جواب على تساؤلات مسلم :  هل الكتاب المقدس محرّف؟ !

جواب على تساؤلات مسلم :  هل الكتاب المقدس محرّف؟ !

جوزيف حزبون

لماذا هذا المقال؟

            يتعرض الكثير منا لأسئلة حول الدين المسيحي والإيمان بالمسيح. وعندما نحاول الردّ عليهم من الكتاب المقدس بعهديه القديم (التوراة) والجديد (الإنجيل)  يتهمنا المسلمون بأن كتابنا محرَّف. وقد وصل الحد ببعضهم إلى قوله: »تعرّضت الكتب السماويّة السابقة )للقرآن( كلّها إما للضياع التام أو للتحريف والتبديل والتغيير«.  بهذا التصريح غير المسؤول يرفضون كلّ جواب على تساؤلاتهم وادّعاءاتهم.  وعليه نريد في هذا المقال أن ننظر في شأن كتابنا إن كان محرّفا أم لا وذلك باستخدام دليل يقبله أخواننا المسلمون.  وهذا الدليل هو القرآن والحديث أيضا متى لزم الأمر.

            هنالك آيات كثيرة تذكر التوراة والإنجيل في القرآن تزيد على الستين آية.  لن ننظر في جميعها بل سنستعرض بعضها لإيضاح الفكرة والإتيان بالبرهان القاطع.  أما الآيات الأخرى فسنذكر موقعها في القرآن وذلك ليتحقق مِنْها مَنْ تبقى لديه بعض الشك.  سنعالج الموضوع في عدة نقاط هي: .1 هل تمّ التحريف قبل المسيح أم بعده، .2 هل تم التحريف قبل محمد أم بعده، .3 ماذا تقول الآيات التي تتحدث عن تبديل في آيات الله وما المقصود منها؟

أولا: هل تمّ التحريف قبل المسيح؟

والحديث هنا طبعا عن التوراة، أي بمفهومنا نحن المسيحيين، عن العهد القديم.

            »إنّي قَدْ جِئْتُكُمْ .... مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فاتَّقوا الله وأطيعونْ« )آل عمران، 49-50(.

            »وَإذْ قالَ عيسى ابن مَرْيَمْ يا بَني إسرائيلْ إنّي رَسولُ الله إلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراة« )الصف، 5(.

            »وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ« )المائدة، 46).

            هذه الآيات جميعا، بالإضافة إلى الآيات التي نورد موقعها فيما يلي، تقرّ وبصريح العبارة أنَّ التوراة كانت سليمة من التحريف أيام المسيح وإلا لما دُعي المسيح إلى التصديق على ما بين يديه من التوراة إن كانت محرفة.

آيات أخرى: مريم، 12؛ آل عمران، 48؛ المائدة، 110 وأيضا 113-.114

 ثانيا: التوراة والإنجيل سليمة من التحريف أيام محمد

            »نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأنْزَلَ التَّوراةَ وَالإنْجيلْ« )آل عمران، 3(.

            »وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ موسى إماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبيّا« )الأحقاف، 12(.

            »وَإذْ قيلَ لَهُمْ آمِنوا بِما أَنْزَلَ الله قالوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَينا وَيَكْفُرونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ« )البقرة، 91(.

            »وَلا تُجادِلوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلا بِالَّتي هِيَ أَحْسَنْ إلاَّ الَّذينَ ظَلَموا مِنْهُمْ وَقولوا آمَنّا بِالَّذي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمونَ« )العنكبوت 46(.

            »وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا« )فاطر، 31(.

                        »وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ« )المائدة ، 43(.

آيات أخرى: سبأ، 31؛ يونس، 37؛ يوسف، 111؛ الأنعام، 154-157؛ المؤمن، 69-70، الأحقاف، 12، 29-30؛ النساء، 162-163؛ التوبة، 111؛ المائدة، .51

نستخلص من هذه الآيات بدون أدنى شك أن التوراة والإنجيل كانا سليمين من التحريف أيام محمد. ونلاحظ هنا التشديد في الآيات على صيغة "مصدقا لما بين يديه" وهي صيغة في الحاضر أيام محمد.  وبالتالي فالقرآن يشهد بوجود التوراة والإنجيل في نسخ سليمة من التحريف والتبديل بين يدي محمد.

