مستعدين دائما لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعة "

" أسئلة عن المسيح "

(5)

ما الفرق بين المسيح والأنبياء ومن هو الأعظم ؟

القس عبد المسيح بسيط أبوالخير

كاهن كنيسة العذراء بمسطرد

- 7 -

ما الفرق بين المسيح والأنبياء ؟

ومن هو الأعظم ؟

قبل الإجابة علي هذا السؤال علينا أنْ نسأل الأسئلة التالية:

1 ـ من هو المسيح ؟ هل هو إنسان أم أعظم من مُجَرَّد إنسان؟

2 ـ هل هو نبيّ، أم هو أعظم من مُجَرَّد نبيّ؟

3 - وهل تميَّز عن الأنبياء؟ وهل ميَّز هو نفسه عنهم؟

4 ـ وما هو الفرق بينه وبين سائر الأنبياء؟

5 ـ ماذا كانت نظرة رجال الدين والفلاسفة والمؤرِّخين والنُقَّاد له؟

 

1 - ما هي نظرة الفلاسفة والمؤرخين والنقاد للمسيح ؟

كتب الكثيرون من الكتَّاب الغربيِّين من نُقَّاد وفلاسفة ومؤرِّخين وعلماء اجتماع وغيرهم من غير المتبحِّرِين في العلوم اللاهوتيَّة

- 8 -

بعض الكتابات التي احتوت علي آراء خاصَّة بهم من جهة شخص الربّ يسوع المسيح والتي نظروا فيها للمسيح كأسمي وأعظم شخصيَّة وُجِدَت علي الإطلاق. كما تكلَّم بعض هؤلاء عن المسيح كالأقل تأثيرًا ونفوذًا من الناحية الدنيويَّة الماديَّة والسياسيَّة والحربيَّة لأنَّه لم يكن قائدًا سياسيًا ولا عسكريًا مع عدم نفيهم لسِمُوِّه وعظمته الروحيَّة كأعظم شخصيَّة ذات تأثير روحيّ علي الإطلاق. وقد تُرْجِمَت بعض هذه الكتب التي من النوع الأخير إلي العربيَّة وهلَّل لها البعض لأنَّها وضعت غير المسيح كالأكثر تأثيرًا من الناحية الماديَّة الدنيويًّة، خاصَّةً السياسيَّة والحربيَّة، بالرغمِ من عدم نفيها لعظمة وسِمُوّ المسيح كالأعظم والأسمي أخلاقيًا وروحيًا!! ومن هذه الكتابات؛ كتاب " أعظم مائة شخصيَّة مؤثِّرة في التاريخ " الذي كتبه الأمريكيّ، غير المتخصِّص في اللاهوتيَّات ، مايكل هارت، والذي كتب قائمة تضمّ مائة شخصيَّة كان لها، من وجهة نظره، تأثيرها الدنيويّ والماديّ في التاريخ، بصرف النظر عن قيمتها الروحيَّة والأخلاقيَّة، سواء كانت شخصيَّات صالحة أو شرّيرة، المهم هو تأثيرها علي أكبر عدد ممكن من الناس. وقد وضع فيها الربّ يسوع المسيح رقم ثلاثة في الترتيب.

وبالرغم من أنَّ هذا الكتاب لم يلتفت إليه أحدٌ سواء في أمريكا أو في

- 9 -

الغرب ولم يهتمْ به أحد، فقد هلَّل له البعض هنا وتُرْجِمَت أجزاء منه إلي العربيَّة أكثر من مرَّة بل واستخرج منه أحد الكتاب كتاباً آخر !! نقَّحه علي هواه. ولكن إنصافاً للحقيقة نقول أنَّ مايكل هارت نفسه يُؤَكِّد علي عكس ما يراه هؤلاء:

(1) فهو يُؤكِّد علي أنَّه لا يقدِّم لائحة بمن هو الأعظم والأسمي روحياً وأخلاقياً، بل من هو الأكثر نفوذاً مهما كانت أفعاله، سواء كانت صالحة أم شرِّيرة !! فيقول في المقدمة " يجب أنْ أؤكِّد بقوَّةٍ أنَّ هذه اللائحة هي قائمة الشخصيَّات الأكثر نفوذًا في التاريخ ، وليست لائحة أكثرهم عظمة 000 مثلاً يجد المرء مكانًا في لائحتي لرجلٍ كبيرِ النفوذ عديم الاستقامة والإحساس نظير ستالين ولكنك لا تجد مكانًا للقدِّيسة الأم كابريني. إنَّ هذا الكتاب يدور فقط حول السؤال: ما هي المائة شخصيَّة التي كان لها أكبر الأثر علي التاريخ وسير العالم ؟ 000 إن هذه اللائحة من الشخصيَّات الفذَّة – سواء كانت نبيلة أو طالحة يلحقها اللوم ، أكانت شهيرة أم غير معروفة ، برَّاقة أم متواضعة تبقي لا محالة مشوّقة " !!

وهنا يُؤكِّد هارت أنَّ ترتيبه لا يعتني لا بالعظمة ولا بسموّ الأخلاق! بل يعتني فقط بالتأثير علي أكبر عدد ممكن من الناس في أزمنة

- 10 -

وأماكن مختلفة سواء كان تأثيرها سلبيًا أو إيجابيًا، خيراً أم شراً !!

(2) ويُؤكِّد هارت علي أنَّ وضعه للربِّ يسوع المسيح كرقم ثلاثة في قائمته لا يعني أنَّ الأوَّل أو الثاني أعظم منه روحيًا أو أخلاقيًا، بل يقول " لا الصيت ولا الموهبة (العبقريَّة) ولا سموّ الأخلاق ترادف النفوذ. وهكذا لم يوضع في هذه القائمة أي من بنيامين فرانكلين ومارتن لوثر كنج وبيب روث وحتى ليوناردو دافنشي 000 ومن جهة أخري ، لا يكون النفوذ دائمًا إيجابيًا أو بنيَّة سليمة أنَّ عبقريًا شريرًا مثل هتلر وارد في هذه اللائحة " !! ولذا فقد قال صراحة في أنَّه لم يفكر أنَّ الأوَّل " كان رجلاً أعظم من يسوع ". ولم يقل أحد أنَّه وُجِدَ علي الأرض مَنْ هو أعظم مِنْ الربِّ يسوع المسيح .

وما جعل هذا الرجل، مايكل هارت، لا يضع الربَّ يسوع كالأوَّل في هذه القائمة باعتباره الأسمي والأعظم روحيًا وأخلاقيًا هو عدم فهمه لحقيقة المسيحيَّة بالرغم من أنَّه مسيحيّ كاثوليكيّ ! فهو ليس من رجال الدين ولا من علماء اللاهوت ولا أعتقد أنَّه تمكَّن من قراءة المسيحيَّة أو غيرها قراءة تجعل لأرائه قيمة في هذا المجال، فهو متخصِّص في علوم الرياضيَّات والفُلك والشطرنج ومحامٍ ولكن ليست لديه دراية تُذكر لا بالكتاب المقدَّس ولا بالكتب الدينيَّة الأخري سواء

- 11 -

كانت مسيحيَّة أو غير مسيحيَّة. ومن هنا جاء عدم فهمه لحقيقةِ المسيحيَّة إذ تصوَّر أنَّ عدم قيام المسيح بدورٍ سياسيّ أو عسكريّ أو كتابته لكتابٍ يُقَلِّل من دوره في تأسيس المسيحيَّة ونسب الفضل الأكبر في تأسيس المسيحيَّة للقدِّيس بولس!! دون أنْ يدري أنَّ كلّ ما كُتِبَ في العهد الجديد هو عن شخص المسيح وحقيقة ربوبيَّته للكون وفدائه الأبديّ الذي قدَّمه للبشريَّة، كقول الكتاب المقدس " وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ ." ( يو20/30-31 ). ما أنَّ المسيح لم يأتِ ليكون له نفوذ ماديّ بل كان هو ربّ الكلّ ومملكته سمائيَّة روحيَّة فهو ملك الملوك وربّ الأرباب كقوله " مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. " ( يو18/36 ). وأنَّ بولس الرسول لم يكنْ إلاَّ رسولاً للمسيح يعمل ما يُوَجِّهه به ويُرشده الربُّ يسوع المسيح " بُولُسُ، رَسُولٌ لاَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ بِإِنْسَانٍ، بَلْ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ " ( غل1/1 ) .

ولذا فنحن نرفضُ أمثال هذه الكتابات التي لم تفهم طبيعة شخص المسيح ولا طبيعة رسالته الروحيَّة والأخلاقيَّة والفدائيَّة السامية وتضعه في قائمة واحدة مع شخصيَّات شرِّيرة ودمويَّة من أمثال ستالين الدمويّ

- 12 -

الرهيب الذي غدر بكلِّ أصحابه قبل أعدائه وهتلر النازيّ الذي دمَّر بلاده وكان السبب في قتل ملايين الناس وجنكيز خان الدمويّ الذي كان يقتل بلا شفقة أو رحمة!! فما يقوله هذا الكاتب يُخالف تمامًا كلّ ما كُتب عن المسيح سواء من المؤمنين بلاهوته أو غير المؤمنين به. بل ويُخالف ما رآه الفلاسفة العقلانيُّون والماديُّون وغير المؤمنين بالوحي أو وجود اللَّه والنُقاد في شخص المسيح والذين نظروا إليه نظرات خاصَّة تراوحت بين قولهم أنَّه الكائن أو الإنسان السوبر الذي لم يُوجد له مثيل عبر التاريخ، سواء في أسلوبه وأخلاقه أو في تعاليمه التي فاقت ما يُمكن أنْ يُنادِي أو يُعلِّم به بشر !! وبين قولهم أنَّ شخصيَّة بهذا الكيان والأسلوب لا يُمكن أنْ تكون قد وُجدت في التاريخ وإنما هو أسطورة من الأساطير !! (1)

وفيما يلي بعض ما قيل عن المسيح من شخصيَّات وُصف بعضها بأنَّها عظيمة، وشخصيَّات أخري لها مكانتها في مجالات الأدب والفلسفة والحضارة والتاريخ :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يقول Bruce M. Metzger المتخصص في النقد النصي للكتاب المقدس "لا يوجد اليوم عالم مقتدر ينكر تاريخية يسوع المسيح" .

- 13 -

•  قول نابليون بونابرت إمبراطور فرنسا بعد تقاعده " أنت تتحدث عن قيصر والاسكندر وغزواتهم وعن الحماس الذي أشعلوه في قلوب جنودهم، ولكن هل يمكن أنْ تفهم أنَّ رجل ميت يقوم بغزوات بجيش أمين ومُكرَّس كليَّةً لذكراه؟ لقد نسيتني جيوشي حتي وأنا علي قيد الحياة مثلما نسي الجيش القرطجني هانيبال، هذه هي قوتنا " .

" أنا أعرف البشر وأقول لكم، أنَّ يسوع المسيح ليس مُجَرَّد إنسان، فلا يُوجَد بينه وبين أيّ شخصٍ بشريّ آخر في العالم لفظ term مناسب للمقارنة. فقد أسَّسنا، أنا والإسكندر وقيصر وشارلمان، إمبراطوريَّات، ولكن علي أيّ أساس اِستقرَّ ما خلقته عبقريَّتنا؟ علي القوَّة. ولكن يسوع المسيح أسَّس إمبراطوريَّته علي الحبِّ؛ وحتي هذه الساعة يموت الملايين لأجل اسمه ".

" لقد بحثت في التاريخ لأجد مثيل ليسوع المسيح أو أيّ شيء يمكن أنْ يقترب من يسوع المسيح أو الإنجيل دون جدوي، فلا التاريخ ولا الإنسانيَّة ولا الدهور ولا الطبيعة قدَّمت لي أيّ شيء يمكن أنْ أقارنه أو أشرحه. هنا (في المسيح) كلّ شيء غير عاديّ " .

•  وقال ول ديورانت المؤرِّخ والفيلسوف المعاصر كاتب كتاب فلسفة الحضارة وسلسلة تاريخ الحضارة عندما سئُل:

- 14 -

" ماذا كانت قمَّة التاريخ؟ " فأجاب " السنوات الثلاث التي مشي فيها يسوع الناصري على الأرض ".

•  وقال كارنيجي سيمبسون " يسوع ليس واحدًا من جماعات العالم العظيمة. تحدَّث عن الإسكندر العظيم وتشارلز العظيم ونابليون العظيم إذا أردت 000 ولكن يسوع ليس من هؤلاء - فهو ليس العظيم بل هو وحده الأعظم ".

•  وقال الكاتب البريطاني هـ . جـ . ويلز (1866 - 1946م) " في حكم طيباريوس قيصر نهض من اليهوديَّة مُعَلِّم عظيم ليُحَرِّر الإدراك الجامد للبرِّ ووحدانيَّة اللَّه غير المتغيِّرة واحتياج الإنسان الأخلاقيّ للَّه 000 وكان هذا يسوع الناصريّ 000 ولا عجب فإنَّ هذا الجليليّ حتي هذا اليوم أكبر بكثير من قلوبنا الصغيرة " .

وقال أيضًا عندما سُئل " من هو الشخص الذي ترك أعظم انطباع دائم علي التاريخ ؟ " : " ذلك يحكم علي عظمة الشخص بالمقياس التاريخيّ ": " وبهذا المقياس ، يقف يسوع الأوَّل ". ثم يقول " أنا مؤرِّخ، ولست مؤمنًا، ولكن يجب أنْ أعترف كمؤرِّخٍ أنَّ هذا المُعلم الذي من الناصرة والذي لا يملك شيء penniless هو مركز التاريخ الذي لا ينسخ . يسوع المسيح هو الشخص الأعظم سيادة في كل التاريخ ".

- 15 -

" كان يسوع المسيح هو الشخص الأعظم تفرّدًا في التاريخ ولا يمكن لإنسان أنْ يكتب تاريخ السلالة البشريَّة دون أنْ يُعطي المكانة العظمي للمُعلِّم الناصريّ الذي لم يكنْ يملك شيئًا " .

•  وقال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو " إنَّ يسوع المسيح بطل الإنجيل هو فوق البشر . وإذا كانت حياة وموت سقراط هي حياة وموت فيلسوف حكيم، فحياة يسوع المسيح وموته هي حياة إله وموته " !!

•  وقال المؤرِّخ والعالم اللغويّ الفرنسيّ رينان، أحد زعماء المدرسة النقديَّة، عن المسيح " كان يسوع أعظم عبقريَّة دينيَّة عاش أبدًا. فجماله أبديّ ، وحكمه لن ينتهي أبدًا . يسوع فريد في كلِّ شيء ولا يمكن أنْ يُقارن به شيء " .

" كل التاريخ لا يمكن أنْ يُقارن بدون يسوع " !!

" مهما كانت مفاجآت المستقبل فلن يتفوَّق أحدٌ علي يسوع " .

