موت المسيح وصلبه في القرآن

نصل الآن إلى نقطة حساسة من شهادة القرآن للإنجيل والمسيح ، موضوعها نهاية المسيح على الأرض؟

إن الإنجيل المقدس يُكرس ثُلث صفحاته ليسرد تفاصيل صلب المسيح بيد اليهود ، في أيام بيلاطس البنطي من قبل روما على اليهودية ، تأييداً منه لرسالته وتعاليمه اللذين لم ينكرهما أمام الموت المحتوم . لقد زكى شهادته بتضحية حياته ، والشهادة المطبوعة بخاتم الدم لا تُنقض . فيخبرنا الإنجيل أن السيد المسيح قد أُقف وحُكم وتألم وصلب ومات على الصليب ، ثم قام من القبر في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماء حياً . والإنجيل كله ، بل والدين المسيحي كله مبني على فداء البشرية من خطاياها باموت المسيح الفدائي . فهل يمكن أو يعقل أن يزور كتاب برمته تفديه الملايين من الناس بالمهج والأرواح ، وهؤلاء الملايين قد اختلفوا في عقائدهم المستمدة منه ، وفي فهم بعض آياته الخطيرة ، ولكن لم يختلفوا في نص الكتاب الذي ائتمنوا عليه وكانوا عليه شهداء.

والنصارى انتشروا في كل زمان ومكان ، وافترقوا فرقاً وجماعات مدة 600 سنة قبل ظهور القرآن ، وراحوا يبشرون في كل موضع بحقيقة موت المسيح التاريخية على الصليب . فكيف يمكن أن تُكذب شعوب برمتها ، اتفقت جميعاً ، مع اختلافها في غير أمر ، على هذه الشهادة لحدث جللٍ محسوس مشاهد منقول بالتواتر ؟

والقرآن ينقل لنا أيضاً شهادة شعب اليهود تحت كل سماء، وتبجحهم بكفرهم وقولهم : "إنا قتلنا المسيح، عيسي ابن مريم"(نساء: 15)، شعب بكامله يشهد لحادث خطير محسوس قاموا بتمثيله، ونقلوا خبره بالتواتر حيث رحلوا وحلوا، ونأتي فنكذب شهادتهم ونكذب عيونهم وأيديهم وآذانهم وألسنتهم ؟ وذلك بعد 600 سنة من جريان الحوادث وتواتر الشهادة، التي لم يرتفع صوت من النصاري أو اليهود أو الوثنيين ينقضها أو يطعن فيها ؟ !!

وقد شعر العلماء المسلمون بهذا الإشكال الضخم يوجه إلي مقالة من أنكر موت المسيح من المسلمين. ونقل العلامة الرازي : "الإشكال الخامس : إن النصاري علي كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمرهم أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً فلو أنكرنا ذلك كان طعناً في ما نبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسي وسائر الأنبياء".

إذن موت المسيح حقيقة تاريخية رددت الشعوب المختلفة والأجيال المتعاقبة صداها مدة 600 سنة قبل القرآن. فهل في القرآن صدي لهذه الحقيقة التاريخية، أم أنه ينفي، كما يزعمون، قتل المسيح وموته؟

والمتأمل في موقف القرآن ، إذا تمتع بروح الباحث المدقق ، سيجد أن موقف القرآن العام من هذا الموضوع لرائع !

فهو يشهد أنه كما دخل المسيح العالم بمعجزة فريدة خرج منه بمعجزة فريدة لا مثيل لها في تاريخ البشرية، وتاريخ الأنبياء والمرسلين. فعيسي ابن مريم -  مات أم لم يمت -  قد ارتفع حياً إلي السماء حيث لم يزل حياً عند الله إلي قيام الساعة : "إذ قال الله، ياعيسي ابن مريم إني متوفيك ورافعك إلي وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة" (آل عمران 55). ونقول إن معجزة ارتفاع المسيح إلي السماء حياً في آخر حياته علي الأرض -  دون أن يذوق طعم الموت شأن كل بشر وكل نبي ورسول -  أغرب وأعظم في جانبه من موته وقيامته وصعوده: في هذه المقالة مجد جديد للمسيح لم يحلم به بشر أو نبي ألا وهو استثناؤه من فريضة الموت العامة التي لا يستثني منها أحد !! فبدل معجزة واحدة لآخرة المسيح يجدون معجزتين : استثناءه من الموت، وارتفاعه حياً إلي الله.

