الدين )

[ الناسخ والمنسوخ فى القرآن: للقاضى أبى بكر بن العربى ـ تحقيق د. عبد الكريم العلوى ـ الجزء الثانى ـ ص 345 ـ الطبعة الأولى 1408هـ / 1988م ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ المملكة السعودبة ].

 

ونصل من هذه الفرشة الوجيزة أن:

تفسير كلمة ( الإسلام ) بالاستسلام والخضوع والانقياد والامتثال والطاعة .. إلخ

عبر اعتناق الديانة تفسير له سنده من النصوص التأسيسية المقدسة.

 

فضلاً عن أن الحفر عن جذور أمثال هذه الألفاظ والتنقيب عن اصول الوقائع المحايثة لها ومنها قتل المسلمين وطلوع آيات كريمة بسببها يؤيده التفسير.

 

فالمغدورون فيها نطقوا بالشهادتين أى أعلنوا الخضوع والاستسلام والطاعة بدخولهم الإسلام ومن ثم لا يصح شرعًا نحرهم, ولو لم يفعلوا لجاز دون لوم أو تثريب أو تعنيف.

 

وبمعادلة بسيطة ومنطقية: إلقاء السلام وتلاوة الشهادتين جماعهما تعنى الطاعة والانقياد والاستسلام للدين , أى اعتناق الإسلام, إذن الإسلام بدوره هو هذه الأمور على وجه التعيين والتحديد.

 

هذه هى دالة الإسلام فى جذره التاريخى كما وكّدته الآيات المجيدة ووثقه تعنيف ( صاحب البرهان 9 للصحابى القاتل لأن المقتول وقد أسلم أعلن انقياده واستسلامه وخضوعه وطاعته فلا موجب شرعًا لنحره, هذا المعنى الخالص الصافى الذى لا تشوبه شائبة ولا يكدره عكارة استحال على أيدى المحدثين إلى دالة مغايرة لا صلة لها به:

( الإسلام هنا معناه إخلاص الوجه لله تعالى فاليهودية إسلام فى مدتها والمسيحية إسلام فى فترتها والرسالة المحمدية إسلام بمعنى إخلاص الوجه لله تعالى والامتثال لطاعته ). [ تفسير القرآن الكريم : لعبدالله محمد شحاته ـ الجزء الثالث ـ ص 540 ـ الطبعة الأولى 2000م ـ دار غريب ـ مصر ].

 

يمكن لنا أن نساله : على أى بساط يسير من يبغى إخلاص الوجه لله تعالى؟ وأى محجة يسلك؟ وعبر أى بوابة يدلف؟.

 

Ø   ولو طلب من أهل الكتابين السابقين أن يحضر لهم برهانه على أن اليهودية فى مدتها والمسيحية إسلام فى فترتها ؟ فكيف يجئ رده ؟.

Ø      ولماذا انتهت مدة إسلام اليهودية ثم فترة إسلام المسيحية؟.

Ø      ولماذا خُصّ زمن إسلام الديانة الثالثة بالأبدية والسرمدية؟.

Ø      ألا يعرف الدكتور المفسر أن كل عقيدة من هذه العقائد الثلاث توقن أنها تملك الحقيقة المطلقة السرمدية وما عداها ليس على شئ.

 

أليس المعنى الذى قالت به النصوص المقدسة أصح وأيسر فهمًا

وأبعد عن الصدام بأصحاب الأديان السابقة.

 

أما صاحب الفضيلة الشيخ محمود شلتوت فله تعريف آخر للإسلام:

( الإسلام هو الصراط المستقيم وانه لذلك كان الشريعة الخالدة الصالحة لكل مكان وزمان ) [ تفسير القرآن الكريم : للشيخ شلتوت ـ الأجزاء العشرة الأولى ـ ص 39 ـ د. ت . ـ دار القلم بمصر ].

وبداية فنحن نكن تقديرًا لفضيلة الشيخ شلتوت لأن آراءه فيها قدر لا بأس به من الاستنارة والعقلانية ولو أنه بحكم دراسته بنطلق من أرضية دوجماطيقية مغلقة.

كذا لجهوده المخلصة التى بذلها فى التقريب بين المذاهب.

بيد أن هذا التقدير لا يمنعنا من تقييم تعريفه للإسلام تقييمًا موضوعيًا ووضعه على محك النقد.