بالإضافة إلى كلّ هذا، هنالك أيضا آيات يستشهد فيها النبي من التوراة والإنجيل ويشير إليهما كمرجع أمين على صدق رسالته.

            »أفرأيتَ الَّذي تَوَلّى وَأعطى قليلاً وأكْدى أعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يرى أمْ لَمْ يُنَبّأ بِما في صُحُفِ موسى وَإبْراهيمَ الَّذي وَفَّى« )النجم، 33-38(.

            »فَإنْ كُنْتَ في شَكٍ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَاسْألِ الَّذينَ يَقْرَأُوانَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ..« )يونس 94(.

            »وَما أرسَلْنا قَبْلَكَ إلا رِجالاً نُوْحي إلَيْهِمْ فَاسْألوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمون« )الأنبياء، 7(.

            »وَلَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِباديَ الصَّالِحون«)الأنبياء 105( - وفي هذا إشارة واضحة إلى سفر مزامير داؤود )الزَّبورَ) حيث تقول: »وَالأبْرارُ يَرِثونَ الأَرْضَ وَيَسْكُنونَها لِلأَبَد« )مز 37 ،  29(.

            »وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُوْنِ الرَّحْمانِ آلِهَةً يُعْبَدون« )الزخرف 44(. وقال جلال الدين البيضاوي ويوسف علي في تفسير الآية: اسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أي اسأل أتباعهم أولئك المتعلمون في كتاباتهم وتعاليمهم.  تلك التعاليم والكتابات كانت بين أيديهم في تلك الأيام.

            »تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغونَ فَضْلَ الله وَرِضْواناً سيماهُمْ في وَجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجودِ ذَلِكَ مَثَلَهُمْ في التَّوْراةِ وَمَثَلَهُمْ في الإنْجيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَأَزَرَهُ فَاسْتَغاظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ« )الفتح 29(.  وفي هذه الآية إشارة واضحة واقتباس من الإنجيل المقدس الذي يروي لنا: »مَثَلُ مَلَكوتِ الله كَمَثَلِ رَجُلٍ يُلْقي البَذْرَ في الأرْضِ. فَسَواءٌ نامَ أمْ قامَ لَيْلَ نَهار، فَالبَذْرُ يَنْبُتُ وَيَنْمي، وَهوَ لا يدْري كَيْفَ يَكونُ ذَلِك. فَالأرْضُ مِنْ نَفْسِها تُخْرِجُ الْعُشْبَ أوَّلا، ثُمَّ السُّنْبُلَ، ثُمَّ القَمْحَ الَّذي يَمْلأُ السُّنْبُلَ« )مرقس 4 ، 24-28(.

            »وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ ....« )المائدة، 45( وفي هذه اقتباس مباشر من التوراة: »وَإنْ تأتي ضَرَرْ فَعَيْنٌ بِعَيْن وَسِنّاً بِسِن وَيَداً بِيَدْ وَرِجْلاً بِرِجْل« )الخروج 21 ، 23-24(.

            »إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ«  )الأعراف 40( وهي اقتباس من إنجيل متى 19 ، 24: »إنَّ مرورَ جَمَلٍ في ثَقْبِ إبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إلى مَلَكوتِ الله«. ومثلها في مرقس 10 ، 25 ولوقا 18 ، .25

آيات أخرى:  الشعراء، 192-197؛ طه، 133؛ النحل، 43-44؛ الإسْراء، 101 وأيضا 107-108؛ الرعد، 43؛ الأعراف، 156-157 وأيضا 168-170؛ البقرة، 113؛ آل عمران 23 و 79 وأيضا 93-94؛ النساء 60؛ المائدة، 48 و50 و .68

جميع هذه الآيات تتحدث بصيغة الحاضر حين تستشهد بالتوراة والإنجيل وتتحدث عنهما. ومراد الحديث أن التوراة والإنجيل كانت في نسخ سليمة من كل تحريف أيام محمد، عرفها واستشهد بها واقتبس من آياتها.

