في الشعر الجاهلي .. للدكتور طه حسين

" 4 "
القصص وانتحال الشعر

 

        من هذه الأشياء شيء ليس دينا ولا سياسة ؛ ولكنه يتصل بالدين وبالسياسة اتصالا قويا ، نريد به القصص الذي أشرنا إليه غير مرة فيما قدمنا من القول .

        فالقصص في نفسه ليس من السياسة ولا من الدين ، وإنما هو فن من فنون الأدب العربي توسط بين آداب الخاصة والآداب الشعبية . وكان مرآة للون من ألوان الحياة النفسية عند المسلمين . وأزهر في عصر غير قصير من عصور الأدب العربي الراقية ، أزهر أيام بني أمية وصدرا من أيام بني العباس ، حتى إذا كثر التدوين وانتشرت الكتب واستطاع الناس أن يلهوا بالقراءة دون أن يتكلفوا الانتقال إلى مجالس القصاص ، ضعف أمر هذا الفن وأخذ يفقد صفته الأدبية الراقية شيئا فشيئا حتى ابتذل وانصرف عنه الناس .

        وهذا الفن الأدبي تناول الحياة العربية والإسلامية كلها من ناحية خيالية لم يقدرها الذين درسوا تاريخ الآداب العربية قدرها ، لا أكاد أستثني منهم إلا الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فهو قد فطن لما يمكن أن يكون من تأثير القصص في انتحال الشعر وإضافته إلى القدماء ، كما فطن لأشياء أخرى قيمة وأحاط بها إحاطة حسنة في الجزء الأول من كتابه " تاريخ آداب العرب " . نقول إن هذا الفن قد تناول الحياة العربية والإسلامية من ناحية خيالية خالصة . ونعتقد أن الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي لو أنهم عُنوا بدرس هذا الفن عناية علمية صحيحة لوصلوا إلى نتائج قيمة ولغيروا رأيهم في تاريخ الأدب . فمهما تكن الأسباب التي دعت إلى نشأة فن القصص عند المسلمين ، فقد نشأ هذا الفن ؛ وكانت منزلته عند المسلمين هي بعينها منزلة الشعر القصصي عند قدماء اليونان . وكانت الصلة بينه وبين الجماعات هي بعينها الصلة بين الشعر القصصي اليوناني وجماعات اليونان القدماء .

        وليس من شك عندنا في أن هؤلاء القصاص من المسلمين قد تركوا آثارا قصصية لا تقل جمالا وروعة وحسن موقع في النفس عن "الإلياذة" و "الأوديسا" . وكل ما بين القصص الإسلامي واليوناني من الفرق هو أن الأول لم يكن شعرا كله وإنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلى حين بينما كان الثاني كله شعرا ، وأن الأول لم يكن يلقيه صاحبه على أنغام الأدوات الموسيقية بينما كان القاص اليوناني يعتمد على الأداة الموسيقية اعتمادا ما ، وأن الأول لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد الثاني من عناية اليونان ؛ فبينما كان اليونان يقدّسون "الإلياذة" و "الأوديسا" ويعنون بجمعهما وترتيبهما وروايتهما وإذاعتهما عناية المسلمين بالقرآن ، كان المسلمون مشغولين بالقرآن وعلومه عن قصصهم هذا .

        وفي الحق أن الأدب العربي لم يدرس في العصور الإسلامية الأولى لنفسه وإنما درس من حيث هو وسيلة إلى تفسير القرآن وتأويله واستنباط الأحكام منه ومن الحديث . وكان هذا كله أدنى إلى الجد وألصق به من هذا القصص الذي كان يمضي مع الخيال حيث أراد ويتقرّب من نفس الشعب ويمثل له أهواءه وشهواته ومُثله العليا . فليس غريبا أن ينصرف عن القصص أصحاب الجدّ من المسلمين .

