حرية الدين لأهل الذمة:

 

من حيث المبدأ يعلن الفقه الإسلامي أن الإسلام لا يبالي إن كان الذمي مطيعاً لدينه أو غير مطيع. فللذمي أن يعتنق الإسلام أو ديانة أخرى عند أبي حنيفة والإمام مالك. يقول فقهاء آخرون إن الذمي لا يجوز أن يترك دينه إلا إذا أراد اعتناق الإسلام? وإلا شأنه شأن المرتد? فيعاقب إما جلداً أو حبساً أو نفياً كما يقول الشافعي وابن حنبل وذلك بحجة الآية: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوارة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم (المائدة 68). ويُنسَب لأحمد بن حنبل أن ارتداد امرء من اليهودية إلى الصابئية يختلف عن اهتداء امرء من الصابئية إلى اليهودية وكذلك يجوز ارتداده عن اليهودية إلى النصرانية? بينما يلقى الذمي المهتدي إلى الإسلام عقاب ما يعاقب به المسلم المرتد إذا مرق من الإسلام.

يدرس محمد أبو زهراء في مؤلفه العقوبة وضع المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام لأغراض معينة مثل الطلاق من زوج مسيحي أو الرغبة في الزواج من مسلمة. اهتداءات من هذا القبيل نراها مشكوكاً في أمرها. إن ذمياً اهتدى إلى الإسلام ولم يقم بما يترتب عليه من واجبات ولا يبالي بما يقوله الإسلام? لا يُعتبر في عداد المسلمين? ويجري عليه عقاب المرتد بدون هوادة ردعاً من التلاعب بالإسلام وعقائده.

 

الطفل غير البالغ (أو غير الحالم):

هو يتبع ديانة والديه. إن كانا من ديانتين مختلفتين فلأفضلهما. هذا يتناقض مع قول الفقهاء بأن الكفر ملة واحدة. إذا اهتدى أحد الأبوين إلى الإسلام فالطفل مسلم. باستثناء الأمة لذمي حر اهتدت إلى الإسلام? فيتبع الولد في هذا الحال دين أبيه? غير أن الزواج يُلغى حفظاً لشرف المسلمة.

 

اللقيط:

إذا وُجد طفل في بلد إسلامي يعتبر مسلماً? أو يُنسب إلى أهل الذمة إذا وُجد في محل غير مسكون من المسلمين. وإذا وُجد بمقربة من صومعة أو معبد يهودي في قرية سكانها غير المسلمين فيعود إلى ديانة الذميين عند أبي حنيفة والشافعي (الأحكام الشرعية في الأحكام الشخصية للأسرة الإسلامية بيروت? ص 200-202) (الأحكام الشخصية للأسرة الإسلامية? زكريا البري? القاهرة).

إذا اعتبر الولد مسلماً ورُبّي وفق الشرع الإسلامي وانكر إسلامه بعد وصوله سن البلوغ? يقتل قتل المرتد عند مالك وابن حنبل والشيعة وبعض الشافعية. إن اعتبر اللقيط مسلماً لا يجوز تسليمه لذمي من أجل الحضانة. وإذا اختلف مسلم مع ذمي في نسب اللقيط فيعود الولد للمسلم.

 

التعليم:

يجوز للذميين أن يعلّموا أولادهم وأتباع دينهم عقائدهم الدينية? غير أن الفقهاء اختلفوا فيما يجوز لهم تعليم الديانة الإسلامية. لقد أباح أبو حنيفة بالإشارة إلى القرآن ( 16:125) بينما يحرم مالك على المسلمين حتى تعليم اللغة العربية لأهل الذمة.

حرية الدين والعبادة:

اتفق الفقهاء بأن لأهل الذمة حق القيام بواجباتهم الدينية والعبادية بشرط ألاّ يغادروا معابدهم من أجل العبادة? ولا يثيروا شكوكاً في شوكة الإسلام. لكن الصعوبة في تعيين المقصود من هذه العبارة الغامضة (أي إثارة الشك في شوكة الإسلام) أدت إلى خلافات عديدة بين الفقهاء? الذين منعوا تارة دق النواقيس بتاتاً وجوَّزوه تارة أخرى? أو إذا رخصوا به اختلفوا في المواعيد. ما يتصل بالقداس الديني فهناك اتفاق بين الفقهاء على أنه لا تجوز الصلاة لأموات المشركين (84:9). إذا تعلق الأمر بوفاة امرأة مسلم وهي حامل فهنا خلاف طويل? يقول البعض بجواز دفنها في مقبرة للمسلمين? والبعض الآخر بوجوب دفنها في مقبرة النصارى. هنا أريد أن أذكر طرفاً من الآراء الطريفة التي ينقلها إلينا الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية (691-751) في كتابه أحكام أهل الذمة:

 

الكافرة تموت وفي بطنها طفل مسلم:

قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول في امرأة نصرانية حملت من مسلم فماتت وفي بطنها حَمْل من مسلم? فقال: يُروى عن واثلة: تُدفن بين مقابر المسلمين والنصارى. وقال حنبل في موضع آخر: قلت: فإن ماتت وفي بطنها ولد منه? أين ترى أن تدفن? قال: قد قالوا: تُدفن في حجرة من قبور المسلمين. قال أبو داود: سألت أحمد عن النصرانية تموت حبلى من مسلم? قال: فيها ثلاثة أقاويل? وقال: أرى أن تدفن ناحية من قبور المسلمين? لو كانت مقبرة على حدة! قلت ما الذي تختار? فذكر قوله هذا. وقال اسحاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله: المرأة النصرانية إذا حملت من المسلم فماتت حاملاً? قال: حديث واثلة. وقال الفضل بن زياد: سمعت أحمد. وسئل عن المرأة النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم? قال: فيها ثلاثة أقاويل: يُقال تُدفن في مقبرة المسلمين? ويقال في مقابر النصارى. قال الفضل بن زياد: وقال أبو الحارث: قال سمرة: تُدفن ما بين مقابر المسلمين والنصارى قيل له: فما ترى? قال: لو كان لهؤلاء مقابر على حدة ما كان أحسنه! قال الخلال: أخطأ أبو الحارث في قوله: سمرة? إنما هو واثلة. وقال أبو طالب: سألت أحمد عن أم ولد نصرانية في بطنها ولد مسلم? قال. تدفن في ناحية? ولا تكون مع النصارى لمكان ولدها? ولا مع المسلمين فتؤذيهم. وقال المروذي: سألت أبا عبد الله عن النصرانية? يكون في بطنها المسلم? فتبسم وقال: ما أحسن أن تدفن بين مقبرتين! يعني مقابر المسلمين والنصارى. قال المروذي: وكأن كلام أبي عبد الله أنه لا يرى باساً أن تدفن في مقابر المسلمين (من أجل) الذي في بطنها. وسئل أيضاً: ما تقول في النصرانية تموت وفي بطنها ولد مسلم أين تدفن? قال: فيها ثلاثة أقاويل? عن عمر: تدفن مع المسلمين? وعن واثلة: تدفن بين مقابر المسلمين والنصارى? وذكر آخر أنها تدفن مع النصارى. قال: أعجب إلىَّ أن تدفن بينهما. قلت: فإن لم يوجد إلا مقابر المسلمين? فتبسم ولم يكرهه.

قلت: أما أثر واثلة فقال ابن أبي شيبة: حدثنا جعفر بن عون عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن واثلة بن الأسقع في امرأة نصرانية? في بطنها ولد من مسلم? قال: تدفن في مقبرة بين مقابر المسلمين والنصارى. وأما أثر عمر فقال: حدثنا سفيان بن عيينة عن عمر قال: ماتت امرأة بالشام وفي بطنها ولد من مسلم وهي نصرانية? فأمر عمر أن تدفن مع المسلمين من أجل ولدها. قالوا: ويكون ظهرها إلى القبلة على يسارها? لأن وجه الجنين إلى ظهر أمه? فيكون حينئذ وجهه إلى القبلة على جنبه الأيمن. قال أبو عبد الله بن حمدان في رعايته : دفنت منفردة كالمرتد.

قلت: ووجه هذا أنه لم يثبت له حكم الدين الذي انتقل إليه من التوارث والموالاة? ودفعه إلى الكفار يتولونه? وقد زال حكم الدين الذي كان عليه? فيدفن وحده. ولأصحاب الشافعي في الذمية تموت وفي بطنها ولد مسلم أربعة أوجه أصحها ما ذكرناه? والثاني: تدفن في مقابر المسلمين. قال أصحاب هذا الوجه: وتكون للولد بمنزلة صندوق مودع فيه? والثالث: تدفن في مقابر أهل دينها? لأن الحمل لا حكم له يثبت أحكام الدنيا من غسله والصلاة عليه وغيرها? فلم يثبت له شيء من أحكام أموات المسلمين? فتفرد بهذا الحكم وحده? والرابع: أنها تدفن في طرف مقابر المسلمين.

 

الوضع القانوني للمعابد في الفقه:

على ما يبدو هناك اتفاق بين الفقهاء على الوضع القانوني للمعابد. يمكننا أن نختصر الأحكام المتفق عليها كما يلي:

1- لا يجوز بناء معابد للذميين في المواضع الإسلامية أو المحيط المجاور لها. الرخصة في هذا المجال تمنح فقط كحالة استتثنائية إذا تأكد الإمام أن بناء الكنائس والمعابد اليهودية تخدم مصلحة المسلمين.

2- يجوز تعمير وتعديل المعابد المتضررة? وإعادة بناء الكنائس والمعابد المتهدمة عند مالك والشافعي وأبي حنيفة? غير أنه يشترط أن تتواجد تلك المعابد في موضع عُقد معه عهد الصلح.

3- أما الحنابلة وبعض الشافعية فيذهبون إلى أنه لا يجوز بناء المعابد ولا الصوامع? ولا يجوز ترميم ما انهدم منها في بلاد المسلمين. ويرجع أبو حنيفة الحكم في ذلك إلى عمر بن الخطاب (كتاب الخراج ص 127: ? القاهرة 1934)

الصفحة الرئيسية