في الشعر الجاهلي .. للدكتور طه حسين

" 2 "
امرؤ القيس - عبيد - عَلْقَمة

 

لعل أقدم الشعراء الذين يروى لهم شعر كثير ويتحدث الرواة عنهم بأخبار كثيرة فيها تطويل وتفصيل هو امرؤ القيس .

ونحن نعلم أن الرواة يتحدثون بأسماء طائفة من الشعراء زعموا أنهم عاشوا قبل أمرىء القيس وقالوا شعرا ، ولكنهم لا يروون لهؤلاء الشعراء إلا البيت أوالبيتين أو الأبيات . وهم  لا يذكرون من أخبار هؤلاء الشعراء إلا الشيء القليل الذي لا يغني . وهم يعللون قلة الأخبار والأشعار التي يمكن أن تضاف إلى هؤلاء الشعراء ببعد العهد وتقادم الزمن وقلة الحفّاظ  . وقد رأيت في الكتاب الماضي أن قليلا من النقد لما يضاف إلى هؤلاء الشعراء ينتهي بك إلى جحود ما يضاف إليهم من خبر أو شعر . فلندع هؤلاء الشعراء ولنقف عند أمرىء القيس وأصحابه الذين يظهر أن الرواة عرفوا عنهم ورووا لهم الشيء الكثير .

من امرؤ القيس؟ أما الرواة فلا يختلفون في أنه رجل من كنْدة . ولكن مَن كنْدة؟ لا يختلف الرواة في أنها قبيلة من قحطان ؛ وهم يختلفون بعض الإختلاف في نسبها وفي تفسير اسمها وفي أخبار سادتها . ولكنهم على كل حال يتفقون على أنها قبيلة يمانية ، وعلى أن امرأ القيس منها .

فأما اسم أمرىء القيس واسم أبيه واسم أمه فأشياء ليس من اليسير الاتفاق عليها بين الرواة ؛ فقد كان إسمه امرأ القيس ، وقد كان اسمه حندجا ، وكان اسمه قيسا . وقد كان اسم أبيه عمرا وقد كان اسم أبيه حجْرا أيضا . وكان اسم أمه فاطمة بنت ربيعة أخت مُهلْهِل وكُلَيْب ، وكان اسم أمه تَمْلك . وكان امرؤ القيس يعرف بأبي وهب ، وكان يعرف بأبي الحارث . ولم يكن له ولد ذكر . وكان يئد بناته جميعا . وكانت له إبنة يقال لها هند ؛ ولم تكن هند هذه إبنته وإنما كانت بنت أبيه . وكان يعرف بالملك الضِّلِّيل ، وكان يعرف بذي القروح .

وعليك أنت أن تستخلص من هذا الخليط المضطرب ما تستطيع أن تسميه حقا أو شيئا يشبه الحق . وأي شيء أيسر من أن تأخذ ما أتفقت عليه كثرة الرواة على أنه حق لا شك فيـه؟ وكثرة الرواة قد اتفقت على أن اسمه حندج بن حجر ، ولقبه امرؤ القيس ، وكنيته أبو وهب ؛ وأمه فاطمة بنت ربيعة . على هذا اتفقت الكثرة . وإذا اتفقت الكثرة على شيء فيجب أن يكون صحيحا أو على أقل تقدير يجب أن يكون راجحا  .

أما أنا فقد أطمئن إلى آراء الكثرة ، أو قد أراني مكرها على الاطمئنان لآراء الكثرة ، في المجالس النيابية وما يشبهها . ولكن الكثرة في العلم لا تغني شيئا ؛ فقد كانت كثرة العلماء تنكر كروية الأرض وحركتها ، وظهر بعد ذلك أن الكثرة كانت مخطئة . وكانت كثرة العلماء ترى كل ما أثبت العلم الحديث أنه غير صحيح . فالكثرة في العلم لا تغني شيئا .

وإذاً فليس من سبيل إلى أن نقبل قول الكثرة في امرىء القيس ؛ وإنما السبيل أن نوازن بينه وبين ما تزعم القلة . وليس إلى هذه الموازنة المنتجة من سبيل إذا لا حظت ما قدّمناه في الكتاب الماضي من هذه الأسباب التي كانت تحمل على الانتحال وتكلف القصص .

وإذاً فلسنا نستطيع أن نفصل بين الفريقين المختلفين ، وإنما نحن مضطرون إلى أن نقبل ما يقول أولئك وهؤلاء على أن الناس كانوا يتحدثون به دون أن نعرف وجه الحق فيه . ولعل هذا وأشباهه من الخلط في حياة أمرىء القيس أوضح دليل على ما تذهب إليه من أن امرأ القيس إن يكن قد وجد حقا ـــ ونحن نرجح ذلك ونكاد نوقن به ـــ

فأن الناس لم يعرفوا عنه شيئاً إلا اسمه هذا ، وإلا طائفة من الأساطير والأحاديث تتصل بهذا الاسم .

وهنا يحسن أن نلاحظ أن الكثرة من هذه الأساطير والأحاديث لم تشع بين الناس إلا في عصر متأخر : وفي الرواة المدوّنين والقصاصين . فأكبر الظن إذاً أنها نشات في هذا العصر ولم تورث عن العصر الجاهلي حقا . وأكبر الظن أن الذي أنشأ هذه القصة ونماها إنما هو هذا المكان الذي احتلته قبيلة كندة في الحياة الإسلامية منذ تمت للنبي السيطرة على البلاد العربية إلى أواخر القرن الأول للهجرة .

