مَريَم أمَ المسّيحُ فى القرآن

الجزء الاول : النصوص القرآنية

النص الاول : سورة مريم 15 - 33

النص الثانى: سورة الانبياء 91

النص الرابع آل عمران : 33 - 47

النص الخامس سورة النساء 157 و 170

النص السادس: سورة التحريم 12

النص السابع : سورة المائدة 76 - 80 و 113 - 119

الجزء الثانى : تحليل النصوص

خاتمة: موجز تعليم القرآن

"يا مريم ان الله اصطفاك وطهَّرك واصطفاك على نساء العالمين" ( آل عمران 41)

ان موقف القرآن من مريم العذراء ام المسيح، موقف كريم ينقل لنا بأمانة تعليم النصرانية الاولى عن "فتاة الله" "المصطفاة على نساء العالميم" ويكفّر ما تكفّره من تقصير المقصّرين ومن غلوّ المغالين.

ونقدر ان نوجز تعليمه المريمى بهذه بهذه الآية الكريمة :" يامريم ان الله اصطفاك وطهّرك واصطفاكِ على نساء العالمين".

سنقرأ النصوص القرآنية حسب ترتيبها التاريخى[1] ونتفهمها على ضوء شروح الائمّة المعروفين، المتداولة بين الناس

ثم نحاول، فى جزء ثان، ان نعلّق عليها بما تيسّر.

الجزء الاول : النصوص القرآنية

النص الاول : سورة مريم 15 - 33

يرينا بتولية مريم فى أمومتها الصحيحة، ويعدّد المعجزات التى تثبتُ الامومة والبتولية معاً. فنلمح من وراء ذلك ردَّه على افتراءات اليهود بهذا الصدد.

15 واذكرْ فى الكتاب مريم اذ انتَبذتْ من أهلها مكاناً شرقيَّا.

16 فاتخذتْ من دونهم حجاباً. فأَرسلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويَّا.

17 قالت: إنى أعوذُ بالرحمن منك ! ان كنت تقياً....

...........................................

آية 15 - " الكتاب" القرآن، على معنى الحاضر والمستقبل، كما يقول الجلالان والبيضاوى. وعلى معنى الماضى، هو الكتاب المقدس. "مريم " خبر مريم أو قصة مريم. "مكاناً شرقياً" حين اعتزلت فى مكان نحو الشرق من الدار (الجلالان)، شرقى بيت المقدس أو شرقى دارهما (البضاوى). والافضل قول الجلالين بسبب "من اهلها".

آية 16 - "اتخذت حجاباً " ارسلت ستراً تستتر به (الجلالان). "فارسلنا اليها روحنا" جبريل، وامّااين وقعت هذه الزيارة فلا يظهر بوضوح من النص اذا لا يعلم اين كان اهلها: اتاها جبريل بصورة شاب امررد "سوياً" تام الخلق (الجلالان) وسماه الله روحه على المجاز (الزمخشري) إنها نسبة الملكية وتختلف عن قوله فى المسيح "روح منه"

آية 17 - "انى اعوذ بالرحمن منك" قالت من غاية عفافها (البيضاوى). "ان كنت تقياً" جواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله"فتنتهى عنى بتعويذى" (الجلالان) قال الزمخشرى: ودل على عفافها وورعها انها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة. والانتباذ: الاعتزال والانفراد للعبادة - ويسف المفسرون ايّما اساف فى تفسير الغاية من تلك العزلة. (راجع الزمخشري والبيضاوى).

آية18 - قال: انما أنا رسولُ ربكِ لأهبَ لكِ غلاماً زكياً.

آية 19 - قالت: أنَّى يكون لى غلام، وّلم يمسَسّني بشر، ولم أَكُ بغياً؟

آية 20 - قال : "كذلك! قال ربُّكِ: هو علىَّ هَنُ. ولِنجعلهُ آيةً للناس،ورحمة منا، وكان أَمراًمقضياَّ".

آية 18 - اى انى اتقى الله و انما انا رسول ربك الذى استعذت به "لأهب" وقرأ ابو عمر عن نافع ويعقوب بالياء "ليهب". والمعنى: لأكون سبباً فى هبته. ويجوز ان يكون حكاية لقولهسبحانه (البيضاوى). "زكياً) طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أى مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح (البيضاوي). لاحظ ان مولودها طاهر من الذنوب منذ الحبل به.