 

قال إن الإسلام هو ( الصراط المستقيم ) وهى عبارة وردت فى القرآن الكريم أكثر من ثلاثين مرة وتدل على العديد من المعانى ومثلها رغم سموها لا تصلح أن تغدو تعريفًا أو تمنح معنى منضبطًا بخلاف المعنى الذى جاءت به نصوص التأسيس وخلاصة الانقياد والطاعة والاستسلام خلال اعتناق العقيدة المخصوصة والمحددة التى بشر بها ( المنصور بالرعب مسيرة شهر ) وفى حال حياته: الاعتراف بالدولة التى أسسها فى أثرب.

 

ثم يضيف إلى معنى الإسلام أو التعريف بدالته أنه الشريعة الخادلة لكل زمان ومكان.

 

إن الشيخ شلتوت تربع على كرسى مؤسسة التقديس ( الأزهر ) فى مصر أى وصل إلى أعلى منصب دينى فى العالم الإسلامى.

 

فالشريعة الإسلامية لا تصلح لكل زمان ومكان, فلنسأل صاحب الفضيلة ما رأيك فى :

v     الرق وملك اليمين والإماء والعُبدان ... إلخ , هل تجرؤ دولة إسلامية الآن على تقنينها؟.

v   تقسيم الأسلاب والغنائم على المقاتلين ونصيب الراكب (= الذى معه فرس ) ضعف نصيب الراجل , أيمكن أن يتم فى أى جيش إسلامى؟.

v     صلاة الخوف فى ميدان المعركة بعد استعمال الصواريخ والطائرات ... أيصلح حاليًا لأدائها؟.

v     معرفة ما فى الأرحام بعد اختراع السونار , ما الرأى فيها؟.

v     صلاة الاستسقاء بعد اختراع المطر الصناعى , هل مازال لها وجود؟.

v     والظهار بعد إمكانية معرفة من هو أبو المولود بعد تحليل عينة من دمه ونسيج جسمه.

v   ما هى ضرورة عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والأجهزة الحديثة فى دقائق معدودة من الميسور عليها الجزم ببراءة الرحم أو علقه من المطلق أو الزوج المتوفى؟.

v     هل من التلازم مرافقة ذى رحم محرم للمرأة فى وسائل النقل الحديثة؟.

v     يمكن تخدير السارق تخديرًا كاملاً فلا يشعر بألم قطع يده!.

v     أو لا يستطيع الطب الحديث إعادة اليد بعملية جراحية دقيقة.

v   هل ـ فى جريمة الزنا ـ من الحتم إقامة الدليل عليها وجود اربعة رجال شهود يرون الميل فى المكحلة أو يجوز شرعًا إثباتها بالتسجيل ( صوت وصورة ) وأيهما أقوى؟.

v   الذى يسرق ربع أو نصف طينار أى خمسة جنيهات على الأكثر تُقطع يده والذى يشترى بضاعة بربع مليون جنيهًا ( مثلاً ) ويعطى شيكًا بدون رصيد لا يُقطع يده أصبع واحد وكذا من يختلس مئات الألوف من المال العام ... !

 

ويستمر ذلك المتسائل فى إبداء ملاحظاته:

v   شهادة المرأة نصف شهادة الرجل, هل هذه القاعدة تتفق مع وضع المراة هذه الأيام بعد حصولها على اعلى الشهادات من أرقى الجامعات؟.

v   وكذا نصيبها فى الميراث, هل ينسجم حاليًا بعد أن تغيرت الأوضاع الاجتماعية بالكلية عن مثيلاتها وقت أن ظهرت النصوص التى شرعتها.

 

ألا يحتاج التأكيد ت يا صاحب الفضيلة ـ على خلود الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكام إلى مراجعة مستأنية؟.

إن من البديهى أن هذا المتسائل ينتظر ردودًا من الفعل لا من النقل.

لقد قدمنا هذين المثلين كبرهان على أن النصوص المقدسة التأسيسية أكثر صراحة وأوفى طبيعية وأنضر وجهًا فيما تقدمه من مكان ودوال وقيم مما طرحه ويطرحه المفسرون والأصوليون والفقهاء قدامى ومحدثون.   

 

 *******

ونختم بأن الآيات المجيدة تنفحنا برهانًا ساطعصا على أن الواقع هو الأساس الذى ينبنى عليه الفكر والأرض الصلبة التى يقوم عليها التنظير والمدماك الشديد الذى يقف عليه الرأى وأن هذه كلها  لا تهبط من عل.

 

إن الانتباه لهذه الحقيقة الجوهرية

هو الباب الملكى والوحيد للخروج من كل الأزمات

والانعتاق من سائر المزانق والانفلات من كل القيود.