        كان قصّاص المسلمين يتحدّثون إلى الناس من مساجد الأمصار فيذكرون لهم قديم العرب والعجم وما يتـّصل بالنبوات ، ويمضون معهم في تفسير القرآن والحديث ورواية السيرة والمغازي والفتوح إلى حيث يستطيع الخيال أن يذهب بهم لا إلى حيث يلزمهم العلم والصدق أن يقفوا . وكان الناس كلِفين بهؤلاء القصاص مشغوفين بما يلقون إليهم من حديث . وما أسرع ما فطن الخلفاء والأمراء لقيمة هذه الأداة الجديدة من الوجهة السياسية والدينية ، فاصطنعوها وسيطروا عليها واستغلوها استغلالا شديدا ، وأصبح القصص أداة سياسية كالشعر .

        وليس من شك في أن العناية بدرس هذا الفن ستنتهي إلى مثل ما انتهت إليه العناية بدرس الشعر من أن الأحزاب السياسية على اختلافها كانت تصطنع القصاص ينشرون لها الدعوة في طبقات الشعب على اختلافها ، كما كانت تصطنع الشعراء يناضلون عنها ويذودون عن آرائها وزعمائها . ونحن نعرف من سيرة ابن اسحاق أنه كان هاشمي النزعة والهوى ، وأنه لقي في ذلك عناءً من الأمويين في آخر عهدهم بالسلطان ، وأنه ظفر بحسن المنزلة عند العباسيين في أوّل عهدهم بالملك .

        والتعمق في درس حياة القصاص الذين كانوا يقصّون في البصرة والكوفة ومكة والمدينة وغيرها من الأمصار يظهرنا من غير شك على الصِّلات التي كانت تصل بين هؤلاء القصّاص وبين الأحزاب السياسية .

        غير أن القصص لم يتأثر بالسياسة وحدها ، وإنما تأثر بالدين أيضا . وقد رأيت في الفصل الماضي مُثـُلا توضح هذا التأثر .

        وتأثر القصص بشيء آخر غير السياسة والدين وهو روح الشعب الذي كان يُتحدث إليه . ومن هنا عني عناية شديدة بالأساطير والمعجزات وغرائب الأمور . ومن هنا اجتـُهد في تفسير هذه الأساطير وإكمال الناقص منها وتوضيح الغامض . فنحن نستطيع أن نقول إن هذا القصص كان يستمد قوته وثروته من مصادر مختلفة ، أهمها أربعة :

(الأول) مصدر عربي هو القرآن وما كان يتصل به من الأحاديث والروايات ، وما كانت تتحدث به العرب في الأمصار من أخبارها وأساطيرها وما كانت تروي من شعر ، وما كان يتحدث به الرواة من سيرة النبي والخلفاء وغزواتهم وفتوحهم .

(الثاني) مصدر يهودي نصراني ، وهو ما كان يأخذه القصّاص عن أهل الكتاب من أخبار الأنبياء والأحبار والرهبان وما يتصل بذلك ، وليس ينبغي أن ننسى هنا تأثير أولئك اليهود والنصارى الذين أسلموا وأخذوا يضعون الأحاديث ويدسونها مخلصين أو غير مخلصين .

(الثالث) مصدر فارسي ، وهو هذا الذي كان يستقيه القصّاص في العراق خاصة من الفرس مما يتصل بأخبارهم وأساطيرهم وأخبار الهند وأساطيرها .

ثم المصدر الرابع مصدر مختلط هو هذا الذي يمثل نفسية العامة غير العربية من أهل العراق والجزيرة والشام من الأنباط والسريان ومن إليهم من هؤلاء الأخلاط الذين كانوا منبثين في هذه الأقطار والذين لم تكن لهم سيادة ولا وجود سياسي ظاهر .

        كل هذه المصادر كانت تمد القصّاص . فكنتَ ترى في قصصهم ألوانا من القول وفنونا من الحديث قد لا تعجب العالِم المحقق لاضطرابها وظهور سلطان الخيال عليها ؛ ولكن لها جمالا أدبيا فنيا رائعا يعجب به من يستطيع أن يقدر التئام هذه الأهواء المختلفة التي تتصل بشعوب مختلفة وأجيال متباينة من الناس . ويعجب به بنوع خاص الذين يحاولون أن يتبينوا فيه نفسية الشعوب والأجيال التي كانت تلهم هؤلاء القصّاص .