فنحن نعلم أن وفدا من كندة وفد على النبي وعلى راسه الأشعث ابن قيس . ونحن نعلم أن هذا الوفد طلب - فيما تقول السيرة - إلى النبي أن يرسل معهم مفقِّها يعلمهم الدين . نحن نعلم أن كندة ارتدّت بعد موت النبي ، وأن عامل أبي بكر حاصرها في النُّجيْر وأنزلها على حكمه وقتل منها خلقا كثيرا وأوفد منها طائفة إلى أبي بكر فيها الأشعث ابن قيس الذي تاب وأناب وأصهر إلى أبي بكر فتزوّج أخته أم فروة ؛ وخرج- فيما يزعم الرواة- إلى سوق الإبل في المدينة فاستل سيفه ومضى في إبل السوق عقرا ونحرا حتى ظن الناس به الجنون ، ولكنه دعا أهل المدينة إلى الطعام وأدّى إلى أصحاب الإبل أموالهم ؛ وكانت هذه المجزرة الفاحشة وليمه عرسه . ونحن نعلم أن هذا الرجل قد اشترك في فتح الشام وشهد مواقع المسلمين في حرب الفرس ، وحسن بلاؤه في هذا كله ، وتولّى عملا لعثمان ، وظاهر عليا على معاوية ، وأكره عليا على قبول التحكيم في صِفِّين . ونحن نعلم أن ابنه محمد بن الأشعث كان سيِّدا من سادات الكوفة ، عليه وحده أعتمد زياد حين أعياه أخذ حجر بن عديّ الكندي . ونحن نعلم أن قصة حجر بن عديّ هذا وقتل معاوية إياه في نفر من أصحابه قد تركت في نفوس المسلمين عامة واليمنيين خاصة أثرا قويا عميقا مثّل هذا الرجل في صورة الشهيد . ثم نحن نعلم أن حفيد الأشعث بن قيس وهو عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث قد ثار بالحَجَّاج ، وخلع عبدالملك ، وعرّض دولة آل مروان للزوال ، وكان سبباً في إراقة دماء المسلمين من أهل العراق والشام ، وكان الذين قتلوا في حروبه يحصون فيبلغون عشرات الآلاف ، ثم انهزم فلجأ إلى ملك الترك ، ثم أعاد الكرة فتنقَّل في مدن فارس ، ثم أستياس فعاد إلى ملك الترك ، ثم غدر به هذا الملك فأسلمه إلى عامل الحجاج ، ثم قتل نفسه في طريق إلى العراق ، ثم احتُذّ رأسه وطوّف به في العراق والشام ومصر .

أفتظن أن أسرة كهذه الأسرة الكندية تنزل هذه المنزلة في الحياة الإسلامية وتؤثر هذه الآثار في تاريخ المسلمين لا تصطنع القصص ولا تأجر القصّاص لينشروا لها الدعوة ويذيعوا عنها كل ما من شانه أن يرفع ذكرها ويبعد صوتها؟ بلى ! ويحدّثنا الرواة أنفسهم أن عبدالرحمن بن الأشعث اتخذ القصّاص وأجرهم كما اتخذ الشعراء وأجزل صلتهم : كان له قاص يقال له عمرو بن ذرّ ؛ وكان شاعره أعشى هَمْدان .

فما يروى من أخبار كندة في الجاهلية متأثر من غير شك بعمل هؤلاء القصاص الذين كانوا يعملون لآل الأشعث . وقصة أمرىء القيس بنوع خاص تشبه من وجوه كثيرة حياة عبدالرحمن أبن الأشعث . فهى تمثل لنا امرأ القيس مطالبا بثأر أبيه . وهل ثأر عبدالرحمن عند الذين يفقهون التاريخ إلا منتقما لحجر بن عدىّ؟ وهي تمثل لنا امرأ القيس طامعا في الملك . وقد كان عبدالرحمن بن الأشعث يرى إنه ليس أقل من بني أمية استئهالا للملك ؛ وكان يطالب به . وهي تمثل لنا امرأ القيس متنقلا في قبائل العرب . وقد كان عبدالرحمن أبن الأشعث متنقلا في مدن فارس والعراق . وهي تمثل امرأ القيس لاجئاً إلى قيصر مستعيناً به . وقد كان عبدالرحمن ابن الأشعث لاجئاً إلى ملك الترك مستعيناً به . وهي تمثل لنا أخيراً امرأ القيس وقد غدر به قيصر بعد أن كاد له أسديّ في القصر . وقد غدر ملك الترك بعبدالرحمن  بعد أن كاد له رسل الحجاج . وهي تمثل لنا بعد هذا وذاك امرأ القيس وقد مات في طريقه عائداً من بلاد الروم . وقد مات عبدالرحمن في طريقه عائداً من بلاد الترك.

