"النبى" - كيف يصلى على رأس المنافقين بالمدينة رغم نهى القرآن؟؟..

 

- وهل كان عُمر أكثر التزاماً بالقرآن من الرسول، وأكثر علماً بمدلولاته ومعانيه؟؟..

جاء عن المنافقين: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا"

(النساء: 145)

وجاء فى (التوبة:80): "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ.."

وجاء فى الحديث الصحيح عن ابن عباس، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفى عبد الله بن أُبى دُعى رسول الله (صلعم) للصلاة عليه، فقام إليه فلما وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت فى صدره فقلت: يا رسول الله، أعلى عدو الله عبد الله بن أُبى القائل يوم كذا وكذا كذا وكذا – يعد أيامه – قال: ورسول الله (صلعم) يبتسم، حتى إذا أكثرت عليه قال (صلعم): "أَخِّر عنى يا عمر، إنى قد خيرت فأخترت، قد قيل لى: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ" (التوبة:80) لو أعلم أنى لو زدت على السبعين غَفَر له لزدت". قال: ثم صلى عليه ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعَجَبٌ لى وجرأتى على رسول الله (صلعم)، والله ورسوله أعلم، فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان:

"وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ" (التوبة:84) إلى آخر الآية. قال: فما صلى على رسول الله (صلعم) بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله. رواه البخارى (1366)، النسائى (1965) والترمذى (3097) وصححه الألبانى. وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح غريب.

(سنن الترمذى - كتاب تفسير القرآن (10) باب ومن سورة التوبة – حديث رقم 3097 – دار ابن الهيثم – رقم الإيداع 14777/2004)

والحديث رواه أيضا الإمام أحمد والطبرى وأبو نعيم.

(جمع الجوامع (الجامع الكبير) للسيوطى – ج1 – حديث رقم 713 – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الأولى 2000م)

والسؤال: إذا كان الله فى مفهوم النبى من الممكن أن يرحم شخص مثل أُبى رأس المنافقين (سنة 9هـ) فلماذا كان قاسياً مع أسرى بدر(سنة 2هـ) ووبخ النبى عدم قتلهم بحسب قول القرآن: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال:67)

روى البخاري عن نافع عن ابن عمر قال: لمّا توفي عبد الله – هو ابن أُبَيّ – جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله (ص)، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله (ص) ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟! فقال رسول الله (ص): "إنما خيّرني الله فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)، وسأزيد على السبعين. قال: إنه منافق! قال: فصلّى عليه (ص) فأنزل الله عز وجل آية (ولا تُصَلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقُم على قبره) (التوبة: 84) (رواه أيضاً مسلم والإمام أحمد)

(تفسير ابن كثير - ج4(8 مجلدات) - ص 132 – سورة التوبة (براءة) – طبعة دار الشعب – تحقيق عبد الغزيز غنيم – محمد أحمد عاشور – أحمد إبراهيم البنا. انظر أيضاً أسباب نزول الآية للسيوطي)

وقول عُمَر (وقد نهاك ربك أن تصلى عليه) يُفهَم منه أن (التوبة: 80) تنهَى عن الصلاة على المنافقين.

لذلك قال ابن كثير: "وقد قيل: إن السبعين ذُكِرَت حسماً لمادة الاستغفار لهم، لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها.                   (تفسير ابن كثير(4/128) -  سورة التوبة – مصدر سابق)

 وقال القرطبى فى تفسير الآية: إن تسأل لهم أن تُستر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضيحتهم بها، فلن يستر الله عليهم، ولن يعفو لهم عنها،...

(تفسير الطبرى – الجزء 6 – ص 434 – دار الكتب العلمية – بيروت – الطبعة الثالثة – 1999م)

وفى تفسير المجلس الأعلى للشئون الإسلامية قال العلماء فى تفسير الآية: "لن ينفعهم أن تستجيب لدعاء بعضهم، وتطلب المغفرة من الله لهم، فسواء أن تستغفر لهم أيها النبى أم لا تستغفر لهم، ومهما أكثرت من طلب المغفرة لهم، فلن يعفو الله عنهم،...