أولاً : شهادة القرآن بموت المسيح

1 -  النصوص التي تذكر آخرة المسيح بحسب تاريخ نزولها

1) سورة مريم : "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (33).

2) سورة البقرة : "ولقد آتينا موسي الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسي ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس : أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم : ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون" (87) (قد يكون فيه تلميح لموت المسيح).

3) سورة آل عمران : "قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتي يأتينا بقربان تأكله النار. قل قد جاءكم رسلي قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين" (183). (قد يكون فيه تلميح لموت المسيح).

وأيضاً : "إذ قال الله : ياعيسي ابن مريم إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة" (55).

4) سورة النساء : "وقولهم (اليهود) : إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم، رسول الله ! -  وما قتلوه ! وما صلبوه ! ولكن شبه لهم. وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه وكان عزيزاً حكيماً" (156). (هذا النص هو سبب كل جدل).

وأيضاً : "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، و يوم القيامة يكون عليهم شهيداً" (157).

5) سورة المائدة : "وإذ قال الله: ياعيسي ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ؟ -  قال، سبحانك، ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق: إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب. ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم. وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم = فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت علي كل شئ شهيد" (116 - 120 ). (وهذا النص هو آخر ما نزل في آخرة السيد المسيح).

2 -  بعض من التحليل

نري من جميع هذه النصوص المذكورة أنها تؤكد تصريحاً أو تلميحاً "وفاة المسيح، ماخلا الآية 157 من سورة النساء "فيظهر" أنها تنفي القتل والصلب، وتخلق بذلك المتناقضات بين التاريخ العام الذي تدعمه شهادة النصاري واليهود والرومان والتاريخ الخاص الذي تبدؤه هذه الآية الوحيدة، وبين الإنجيل المبني جميعه علي حادث الصلب الفدائي وبين القرآن الذي يحصرون معطياته، بدون مبرر، في هذه الآية، وأخيراً بين سورة النساء وسائر السور التي قبلها (آل عمران، مريم) والتي بعدها (المائدة).

وإزاء هذه المشكلة المستعصية يذهب المفسرون مذاهب متباينة متناقضة :

1) القائلون بالمجاز : يجنح أكثر المتأخرين من المسلمين علي قصر رواية القرآن عن آخرة المسيح علي سورة النساء، وعلي تفسير كل ما تبقي من سائر السور علي ضوئها. وقد يجمع هؤلاء القوم علي أخذ "الوفاة" المذكورة في آل عمران 55 والمائدة 120 بالمعني المجازي أي وفاة النوم استناداً إلي قوله "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه" (إنعام 60) وقوله: "الله يتوفي الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها: فيمسك التي قضي عليها الموت ويرسل الأخري إلي أجل مسمي، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (زمر 42).

ولكن هؤلاء القوم نسوا إن القرآن يأخذ "الوفاة" بالمعني الحقيقي أي الموت خمساً وعشرين مرة. ولم ترد بالمعني المجازي إلا في الموضعين المذكورين بسبب قرينة لفظية تحملهما علي المجاز "يتوفاكم بالليل" (إنعام 60) و"يتوفي الأنفس في منامها" (زمر 42). وبدون قرينة لفظية أو معنوية تقيد المعني يجب حمل اللفظ علي معناه الحقيقي الوضعي البديهي. والقرآن ذاته يشعر بأن المعني الحقيقي "للوفاة" هو الموت "الله يتوفي الأنفس حين موتها" لذلك لما أخذ "الوفاة" علي المجاز اضطر إلي تبيان ذلك بقرينة لفظية فأضاف "الله يتوفي الأنفس حين موتها، والتي م تمت، في منامها". وفي النصوص كلها التي تذكر "وفاة" المسيح لا توجد أدني قرينة لفظية أو معنوية تحمل معني الوفاة علي المجاز بل بالعكس فالقرائن المعنوية واللفظية تتطلب وفاة الموت.