            بعد هذا الذي ذكرنا حتى الآن تتضح لنا الحقائق التالية: أنَّ التوراة كانت سليمة من التحريف أيام المسيح وأنَّ التوراة والإنجيل كانت سليمة من التحريف أيام محمد وقد استشهد بها واقتبس منها.  بل ويخبرنا القرآن أنّ من لا يقبل هذه الكتب ولا يؤمن بها سوف يُعاقَب في الآخرة عقابا شديدا كما في سورة غافر 53 و54 و70 و71 و.72  وفي سورة آل عمران 23: »أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ« . ويقول البيضاوي أن سبب نزول هذه الآية  "أن محمد دخل مدارس اليهود فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد: على أي دين أنت؟ فقال : على دين إبراهيم. فقال له: إبراهيم كان يهوديا. فقال: هلموا إلى التوراة فإنها بيننا وبينكم. فأبيا. فنزلت.  وقال: الداعي محمد وكتاب الله هو التوراة".  فهذه الآية إذن تبيّن جليّا أن التوراة كانت في زمن صاحب القرآن ولثقته بها سماها كتاب الله وطلب من خصومه أن تكون حكما بينهم.

            فالسؤال هنا: بما أنَّ التوراة والإنجيل غير المحرفين قد وُجدا أيام محمد وكانت عنده، أيعقل أنهم لم يحتفظوا بنسخ سليمة إذا تم التحريف بعد محمد؟ لصالح مَنْ مِنَ الفرق تم تحريف التوراة والإنجيل.  فنحن نعلم أن كان خلاف بين النصارى واليهود كما يشهد القرآن: »وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ  الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ  يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  )البقرة 113(.  إذا قام اليهود بالتحريف لكان النصارى كشفوهم لأنّ النصارى يحتفظون بالتوراة وقد ترجموها إلى عدة لغات محفوظة النسخ الأصلية منها في أنحاء كثيرة من المتاحف في العالم. وإذا تم التحريف لصالح النصارى لقام عليهم اليهود.  ثم لصالح مَنْ مِنَ الفرق المسيحيّة تمّ التحريف وقد اختلفت النصارى إلى فرق وبدع عديدة انتشرت في مختلف أرجاء المعمورة، وكلّ فرقة منها بين يديها إنجيلا وتوراة أصلية.  وأخيرا، إن كان ثمّة تحريف فلمَ لا يأتونا بالدليل ويقارنوا بين الأصل الذي كان وبين ما حُرِّفَ وبُدِّل.  ولكن في الحقيقة، جميع كتب التوراة والإنجيل التي اكتشفت في جميع أنحاء المعمورة هي نسخ متطابقة تماما عن الأصل. وخير دليل على صحة ما نقول مخطوطات التوراة التي اكتُشِفَت في قمران عام 1947  قرب البحر الميت.  وهي مخطوطات تعود إلى جماعة عاشت في قمران حوالي القرن الثاني قبل الميلاد واندحرت مع دمار الهيكل عام 70 ميلادي.  فالحديث إذن عن مخطوطات خبئت منذ القرن الأول الميلادي ولم تطّلع عليها عين إنسان حتى منتصف القرن الماضي. هذه المخطوطات، بعد فحصها من قبل المختصين والعلماء، جاءت نسخة طبق الأصل من مخطوطات التوراة التي بين أيدينا ودليل قاطع على عدم تحريف كتابنا.

 أما وقد قلنا الذي قلناه، فلننظر الآن في الآيات التي يدعي المسلمون أن القرآن يتحدث فيها عن تبديل وتحريف.

 ثالثا: آيات تتحدث عن التحريف والتبديل وتقسم إلى قسمين: .1 آيات تتحدث عن إخفاء اليهود لآيات ورفضهم للقرآن و 2: آيات تتحدث عن تحريف.