 

*******

ختام

 

تاريخية النص المؤسس لا تجد قبولاً من الدوجماطيقيين, بل إنها تثير حفيظتهم ويعتبرونها بدعة ضالة مضلة.

يرفعون أمامها مقولة " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" وهذه ليست آية كريمة ولا حديثًا محمديًا شريفصا ولم يفه بها واحد من الصحاب.

على أحسن الفروض أطلقها تابعىّ.

أبو حنيفة النعمان شيخ مذاهب الأحناف ـ أكبر المذاهب لدى السنة والجماعة ـ حدد الموقف من آرائهم بقوله:

" فإذا جئنا للتابعين فهم رجال ونحن رجال ".

أى لا قداسة لطروحاتهم لأنها اجتهاد بشرى فلنا أن نقبلها إن اقتنعنا بها, أو نرفضها إذا افتقرت إلى الحجة وأعوزها البرهان واحتاجت إلى الدليل.

تقديس تركة السلف أحد روافد جمود الفكر الإسلامى بل بدون مغالاة أهمها على الإطلاق ولو أنه يوسع المحجة لغيره من التحاضيض.

" العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب" عبارة فضفاضة بالإضافة إلى اتسامها باللامنطقية.

فاللفظ الذى غطاها أو عبّر عنها ليس فيه عمومية بالمعنى الذى تُوهم به القاعدة.

كما أن إلغاء السبب مصادرة على المطلوب إذ إنه وحده السبيل الفرد لفهم اللفظ الذى وصفته المقولة ـ دون وجه حق بالعمومية.

 

فمثلاً تحلة الإيمان فى { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم 2 ], من العسير استيعابها دون معرفة الواقعة التى سبقتها وبمعنى أدق التى تسببت فى هلّها إو إشراقها وهى حكاية مسّ ( سعد الخلائق ـ محمد ) لجاريته مارية القبطية على فراش العدوية حفصة بنت عمر , وعودتها الفجائية أو غير المتوقعة , ورؤيتها على فراشها, فثورتها الغضوب, ثم حلفه لها بعدم الاقتراب من الأمة المصرية القبطية الجميلة البيضاء .. فقدوم الآية بفك الأزمة بتحويلها العهد الذى صدر من إلى مجرد يمين من اليسير التكفير عنها كأى يمين غيرها.

 

إذن بدون معرفة هذه الخلفية من المستحيل نقاهة التَحّلة التى تضمنتها الآية, فهى لا تنضوى (=الآية ) على لفظ علم لأو بمعنى أدق حكم عام, ولكن أرقل الفقه بعد حين قصير أو طويل وسحبها على الأيمان الأخريات وسوّى بينها فى الحكم أى التحلل من القسم.

 

نخلص إلى أن تعميم اللفظ ليس له وجود وقت أن تلا ( المترحم محمد ) الآية على تُبذاعه وقبل أن يكفّر عن قسمه أو يمينه أو عهده كيما يعود إلى ملامسة مارية القبطية الحسينة, إنما جاءت العمومية والتعميم أو بمعنى أدق القول بهما بعدها بزمان.

 

ونحن نؤيد هذا المنحى الذى سار فيه الفقهاء سواء من علماء الصحابة أو من الفقهاء قبل نشوء المذاهب أو من أئمتها ومؤسسى مدارسها.

 

لماذا؟.

لأن هذا العمل يتسق مع ما نادينا به منذ عشرين عامًا وما زلنا: استخلاص المعنى أو القيمة أو المغزى من النص دون التقيد بحروفه.

أى لم يشترط الفقهاء حدوث واقعة مماثلة لقصة مارية القطية.

بل اخذوا الدلالة منها وطبقوها على النوازل التى استجدت فى عصرهم.

إنما الاعتراض على المقولة أو القاعدة التى وضعت خصيصًا لنفى قاعدة التاريخية التى يبغضها السدنة والمرازبة والدهاقون.

 

لماذا؟.

لأنهم يعيشون بل يتعيشون على تجريد النص المؤسس وتحويله إلى نماذج متعالية وأمثلة مفارقة وترميزات لا علاقة لها بواقع الناس ولا وشيحة لها بهموم حياتهم ولا صلة لها بمشاغل معاشهم.

 

بيد ان سلوك الفقهاء يؤيد من جانب آخر تاريخية النص المؤسس التى رفعنا شعارها منذ سنوات طوال.