" حقا بدا يسوع هنا ابن اللَّه، لأنَّه نطق لأوَّلِ مرَّة بالكلمةِ التي يرسخ عليها أساس الدين الخالد. لقد وطَّد أساس العبادة النقيَّة التي

- 16 -

تتسامي فوق الأزمان والأوطان، والتي سوف تتمرَّس بها النفوس الرفيعة إلي منتهي الدهرِ. وقد أصبح دينه منذ ذلك الوقت ـ لا دين البشريَّة فحسب بل الدين علي الإطلاق . وإنْ يكن ثمة كواكب آهلة بأناسٍ ذوي عقول وأخلاق بخلاف الأرض، فلا سبيل لهم أنْ يدينوا بدين يفوق سموًا ذاك الدين الذي أعلنه يسوع المسيح علي بئر يعقوب 000 إنَّ الدين الحقيقيّ يبقي أبدًا من صنع يسوع المسيح وليس للبشر فيما بعد إلاَّ أنْ يشرحوا ما فاه به من مبادئ وتعاليم " .

" سوف يبقي يسوع المسيح مبعث يقظة أخلاقيَّة للبشرِ لا يخبو نورها لأنَّ الفلسفة وحدها لا تكفي البشر، فإنَّهم بحاجة إلي القداسة ".

" ألاَّ إجلس الآن هانئًا في مجدك يا دليلنا الساميّ إلي اللَّه. أمَّا الآن وقد تحرَّرت من قيود الضعف ستشهد من أعلي مقرَّك الإلهيّ نتائج أعمالك اللامتناهية. أنَّ العالم سيبقي مدينًا لك إلي آلاف السنين 000 سوف تبقي حيًا محبوبًا بعد موتك أكثر مما كنت في حياتك علي الأرض. سوف تبقي حجر الزاوية من البشر بحيث يستحيل محو اسمك من العالم دون أنْ يُنزع الكون وينهار. فيا قاهر الموت ألاَّ استلم زمام ملكوتك، حيث سلك منذ الآن علي الطريق الملوكيّ الذي شققته، آلاف من عبادك " !!

- 17 -

2 ـ فمن هو المسيح إذًا ، وما الفرق بينه وبين الأنبياء ؟

هذا السؤال نوجِّهه للربِّ يسوع المسيح شخصيًا ليُجيبنا هو عليه!! وقد أجاب الربُّ يسوع المسيح عليه بسؤالٍ وجَّهَه لرؤساءِ اليهود، يقول الكتاب:" مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟» قَالُوا لَهُ: «ابْنُ دَاوُدَ». قَالَ لَهُمْ: «فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً قَائِلاً: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبّاً فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ لَمْ يَجْسُرْ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ بَتَّةً ." ( مت22/42ـ46 ). فالربِّ يسوع المسيح نفسه يُؤكِّد أنَّه ربّ داود ! ولأنَّه ربّ داود فهو، كما يُعلن هو بنَفْسِهِ، أعظم من جميع الأنبياء، بل وأعظم من كلِّ ما في الكون من كائنات.

فهو ربُّ داود كما أوضح هو نفسه، وربُّ داود هو إله داود كما يقول الكتاب " إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ " ( تث6/4 ). والكتاب يُؤكِّد لنا أنَّ الربّ يسوع هو هذا الإله الواحد " وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ وَنَحْنُ بِهِ " ( 1كو 8/6 ). إنَّه ربّ داود وربّ جميع الأنبياء والبشر " ر َبُّ اَلْكُلِّ " ( أع10/36 ) .

- 18 -

إذا كان هو ربُّ الكلِّ فكيف أعطاه الكتاب لقب نبيّ، كما قيل عنه " فَقَالَتِ الْجُمُوعُ: «هَذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ». " ( مت21/11 ).

والإجابة هي أنَّه هو ربُّ الكلِّ ولكنَّه عندما تجسَّد وصار بشرًا مارس مهمَّة النبيّ، لذا لم يكنْ مُجَرَّد نبيّ كسائرِ الأنبياء، إنما هو أعظم من جميع الأنبياء، فهو ربُّ الكلِّ، كما أكَّدَ هو نفسه، أنَّه أعظم من جميع الأنبياء:

(1) أعظم من إبراهيم أبو الآباء والأنبياء : فعندما سأله اليهود قائلين " أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي مَاتَ؟ " فقال لهم " أَبُوكُمْ إِبْرَاهِيمُ تَهَلَّلَ بِأَنْ يَرَى يَوْمِي فَرَأَى وَفَرِحَ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: «لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ».فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا " ( يو8/53ـ59 ) .

وهنا أثار قوله " قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ " غضب اليهود وجعلهم يحنقون عليه ويقرروا موته رجماً بالحجارة " فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ " .

- 19 -

لماذا ؟ لأنَّهم فهموا من عبارته " قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ " ، وتعبير " أَنَا كَائِنٌ " هو التعبير الذي عبَّر به اللَّه عن نفسه وعن اسمه لموسى النبي ( خر3/14 )، إنَّه كان موجودًا قبل أنْ يُوجد إبراهيم الذي وُجد قبل التجسُّد بحوالي 2000 سنة، أيّ أنَّه يُؤكِّد علي وجوده السابق قبل إبراهيم وهذا يعني أنَّه كان كائنًا في السماء وأنَّه هو الربُّ الذي كلَّم موسى النبيّ (2) .

(2) أعظم من يعقوب : قالت له المرأة السامريَّة " أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضاً. وَلَكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ». " ( يو4/12-14 ). فقد حفر أبونا يعقوب بئرًا ليشرب منها هو وبنوه، وهذا عمل يمكن أنْ يقوم به أيّ بشر، أمَّا الماء الحيّ المؤدِّي للحياةِ الأبديَّة والذي يُعطيه الربُّ يسوع المسيح لا يقدر عليه أحدُ سواه، فهو الحيّ ومُعْطِي الحياة، لذا يقول عن نفسه " إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ. " ( يو14/19 )، فهو الحياة ومعطي الحياة " فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ " ( يو1/4 ) ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(2) أنظر كتابنا " هل قال المسيح أني أنا ربكم فاعبدوني " .

- 20 -

الحياة، أي الوجود، والحياة الأبديَّة، كما قال له القدِّيس بطرس بالروح " يَا رَبُّ إِلَى مَنْ نَذْهَبُ؟ كلاَمُ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ عِنْدَكَ " ( يو6/68 )، وكما قال هو عن نفسه " أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ " ( يو 8/12 ).

(3) سيد ورب موسي: يقول الكتاب في الرسالة إلي العبرانيّين في المقارنة بين المسيح وموسي " مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاءُ الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ، حَالَ كَوْنِهِ أَمِيناً لِلَّذِي أَقَامَهُ، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضاً فِي كُلِّ بَيْتِهِ. فَإِنَّ هَذَا قَدْ حُسِبَ أَهْلاً لِمَجْدٍ أَكْثَرَ مِنْ مُوسَى، بِمِقْدَارِ مَا لِبَانِي الْبَيْتِ مِنْ كَرَامَةٍ أَكْثَرَ مِنَ الْبَيْتِ. لأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ يَبْنِيهِ إِنْسَانٌ مَا، وَلَكِنَّ بَانِيَ الْكُلِّ هُوَ اللهُ. وَمُوسَى كَانَ أَمِيناً فِي كُلِّ بَيْتِهِ كَخَادِمٍ، شَهَادَةً لِلْعَتِيدِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ. وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَكَابْنٍ عَلَى بَيْتِهِ. وَبَيْتُهُ نَحْنُ إِنْ تَمَسَّكْنَا بِثِقَةِ الرَّجَاءِ وَافْتِخَارِهِ ثَابِتَةً إِلَى النِّهَايَةِ. " ( عب3/1ـ6 ). إذًا فالفرقِ بين المسيح وموسي النبيّ هو الفرق بين ابن صاحب البيت ووارثه، الذي هو المسيح ابن اللَّه، والخادم الذي يقوم بخدمة صاحب البيت وابنه، والخادم هنا هو موسي النبيّ، وبيت اللَّه هو نحن . ومن ثمَّ فالمسيح أعظم من موسي كقوله " اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ وَلاَ رَسُولٌ أَعْظَمَ مِنْ مُرْسِلِهِ . " ( يو13/16 ).

- 21 -

(4) الأعظم من الهيكل ومن جميع البشر: كما وصف الربُّ يسوع المسيح نفسه بأنَّه أعظم من الكلِّ، أعظم من سليمان، إذ قال عن نفسه " هُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هَهُنَا . " ( لو11/31 )، وأعظم من يونان " وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هَهُنَا! " ( لو11/32 )، أعظم من الهيكل " وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَهُنَا أَعْظَمَ مِنَ الْهَيْكَلِ! " ( مت12/6 ).

وبالرغم من أنَّه، الربّ يسوع المسيح، وصف يوحنا المعمدان كـ " لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ" (مت11/11)، فقد قال يوحنا عنه " أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ وَلَكِنْ فِي وَسَطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي الَّذِي صَارَ قُدَّامِي الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقٍّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ» 000 وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَالَ: « هُوَذَا حَمَلُ اللَّهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ. هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ يَأْتِي بَعْدِي رَجُلٌ صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي 000 وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هَذَا هُوَ ابْنُ اللَّهِ ». " ( يو 1/26ـ34 ) .

ويقدِّم لنا القدِّيس بولس بالروح شخص الربّ يسوع المسيح في مقارنة رائعة بينه وبين جميع الكائنات والمخلوقات في السماء وعلي الأرض فيقول بالروح " اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ - الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ

- 22 -

أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي ، " ( عب1/1-4 ) .

وهنا يُؤكِّد لنا أنَّ المسيح يتميَّز عن الأنبياء بسبع مميزات هي :

•  المسيح هو ابن اللَّه الوحيد " اِبْنِهِ " الذي من ذاته.

•  ولأنَّه الابن الوحيد فهو الوارث لكلِّ شيء في الكون " الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ " .

•  وهو الخالق ؛ خالق الكون " الْعَالَمِينَ ". ومن ثمَّ فهو الوارث لكلِّ شيءٍ لأنَّه خالق كلِّ شيءٍ .

•  وهو بهاء مجد اللَّه، شعاع مجد اللَّه، مثل شعاع الشمس الصادر عن الشمس دون أنْ ينفصل عنها، فهو نورٌ من نورٍ .

•  كما أنَّه رسم جوهر اللَّه، صورة جوهر اللَّه، صورة اللَّه الغير منظور ، الكائن في صورة اللَّه، الصورة المعبِّرة لذات اللَّه، الصورة التي تعبِّر عن صاحبها، صورة اللَّه الذي هو اللَّه ظاهرًا.

•  حامل كلُّ الأشياء في الكون، مُدَبِّر الكون ومديره ومُحَرِّكه وضابط نواميسه. فهو خالقه ومُدَبِّرَه .

- 23 -

•  الجالس في يمين العظمة في الأعالي، أي الجالس علي العرش الإلهيّ، كالإله المتجسِّد بعد أنْ قدَّم بدمه كإنسان الفداء لكلِّ البشريَّة.

5 – الأعظم من الملائكة : وبالإضافة إلي تميُّز المسيح عن جميع المخلوقات، سواء الملائكة والبشر، بالمميزات المذكورة أعلاه، يضع الكتاب المقارنة التالية بين المسيح والملائكة، فيقول : " صَائِراً أَعْظَمَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْماً أَفْضَلَ مِنْهُمْ. لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: «أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ»؟ وَأَيْضاً: « أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً »؟ وَأَيْضاً مَتَى أَدْخَلَ الْبِكْرَ إِلَى الْعَالَمِ يَقُولُ: « وَلْتَسْجُدْ لَهُ كُلُّ مَلاَئِكَةِ اللهِ ». وَعَنِ الْمَلاَئِكَةِ يَقُولُ: «الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحاً وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ». وَأَمَّا عَنْ الاِبْنِ: « كُرْسِيُّكَ يَا أَللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِزَيْتِ الاِبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ شُرَكَائِكَ». وَ«أَنْتَ يَا رَبُّ فِي الْبَدْءِ أَسَّسْتَ الأَرْضَ، وَالسَّمَاوَاتُ هِيَ عَمَلُ يَدَيْكَ. هِيَ تَبِيدُ وَلَكِنْ أَنْتَ تَبْقَى، وَكُلُّهَا كَثَوْبٍ تَبْلَى، وَكَرِدَاءٍ تَطْوِيهَا فَتَتَغَيَّرُ. وَلَكِنْ أَنْتَ أَنْتَ، وَسِنُوكَ لَنْ تَفْنَى». ثُمَّ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: «اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟» أَلَيْسَ جَمِيعُهُمْ أَرْوَاحاً خَادِمَةً مُرْسَلَةً لِلْخِدْمَةِ لأَجْلِ الْعَتِيدِينَ أَنْ يَرِثُوا الْخَلاَصَ! " ( عب1/4-14 ).

- 24 -

•  إنَّه، المسيح، ورث اسمًا أفضل منهم، من الملائكة، وهذا الاسم هو " اَلاِبْنُ " ابن اللَّه، ابن اللَّه الوحيد، الذي لم يتسمّ به أحد مطلقًا، سواء في السماء وعلي الأرض، فقد دُعي الملائكة وبعض البشر بأبناء اللَّه، ولكن لم يدع أحدهم مطلقًا بابن اللَّه، كما أن المسيح هو " اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ " ( يو1/18 ) ومن ذات الآب، صورة اللَّه الآب وبهاء مجده ورسم جوهره.

•  ثم يُؤكِّد تفرُّد المسيح، الابن، ابن اللَّه الوحيد، الفريد في جنسه، بقوله " لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: «أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ»؟ " .

•  وأيضًا " أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً " .

•  وهو البكر الذي تسجد له جميع ملائكة اللَّه، والبكر هنا بمعني البكر من الأموات. والكتاب هنا يكشف لنا عن لقبَين للمسيح أُعْلِنَا بعد التجسُّد، لقب الابن الذي لم يُعْلَنْ عنه إلاَّ بعد التجسُّد، ولقب البكر الذي أُعطي له بالقيامة من الأموات، باعتباره باكورة القيامة من الأموات. ويقول الكتاب أيضًا " الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ.

- 25 -

لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضاً، وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. " ( في2/6-11 ).

فالمسيح بالتجسُّد " افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ " ( 2كو 8/9 )، وضع نفسه " قَلِيلاً عَنِ الْمَلاَئِكَةِ" ( عب2/9 )، ولكنه اِرتفع مرَّة أخري وعاد لمجده السابق بالقيامة من الأموات.

•  لذا فالفرق بينه وبين الملائكة هو الفرق بين الجالس علي عرش العظمة في السموات، بين الخالق والخليقة .

•  هو الخالق الحيّ إلي الأبد الباقي الذي لا يُفني ولا نهاية له.

•  هو الجالس عن يمين العظمة في الأعالي، وهم، الملائكة، خدام اللَّه وخدام الوارثين للخلاص.

هذا بعض مما قاله الكتاب المقدَّس عن المسيح وما قاله هو عن نفسه، فما الفرق بينه وبين الأنبياء في الواقع؟ وما الذي تميَّز به عنهم ويكشف لنا عن عظمته وأنَّه الأعظم؟.

- 26 -

1 ـ تميَّز في الحبل به من أمٍ عذراءٍ هي أعظم نساء العالمين

(1) وُلِدَ المسيح من أم وُصفت في جميع الكتب التي كتبت عنها بأنَّها الإنسانة الوحيدة، بل المخلوقة الوحيدة، التي فاقت الملائكة والبشر ! فقد قيل عنها أنَّها :

•  أنَّها كانت مختارة، مصطفاة، علي نساء العالمين، أي في هذا العالم والعالم الآخر ! وأنَّها كانت نذيرة للَّه من قَبْل الحبل بها في بطن أمِّها، كانت مميَّزة علي سائر البشر من آدم وحتي يوم الدين.