        مهما يكن من شيء ، فإن هذه المصادر كلها كانت تطلق ألسنة القصّاص بما كانوا يتحدثون به إلى سامعيهم في الأمصار . وأنت تعلم أن القصص العربي لا قيمة له ولا خطر في نفس سامعيه إذا لم يزنه الشعر من حين إلى حين . ويكفي أن تنظر في "ألف ليلة وليلة" وفي قصة عنترة وما يشبهها ، فسترى أن هذه القصص لا تستطيع أن تستغني عن الشعر ، وأن كل موقف قيم أو ذي خطر من مواقف هذه القصص لا يستقيم لكاتبه وسامعه إلا إذا أضيف إليه قدر من الشعر قليل أو كثير يكون عماداً له ودعامة . وإذن فقد كان القصّاص أيام بني أمية وبني العباس في حاجة إلى مقادير لا حدّ لها من الشعر يزينون بها قصصهم ويدعمون بها مواقفهم المختلفة فيه . وهم قد وجدوا من هذا الشعر ما كانوا يشتهون وفوق ما كانوا يشتهون .

        وأكاد لا أشك في أن هؤلاء القصّاص لم يكونوا يستقلون بقصصهم ولا بما يحتاجون إليه من الشعر في هذا القصص ، وإنما كانوا يستعينون بأفراد من الناس يجمعون لهم الأحاديث والأخبار ويلفقونها ، وآخرين ينظمون لهم القصائد وينسقونها ، ولدينا نص يبيح لنا أن نفترض هذا الفرض ؛ فقد يحدثنا ابن سلاّم أن ابن إسحاق كان يعتذر عما كان يروى من غثاء الشعر فيقول : لا علم لي بالشعر إنما أوتي به فأحمله . فقد كان هناك قوم إذن يأتون بالشعر وكان هو يحمله . فمن هؤلاء القوم ؟ .

        أليس من الحق لنا أن نتصوّر أن هؤلاء القصاص لم يكونوا يتحدثون إلى الناس فحسب ، وإنما كان كل واحد منهم يشرف على طائفة غير قليلة من الرواة والملفقين ومن النظام والمنسقين ، حتى إذا استقام لهم مقدار من تلفيق أولئك وتنسيق هؤلاء طبعوه بطابعهم ونفخوا فيه من روحهم وأذاعوه بين الناس . وكان مثلهم في هذا مثل القاص الفرنسي المعروف (ألكسندر دوما) الكبير . وأنت تدهش إذا رأيت هذه الكثرة الشعرية التي تنبث فيما بقي لنا من آثار القصّاص . فلديك في سيرة ابن هشام وحدها دواوين من الشعر نظم بعضها حول غزوة بدر ، وبعضها حول غزوة أحد ، وبعضها في غير هاتين الغزوتين من المواقف والوقائع ، وأضيف بعضه إلى حمزة ، وبعضه إلى عليّ ، وبعضه إلى حسّان ، وبعضه إلى كعب بن مالك ، وأضيف بعضه إلى نفر من شعراء قريش ، وإلى نفر من قريش لم يكونوا شعراء قط ، وإلى نفر آخرين من غير قريش . وليش غير سيرة ابن هشام أقل منها حظا في هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين مرة وإلى المخضرمين مرة أخرى .

        وكثرة هذا الشعر الذي صدر عن المصانع الشعرية في الأمصار المختلفة أيام بني أمية وبني العباس كانت سببا في نشأة رأي يظهر أن القدماء كانوا مقتنعين به ، وأن الكثرة المطلقة من المحدثين ليست أقل به اقتناعا ، وهو أن الأمة العربية كلها شاعرة ، وأن كل عربي شاعر بطبعه وسليقته ، يكفي أن يصرف همه إلى القول فإذا هو ينساق إليه انسياقا . كان القدماء يعتقدون هذا وما يزال المحدثون يرونه . وعذر أولئك وهؤلاء أن لديهم كثرة فاحشة من الشعر تضاف إلى ناس منهم المعروف ومنهم غير المعروف ، منهم الحضري ومنهم البدوي . فأما العلماء والمحققون منهم فقد استطاعوا أن ينفوا من هذا الشعر مقدارا قليلا أو كثيرا لم يستطيعوا أن يقبلوه ولا أن يطمئنوا إليه . ولكنهم بعد الحذف والنفي والنقد والتمحيص نظروا فإذا لديهم مقادير ضخمة تضاف إلى ناس منهم المعروف ومنهم المجهول ، ومنهم الحضري ومنهم البدوي . فأي شيء أيسر من أن يعتقدوا أن العربي شاعر بفطرته ، وأنه يكفي أن يكون الرجل عربيا ليقول الشعر متى شاء وكيف شاء .