 

لعل العبارة فى حاجة إلى مزيد من الإيضاح:

إصرار الفقهاء على استخلاص المغزى أو المعنى أو القيمة هو اعتراف ضمنى بل صريح بأن الآية التى استخرجوا منها الحكم ارتبطت بنازلة معينة تشيأت على أرض الواقع فى زمن محدد وأبطالها هم ( محمد ) وسريته القبطية مارية وبعلته العدوية حفصة, وفى مكان معلوم هو حجرة الزوجة المهرية وعلى فراشها, فهو ـ أى المكان ـ إذن لعب دورًا بارزًا لايقل أهمية عن بقية العناصر التى تتشكل فيها الحكاية, فلولا أنه خاص باينة الخطاب وان باب الحجرة غير محكم ومساحتها محدودة لما تسنى لحفصة اكتشاف وط ( المعظم المعطى محمد ) لأمته المصرية الحسناء الفاتنة على فراشها وسريرها, بالإضافة إلى البلد الذى حدثت فيه وهى أثر بخلاف غبان وقوعها, إذن تارخية الآية أمر ملموس بالحداس قبل أن يدركه العقل أو حتى يمكن التوصل إليه بالحدس أو الانتهاء إليه بالتخمين أو التعرف عليه بالفراسة.

 

ولكن ماهى الحكمة فى التأكيد على التاريخية؟.

هناك عدة حكم :

أولاها: أن نفيها من جانب الدجماطيقيين إنكار لما هو معلوم بعدة طرق من وسائل الإدراك وهذا بلا مشاجة أمر ينافى الموضوعية.

وثانيهما: أنه هدم للعماد الذى ترسخ عليه النص المؤسس.

وثالثتها: يؤدى إنكارها بطريق الحتم واللزوم غل سوء فهم النصوص المؤسسة, مما يوصل إلى تفسيرات شاحبة وتأويلات ضامرة وتوضيحات هزيلة.

ورابعتها: أن بترها من سياقها التاريخى سوف يسلم فى نهاية الشوط إلى التعتيم وفى آخر المطاف إلى التضبيب, وفى ختام المضمار إلى الغبشة وبدوره سيجر إلى:

الخامسة والأخيرة: تضارب التفسيرات وتناقض التأويلات واختلاط الشروحات ومرج الإيضاحات واضطراب الاستخلاصات.

 

لماذا؟.

لأن تاريخية النص المؤسس بمثابة البوصلة التى تحدد للسفينة خط سيرها الصحيح.

 

التمسك بتاريخية النص المؤسس يعيد للأذهان حقيقة غدت ملقاة فى مربع النسيان لأسباب عديدة, وهى أن القرآن المجيد بدأ شفاهيًا وحفظ فى الصدور مدة طويلة حت أسرع الأموى عثمان بن عفان وسيّجه وأغلق عله بين دفتين.

وتحول من القرىن إلى مصحف وهو لفظ لم يرد فى القرآن وإن وردت به كلمة صحف,

والمتفق عليه أن كلمة مصحف حبشية, 

 

والأشد غرابة انه أصبح يدعى " مصحف عثمان" رغم أنه " المصحف الإمام" ونمتنع عن الخوض فى المعركة التى خاضها الأموى عثمان مع عدد من الصحابة الذين تملكوا مصاحف خاصة بهم ولا بالاختلافات فى هذا الشأن فمن أراد الاطلاع عليها فعليه بكتاب المصاحف للسجستانى وغيره. [ كتاب المصاحف: تأليف أبى بكر عبداله بن أبى داود سليمان بن الأشعث السجستانى ـ باب المصاحف العثمانية / وكذلك كتا فضائل القرآن لابن كثير 700/774 هـ ـ طبعة 1979 ـ الناشر على رحمى ـ مصر ـ من ص 41 إلى ص 59 ـ الطبعة الأولى 1405هـ / 1985م ].

 

 والذى يهمنا أن تسمية القرآن بـ"مصحف عثمان" تكرّست فى عهد الأسرة المالكة الأموية بديًا بمعاوية بن أبى سفيان, وذلك لأهداف سياسية أقلها تثبيت مكانتها لدىالرعية, وفى مواجهة بنى هاشم أصحاب الحق فى منصب الإمامة الذى اغتصبوه منهم بطرق نعفّ عن تسطيرها.

 

ولعلها سخرية من القدر أن يُنسب القرآن إلى فرد من البطن او الفخذ الذى وقف بالمرصاد لـ ( محمد ) وهو ينشر دعوته ويؤسس دولة جده قصىّ, فيقال "مصحف عثمان" لا " مصحف الحبيب المصطفى" , حتى إن أحد الباحثين المخضرمين لم ير غضاضة فى أن يزبر " وبذلك تمت موافقة الأمة كلها على مصحف عثمان".