2) القائلون بالاستيفاء : وهناك فئة تفسر معني "الوفاة" لغة "بالاستيفاء" من استوفي الشئ وتوفي الشئ أي أخذه كاملاً. فقوله "إني متوفيك معناه مستوفي أجلك المسمي". وهذا ما ذهب إليه الزمخشري والبيضاوي، لتستقيم نصوص القرآن وتنسجم في شأن آخرة المسيح.

وفات هؤلاء القوم أن الكلام مركب من ألفاظ تستكمل معانيها في تركيبها وإن احتملت لغة ومفردة معاني عديدة. فالوفاة قد تعني "الاستيفاء" بحد ذاتها ولكن في تركيب الكلام المفيد لا تعني في لغة العرب ولغة القرآن كله إلا الموت، ما لم تخرج بها قرينة لفظية أو معنوية عن هذا المعني.

وقد اختصر الرازي تفاسير المفسرين بقوله : "ياعيسي إني متوفيك (آل عمران 55) ونظيره قوله : "إني متوفيك" (مائدة 120) : اختلف أهل التأويل في هاتين الآيتين علي طريقين (أحدهما) إجراء الآية علي ظاهرها من غير تقديم ولا تأخير، (والثاني) فرض التقديم والتأخير. أما الطريق الأول فبيانه من وجوه : 1) إني متمم عمرك إلي أجلك، 2) متوفيك أي مميتك وهو مروي عن ابن عباس قال مع وهب توفي ثلاث ساعات ثم رفع، ومن محمد بن اسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه إليه، 3) قال الربيع بن أنس أنه تعالي توفاه حين رفعه إلي السماء، 4) يحمل الألفاظ علي ظاهرها من موت ورفع ولكن كيف ومتي فلا يذكره، 5) متوفيك عن شهواتك، 6) التوفي هو أخذ الشئ وافياً أي كاملاً أي أخذه بجسده وروحه، 7) متوفيك أي أجعلك كالمتوفي في نظرهم برفعك، 8) التوفي هو القبض، يقال توفي واستوفي، وهو رفعه، 9) أن يقدر حذف المضاف أي متوفي عملك. والطريق الثاني لابد من تقديم وتأخير في آية آل عمران، قالوا ولا تفيد الترتيب، فيقدم الرفع وتؤخر الوفاة وتحمل علي ظاهرها بالموت. وأعلم أن الوجوه التي قدمنا تغني عن التزام مخالفة الظاهر".

وهكذا ما أخذ "الوفاة" بمعني "الاستيفاء" إلا قول من عشرة أقوال. وأكثر الأقوال تقتضي حمل اللفظ علي ظاهره بمعني الموت.

3) الآخذون بمبدأ النسخ : تشاهد حيرة المفسرين لاستنباط تفسير منسجم بين النساء من جهة وآل عمران والمائدة من جهة أخري. وهذه الحيرة وهذا الارتباك شاهد علي وجود أشكال لم يسلكوا بعد إلي حله السبيل السوي.

وظن قوم آخرون أن لهم مخرجاً في مقالة الناسخ والمنسوخ فقالوا : إن ما جاء في سورة النساء ينسخ ما ورد في آل عمران ومريم. وعليه ظل الرآي العام الإسلامي علي أن المسيح لم يمت. ولكن فات هؤلاء القوم أن النسخ -  إن قبل كمبدأ في تفسير كلام الله -  لا يقع إلا في الأحكام من أمر أو نهي، ولا يجوز البتة أن يسند إلي الأخبار : فالخبر أمر جري علي وجه معين لا تقدر قدرة أن تجعله لم يكن، "وكان أمر الله مفعولاً". فبعد أن شهد في مريم وآل عمران أن المسيح سيموت ومات فلا يجوز أن يكذب هذا الخبر بقوله في النساء : "وما قتلوه وما صلبوه ! ... وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه" ! أي أنه لم يمت بأي حال من الأحوال.

وهب وقوع النسخ في هذا الخبر بعينه، فالمعروف بديهياً أن النسخ يتناول ما قبله، ولايقع فعله علي ما بعده. وهب أن الآية 156 من النساء قد نسخت وفسرت ما قبلها من سورة مريم وآل عمران، فكيف تنسخ ما بعدها من سورة المائدة التي لم تكن بعد قد نزلت، ولما نزلت لم يرد شئ بعدها عن آخرة المسيح ؟ فما النسخ هنا كما تري سوي المسخ بعينه !