آية 19 - "ولم يمسسنى بشر" جعل المس كناية عن النكاح الحلال (الزمخشري) ولم يباشرنى رجل الحلال فان هذه الكنايات انما تطلق فيه (البيضاوى). "بغيّاً" زانية ، الفاجرة التى تبغي الرجال (الزمخشري) ولم تلحقه التاء لانه للمبالغة او للنسبة كقوله طالق.

 

آية 20 - "كذلك" أي الأمر كذلك : من خلْق غلام منك من غير اب (الجلالان). "ولنجعله" تعليل معلله محذوف أو معطوف على تعليل مضمر وقيل عطف على "لأهب"(الزمخشري). "آية للناس" علامة لهم وبرهاناً على كمال قدرتنا."ورحمة منا" على العباد يهتدون بارشاده (البيضاوي). "وكان أمراًمقضياً" به فى علمى (الجلالان) تعلق به قضاء الله فى الازل او كان امراً حقيقياً بإن يقضى ويفعل لكونه آية ورحمة (البيضاوي). - وعندي المعنى: وكان امراً مفعولاً اى وصار كذلك. قال الزمخشري "امراً حقيقياً".

 

21 فحهلتْهُ . فانتذتْ به مكاناً قَصِياً.

22 فأجاءَها المخلصُ إلى جذْع النخلة. قالت: ياليتني مُتُّ قبل هذا وكنتُ نَْسياً منسياًّ!

..........................................

آية 21 - "فحملته". - كيف كان الحمل؟ النص ساكت ويحتمل معنى الخلق مباشرة. اما المفسرون فيجعلمن الحمل بنفخة من جبريل فى جيب درع مريم. سترى فى آل عمران ان الحمل صار مباشرة بمعجزة أهمية دون واسطة مخلوقة. " اذا قضى امراً فانما يقول له كن فيكون". "فحملته فانتبذت به مكاناً قصبّا" تنحّت به بعيداً عن اهلها (الجلالان) فاعتزلت وهو فى بطنها وراء الجبل وقيل اقصى الدار (البيضاوي والزمخشري). كم كانت مدة الحمل؟ لا يذكرها القرآن ونقدر ان نفترضها معه طبيعية. ولكن المفسرين قد اختلفوا. قال الجلالان: والحمل والتصوير والولادة فى ساعة. وقال البيضاوى: "وكانت مدة حملها سبعة اشهر وقيل ستة وقيل ثمانية ولم يعيش مولود وضع لثمانية غيرة وقيل ساعة". وفى الزمخشري ايضاً : "وقيل ثلاث ساعات، وقيل حملته فى ساعة و صُور فى ساعة ووضعته فى ساعة حين زالت الشمس من يوماً". وعن ابن عباس كانت مدة الحمل ساعة واحدة : و " كما حملته نبذته". يتفننون فى تكثير المعجزات حول ام المسيح ‍! وكم كان سن العذراء؟ القرآن صامت. قال البيضاوى والزمخشري "وسنها ثلاث عشرة سنة وقيل عشر سنين....." وهكذا يعرف المفسرون دائماً. كثير من الكتاب! فلا يحترمون صمته. "قيل كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف فلما قيل حملت من الزنا خاف عليها قتل الملك فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدثته نفسه بأن يقتلها فأتاه جبريل فقال اته من روح القدس فلا تقتلها فتركها".

آية 22 - "فاجاءها المخلص" جاء بها، ألجأها المخاض (بالفتح والكسر) وهما

23 فناداها من تحتها : الاَّ تحزَنىِ، قد جعلَ ربُّكِ تحتكِ سرياَّ.

24 وهزَى اليكِ بجذْعِ النَّخلةِ تُساقطْ عليكِ رُطباً جنِيَّا.

......................................................