(تفسير المنتخب – الطبعة 18 – 1995م – توزيع مؤسسة الأهرام)

وجاء فى تفسير القرطبى عن بعض العلماء: فى تفسير الآية بين تعالى أنه وإن استغفر لهم لم ينفعهم ذلك وإن أكثر من الاستغفار، قال القُشيرى: ولم يثبت ما يروى أنه قال: " لأزيدن على السبعين".

قلت (القرطبى): وهذا خلاف ما ثبت فى حديث ابن عمر "وسأزيد عن السبعين" وفى حديث ابن عباس "لو أعلم أنى إن زدت عن السبعين يغفر لهم لزدت عليها"، قال: فصلى عليه رسول الله (صلعم)، خرجة البخارى.

وقال القرطبى: واختلف العلماء فى تأويل قوله "استغفر لهم" هل هو إياس أو تخيير، فقالت طائفة: المقصود به اليأس بدليل قوله تعالى: "فلن يغفر الله لهم" وذكر السبعين وفاقٌ جرى، أو هو عادتهم فى العبارة عن الكثرة والإغياء، فإذا قال قائلهم: لا أكلمه سبعين سنة صار عندهم بمنزلة قوله: لا أكلمه أبداً، ومثله فى الإغياء قوله تعالى: "ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ" (الحاقة: 32)، وقوله (صلعم): "من صام يوما فى سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً" رواه البخارى ومسلم والنسائى والترمذى وقال عنه هذا حديث حسن صحيح.

وقالت طائفة: هو تخيير – منهم الحسن وقتادة وعُروة.

(الجامع لأحكام القرآن – المجلد الرابع – ص 542، 543 – دار الحديث القاهرة – طبعة 2002م – رقم الإيداع 2600/1994م)

لذلك يقول حسين عبد الله المعتوق: الآية الكريمة التي استدل بها على جواز الاستغفار لا تدل على التخيير بين الاستغفار وعدمه، إنما هي في بيان عدم جدوى الاستغفار، والاستغفار الذي لا أثر له لغوٌ لا يقع من الرسول الأكرم (ص).

(جذور الانحراف – دراسات في أسباب وتاريخ انحراف الأمة- ص87- دار الكاتب العربي- الطبعة الأولى 2002- ص.ب: 355/25- بيروت)

        ويقول صالح الورداني: الدلالات التي يشير إليها الحديث هي:

-إن الرسول كان يجهل النهي وذَكَّره به عُمَر..

-إن الرسول أصر على موقفه المخالف للقرآن..

-إن عُمَر جذبه من ثوبه كي يمنعه من ارتكاب هذه المخالفة..

-إن الرسول تحايل على النَّص القرآني بمنع الاستغفار للمنافقين..

-إن القرآن نزل يوافق عُمَر..

 (الخدعة – رحلتي من السُّنَّة إلى الشيعة – صالح الورداني – ص128، 129 – تريدنكو للنشر – بيروت – ص.ب: 5316/14 – الطبعة الثالثة – 1997م)

 

وفي موضع آخر يقول: إن الفقهاء يريدون التأكيد على أن الرسول (ص) خالف القرآن وتجاوز حدود النَّصّ، وأن النّابه عُمَر تَصَدّى له وأن الوحي ناصَرَ عُمَر ضد الرسول. فأي ضلالٍ بعد هذا؟

(دفاع عن الرسول – للورداني – ص255– تريدنكو للطباعة والنشر - بيروت - لبنان - ص.ب 5316/14 هاتف 318489 /01)

 

عرض القضية كما جاء فى كتاب

اجتهاد الرسول (صلعم) فى هذه القضية لفضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى       أبو النصر (من علماء المجلس الأعلى للشئون الدينية بالأزهر):

تحت عنوان: "ما بدا من اجتهاده فى صورة الاستغفار لبعض المنافقين" قال فضيلته:

قال ابن كثير قال قتادة: أرسل عبد الله بن أُبى* إلى رسول الله (صلعم) وهو مريض، فلما دخل عليه قال له (صلعم): "أهلكك حب يهود". قال: يا رسول الله! إنما أرسلت إليك لتستغفر لى، ولم أرسل إليك لتؤنبنى، ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه ليكفن فيه (إذا مات) فأعطاه إياه.