4) أسطورة الشبه : وهتاك أسطورة غريبة يتناقلها القوم، ويسف بعض المفسرين إلي الأخذ بها، ألا وهي قصة " الشبه" ، ومضمونها أنه لما مكر اليهود بالمسيح ليقتلوه مكر الله بهم، فألقي شبه عيسي علي غيره فأخذ هذا الغير المسكين وقتل بدل المسيح فيما المسيح عيسي ابن مريم يرفع حياً إلي السماء (نساء 157) وكان الله خير الماكرين (آل عمران 54).

فهذا التعبير "شبه لهم" من هذه الآية "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" (نساء 156) أصل الرواية التي أخرجوها. وقد أثارت جدلاً طويلاً عقيماً وانقسم القول حول الموضوع فرقاً : هل قتل أحد بدل المسيح أم لا ؟ وعند من قالوا بمقتول بدل المسيح هي ألقي علي المقتول شبه عيسي أم لا؟ وهل يجوز إلقاء شبه إنسان علي إنسان آخر؟ وبعد أن يسرد الرازي برصانته المعهودة روايات الشبه الملقي يختم بقوله : "وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور".

ثم يورد الرازي اشكالات ستة لا مرد لها علي فساد نظرية "الشبه" الذائعة بين عامة المسلمين : "فكيفما كان ففي إلقاء شبه عيسي علي الغير إشكالات : (الأول) إنه إن جاز أن يقال أن الله تعالي يلقي شبه إنسان علي إنسان آخر فهذا يفتح باب السفسطة ويفضي أيضاً إلي القدح في التواتر: ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوءات بالكلية. (الثاني) إن الله أيده بروح القدس جبريل، فهل عجز هنا عن تأييده ؟ وهو نفسه كان قادراً علي إحياء الموتي فهل عجز عن حماية نفسه؟ (الثالث) إن الله تعالي كان قادراً علي تخليصه برفعه إلي السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه علي غيره، وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟ (الرابع) بإلقاء الشبه علي غيره اعتقدوا أن هذا الغير عيسي مع أنه ما كان عيسي، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله. (الخامس) إن النصاري علي كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما ثبت بالتواتر والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد وعيسي وسائر الأنبياء. (السادس) ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنه ليس بعيسي، والمتواتر أنه فعل. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعني. فلما لم يوجد شئ من ذلك علمنا أن الأمر ليس علي ما ذكرتم".

لذلك يجب رفض خرافة "الشبه" الشائعة بين المسلمين إلي حيث لا رجعة. ورفضها لا يغير من موقف القرآن، ومقالة النساء، شيئاً.

5) القائلون بالأرجاف: بقي قول من قال : "لم يقتل أحد، ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس" وإليه يميل الرازي. قال البيضاوي أيضاً : "وشبه مسند إلي الجار والمجرور "لهم" كأنه قيل : ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسي والمقتول، أو وقع لهم التشبيه في الأمر علي قول من قال لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس". نقول لا تجوز فدية علي شعوب مختلفة مدة مئات السنين !. ولا شئ ينقض تعليل الزمخشري وتفسيره لقوله "شبه لهم" : "شبه مسند إلي ماذا؟ إن جعلته مسنداً إلي المسيح فالمسيح مشبه به، وليس بمشبه. وإن أسندته إلي المقتول، فالمقتول لم يجر له ذكر ! -  قلت هو مسند إلي الجار والمجرور (لهم) كقولك خيل إليهم". وهكذا فليس من ضرورة لغوية لأسطورة الشبه والتشبيه.

ومعني التعبير بسيط له أمثاله في العربية : " شبه لهم" أي "خيل إليهم" (الزمخشري) أو "وقع لهم التشبيه في الأمر" (البيضاوي) أو اشتبه الأمر عليهم. فأسطورة "الشبه" ومقالة المقتول بدل المسيح، باطلة لغوياً ومنطقياً وتاريخياً فيجب طرح هذه السخافة نهائياً.