        ولكن رأيا كهذا لا يلائم طبيعة الأشياء . فنحن نستطيع أن نؤمن بأن الأمم تتفاوت حظوظها من الشعر ، فبعضها أشعر من بعض ، وبعضها أكثر شعراء من بعضها الآخر . ولكن لا نستطيع أن نفهم أن يكون جيل من الناس شاعرا كله ، أو أن تكون أمة من الأمم شاعرة كلها رجالا ونساءً وشبانا وشيبا وولدانا أيضا . ولدينا نصوص قديمة تدلنا على أن العرب لم يكونوا جميعا شعراء . فكثيرا ما حاول العربي قول الشعر فلم يوفق إلى شيء . وقد طلب إلى النبي في بعض المواقف التي احتاج المسلمون فيها إلى الشعر أن يأذن لعلي في أن يقول شعرا يرد به على شعراء قريش فأبى النبي أن يأذن له ، لأنه لم يكن من ذلك في شيء ، وأذن لحسّان .

        وما نظن أننا في حاجة إلى أن نقيم الأدلة نبسط البراهين على أن العرب لم يكونوا كلهم شعراء . وإنما سبيلنا أن نوضح أن كثرة هذا الشعر هي التي خيّلت إلى القدماء والمحدثين أن لفظ العربي مرادف للفظ الشعر . فإذا أضفت إلى ما قدمنا أنك تجد كثيرا من الشعر يضاف إلى قائل غير معروف بل غير مسمى ، فتراهم يقولن مرة قال الشاعر ، وأخرى قال الأول ، وثالثة قال الآخر ، ورابعة قال رجل من بني فلان ، وخامسة قال أعرابي وهلم جرا نقول إذا لاحظت هذا كله عذرت القدماء والمحدثين إذا اعتقدوا أن العرب كلهم شعراء .

        والحق أن العرب كانوا كغيرهم من الأمم ذات الفصاحة واللسن والأذهان القوية يكثر فيهم الشعر دون أن يعم كافتهم ، وأن أكثر هذا الشعر الذي يضاف إلى غير قائل أو إلى قائل مجهول إنما هو شعر مصنوع موضوع انتحل انتحالا بسبب من هذه الأسباب التي نحن بإزائها ومنها القصص .

        كثرة هذا الشعر الذي احتاج إليه القصّاص لتزدان به قصصهم من ناحية وليسيغها القراء والسامعون من ناحية أخرى خدعت فريقا من العلماء ، فقبلوها على أنها صدرت من العرب حقا . وقد فطن بعض العلماء إلى ما في هذا الشعر من تكلف حينا ومن سخف وإسفاف حينا آخر ، وفطن إلى أن بعض هذا الشعر يستحيل أن يكون قد صدر عن الذين يُنسب إليهم . ومن هؤلاء العلماء محمد بن سلاّم الذي أنكر كما رأيت ما يضيفه ابن إسحاق إلى عاد وثمود وحِمْير وتبّع ، وأنكر كثير مما رواه ابن إسحاق في السيرة من شعر الرجال والنساء سواء منهم من عُرف بالشعر ومن لم يقل شعرا قط . وآخرون غير ابن سلاّم أنكروا ما روى ابن إسحاق وأصحابه القصّاصون ؛ نذكر منهم ابن هشام الذي يروي لنا في السيرة ما كان يرويه ابن إسحاق ، حتى إذا فرغ من رواية القصيدة . قال : وأكثر أهل العلم بالشعر أو بعض أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة أو ينكرها لمن تضاف إليه .