•  وأنَّها الوحيدة التي كانت مطهَّرة، طاهرة، بحسب هذا المفهوم، من الذنوب حتي من قَبْل أنْ تُوْلَد، وأنَّ الشيطان لم يمسَّها منذ لحظة ولادتها من بطن أمِّها إلي لحظة وفاتها، كانت معصومة من مسِّ الشيطان، خاصَّة في فترة حملها بالمسيح وولادته !! جاء في الحديث " مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُ صَارِخاً مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ " .

•  كما أنَّها نشأت نشأة متميِّزة علي سائر البشر في العالمين، فيُقال أنَّها تربَّت في الهيكل بمُجَرِّدِ بلوغها سنّ الثالثة، وعاشت في الهيكل حتي خُطِبَت ليوسف النجار ، أي عاشت كلّ حياتها منذ الطفولة منقطعة للعبادة ولا تعرف شيئًا غير العبادة .

- 27 -

•  وأنَّ اللَّه تقبلها قبولاً حسنًا وأنبتها نباتًا حسنًا، أي تربَّت ونمت ونشأت تحت رعاية اللَّه المباشرة، وأنَّ اللَّه كان يعتني بها وقد حفظها من مسِّ الشيطان كما بيَّنا أعلاه.

•  وأنَّها الإنسانة الوحيدة في العالمين التي أطعمها اللَّه من طعام الجنَّة، فيُقال أنَّ الملائكة كانوا يكلِّمونها ويأتون لها بطعام من السماء (الجنَّة) (3) .

•  وأنَّ اللَّه جعلها مع اِبنها آية للعالمين.

(2) الأم العذراء : وُلد جميع الأنبياء من آباء وأمّهات عاديِّين، مثل سائر البشر، وقد تفاوتوا في البرِّ والقداسة ولكنَّهم كانوا في النهاية مجرَّد بشر، وقد وُلِدُوا بحسب ناموس الخليقة، بالزواج، والعلاقات الزوجيَّة وبحسب ناموس، قانون، الوراثة الذي وضعه اللَّه، مع ملاحظة طهارة الزواج والعلاقات الزوجيَّة كقول الكتاب " لِيَكُنِ الزِّوَاجُ مُكَرَّماً عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ، وَالْمَضْجَعُ غَيْرَ نَجِسٍ. " ( عب13/4 )، وحتي الآباء والأنبياء الذين وُلدوا بمعجزات مثل اِسحق ويوحنا المعمدان ( تك17/19؛لو1/13 ) ،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(3) جاء في الكتاب الأبوكريفي المسمى بإنجيل يعقوب الأولي ف 8 : " وكانت مريم في هيكل الرب كأنما كانت يمامة تقطن هناك وتتناول طعامها من يدي ملاك " ، وجاء في ف 15 " وتلقت طعام اً من يد ملاك " ، وجاء في كتاب يسمى بشبيه متى ف 10 " يوميا يتحدث ملاك الله لها ، يوميا تتسلم طعام اً من أيدي الرب " ، ويقول كتاب ميلاد مريم ف 9 " فالعذراء التي كانت معتادة على الو جوه الملائكية " .

- 28 -

فقد وُلدوا أيضًا مثل سائر البشر، بالزواج وبحسب ناموس الوراثة. ولكن الربّ يسوع المسيح فقد وُلد بعيدًا عن ناموس الوراثة والزواج والعلاقات الزوجيَّة. فقد وُلِدَ من أمٍ ولكن بدون أبّ بشريّ ، وُلِدَ بقوَّة اللَّه وحلول الروح القدس مباشرة.

وقد قصد الكتاب المقدس بـ " العذراء "، العذراء إلي الأبد ! فكلِّ فتاة عذراء قبل الزواج تُدْعَي بـ " عذراء " لأنَّها عادة ما تكون عذراء إلي حين، أمَّا القدِّيسة مريم فقد دعيت بـ " الْعَذْرَاءُ " ، فهي الوحيدة العذراء قبل الحبل بالمسيح وأثناء الحبل به وبعد ولادته ! لأنَّ مولودها هو " عِمَّانُوئِيلَ "، اَللَّهُ مَعَنَا . لذا فقد وُصف حبلها بأنَّه " آَيَ ة " ؛ " وَلَكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» ." ( اش7/14 )، " هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ، الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا " ( مت1/23 ) .

(3) الممتلئة نعمة : كما وصفها الكتاب بالمُنْعم عليها، الممتلئة نعمة ، والمتميِّزة عن سائر النساء ببركة لم تنلها ولن تنالها واحدة منهن " فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلاَكُ وَقَالَ: «سَلاَمٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ.

- 29 -

مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ». فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلاَمِهِ وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ التَّحِيَّةُ! فَقَالَ لَهَا الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. " ( لو1/28ـ30 ) . وعندما ذهبت لزيارة أليصابات، صرخت أليصابات عند رؤيتها وقالت بالروح القدس الذي حلَّ عليها في تلك اللحظة " مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ " ( لو1/42- 43 ) .

والسؤال هنا هل نالت أيّ أمّ من أمِّهات جميع الأنبياء وتميَّزت بما تميَّزت به ونالته العذراء ؟! والإجابة : كلا ! والسؤال الطبيعيّ هنا هو ؛ لماذا وُصفت العذراء القدِّيسة مريم بهذه الأوصاف التي وضعتها فوق مستوي جميع النساء، بلّ وفوق مستوي جميع البشر بما فيهم الأنبياء، في الوجود كلّه ؟! والإجابة المنطقيَّة هي: لأنَّ الذي حُبِلَت به وولدته هو فوق مستوي جميع البشر! هذه الإجابة المنطقيَّة أجابتها أليصابات في بساطة، بالروح القدس عندما وصفت العذراء بـ " أُمُّ رَبِّي " ؛ " مِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ " !!

تميَّز المسيح عن سائر الأنبياء بأنَّه قد وُلد من أمٍّ عذراء بدون أبّ، وُلِدَ بدون زرع بشر، حبلت به العذراء علي عكس ناموس الطبيعة وقانون الوراثة اللَّذان وضعهما اللَّه للحبل والولادة، حبلت به بالروح

- 30 -

القدس. وقد وُلِدَ جميع الأنبياء، دون استثناء، ولادة طبيعيَّة، بحسب ناموس الطبيعة وقانون الوراثة من آباء وأمِّهات. قال الملاك للعذراء عندما بشَّرها بالحبل بالمسيح " وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هَذَا يَكُونُ عَظِيماً وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلَهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ " ( لو1/31ـ33 ). ذُهِلَت العذراء عند سماعها هذا الكلام وقالت للملاك متسائلة " كَيْفَ يَكُونُ هَذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟ ". فهي لم تتصوَّر أبدًا أنَّها يمكن أنْ تحبل بدون زواج، وسؤالها هذا يدلّ ويُؤكِّد أنَّ الزواج لم يكنْ في نيَّتها مطلقًا!! ولكن أشعياء النبي كان قد سبق وتنبَّأ قبل ذلك بحوالي 700 سنة بهذا الحبل الآية " يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ» " ( اش7/14 ). إذًا كيف حَبَلَت العذراء ؟ ولماذا كان عليها أنْ تحبل وتلد بدون زرع بشر وبعيدًا عن ناموس الحبل والولادة الذي وضعه اللَّه؟ وقد جاءت الإجابة علي فم الملاك " فَأَجَابَ الْمَلاَكُ: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ فَلِذَلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. " ( لو1/35 ). إذًا فالمولود هو :

- 31 -

(أ) المولود بقوة اللَّه التي ظلَّلت العذراء وحلول الروح القدس عليها " تجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنَّس " ، أي أنَّ الأبّ الحقيقيّ له هو اللَّه! ومن ثمَّ يُدْعَي بالحقيقة ابن اللَّه، سواء قبل التجسُّد أو بعد التجسُّد، فهو المولود من الآب قبل كل الدهور بلاهوته، والمولود من العذراء القدِّيسة مريم بالروح القدس عند تجسُّده! لذا يُدْعَي بالحقيقة " ابْنَ اللهِ "، " ابْنَ الْعَلِيِّ ".

(ب) وهو القدُّوس، كما قال الملاك " الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ "، والقدُّوس لقب من ألقاب اللَّه! فهل حُبِلَ بأحدٍ ما، سواء من الأنبياء أو غيرهم، بهذه الطريقة ؟! وهل دُعِي أحدٌ منهم بالقدُّوس وابن العلي وابن اللَّه ؟!! والإجابة؛ كلا ! فلماذا وُلِدَ المسيح بهذه الطريقة ولماذا لُقِّبَ بهذه الألقاب الخاصَّة باللَّه ؟ !! (*)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) يزعم البعـض ويقولون أنَّ الله خلق آدم بدون أب ولا أم، وأنه خلق حواء من أب ولكن بدون أم، وهكذا وُلد المسيح من أم بلا أب مثلما ولدت حواء من أب بلا أم !!! ونقول لهؤلاء أن آدم خُلق من الله مباشرة ولم يُولد من أب وأم لأنه لم يكن هناك قبله رجل أو امرأة ليولد منهما ، فقد كان هو الإنسان الأول، ومن ثم فقد خلقه الله من التراب مباشرة بدون أب أو أم. كما خلقت حواء من ضلع أخذه الله من أضلاع آدم، دون أن يكون لها أب أو أم، ولم يكن آدم أباً لها لأنه لم يتزوج بامرأة أخرى لينجبها، ولا حتى حبل بها وولدها!! فكيف يكون أبوها وهي مخلوقة مثله من الله مباشرة وأن كانت منه؟! " فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام . فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما . وبنى الرب الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم . " فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي . هذه تدعى امرأة لأنها من امرأ أُخذت " ( تك2 /21 ـ23 ) . كانت الضرورة وحدها هي التي جعلت آدم وحواء يوجدان بهذه الطريقة التي وجدا بها، أي بواسطة الله مباشرة وبعيد ً ا عن ناموس الولادة والوراثة، لأن َّ هذه تتطلب وجود أب وأم وبالتالي خلقهما بواسطة الله مباشرة!! ولم يكن هناك حاجة بعد ذلك ليوجد أحد من أم بلا أب!! وهنا لا توجد مقارنة بين ولادتين وإنما بين ولادة خارقة لناموس الولادة والوراثة الطبيعي وخلق مباشر من الله. فقد خلق آدم من تراب وخلقت حواء من ضلع من أحد أضلاع آدم، أم المسيح فقد وُلد بطريقة إعجازية خارقة للناموس الطبيعي، وهذه الولادة الإعجازية إ نفرد بها وتميز بها وحده ولم تحدث لأحد من فبل ولن تحدث لأحد من بعد!! لماذا؟ لأنه القدوس ابن الله العلي الذي فوق جميع البشر، الأعظم.

- 32 -

2 - تميز المسيح بحدوث عجائب أثناء الحبل به

بعد أنْ بشَّر الملاك العذراء مريم بالحبل الإلهيّ بشَّرها أيضًا بحبل أليصابات بابنٍ في شيخوختها، فقامت العذراء وذهبت بسرعة إلي بيت زكرِّيا وسلَّمَت علي أليصابات، وبمجرَّد سلامها عليها حلَّ الروح القدس علي أليصابات بسرٍّ عظيم وحدثت عدة أمور لا يُمكن أنْ تًسَمَّي إلاَّ بالإعجاز الإلهيّ:

" فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا وَامْتَلإتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ وَصَرَخَتْ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَقَالَتْ: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبّ ِ» " ( لو1/39ـ45 ) . !!

- 33 -

إنتفض الجنين (يوحنا) ، الذي حملت به أمّه منذ ستَّة شهور، في بطن أليصابات ابتهاجًا بقدوم الجنين الإلهيّ الموجود في بطن مريم العذراء والذي حبلت به منذ أقلّ من أسبوع، شعرت أليصابات بحركة قويَّة داخل أحشائها واضطرب قلبها بنورٍ جديدٍ ثم أوحي إليها الروح القدس بسرٍّ عظيم ودفعها لأنْ تهتف فرحة مسرورة لتقول ما قالته للعذراء، ويقول الحديث أنَّ أليصابات قالت للعذراء أنَّ " من في بطني يسجد لمن في بطنك "!! فلماذا سجد يوحنا للمسيح؟! وكيف تحوَّل يوحنا إلي هذه الدرجة من المعرفة وهو جنين حبلت به أمّه منذ ستَّة أشهر، وأدرك أنَّ من في بطن العذراء هو الذي يجب السجود له؟!

بمجرَّد سلام العذراء، الحامل بالجنين الإلهيّ حلَّ الروح القدس علي أليصابات وتحوَّلت إلي نبيَّة وعرفت بالروح القدس ما لم يعرفه يوسف النجَّار إلاَّ بعد أنْ ظهر له الملاك في حلمٍ إلهيٍّ ( مت1/20 )، كما عرفت أيضًا أنَّ الذي في بطن العذراء هو الربّ نفسه ولذا فقد دعتها بأمّ الرب " أُمُّ رَبِّي "! وهذا ما لم يدركه بعض ممن اعتبروا أنفسهم من عظماء اللاهوتيّين. وعرفت أيضًا أنَّ الجنين الإلهيّ الذي كان في

- 34 -

بطن العذراء قد إتَّخذ الطبيعة الإنسانيَّة الكاملة من أحشائها " مُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ " .

هل حدث مثل هذا عندما كان أحد من الأنبياء جنينًا في بطن أمِّه ؟!!

3 ـ تميَّز المسيح بميلاد إعجازي

وما حدث في ميلاد المسيح لم يكنْ له مثيل في تاريخ البشريَّة، فقد كان مظاهرة سمائيَّة وأرضيَّة، فرحٌ في السماء وبهجةٌ علي الأرض!! فبالرغم من أنَّه وُلِدَ في مزود حقير للبقر، إلاَّ أنَّ ما حدث كان أكبر وأروع من أنْ يحدث مع أيّ من أبناء البشر مهما كانت مكانتهم علي الأرض.