قال ابن كثير: فإذا صحت هذه الرواية دلت على أنه (صلعم) استغفر له وهو حى، فأنزل الله–وعبد الله حى أيضاً:"اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:80)

 

جاء فى تفسير المنار تعليقاً على ذلك: والظاهر أنه كان (صلعم) يستغفر لهم رجاء أن يهديهم الله تعالى فيتوب عليهم ويغفر لهم كما كان يدعو للمشركين ويقول: "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون".

ويروى البخارى – ومسلم وأحمد والترمذى والنسائى – عن ابن عمر أنه قال: لما توفى عبد الله بن أُبىّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله (صلعم) فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلى عليه فقام رسول الله ليصلى، فقام عمر بن الخطاب فأخذ بثوب رسول الله (صلعم) فقال يا رسول الله تصلى عليه وقد نهاك ربك أن تصلى عليه**؟ فقال رسول الله (صلعم): "إنما خيرنى الله فقال: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً" وسأزيد على السبعين، قال: إنه منافق، قال فصلى عليه رسول الله (صلعم) فأنزل الله: " وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ " (التوبة:84).

 

والبخارى يروى أيضا من طريق آخر عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: لما مات عبد الله بن أُبىّ ابن سلول، دعى له رسول الله (صلعم) ليصلى عليه، فلما قام رسول الله (صلعم) وثبت إليه، فقلت: يا رسول الله! أتصلى على ابن أُبىّ، وقد قال يوم كذا: كذا، وكذا؟ قال: أعدد عليه قوله! فتبسم رسول الله (صلعم) وقال: "أَخِّر عنى يا عمر"، فلما أكثرت عليه قال: "إنى خيرت، فاخترت، ولو أعلم أنى إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها" قال: فصلى عليه رسول الله (صلعم) ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيراً، حتى نزلت الآيتان من براءة: " وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا" إلى قوله: " وَهُمْ فَاسِقُونَ" قال: "فعجبت بعدُ من جرأتى على رسول الله (صلعم)، والله ورسوله أعلم.

 

قال ابن المنير: وإنما قال ذلك عمر حرصاً على النبى (صلعم) ومشورة لا إلزاماً، وله عهدٌ بذلك.

وقال الحافظ ابن حجر: واستشكل الداودى تبسمه (صلعم) عند الجنازة، وأجيب بأنه عبر عن طلاقة وجهه بالتبسم، وإنما فعل ذلك تأنيساً لعمر، وتطييباً لقلبه كالمعتذر عن ترك قبول كلامه ومشورته:

1- فالرسول عليه السلام عندما طلب منه عبد الله بن أُبىّ – وهو رأس المنافقين كما يقولون-  أن يستغفر له استغفر له اجتهاداً منه ودعا ربه العفو عنه.

2- لكن الله سبحانه وتعالى لم يقر رأيه وبالتالى لم يستجيب لدعائه، كما جاء فى كتابه الكريم: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ".

فلو كان استغفار الرسول عليه السلام لعبد الله بن أُبىّ عن وحى ولم يكن عن رأى اجتهادى منه لما نفى سبحانه وتعالى – هنا فى هذه الآية الكريمة – قبوله وأكد ذلك بعدم وقوعه فيما بعد أيضاً.

*****

ومن اطلع على هذه الروايات التى دونت فى كل تواليف الحديث (وفى مقدمتها البخارى ومسلم) يعرف أنه (صلعم) اجتهد فاستغفر لبعض المنافقين – واجتهد فصلى عليه – فعاتبه الله على ذلك ، بل ربما يسترسل فى تخريجها فيرى أنه (صلعم) اجتهد فوق ذلك فى فهم القرآن وأن فهم غيره كان هو الصواب.