.1 إخفاء اليهود لآيات التوراة ورفضهم للقرآن:

            »وما قَدَروا الله حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالوا ما أَنْزَلَ الله عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذي جاءَ بِهِ موسى نوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلونَهُ قَراطيسَ تُبْدونَها وتُخْفونَ كَثيراً  وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَموا أنْتُمْ وَلا آباؤكُمْ قُلِ الله ثُمَّ ذَرْهُمْ في خَوْضِهِمْ يَلْعَبون« )الأنعام، 91(

فَالحديث هنا كما هو واضح ليس عن تغيير في التوراة بل عن اليهود الذين نقلوا أجزاء من التوراة على ورق وقدموه للنبي بينما أخفوا التوراة الأصلية عنه وهي محفوظة عندهم. فهم يخفون عن النبي أجزاء ويُظهرون أجزاء أخرى، يقبلون بعضه ويرفضون البعض الآخر.   هذا ما نجده في البقرة، 40-44 ، 85 ، 89-90 ، 97 ، 140 ، 146 ، 159 ، و.174   طائفة من اليهود حاولت إخفاء التوراة عنه: آل عمران، 69-71؛ .75  لكن طائفة من أهل الكتاب لا ترضى أن تخفي الحقيقة بل تشهد لها: آل عمران، .199

            »وَلَقَدْ أَتَيْنا موسى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإنَّهُمْ لَفي شَكٍ مِنْهُ مُريبْ« )هود، 110(. الحديث هنا عن كيف اختلف اليهود في أمر التوراة ونزل بهم الشك ولكن لم يحدث تبديل.

 .2 الآيات التي تتحدث بالتحديد عن "تحريف".

هناك في القرآن أربع آيات يتّهم فيها القرآن اليهود بأنّهم حرّفوا أو بدّلوا في الكلمات أو أنهم بدلوا لسانهم وهم يقرأون فلنفحصها واحدة واحدة بحسب النصوص التي وردت فيها.

أ. آل عمران، 78:»وَإنَّ مِنْهُمْ لَفَريقاً يَلْوونَ ألْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقولونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ الله وَيَقولونَ عَلى الله الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمون«.

يُتَّهَمُ أهلُ الكتاب في هذه الآية بلوي اللسان عند قراءتهم الكتاب.  أي أن القارئ يغيّر في القراءة بينما هو يقرأ التوراة.  فالحديث واضح هنا أنهم لم يحرِّفوا الكتاب بل إنهم بدلوا في قراءتهم له وهم يتلونه أمّا الكتاب المحفوظ عندهم فلم يزل سليما من التبديل.

ب. المائدة، 13: »فَبِما نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ )بني إسرائيل( لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفونَ الْكَلامَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسوا حَظّاً مِمّا ذُكِّروا بِهِ ولا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنِهِ مِنْهُمْ إلا قَليلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنين«.

يبدو من الحديث هنا أنَّ اليهود، الذين قست قلوبهم لأنهم نقضوا العهد، وكأنّهم يقصّون بالسكين بعض الكلام ويبدِّلون كلامه.  ولكننا رأينا سابقا أنّ النبي والقرآن يتحدثان عن التوراة التي بين أيديهم والتي يقرأونها بأن فيها وصية الله.

لذلك فلا بدّ أنّ اليهود هنا يغطّون على بعض الآيات ويقرأون بعضها في غير موقعها لإخفاء معناها.  وهذا بالعربية ما ندعوه التحريف المعنوي أي إخراج الجملة عن معناها المقصود بها. 

ولا ننسى هنا أن القرآن يستثني منهم البعض »إلا قليلا منهم«.  هؤلاء آمنوا وبقوا أمناء كما تشهد الآية التالية، أولئك لم يقبلوا ولم يمكن لهم أن يقبلوا تغيير المعاني أو تغيير الكلمات. »لَيْسوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلونَ آياتِ الله أنآءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسجُدونْ يُؤْمِنونَ بِالله وَالْيَوْمِ الأَخِرِ وَيأمُرونَ بِالْمَعْروفِ وَيَنْهونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعونَ في الْخَيْراتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحين )آل عمران، 113-114(.

ج. البقرة، 75-79: »أَفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤمِنوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَريقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعونَ كَلامَ الله ثُمَّ يُحَرِّفونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقِلوهُ وَهُمْ يَعْلَمون 75 وَإذا لَقُوا الَّذينَ أمَنوا قالوا أَمَنّا وَإذا خَلا بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثونَهُمْ بِما فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحاجُّونَكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أفَلا تَعْقِلون....فَوَيْلٌ لِلَّذينَ يَكْتُبونَ الْكِتابَ بِأيْديهِمْ ثُمَّ يَقولونَ هَذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَروا بِهِ ثَمَناً قَليلاً«.