(1) تسبحة الجند السماوي :

فقد جاء ملاك من السماء ومعه جمهور من الجند السماويّ في احتفال سمائيّ وبشَّر جماعة من الرعاة بميلاد المسيح الذي وصفه بالمخلِّص الربّ " وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ . وَهَذ ِهِ

- 35 -

لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلاً مُقَمَّطاً مُضْجَعاً فِي مِذْوَدٍ». وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: « الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ ». وَلَمَّا مَضَتْ عَنْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ الرُّعَاةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «لِنَذْهَبِ الآنَ إِلَى بَيْتِ لَحْمٍ وَنَنْظُرْ هَذَا الأَمْرَ الْوَاقِعَ الَّذِي أَعْلَمَنَا بِهِ الرَّبُّ». فَجَاءُوا مُسْرِعِينَ وَوَجَدُوا مَرْيَمَ وَيُوسُفَ وَالطِّفْلَ مُضْجَعاً فِي الْمِذْوَدِ. فَلَمَّا رَأَوْهُ أَخْبَرُوا بِالْكَلاَمِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ عَنْ هَذَا الصَّبِيِّ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوا تَعَجَّبُوا مِمَّا قِيلَ لَهُمْ مِنَ الرُّعَاةِ. وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هَذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا . " ( لو2/8ـ19 ). وهذا ما لم يحدث ولن يحدث مع أيّ كائنٍ ظهر علي الأرض، لم تهتف السماء لميلاد أحدٍ ولم تسبِّح الملائكة لميلاد أحدٍ، سواء كان نبيًا أو رسولاً أو قديسًا، سوي شخص المسيح فقط!! لماذا ؟ لأنَّ المسيح هو فوق الكلّ أو كما قال هو في مقارنة بينه وبين كلّ من وُجِدَ علي الأرض " فَقَالَ لَهُمْ: « أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. " ( يو8/23 ). وقال القديس يوحنا بالروح " اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ وَالَّذِي مِنَ الأَرْضِ هُوَ أَرْضِيٌّ وَمِنَ الأَرْضِ يَتَكَلَّمُ. اَلَّذِي يَأْتِي مِنَ السَّمَاءِ هُوَ فَوْقَ الْجَمِيعِ " ( يو3/31 ).

- 36 -

(2) سجود المجوس له :

ثم جاء مجوسٌ، وهم حكماء من المشرق، يحملون هدايا لهذا المولود الإلهيّ، وكان قد ظهر لهم نجم من السماء ليُبْلغهم بخبر الميلاد ويُرشدهم في الطريق للوصول إلي هذا الطفل الإلهيّ. يقول الكتاب " وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. قَائِلِينَ: «أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ» 000 وَإِذَا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ. فَلَمَّا رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جِدّاً وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً. " ( مت 2/1-12 ).

ويري علماء اللاهوت أنَّ هذا النجم إمَّا أنْ يكون نجمًا حقيقيًا وقد جعله اللَّه يتحرَّك خارج إطار قانون وناموس الكون ويظهر بصورة إعجازيَّة ليُرشد المجوس إلي ميلاده ومكان ولادته، وإمَّا أنَّه ملاك وقد ظهر في شكل نجم ليقوم بنفس المهمَّة. فإذا كان هو نجمٌ حقيقيٌّ كما يبدو من الكتاب فتكون الأفلاك السمائيَّة أيضًا قد شاركت في الاحتفال بهذا المولود الإلهي !! فهل حدث مثل هذا عند ميلاد أحد الأنبياء ؟! ولماذا حدث ذلك عند ميلاد المسيح ؟ والإجابة هي كما قال الملاك أنه هو " المسيح الرب " وليس سواه.

- 37 -

(3) إعلان الروح القدس عن شخصه لسمعان وحنة النبية :

وفي وقت ختانه في اليوم الثامن في الهيكل حسب عادة اليهود جاء رجل من أورشليم اسمه سمعان، وهذا الرجل يقول عنه الكتاب أنَّه كان " بَارّاً تَقِيّاً يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ . فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْداً لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ». وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إِنَّ هَذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضاً يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ» . " ( لو2/25ـ36 ).

وكان هناك أيضًا في الهيكل امرأة نبيَّة اسمها حنَّة يقول عنها الكتاب " وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ وَهِيَ مُتَقّدِّمَةٌ فِي

- 38 -

أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطِلْبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَاراً. فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ . " ( لو2/36ـ38 ).

جاء سمعان إلي الهيكل بالروح وكان الروح القدس قد سبق أنْ وعد أنْ لا يري الموت قبل أنْ يري المسيح الربّ، وتكلَّمت عنه حَنَّة النبيَّة مع جميع الذين كانوا يتوقَّعون ميلاده، بحسب النبوَّات، جميع المنتظرين الفداء الذي كان سيأتي من إسرائيل. فهل حدث مثل ذلك عند ولادة أي نبيّ أو رئيس أنبياء أو أيّ شخص ظهر علي الأرض مهما كانت أهمِّيَّته؟! بالطبع لم يحدث مثل ذلك إلاَّ في ميلاد الربّ يسوع لأنَّه ليس مجرَّد شخص عاديّ ولا هو مجرَّد نبيّ بلّ هو المسيح الرب الذي ظهر في الجسد. فهو مُرْسِل الأنبياء.

كما قيل عن المسيح أيضًا أنَّه تكلَّم بمجرَّد ميلاده من بطن أمِّه ودافع عنها! وأعلن وهو في المهد، في لحظة ولادته، أنَّه جاء إلي العالم نبيًا متعلمًا، تعلَّم من اللَّه! وأنَّه جاء بالحكمة ومعه كتابه، الإنجيل، وحافظًا للتوراة! وأنَّه سيكون بارًا بوالدته ولن يكون جبارًا ولا شقيًا، بل وتنبَّأ عن السلام الذي سيسود معه في ولادته وفي موته وفي قيامته

- 39 -

حيًا من الأموات! كما قيل أنَّه أجري معجزات عظيمة لحظة ميلاده أيضًا مثل تحويله النهر الجاف إلي نهر مليء بالماء العذب لتشرب منه أمّه ومن معها! وتحويله النخلة غير المثمرة إلي نخلة محمَّلة بالبلح الرطب الشهيّ! فهل قيل مثل ذلك عن غير المسيح ؟! (4)

4 ـ تميَّز المسيح عن الأنبياء في أسلوب الوحي

تكلَّم الله قديمًا وأعلن عن ذاته عن طريق الأنبياء بأنواعٍ وطرقٍ كثيرةٍ مثل؛ الرؤى والأحلام وحلول الروح القدس علي الأنبياء والتكلُّم بلسانهم وعلي أفواههم، أو عن طريق إرسال ملائكة،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(4) جاء في كتاب " الإنجيل شبيه متى " المنحول ف 20 : " حينئذ فأن الصبي يسوع بملامح سارة ، استراح في حضن أمه ، قائلا للنخلة " يا شجرة ، أحني أغصانك ، وأنعشي أمي بثمارك . وفي الحال عند تلك الكلمات أحنت النخلة قمتها إلى أسفل عند أقدام القديسة مريم وجمعوا منها ثماراً ، انتعشوا بها كلهم . وبعد أن جمعوا كل ثمارها بقيت منحنية لأسفل ، منتظرة الأمر لترتفع من الذي أمرها بالانحناء . حينئذ قال لها يسوع : " ارتفعي بذاتك يا نخلة وكوني قوية ورفيقة أشجاري ، التي في فردوس أبي وافتحي من جذورك مجرى من الماء الذي كان مختبئا في الأرض ودعى المياه تنساب حتى نكون راضين عنك . وفي الحال ارتفعت وعند جذورها تدفق نبع من الماء رائقا جدا وباردا ولامعا . فحينما رأوا نبع الماء ابتهجوا بفرح عظيم وكانوا راضين هم ذاتهم وجميع أبقارهم ودوابهم " !!

- 40 -

وقد تميَّز موسي النبيّ علي كلِّ الأنبياء بأنَّ اللَّه تكلَّم معه فمًا إلي فم كقول الله لهارون ومريم أخته " إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لهُ. فِي الحُلمِ أُكَلِّمُهُ. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَليْسَ هَكَذَا بَل هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فَماً إِلى فَمٍ وَعَيَاناً أَتَكَلمُ مَعَهُ لا بِالأَلغَازِ. وَشِبْهَ الرَّبِّ يُعَايِنُ. فَلِمَاذَا لا تَخْشَيَانِ أَنْ تَتَكَلمَا عَلى عَبْدِي مُوسَى؟ " ( عدد12/6-8 ). كان موسي النبيّ كليم اللّه، أمَّا المسيح فكان هو كلمة اللَّه ذاته الذي من ذات اللَّه وفي ذات اللَّه " فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ " ( يو1/1 )، ابن اللَّه الوحيد الذي في حضنه والذي هو وحده دون سواه يستطيع أنْ يكشف عن ذات اللَّه؛ " اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ. " ( يو1/18 )، أو كما قال هو نفسه " كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ " ( مت11/27 ). فهو وحده كلمة اللَّه الذاتيّ وابن اللَّه الذي من ذاته وفي ذاته وعندما ظهر علي الأرض كان هو اللَّه الذي ظهر في الجسد .

إذًا فالفرق بين المسيح والأنبياء هو الفرق بين رُسل اللَّه وبين كلمة اللَّه الذاتيّ الذي هو اللَّه ناطقًا، اللَّه متكلمًا، اللَّه الذي ظهر في الجسد. كان جميع الأنبياء مجرَّد رُسل ما عليهم إلا الإبلاغ برسالة اللَّه، أمَّا

 

- 41 -

المسيح فجاء برسالته هو وتعليمه هو كالربِّ المعطي الوصايا فيقول: " قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ : لاَ تَقْتُلْوَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ. 000 ‏ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ . وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: ‏ إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى إمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ.... ‏ وَقِيلَ: مَنْ طَلَّقَ إمْرَأَتَهُ فَلْيُعْطِهَا كِتَابَ طَلاَقٍ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ :إِنَّ مَنْ طَلَّقَ إمْرَأَتَهُ إِلاَّ لِعِلَّةِ اَلْزِّنَى يَجْعَلُهَا تَزْنِي وَمَنْ يَتَزَوَّجُ مُطَلَّقَةً فَإِنَّهُ يَزْنِي .... قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لاَ تَحْنَثْ بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ.‏ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ : لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ .... سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ : عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ.‏ وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ : لاَ تُقَاوِمُوا اَلشَّرَّ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ : تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ : أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ " ( مت5/27-44 ). وهو هنا يتكلَّم كصاحبِ السلطان علي الشريعة والإله الذي أعطاها وصاحبها.

لم يكنْ إنجيله هو وحيٌ نزل عليه من السماء بوسيلةٍ ما مثل بقيَّة الأنبياء وإنَّما كان هو ذاته كلمة اللَّه النازل من السماء وتعليمه نابعٌ من ذاته لأنَّه كلمة اللَّه، وكانت أعماله أيضًا نابعةٌ من ذاته، لأنَّ الآب يعمل به " أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ 000 لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا (الآب) يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ

 

- 42 -

فهذا يعمله الابن كذلك . لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ " ( يو5/16-20 ).

لم يكن الإنجيل مجرَّد رسالة نزلت عليه ودُوِّنَت في كتاب ليقرأُه فئة من الناس، كما هو الحال بالنسبة لأسفار موسي الخمسة أو بقيَّة أسفار العهد القديم، وإنَّما الإنجيل هو الخبر السار والبشارة المفرحة المقدَّم للعالم أجمع والذي يتلخَّص فيما قاله الكتاب بالروح وهو " جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي ارْتَفَعَ فِيهِ " ( أع2/1-2 )، هو الدعوة والكرازة بالمسيح في كلِّ المسكونة، هو الإيمان بالمسيح ابن اللَّه لنوال الحياة الأبديَّة " وَأَمَّا هَذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ ." ( يو20/ 31 )، هو الشهادة " أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الاِبْنَ مُخَلِّصاً لِلْعَالَمِ. " ( 1يو4/14 ).

5 ـ تميز المسيح بكونه الخالق

 

الخلق هو إيجاد الشيء من لاشيء، من العدم، وهو عمل اللَّه وحده والذي لا يشاركه فيه أحد علي الإطلاق. اللَّه وحده خالق الكون وكلّ ما به وما فيه يقول الكتاب ؛ " الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ. " ( اش40/28 )،

 

- 43 -

" هَكَذَا يَقُولُ اللَّهُ الرَّبُّ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَنَاشِرُهَا بَاسِطُ الأَرْضِ وَنَتَائِجِهَا مُعْطِي الشَّعْبِ عَلَيْهَا نَسَمَةً وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا رُوحاً " ( اش42/5 ). ثم يؤكِّد الكتاب أنَّ اللَّه وحده الخالق وليس معه أحد، أي لا يوجد آخر معه " أَنَا الرَّبُّ صَانِعٌ كُلَّ شَيْءٍ نَاشِرٌ السَّمَاوَاتِ وَحْدِي. بَاسِطٌ الأَرْضَ. مَنْ مَعِي؟ " ( أش44/24 ).

وتتحدَّي الكُتب جميع البشر وسائر المخلوقات العاقلة وغير العاقلة إنْ كان هناك أحدٌ، غير اللَّه، يقدر أنْ يخلق أي شيء مهما كان، كما تتحدَّي جميع الأصنام أنْ تخلق، ولو اجتمعوا معًا، حتى ولو ذبابًا. اللَّه وحده هو الخالق البارئ المصوِّر وليس سواه ولا مثله ولا معه.

ومع ذلك فقد قيل عن المسيح، أنَّه كان يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيصير طيرًا بأذن اللَّه. كان المسيح يَخْلِق وبنفس الطريقة التي خَلَقَ اللَّه بها الإنسان، يقول الكتاب المقدس " وَجَبَلَ الرَّبُّ الالَهُ ادَمَ تُرَابا مِنَ الارْضِ وَنَفَخَ فِي انْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ ادَمُ نَفْسا حَيَّةً. " ( تك2/7 ) . وهناك اتِّفاق علي أنَّ خَلْق آدم تمَّ كالآتي:

•  أنَّ اللَّه خلق الإنسان من طين ثمَّ سوَّاه .

•  ثمَّ نَفَخَ فيه من روحه .

 

- 44 -

والمسيح خلق الطير بنفس الطريقة (5) :

•  خَلَقَ من الطين كهيئة الطير.

•  ثم نَفَخَ فيه فصار طيرًا 000 بإذن اللَّه.

والسؤال هنا؛ هل هناك فرق بين خلقة الإنسان وخلقة الطير؟ والإجابة هي؛ كلا، لأنَّ كليهما عملية خلق وإيجاد حياة فيمن ليست له حياة. إذًا لماذا المسيح بالذات هو الذي أعطاه اللَّه عمل من أعماله وصفة من صفاته واسم من أسمائه؟ فقد خلق مثلما يخلق اللَّه وبنفس الطريقة التي خلق بها اللَّه الإنسان الأوَّل، وأصبح من حقِّه اسم الخالق وصفته. والإجابة دائمًا هي أنَّ اللَّه يفعل ما يريد وأنَّ له حكْمة في ذلك!!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(5) وتمتلئ كتب الأساطير المسيحية التي كتُبت فيما بين القرن الثاني الميلادي والقرن الخامس الميلادي ، والتي سمي بعضها بالأناجيل الأبوكريفية ، بالقصص التي تروي عن المسيح قيامه بعمل الخلق ؛ ف قد جاء في كتاب " شبيه متى " المنحول ف 27 " أخذ يسوع طبن صلصال من الأحواض التي صنعها ومنها صنع أثنى عشر عصفورا . وكان السبت حينما فعل يسوع ذلك 000 وعندما سمع يوسف ذلك أنتهره قائلا " لماذا تفعل أنت في السبت ، تلك الأمور التي لا يحل لنا فعلها ؟ " . وعندما سمع يسوع يوسف خبط يديه سويا وقال لعصافيره : " طيري ! " . وعلى صوت أمره بدأت في الطيران . وعلى مرأى ومسمع من جميع الواقفين جانبا ، قال للطيور : " أذهبي وطيري خلال الأرض وخلال كل العالم وعيشي " . وجاء في كتاب " إنجيل الطفولة العربي " المنحول " وصنع أشكالا من الطيور والعصافير ، التي طارت حينما أخبرها أن تطير ، ووقفت ساكتة عندما أمرها أن تقف وأكلت وشربت عندما أعطاها طعاما وشرابا " !!