[ تاريخ القرآن: لعبد الصبور شاهين ـ ص 189ـ طبعة ثانية ].

 

بعد أن سكّ عثمان القرآن بين دفتين, تحول من نص شفاهى طازج إلى كتاب تعلوه القداسة وتحوط به الجلالة, وبمضى الوقت وكرور الأيام تحلقت حوله كوكبة من السدنة وطائفة من المرازبة ومجموعة من الحجّاب يمنعون الاقتراب منه إلا بإذنهم ويحظرون تفسيره إلا إذا مُهر بخاتمهم , ويحجرون تأويله إلا على من حاز صفات أو مؤهلات ينفردون هم بتحديدها.

 

ومن الطريف, وكم فى مجال الإسلاميات وإن شئت قلت فى الدينيات عمومًا من طرائف وعجائب ومدهشات يحار الفطن ذو اللب والحجى والنهى فى تعليلها أو عقلنتها أو منطقتها, فيعجز, فيقال له:" لا تتعب نفسك فهى كذلك".

 

فإما أن تتقبلها على علاتها, وإما حد الردة, وما أدراك حد الردة !!!.

 

نعود فنقول أن تلك المواصفات المستحيلة غير متوافرة فيهم هم " السدنة ـ المرازبة ـ الحجاب ".

 

هؤلاء الذين يتولونها أو يباشرونها من الطبيعى أن يعادوا " تاريخية النصوص المؤسسة" لأن مصلحتهم المادية والأدبية تتركز فى إفهام عامة المؤمنين أنها مُفارقة ومثفاصلة ولا صلة لها بواقع الناس بل لها آفاقها العالية المرموقة ومجالاتها المثالية السامية .

 

وكنتيجة مباشرة يمكنهم تطويعها وفى استطاعتهم تشكيلها وبمقدورهم تلوينها بالصورة التى يريدونها.

 

وفريق آخر يشن حربًا لا هوادة فيها على التاريخية وأصحابها, نعنى بهم أولئك الذين يستخدمون النصوص لمآربهم السياسية " كأيديولولله ية" تفتح امامهم طرق السلطةز

 

فى هذه الحالة, فإن بقاء "نص التأسيس" فى برج عاجى يتيح لهم اتخاذ النص اداة فعالة لتبييض وجه شعاراتهم وبرقشة لافتاتهم وتجميل ادعاءاتهم.

 

فكلما بقى " النص" مجردًا ومفاصلاً وبعيد المنال, صار أصلح للاستخدام وأسهل للاستعمال وأيسر للتوظيف خاصة أن كل ما يمت إلى الدين بصلة ليس ثم ما يدانيه فىالتأثير على القاعدة الشعبية العريضة.

 

وسيظل الأمر على منوله إلى أن تتغير أحوالها المادية أولاً ثم الثقافية والمعرفية.

 

إذن, ربط " النص المؤسس" بتاريخ هلّه أو إشراقه سيقطع الطريق أمام مساعى أصحاب هذا الفريق, لأنه سوف يعرى شعاراتهم الزيوف, وآخرون غير هاتين الجوقتين ينظرون إلى التاريخية شزرًا لأسباب ثيولوجية. بيد ان حلاس النص المكتوب الذى أغلق بين الدفتين, والمهيجيين والديماجوجيين للسلطة بارتداء الإزاء الدينى هم الفرقتان الأشد عداوة والأد خصومه والأحمى نزاعًا لها.

 

يؤكد الزركشى فى برهانه أنه:

( فى زمن النبى ـ ص ـ تُرك جمعه فى مصحف واحد )

[ البرهان فى علوم القرآن: لبدر الدين الزركشى ـ تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ الجزء الأول ـ ص 235 ـ الطبعة الثانية ـ 1391هـ / 1972م ـ عيسى البابى الحلبى وشركاه ـ بمصر ].

 

ويفرق السيوطى بين الكتابة والجمع فيؤكد أن :

( القرآن كتب كله فى عهد رسول الله ـ ص ـ ولكنه لم يُجمع فى موضع واحد ولم تُرتب سوره ) .

[ الإتقان ص 57 ـ نقلاً عن "مصحف عثمان" لسحر سالم ص 6 ].

 

بيد أن الأمر الثابت أن الاعتماد كليًا على الحفظ فى الذاكرة والجمع فى الصدور استمرا دون غيرهما حتى منتصف خلافة أبو بكر , أى منذ واقعة غار حرىّ حتى سنة 12هـ أى ما يقرب من 25 عامًا.