أليس من اليسير أن نقترض بل أن نرجح أن حياة امرئ القيس كما يتحدّث بها الرواة ليست إلا لوناً من التمثيل لحياة عبدالرحمن أستحدثه القصاص إرضاء لهوى الشعوب اليمنية في العراق واستعاروا له اسم الملك الضِّلِّيل أتّقاء لعمال بني أمية من ناحية ، وأستغلالاً لطائفة يسيرة من الأخبار كانت تعرف عن هذا الملك الضليل من ناحية أخرى؟

* * * * *

ستقول : وشعر امرئ القيس ما شأنه؟ وما تأويله؟ وتأويله أيسر . فأقل نظر في هذا الشعر يلزمك أن تقسمه إلى قسمين : أحدهما يتصل بهذه القصة التي قدمنا الإشارة إليها . وإذاً شأنه شأن هذه القصة انتحل لتفسيرها أو تسجيلها ، وانتحل لتمثيل هذا التنافس القوي الذي كان قائماً بين قبائل العرب وأحيائهم في الكوفة والبصرة . وأقل درس لهذا الشعر يقنعك ، وإن كنت من الذين يألفون البحث الحديث ، بأن هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس  ويتصل بقصته إنما هو شعر إسلامي لا جاهلي ، قيل وانتحل لهذه الأسباب التي أشرنا إليها ولأسباب أخرى فصلناها في القسم الثاني من هذا الكتاب . فهذا أحد القسمين . وأما القسم الثاني فشعر لا يتصل بهذا القصة ، وإنما يتناول فنوناً من القول مستقلة من الأهواء السياسية والحزبية . ولنا في هذا القسم رأي نسطره بعد حين .

وخلاصـة هذا البحث القصير أن شخصية  امرئ القيس- إذا فكرت- أشبه شيء بشخصية الشاعر اليوناني هوميروس . لا يشك مؤرُّخو الآداب اليونانية الآن في أنها قد وجدت حقاً ، وأثرت في الشعر القصصي حقاً ، وكان تأثيرها قوياً باقياً ، ولكنهم لا يعرفون من أمرها شيئاً يمكن الإطمئنان إليه ، وإنما ينظرون إلى هذه الأحاديث التي تروى عنه كما ينظرون إلى القصص والأساطير لا أكثر ولا أقل . فأمرؤ القيس هو الملك الضِّلِّيل حقاً : نريد أنه الملك الذي لا يعرف عنه شيء يمكن الإطمئنان إليه . هو ضُلُّ بن قُل كما يقول أصحاب المعاجم اللغوية . ومن غريب الأمر أن طائفة من الشعر تنسب إلى امرئ القيس على أنه قالها حينما كان متنقلاً في القبائل العربية يمدح بها هذه ويهجو تلك ، وتتصل بهذه الأشعار طائفة من الأخبار تبين نزول امرئ القيس في هذه القبيلة ، وإلتجاءه إلى تلك القبيلة ، وجواره عند فلان ، وإستعانته بفلان ، وأن شيئاً مثل هذا يلاحظ في حياة هوميروس ؛ فهو - فيما يزعم رواة اليونان - قد تنتقل في المدن اليونانية فلقي من بعضها الكرامة والتجلة ، ومن بعضها الإعراض والإنصراف ومؤرّخو الآداب اليونانية يفسرون في هذه الأحاديث على أنها مظهر من مظاهر التنافس بين المدن اليونانية : كلها يزعم لنفسه أنه ضيّف هوميروس أو نشّأة أو أجاره أو عطف عليه .

ونحن نذهب هذا المذهب نفسه في تفسير هذه الأخبار والأشعار التي تمس تنقُّل امرئ القيس في قبائل العرب . فهي محدَثة انتحلت حين تنافست القبائل العربية في الإسلام وحين أرادت كل قبيلة وكل حي أن تزعم لنفسها من الشرف والفضل أعظم حظ ممكن . وقد أحس القدماء بعض هذا ؛ فصاحب الأغاني يحدّثنا أن القصيدة القافية التي تضاف إلى امرئ القيس على أنه قالها يمدح بها السموءل حين لجأ إليه منحولةُ نحلها دارم بن عقال ؛ لم ينحل القصيدة وحدها وإنما نحل القصة كلها وانتحل ما يتصل بها أيضاً : نحل قصة ابن المسوءل الذي قتل بمنظر من أبيه حين أبى تسليم أسلحة امرئ القيس ، نحل قصة الأعشى الذي استجار بشريح بن السموءل وقال فيه هذا الشعر المشهور :

شريحُ  لا  تتركنّي  بعدما  عَلِقتْ    حبالـك اليـــوم بعــــد القدّ أظفاري
قد جُلت ما
 بين  بانقيـا إلى عَدَنٍ    وطال في العجم تَرْدادي وتَسْياري
فكان أكرمهــــــــم عهدا وأوثقهــم    مجدا أبوك بعـــــــرف غير إنكــار
كالغيث
مـا استمطروه  جاد وابلُه    وفي الشدائد كالمستأســــد الضاري
كن كالمسوءل إذ طاف الهُمام به    في جحفل كهزيــــع الليــــل جــرّار
إذا سامـــــــه
خطَّتـَيّ فقــــــال له    قل ما تشــــــاء فإنــي سامــــع حار
فقال غدرُ وثُكــ
ــــــل أنت بينهما    فاختر  وما  فيهمــا  حـظ  لمختــار
فشطّ غير طويــــــلِ ثم قال لـــه    أُقتل  أسيرك  إني  مانـــــع  جاري
أنا له خلـــف إن كنـــت قاتلَـــــه    وإن  قتلــت  كــــــريما  غير غوّار
وسوف
يُعقبنيه إن ظفــرتَ بـــه    ربٌّ  كــــــريم  وبِيضُ ذاتُ أطهار
لا سِرُّهـــن لدينــ
ـــــا ذاب هــدرا    وحافظات إذا أستودعن أســـراري
فأختارَ أدراعـه كي لا يسبّ بها     ولم يكــن وعـــــده  فيهـــا  بختــّار

