إذا كان المسيح إلها فكيف كان يتقدم فى الحكمة والقامة؟

القمص عبد المسيح بسيط أبو الخير

كاهن كنيسة السيدة العذراء الأثرية بمسطرد

 

الفهرس:

كيف كان المسيح يتقدّم في الحكمة والقامة والنعمة؟ وكيف كان يتقوي بالروح ممتلئًا حكمة؟

1. يقول الكتاب المقدس عنه أنه قوة الله وحكمة الله:

2. كما أنه بلاهوته هو المملوء نعمة ومعطي النعمة للجميع:

3. وهو معطي النعمة:

4. وكان الرب يسوع المسيح يتقوي بالروح وهو نفسه القوي ومعطي القوة:

5. كان يتقوي بالروح والروح القدس الذي هو روح الله هو روحه أيضًا:

• يقول القديس أثناسيوس الرسولي:

• يقول القديس كيرلس عامود الدين في رسالة له إلي نسطوريوس:

• ويقول في عظة له عن (لو 2/4-25):

• تعليق لكيرلس عامود الدين:

يقول الكتاب المقدس أنَّ الرب يسوع المسيح كان ينمو ويتقدَّم في الحكمة والمعرفة والنعمة والقامة، أي الجسد، عند الله والناس ؛ " وَكَانَ الصَّبِيُّ (يسوع) يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ مُمْتَلِئاً حِكْمَةً وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ ... وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ." (لو2/40 و 52)، وتنبَّأ عنه أشعياء النبيّ قائلاً " وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ" (اش11/2)، وأيضاً " رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. " (اش61/1). وقرأ الرب يسوع المسيح النبوّة الثانية في مجمع اليهود وأكَّد أنَّها مكتوبة عنه، يقول الكتاب المقدس " وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ حَيْثُ كَانَ قَدْ تَرَبَّى. وَدَخَلَ الْمَجْمَعَ حَسَبَ عَادَتِهِ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَامَ لِيَقْرَأَ فَدُفِعَ إِلَيْهِ سِفْرُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ. وَلَمَّا فَتَحَ السِّفْرَ وَجَدَ الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ مَكْتُوباً فِيهِ: «رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ» ... فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هَذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ»." (لو4/16-21).

والسؤال الآن هو:

كيف كان المسيح يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة؟

وكيف كان يتقوى بالروح ممتلئا حكمة؟

· كيف نما في رحم العذراء القديسة مريم؟ وكيف نما في القامة إذا كان هو اللَّه الذي يُحيط بكلّ شيء ولا يَحُدَّه شيء؟

· كيف تربَّي في الناصرة إذا كان هو خالق كلّ شيء؟

· كيف كان يتقدَّم في النعمة إذا كان هو اللَّه كلِّيّ النعم؟

· كيف كان يتقدَّم في الحكمة إذا كان هو اللَّه كلِّيّ الحكمة والعلم؟

· كيف كان يتقوَّي بالروح إذا كان هو اللَّه واللَّه روح؟

ويوضِّح لنا الكتاب المقدَّس أنَّ المسيح هو كلمة اللَّه الذي هو اللَّه ذاته، بلاهوته، كلمة اللَّه المملوء نعمة وحقًا وقد صار جسدًا:

" وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً. " (يو1/14)، إتّخذ جسدًا، صورة اللَّه الذي هو اللَّه إتّخذ صورة العبد " اَلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. " (في2/6-7)، اللَّه، الكلمة، الذي حلَّ بلاهوته في الناسوت، وتجسَّد الذي "فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً. " (كو2/9)، ظهر في الجسد " عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1تي3/16)، ووُلِدَ من إمرأة في بيت لحم في ملء الزمان، وهو كلِّي الوجود، الموجود في كلّ زمان ومكان، والذي لا يحُدَّه شيء " وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ" (غل4/4).

وكما نقول عنه في قانون الإيمان " نؤمن بربٍ واحدٍ يسوع المسيح ابن اللَّه الوحيد المولود من الآب قبل كلّ الدهور نور من نور إله حق من إله حق مساوٍ للآب في الجوهر، الذي به كان كلّ شيء، هذا الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنَّس ".