ولكن هؤلاء العلماء الذين فطنوا لأثر القصص في انتحال الشعر خـُدعوا أيضا ؛ فلم يكن صناع الشعر جميعا ضِعافا ولا محمّقين ، بل كان منهم ذوي البصيرة النافذة والفؤاد الذكي والطبع اللطيف ، فكان يجيد الشعر ويحسن انتحاله وتكلفه ، وكان فطِنا يجتهد في إخفاء صنعته ويوفق من ذلك إلى الشيء الكثير . وابن سلاّم نفسه يحدثنا بأنه إذا سهل على العلماء النقاد أن يعرفوا ما تكلفه الضعفاء من المنتحلين ، فمن العسير عليهم أن يميزوا ما كان يتكلفه العرب أنفسهم ، وقد رأيت أن العرب أنفسهم كانوا يتكلفون ويضعون ويكذبون ، فيسرفون في هذا كله .

        ولعل من أوضح الأمثلة لانخداع ابن سلاّم عن هذا الشعر المنتحل هذه الطائفة التي رواها على أنها أقدم ما قالته العرب من الشعر الصحيح ، والتي يضاف بعضها إلى جذيمة الأبرش ، وبعضها إلى زهير بن جناب ، وبعضها إلى العنبر بن تميم ، وبعضها إلى مالك وسعد ابني زيد مناة بن تميم ، وبعضها إلى أعصر بن سعد بن قيس عيْلان . وكل هذا الشعر إذا نظرت فيه سخيف سقيم ظاهر التكلف بيّن الصنعة . واضح جداً أن راويا من الرواة أو قاصا من القصّاص تكلفه ليفسر مثلا من الأمثال أو أسطورة من الأساطير أو لفظا غريبا أو ليلذ القارئ أو السامع ليس غير . ولنضرب لذلك مثلا هذين البيتين الذين يضافان إلى أعصر بن سعد بن قيس عيْلان ، وهما :

قالت عميرة ما لرأسك بعد ما     نفد  الزمان  أتى  بلون  منكر
أعميز  إنّ  أباك  شيّب رأسه     كـَرُّ الليالي واختلاف الأعصر

قال ابن سلاّم وغيره من العلماء والرواة : إن هذا الرجل إنما سمّي "أعصر" لهذا البيت الأخير . قال ابن سلاّم : وبعض الناس يسميه "يعصر" وليس بشيء .

        وابن سلاّم نفسه يحدثنا أن معدّاً كان يعيش في العصر الذي كان يعيش فيه موسى بن عمران ، أي قبل المسيح بقرون عدّة أي قبل الإسلام بأكثر من عشرة قرون ، فإذا لاحظنا أن "أعصر" هذا هو ابن سعد بن قيس عيْلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ ، رأينا أنه إن عاش فقد عاش في زمن متقدم جدا أي قبل الإسلام بعشرة قرون على أقل تقدير .

        أفتظن أن هذين البيتين اللذين قرأتهما آنفا يمكن أن يكونا قد قيلا قبل الإسلام بألف سنة ! ونحن لا نعرف اللغة العربية قبل الإسلام بثلاثة قرون أو أربعة قرون ، ونحن نجد مشقة غير قليلة في فهم الشعر العربي الصحيح الذي قيل أيام النبي أو بعد النبي ، ولا نجد شيئا من العسر في فهم هذا الكلام الذي إن صح رأي ابن سلاّم فقد قيل قبل النبي بأكثر من عشرة قرون .

        أليس واضحا جليا أن هذين البيتين إنما قيلا في الإسلام ليفسرا اسم هذا الرجل الذي هو في حقيقة الأمر من أشخاص الأساطير لا نعرف أوُجد في حقيقة الأمر أم لم يوجد .

        وقل مثل هذا فيما يضيفه ابن سلاّم إلى مالك وسعد ابنيْ زيد مناة بن تميم . فنحن لا نعرف مَنْ سعدٌ ومَنْ مالك ومَنْ زيد مناة ومَنْ تميم . وأكبر الظن عندنا أنهم أشخاص أساطير لم يوجدوا قط . ولكن رأي الرواة والقصاص مثلا تستعمله العرب وهو : "ما هكذا تورد يا سعد الإبل" .. وهم في حاجة إلى تفسير الأمثال ؛ والشعوب نفسها في حاجة إلى تفسير الأمثال أيضا . ومن هنا اخترعت هذه القصة التي نطق فيها سعد ومالك بما يضاف إليهما من الرجز .