ثم كانت هذه القصة المنتحلة سبباً في إنتحال قصة أخرى هي قصة ذهاب امرئ القيس إلى القسطنطينية وما يتصل بها من الأشعار . منتحلة هذه القصيدة الرائية الطوية التي مطلعها :

سما لك شوقُ بعد ما كان أقصرا    وحلّتْ سليمى بطن ظبْي فعَرْعرا

منتحل هذا الشعر الذي قاله امرؤ القيس حين دخل الحمام مع قيصر والذي ننزه هذا الكتّاب عن روايته . منتحل هذا الحب الذي يقال إن امرأ القيس أضمره لابنه قيصر . منتحلة هذه الأشعار التي تضاف إلى امرئ القيس حين أحس السم وهو قافل من بلاد الروم . كل هذا منتحل لأنه يفسر هذه الأحاديث التي شاعت ، لتلك الأسباب التي قدّمناها .

وإذا لم يكن بد من إلتماس الأدلة الفنية على إنتحال هذا الشعر ، فقد نحب أن نعرف كيف زار امرؤ القيس بلاد الروم وخالط قيصر حتى دخل معه الحمام وفتن ابنته ورأى مظاهر الحضارة اليونانية في قسطنطينية ولم يظهر لذلك أثر ما في شعره : لم يصف القصر ولم يذكره ، لم يصف كنيسة من كنائس قسطنطينية ، لم يصف هذه الفتاة الأمبراطورية التي فتنها ، لم يصف الروميات ، لم يصف شيئاً ما يمكن أن يكون رومياً حقاً . ثم يكفي أن تقرأ هذا الشعر لتحس فيه الضعف والإضطراب والجهل بالطريق إلى قسطنطينية .

ومهما يكن من شيء فإن السذاجة وحدها هي التي تعيننا على أن نتصوّر أن شاعراً عربياً قديماً قال هذا الشعر الذي يضاف إلى امرئ القيس في رحلته إلى بلاد الروم وقفوله منها .

وإذا رأيت معنا أن كل هذا الشعر الذي يتصل بسيرة امرئ القيس إنما هو من عمل القصّاص فقد يصح أن نقف معك وقفة قصيرة عند هذا القسم الثاني من شعر امرئ القيس وهو الذي لا يفسر سيرته ولا يتصل بها . ولعل أحق هذا الشعر بالعناية قصيدتان إثنتان :

الأولى  :   * فــقــا نبك من ذكرى حبيب ومنزل *
والثانية :   * ألا أنعم صباحاً أ
يـهـــا الطلل البالي *

فأما ما عدا هاتين القصيدتين فالضعف فيه ظاهر والاضطراب فيه بين والتكلف والإسفاف يكادان يلمسان باليد . وقد يكون لنا أن نلاحظ قبل كل شيء ملاحظة لا أدري كيف يتخلص منها أنصار القديم ، وهي أن امرأ القيس - إن صحت أحاديث الرواة - يمنيّ وشعره قرشي اللغة ، لا فرق بينه وبين القرآن في لفظه وإعرابه وما يتصل بذلك من قواعد الكلام . ونحن نعلم ــ كما قدّمناه ــ أن لغة اليمن مخالفة كل المخالفة للغـة الحجاز ، فكيف نظم الشاعر اليمني شعره في لغة أهل الحجاز ؟ بل في لغة قريش خاصة ؟ سيقولون : نشأ امرؤ القيس في قبائل عدنان وكان أبوه ملكاً على بني أسد وكانت أمه من بني تغلب وكان مهلهل خاله ، فليس غريباً أن يصطنع لغة عدنان ويعدل عن لغة اليمن . ولكننا نجهل هذا كله ولا نستطيع أن نثبته إلا من طريق هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس . ونحن بشك في هذا الشعر ونصفه بأنه منتحل .

وإذاً فنحن ندور : نثبت لغة امرئ القيس التي نشك فيها بشعر امرئ القيس الذي نشك فيه . على أننا أمام مسألة أخرى ليست أقل من هذه المسألة تعقيداً . فنحن لا نعلم ولا نستطيع أن نعلم الآن أكانت لغة قريش هي اللغة السائدة في البلاد العربية أيام امرئ القيس؟ وأكبر الظن أنها لم تكن لغة العرب في ذلك الوقت وأنها إنما أخذت تسود في أواسط القرن السادس للمسيح وتمت لها السيادة بظهور الإسلام كما قدّمناه .