مصدر مخضت المرأة اذا تحرك الولد فى بطنها للخروح (البيضاوى). ومن ثم

فلا يتحمل اللفظ فى الاصل معنى "وجع الولادة" كما يقول الجلالان... "الى جذع النخلة" لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة. وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة فيها: وكانت الوقت شتاء.والتعريف اما للجني واما للعهد اذا لم يكن ثمت غيرها. ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ويطعمها (البيضاوى). قالت "يا" للتنبيه. "مت قبل هذا" قالت استحياء من الناس ومخافة لومهم. "وكنت نسياً منسياً" شيئاً متروكاً لا يُعرف ولا يذكر (الجلالان)، من حقه ان ينسى. قالت هذا لما رأت نفسها قد حملت وولدت بمعجزة لن يصدقها الناس، وهى كماحملته نبذته (البيضاوي).

آية 23 - "فناداها من تحتها" هنا يوجد غموض فى الضمائر. قال البيضاوى: فناداها عيسى وقيل جبريل. من اسفل من مكانها، وقيل الضمير فى تحتها للنخلة. “قد جعل ربك تحتك سرياً" جدولاً وقيل سيداً من السرو، والافضل ان نختار مع الجلالين : ناداها جبريل من دونها: أن لا تحزني، قد جعل ربك تحتك جدول ماء، بدليل قوله بعد ذلك: فكلى واشربي. قال الزمخشري: لم تقع التسلية بهما من حيث انهما طعام وشراب ولكن من حيث انهما معجزتان تريان الناس انها من اهل العصمة.

آية 24- "تساقط " فيه عدة قراءات. تساقط أدغمت التاء الثانية فى السين.

وحذفها حمزة "تساقط". وقرأ يعقوب بالياء "يساقط". وحفص "تساقط" من ساقطت بمعنى اسقطت. وقرئ يتساقط ويسقط فالتاء للنخلة والياء للجذع: سبع قراءات مقبولة. والزمخشري: فيه تسع قراءات! "رطباً جنيناً" تمييز او مفعول. روي كانت يابسة وكان الوقت شتاء فهزتها فجعل الله تعالى لها رأساً وخوصاً ورطباً.

25 فكُلي واشربي وَ قَرّي عيناً. فإمَّا تَرَينَّ من الناس أحداً

26 فقولي: اني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلّمَ اليوم إنسياً.

27 فأَتتْ به قومها تحمِلُهُ. قالوا : يامريم لقد جئتِ شيئاً فريَّا!

.......................................

وتسليتها بذلك لما فيه من المعجزات الدالة على براءة ساحتها فان مثلها لا يتصور لمن يرتكب الفواحش والمنبهة لمن رآها عليه على ان من قدر ان يثمر النخلة اليابسة فى الشتاء قدر ان يحبلها من غير رجل (البيضاوى).

 

آية 25 - فكلي من الرطب واشربي من السري وطيبي نفسك و ارفضي عنها ما احزنك. "وقري عيناً" وقرئ: قري بالكسر وهو لغة نجد، واشتقاقه من القرار او القر. "فاما ترين" فيه ادغام نون ان الشرطية فى ما الزائدة. "تريِنَّ" حذفت منه لام الفعل وعينه والقيت حركتها على الراء وكسرت ياء الضمير

لا لتقاء الساكنين. "من البشر احداً" يسالك عن ولدك (الجلالان).

 

آية 26 - وفى مصحف عبد الله :"صمتاً" ، "صوماً" امساكاً عن الكلام (الجلالان) وكانوا لا يتكلمون فى صيامهم (البيضاوي). يعلمها جبريل ان تدعى الصيام عن الكلام في شأن ولدها حتى يظهر الله امره بمعجزة باهرة. وقد نهى محمد عن صوم الصمت لأنه نسخ في امته.

 

آية 27 - "لقد جئت شيئاً فريا" بديعاً مُنكراً (البيضاوى).

28 يا أختَ هارون ما كان أبوكِ أمرَأَ سَوْءٍ وما كانت امُّك بغِياَّ.

29 فأشارتْ الية. قالوا : كيف تكلّم مَن كان في المهدِ صبياً؟

30 قال : اني عبد اللُّه آتانى الكتاب وجعلني نبياً.

31 وجعلني مباركاً أين ما كنت وأَوصاني بالصلوة والزكوة ما دمتُ حياَّ.

............................................