        وقل مثل هذا فيما يضاف للعنبر بن تميم وهو :

قد رابني من دلوِيَ اضطرابها     والنأي في بهراء واغترابها
  إلاّ تجيء ملأى  يجيء قِرابها

        فالأمر عندنا لا يتجاوز تفسير هذا البيت الأخير الذي كان يجري مجرى المثل فيما يظهر . وقل مثل هذا في هذا الشعر الذي يضاف إلى جذيمة الأبرش ، وفي كل ما يتصل بجذيمة وصاحبته الزّباء وابن اخته عمرو بن عديّ ووزيره قـَصير . 

        فليس لهذا كله إلا أصل واحد هو تفسير طائفة من الأمثال ذكرت فيها أسماء هؤلاء الناس كلهم أو بعضهم كقولهم "لا يطاع لقصير أمر" . وقولهم : "لأمرٍ ما جدع قصيرٌ أنفه" ، وقولهم : "شب عمرو على الطوق" . أو ذكر فيها ما يتصل بهؤلاء الناس في هذه القصص التي كانت شائعة عند هؤلاء الأخلاط من سكان العراق والجزيرة والشأم وما يتصل بها من بوادي العرب ، كفرس جذيمة التي كانت تسمى "العصا" والبرج الذي بناه قصير على العصا بعد أن نفقت وكان يسمّى "برج العصا" ، ودم جذيمة الذي جمعته الزّباء في طست من الذهب ، وجـِمال عمرو بن عديّ التي احتال قصير في إدخالها تدْمر وعليها الرجال في الغرائر .

        وتستطيع أن تذهب هذا المذهب من الفهم والتفسير في كل هذه الحكايات والأساطير التي تتصل بالأسماء والأمثال والأمكنة وما إليها وما ينشد فيها من الشعر .

        ولكن القدماء لم يذهبوا هذا المذهب ؛ وإنما قبلوا هذه الأخبار والأشعار على علاتها ورووها على أنها صحيحة لأنهم سمعوها من رواة كانوا يعتقدون أنهم ثقات مصححون . ومن هنا روى ابن سلاّم وغيره أبياتا لجذيمة على أنها من أقدم الشعر العربي وهي التي تبتدئ بهذا البيت :

ربما أوفيتُ في علمٍ     ترفعنْ ثوبي شمالاتُ

        وهناك لون من ألوان القصص كان الناس يتحدثون به ويميلون إليه ميلا شديدا ويرون فيه الأكاذيب والأعاجيب وهو أخبار المعمّرين الذين مدّت لهم الحياة إلى أبعد مما ألف الناس . وقد رويت حول هؤلاء المعمّرين أخبار وأشعار قبلها العلماء الثقات في القرن الثالث للهجرة كأبي حاتم السجستاني وابن سلاّم نفسه ، وهو يروي لنا في كتاب الطبقات هذا الشعر المتكلف السخيف الذي يضاف إلى أحد هؤلاء المعمّرين وهو المستوغر بن ربيعة بن كعب بن سعد الذي بقي بقاءً طويلا حتى قال :

ولقد سئمت من الحياة وطولها    وازددت من عدد السنين مئيــنا
مائة أتت  من بعدها مئتان لي    وازددت من عدد الشهور سنينا
هل  ما  بقي  إلا كما  قد فاتنا    يـــومٌ  يكــــرُّ  وليلة ٌ  تحـــدونا

ويروي لنا ابن سلاّم شعرا آخر ليس أقل من هذا الشعر سخفا ولا تكلفا ولا انتحالا يضيفه إلى دُوَيْد بن زيد بن نهد حين حضره الموت :

اليـــومَ  يبنى  لدُوَيْد  بيته     لو كان  للدهر  بلىً أبليته
أو كان قربي واحداً كفيته     يا رُبَّ نهْبٍ صالحٍ حويته
ورُبَّ  غيْلٍ  حسن  لويته     ومِعصمٍ  مخضّبٍ  ثنـيـته

فأنت ترى أن ابن سلاّم على ما أظهر من الشك فيما كان يروي ابن إسحاق من شعر عاد وثمود وتبّع وحِمْير ، قد انخدع عما كان يرويه ابن إسحاق وغير ابن إسحاق من القصّاص من الشعر يضيفونه إلى القدماء من حاضرة العرب وباديتهم .