ولكنَّه بلاهوته ظلَّ هو هو كلِّيّ الوجود الموجود في كلِّ زمان ومكان لا يَحُدَّه شيء ولا يُحيط به شيء، كما يقول القديس أثناسيوس الرسولي " فلا يتوهمن أحد، أنَّه أصبح محصورًا في الجسد، أو أنَّ كلّ مكان آخر أصبح خاليًا منه بسبب حلوله في الجسد، أو أنَّ العالم أصبح محرومًا من عنايته وتدبيره طالما كان يحرك الجسد ... إنَّه وهو " الكلمة " الذي لا يحويه مكان، فإنَّه هو نفسه يحوي كل الأشياء، وبينما كان حاضرًا في كلِّ الخليقة فقد كان يتميَّز عن سائر الكون في الجوهر، وحاضرًا في كلِّ الأشياء بقدرته، ضابطًا كلِّ الأشياء، ومُظهرًا عنايته فوق كلِّ شيء، وفي كلِّ شيء، وواهبًا الحياة لكلِّ شيء، ولكلِّ الأشياء، مالئًا الكلّ دون أنْ يُحَدَّ، بل كائنًا في أبيه وحده كليًا.

وهكذا حتي مع حلوله في جسد بشريّ واهبًا إيَّاه الحياة، فقد كان يمنح الحياة في نفس الوقت للكون بلا تناقض ... ومع أنَّه كان معروفًا من خلال أعماله التي عملها في الجسد، كان في نفس الوقت ظاهرًا أيضًا في أعمال الكون " [ تجسد الكلمة 17 ].

فهو، المسيح، بعد التجسُّد كان كاملاً في لاهوته وكاملاً في ناسوته، ولأنَّه كان كاملاً في ناسوته فقد نما بالفعل في القامة، الجسم، كإنسان، نما في رحم العذراء كجنين وهو متحد باللاهوت، ووُلِدَ كطفلٍ وهو مُتَّحِد باللاهوت، ونما كطفلٍ وفتي وشابٍ ورجلٍ وهو مُتَّحِد باللاهوت " لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين ". ولكنَّه كابن اللَّه، بلاهوته، لم يكنْ في حاجة إلي نموّ في الحجم لأنَّه كلِّيّ الوجود، الموجود في كل زمان ومكان، ولا في المعرفة لأنَّه كلِّيّ المعرفة والعلم، العَالِم بكلِّ شيء، علام الغيوب، ولا في القوَّة لأنَّه القادر علي كلِّ شيء، كلِّيّ القدرة.

1 - يقول الكتاب المقدس عنه أنه قوة الله وحكمة الله:

" الْمَسِيحِ قُوَّةِ اللهِ وَحِكْمَةِ اللهِ " (1كو1/24)، " الْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ اللهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً. " (1كو1/30)، وأنَّه " الْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ." (كو2/3). بل هو المُعطي فمًا وكلامًا وحكمةّ وقد قال لتلاميذه " لأَنِّي أَنَا أُعْطِيكُمْ فَماً وَحِكْمَةً لاَ يَقْدِرُ جَمِيعُ مُعَانِدِيكُمْ أَنْ يُقَاوِمُوهَا أَوْ يُنَاقِضُوهَا. " (لو21/15). ويقول الكتاب عنه: "لِتَسْكُنْ فِيكُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ. وَكُلُّ مَا عَمِلْتُمْ بِقَوْلٍ اوْ فِعْلٍ، فَاعْمَلُوا الْكُلَّ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ، " (كو3/16-17).

2 – كما أنه بلاهوته هو المملوء نعمة ومُعطي النعمة للجميع:

يقول الكتاب عنه، بعد تجسده، كالمسيح الإله المتجسد:

· " وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ " (لو4/22).

· " وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً ... وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَا وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ. " (يو1/14 و 16).

· " لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا. " (يو1/17).

· وكانت تحيَّة الكنيسة الأولي هي " نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ... مَعَ جَمِيعِكُمْ. آمِينَ " (2كو13/14):

· " نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَكُمْ. آمِينَ. " (رو16/20).

· " فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ." (2كو8/9).

· " نِعْمَةُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ مَعَ رُوحِكُمْ " (غل6/18؛ في1/25).

3 – وهو معطي النعمة:

يقول عنه الكتاب أنَّه الغنيّ والذى يُعطي الجميع من غناه ونعمته. وكلمة نعمة تعني فى اليونانية أيضًا فضل وإحسان ومِنَّّة. والرب يسوع يقدم دائمًا فضله وإحسانه ونعمته تظهر في الضعف. وغِنَي نعمته فائق ولا حدَّ له:

· " فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ." (2كو8/9).