آية 28 - "يااخت هارون" ما كان ابوك زانياً وما كانت امك زانية فمن اين لك هذا الولد؟ (الجلالان) قال البيضاوى: يعنون هارون النبى وكانت من اعقاب من كان معه فى طبقة الاخوة. وقيل كانت من نسله. وكان بينهما ألف سنة(1300 أو 1500). وقيل هو رجل صالح او طالح كان فى زمانهمشبهوها به تهمكاً. وعندى انها كناية عن عفته وضرب المثل بها. "وانما قيل يااخت هارون كما يقال: يا أَخاهمدان أَى يا واحداً منهم، ولم ترد اخوة النسب" (الزمخشري).

 

آية 29 - "فأشارت اليه" إلى عيسى ان كلموه ليجيبكم.

 

آية 30 - "قال " انطقه الله تعالى. وقيل اكمل الله تعالى عقله واستنبأه طفلاً. مثل قوله: "تكلم الناس فى المهد". "آتانى الكتاب وجعلني" التعبير يلفظ الماضي اما باعتبار ما سبق فى قضائه او يجعل المحقق وقوعه كالواقع. "عبد الله" مرادف لما جاء فى اعمال الرسل "فتاك القدوس يسوع" (ف 4 ع 27 و 30).

 

آية 31 - "وجعلنى مباركاً" نفاعاً معلماً للخير. "واوصاني بالصلوة والزكوة" زكاة المال او تهير النفس عن الرذائل. "مادمت حيّاً" تعبير يقيد حتماً انه سيموت لان الوصية بالصلاة والزكاة لا لزوم لها بعد الموت.

32 وبرًّا بوالدتي ولم يجعلني جباَّراً شقياًّ!

33 والسلام عليّ يومَ وُلدتُ ويوم أموتُ ويوم أُبعث حياًّ".

 

آية 32 - "براً بوالدتي" عطف على مباركا. وقرىء "بر" بالكسر حملاً على الصلوة. "ولم يجعلنى جباراً شقياً" متعاظماً لربه.

آية 33 - "والسلام على" التعريف للعهد والأظهر انه للجنس. والتعريض باللعين على اعدائه. قال الزمخشري: والمعنى، ذلك السلام الموجه إلى يحي فى المواطن الثلاثة موجه إلى ... سلمّ الله عليه فى هذه الاحول لانها اوحش المواطن". وفى هذا السلام نبوّة عن موت عيسى وبعثه، ويؤيد تلك النبوة المستقبلةَ معجزةُ نطقه من المهد وهي حاضرة.

النص الثانى: سورة الانبياء 91

 

يذكر الانبياء جميعاً من موسى إلى يوحنا بن زكريا. ويختم ذكر تلك الامة المؤمنة من الانبياء والصالحين بمسك الختام:

91 والتى أحصْت فرْجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين.

القرآن متمسك تمسكاًشديداً بطهارة مريم وعفافها وبتوليتها. ويرى فى امومتها مقرونة بالبتولية "اذ وَلدتْه من غير زوج" معجزة لا مثيل لها تدهش

 

أنبياء 91 - قال الجلالان: "والتي احصت فرجها" حفظته من أَن ينال "فنفخنا فيها من روحنا" اى جبريل حيث نفخ فى جيب درعها فحملت بعيسى. "آية للعالمين" الانس والجن والملائكة حيث ولدته من غير زوج.

 

قال البيضاوى: "والتى احصت فرجها" من الحلال والحرام، يعنى مريم. "فنفخنا فيها" عيسى أي أَحييناه فى جوفها. وقيل فعلنا النفخ فيها. "من روحنا" : من الروح الذى هو بأمرنا وحده او من جهة روحنا جبريل. "وجعلناها وابنها" أى قصتهما او حالهما ولذلك وحّد قوله "آية للعالمين " فان من تأمل حالهما تحقق كمال قدرة الصانع تعالى.

 

بين البيضاوي والجلالين اختلاف على كيفية الحمل. فبينما يجعلها الجلالان بنفخة من الملاك جبريل، يفضل ان يراها البيضاوي خلقاً مباشراً بنفخ الله عيسى فى مريم، روحاً منه : "احييناه فى جوفها".

العالمي "من الانس والجن والملائكة". قال الرازى "ولولا أنه ظهر من الخوارق، الم يصح ذلك الوصف".