 

- 45 -

ولكنَّنا نقول أنَّ اللَّه يفعل كلّ شيء بحسب مشورته الأزليَّة وتدبيره الإلهيّ وعلمه السابق ولا يفعل شيئًا باطلاً، فإذا كان قد أعطي المسيح، وحده، عمل الخلق وصفة الخالق واسم الخالق فهذا يعني أنَّ المسيح له امتياز خاص يتميَّز به عن كلِّ ما في الكون من كائنات، سواء كانت تُري أو لا تُري!! أو كما يقول الكتاب " أَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. " ( في2/9-11 ). كما يقال أن المسيح خلق بإذن اللَّه، والإنجيل يقول أنَّ اللَّه خلق به، بالمسيح، وفيه وله كل شيء " اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ. " ( أف3/9 )، " كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ " ( يو1/2 )، " الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. " ( عب1/2 )، " فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشاً امْ سِيَادَاتٍ امْ رِيَاسَاتٍ امْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ " ( كو1/16ـ17 ).

ويذكر الكتاب أيضًا أنَّ المسيح قام بعملية الخلق في أكثر من مناسبة؛ فقد خلق للمولود أعمي، بلا عيْنَين، عيْنَين من طين، يقول الكتاب أنَّه " تَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى.

 

- 46 -

وَقَالَ لَهُ: «اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ». الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً. " ( يو9/6- 7 ). وفي تحويلة للماء إلي خمرٍ قام بعمليَّة خلق مادةٍ من مادةٍ أخري مختلفة عنها، كيميائيًا، تمامًا، وذلك بكلمتين للأمر " امْلأوا الأَجْرَانَ مَاءً 000 اسْتَقُوا الآنَ " ( يو2/7- 8 ). وفي إشباعه لخمسة آلاف رجلٍ غير الذين كانوا معهم من نساء وأطفال بخمسة أرغفة وسمكتَين، قام بعمليَّة خلق أخري إذ خلق من كلِّ رغيفٍ واحدٍ ما يشبع أكثر من ألف فردٍ بل وزاد حوالي قفَّتَين وربع من هذا الرغيف الواحد !! خلق من الرغيف الواحد أكثر من ألف رغيف لو افترضنا أنَّ كلّ شخص أكل رغيفًا واحدًا !! ( مت14/19-22 ). فمَنْ كان له امتياز كهذا غير المسيح؟ والإجابة؛ لا أحد علي الإطلاق !!

6 – تميَّز المسيح بكونه علام الغيوب

 

 

هناك إجماع علي أنَّ اللَّه وحده هو علام الغيوب، هو وحده يعلم الخفيَّات والظاهرات، وهو غير المحدود في العلم والمعرفة، كلِّيّ العلم والمعرفة. ولكن الكتب تقول أنَّ المسيح، أيضًا، علام الغيوب وأنَّه قال للجموع أنَّه يقدر أنْ يُنْبِئهم بما يأكلون وما يدَّخرون في

 

- 47 -

بيوتهم. والكتاب المقدَّس يقول أنَّه، المسيح، يعلم كلّ شيء ولا يخفي عليه شيء ويقول عنه " عَيْنَاه كَلَهِيبِ نَارٍ " ( رؤ1/14؛2/18؛19/12 )، وأنَّه هو " الْفَاحِصُ الْكُلَى وَالْقُلُوبَِ " ( رؤ2/23 ). وأنَّ علمه للغيب لم يكنْ جزئيًا لبعض الأحداث أو لأحد المواقف، أي يعلم بعض الأمور ولا يعلم البعض الآخر، بل كان علمه علمًا كليًا بصورةٍ مطلقةٍ، يعلم كلّ شيء ولا يخفي عليه شيء. يعلم الماضي والحاضر والمستقبل، ما كان في الماضي وإلي الأزل وما هو كائن في الحاضر وما سيكون في المستقبل وإلي الأبد. يعلم كلّ ما يدور في الخفيَّات وما يدور في الصدور وكل ما يدور في كلِّ مكان وزمان في الكون.

يقول الكتاب عن معرفته المطلقة بالإنسان " فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ " ( مت9/4؛مت12/25 )، " فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ " ( مت22/18 )، " لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ الْجَمِيعَ. " ( يو2/24 )، " لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ الإِنْسَانِ لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي الإِنْسَانِ. " ( يو2/25 ). كما كشف ما سيحدث في المستقبل لتلاميذه " هَا أَنَا قَدْ سَبَقْتُ وَأَخْبَرْتُكُمْ. " ( مت24/25 )، " أَقُولُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ ." ( يو13/19 )، " وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ ." ( يو14/29 ). ووصف لهم كلّ ما سيحدث لهم بعد صعوده وما سيحدث للكنيسة حتي

 

- 48 -

وقت مجيئه الثاني في مجد " سَيُخْرِجُونَكُمْ مِنَ الْمَجَامِعِ بَلْ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَظُنُّ كُلُّ مَنْ يَقْتُلُكُمْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ خِدْمَةً لِلَّهِ. وَسَيَفْعَلُونَ هَذَا بِكُمْ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا الآبَ وَلاَ عَرَفُونِي. لَكِنِّي قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا حَتَّى إِذَا جَاءَتِ السَّاعَةُ تَذْكُرُونَ أَنِّي أَنَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ مِنَ الْبِدَايَةِ لأَنِّي كُنْتُ مَعَكُمْ. " ( يو 16/2ـ4 ).

وعندما قابل تلميذه نثنائيل أكَّد له أنَّه رآه وهو تحت التينة قبل أنْ يأتي إليه " فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: «يَا مُعَلِّمُ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» أَجَابَ يَسُوعُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هَذَا!» " ( يو1/48-49 )، وكشف أسرار المرأة السامريَّة " قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى هَهُنَا» أَجَابَتِ الْمَرْأَةُ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَناً قُلْتِ لَيْسَ لِي زَوْجٌ لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هَذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ». قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! " وأسرعت هي لتقول للناس " هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَاناً قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟ " ( يو4/16-19،29 )، وكان يعلم من سيؤمن به ومن لا يؤمن ؛ " لأَنَّ يَسُوعَ مِنَ الْبَدْءِ عَلِمَ مَنْ هُمُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ. " ( يو6/64 ). وكان يعلم من هو الذي يسلمه " لأَنَّهُ عَرَفَ مُسَلِّمَهُ " ( يو13/11 ).

 

- 49 -

وعند دخوله أورشليم " أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا فَلِلْوَقْتِ وَأَنْتُمَا دَاخِلاَنِ إِلَيْهَا تَجِدَانِ جَحْشاً مَرْبُوطاً لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. فَحُلاَّهُ وَأْتِيَا بِهِ. " ( مر11/1-2 )، كان يعلم ما سيلاقيانه بكلِّ دقَّة. وعندما أرسل اثنين من تلاميذه ليُعِدَّا له الفصح شرح لهما كل ما سيلاقيانه بالتفصيل " فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ لَهُمَا: «اذْهَبَا إِلَى الْمَدِينَةِ فَيُلاَقِيَكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّةَ مَاءٍ. اتْبَعَاهُ. وَحَيْثُمَا يَدْخُلْ فَقُولاَ لِرَبِّ الْبَيْتِ: إِنَّ الْمُعَلِّمَ يَقُولُ: أَيْنَ الْمَنْزِلُ حَيْثُ آكُلُ الْفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي؟ " ( مر14/13-14 ). وعرف أنَّ بطرس سينكره ثلاث مرات قبل أنْ يَصيح الديك مرتَين " فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: « الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنَّكَ الْيَوْمَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ مَرَّتَيْنِ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». " ( مر14/30 ).

كما كان يعرف ما سيحدث له في أيَّامه الأخيرة علي الأرض من صَلْب ومَوْت بالجسد وقيامته من الموت ومقابلته لتلاميذه بعد قيامته وصعوده إلي السموات وحلول الروح القدس علي تلاميذه، وشرحه لتلاميذه بالتفصيل؛ " مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ . " ( مت16/21 )،

 

- 50 -

" وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ "( مت20/19 )، " وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ " ( مت26/32؛مر14/28 )، " فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً! " ( يو6/62 )، " فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً يَسِيراً بَعْدُ ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي. " ( يو7/33 ). وبالتجربة عرف تلاميذه أنَّه يعلم كلّ شيء ولا يخفي عليه شيء " اَلآنَ نَعْلَمُ أَنَّكَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَسْتَ تَحْتَاجُ أَنْ يَسْأَلَكَ أَحَدٌ. لِهَذَا نُؤْمِنُ أَنَّكَ مِنَ اللَّهِ خَرَجْتَ " ( يو16/30 ) .

فهل كان أحد من الأنبياء يعلم الغيب مثل المسيح الذي لم يكنْ يُخفي عليه شيء سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل؟ والإجابة؛ كلا، هو وحده علام الغيوب .

7 ـ تميُّز المسيح بكونه محيي الموتي

 

لقد أحيا إيليَّا النبيّ اِبن أرملة صرفة صيدا، يقول الكتاب " فَتَمَدَّدَ عَلَى الْوَلَدِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ: يَا رَبُّ إِلَهِي، لِتَرْجِعْ نَفْسُ هَذَا الْوَلَدِ إِلَى جَوْفِهِ. " ( 1مل17/21 )، وأحيا إليشع النبيّ اِبن المرأة الشونميَّة من الموت بنفس الطريقة تقريبًا ( 2مل12 ). ويذكر الكتاب أنَّ الربّ يسوع المسيح أقام ثلاثة من الموت؛ ابنة يايرس وهو

 

- 51 -

رئيس مجمع لليهود بعد وفاتها بوقتٍ قليلٍ، وابنٌ وحيدٌ لأرملة من قرية تُدْعَي نايين وهو في طريقة إلي المقابر ليُدفن، ولعازر بعد موته ودفنه بأربعة أيَّام. وفي كلِّ المرَّات كان يُحْيِيهم بكلمة الأمر منه؛ ففي حالة اِبنة يايرس التي كانت قد ماتت منذ وقت قليل يقول الكتاب أنَّه قال للباكين " لاَ تَبْكُوا. لَمْ تَمُتْ لَكِنَّهَا نَائِمَةٌ 000 وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَنَادَى قَائِلاً: «يَا صَبِيَّةُ قُومِي». فَرَجَعَتْ رُوحُهَا وَقَامَتْ فِي الْحَالِ. فَأَمَرَ أَنْ تُعْطَى لِتَأْكُلَ. " ( لو8/52- 55 ). وفي حالة الشاب اِبن الأرملة الذي كان محمولاً وفي طريقه إلي القبر يقول الكتاب أنَّه لمَّا رأى أمَّه تبكي تحنَّن عليها " فَلَمَّا رَآهَا الرَّبُّ تَحَنَّنَ عَلَيْهَا وَقَالَ لَهَا: «لاَ تَبْكِي». ثُمَّ تَقَدَّمَ وَلَمَسَ النَّعْشَ فَوَقَفَ الْحَامِلُونَ. فَقَالَ: «أَيُّهَا الشَّابُّ لَكَ أَقُولُ قُمْ». " ( لو7/13-14 ). وفي حالة لعازر يقول الكتاب " وَكَانَ إِنْسَانٌ مَرِيضاً وَهُوَ لِعَازَرُ مِنْ بَيْتِ عَنْيَا مِنْ قَرْيَةِ مَرْيَمَ وَمَرْثَا أُخْتِهَا 000 فَأَرْسَلَتِ الأُخْتَانِ إِلَيْهِ قَائِلَتَيْنِ: «يَا سَيِّدُ هُوَذَا الَّذِي تُحِبُّهُ مَرِيضٌ». فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ قَالَ: « هَذَا الْمَرَضُ لَيْسَ لِلْمَوْتِ بَلْ لأَجْلِ مَجْدِ اللَّهِ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ اللَّهِ بِهِ » 000 فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ مَرِيضٌ مَكَثَ حِينَئِذٍ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمَيْنِ 000قَالَ هَذَا وَبَعْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ». فَقَالَ تلاَمِيذُهُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كَانَ قَدْ نَامَ فَهُوَ يُشْفَى». وَكَانَ يَسُوعُ يَقُولُ عَنْ مَوْتِهِ وَهُمْ ظَنُّوا أَنَّهُ يَقُولُ عَنْ رُقَادِ النَّوْمِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ حِينَئِذٍ علاَنِيَةً: «لِعَازَرُ مَاتَ 000

 

- 52 -

فَلَمَّا أَتَى يَسُوعُ وَجَدَ أَنَّهُ قَدْ صَارَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ فِي الْقَبْرِ 000فَقَالَتْ مَرْثَا لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي 000 قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «سَيَقُومُ أَخُوكِ» ". ثم أضاف " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. أَتُؤْمِنِينَ بِهَذَا؟» . وعند القبر " قَالَ يَسُوعُ: «ارْفَعُوا الْحَجَرَ». قَالَتْ لَهُ مَرْثَا أُخْتُ الْمَيْتِ: «يَا سَيِّدُ قَدْ أَنْتَنَ لأَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَلَمْ أَقُلْ لَكِ: إِنْ آمَنْتِ تَرَيْنَ مَجْدَ اللَّهِ؟». فَرَفَعُوا الْحَجَرَ حَيْثُ كَانَ الْمَيْتُ مَوْضُوعاً " وبعد مناجاة مع الآب " صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «لِعَازَرُ هَلُمَّ خَارِجاً» فَخَرَجَ الْمَيْتُ وَيَدَاهُ وَرِجْلاَهُ مَرْبُوطَاتٌ بِأَقْمِطَةٍ وَوَجْهُهُ مَلْفُوفٌ بِمِنْدِيلٍ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «حُلُّوهُ وَدَعُوهُ يَذْهَبْ» " ( يو11/1-44 ).

وفي هذه الحالات الثلاث نري أنَّ الربّ يسوع المسيح كان يعلم مسبقًا ما سيحدث فلم يكن ذهابه إلي مكان ما مجرَّد مصادفة وإنَّما بناء علي ترتيب إلهيّ وعلمه السابق، ويتضح ذلك جليًا في إقامة لعازر الذي تعمَّد أنْ يتركه وهو مريض لكي يموت وتركه في القبر مدَّة أربعة أيام لكي تظهر مقدرته علي إقامة الأموات ولكي يظهر

 

- 53 -

مجده كالمسيح ابن اللَّه الحيّ وأنَّه كما قال عن نفسه " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الأَبَدِ. ". كما أنَّه أقامهم جميعهم من الموت وعادت أرواحهم إليهم بكلمة الأمر منه! فقد كان الموت بالنسبة له مجرَّد نوم سرعان ما سيوقظهم منه، وأنَّ استعادته للأرواح من العالم الآخر وعودتها إلي أجسادها بالنسبة له كمجرَّد الاستيقاظ من النوم. كما كان يفعل ذلك بسبب فيض حبِّه وحنانه. وكان يلمس الميِّت أو النعش وهذا بالنسبة لليهود نجاسة ، ولكنه هو القدُّوس البار الذي لا يمكن أنْ يتنجَّس من شيء. لأنَّ لمسته المحيِيَة لا يمكن أنْ تنجّسه وهو واهب الحياة الذي لا يستطيع الموت أنْ يقف أمامه.