· " فَقَالَ لِي: تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ" (2كو12/9).

· " لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. " (أف 2/7).

· " وَلَكِنِ انْمُوا فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لَهُ الْمَجْدُ الآنَ وَإِلَى يَوْمِ الدَّهْرِ." (2بط 3/18).

فهو الغني بالنعم الذي يُعطي الجميع من نعمه وغناه فهو المُنعم ومصدر النِعم وواهبها. ولكنَّه نمَا في النعمة كإنسان، بناسوته بمعني أنَّه أظهر هذه النعمة بما يتناسب مع الفترة الزمنيّة لتجسُّده وميلاده من العذراء.

4- وكان الرب يسوع المسيح يتقوّي بالروح وهو نفسه القوي ومُعطي القوة:

كان يتقوَّي بالروح كإنسان وذلك علي الرغم من أنَّه هو نفسه بلاهوته القوي، كلِّي القدرة، فهو خالق الكون ومدبره " كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ" (يو1/3)، وهو الذي يُعطي القوَّة للجميع:

· " فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ" (2كو12/9).

· " وَأَنَا أَشْكُرُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا الَّذِي قَوَّانِي" (1 تي 1/12).

· " الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ. ... الَّذِي لأَجْلِهِ اتْعَبُ ايْضاً مُجَاهِداً، بِحَسَبِ عَمَلِهِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيَّ بِقُوَّةٍ. " (كو 1/27 و 29).

· " أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي." (فى4/13).

· " وَلَكِنَّ الرَّبَّ وَقَفَ مَعِي وَقَوَّانِي، لِكَيْ تُتَمَّ بِي الْكِرَازَةُ" (2تى4/17).

فالرب يسوع هو الذى يعمل الأنبياء والرسل بقوته، يعمل فيهم وبهم " لأَنِّي لاَ أَجْسُرُ أَنْ أَتَكَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَسِيحُ بِوَاسِطَتِي" (رو 15/18).

كان في إمكانه أنْ يُظهر علمه الكلِّيّ ومعرفته الكلّيّة وقدرته الكلّيّة ونعمته الغنيّة من بداية ظهوره علي الأرض وفي كل الأوقات والمناسبات ولكنَّه حجب هذه المعرفة وهذا العلم وهذه القوَّة وهذه النعمة بسبب تجسُّده، إتّخاذه الجسد الذي حلَّ فيه وإتحد به، واشترك به في ضعف البشريّة وعجزها فقد كان " مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ." (عب4/15). ومن ثمَّ فقد شاءت إرادته الإلهيّة أنْ يُظهر علمه ومعرفته وقوّته ونعمته للناس تدريجيًا، بطريقةٍ متدرجةٍ ومتطورةٍ ومتفقةٍ مع نموّه الجسديّ.

5- كان يتقوّي بالروح والروح القدس الذي هو روح الله هو روحه أيضًا:

يقول الكتاب المقدس " رُوحِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (في1/19)، " وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِناً فِيكُمْ. وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ فَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ." (رو8/9)، الذي كان في ال " أَنْبِيَاءُ، الَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ النِّعْمَةِ الَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الْمَسِيحِ الَّذِي فِيهِمْ " (1بط1/10-11). كما يوصف أيضًا بروح ابن الله، روح ابنه " ثُمَّ بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ، أَرْسَلَ اللهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخاً: يَا أَبَا الآبُ " (غل4/6).

ولأنَّ الروح القدس هو روح الابن، المسيح، فهو الذي يُرسله من الآب " لَكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي (الروح القدس) وَلَكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ " (يو16/7)، " وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي" (يو15/26).

كان يسوع يتقوى بالروح، كإنسان، وكان الروح القدس هو روحه، كالإله المتجسد، ومن ثمَّ كان يقدِّس هو ذاته كقوله عن تلاميذه، عندما كان يناجي الآب " وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضاً مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ" (يو17/19).