ولما كان هذا أمراً خطيراً، رأينا – من باب الاستطراد – أن نورد هنا كل ما اتصل بهذا الموضوع من القرآن والسنة ونعرضه فى صعيد واحد علّنا نصل منه إلى شئ تطمئن إليه النفس فنقول وبالله التوفيق:

قد يعكر على ما يفهم من دعائه (صلعم) وصلاته على المنافقين أمور:

1- منها أن البخارى ومسلم وأحمد وابن أبى شيبة والنسائى وابن جرير وابن المنذر والبيهقى فى الدلائل وآخرين، يروون عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه (صلعم) وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية، فقال (صلعم): أى عم!، قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبى أمية: يا أبا طالب! ترغب عن ملة عبد المطلب؟ فجعل (صلعم) يعرضها عليه، وأبو جهل وعبد الله يعاودانه بتلك المقالة، فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، فقال (صلعم): "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فنزلت الآية الكريمة: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ" (التوبة:113، 114).

 

وروى الطبرى – فى سبب نزول الآية – عن عمرو بن دينار قال: قال النبى (صلعم): "استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبى طالب حتى ينهانى عنه ربى"، فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر نبينا لعمه، فنزلت الآية: " مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ...".

فهذا الحديث الصحيح يدل أولا على أنه (صلعم) سبق أن أجتهد واستغفر لبعض الكفار، ونهاه الله، إذ موت أبى طالب كان بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين وموت عبد الله بن أُبىّ ابن سلول كان فى ذى القعدة سنة تسع.

 

2- ومنها أنه نزل عليه (صلعم) فى سورة الممتحنة – سنة ست – ما يوجب على المؤمن التبرؤ من عدو الله، فضلاً عن الاستغفار له، وضرب لهم مثلا أباهم إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه وأنه قدوتهم فى كل شئ إلا فى وعده أباه بالاستغفار، أى فلا تقتدوا به فى ذلك فقال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ..." إلى قوله: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ".

3- ومنها أنه نزل عليه (صلعم) فى سورة النساء – سنة ست - : "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" (النساء :48)، وقال: "إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا" (النساء:116).

4- ومنها أنه نزل عليه (صلعم) قبل ذلك فى عبد الله بن أُبى ابن سلول هذا ومن معه سورة "المنافقين"– وكان نزولها بعد غزوة بنى المصطلق التى كانت فى شعبان– سنة ست- وفى هذه السورة ما يفيد أن الله طبع على قلب ابن أُبى، وأنه لا يؤمن ولا ينفع له استغفار. قال تعالى: "إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ..." إلى أن قال:- "هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ". (المنافقون:1-8)

 

والبخارى فى سبب نزول هذه السورة يروى عدة أحاديث وزعها على سبعة أبواب، وكلها تدور حول موقف قبيح مخزٍ لعبد الله بن أُبى ابن سلول:

فمنها: عن زيد بن أرقم قال: كنت فى غزاة* فسمعت عبد الله بن أُبى يقول: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله"، "ولو رجعنا إلى المدينة ليخرجين الأعز منها الأذل"، فذكرت ذلك لعمى، فذكره للنبى (صلعم) فدعانى، فحدثته، فأرسل (صلعم) إلى عبد الله بن أُبى وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبنى رسول الله وصدقه، فأصابنى هم لم يصبنى مثله قط، فجلست فى البيت، فقال لى عمى: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله (صلعم) ومقتك، فأنزل الله عز وجل: "إذا جاءك المنافقون..." الآية، فبعث إلىّ النبى (صلعم) فقرأها فقال: "إن الله قد صدقك يا زيد". وفى رواية: فرجعت إلى المنزل فنمت مخافة أن يرانى الناس فيقولوا: كذبت.