وإذاً فكيف نظم امرؤ القيس اليمني شعره في لغة القرآن مع أن هذه اللغة لم تكن سائدة في العصر الذي عاش فيه امرؤ القيس؟ وأعجب من هذا أنك لا تجد مطلقاً في شعر امرئ القيس لفظاً أو أسلوباً أو نحواً من أنحاء القول يدل على أنه يمنيّ . فمهما يكن امرؤ القيس قد تأثر بلغة عدنان فكيف نستيطع أن نتصوّر أن لغته الأولى قد محيت من نفسه محواً تاماً ولم يظهرها أثر ما في شعره؟ تظن أن أنصار القديم سيجدون كثيراً من المشقة والعناء ليحلّوا هذه المشكلة . ونظن أن إضافة هذا الشعر إلى امرئ القيس مستحيلة قبل أن تحل هذه المشكلة .

على أننا نحب أن نسأل عن شيء آخر ؛ فامرؤ القيس إبن أخت مهلهل وكليب إبني ربيعة - فيما يقولون - ، وأنت تعلم أن قصة طويلة عريضة قد نسجت حول مهلهل وكليب هذين ، هي قصة البسوس وهذه الحرب التي اتصلت أربعين سنة - فيما يقول القصاص - وأفسدت ما بين القبيلتين الأختين بكر وتغلب . فمن العجيب ألا يشير امرؤ القيس بحرف واحد إلى مقتل خاله كليب ، ولا إلى بلاء خاله مهلهل ، ولا إلى هذه المحن التي أصابت أخواله من بني تغلب ، ولا هذه المآثر التي كانت لأخواله على بنى بكر .

وإذاً فأينما وجّهت فلن تجد إلا شكاً : شكا في القصة ، شكا في اللغة ، شكا في النسب ، شكا في الرحلة ، شكا في الشعر . وهم يريدون بعد هذا أن نؤمن ونطمئن إلى كل ما يتحدث به القدماء عن امرئ القيس ! نعم نستطيع أن نؤمن وأن نطمئن لو أن الله رزقنا هذا الكسل العقلي الذي يحبب إلى الناس أن يأخذوا بالقديم تجنبا للبحث عن الجديد . ولكن الله لم يرزقنا هذا النوع من الكسل ، فنحن نؤثر عليه تعب الشك ومشقة البحث .

وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء وإنما هو محمول عليه حملاً ومختلق عليه اختلاقاً ، حمل بعضه العرب أنفسهم ، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دوّنوا الشعر في القرن الثاني للهجرة .

ولننظر في المعلَّقة نفسها ، فلسنا نعرف قصيدة يظهر فيها التكلف والتعامل أكثر مما يظهران في هذه القصيدة . ولا نحفل بقصة تعليق هذه القصائد السبع أو العشر على الكعبة أو في الدفاتر . فما نظن أن انصار القديم يحفلون بهذه القصة التي نشأت في عصر متأخر جدّاً والتي لا يثبتها شيء في حياة العرب وعنايتهم بالآداب . ولكننا نلاحظ أن القدماء أنفسهم يشكون في بعض هذه القصيدة فهم يشكون في صحة هذين البيتين :

ترى بعر الآرام في عَرَصَاتها   وقِيعــــانهــا كأنــــه حـــبُّ فُلفـــل
كأنى غداة البين يوم تحمــــلَّوا   لدى سَمُرَات الحىّ ناقف حنظـ
ـــل

وهم يشكون في هذه الأبيات :

وقربة أقوام جعلتُ عِصامَهــا    على كاهـــــل مني ذَلُول مرحــــّل
ووادٍ كجوف العَير قفرٍ قطعتُه    به الذئبُ يعو
ي كالخليـــــع المعيّل
فقلت له لما عــوى إن  شأننـا    قليــــلُ إن كنـــت لمّــــــا تمــــــوّل
كلانا إذا ما نال شيئــــاً أفاتــه    ومن يحترث حَرْ
ثي وحرثك يهزل

وهم بعد هذا يختلفون إختلافاً كثيراً في رواية القصيدة : في ألفاظها وفي ترتيبها ، ويضعون لفظاً مكان لفظ وبيتاً مكان بيت . وليس هذا الاختلاف مقصوراً على هذه القصيدة ، وإنما يتناول الشعر الجاهليّ كله . وهو اختلاف شنيع يكفي وحده لحملنا على الشك في قيمة هذا الشعر . وهو إختلاف قد أعطى للمستشرقين صورة سيئة كاذبة من الشعر العربي ، فخّيل إليهم أنه غير منّسق ولا مؤتلف ، وأن الوحدة لا وجود لها في القصيدة ، وأن الشخصية الشعرية لا وجود لها في القصيدة أيضاً ، وأنك تستطيع أن تقدّم وتؤخر وأن تضيف إلى الشاعر شعر غيره دون أن تجد في ذلك حرجاً أو جناحاً مادمت لم تخلّ بالوزن ولا بالقافية .

وقد يكون هذا صحيحاً في الشعر الجاهلي ، لأن كثرة هذا الشعر منتحلة مصطنعة . فأما الشعر الإسلامي الذي صحّت نسبته لقائليه فأنا أتحدى أي ناقد أن يبعث به أقل عبث دون أن يفسده . وأنا أزعم أن وحدة القصيدة فيه بينة ، وأن شخصية الشاعر فيه ليست أقل ظهوراً منها في أي شعر أجنبي . وإنما جاء هذا الخطأ من إتخاذ هذا الشعر الجاهلي نموذجاً للشعر العربي ،  مع أن هذ الشعر الجاهلي - كما قدّمناه - لا يمثل شيئاً ولايصلح إلا نموذجاً لعبث القصّاص وتكلف الرواة .