 

8 ـ تميز المسيح بكونه الطبيب الأعظم

 

 

إنْ كان بعض الأنبياء استطاعوا بقوَّة اللَّه أنْ يُشفوا أحد المرضي أو بعض المرضي من أحد الأمراض أو بعض الأمراض فقد كان المسيح يشفي كل المرضي من جميع الأمراض مهما كانت، فهو الطبيب الشافي الأعظم الذي شفي جميع المرضي الذين قدُموا إليه من جميع الأمراض. يقول الكتاب أنَّه عندما أرسل يوحنَّا المعمدان اثنين من

 

- 54 -

تلاميذه يسألان الربّ يسوع المسيح إنْ كان هو المسيح الآتي " فَأَجَابَ يَسُوعُ: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: إِنَّ الْعُمْيَ يُبْصِرُونَ وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. " ( لو7/22 ). فقد شفي جميع المرضي الذين قُدِّموا إليه من جميع الأمراض مهما كانت أنواع أمراضهم ومهما كان عددهم. وفيما يلي نماذج لبعض المرضي الذين شفاهم والأمراض التي شفوا منها:

1 – شفاء مرضى بالحمى؛ فقد شفى اِبن خادم الملك الذي كان مريضًا بالحمّي وطلب من الربّ يسوع المسيح أنْ يذهب إلي بيته ليُشفيه، فقال له " اذْهَبْ. اِبْنُكَ حَيٌّ " فشُفي اِبنه في تلك اللحظة ( يو4/46-54 ). كما شفي حماة بطرس أيضًا " وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ قَدْ أَخَذَتْهَا حُمَّى شَدِيدَةٌ. فَسَأَلُوهُ مِنْ أَجْلِهَا. فَوَقَفَ فَوْقَهَا وَانْتَهَرَ الْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا! وَفِي الْحَالِ قَامَتْ وَصَارَتْ تَخْدِمُهُمْ. "( لو4/38- 39 ).

2 – شفاء مقعدين ومفلوجين ؛ فقد شفي مريض بركة بيت حسدا الذي أقعده المرض في الفراش مدَّة ثمانٍ وثلاثين سنة عندما قال له " قُمِ. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ». فَحَالاً بَرِئَ الإِنْسَانُ وَحَمَلَ سَرِيرَهُ وَمَشَى. " ( يو5/1-9 ). وشفي مفلوج من مرض الفالج عندما أمره قائلاً

 

- 55 -

" قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ. " ( مت9/6-7 ). وشفي عبد قائد المئة من الفالج، وكان قائد المئة هذا يُؤمن أنَّ المسيح يستطيع أنْ يُشفي عبده بكلمةٍ دون أنْ يذهب إليه " يَا سَيِّدُ لَسْتُ مُسْتَحِقّاً أَنْ تَدْخُلَ تَحْتَ سَقْفِي لَكِنْ قُلْ كَلِمَةً فَقَطْ فَيَبْرَأَ غُلاَمِي . " فشُفي غلامه في تلك الساعة ( مت8/5-13 ). وشفي رجلاً يده يابسة فقال له " «مُدَّ يَدَكَ». فَمَدَّهَا. فَعَادَتْ صَحِيحَةً كَالأُخْرَى . " (مت12/13).

3 – إخراج الشياطين والأرواح النجسة؛ كان يُخْرِج الشياطين بكلمة الأمر منه وكانت الشياطين عندما تراه تصرخ مرتاعة ومرتعبة وتتوسَّل إليه أنْ لا يُرسلها إلي الجحيم قبل الموعد، يقول الكتاب " وَكَانَ فِي الْمَجْمَعِ رَجُلٌ بِهِ رُوحُ شَيْطَانٍ نَجِسٍ فَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «آهِ مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ: قُدُّوسُ اللهِ». فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «اخْرَسْ وَاخْرُجْ مِنْهُ». فَصَرَعَهُ الشَّيْطَانُ فِي الْوَسَطِ وَخَرَجَ مِنْهُ وَلَمْ يَضُرَّهُ شَيْئاً. فَوَقَعَتْ دَهْشَةٌ عَلَى الْجَمِيعِ وَكَانُوا يُخَاطِبُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً قَائِلِينَ: «مَا هَذِهِ الْكَلِمَةُ! لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ وَقُوَّةٍ يَأْمُرُ الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتَخْرُجُ ». " (لو4/33-36). وأخرج الشيطان من أخرسٍ مجنونٍ " وَفِيمَا هُمَا خَارِجَانِ إِذَا إِنْسَانٌ أَخْرَسُ مَجْنُونٌ قَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا أُخْرِجَ الشَّيْطَانُ تَكَلَّمَ الأَخْرَسُ فَتَعَجَّبَ الْجُمُوعُ قَائِلِينَ: «لَمْ يَظْهَرْ قَطُّ مِثْلُ هَذَا فِي إِسْرَائِيلَ!» " ( مت9/23-33 ) .

 

- 56 -

وأخرج عدد كبير من الشياطين من مجنون كورة الجدريِّين " وَلَمَّا خَرَجَ إِلَى الأَرْضِ اسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ كَانَ فِيهِ شَيَاطِينُ مُنْذُ زَمَانٍ طَوِيلٍ وَكَانَ لاَ يَلْبَسُ ثَوْباً وَلاَ يُقِيمُ فِي بَيْتٍ بَلْ فِي الْقُبُورِ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعَ صَرَخَ وَخَرَّ لَهُ وَقَالَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «مَا لِي وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللهِ الْعَلِيِّ! أَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ لاَ تُعَذِّبَنِي». لأَنَّهُ أَمَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الإِنْسَانِ 000 فَسَأَلَهُ يَسُوعُ: «مَا اسْمُكَ؟» فَقَالَ: «لَجِئُونُ». لأَنَّ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً دَخَلَتْ فِيهِ. وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ لاَ يَأْمُرَهُمْ بِالذَّهَابِ إِلَى الْهَاوِيَةِ 000 فَخَرَجَتِ الشَّيَاطِينُ مِنَ الإِنْسَانِ وَدَخَلَتْ فِي الْخَنَازِيرِ " ( لو8/27-32 ). وشفى اِبنة امرأة فينيقيَّة سوريَّة من الجنون ( مر7/24-30 ). وشفى امرأة بها روح ضعف " وَإِذَا امْرَأَةٌ كَانَ بِهَا رُوحُ ضُعْفٍ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَتْ مُنْحَنِيَةً وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تَنْتَصِبَ الْبَتَّةَ. فَلَمَّا رَآهَا يَسُوعُ دَعَاهَا وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ إِنَّكِ مَحْلُولَةٌ مِنْ ضُعْفِكِ». وَوَضَعَ عَلَيْهَا يَدَيْهِ فَفِي الْحَالِ اسْتَقَامَتْ وَمَجَّدَتِ اللهَ " ( لو13/11-13 ). وشفى غلامًا به روح شيطان كان الشيطان يصرعه ويمزّقه " فَانْتَهَرَهُ يَسُوعُ فَخَرَجَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. " ( مت17/17- 18 ).

 

- 57 -

4 – كما شفى البرص وطهرهم من برصهم ويذكر لنا الكتاب الأبرص الذي " وَإِذَا أَبْرَصُ قَدْ جَاءَ وَسَجَدَ لَهُ قَائِلاً: «يَا سَيِّدُ إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي». فَمَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَلَمَسَهُ قَائِلاً: «أُرِيدُ فَاطْهُرْ». وَلِلْوَقْتِ طَهُرَ بَرَصُهُ ." ( مت8/2- 3 )، كما يذكر شفاء عشرة برص آخرين " وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ اسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَالٍ بُرْصٍ فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ وَصَرَخُوا: «يَا يَسُوعُ يَا مُعَلِّمُ ارْحَمْنَا». فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: «اذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ». وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهَرُوا. " ( لو17/12-14 ) .

5 – وفتح أعين العميان ؛ بمجرَّد لمس أعينهم، كما حدث مع أعميَين " حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلاً: «بِحَسَبِ إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا». " ( مت9/27-31 )، وشفى أعمي في بيت صيدا ( مر8/2-26 )، وشفي مولود أعمي بعد أنْ خلق له عينَين من طين " تَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: «اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ». الَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ. فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً. " ( يو9/6- 7 ). وهنا خلق له عينين من طين كما خُلق آدم من تراب الأرض !! وشفي بارتيماوس الأعمي وأعمي آخر كان معه وكانا يصرخان لكي يشفيهما بلمس أعينهما، يقول الكتاب " فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَلَمَسَ أَعْيُنَهُمَا فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَتْ أَعْيُنُهُمَا فَتَبِعَاهُ. " ( مت20/ 34-39؛مر10/46-52؛لو18/35-43 ).

 

- 58 -

6 – وشفى أمراض كثيرة أخرى مثل شفاء المرأة النازفة الدم " وَامْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ " لأَنَّهَا قَالَتْ فِي نَفْسِهَا: «إِنْ مَسَسْتُ ثَوْبَهُ فَقَطْ شُفِيتُ». " ( مت9/21 ). فَفِي الْحَالِ وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا . فَقَالَ يَسُوعُ: «مَنِ الَّذِي لَمَسَنِي!»000 «قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي» " ( لو8/43-48 ). وشفي أصمّ أعْقَد بأنْ " وَضَعَ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ وَتَفَلَ وَلَمَسَ لِسَانَهُ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَأَنَّ وَقَالَ لَهُ: «إِفَّثَا». أَيِ انْفَتِحْ. وَلِلْوَقْتِ انْفَتَحَتْ أُذْنَاهُ وَانْحَلَّ رِبَاطُ لِسَانِهِ وَتَكَلَّمَ مُسْتَقِيماً. " ( مر7/33-35 ). وشفي مريضاً بالإستسقاء " فَأَمْسَكَهُ وأَبْرَأَهُ وَأَطْلَقَهُ " ( لو14/1-4 ).

هذه مجرَّد نماذج لما صنعه الربّ يسوع المسيح من كمٍّ كبيرٍ لا يمكن حصره لم يُدَوَّن في الإنجيل تفصيلاً وإنْ كان يُذكر بصورة إجمالية، يقول القدِّيس يوحنَّا بالروحِ " وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هَذَا الْكِتَابِ. " ( يو20/30 )، " وَأَشْيَاءُ أُخَرُ كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كُتِبَتْ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ . " ( يو21/25 ). فقد شفي جميع المرضي الذين قدَّموهم إليه من جميع أنواع الأمراض مهما كان عددهم ومهما كانت

 

- 59 -

أنواع هذه الأمراض ؛ " فَأَرْسَلُوا إِلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْكُورَةِ الْمُحِيطَةِ وَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ الَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ . " ( مت14/35-36 ). " وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ وَالْمَجَانِينَ. وَكَانَتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا مُجْتَمِعَةً عَلَى الْبَابِ. فَشَفَى كَثِيرِينَ كَانُوا مَرْضَى بِأَمْرَاضٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَخْرَجَ شَيَاطِينَ كَثِيرَةً وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ." ( مر1/32-34 ). " فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ " ( مت15/30 ). " وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ قَدَّمُوا إِلَيْهِ مَجَانِينَ كَثِيرِينَ فَأَخْرَجَ الأَرْوَاحَ بِكَلِمَةٍ وَجَمِيعَ الْمَرْضَى شَفَاهُمْ " ( مت8/16 ). " فَذَاعَ خَبَرُهُ فِي جَمِيعِ سُورِيَّةَ. فَأَحْضَرُوا إِلَيْهِ جَمِيعَ السُّقَمَاءِ الْمُصَابِينَ بِأَمْرَاضٍ وَأَوْجَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْمَجَانِينَ وَالْمَصْرُوعِينَ وَالْمَفْلُوجِينَ فَشَفَاهُمْ . " ( مت4/24 ). " وَتَبِعَتْهُ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ فَشَفَاهُمْ جَمِيعاً. " ( مت12/15 ). " فَجَاءَ إِلَيْهِ جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ مَعَهُمْ عُرْجٌ وَعُمْيٌ وَخُرْسٌ وَشُلٌّ وَآخَرُونَ كَثِيرُونَ وَطَرَحُوهُمْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ. فَشَفَاهُمْ " ( مت30/15 ). " وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ . " ( مت21/14 ). " لأَنَّهُ كَانَ قَدْ شَفَى كَثِيرِينَ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهِ لِيَلْمِسَهُ كُلُّ مَنْ فِيهِ دَاءٌ. " ( مر3/10 ). " وَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ شَفَى كَثِيرِينَ مِنْ أَمْرَاضٍ وَأَدْوَاءٍ وَأَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَوَهَبَ الْبَصَرَ لِعُمْيَانٍ كَثِيرِينَ. " ( لو7/21 ).

- 60 -

 

9 - تميَّز المسيح بكونه صاحب السلطان علي كلّ ما في الكون

 

 

وكان المسيح يشفي جميع المرضي بقوَّته هو الصادرة من ذاته سواء الخارجة منه، يقول الكتاب " وَكُلُّ الْجَمْعِ طَلَبُوا أَنْ يَلْمِسُوهُ لأَنَّ قُوَّةً كَانَتْ تَخْرُجُ مِنْهُ وَتَشْفِي الْجَمِيعَ. " ( لو6/19 ) ، " وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا هُدْبَ ثَوْبِهِ فَقَطْ. فَجَمِيعُ الَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ " ( مت14/36 )، " وَحَيْثُمَا دَخَلَ إِلَى قُرىً أَوْ مُدُنٍ أَوْ ضِيَاعٍ وَضَعُوا الْمَرْضَى فِي الأَسْوَاقِ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ أَنْ يَلْمِسُوا وَلَوْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. وَكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفِيَ! " ( مر6/56 )، ولذا فقد كان هو ذاته، بطبيعته، غير قابل للمرض لأنَّ قوَّة الحياة وقوَّة الشفاء كانت كامنة فيه ولم يكتسبها من غيره مثل بقيَّة الأنبياء " فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ " ( يو1/4 ). أمَّا كلّ الأنبياء فقد كانوا، جميعهم، مُعرَّضين للأمراض وفي حاجة للمسيح ليشفيهم. وهذا هو الفرق بين المسيح وبين جميع الأنبياء فهو الطبيب الأعظم لكلِّ البشريَّة.

يقول الربّ يسوع المسيح ويُؤكِّد أنَّ له السلطان علي كلِّ ما في الكون " دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ . " ( مت28/18 ).