6) استنتاجات وتطبيقات : وبناء علي ما تقدم نقول :

أولاً : إن التعارض في آي القرآن عن آخرة المسيح موجود لا سبيل إلي إنكاره إذا أصر القوم علي فهم الآية 156 من سورة النساء حسب "ظاهرها" الذي ينكر موت المسيح وقتله وصلبه. إن صراحة وشدة نفي القتل والصلب والموت في سورة النساء حمل القوم علي "تدبر" معني الوفاة في آل عمران والمائدة علي غير معناها الحقيقي. وهي محاولة فاشلة كما رأيت. فقبل سورة النساء يعلن القرآن مرتين تصريحاً ومرتين تلميحاً بموت المسيح وقتله.

1) ففي سورة مريم المكية يتنبأ المسيح في مهده عن حياته وآخرته بقوله "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً"(33) قال قوم لا يذكر القرآن هنا موت المسيح الوهمي الذي حصل عند مجيئه الأول بل موته الحقيقي الذي سيتم عند مجيئه الثاني قبل قيام الساعة.

لاشك أن القرآن يعني موت المسيح الحقيقي وبعثه الحقيقي كما يعني مولده الحقيقي الذي يقص خبره. ولاشك أن القرآن يعني موته الحقيقي الذي ختم به حياته بعد ظهوره الأول علي الأرض كما عني ذلك عن يحيي بن زكريا الذي ختم ذكره بالكلام ذاته "وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً" : فكما مات يحيي مات عيسي : فالمشهور أن هذا السلام يصف حادثاً تاريخياً مماثلاُ، وموتاً حقيقياً لا مجاز فيه ليحيي كما للمسيح.

ولا تنس أن كلام عيسي عن نفسه في مهده (29) نبوة منه عن آخرته، مدعومة بمعجزة نطقه الخارقة : فإذا كان المسيح لم يمت كانت نبوته كاذبة، وشهادته لنفسه بهاتين المعجزة والنبوة كاذبة ! ومعجزة نطقه في مهده زوراً وبهتاناً ! وحاشي ! وإذا حملنا تحقيق النبوة إلي آخر العالم، ضاع مغزاها علي أهل زمانه والأجيال المتعاقبة إذ لا يدري أحد متي تتحقق.

فعندنا في سورة مريم شهادة صريحة لا ريب فيها علي حقيقة موت المسيح وانبعاثه في شكل نبوة ترتكز علي معجزة. وقول من قال: الموت لا يعني القتل، أو هو الموت الآجل لا العاجل، حذلقة فارغة ينقضها سياق الحديث في السورة كلها.

2) في سورة آل عمران المدنية يسرد قصص آل عمران مطولاً ويختمه بهذا التصريح عن آخرة المسيح لما مكر اليهود به ليقتلوه (54) : "إذ قال الله ياعيسي إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلي يوم القيامة" (55).

هذا أيضاً إقرار لا ريب فيه عن حقيقة وفاة المسيح وانبعاثه ورفعه إلي السماء. وتفسير الوفاة هنا بمعني النوم كما يريد البعض -  أي رفعه الله إليه في سنة الكري -  تفسير سخيف لا قرينة لفظية أو معنوية تدل عليه. وجمهور المفسرين علي أن القرآن يعني وفاة الموت كما يتضح جلياً من سورة المائدة (117) حيث الوفاة ترد معارضة للحياة.

قال الرازي : "روي عن ابن عباس ومحمد بن اسحاق أنهما قالا : متوفيك أي مميتك ثم أقامه الله ورفعه إلي السماء. وقال وهب توفي ثلاث ساعات ثم رفع إلي السماء. وقال محمد بن اسحاق توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه". وختم البيضاوي بقوله : "وقيل أماته الله سبع ساعات ثم رفعه إلي السماء وإليه ذهبت النصاري".

لا يوجد مفسر واحد في الإسلام وغيره يستطيع أن يجزم بأن الوفاة هنا لا تعني أيضاً الموت، قال البيضاوي : "التوفي أخذ الشئ وافياً والموت نوع منه". وسياق الحديث (54 -  56) يؤيد ذلك: مكر اليهود بالمسيح وقتلوه، فمكر الله بهم فتوفاه ورفعه إليه، وهكذا "كان الله خير الماكرين".