 

ومنها: أنه نزل عليه (صلعم) من سورة التوبة فى أثناء رجوعه من غزوة "تبوك" ما فضح المنافقين سواء منهم من كان معه فى السفر أم من تخلف بالمدينة بأعذار كاذبة كعبد الله بن أُبى ومن على شاكلته كأصحاب مسجد الضرار الذى كان سيصلى فيه عقب رجوعه فنهاه الله وفضح من بناه منهم من رءوس النفاق.

فمما نزل فى عبد الله بن أُبى فى أثناء الطريق: "سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ" (التوبة:95،96).

قال البغوى: قال مقاتل: نزلت – هذه الآية – فى عبد الله ابن أُبى ابن سلول، حلف له (صلعم) بالله الذى لا إله إلا هو لا يتخلف عنه أبداً بعدها وطلب منه(صلعم) أن يرضى عنه.

من كل هذا يتبين:

أن النبى (صلعم) نهى عن الاستغفار للمشركين قبل الاستغفار لابن سلول بمدة اثنتى عشرة سنة. ولا يجوز أن يخالف (صلعم) نهى الله طول هذه المدة؛ بل ولا طرفة عين.

وأجاب الواحدى عن ذلك بأن استغفاره (صلعم) لأبى طالب وإن كان قبل  الهجرة لكن النهى عنه لم يرد إلا فى سنة تسع.

وعليه فلا يراد بقوله فى حديث أبى طالب "فنزلت: "مَا كَانَ لِلنَبِيٍّ..." أن النزول كان عقب الاستغفار؛ بل يراد أن ذلك سبب النزول. فـ "الفاء" فيه للسببية لا للتعقيب. قال الآلوسى: واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء – وهو توجيه جيد-.

وأنت ترى أن هذا الجواب صريح فى أنه (صلعم) مكث يستغفر لأبى طالب خطأً زهاء اثنتى عشرة سنة. فهل يجوز أن يتركه الله على خطئه كل هذه المدة؟.

وأجاب بعضهم: بأنه لا مانع أن يكون الرسول علم بالنهى عن الاستغفار للمشركين، ولكنه فهم أن ابن سلول ليس كافراً صريحاً، فاستغفر له اجتهاداً منه. ولما رد عليه: بأنه كيف يصلى عليه بعد نهيه عن الاستغفار له، وبعد ما جاء فى تذييل آية النهى عن الاستغفار "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"؟، أجاب بأن هذا التذييل بعد الحادث، لا متصلاً بالآية.

وأنت ترى ما فى هذا الجواب!!.

والإشكال الذى لم يوجد له جواب صحيح هو أن النبى (صلعم) سبق أن نُهى عن الاستغفار لعبد الله بن أُبى نفسه قبل موته بنحو عامين كما جاء فى سورة المنافقين – كما تقدم -. وأيضاً ما قاله الزمخشرى: من أنه كيف يخفى على أفصح الخلق وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته أن المراد بـ"السبعين" أن الاستغفار ولو كثر لا يجدى، لا سيما وقد جاء بعده قوله تعالى: " ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ..." الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم؟.

ولذا قال الحافظ ابن حجر: واستشكل فهم "التخيير" – " اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ" – من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن فى صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه: قال ابن المنير: مفهوم الآية زلت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضى أبو بكر الباقلانى صحة هذا الحديث، وقال لا يجوز أن يقبل هذا، ولا يصح أن الرسول قاله. وصيغة ما قاله فى كتاب "التقريب": وهذا الحديث من أخبار الآحاد التى لا يعلم ثبوتها. وقال الغزالى فى كتاب "المستصفى": الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح. وقال ابن المنير: ليس عند أهل البيان تردد فى أن التخصيص بالعدد فى هذا السياق غير مراد، فقصد المبالغة واضح؛ فلذا استشكلوا قوله (صلعم): "سأزيد عن السبعين" مع أن حكم ما زاد عليها حكمها. ولذا قال بعض العلماء: والحق أن هذا الحديث معارض للآيتين: لآية "براءة"، وآية "المنافقين".