هنا النبي يتحدث عن جماعة من اليهود يسمعون "كلام الله" من النبي فيحرفون ما يقول وليس الحديث عن التوراة ويبدو أنّهم قد حاولوا تقليد "الوحي المُنْزَل على النبي" ويقولون هذا من النبي.  فالحديث عن تزوير بخصوص القرآن وإيمانهم بالقرآن.  وكذلك أيضا يختلي اليهود بعضهم إلى بعض ويقول الواحد للآخر لماذا تخبرونهم بما تقول التوراة فسيستخدمها فيما بعد ضدكم )آية 76(. ونؤكد أن محمد يتحدث عن بعض اليهود - ليس كل اليهود ولا النصارى.

د. النساء 44-47: ألَمْ تَرَ إلى الَّذينَ أُتوا نَصيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرونَ الضَّلالَةَ وَيريدونَ أنْ تَضِلّوا السَّبيلَ .... مِنَ الَّذينَ هادوا يُحَرِّفونَ الْكَلامَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقولونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيَّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً في الدّينِ...«

نحن هنا أمام وضع مشابه للآية )ج( فهو يعاتب بعض اليهود الذين يحرفون الكلام عن مواضعه أي يفسِّرون الكلام بما لا يتأتّى من معانيه. وهذا ما يقوله يوسف علي: "خدعة من اليهود كانت أن يلووا الكلام والتعابير ليسخروا من تعاليم الإيمان.  وحيث كانوا يقولون »سمعنا«، كانوا يضيفون همسا »وعصينا«".

هـ. المائدة 41-44: »يا أَيُّها الرَّسولُ لا يُحْزِنُكَ الَّذينَ يُسْرِعونَ في الْكُفْرِ مِنَ الَّذينَ قالوا أَمَنّا بِأفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلوبُهُمْ مِنَ الَّذينَ هادوا سَمّاعونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعونَ لِقَوْمٍ أخَرينَ لَمْ يَأتوكَ يُحَرِّفونَ الْكَلامَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ.  يَقُولونَ إنْ أُتِيْتُمْ هذا فَخُذوهُ وَإنْ لَمْ تُؤْتوهُ فَاحْذَروا مَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ يَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً.... وَكَيْفَ يُحَكِّمونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةَ فيها حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلُّونَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَما أولَئِكَ بِالْمؤْمِنين«.

من الواضح بدون أدنى شك في هذه الآية ما قد بيّناه حتى اللحظة، وهو أن اليهود يحرفون تفسيرات محمد ويرفضونها. وقد أكد على ذلك بقوله »وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله« فهذه شهادة واضحة بأن الكتاب الذي بين أيديهم سليم من التحريف وتأكيد على التفسير بأن بعض اليهود يحرفون كلام محمد عن غير مقصده.

 الخُلاصة:

            القرآن يستشهد في عدد عديد من آياته بالتوراة والإنجيل ويشدد على أنهما الكتاب المنزل من عند الله فيه هدى ونور للذين آمنوا وأن القرآن جاء مصدقا للذي بين يديه )أي التوراة والإنجيل(.  وحينما تحدث القرآن صراحة عن تحريف كان يتحدث عن جماعة من اليهود الذين يحرفون كلام النبي في غير موضعه ليضلوا الذين آمنوا وأنهم كانوا يسترون الكتاب عن أسماع وأعين النبي لكي لا يستشهد منه على صدق رسالته.

واليهود، وإن ظننا بهم الخبث والحقد وغيره، إلا أنهم يحترمون توراتهم ويجلّونها مثلهم في ذلك مثل المسيحيين والمسلمين الذين يخشون جدا عقاب الله إن هم أقدموا على تحريفه.