 

والحجة على ذلك أنه عندما شرع زيد بن ثابت فى جمعه تمهيدصا لكتابته توكأ على محفوظات الرجال, بل إن عددًا من الآيات لم يجدها مكتوبة على اللخاف والرقاع والعُسب والأكتاف, بل عثر عليها عند بعض الصحاب مثل حزيمة بن ثابت وأبىّ بن كعب.

 

وإبان ذاك طفق عمر بن الخطاب ـ صاحب فكرة الجمع ـ ينادى بصوته الجهورى فى الناس

( من كان تلقى عن رسول الله ـ ص ـ شيئًا من القرآن فليأتنا به ).

[ كتاب المصاحف للسجستانى ـ ص 14, 15, 16, 17 ].

 

ولنلاحظ أنه لم يقل ( من كتب شيئًا من القرآن فليأتنا به ).

 

مع صعوبة تصور كتابة القرآن كله على الأدوات الكتابية البدائية إياها!!!.... إلخ, فضلاً عن أن ذيّاك المجتمع المعجب شبه المتبدئ وثقافته الشفاهية فهو يعتمد فى تجميع وتراكم معارفه على الأذن قبل العين ومن ثم فإن وعاءها المعارف الذاكرة والصدرالذى يوسس فيه الشيطان لا المجرة والقلم والورقة !!!.

 

إن القرآن ضم شطرًا كبيرًا منه تناول قصص الخلق والتكوين والأنبياء ثم حكايا البطاركة وهذه كلها وردت نظائرها فى الكتاب المقدس خاصة العهد القديمز

 

كما قَصّ حكايا عاد وأخيهم هود وثمود واخيهم صالح والناقة المدهشة التى خُصص لها يوم تشرب فيه بمفردها والقرية بأكملها بشرصا وحيوانات لهم يوم وذلك امتحان لهم هل يصيرون أم يكفرون.

 

هذه الحكايا عُرفت منذ قرون فى جزيرة العرب وتناقلتها الأجيال وراء الأجيال ( أساطير الأولين ).

 

والنوعان كلاهما ( قصص العهد القديم وحكايا الجزيرة العربية لا حاجة لهما بالتنجيم أو التبعيض أو التجزئ.

 

وذهب بعض المفسرين أنها أشرقت للعظة والعبرة, وفريق آخر زبر أن القصد منها التسرية عن ( البدر محمد ) وتسليته وتخفيف بعض ما يعانيه, أما الفريق الثال فيؤكد أن غرض شطر منها هو مقارنة حالته بأحوال الكمّل من البطاركة السابقين.

[ لمزيد من التفصيلات إرجع فى هذه الخصوصية إلى كتاب ( القصص الفنى فى القرآن الكريم ) للدكتور محمد أحمد خلف الله مع شرح وتعليق لخليل عبد الكريم ـ الطبعة الرابعة 1999م ـ سينا للنشر بمصر والانتشار العربى ببيروت ].

 

ولنا ملحظ شديد الأهمية ولسنا نغالى إذا قلنا إن احدًا من الباحثين لم يلتفت اإليه من قبل:

لقد قسموا القرآن إلى : مكى ومدنى, نهارى وليلى, حضرى وسفرى, فراشى ونومى, صيفى وشتائى, أرضى وسمائى ... إلخ.

لكن قط لم تتم التفرقة بين القصصى والمعاشى أو الحكائى والواقعى أو الروائى والحياتىوإذا وجدت ثمة مشابهة بين النوع الأول ( القصصى الحكائى ) وبين ما جاء فى الكتاب المقدس خاصة العهد القديم وبين الشائع على ألسنة العرب فيما يتعلق ببطاركة الجزيرة العربية.

 

فهناك مفاصلة واختلاف شديد بين القرآن وبين الكتب السماوية السوابق عليه فى التاريخ فيما يتصل بهذه القصص ولنتركها للباحثين للتفقه فيها.

 

تحريرًا فى 22 جمادى الآخرة 1422هـ.

               11 سبتمبر 2001م.

 

خليل عبد الكريم

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر والمراجع

1ـ القرآن الكريم

2ـ ( تفسير ابن جريح ) جمع وتحقيق على حسن عبد الغنى ـ الطبعة الأولى ـ 1413هـ/1992م ـ مكتبة التراث الإسلامى ـ القاهرة.

3ـ ( لطائف الإشارات لفنون القراءات ) لشهاب الدين القسطلانى 851/923هـ ـ تحقيق وتعليق عامر السيد عثمان وعبد الصبور شاهين ـ       الطبعة الأولى ـ 1392هـ/1972م ـ لجنة إحياء التراث الإسلامة ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة.