 

- 61 -

ولذا فهو يعمل كلَّ شيء يختصّ باللَّه الآب كما قال " اَلآبُ يُحِبُّ الاِبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ. " ( يو3/35 )، " لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ. " ( يو5/19 )." لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا هُوَ يَعْمَلُهُ وَسَيُرِيهِ أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذِهِ لِتَتَعَجَّبُوا أَنْتُمْ. " ( يو5/20 )، " لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي كَذَلِكَ الاِبْنُ أَيْضاً يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ. " ( يو5/21 ). كان للربِّ يسوع المسيح السلطان علي كلِّ شيءٍ في الكَوْنِ؛ علي المادة وعلي الطبيعة وعلي البحار وعلي الهواء وقد نفَّذ ذلك فعلاً وعملاً :

•  فقد أشبع خمسة آلاف رجلٍ غير الذين كانوا معهم من أطفال ونساء بخمسة خبزات وسمكتين " ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ لْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ وَرَفَعَ نَظَرَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى الأَرْغِفَةَ لِلتَّلاَمِيذِ وَالتَّلاَمِيذُ لِلْجُمُوعِ. فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوءةً. وَالآكِلُونَ كَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ. " ( مت14/19-21؛ أنظر مر6/13-21؛لو9/10-17؛يو6/1-14 ) .

•  وفي مرَّة أخري أشبع أربعة آلاف آخرين غير الذين كانوا معهم من نساء وأولاد بسبع خبزات وقليل من صغار السمك " وَأَخَذَ السَّبْعَ خُبْزَاتٍ وَالسَّمَكَ وَشَكَرَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى تَلاَمِيذَهُ وَالتَّلاَمِيذُ أَعْطَوُا الْجَمْعَ. فَأَكَلَ

 

- 62 -

الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا. ثُمَّ رَفَعُوا مَا فَضَلَ مِنَ الْكِسَرِ سَبْعَةَ سِلاَلٍ مَمْلُوءَةٍ وَالآكِلُونَ كَانُوا أَرْبَعَةَ آلاَفِ رَجُلٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ وَالأَوْلاَدَ. " ( م ت15/36-39 ).

في المعجزة الأولي حوَّل الربّ يسوع المسيح من الرغيف الواحد إلي ما يُشبع أكثر من ألف رجل غير النساء والأطفال، بل وفَضُلَ عنه حوالي قفَّتَين ونصف، كما حوَّل من أقل نصف سمكة صغيرة إلي سمكٍ كثيرٍ أشبع أكثر من ألف شخص. وفي المعجزة الثانية فعل تقريبًا نفس ما فعله في الأولي. وهذا يعني أنَّ ما حدث علي يَدَيْه هو عمليَّة خلق، خلق من الرغيف الواحد كمًا كبيرًا من الأرغفة! وخلق من أقل من نصف سمكة صغيرة كميةً كبيرةً من السمك ! فهل يمكن أنْ يفعل ذلك مجرَّد إنسان؟.

•  كما مشي علي الماء وجعل تلميذه بطرس أيضًا يمشي علي الماء " وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَهُ التَّلاَمِيذُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ اضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ». وَمِنَ الْخَوْفِ صَرَخُوا! فَلِلْوَقْتِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا ». فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ

 

- 63 -

عَلَى الْمَاءِ». فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ000 وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ. وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! ». " ( مت 14/25-33 ).

وفي هذه المعجزة المركَّبة مشي المسيح علي الماء وكأنَّها أرض يابسة في روضةٍ خضراءٍ دون أنْ يتأثَّر لا بالرياح العاصفة ولا بالأمواج الهائجة! ممَّا يؤكِّد سيطرته علي ناموس الطبيعة وسلطانه علي الرياح والبحار، وبمجرَّد دخوله السفينة هدأت الرياح العاصفة المضادَّة وسكن البحر الهائج، بل وتخطَّي حدود المكان والزمان إذ بمجرَّد دخوله السفينة وصلت للبرِّ في التوِّ واللحظة " وَلِلْوَقْتِ صَارَتِ السَّفِينَةُ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي كَانُوا ذَاهِبِينَ إِلَيْهَا. " ( يو6/21 ). وهذا ما أثار ذهول من كانوا في السفينة وجعلهم يسجدون له معترفين بأنَّه ليس مجرَّد بشر ولكن ابن الله " وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ! ». " .

•  وهدأت الرياح الشديدة والبحر الهائج وأسكتت العاصفة بكلمة الأمر الصادرة منه " وَإِذَا اضْطِرَابٌ عَظِيمٌ قَدْ حَدَثَ فِي الْبَحْرِ حَتَّى غَطَّتِ الأَمْوَاجُ السَّفِينَةَ وَكَانَ هُوَ نَائِماً. 000 ثُمَّ قَامَ وَانْتَهَرَ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ

 

- 64 -

فَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ . "، ويُضيف القدِّيس مرقس " وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «اسْكُتْ. ابْكَمْ». فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَصَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ. " ( مر4/39 )، " فَتَعَجَّبَ النَّاسُ " " فَخَافُوا خَوْفاً عَظِيماً " ( مر4/41 ) " قَائِلِينَ: «أَيُّ إِنْسَانٍ هَذَا! فَإِنَّ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ جَمِيعاً تُطِيعُهُ» " ( مت 8/24-26 ) ، وأيضًا " فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الرِّيَاحَ أَيْضاً وَالْمَاءَ فَتُطِيعُهُ! " ( لو 8/25 ).

وهنا نراه ينتهر البحر الهائج والرياح الشديدة العاصفة قائلاً" اسْكُتْ. ابْكَمْ " فتخضع له وتطيع أمره. ويستخدم الكتاب كلمة " انْتَهَرَ " هنا وعندما شفي حماة بطرس " وَانْتَهَرَ الْحُمَّى فَتَرَكَتْهَا " ( لو4/39 )، وعند إخراجه للشياطين " انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: 000 اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضاً!» " ( مر9/ 25 )، كصاحب الأمر والسلطان الذي يطيعه كلّ ما في الكون المادة والطبيعة والأرواح ومسبّبات الأمراض.

وحوَّل الماء إلي خمر " قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلَأُوهَا إِلَى فَوْقُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: «اسْتَقُوا الآنَ وَقَدِّمُوا إِلَى رَئِيسِ الْمُتَّكَإِ». فَقَدَّمُوا. فَلَمَّا ذَاقَ رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْمَاءَ الْمُتَحَوِّلَ خَمْراً وَلَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هِيَ 000 دَعَا رَئِيسُ الْمُتَّكَإِ الْعَرِيسَ. وَقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ إِنَّمَا يَضَعُ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ أَوَّلاً وَمَتَى سَكِرُوا فَحِينَئِذٍ الدُّونَ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الْخَمْرَ الْجَيِّدَةَ إِلَى الآنَ " ( يو2/7-10 ) .

 

- 65 -

وفي هذه المعجزة لم يلمسْ المسيح الماء لا قبل تحوُّله ولا بعد تحوُّله إلي خمرٍ جيدةٍ، فقد تمَّت المعجزة وتحوَّل الماء إلي خمرٍ بمجرَّد كلمة الأمر منه " امْلأُوا الأَجْرَانَ مَاءً 000 اسْتَقُوا الآنَ "، وفيما بين هاتَين الكلمتَين تحوَّل الماء، كيميائيًا، وحدث فيه تغيُّرات كيميائيَّة جوهريَّة إلي خمرٍ، أي تحوَّل من مادةٍ إلي مادةٍ أخري مختلفة عنها تمامًا، وهذه ليست مجرَّد معجزة عاديَّة إنما هي عملية خلق، خلق خمر جيدة من مجرَّد ماء عاديَّة. لذا يقول الكتاب أنَّه بهذه " الآية " أظهر يسوع مجده فآمن تلاميذه أنَّه قادر علي كلِّ شيءٍ .

•  وأمر التلاميذ أنْ يلقوا الشباك ثانية بعد أنْ تعبوا الليل كلَّه ولم يصطادوا شيئًا فامتلأت الشباك والسفينة حتي تخرَّقت الشباك وأوشكت السفينة علي الغرق من كثرة السمك " وَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ لِسِمْعَانَ: «ابْعُدْ إِلَى الْعُمْقِ وَأَلْقُوا شِبَاكَكُمْ لِلصَّيْدِ». فَأَجَابَ سِمْعَانُ: «يَا مُعَلِّمُ قَدْ تَعِبْنَا اللَّيْلَ كُلَّهُ وَلَمْ نَأْخُذْ شَيْئاً. وَلَكِنْ عَلَى كَلِمَتِكَ أُلْقِي الشَّبَكَةَ». وَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ أَمْسَكُوا سَمَكاً كَثِيراً جِدّاً فَصَارَتْ شَبَكَتُهُمْ تَتَخَرَّقُ. فَأَشَارُوا إِلَى شُرَكَائِهِمُِ الَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ الأُخْرَى أَنْ يَأْتُوا وَيُسَاعِدُوهُمْ. فَأَتَوْا وَمَلَأُوا السَّفِينَتَيْنِ حَتَّى أَخَذَتَا فِي الْغَرَقِ.

 

- 66 -

فَلَمَّا رَأَى سِمْعَانُ بُطْرُسُ ذَلِكَ خَرَّ عِنْدَ رُكْبَتَيْ يَسُوعَ قَائِلاً: «اخْرُجْ مِنْ سَفِينَتِي يَارَبُّ لأَنِّي رَجُلٌ خَاطِئٌ». سمعان بطرس " ( لو5/4-8 ) .

تعب بطرس ورفقاؤه الليل كلَّه معتمدين علي خبرتهم كصيادين محترفين ولم يكنْ هناك في تلك المنطقة سمك علي الإطلاق، وبناء علي أمر المسيح وكلمته ألقي بطرس بالشبكة، وهنا حضر السمك من أماكن بعيدة جدًا وجاء في لحظات قليلة جدًا وملأ الشبكة، فقد أطاع السمك كلمته وجاء إلي الشبكة. وهذا يدلّ علي معرفة المسيح وعلمه بما هو في باطن البحار، ككلِّيّ العلم، وبقوَّتِه غير المحدودة التي جعلت السمك يتحوَّل في لحظات إلي الشبكة.

•  وأمر تلميذه بطرس أنْ يصطاد سمكة ويفتح فمها ليجد فيه عملة من ذهب ليدفع بها الضريبة " وَلَمَّا جَاءُوا إِلَى كَفْرِنَاحُومَ تَقَدَّمَ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ الدِّرْهَمَيْنِ إِلَى بُطْرُسَ وَقَالُوا: «أَمَا يُوفِي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَيْنِ؟» قَالَ: «بَلَى». فَلَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ سَبَقَهُ يَسُوعُ قَائِلاً: «مَاذَا تَظُنُّ يَا سِمْعَانُ؟ مِمَّنْ يَأْخُذُ مُلُوكُ الأَرْضِ الْجِبَايَةَ أَوِ الْجِزْيَةَ أَمِنْ بَنِيهِمْ أَمْ مِنَ الأَجَانِبِ؟» قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «مِنَ الأَجَانِبِ». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «فَإِذاً الْبَنُونَ أَحْرَارٌ. وَلَكِنْ لِئَلَّا نُعْثِرَهُمُ اذْهَبْ إِلَى الْبَحْرِ وَأَلْقِ صِنَّارَةً وَالسَّمَكَةُ الَّتِي تَطْلُعُ أَوَّلاً خُذْهَا وَمَتَى فَتَحْتَ فَاهَا تَجِدْ إِسْتَاراً فَخُذْهُ وَأَعْطِهِمْ عَنِّي وَعَنْكَ». " ( مت17/24-27 ) .

 

- 67 -

وهنا نراه كالقدير والعالم بكلِّ شيءٍ فقد علم بما دار، بعيدًا عنه، بين بطرس وجامعي الضرائب دون أنْ يكون معهم وقبل أنْ يُخبره بطرس بشيءٍ، وعندما أمر بطرس أنْ يأخذ صنَّارته ويذهب إلي البحر ليصطاد سمكة واحدة أكَّد له أنَّه سيجد في فمها أستارًا، والأستار قطعة نقديَّة تساوي أربعة دراهم، وهو المبلغ المطلوب بالضبط لسداد الضريبة! مما يؤكِّد علمه الكلِّيّ بما في قلب البحار وبطن أو فم السمكة التي في قلب البحر، وأنَّه أمر هذه السمكة، حاملة الأستار، من وسط آلاف الأسماك أنْ تدخل في صنارة بطرس ! وقد تمَّ بالفعل ما قاله وما أمر به ككلَّيّ القدرة.

•  وعندما صعد إلي السماء صعد بذاته، إرتفع لأعلي دون أنْ يحمله أي شيء ماديّ " وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ " ( لو24/51 )، " وَلَمَّا قَالَ هَذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. " ( اع1/9 ). لم يحتاج لا إلي ملاك أو سحاب أو أي وسيلة روحيَّة أو ماديَّة لتصعد به إلي السماء التي جاء منها بقدرته غير المحدودة وعاد إليها بنفس القدرة.

كان يفعل كلّ ما يريد وقتما يشاء متخطيًا كلّ نواميس الطبيعة لأنَّه ربّ الطبيعة، ربّ الكون وخالقه ومُدَبِّرَه.

- 68 -

 

10 ـ المحب الأعظم الذي جاء بشريعة الحب والسلام

 

 

جاء الربّ يسوع إلي العالم بسبب الحبّ كممثل ومعَبِّر عن حبِّ اللّضه غير المحدود للبشريَّة، يقول عنه الكتاب أنَّه، المسيح ، " أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. " ( يو13/1 )، وكانت دعوته هي الحب بكل معانيه وأشكاله، فقال " تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. " ( مت22/37-38 )، " وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. " ( يو13/34 )، " هَذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. " ( يو 15/12 )، " بِهَذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. " ( يو15/17 ). وقد بلغ الحبّ أسمي وأعظم مدي له عندما أوصى قائلاً " أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ " ( مت5/44 ). وهذا ما لم ينادي به أحد سوي المسيح لأنَّه وحده الذي سما فوق الطبيعة البشريَّة وكان أسمي من أنْ يكره أو يحقد أو ينتقم أو يقتل أو يطالب بقتل الأعداء، سواء من عادوه شخصيًا أو من عادوا خدمته علي الأرض، بل أحبّهم فعلاً وعملاً

 

- 69 -

وترفَّق بهم وإلتمس لهم الأعذار كبشرٍ ضعفاءٍ !!

نعم؛ قدَّم الحبّ فعلاً وعملاً وأعطي في ذاته أروع مثالاً للحبِّ عندما وضع ذاته من أجل العالم كلَّه، فهو القائل " لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. " ( يو15/13 ). ولذا فلم يكن جبارًا شقيًا، يقول عنه الكتاب " لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ». " ( مت12/19ـ21 ). كان وديعًا ومتواضعًا " تَعَلَّمُوا مِنِّي لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. " ( مت11/29 ).