3) وهناك في سورة البقرة تلميح يتضمن معناه الكامل قتل المسيح: "ولقد آتينا موسي الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم؟ ففريقاً كذبتم ! وفريقاً تقتلون !" (87). ويذكر المفسرون من الفريق المقتول زكريا ويحيي، لا عيسي. مع أن القرآن لا يذكرهما هنا بل يسمي صراحة موسي وعيسي، ويشمل بينهما باقي الرسل بكلمة عابرة، أفلا يقع التكذيب علي موسي والقتل علي عيسي؟

4) وتلميح آخر في آل عمران أوضح : "قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتي تأتينا بقربان تأكله النارز قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قلتلتموهم إن كنتم صادقين؟" (183) -  من هو الرسول الذي جاء بالقربان "الذي قلتم" وقتلوه؟ راجع قصص القرآن كله عن الأنبياء جميعاً، فلا تري غير عيسي ابن مريم وحده قد أنزل علي تلاميذه قرباناً أو مائدة من السماء (مائدة 111 -  115). فهو إذن رسول القربان الذي قتلوه (120). وبعد سورة النساء التي ظاهرها ينفي موت المسيح وقتله يعود القرآن في آخر حياة النبي العربي يشهد بحقيقة موت المسيح في سورة المائدة التي بعدها لا ينزل شئ عن آخرة المسيح :

"وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم = فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت علي كل شئ شهيد" (120).

هذا النص هو الصخرة التي تتحطم عليها جميع محاولات الذين ينكرون شهادة القرآن بموت المسيح. فالوفاة هنا تعني الموت والموت دون سواه، ونعني الموت الحقيقي لأنها ترد معاكسة للحياة: "ما دمت فيهم = فلما توفيتني". فهي شهادة صريحة وما من شك فيها. ويريد القرآن موت المسيح في ختام رسالته، لا موته في آخر العالم قبل قيام الساعة، لأن الله يستجوبه عن عبادته بعد رسالته : "أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله" (119) فينكر المسيح أن رسالته تضمنت شيئاً من ذلك (119 -  120) ويقول شهدت لهم بالتوحيد مادمت فيهم فلما توفيتني صرت أنت الرقيب عليهم (120) فالوفاة عقبت رسالته في الحال. وموت المسيح عند قيام الساعة لا يترك مجالاً لأحد كي يعبده إلهاً من دون الله. وهذه الشهادة علي لسان المسيح نفسه لا مرد لها لأنها من يوم الدين حيث ينفع الصادقين صدقهم (122). وهي شهادة نهائية لا ينسخها شئ ولا يفسرها شئ لأنها آخر شئ ورد في القرآن عن آخرة المسيح.

وهكذا فقد تبين لنا بوضوح أن القرآن قبل سورة النساء في مكة والمدينة، وبعد سورة النساء، في آخر القرآن (سورة المائدة) يشهد دون التباس البتة بحقيقة موت المسيح في ختام رسالته. فإذا تمسكنا بظاهر الآية 156 من النساء "وما قتلوه وما صلبوه" بمعني إنكار موت المسيح وقتله، نجد أنفسنا أمام تناقض صريح فاضح.

ثانياً : إن الطريق التي سلكوا إلي إزالة هذا التناقض الظاهر ليست بالطريق السوي: إنهم يفسرون الكل بالبعض ! يريدون أن يفهموا كل آي القرآن عن آخرة المسيح علي ضوء آية واحدة (نساء 156). لا تؤخذ نظرية أو عقيدة في كتاب منزل أو غير منزل من نص واحد، بل من مجموع النصوص الواردة في المعني ذاته. وعندنا في القرآن أربعة أو ستة نصوص عن آخرة المسيح، تشهد جميعاً إلا واحداً بموت المسيح وقتله، فهل من العقل والمنطق أن نهمل الكل لنتمسك بجزء واحد ؟!

أنخلق بهذا الموقف الشاذ تناقضاً في القرآن بين سوره، وبين الإنجيل والقرآن، وبين تفسيرهم المخطئ والتاريخ العام عند النصاري واليهود والأمميين ؟ وقد قال القرآن عن نفسه : "أفلا يتدبرون القرآن ؟ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً" (نساء 82).

إن الطريق السوي هي في فهم آية النساء الوحيدة علي أضواء جميع آيات القرآن عن حقيقة موت المسيح وقتله. فالمنطق يقتضي فهم البعض علي نور الكل. والطريق السوي هي عكس التي سلكوا.