ونظن أن أنصار القديم لا يخالفون في أن هذين البيتين قلقان في القصيدة وهما :

وليل كموج البحر أرخى سدوله    عليّ بأنواع الهمــــوم ليبتلي
فقلت له لمّــــ
ـــا تمطَّى بُصلبـــه    وأردف أعجازاً وناء بكَلْكَل

فقد وضع هذان البيتان للدخول على البيت الذي يليهما وهو :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي     بصبح وما الإصباح منك بأمثل

وهذان البيتان أشبه بتكلف المشطر والمخمّس منهما بأي شيء آخر .

فإذا فرغنا من هذا الشعر الذي لا نكاد نختلف في أنه دخيل في القصيدة ، فقد نستطيع أن نرد القصيدة إلى أجزائها الأولى . وهذه الأجزاء هي : أولاً وقوف الشاعر على الدار وما يتصل بذلك من بكاء وإعوال ، ثم ذكره أيام لهوه مع العذارى ، ثم عتابه لصاحبته وما يتصل بذلك من وصف خليلته ، ثم ذكر الليل والإستطراد منه إلى الصيد وما يتوسّل به إلى الصيد من وصف الفرس ، ثم ذكر البرق وما يتبعه من السيل .

ولنسرع إلى القول بأن وصف اللهو مع العذارى  وما فيه من فحش أشبهُ بأن يكون من انتحال الفرزدق منه بأن يكون جاهلياً . فالرواة يحدّثوننا أن الفرزدق خرج في يوم مطير إلى ضاحية البصرة فاتبع آثاراً حتى انتهى إلى غدير وإذا فيه نساء يستحممن فقال : ما أشبه هذا اليوم بيوم دارة جُلْجُل ، وولى منصرفاً ؛ فصاح النساء به : يا صاحب البغلة ؛  فعاد إليهن فسألنه وعزمن عليه ليحدّثنهن بحديث دارة جلجل ؛ فقص عليهّن قصة امرئ القيس وأنشدهنّ قوله :

أَلاَ ربّ يوم لك منهنّ صالح     ولا سيما يوم بدارة جلجل

 (الأبيات)

والذين يقرءون شعر الفرزدق ويلاحظون فحشه وغلظته وأنه قد ليم على هذا الفحش وعلى هذه الغلظة لا يجدون مشقة في أن يضيفوا إليه هذه الأبيات ، فهي بشعره أشبه . وكثيراً ما كان القدماء يتحدّثون بمثل هذه الأحاديث يضيفونها إلى القدماء وهم ينتحلونها من عند أنفسهم . ومهما يكن من شيء ، فلغة هذه الأبيات كلغة القصيدة كلها عدنانية قرشية يمكن أن تصدر عن شاعر إسلامي اتخذ لغة القرآن لغة أدبية .

أما وصف امرئ القيس لخليلته ، وزيارته إياها ، وتجشّمه ما تجشم للوصول إليها ، وتخوّفها الفضيحة حين رأته ، وخروجها معه وتعفيتها آثارهما بذيل مرطها ، وما كان بينهما من لهو ، فهو أشبه بشعر عمر بن أبي ربيعة منه بأي شيء آخر . فهذا النحو من القصص الغرامي في الشعر فنّ عمر بن أبي ربيعة قد أحتكره إحتكاراً ولم ينازعه فيه أحد . ولقد يكون غريباً حقاً أن يسبق امرؤ القيس إلى هذا الفنّ ويتخذ فيه هذا الأسلوب ويعرف عنه هذا النحو ، ثم يأتي ابن أبي ربيعة فيقلده فيه ولا يشير أحد من النقاد إلى أن ابن أبي ربيعة قد تأثر بأمرئ القيس مع أنهم قد أشاروا إلى تأثير امرئ القيس في طائفة من الشعراء في أنحاء من الوصف . فكيف يمكن أن يكون امرؤ القيس هو منشىء هذا الفن من الغزل الذي عاش عليه ابن أبي ربيعة والذي كوّن شخصية ابن أبي ربيعة الشعرية ولا يعرف له ذلك ؟

وأنت إذا قرأت قصيدة أو قصيدتين من شعر ابن أبي ربيعة لم تكد تشك في أن هذا الفن فنه أبتكره إبتكاراً وأستغله إستغلالاً  قوياً ، وعرفت العرب له هذا . وقل مثل هذا في القصص الغرامي الذي تجده في قصيدة امرئ القيس الأخرى : "ألا أنعم صباحاً أيها الطلل البالي" . ففي هذا القصص الفاحش فنّ ابن أبي ربيعة وروح الفرزدق . ونحن نرجح إذاً أن هذا النوع من الغزل إنما أضيف إلى امرئ القيس ، وأضافه رواة متأثرون بهذين الشاعرين الإسلاميين .