فى سورة مريم لا يذكر كيف حملت بمعجزة، اما هنا فيروي لنا كيفية هذه المعجزة: "فنفخنا فيها من روحنا" أي نفخ بريل فى جيب درعها فحملت بعيسي، فالواسطة المعجزة كانت نفخة الملاك. غير ان البيضاوى مع الزمخشرى يفضلان الخلق مباشرة "طأحييناه فى جوفها". وتفسيرهما ينسجم اكثر مع آل عمران حيث الحبل يجري بخلق مباشر دون واسطة، ومع آية النساء حيث نقرأ ان طكلمة الله وروح الله" يُلقى مباشرة إلى مريم (170)[2]

والى ذلك فإن القرآن يربط بين طهارة مريم وامومتها المعجزة، كأن الامومة مع البتولية مكافأة لها على حصانتها وطهارتها وعفافها.
النص الثالث: سورة المؤمن 51

يختم بها ذكر الانبياء من نوح إلى ابن مريم على السياق نفسه:

51 وجعلنا ابن مريم وامه آية وآويناهما إلى رَبوةِ ذات قرار ومعين.

يرة القرآن فى ابن مريم وامه آية واحدة لا تنفصل. فكلما اتى على ذكرها تبدّت له معجزتها الباهرة التى لا تدانيها حال احد من الناس حّتى الانبياء. فإن هذه الآية تأتي دائماً مسك الختام فى سيرة الانبياء السالفين الصالحين. ويزيدنا بياناً عن حياة مريم وابنها، بعد ميلاد المسيح، كون الله قد آواهما إلى جنة على رابية فيها زروع وثمار ومياه يستريح الانسان فى السكنى فيها. ولكن لا نعلم اين كانت تلك الربوة.

 

آية 51 - قال الجلالان : "وجعلنا عيسى وامه آية" ، لك يقل آيتين لان الآية فيهما واحدة : ولادته من غير زوج. "وآويناهما إلى ربوة" مكان مرتفع وهو البيت المقدس او دمشق او فلسطين : اقوال 1 "ذات قرار" اى مستوية يستقر عليها ساكنوها. "ومعين" ماءُ جار ظاهرُ تراه العيون.

قال البيضاوى : ""وجعلنا ابن مريم وامة آمة بولادتها اياه من غير مسيس فالآية امر واحد مضاف اليهما او جعلنا ابن مريم آية بأن يتكلم فى المهد وظهر منه معجزات أخر، وامه آية بأن ولدت من غير مسمس فحذفت الاولى لدلالة الثانية عليها. "ربوة" ارض بيت المقدس فانها مرتفعة او دمشق او رملة فلسطين او مصر فان قراها على الربى. "ذات قرار". اى مستقَر من ارض منبسطة. وقيل ذات ثمار وزروع فان ساكنيها يستقرون فيها لاجلها. "ومعين " ماء معين ظاهر جار. فالربوة جنة من ثمار وزروع ومياه.

النص الرابع آل عمران : 33 - 47

فى هذا النص الخبر المفصل عن سيرة مريم : عن ميلادها، وعيشتها فى الهيكل، وولادتها يسوع.

33 ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين.

34 ذريةً بعضها من بعض والله سميع عليم.

1. الحبل بلا دنس

35 اذ قالت امرأة عمران : ربِّ انى نذرتُ لك ما فى بطني محرّراً فتقبل مني انك انت السميع العليم.

 

آية 33 - " ان الله اصطفى...." اختارهما يجعل الانبياء منهم. فمريم بنت عمران وام المسيح من الذرية المصطفاة على العالمين. وهذا يظهر شرف نسبها وحسبها الذى لا مثيل له فى العالمين، وعظمة ابنها.

قال البيضاوى : "ان الله اصطفاهم بالرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية، وبّين انها الجالبة لمحبة الله. وبه استدل على فضلهم على الملائكة. آل عمران : موسى وهارون ابنا عمران بن يصهربن قاهن بن لاوى بن يعقوب. وعسى وامه مريم بنت عمران بن ماثان... وكان بين العمرانين الف وثمانماية سنهة. والحديث فى السورة عن آل عمران ابى مريم لا ابى موسى" آية 35 - قال الثعلبى فى قصص الانبياء : "قال المفسرون هى حنة بنت فاقوز جدة عيسى عليه السلام. وعمران كما قال ابن عباس هو عمران بن ماثان وليس بعمران ابى موسى اذا بينهما الف وثمانماية سنة. وكانت القصة فى ذلك ان زكريا بن يوحنا وعمران بن ماثان كانا متزوجين بأختين احداهما عند زكريا وهى ايشاع (اليصابات) بنت فاقوز ام يحيى وكانت الاخرى عند عمران وهى حنة بنت فاقوز ام مريم".