            وكفانا بالقرآن دليلا حين يقول: »ولا مُبَدِّل لِكَلِماتِ الله« )الأنعام، 34( و »لا تَبْديلَ لِكَلِماتِ الله« )يونس، 64(. فالقرآن يشهد ويقر بأن لا تبديل لكلمات الله لأنّ الله يحفظ الكتاب والقرآن. وفيه أيضا قوله: »إنّا نَزَّلْنا الذِّكْرَ وَإنّا لَهُ لَحافِظون« )حِجر، 9(.  ويقول تفسير الجلالان في شرح عبارة "أهل الذكر" الواردة في سورة النحل، 43: »فاسْألوا أهْلَ الذِّكرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمون« أي اسألوا أهل التوراة والإنجيل - لا التوراة والإنجيل بل "أهل التوراة والإنجيل" مما يدلّ أنهم كانوا يُطالعون الذِّكْرَ على حقيقته وذلك في عهد القرآن وأنَّ الله هو الحافظ للذكر )التوراة والإنجيل والقرآن( ومن يشك في هذا القول فكأنه يقول أنّ الله - سبحانه وتعالى - غير قادر على حفظ التتوراة والإنجيل من التحريف.

             ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال النبي في القرآن: »قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.  إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ«  )المائدة 68-69(.

            فالمهم في الموضوع هنا أن أهمّ شيء عند المسلم هو اعتقاده بصدق القرآن الشريف فإنّ أصرّ بعضهم، بعد الذي ذكرناه هنا، بأنّ الإنجيل أو التوراة محرفين فإنما هم ينسخون )يُبطِلون( القرآن لأنّ أكثرهم يعتقد في الكتاب المقدّس غير ما يشهد القرآن له.   وإنَّ أكثر الَّذي يحيّرني في هذا الموضوع بأكمله هو أنَّ المسلمين يشغلون أنفسهم بالإنجيل ويدّعون عليه ما ليس فيه وما ليس في قرآنهم ويتناسون وصية محمد في قوله لهم بصراحة في سورة المائدة، 47: »وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجيلِ بِما أَنْزَلَ الله فيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْفاسِقونْ«.  وهذا إعلان واضح وصريح بالثقة التامة بما ورد في الإنجيل وبأن أهل الكتاب يفهمون تعاليمه ويحافظون عليه ويَعمَلون بما جاء فيه.

            وإنني أستميح القارئ عذرا إن أطلتُ الحديث قليلا ولكن هناك نقطة أخرى ينبغي لنا الحديث عنها وهي ادّعاء بعض المسلمين بنسخ الإنجيل.  وفي هذا يقصدون أنَّ القرآن نسخ الإنجيل أي أنه يحل محلّه ويلغيه كما أنّ الإنجيل نسخ التوراة أي حلّ محلّها.

            وهنا أودُّ أن أوضّح للمسلمين وللمسيحيين على السواء بأنّ الإنجيل لم ينسخ التوراة أي لم يمحيها ويلغيها إنما كما قال السيد المسيح: »جئت لا لأنقض بل لأكمّل« أي أنه جاء ليحقّق في شخصه ما تنبّأت به التوراة بأجمعها.  ولن يجد المسلم ولا الباحث آية واحدة في القرآن تقول بهذا النسخ. وكل الآيات التي أوردتها في هذا المقام تثبت صحة كلامي.  إنما النسخ في القرآن جاء صريحا وواضحا وذلك بأنّ آيات قرآنية تنسخ ما قبلها أي أن النبي يعدّل تعليما بتعليم يظنّه أفضل وأشمل. ولم يذكر بتاتا أن القرآن يلغي أو ينسخ الكتب المقدسة السابقة له.  ولا أظن موضوع النسخ يستأهل منا أكثر مما ذكرنا.

            والحقيقة إنّ المسلمين عجزوا عن الإتيان بالدليل على تحريف الكتاب رغم قراءة بعضهم للإنجيل ومطالعتهم له الأمر الذي اضطرَّ بعضهم إلى ابتداع إنجيل خاص بهم يقول بما يدعون ويذكر ما يطيب لهم سماعه.  ومن هذه الأناجيل إنجيل برناباس المزوّر الذي سنتحدث عنه بالتفصيل في عدد قادم إن شاء الله.

الفهرس