فالذين يعنون بأصول الدين ودلائله القطعية أكثر من الروايات والدلائل الطنية لم يجدوا ما يجيبون به عن هذا التعارض إلا الحكم بعدم صحة هذا الحديث، ولو من جهة متنه. وقد تقدم كثير منهم كالقاضى أبى بكر الباقلانى والغزالى.

وأما الذيم يعنون "بالأسانيد" أكثر من عنايتهم بـ"المتون"، وبالفروع أكثر من الأصول فقد تكلفوا أجوبة لا يقبلها منصف.

ومن الأصول المتفق عليها: أنه ليس كل ما صح سنده صح متنه، وإنما يعول على صحة السند إذا لم يعارض المتن ما هو قطعى، وأن القرآن مقدم على الحديث عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما.         انتهى بحث الشيخ عبد الجليل عيسى.

(اجتهاد الرسول (صلعم) – الشيخ عبد الجليل عيسى أبو النصر – ص 63 حتى ص 70 – مكتبة الشروق الدولية – الطبعة الثانية – 2003م – رقم الإيداع بدار الكتب 3223/2003 – الترقيم الدولى 1-0921-09-977)

 

تعليقنا على الفقرة الأخيرة: معلوم عند أهل السنة أن الحديث الصحيح سنده صح فلا نعلم من أين أتى الشيخ عبد الجليل عيسى بهذه الأصول المتفق عليها فهذا الكلام يشكك فى كل كتب السنة، لأن الحديث الذى رُوى جاء فى أوثق كتب السنة كالبخارى ومسلم والإمام أحمد والترمذى والنسائى وغيرهم من طريق ابن عُمر ومن طريق ابن عباس، كما رأينا! كما جاءت أيضا فى كتب أسباب النزول. فإذا كانت كتب السنة وأسباب النزول مشكوك بها فكيف الحال فى كتب السيرة والمغازى والخصائص النبوية وغيرها؟.

والسؤال: بعد أن بينت السنة وأسباب النزول بوضوح أن الرسول قد صلى (لغرض ما*) على زعيم المنافقين عبد الله بن أُبى رغم وجود آيات نهى صريحة، ألا تكون (التوبة:84): " وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم..." والتى قيل أنها نزلت بعد هذا الحدث بزمن يسير مجرد تحصيل حاصل لا يصح عن العزيز الحكيم ؟؟. أو ما هى إلا تأكيد على وقوف عُمر على معانى القرآن ومدلولاته والتزامه به الأمر الذى لم يتوفر للنبى؟!..

 

وإضافة إلى ما قاله الشيخ عبد الجليل عيسى من معلومات عالية القيمة، نذكر القارئ العزيز بقصة حدثت قبل وفاة ابن أُبى بحوالى سبع سنوات، وهى قصة أسرى بدر والمذكورة أيضا فى كتابه القيم "اجتهاد الرسول (صلعم)".

ففى نفس المصدر جاء: "..سنرى هنا أيضا نفس هذا الحال مما يدل دلالة واضحة على أن الذى بدا من الرسول الكريم كان له خاصة كإنسان، ولم يصدر عنه كموحى إليه.

 

1- أخذه (صلعم) الفداء من أسرى بدر؛ إذ يروى ابن أبى شيبة والترمذى وحسنه، وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبرانى والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقى فى الدلائل عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر جئ بالأسارى فقال أبو بكر، يا رسول الله! قومك وأهلك، استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر ابن الخطاب: يا رسول الله! كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدمهم فاضرب أعناقهم. وقال عبد الله بن رواحة: انظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم ناراً، فقال العباس – وهو يسمع ما يقول – قطعت رحمك، فدخل النبى (صلعم) ولم يرد عليهم شيئاً، فقال أناس: يأخذ بقول أبى بكر، وقال أناس: يأخذ برأى عمر، فخرج رسول الله (صلعم) فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام، قال: " فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (إبراهيم: 36)، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: " إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ " (المائدة: 118)، ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام، إذ قال: " رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ" (يونس:88)، ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام، إذ قال: "وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا" (نوح:26)، ثم قال (صلعم): أنتم عالة (أى فقراء فى حاجة إلى مال الفداء) فلا ينفلتن أحد من الأسرى إلا بفداء أو ضرب عنق".