بقي الوصف ، ولاسيما وصف الفرس والصيد . ولكننا نقف فيه موقف الترذّد أيضاً . واللغة هي التي تضطرنا إلى هذا الموقف . فالظاهر أن امرأ القيس كان قد نبغ في وصف الخيل والصيد والسيل والمطر . والظاهر أنه قد استحدث في ذلك أشياء كثيرة لم تكن مألوفة من قبل . ولكن أقال هذه الأشياء في هذا الشعر الذي بين أيدينا أم قالها في شعر آخر ضاع وذهب به الزمان ولم يبق منه إلا الذكرى وإلا جملُ مقتضبه أخذها الرواة فنظموها في شعر محدّث نسّقوه ولفّقوه وأضافوه إلى شاعرنا القديم؟ هذا مذهبنا الذي نرجحه . فنحن نقبل أن امرأ القيس هو أول من قيّد الأوابد ، وشبه الخيل بالعصي والعقبان وما إلى ذلك ، ولكننا نشك أعظم الشك في أن يكون قد قال هذه الأبيات التي يرويها الرواة . وأكبر الظن أن هذا الوصف الذي نجده في المعلّقة وفي اللامية الأخرى فيه شيء من ريح امرئ القيس ، ولكن من ريحه ليس غير .

هناك قصيدة ثالثة نجزم نحن بأنها منتحلة إنتحالاً . وهي القصيدة البائية التي يقال إن امرأ القيس أنشأها يخاصم بها عَلْقمة بن عَبَدَة الفحل ، وأن أم جندب زوج امرئ القيس قد غلّبت علقمة على زوجها . وأنت تجد القصيدتين في ديوان امرئ القيس وديوان علقمة . فأما قصيدة امرئ القيس فمطلعها :

خليليّ مُرّا بي على أم جندب    نقضِّ لُبانات الفؤاد المعذَّب

وأما قصيدة علقمة فمطلعها :

ذهبت من الهجران في كل مذهبِ   ولم يك حقــاًّ هذا التجنُّـــب

ويكفى أن نقرأ هذين البيتين لتحس فيهما رقة إسلامية ظاهرة . على أن النظر في هاتين القصيدتين سيقفك على أن هذين الشاعرين قد تواردا على معان كثيرة بل على ألفاظ كثيرة بل على أبيات كثيرة تجدها بنصها في القصيدتين معاً ، وعلى أن البيت الذي يضاف إلى علقمة وبه ربح القضية يروى لأمرئ القيس ، وهو :

فأدركهن ثانياً من عنانه     يمرّ كمرّ الرائح المتحلّب

والبيت الذي خسر به امرؤ القيس القضية يروى لعلقمة وهو :

فللسوطِ أُلهوبٌ وللساق درّة    وللزجر منه وقعُ أهوجَ مِتـْعَبِ

وأنت تسطيع أن تقرأ القصيدتين دون أن تجد فيهما فرقاً بين شخصية الشاعرين ، بل أنت لا تجد فيها شخصية ما ، وإنما تحس أنك تقرأ كلاماً غريباً منظوماً في جمع ما يمكن جمعه ، من وصف الفرس جملة وتفصيلاً . وأكبر الظن أن علقمة لم يفاخر امرأ القيس ، وأن أم جندب لم تحكم بينهما ، وأن القصيدتين ليستا من الجاهلية في شيء ، وإنما هما صنع عالم من علماء اللغة لسبب من تلك الأسباب التي أشرنا في الكتاب الماضي إلى أنها كانت تحمل علماء اللغة على الانتحال . وكان أبو عبيدة والأصمعي يتنافسان في العلم بالخيل ووصف العرب إياها : أيهما أقدر عليه وأحذق به . وما نظن إلا أن هاتين القصيدتين وأمثالهما أثر من آثار هذا النحو من التنافس بين العلماء من أهل الأمصار الإسلامية المختلفة .

وهنا وقفة أخرى لابد منها . ذلك أن امرأ القيس لا يذكر وحده وإنما يذكر معه من الشعراء علقمة - كما رأيت - وعَبيد بن الأبرص . فأما علقمة فلا يكاد الرواة يذكرون عنه شيئاً إلا مفاخرته لأمرئ القيس ومدحه ملكاً من ملوك غَسَّان ببائيته التي مطلعها :

طحا بِكَ قلبٌ للحسان طروبُ     بعيْد الشباب عصر حان مشيبُ

وإلا أنه كان يتردّد على قريش ويناشدها شره ، وإلا أنه مات بعد ظهور الإسلام أي في عصر متاخر جداً بالقياس إلى امرئ القيس الذي مهما يتأخر فقد مات قبل مولد النبي ، والذي نرى نحن أنه عاش قبل القرن السادس وربما عاش قبل القرن الخامس أيضاً .

وأما عبيد فقد إلتمسنا في سيرته وما يضاف إليه من الشعر ما يعيننا على إثبات شخصية امرئ القيس وشعره فكانت النتيجة محزنة جداً . ذلك أنها انتهت بنا إلى أن نقف من عبيد وشعره نفس الموقف الذي وقفناه من امرئ القيس وشعره . وليس علينا في ذلك ذنب ؛ فالرواة لا يحدّثوننا عن عبيد بشيء يقبل التصديق . إنما عبيد عند الرواة والقصَّاص شخص من أصحاب الخوارق والكرامات ، كان صديقاً للجنّ والسماء معاً ، عُمّر عمرا طويلاً يصلون به إلى ثلاثة قرون ومات مِيتة منكرة : قتله النعمان بن المنذر أو المنذر بن ماء السماء في يوم بؤســه . والرواة يعرفون شيطان عبيد . واسم هذا الشيطان هبيد ، وقد حاول بعضهم أن يرسل هذا المثل "لولا هبيد ما كان عبيد" . وقد رووا لهبيد هذا شعرا وزعموا أنه أراد أن يلهم الشعر ناساً غير عبيد فلم يوفق . ولعبيد مع الجنّ أحاديث لا تخلو من لذة وعجب . ولكن كل ما نقرأ من أخبار عبيد لا يعطينا من شخصيته شيئاً ولا يبعث الإطمئنان إلا في أنفس العامة أو أشباه العامة .