36 فلما وضعتها قالت : ربّ انى وضعتها انثى ، والله عليم بما وضعتْ وليس الذكر كالانثى. وانى سميتها مريم. وانى أعيذُها بك وذرَّيتها من الشيطان الرجيم.

والبيضاوى يسميها حنة بنت فاقوذا. "وكانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم البر من موسى وهارون فظن انه المراد".

وينقل البيضاوى لنا عن (انجيل الطفولة) انها كانت عاقراً عجوزاً فبينما هى فى ظل شجرة اذا رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته وقالت: اللهم ان لك على نذراً ان رزقتنى ولداً ان اتصدق به على بيت المقدس فيكون من خدمه، فحملت بمريم. "وهلك عمران وهى حامل" (الجلالان) كذلك الزمخشرى.

"انى نذرت كل ما فى بطنى محرراً" عتيقاً خالصاً من شواغل الدنيا لخدمة بيتك المقدس (الجلالن) او مخلصاً للعبادة (البياوى). والمحرر المنذور لخدمة الهيكل، يبقى فيه حتى يبلغ الحلم، فاذا بلغ خُيّر بين ان يقيم وبين ان يذهب حيث يشاء، وهذه هى سدانة الهيكل.

آية 36 - "قالت رب انى وضعتها انثى" قالته تحسراً وتحزناً إلى ربها لانها كانت ترجو ان تلد ذكراً ولذلك نذرت تحريره (البيضاوى). "والله اعلم بما وضعت". وفى قراءة : وضعتُ، بالضم على لسانها، تسلية لنفسها اى : ولعل لله فيه سراً، او الانثى كان خيراً. "وليس الذكر (الذى طلبت) كالانثى" (التى وُهبت) فى صلاحها لخدمة البيت المقدس وهى لا تصلح لها لضعفها (الجلالان) واللام للعهد اى انك لا تعلمين قدر هذا الموهوب (الزمخشرى).

"وانى سميتها مريم" انما ذكرت ذلك لربها تقريباً اليه وطلباً لان يعصمها ويصلحها حتى يكون فعلها مطابقاً لاسمها فان مريم فى لغتهم بمعنى العبادة (البيضاوى والرازي)

37 فتقبَّلها رّبها بقبول حسن. وأنيتها نباتص حسناً. وكفَّلها زكريا كلمادخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً

"وانى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" اجيرهِا بحفظك وامنعها واصونها. وقد رأى الحديث فى هذه الآية عصمة مريم من الخطيئة فى ولادتها. قال البيضاوى : "وعن النبى : ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مسه الا مريم وابنها". ومعناه ان الشيطان يطمع فى اغواء كل مولود بحيث يتأثر منه الا مريم وابنها فإن الله تعالى عصمهما ببركة الاستعاذة (البيضاوى والزمخشرى). وجاء فى (الجلالين) : "فى الحديث : ما من مولود يولد الامسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً الا مريم وابنها. رواه الشيخان". كذلك الزمخشرى والرازى. أليس فى الآية والحديث صدى لعقيدة النصارى بعصمة مريم من الخطيئة الاصلية؟

آية 37 - " فتقبلها ربها " فرضى بها فى النذر مكان الذكر (البيضاوى) "بقبول حسن" بوجه حسن يقبل به النذائر. او تسلمها عقيب ولادتها قبل ان تكبر وتصلح للسدانة فيكون تقبل بمعنى استقبل. روى ان حنة لما ولدتها لفتها فى خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الاحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لانها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم (البيضاوى) والزمخشرى: "فأخذها فى اول امرها حين ولدت بقبول حسن".