لقد "تدبرنا" الآية 156 من سورة النساء علي أنوار ما قبلها وما بعدها فوجدناها لا تتعارض معها. وسياق الكلام في النص المشبوه يؤكد ما نحن ذاهبون إليه، فالقرآن يسفه اليهود علي زعمين: "كفرهم وقولهم علي مريم بهتاناً عظيماً ! وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم". قال البيضاوي: "وإنما ذمهم الله تعالي بما دل عليه الكلام من جرأتهم علي الله وقصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات القاهرة، وتبجحهم به، لا بقولهم هذا علي حسب حسبانهم". إنه يسفههم علي تبجحهم الفارغ، لا علي حقيقة القتل والصلب والموت لأن مكر الله بهم بإحياء المسيح ورفعه حياً إلي السماء كان أشد من مكرهم بنبيه. فقتلهم إياه ليس بالقتل الذي يتوهمون وصلبهم إياه ليس بالصلب الذي يظنون إذ مالبث إن انبعث حياً للحال وصعد إلي السماء حيث رفعه الله إليه. نقل الرازي : "أجعلك كالمتوفي في نظرهم برفعك إلي".

ظنوا أنهم قضوا علي المسيح عيسي ابن مريم رسول الله قضاء مبرماً ولاشوا ذكره إلي الأبد، فلا حاجة إذن لأن يذكره النبي العربي لهم. ولكنهم قد خاب ظنهم فما قتلوه نهائياً وما قضوا عليه قضاء مبرماً أي "وما قتلوه يقيناً إذ أحياه الله في الحال ورفعه إليه وكان الله عزيزاً حكيماً، ومن ثم فلابد لهم من الإيمان به.

ومجموع التعابير في الآية يؤيدان تبجحهم بالقضاء نهائياً علي المسيح : غرور 1) شبه لهم وخيل إليهم أنهم قضوا عليه قضاء نهائياً : فما قتلوه ذلك القتل وما صلبوه ذلك الصلب، ولكن شبه لهم، واشتبه الأمر عليهم. 2) وهم أيضاً مختلفون فيما بينهم علي زعمهم ذاك وفي شك من قولهم : "وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه". 3) تبجحهم الفارغ من باب الظن لا من باب العلم اليقين : "ما لهم به من علم إلا اتباع الظن". 4) أجل "ما قتلوه يقيناً" أي نهائياً وما قضوا عليه إلي الأبد كما يفتخرون، بل رفعه الله إليه حيث لم يزل حياً عند الله. 5) فالذي قتلوه وصلبوه  ثم هو قام منبعثاً حياً ورفعه الله إليه كان كأنه لم يقتل ولم يصلب، وكان الله عزيزاً حكيماً، قادراً علي إجراء هذه المعجزة.

والآية 157 التي تؤكد موت المسيح صراحة توجب علينا فهم الآية 156 كما رأيت. يقول : "وإن من اهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته". يوجد غموض في الضمائر. ولكن سياق الحديث كله من 154 -  157 يدل علي أن المقصود بها جميعاً عيسي ابن مريم : لابد لكل كتابي أن يؤمن بالمسيح قبل موته. فآمنوا بالمسيح يايهود، ولا تتبجحوا بقتله : فلا مندوحة لكم عن الإيمان به.

فاستنتج أنه إذا كان ظاهر القول ينفي قتل المسيح وصلبه فإن باطنه يؤكده. وهكذا تنسجم جميع تصريحات القرآن عن آخرة المسيح، أما إذا أصر القوم علي موقفهم بأن الآية 156 من النساء تنفي قتل المسيح وصلبه، فإن التناقض بينها وبين سور مريم وآل عمران والمائدة قائم لا يزول علي الإطلاق. وعلي كل حال إن كان ثمت تطور أو تعارض فقد استقر رأي القرآن وانتهي بصراحة المائدة : فإنه لا اشكال علي شهادة القرآن بعد تصريح سورة المائدة : "وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم". (120)

ثانياً : صعود المسيح إلي السماء

                                                                   "بل رفعه الله إليه" (نساء 158)