لذا لم يحملْ حقدًا ولا ضغينة لأحدٍ ولم يَسِبّْ أحدًا ولم يلعنْ أحدًا ولم يُسيء لأحدٍ لا من أحبائه ولا من أعدائه فقد كان يغفر دائمًا لمضايقيه ومضطهديه وأبلغ مثل لذلك عندما غفر لصالبيه الذين كانوا يدقون المسامير في يديه ورجليه قائلاً " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ " ( لو23/34 ). وعندما جاء اليهود للقبض عليه قطع تلميذه بطرس أذن عبد رئيس الكهنة بالسيف، قال له " رُدَّ سَيْفَكَ إِلَى مَكَانِهِ. لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ! أَتَظُنُّ أَنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الآنَ أَنْ أَطْلُبَ إِلَى أَبِي فَيُقَدِّمَ لِي أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ الْمَلاَئِكَةِ؟ " ( مت26/52-53 ) ،

 

- 70 -

" فَقَالَ يَسُوعُ: دَعُوا إِلَى هَذَا!» وَلَمَسَ أُذْنَهُ وَأَبْرَأَهَا. " ( لو22/51 ). وقد حاول اليهود قتله عدَّة مرَّات وكان في كلِّ مرَّة يجتاز في وسطهم ويمضي دون أنْ يمسُّوه، ومع ذلك لم يمسّهم بشيء بل في كلِّ مرَّة كان يتركهم بسلام " فَقَامُوا وَأَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَِ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَلُ. أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى. " ( لو4/29-30 )، " فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازاً فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هَكَذَا. " ( يو8/59 ).

ولأنَّه المحبّ الأعظم فقد كانت شريعته هي شريعة السلام لا شريعة الحرب والسيف، فقد جاء بالحبِّ والسلام من السماء لذا هتفت الملائكة عند مولده قائلة " الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ " ( لو2/14 )، وكان السلام هو جوهر دعوته، فقد جاء ليعطي السلام للبشرية " سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ. " ( يو14/27 )، فقد كان هو، كما يقول الكتاب " لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ " ( أف2/14 )، أو كما قال هو نفسه " قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ " ( يو16/33 ) .

 

- 71 -

وكان يطلب من تلاميذه أنْ يبشِّروا بالسلام " وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلاَمٌ لِهَذَا الْبَيْتِ. " ( لو10/5 )، لذا قيل عنهم " مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ " ( رو10/15 ). لم يطلبْ منهم أنْ يقدِّموا الإيمان بقوَّة الجيوش ولا بالدمار أو القتل إنَّما بالحبِّ والسلامِ، وقد أعطاهم أروع مثالاً عندما رفضت إحدي قُرَي السامرّيّين دخوله إليها لأنَّه كان متجهًا لأورشليم " فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ تِلْمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا قَالاَ: «يَا رَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ كَمَا فَعَلَ إِيلِيَّا أَيْضاً؟» فَالْتَفَتَ وَانْتَهَرَهُمَا وَقَالَ: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتُمَا! لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ بَلْ لِيُخَلِّصَ ». " ( لو9/54- 56 ).

هل فعل أحد مهما كان مع أصدقائه أو أعدائه ما فعله المسيح؟ كلا، لأنَّ المسيح فقط هو المحبّ الأعظم!!

 

11 ـ المسيح هو الوحيد الذي كان بلا خطية

 

 

كان المسيح هو الشخص الوحيد الذي بلا خطية، يقول عنه الكتاب أنَّه جاء " فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ " ( رو8/3 )، وأنَّه " مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ. " ( عب4/15 )، وأنه " لَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ. " ( 1يو3/5 ).

 

- 72 -

وأنَّه " قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ " ( عب7/26 )، و " الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً " ( 2كو5/21 )، و " الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ " ( 1بط2/22 ).

هو الوحيد الذي ظهر علي الأرض وكان معصومًا من الخطأ، وأنَّه كان طاهراً وبلا خطية، فلم يكن حاملاً للخطية أو وارثًا لها بأي حالٍ من الأحوال. كان جسده خاليًا من الخطية تمامًا. وقال هو نفسه متحديًا معترضيه من اليهود " مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ " ( يو8/46 )، أي من منكم يجرؤ أنْ ينسب لي، أو يقول لي، أنِّي فعلت خطيئةً واحدةً مهما كانت، أو يقول أنَّه رآني أفعل خطيئةٌ واحدةٌ مهما كانت، أو سمع أنَّني فعلت خطيئةً واحدةً مهما كانت. ولم يجرؤ أحد بالفعل أنْ ينسب إليه أنَّه فعل خطيئة علي الإطلاق. قال هذا في الوقت الذي أعلن فيه جميع الرسل والأنبياء أنَّهم خطاه بالفعل أو بالقول؛ قال القديس يوحنا بالروح " إِنْ قُلْنَا إِنَّهُ لَيْسَ لَنَا خَطِيَّةٌ نُضِلُّ أَنْفُسَنَا وَلَيْسَ الْحَقُّ فِينَا. " ( 1يو1/8 ). هو وحده الذي تحدَّي الجميع أنَّه قدُّوس وبار وأنَّه لم يعمل الخطيئة. كان قدوسًا وبارًا برغم أنَّه إشترك معنا في كلِّ ما للبشريَّة من صفاتٍ وخصائصٍ وطبيعةٍ إنسانيَّةٍ ولكن ماعدا الخطيئة لأنَّه كما يقول الكتاب أنَّه جاء " فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ " ( رو8/3 )، وقد أعلن الجميع

 

- 73 -

بالوحي أنَّ المسيح قدُّوس وبار وأنَّ قداسته وبِرَّه تفوق السموات والأرض فقد اجتاز الأرضيَّات وصار أعلي من السموات. قال عنه داود النبيّ بالروح القدس؛ " أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ000 كُرْسِيُّكَ يَا اللهُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. قَضِيبُ اسْتِقَامَةٍ قَضِيبُ مُلْكِكَ. أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلَهُكَ بِدُهْنِ الاِبْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ. " ( مز45/2و 8-9 ).

12 ـ المسيح هو الحي إلى الأبد

 

 

مات المسيح، كإنسانٍ، علي الصليب وكانت أحداث موته عجيبة وغريبة لم ولن تحدث أبدًا عند موت غيره، فقد كان معلقًا علي صليب الموت يتألم كإنسان ولكنه كان يعمل ويتكلَّم كصاحب سلطان علي الكون، ففي شدَّة آلامه كإنسانٍ غفر لصالبيه وكان مهتمًا بالحالة التي ستكون عليها أمَّه العذراء فسلَّمها إلي تلميذه يوحنا ( يو19/26 )، وكان أعجب ما فاه به وهو علي الصليب هو وعده للصِّ التائب بدخول الفردوس، يقول الكتاب " وَكَانَ وَاحِدٌ مِنَ الْمُذْنِبَيْنِ الْمُعَلَّقَيْنِ يُجَدِّفُ عَلَيْهِ قَائِلاً: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» فَانْتَهَرَهُ الآخَرُ قَائِلاً: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هَذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟ أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْلٍ لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ

 

- 74 -

مَا فَعَلْنَا وَأَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ». ثُمَّ قَالَ لِيَسُوعَ: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ». " ( لو23/39ـ43 ). كان معلقا كمذنب ولكنه تصرف كرب الفردوس !

كما رافق موته العديد من العجائب، فقد اختفت الشمس تمامًا مدَّة ثلاث ساعات أثناء صلبه، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، وحجاب الهيكل إنشق، وقام بعض الموتي من قبورهم لحظة موته، يقول الكتاب " وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. 000 وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. وَأَمَّا قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوُا الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ خَافُوا جِدّاً وَقَالُوا: «حَقّاً كَانَ هَذَا ابْنَ اللَّهِ». " ( مت27/45و 51ـ54 ).

وفي اليوم الثالث قام من الموت كما سبق أنْ وعد " أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ وَيُقْتَلَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ. " ( مت21:16 )،

 

- 75 -

" وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ " ( مت20/19 ). قام من الموت في اليوم الثالث وصعد إلي السماء، " وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. " ( لو24/51 )، وسوف يأتي ثانيةً في مجدٍ ليدين الأحياء والأموات " وَلَمَّا قَالَ هَذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِذَا رَجُلاَنِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالاَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هَذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هَكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ». " ( أع1/9ـ11 ). وبالرغم من صعوده إلي السماء فقد وعد أنَّه سيكون مع تلاميذ وكنيسته فعلاً وعملاً علي الأرض " فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلاً: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآبِ وَالاِبْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ». " ( مت28/18-20 ). وكما وعد فقد حقَّق وعده وكان مع كنيسته علي الأرض كما كان في نفس الوقت هو الجالس عن يمين العظمة في السماء " ثُمَّ إِنَّ الرَّبَّ بَعْدَمَا كَلَّمَهُمُ ارْتَفَعَ إِلَى السَّمَاءِ وَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ. وَأَمَّا هُمْ فَخَرَجُوا وَكَرَزُوا فِي كُلِّ مَكَانٍ وَالرَّبُّ يَعْمَلُ مَعَهُمْ وَيُثَبِّتُ الْكَلاَمَ بِالآيَاتِ التَّابِعَةِ. " ( مر16/19ـ20 ).

 

- 76 -

لقد مات جميع الأنبياء ودفنوا ومازالوا يرقدون في قبورهم منتظرين قيامة الأموات. أمَّا المسيح فهو وحده الحيّ إلي الأبد والجالس عن يمين العظمة في السماء لذلك يقول عن نفسه أنَّه الحيّ والذي بيده مفاتيح الحياة والموت " أَنَا هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ، وَالْحَيُّ. وَكُنْتُ مَيْتاً وَهَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ. وَلِي مَفَاتِيحُ الْهَاوِيَةِ وَالْمَوْتِ . " ( رؤ1/17- 18 ).

13 ـ المسيح هو الشفيع الوحيد للبشرية

 

 

يقول القدِّيس يوحنَّا بالروحِ " يَا أَوْلاَدِي، أَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هَذَا لِكَيْ لاَ تُخْطِئُوا. وَإِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ الآبِ، يَسُوعُ الْمَسِيحُ الْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ الْعَالَمِ أَيْضاً. " ( 1يو2/1ـ2 ) . المسيح هو الشفيع الوحيد للبشريَّة لأنَّه البار الوحيد الذي بلا خطيئة والحيّ الوحيد الجالس عن يمين العظمة في الأعالي " مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ الْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً الَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ اللهِ الَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا! " ( رو8/34 )، " فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ. " ( عب7/25 ) . فهو الوحيد الذي دفع ثمن خطايانا " فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ! " ( عب9/14 )،

 

- 77 -

" عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ الْبَاطِلَةِ الَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ الآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ الْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلَكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ " ( 1بط1/18ـ20 ).

هناك إجماع علي أنَّه لا يستطيع مخلوق علي الإطلاق مهما كان أنْ يشفع في البشريَّة أمام اللَّه، لأنَّه لا يُوجد مخلوقٌ واحدٌ لم يخطئ، عدا شخص المسيح وحده الذي لم يجرؤ أحد ولن يجرؤ علي أنْ يقول أنَّه فعل خطيئة، فقد أجمع الكلُّ علي أنَّه الوحيد الذي لم يفعل الخطيئة، بل والوحيد الذي كانت تصرخ منه الشياطين قائلة " مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ ابْنَ اللَّهِ؟ أَجِئْتَ إِلَى هُنَا قَبْلَ الْوَقْتِ لِتُعَذِّبَنَا؟ " ( مت8/29 )، " آهِ! مَا لَنَا وَلَكَ يَا يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ! أَتَيْتَ لِتُهْلِكَنَا! أَنَا أَعْرِفُكَ مَنْ أَنْتَ قُدُّوسُ اللَّهِ! " ( مر1/24 ). ويقول الحديث أنَّ الشيطان عندما يري المسيح يذوب كما يذوب الملح في الماء ! وأنَّ كلّ مولود يستهل صارخًا حين يُولد من نخس الشيطان إيَّاه إلاَّ مريم واِبنها !!

ولأنَّ المسيح هو الوحيد الذي لم يفعلْ خطيئة والوحيد الذي كان يرتعب منه الشيطان، كما أنَّه الوحيد الذي كان في إمكانه أنْ يدفع

 

- 78 -

ثمن خطايا كلّ العالم، لذا فهو الشفيع الوحيد والوسيط الوحيد بين اللَّه والناس " لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ " ( 1تي2/5 ). هو الشفيع الوحيد لكلِّ البشريَّة.

 

14 – المسيح هو الوحيد الذي شهد له الآب علانية من السماء

بالرغم من كلِّ الأعمال التي عملها المسيح أمام الجموع، والتي تميَّز بها وحده دون سائر الكائنات في الكون كلِّه، وكانت تشهد لحقيقة شخصه كالمسيح ابن اللَّه الحيّ الآتي من السماء إلي العالم، فقد شهد له اللَّه الآب علانية أمام الكثيرين من الناس:

(1) في العماد : ولما أعتمد الرب يسوع المسيح يقول الكتاب " وَإِذَا السَّمَاوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ " ( مت3/16 )، " قَدِ انْشَقَّتْ " ( مر1/10 )، " وَنَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ. " ( لو3/22 )، " وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَاوَاتِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ». " ( مت3/17 ). وهنا حدثت ثلاثة أمور ؛ السماء انفتحت أو انشقت، ونزل الروح القدس ظاهرًا " بِهَيْئَةٍ جِسْمِيَّةٍ مِثْلِ حَمَامَةٍ "، وجاء صوت اللَّه الآب يُعلن من السماء " هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ ".

 

- 79 -

(2) في التجلي : وفي حادثة التجلِّي يقول الكتاب أنَّ المسيح أظهر شيئاً من مجده ولاهوته أمام ثلاثة من تلاميذه " أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَلٍ عَالٍ مُنْفَرِدِينَ. وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. "( مت17/1-2 )، " وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدّاً كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذَلِكَ. " ( مر9/3 )، " وَإِذَا رَجُلاَنِ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ وَهُمَا مُوسَى وَإِيلِيَّا اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيداً أَنْ يُكَمِّلَهُ فِي أُورُشَلِيمَ. " ( لو9/30-31 ). وعندما شاهد التلاميذ الربّ والسيِّد في هذا المشهد السمائيّ الروحانيّ الإلهيّ المهيب صاروا في حالة ذهولٍ روحيّ، دهشٍ، وراحوا في غيبوبةٍ روحيَّةٍ، يقول الكتاب " فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُوعَ: «يَا سَيِّدِي جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ هَهُنَا. فَلْنَصْنَعْ ثَلاَثَ مَظَالَّ لَكَ وَاحِدَةً وَلِمُوسَى وَاحِدَةً وَلِإِيلِيَّا وَاحِدَةً». لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مَا يَتَكَلَّمُ بِهِ إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ. " ( مر9/5-6 ). وهنا يقول الكتاب " وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. ». " ( مت5:17 ). " لَهُ اسْمَعُوا " ( لو9/34- 35 ).

 

- 80 -

هذا المشهد الإلهي المهيب يقول عنه القديس بطرس بالروح " لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. " ( 2بط1/16-18 ).

(3) أمام الجموع في أورشليم : في الأسبوع الأخير طلب أناس يونانيّين من تلميذه فيلبُّس أنْ يروا الربّ يسوع المسيح، وهنا قال هو " قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ لِيَتَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ. "، ثم خاطب الآب مناجيًا " أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً». "، يقول الكتاب " فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ. " ( يو121/23 و 28-30 ).

لقد شهد الآب للابن علانيةً أمام الجموع في العماد وفي الأسبوع الأخير وفي حادثة التجلِّي، فهل حدث مثل هذا لأحد غير المسيح ؟ والإجابة؛ كلا. فهل يقول أحد بعد ذلك أن هناك أحدًا ما أو مخلوقًا ما في السماء وعلي الأرض أعظم من المسيح ؟ والإجابة؛ كلا وحاشا !!