ولذا فعندما حلَّ عليه الروح القدس في المعموديّة قال عنه الآب " هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت 3/17)، وعندما تكلَّم القدِّيس بطرس بالروح عن مسحه بالروح القدس قال أنَّه ربّ الكل وديّان الأحياء والأموات " يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هَذَا هُوَ رَبُّ الْكُلِّ... كَيْفَ مَسَحَهُ اللهُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي جَالَ يَصْنَعُ خَيْراً وَيَشْفِي جَمِيعَ الْمُتَسَلِّطِ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ لأَنَّ اللهَ كَانَ مَعَهُ... وَنَشْهَدَ بِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعَيَّنُ مِنَ اللهِ دَيَّاناً لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. " (أع10/3642). هو ربُّ الكلّ والديّان العادل بلاهوته، ولكنَّه كان يتقوَّي بالروح الذي مُسِحَ به في المعموديّة وتعيّن من قِبَلِ اللَّه كإنسان، الإله المتجسِّد، الكامل في لاهوته والكامل في ناسوته، فقد قدَّس هو ذاته بذاته.

كان هو كلمة اللَّه وحكمة اللَّه، وقوّة اللَّه، كلِّيّ العلم، العالِم بكلِّ شيء والذي لا يُوجد لعِلْمِه حدود، غير المحتاج إلي التقدُّم أو النموّ في المعرفة أو الحكمة، فهو الكامل كمال مطلق والذي منه تستمد البشريّة الكمال النسبيّ، كان كاملاً في لاهوته ولا يحتاج إلي نموّ سواء في العلم أو المعرفة أو الحكمة، وكان في إمكانه أنْ يُظهر هذا العِلْم منذ البداية حتي في لحظة ميلاده وفي كلِّ وقت، كما حاولت بعض الكتب المتأخِّرة نسبيًا (الأناجيل الأبوكريفيّة) أنْ تدّعي ذلك، ولكن بسبب التجسُّد واحتجاب لاهوته في ناسوته حجب هذه المعرفة وهذه الحكمة، وأظهرهما تدريجيًا وبطريقة تتناسب مع النموّ الجسديّ لناسوته. فكلّما نما جسده وتقدَّم في السنّ (العمر) كشف عن شيء من لاهوته بطريقة متدرّجة تتناسب مع هذا النموّ الجسديّ.

كان في إمكانه أنْ يكشف عن عِلْمِه الكلّيّ بمُجرَّد ميلاه بالجسد من القدِّيسة مريم العذراء، فهو الذي " فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً." (كو2/9)، ولكنَّه، بحسب التدبير الإلهي، شاءت إرادته الإلهيّة أنْ يكشف عن ذلك تدريجيًا وبحسب ما يتناسب مع النموّ الجسديّ حتي لا يكشف عن حقيقة ظهوره في الجسد قبل أنْ يتمّ تدبير الفداء. وقد حاول الشيطان أنْ يجعله يكشف عن حقيقة شخصه الإلهي مستخدمًا عبارة " إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هَذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزاً ... نْ كُنْتَ ابْنَ اللَّهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ " (مت4/4 و 6). ولكن الرب يسوع المسيح لم يحقِّق له مأربه أبدًا بل كان يردّ عليه باستخدام عبارة " مَكْتُوبٌ " ؛ "مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ... مَكْتُوبٌ أَيْضاً: لاَ تُجَرِّبِ الرَّبَّ إِلَهَكَ" (مت4/4 و 7).