مهما يكن من مسألة موت المسيح التاريخية في القرآن فالقرآن الكريم يشهد بأن آخرة المسيح علي الأرض ختمت بمعجزة كما بدأت بمعجزة. فسواء مات المسيح وقام أم لم يمت بل ظل حياً إلي الأبد، فهذا لا يقلل من قيمة شهادة القرآن للإنجيل والمسيح ؛ فالمسيح حي "رفعه الله إليه" (نساء 158) ولا يزال حياً عند الله. وتلك ميزة انفرد بها المسيح علي جميع البشر وعلي جميع الأنبياء والمرسلين. فعيسي ابن مريم آية في مولده للعالمين، وهو آية أعظم في آخرته ؛ وهاتان المعجزتان الفريدتان هما أفضل شهادة شهد بها الله لولي أو نبي أو رسول أو مخلوق أياً كان.

والقول بأن المسيح لم يمت أو لم يذق طعم الذل الأكبر كسائر البشر المحكوم عليهم بالموت لا يستثني منهم أحد، قول أعظم من الاعتراف بموته وقيامته لم فطنوا : إنه ينقل عيسي ابن مريم من صف البشر المائتين إلي صف غير البشر الخالدين.

"ورفع المسيح حياً إلي الله" عقيدة راسخة في القرآن، يؤكدها في مكة والمدينة ثلاث مرات : في سورة مريم : "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً" (33) يتنبأ منذ ميلاده عن بعثه حياً، ويخاطبه الله مؤكداً رفعه إليه : "يا عيسي ابن مريم إني متوفيك ورافعك إلي" (آل عمران 55)، وقد ينكر قتله ولكن يشدد علي التأكيد رفعه : "وما قتلوه يقيناً ! بل رفعه الله إليه" !(نساء 158) : ما قتلوه نهائياً كما فعلوا بغيره من الأنبياء، لأن الله رفعه حالاً إليه فكأنه لم يقتل، وكأنه لم تسر عليه سنة الموت، فهو أقوي من الموت !

هل قال القرآن مثل هذا عن بشر ؟ هل نسب مثل هذا إلي نبي أو رسول ؟ هل أشار القرآن إلي أن محمداً، "خاتم النبيين"، قد نال شيئاً من هذا ؟ فالقرآن والحديث والتاريخ العام تشهد جميعاً بأن محمد قد مات كسائر الأنبياء، وحواه قبر في المدينة المنورة : "فما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفئن مات أو قتل انقلبتم علي أعقابكم ؟" (آل عمران 144).

ويقول القرآن عن مصير "خاتم النبيين" : "عسي أن يبعثك ربك مقاماً محموداً" : فالقرآن إذن يؤكد أن المسيح صعد في الحال حياً إلي السماء فيما ينتظر محمد أن يبعث مع سائر الناس يوم يبعثون، ويؤكد أنه "عسي" أن يبعث محمد "مقاماً محموداً"، بينما يجزم ثلاث مرات أن "الله رفع عيسي إليه" وهو عنده حي إلي الأبد "ومن المقربين". قال الرازي : "رفع عيسي عليه السلام إلي السماء ثابت بهذه الآية. ونظير هذه الآية قوله في آل عمران "رافعك إلي" ودل ذلك علي أن رفعه إليه أعظم في باب الثواب من الجنة ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية. وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية".

ثم ما معني قوله "عسي"؟ ... وما مدي اليقين في هذا التمني ؟...

وهكذا يشهد القرآن أن واحداً لا غير بين البشر، دون الأنبياء والمرسلين بلا استثناء، كان أقوي من الموت، فلم يكن له عليه من سلطان : ألا وهو عيسي ابن مريم. بهذه المعجزة الفريدة جعل القرآن المسيح نهائياً، فوق البشر أجمعين لا يستثني أحداً من الأنبياء والمرسلين.

فكان عيسي ابن مريم في آخرته كما كان في مولده آية للعالمين.


أول الصفحة

أرغب في توجيه سؤال لكم

صفحات أخرى ذات صلة بالموضوع

هل حقاً أتى الله تعالى في جسم بشر؟

الصليب وماذا تعرف عنه؟

هل من تثليث في القرآن؟

هل علم الكتاب المقدس عن التثليث؟

 الرجوع إلى قائمة " ركن الأسئلة المشهورة"