 

2- فأنزل الله تعالى: " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ..." إلى قوله:- " عَظِيمٌ" (الأنفال 67و68)

ويروى أحمد ومسلم من حديث ابن عباس عن عمر ابن الخطاب – فى نفس الموضوع – قال: لما أسر الأسارى – يعنى يوم بدر – قال (صلعم) لأبى بكر وعمر: "ما ترون فى هؤلاء الأسارى؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة أرى أن نأخذ منهم فدية، فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام، فقال رسول الله (صلعم): ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: لا والله لا أرى الذى رأى أبو بكر ولكنى أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله (صلعم) ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت. فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله (صلعم) وأبو بكر قاعدان يبكيان، قلت: يا رسول الله! أخبرنى من أى شئ تبكى أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال (صلعم) "أبكى للذى عرض لأصحابى من أخذهم الفداء، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة – لشجرة قريبة منه (صلعم) -، فأنزل الله عز وجل: " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ..." إلى آخر الآيتين" وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر – فيه أيضاً – قال: اختلف الناس فى أسارى بدر، فاستشار (صلعم) كبار أصحابه، فأخذ (صلعم) بقول أبى بكر، ففاداهم. فأنزل الله تعالى: "لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (الأنفال:68) ، فقال (صلعم): "إن كاد ليمسنا فى خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر". وأخرج ابن جريرعن أبى زيد قال: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نُصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله: ما لنا وللغنائم؟ نحن قوم نجاهد فى دين الله حتى يعبد الله فقال (صلعم) "لو عُذبنا فى هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك".

(اجتهاد الرسول – ص 71: 73 – المصدر السابق)

 

ويقول الكمال بن الهمام : جاء فى الحديث الصحيح.. "أنه بعد أن مال (صلعم) إلى رأى أبى بكر وأخذ الفداء، وخالف بذلك رأى عمر القائل بالقتل، ونزلت الآية الكريمة السابقة: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى..." (الأنفال: 67) بكى النبى (صلعم) وبكى معه أبو بكر، قال عمر : فسألت رسول الله (صلعم) عن سبب بكائه فقال: أبكى للذى عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، ولقد عُرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة، وقال: لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر". ويستنتج منه: أنه يدل على أن أخذ الفداء كان باجتهاد، وكان خطأً ويعلل ذلك بقوله: لأن العذاب لا يكون لترك الأولى، ثم يستطرد فيقول: فإن قلت: كيف هذا وقد تقرر أن المخطئ فى الاجتهاد له أجر واحد؟، قلت: الأجر على تقدير أن لا يكون خلاف ما أدى إليه الاجتهاد ظاهراً. فأما إذا كان ظاهراً، فلا . بل يستحق المجتهد العذاب. ألا ترى أن المبتدعة قد كانوا مجتهدين. فحيث كان خلاف رأيهم ظاهراً استحقوا العذاب.

قال النبى (صلعم): "كلهم فى النار إلا واحدة". فإن قلت إذا كانت الحكمة فى عدم تعذيب المخطئ أنه بذل وسعه فى طلب الصواب فلا بفترق الحال فى كون المجتهد فيه عملياً أو أعتقادياً، فلم حكمتم بعدم نجاة المبتدعة وهم مجتهدون فى العقيدة؟

قلت: فى الاعتقاد لم يكن المحل صالحاً للاجتهاد، لوجود النص المفيد للقطع، والشارع قد منع الخوض فى ذلك.