ويقول القديس أثناسيوس الرسولي

" الكلمة باعتباره الكلمة ليس هو الذي تقدَّم، فهو الكامل من الآب الكامل، وهو لا يحتاج شيئًا بل هو يأتي بالآخرين إلي التقدُّم، ولكن كُتِبَ هنا أنَّه يتقدَّم إنسانيًا، حيث أنَّ التقدُّم هو خاص بالبشر، ولذا فالإنجيلي وهو يتكلَّم بدقَّة وحذر قد ذكر القامة عندما تحدَّث عن التقدُّم، ولكن لكونه الكلمة واللَّه فهو لا يُقاس بالقامة، التي تخصّ الأجساد، إذًا فالتقدُّم هو للجسد، لهذا ففي تقدُّمِه كان يزداد أيضًا ظهور اللاهوت أكثر فأكثر كلما ازدادت نعمته كإنسان أمام كلِّ الناس، فهو كطفلٍ حُمل إلي الهيكل، وحينما صار صبيًا بقي هناك في الهيكل وكان يسأل الكهنة حول الناموس. وكان جسده ينمو شيئًا فشيئًا والكلمة كان يُظهر نفسه فيه (في الجسد) ... أنَّ التقدُّم في الحكمة، ليس هو تقدمًا للحكمة ذاتها، لكن بالأحري هو تقدُّم للناسوت في الحكمة لأنَّ يسوع " كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ " ... لأنَّه هكذا بازدياد الجسد في القامة كان يزداد فيه ظهور اللاهوت أيضًا ويظهر للكل أنَّ الجسد هو هيكل اللَّه، وأنَّ اللَّه كان في الجسد ... وكما قلنا، أنَّه تألَّم بالجسد، وجاع بالجسد، وتعب بالجسد، هكذا يكون معقولاً أيضًا أنْ يُقال أنَّه تقدَّم بالجسد لأنَّ أيّ تقدُّم مثل الذي شرحناه لا يمكن أنْ يحدث للكلمة بدون الجسد. لأنَّ فيه كان الجسد الذي وهو يدعوه جسده، وذلك لكي ما يظلّ تقدُّم البشر مستمرًا ولا يضعف، بسبب وجود الكلمة في الجسد. أذًا، فالتقدُّم ليس للكلمة كما أنَّ الجسد لم يكن هو الحكمة، ولكن الجسد صار جسد الحكمة، لذلك فكما سبق أنْ قلنا ليست الحكمة كحكمة هي التي تقدَّمت في ذاتها، ولكن الناسوت هو الذي تقدَّم في الحكمة، بأنْ يرتفع شيئًا فشيئًا فوق الطبيعة البشريًة وبأنْ يتألَّه ويصير ظاهرًا للجميع كأداة الحكمة لأجل عمل اللاهوت وإشراقه. لذلك فالبشير لم يقل: " أن الكلمة تقدم "، لكن " يسوع " وهو الاسم الذي دُعي به الربّ عندما صار إنسانًا حتي يكون التقدم هو للطبيعة البشريّة. [ ضد الأريوسيين 3: 51-53 ]

ويقول القديس كيرلس عامود الدين في رسالة له إلى نسطوريوس:

" لو أنَّه أبان وهو طفل من الحكمة ما يليق به كإنسان، لظهر للجميع كأنه كائن غريب شاذ عن الجميع. ولكنه كان يتدرَّج في إظهار حكمته بالنسبة إلي تقدُّمه في العمر بحسب الجسد. وهكذا أراد أنْ يظهر للكل كأنَّه هو نفسه كان يزداد في الحكمة بما يتلاءم مع سنه 00 ففي تأكيدنا أنَّ ربنا يسوع المسيح هو أحد، وفي نسبتنا له خواص اللاهوت والناسوت نؤكِّد حقيقة أنَّه ملائم لقياسات تواضع المسيح حتي أنَّه قبل زيادة جسدية ونمو في الحكمة. فأعضاء الجسد كانت تصل بالتدريج إلي تمام بلوغها، ومن جهةٍ ثانيةٍ يظهر كأنَّه امتلأ حكمة بنسبة ظهور الحكمة الكامنة فيه كأنها تبرز بدرجة ملائمة لنمو الجسد ... فهو يعرف من جهة اللاهوت لأنَّه حكمة الآب ولكنه إذ أخضع نفسه إلي القياس الناسوتي إتّخذ لنفسه بحسب التدبير ذلك القياس. ولم يكنْ كما قلت سابقًا يجهل شيئًا لكن يعلم كلّ شيء كما يعلم الآب. [ مجموعة الشرع الكنسي ص 314؛ تاريخ الفكر المسيحي القس يوحنا الخضرسي ج3: 130 ].

ويقول في عظة له علي (لو 2/452):

" أنْ يُقال أنَّ " الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ مُمْتَلِئاً حِكْمَةً وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ "، هذا الكلام ينبغي أنْ يُؤخذ علي أنَّه يُشير إلي طبيعته البشريّة، وأرجو أنْ تفحصوا في عمق التدبير: فالكلمة يَحتمل ويقبل أنْ يُولد في صورة بشريّة، رغم أنَّه في طبيعته الإلهيّة ليس له بداية وليس خاضعًا للزمن. والذي هو إله كامل تمامًا من كل ناحية، فإنَّه يخضع للنموّ الجسديّ، وغير الجسديّ، صارت له أطراف تنمو مع نموّ بشريّته والذي هو نفسه الحكمة كلها يمتلئ بالحكمة. وماذا نقول عن هذا؟ فإنَّ الذي كان في صورة الآب قد صار مثلنا، والغني أخذ صورة الفقر، والعالي أخذ صورة الاتضاع، والذي له الملء يثقال عنه أنَّه ينال ويأخذ. وهكذا لأنَّ الله الكلمة نفسه أخلي نفسه! لأنَّ كلّ الأشياء التي كُتبت عنه كإنسان تُظهر طريقة إخلائه. لأنَّه كان أمرًا مستحيلاً بالنسبة للكلمة المولود من اللَّه أنْ يسمح بمثل هذه الأشياء أنْ تكون في طبيعته الخاصّة. ولكن حينما صار جسدًا أي صار إنسانًا مثلنا، فإنَّه حينئذ وُلد بالجسد من امرأة. وقيل عنه أنَّه كان خاضعًا للأمور التي تختصّ بحالة الإنسان، وبرغم أنَّ الكلمة لكونه إله كان يستطيع أنْ يجعل جسده يبرز من البطن في قامة رجل ناضج مرةً واحدةً، إلاَّ أنَّ هذا يكون أعجوبة ومعجزة، ولذلك فإنَّه أعطي لعادات وقوانين الطبيعة البشريّة أنْ يكون لها سلطان علي جسده.