وقال الرازى : ذكر المفسرون فى تفسير ذلك القبول الحسن وجوهاً (الاول) انه تعالى عصمها وعصم ولدها عيسى عليه السلام من مسّ الشيطان. (الثانى) تقبلها فى الهيكل بمعجزة الاقلام. (الثالث) تقبلها فى الحياة بالمعجزات، وعن الحسن: ان مريم تكلمت فى صباها كما تكلم المسيح، ولم تلتقم ثدياً قط، وان رزقها كان يأتيها من الجنة. (الرابع) قبلها وهى انثى لا تصلح للخدمة فى الهيكل.

قال : يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب.

"وانبتها نباتاً حسناً" أى سوّى خلقها من غير زيادةْ ولا نقصان. وهذا هو كمال الاخلاق (الثعلبى)، مجاز عن تربيتها بما يصلحها فى جميع احوالها (البيضاوى والزمخشرى)، وعن الجلالين : انشأها يخلق حسن، فكانت تنبت فى اليوم كما ينبت المولود فى العام. وقال الرازى : "منهم مَن صرف هذا النبات الحسن إلى ما يتعلق بالدنيا. ومنهم من صرفه إلى ما يتعلق بالدين. أما الاول فقالوا المعنى انها كانت تنبت فى اليوم مثل ما نبت المولود فى عام. وأما فى الدين فلأنها نبتت فى الصلاح والسداد والعفة والطاعة.... وعن الحسن : أنها كانت عاقلة فى حال الصغر فإن ذلك كان من كراماتها".

"وكفلها زكريا" زوج خالتها اليشاع. سلمه اياها ليقوم بأمرها ويعولها (الثعلبى). قال زكريا للأحبار انا احق بها لان خالتها عندى فقالوا : لا حتى نقترع. فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الاردن وألقوا اقلامهم على ان من ثبت قلمه فى الماء وصعد فهو اولى بها، فثبت قلم زكريا. فأخذها وبنى لها غرفة فى المسجد بسلم لا يصعد اليها غيره وفيه قراءات : زكريا بالقصر وزكرياء بالمد. وكفّلها بالتشديد وكفلها بالتخفيف (الرازى). ثم اختلفوا متى كانت هذه الكفالة هل حالاص بعد ذلك النبات الحسن أو بعد سن الرضاع والطفولية (الرازى).

"كلما دخل عليه المحراب" الغردقة، وهى اشرف المجالس (الجلالان) ومقدّمها سمى به لانه محل محاربة الشيطان كأنها وضعت فى اشرف موضع من بيت المقدس. روي انه كان لا يدخل عليها غيرة واذا خرج اغلق عليها سبعة ابواب (البيضاوى). والمحراب من مكراب الحبشية أى الهيكل.

 

2. عزلة مريم فى الهيكل:

42 واذا قالت الملائكة : يامريم ان الله اصطفاكِ وطَّهَركِ واصطفاكِ على نساء العالمين.

"وجد عندها رزقاً" أى ليس منه بل "خارقاً للعادة". وقيل ايضاً وجد عندها فاكهة فى غير اوانها. قال الجلالان : "يجد عندها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف". وقال محسن :يجد عندها رزقها وكان يأتيها من الجنة. "قال يامريم انى لك هذا" الرازق الآتى فى غير اوانه والابواب مغلقة عليك؟ جعل ذلك معجزة لزكريا.

" قالت هو من عند الله" قيل تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام ولم ترضع ثدياً قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة (البيضاوى والجلالان والثعلبى ومحسن والزمخشرى).

" ان الله يرزق من يشاء بغير حساب" يحتمل ان يكون من كلامها وان يكون من كلام الله. بغير حساب تقدير لكثرته او بغير استحقاق تفضلاً به ((البيضاوى) رزقاً واسعاً بلا تبعة (الجلالان).