ثم قال: وقد ثبت اجتهاد النبى (صلعم) فى الشرعيات، فقال: "لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى، فعلم أنه لم يسق بوحى، وإلا لم يقل ذلك. وأيضاً لو كان سائقاً بالوحى لكان علمه بالمصلحة كعدم علمه بها(أى فلا يصح منه (صلعم) الندم على سوق الهدى) – وسوق الهدى مندوب – فقد اجتهد فى حكم شرعى.

ثم قال: إلا النبى (صلعم) إذا اجتهد وأخطأ لا يقر على الخطأ.

ثم قال: ولا يبعد أن يقال: إن فى جواز الخطأ فى اجتهاد النبى (صلعم) إشارة إلى أن فكر البشر وإن كان فى أعلى الدرجات يحتمل الخطأ، بخلاف الوحى.

ثم قال: وقول من أنكر وقوع الخطأ فى اجتهاده (صلعم)، وتأول مثل آية: "عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ". وآية: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى..." (الأنفال: 67) إلخ، على خلاف ظاهرهما على وجه يخل بكمال بلاغة القرآن من غير ضرورة ملجئة إليه، قول لا ينبغى أن يقدم عليه أهل العلم مبالغة منهم فى علو شأن الأنبياء. لأن خطأهم فى الاجتهاد لا يخِل بعلو شأنهم.

 

ثم قال: وكان الخطأ فى مسألة الأسرى أنه (صلعم) ومن معه نظروا إلى أن استبقاءهم سبب لإسلامهم، وفداءهم يتقوى به على الجهاد. وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأرهب لمن وراءهم، وأفل لشوكتهم. ولا يصح أن يكون هذا التشديد من الله لمخالفته الأولى، كما قال الكرمانى. لأن مثل هذا الوعيد لا يلائم ترك الأولى.

ثم قال: واتفقوا على أنه (صلعم) لا يقر على الخطأ. أنتهى كلام الشيخ عبد الجليل عيسى.

(المصدر السابق – ص 31: ص 33)

 

فالرسول هنا كاد أن يمسه وأصحابه فى مخالفة عمر بن الخطاب عذاب عظيم ولو نزل عذاب من السماء ما نجا منه أو أفلت منه إلا عمر!

هذا رغم أن الرسول لم يكن عنده فى ذلك الوقت نص قرآنى فى الأسرى.

 

وفى قصة الصلاة على أبن أُبى المنافق، الكافر بحسب رأى عمر عاد الرسول وخالف عمر، بل خالف نصوص صريحة (لم تكن موجودة فى أسرى بدر).

 

والسؤال: إذا كان الرسول لم يخشَ هنا من نزول عذاب عظيم فى مخالفة عمر مرة أخرى، ألا يخشى من نزول عذاب فى مخالفة صريح النصوص؟؟

..انتهى..

------------------------------


 

*  كان من كبار المنافقين الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، وكانت وفاته سنة 9هـ.

** الذى يظهر من سياق القصة أن عمر رضى الله عنه فهم النهى من قوله تعالى: "فلن يغفر الله لهم" أو منها ومن التسوية بين الاستغفار وعدمه. قال الكرمانى: لأن الشئ الذى يستوى حصوله وعدمه يكون طلبه عبثاً، والعبث محظور على العقلاء فضلاً على الأنبياء..

* هى غزوة بنى المصطلق، وكانت فى شعبان سنة ست.

* قد يكون هذا الغرض ما جاء فى أسباب النزول للواحدى حيث قال: قال المفسرون: وكُلم رسول الله (صلعم) فيما فُعل بعبد الله بن أُبى، فقال: "وما يغنى عنه قميصى وصلاتى من الله والله أنى كنت أرجو أن يُسْلِم به ألف من قومه".   

(أسباب نزول (التوبة:80) للواحدى – السبب رقم 538 – ص 211 – دار الحديث للنشر – الطبعة الرابعة – 1998م – رقم الإيداع 5095/98)

الصفحة الرئيسية