4ـ ( أسباب النزول ) للواحدى ـ طبعة 1388هـ/1968م ـ مؤسسة الحلبى ـ مصر.

5ـ ( الاتقان فى علوم القرآن ) للسيوطى ـ الطبعة الرابعة 1398هـ/1978م ـ مكتبة مصطفى الباب الحلبى ـ بمصر.

6ـ ( بنو إسرائيل فى القرآن والسنة ) لمحمد سيد طنطاوى ـ نوفمبر 1997م ت دار الشروق ـ مصر.

7ـ ( المقبول من أسباب النزول ) لأبى عمر نادى بن محمود الأزهرى.

8ـ ( لباب النقول فى أسباب النزول ) للسيوطى ـ كتاب التحرير ـ دار الشعب بمصر.

9ـ ( الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل فى وجوه التأويل ) لأبى القاسم جار الله الزمخشرى 467/538هـ ـ طبعة دار المعرفة ـ بيروتز

10ـ ( كتاب التسهيل لعلوم التنزيل ) لمحمد بن جزىّ الكلبى ـ دار الكتاب العربى ـ بيروت.

11ـ ( تفسير القرآن الكريم ) لعبدالله محمود شحاته ـ الطبعة الأولى ـ 2000م ـ دار غريب ـ القاهرة.

12ـ ( الإصابة فى تمييز الصحابة ) لابن حجر العسقلانى 772/858هـ ـ تحقيق طه عبد الرؤوف سعد ـ د.ت.ن ـ دار الغد العربى ـ مصر.

13ـ ( السيرة النبوية ) لابن إسحق تحقيق طه عبد الرؤوف سعد وبدوى طه بدوى ـ الطبعة الأولى 1419هـ/1998م ـ القطاع الثقافى بدار أخبار اليوم ـ مصر.

14ـ ( المحبر ) لأبى جعفر بن حبيب ـ تحقيق سيد كسروى ص 108 ـ ط 1412هـ/2000م ـ دار الغد العربى ـ مصر.

15ـ ( صحيح البخارى ) نشره دار الشعب بمصر.

16ـ ( أنوار التنزيل وأسرار التأويل ) تفسير البيضاوى ـ لناصر الدين أبو الخير عبدالله بن عمر الشيرازى البيضاوى ـ د.ت.ن ـ دار الفكر ـ دون ذكر المدينة.

17ـ ( تاريخ الطبرى ) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ـ الطبعة السادسة ـ 1990م ـ دار المعارف بمصر.

18ـ ( مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير ) لفخر الدين محمد بن عمر الرازى ـ 554/606هـ ـ الطبعة الأولى 1412هـ/1992م ـ دار الغد العربى ـ بمصر.

19ـ ( الجامع لأحكام القرآن ـ المعروف بتفسير القرطبى ) لأبى عبدالله بن احمد الأنصارى القرطبى ـ د.ت.ن ـ كتاب الشعب بمصر.

20ـ ( التفسير والمفسرون ) لمحمد حسين الدهبى ـ الطبعة الثالثة ـ 1405هـ/1985م ـ مكتبة وهبه بمصر.

21ـ ( حياة محمد ) لمحمد حسين هيكل ـ الطبعة 11 ـ دار المعارف بمصر.

22ـ ( نساء النبى ) لبنت الشاطئ ـ د.ت.ن ـ دار الهلال بمصر

23ـ ( المغازى ) لمحمد بن عمر واقد المعروف بالواقدى ـ توفى 207هـ ـ تحقيق مارسدن جونز ـ د.ت.ن ـ مؤسسة الأعلمى ـ بيروت.

24ـ ( الخصائص الكبرى ) للسيوطى ـ تحقيق حمزة النشرتى وآخرين ـ الطبعة الأولى 1996م ـ الناشر: حمزة النشرتى ـ بمصر.

25ـ ( التيسير خلاصة تفسير ابن كثير ) توفى 774هـ ـ بقلم محمود محمد سالم ت طبعة دار الشعب بمصرز

26ـ ( دلائل إعجاز القرآن ) عبد القاهر الجرجانى ـ قراءة وتعليق أبى فهر محمود شاكر ـ ط2000م ـ الأعمال الدينية ـ مكتبة الأسرة ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب.

27ـ ( السيرة المحمدية ) لابن هشام ـ تحقيق محمد فهمى السرجانى ـ ط 1978م ـ المكتبة التوفيقية بمصر.