لذلك لا تعثروا في أنفسكم حينما تقولون كيف أنَّ الله ينمو؟ وكيف ينال حكمة جديدة ذلك الذي يعطي النعمة للملائكة والبشر؟ فتأمّلوا السر العظيم الذي يُعطي لنا. لأنَّ البشير الحكيم لم يقدّمْ الكلمة في طبيعته المجرّدة غير الجسديّة ولم يقلْ عنه وهو في هذه الحالة أنَّه يزداد في القامة والحكمة والنعمة، ولكنّه بعد أنْ أوضح أنَّه قد وُلد في الجسد من امرأة وأخذ شكلنا، فحينئذ ينسب إليه هذه الخصائص البشريّة، ويدعوه طفلاً ويقول أنَّه كان يتقوّي في القامة، إذ أنَّ جسده نما قليلاً قليلاً خاضعًا للقوانين الجسديّة.

وهكذا أيضًا قيل عنه أنَّه كان يتقدَّم في الحكمة، لا كمن ينال مؤونات جديدة من الحكمة لأنَّ اللَّه معروف بأنَّه كامل تمامًا في كلِّ شيء ولا يمكن بالمرة أنْ يكون ناقصًا في أيّ صفة مناسبة للاهوت بل ازدياده في الحكمة هو بسبب أنَّ الله الكلمة أظهر حكمته بالتدريج بما يُناسب مرحلة العمر التي يبلغها الجسد.

إذًا فالجسد يتقدَّم في القامة والنفس تتقدَّم في الحكمة، لأنَّ الطبيعة الإلهيّة غير قابلة للازدياد لا في القامة ولا في الحكمة إذ أنَّ كلمة اللَّه كامل تمامًا. ولذلك فإنَّه لسببٍ مناسبٍ ربط بين التقدُّم في الحكمة ونموّ القامة الجسديّة، بسبب أنَّ الطبيعة الإلهيّة أعلنت حكمتها الخاصّة بما يتناسب مع قامة النموّ الجسديّ " [ تفسير إنجيل لوقا الجزء الأول ].

ومع ذلك فقد كان الربّ يسوع حتي وهو طفل في الثانية عشر من عمره، بالجسد، أكثر فهمًا وعلمًا من كبار الشيوخ والعلماء وكل من كانوا حوله، يقول الكتاب ؛ " وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ (يوسف ومريم) فِي الْهَيْكَلِ جَالِساً فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: «يَا بُنَيَّ لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» فَقَالَ لَهُمَا: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. " (لو2/46-50). لقد كانت حقيقة ذاته أكبر من أنْ يعرفها مجرد بشر حتي عندما كان طفلاً بالجسد.

يقول القديس كيرلس الإسكندري تعليقا على ذلك:

" هنا يذكر لأوّل مرّة علانية من هو أباه الحقيقيّ، ويُعلن عن لاهوته هو نفسه، لأنَّه حينما قالت العذراء القدِّيسة: " يَا بُنَيَّ لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ " فحينئذ في الحال أظهر نفسه أنَّه يفوق قامة الأشياء البشريّة، وعلمّها أنَّها قد صارت أداة للتدبير بولادته بالجسد، ولكنّه بالطبيعة والحقيقة هو إله وابن الآب الذي في السماء. ولذلك يقول " أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي " [ تفسير إنجيل لوقا ج1: ص 54 ].

الصفحة الرئيسية