فأما شعر عبيد فليس أشدّ من شخصيته وضوحاً . فالرواة يحدّثوننا بأنه مضطرب ضائع . وابن سلاّم يحدّثنا في موضع من كتابه "طبقات الشعراء" أنه لم يبق من شعر عبيد وطرفه إلا قصائد بقدر عشر ، ولكنه يحدّثنا في موضع آخر أنه لا يعرف له إلا قوله :

أقفر من أهله ملحوبُ       فالقُطَبِيات فالذّنـــوب

ثم يقول ابن سلاّم : ولا أدرى ما بعد ذلك . ولكن رواة آخرين يروون هذه القصيدة كاملة ويروون له شعراً آخر في هجاء امرئ القيس ومعارضته ، وفي إستعطاف حُجْر على بني أسد . ويكفي أن نقرأ هذه القصيدة التي قدّمنا مطلعها لتجزم بأنها منتحلة لا أصل لها . وحسبك أنه يثبت فيها وحدانية الله وعلمه على نحو ما يثبتهما القرآن فيقول :

والله ليس له شريكُ      عَلاَّمُ ما أخفت القلوبُ

فأما شعره الآخر الذي عارض فيه امرأ القيس وهجا فيه كندة فلا حظَّ له من صحة فيما نعتقد . وذلك أن فيه إسفافاً وضعفاً وسهولة في اللفظ والأسلوب لا يمكن أن تضاف إلى شاعر قديم . ويكفى أن تقرأ هذه القصيدة التي أوّلها :

ياذا المخوّفنا بقتـــــ       ـــل أبيــه إذلالا وحينا
أزعمت أنك قد قتلــ       ــت سراتنا كذبا ومينا

لتعرف أنها من عمل القصّاص ، وأن الشّعر وأشباهه إنما هو من أثر التنافس بين العصبية اليمنية والمضرية .

ولولا أننا نؤثر الإيجاز ونحرص عليه لروينا لك هذا الشعر ووضعنا لك على مواضيع التوليد فيه ؛ ولكن الرجوع إلى هذا الشعر يسير والحكم عليه أيسر . وإذاً فكل شعر امرئ القيس الذي يتصل بشعر عبيد هذا منحول أيضاً كشعر عبيد .

وقد رأيت من هذه الإلمامة القصيرة بهؤلاء الشعراء الثلاثة :

(امرئ القيس وعبيد وعلقمة) أن الصحيح من شعرهم لا يكاد يذكر وأن الكثرة المطلقة من هذا الشعر مصنوعة لا تثبت شيئاً ولا تنفي شيئاً بالقياس إلى العصر الجاهلي ؛ لا نستثنى من ذلك إلا قصيدتين إثنتين لعلقمة :

الأولى  :   * طحــا بك قلــــبُ للحسان طـــروبُ *
والثانية :  
* هل ما علمت وما أستودعت مكتوم  *

فقد يمكن أن يكون لهاتين القصيدتين نصيب من الصحة مع شيء من التحفظ في بعض أبيات القصيدة الثانية . ولكن صحة هاتين القصيدتين لا تمس رأينا في الشعر الجاهلي ؛ فقد رأيت أن علقمة متأخر العصر جداً ، وأنه مات بعد ظهور الإسلام ، ورأيت أيضاً أنه كان يأتي قريشا ويعرض عليها شعره . على أننا احتفظنا لأنفسنا بالشك في بعض أبيات القصيدة الثانية يظهر فيها التوليد ؛ وهي هذه الأبيات التي يذهب فيها الشاعر مذهب الحكمة وضرب المثل .

الصفحة الرئيسية

 الإهداء

    الكتاب الأول :
1- تمهيد
2- منهج البحث
3- مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
4- الشعر الجاهلي واللغة
5- الشعر الجاهلي واللهجات

    الكتاب الثاني :
   أسباب انتحال الشعر
1- ليس الانتحال مقصورا على العرب
2- السياسة وانتحال الشعر
3- الدين وانتحال الشعر
4- القصص وانتحال الشعر
5- الشعوبية وانتحال الشعر
6- الرواة وانتحال الشعر

    الكتاب الثالث :
      الشعر والشعراء
1- قصص وتاريخ
2- امرؤ القيس . عبيد . علقمة
3- عمرو بن قميئة . مهلهل . جليلة
4- عمرو بن كلثوم . الحارث بن حلزة
5- طرفة بن العبد . المتلمس

   ملحق :
     نص قرار النيابة
1- نص بيان الاتهام
2- عن الأمر الأول
3- عن الأمر الثاني
4- عن الأمر الثالث
5- عن الأمر الرابع
6- القانون ونص الحكم  

الصفحة الرئيسية