28ـ ( إمتاع الأسماع ) للمقريزى توفى 845هـ ـ تحقيق محمد النميسى ـ مراجعة محمد جميل غازى ـ ط أولى 1401هـ ـ دار الأنصار مصر.

29ـ ( سيرة المصطفى ـ نظرة جديدة ) تأليف هاشم معروف الحسينى ت ط أولى ـ 1416هـ/1996م ـ دار التعاوف للمطبوعات ت مصر.

30ـ ( السمط الثمين فى مناقب أمهات المؤمنين ) تأليف محب الدين الطبرى توفى 694هـ ـ تحقيق حمزة النشرتى وآخرين أ ط أولى 1382هـ/1996م ـ الناشر حمزة النشرتى ـ بمصر.

31ـ ( المختصر فى تفسير القرآن ـ مختصر تفسير الطبرى ) لابن صمادح التجبيبى تنقيح وتحقيق عدنان زرزور ـ ط أولى 1399هـ/1979م ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت.

32ـ ( تفسير غرائب القرآن ) لأبى محمد بن مسلم بن قُتيبة ـ تحقيق السيد احمد صقر ـ ط أولى 1398هـ / 1978م ـ دار المكتب العلمية مصر.

33ـ ( سبل الهدى والرشاد فى سيرة خير العباد ) المعروف بـ ( السيرة الشامية 9 لمحمد بن يوسف الصالحى توفى 942هـ ـ تحقيق مصطفى عبد الواحد ـ ط أولى 1392هـ/1972م ـ لجنة إحياء التراث الإسلامة ـ المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ القاهرة.

34ـ ( مصحف الأزهر وبهامشه التفسير الميسر ) محمد سيد طنطاوى ـ ط ثانية 1420هـ/1999م ـ مجمع البحوث الإسلامية ـ مطبعة الأزهر الشريف ت الأزهر مصر.

35ـ ( محمد واليهود ـ نظرة جديدة ) تأليف بركات احمد ـ ترجمة محمود على مراد ـ الأعمال الدينية الطبعة الأولى 1998م ـ مهرجان القراءة للجميع ـ مكتبة الأسرة الهيئة المصرية العامة للكتاب.

36ـ ( السيرة الحلبية ) لعلى بن برهان الدين الحلبى.

37ـ ( تفسير النسفى ) لأبى بركات عبدالله النسفى ـ د.ت.ن ـ دار إحياء الكتب العربية ـ عيسى البابى الحلبى مصر.

38ـ ( تفسير سورة الحشر ) لحسن فريد الكلبايكانى ـ ط أولى 1396هـ ـ طهران.

39ـ ( أم سلمة أم المؤمنين ) إعداد أمينة أمزيان الحسنى ـ ط أولى 1419هـ/1998م ـ وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية ـ المملكة المغربية.

40ـ ( صحيح مسلم ) دار لشعب بمصر.

41ـ ( المسند ) لابن حنبل دار لشعب بمصر.

42ـ ( مرويات غزوة بدر ) جمع ودراسة وتحقيق ـ أحمد محمد العليمى بارويز ـ ط اولى 1400هـ/1980م ـ مكتبة طيبة ـ المدينة المنورة ـ السعودية.

43ـ ( روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى ـ المعروف بتفسير الألوسى ) لأبى الفضل شهاب الدين محمد الألوسى ـ تحقيق محمود الشرقاوى ـ ط 1415هـ/1994م ـ كتاب الشعب الدينى ـ دار الشعب ـ مصر.

44ـ ( التفسير الوسيط للقرآن الكريم ) تأليف لجنة من العلماء ـ تحت إشراف مجمع البحوث الإسلامية ـ الأزهر ـ ط اولى 1393هـ/1973م مصر.

45ـ ( المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز ) لأبى محمد عبد الحق بن عطية الغرناتى 481/541هـ ـ تحقيق وتعليق أحمد صادق الملاح ـ ط أولى 1394هـ/1974م ـ لجنة القرآن والسنة بالمجلس الأعلى للشئون الإسلامية ـ مصر.

46ـ ( احكام القرآن ) لابن العربى ـ تحقيق على محمد البجاوى ـ ط أولى 1407هـ/1978م ـ دار المعرفة ودار الجبل ـ بيروت ـ لبنان.

47ـ ( أحكام القرآن ) لعماد الدين محمد الطبرى المعروف بالكيا هراسى  ط اولى 1403هـ/1983م ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

48ـ (أحكام القرآن ) الجصاص ـ دار الفكر للطباعة والنشر ـ

ومصادر أخرى مذكورة بجانب كل اقتباس.