        والرواة أشد انخداعا حين يتصل الأمر بالبادية اتصالا شديدا ، وذلك في هذه الأخبار التي يسمونها "أيام العرب" أو "أيام الناس" . فهم سمعوا بعض هذه الأخبار من الأعراب ثم رأوها تقص مفصلة مطوّلة فقبلوا ما كان يروى منها على أنه جدّ من الأمر ، ورووه وفسّروه وفسّروا به الشعر واستخلصوا منه تاريخ العرب ؛ مع أن الأمر فيه لا يتجاوز ما قدّمناه . فليست هذه الأخبار إلا المظهر القصصي لهذه الحياة العربية القديمة ، ذكره العرب بعد أن استقروا في الأمصار فزادوا فيه ونمّوه وزينوه بالشعر ؛ كما ذكر اليونان قديمهم فأنشأوا فيه "الإلياذة" و "الأوديسا" وغيرهما من قصائد الشعر القصصي التي لم يكن يكد يبلغها الإحصاء . فحرب البسوس وحرب داحس والغبراء وحرب الفساد وهذه "الأيام" الكثيرة التي وضعت فيها الكتب ونظم فيها الشعر ليست في حقيقة الأمر – إن استقامة نظريتنا – إلا توسيعا وتنمية لأساطير وذكريات كان العرب يتحدّثون بها بعد الإسلام .

        ومن هنا نستطيع أن نقول مطمئنين إن مؤرّخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك – إن لم يقف موقف الإنكار الصريح – أمام هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين ، والذي هو في حقيقة الأمر تفسير أو تزيين لقصة من القصص أو توضيح لاسم من الأسماء أو شرح لمثل من الأمثال .

        كل ما يُروى عن عاد وثمود وطسْم وجَديس وجُرهُم والعماليق موضوع لا أصل له . وكل ما يُروى عن تبّع وحِمْير وشعراء اليمن في العصور القديمة ، وأخبار الكهان ، وما يتصل بسيْل العرم وتفرّق العرب بعده موضوع لا أصل له .

        وكل ما يُروى من أيام العرب وحروبها وخصوماتها وما يتصل بذلك من الشعر خليق أن يكون موضوعا . والكثرة المطلقة منه موضوعة من غير شك .

        وكل ما يُروى من هذه الأخبار والأشعار التي تتصل بما كان بين بين العرب والأمم الأجنبية من العلاقات قبل الإسلام كعلاقاتهم بالفرس واليهود والحبشة خليق أن يكون موضوعا . وكثرته المطلقة موضوعة من غير شك .

        ولسنا نذكر شعر آدم وما يشبهه فنحن لم نكتب هذا الكتاب هازلين ولا لاعبين .

الصفحة الرئيسية

 الإهداء

    الكتاب الأول :
1- تمهيد
2- منهج البحث
3- مرآة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي
4- الشعر الجاهلي واللغة
5- الشعر الجاهلي واللهجات

    الكتاب الثاني :
   أسباب انتحال الشعر
1- ليس الانتحال مقصورا على العرب
2- السياسة وانتحال الشعر
3- الدين وانتحال الشعر
4- القصص وانتحال الشعر
5- الشعوبية وانتحال الشعر
6- الرواة وانتحال الشعر

    الكتاب الثالث :
      الشعر والشعراء
1- قصص وتاريخ
2- امرؤ القيس . عبيد . علقمة
3- عمرو بن قميئة . مهلهل . جليلة
4- عمرو بن كلثوم . الحارث بن حلزة
5- طرفة بن العبد . المتلمس

   ملحق :
     نص قرار النيابة
1- نص بيان الاتهام
2- عن الأمر الأول
3- عن الأمر الثاني
4- عن الأمر الثالث
5- عن الأمر الرابع
6- القانون ونص الحكم  

الصفحة الرئيسية