آية 42 - "يامريم": روى ان الملائكة كلموهاً (الزمخسرى) كلموها شفاهاً كرامة لها (البيضاوى) ولم يتفق ذلك لانثى غيرها (الرازى). "إن الله طهَّرك" اختارك وطهّرك من مسيس الرجال (الجلالان) وعّما يُستقذَر من النساء (البيضاوى) ومما يسقذر من الافعال ومما قرفك به اليهود (الزمخشرى) وأضاف الرازى: طهرها عن الكفر والمعصية ومن الافعال الذميمة والعادات القبيحة. "إن الله اصطفاك" قال الرازى: الاصطفاء الاول ما حصل لها من الامور الحسنة فى اول عمرها، والاصطفاء الثانى ما حصل لها فى آخر عمرها. "اصطفاك اولا حين تقبلك من امك وربّاك واختصك بالكرامة السنيّة" (الزمخشرى) " الاصطفاء الاول تقبّلها من امها ولم تقبل قبلها انثى، وتفريغها للعبادة، واغناؤها برزق الجنة عن الكسب" (البيضاوى)، اما "النوع الاول من الاصطفاء فهو امور: اً انه تعالى قبل تحريرها مع انها كانت انثى ولم يحصل مثل هذا المعنى من الاناث، 2ً قال الحسن : ان امها لمل وضعتّها ما غذّتها طرفة عين بل ألقتها إلى زكريا وكان رزقها يأتيها من الجنة، 3ً انه تعالى فرغها لعبادته وخصَّها فى هذا المعنى بإنواع اللطف والهداية والعصمة، 4ً انه كفاها أمر معيشتها فكان يأتيها رزقها من عند الله، انه تعالى اسمعها كلام الملائكة شفاهاً ولم يتفق ذلك لانثى غيرها.

"واصطفاك على نساء العالمين" أى أهل زمانها (الجلالان). واصطفاك آخراً على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء (الزمخشرى). والاصطفاء الثانى 1) هدايتها، 2) ارسال الملائكة اليها، 3) تخصيصها بالرامات النية كالولد من غير أب 4) تبرئتها مما قذفته اليهود بإنطاق الطفل 5) جعلها وابنها آية للعالمين (البيضاوى). وأضاف الرازى: "رُوى انه عليه الصلاة والسلام قال : "حسبك من نساء العالمين أربع مريم وآسية امرأة فرعون وخديجة وفاطمة عليهن السلام. هذاالحديث دَلَّ على ان هؤلاء الاربع أفضل من سائر النساء.وهذه الآية دلت على ان مريم عليها السلام أفضل من الكل.وقول من قال : المراد انها مصطفاة على عالمى زمانها فهذا ترك الظاهر"!

آية 43 - "يامريم اقتنى" القنوات ادامة الطاعة، "واسجدى" السجود الصلاة، "واركعى" الركوع الخشوع.


 

44 ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك وما كنتَ لديهم اذ يلقون اقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنتَ لديهم اذ يختصمون.

البشارة:

45 اذ قالت الملائكة يامريم ان الله يبشركَِ بكلمة منه

آية 44 - " اذ يلقون اقلامهم" كيفية كفالة زكاريا لمريم لم تنزل فى الانجيل وجاءت فى القرآن فسمااها وحيااً جديداً. اقلامهم اقداحهم (سهامهم) للأأقترع وقيل اقترعوا بأقلامهم التى كانوا يكتبون بها التوراة تبركاً. جاءت الآية تفسيراً لقوله "وكفلها زكريا" لما سئل عنه، وتفسيراً للحادث كله لما سئل عنه ايضاً، فقال انه من انباء الغيب يوحى اليه. ونعلم نحن ان القرآن والتفاسير نقلت عن "انجيل الحداثة" المنحول الذى كان شائعً فى زمان محمد بين العرب.

آية 45- تعّدد الآية اربعة ألقاب للمسيح وصفتين. وتضيف الآية 46 صفتين اخريين:

1- "بكلمة منه" لمَ ذُكّر ضمير الكلمة؟ - لأن المسمّى بها مذكّر (الزمخشرى). أى بعيسى سمى بذلك لانه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيات التى هى عالم الامر (البيضاوى)، اى بعيسى انه روح الله وسمى كلمة لانه خلق بكلمة "كن" (آية 47) (الجلالان). وعندنا ان اسم "كلمة" يحتمل معنى إلهياً لان "هذا الكلمة" اسم شخص هو المسيح لاسم امر، وهذا الشخص صادر "منه" تعالى ازليـّاً غير مخلوق، وهو "روح الله" كما يقول الجلالان مع القرآن، وروح الله لا يكون مجرد امر. وثلاثة اسماء لشخص المسيح، عيسى، ابن مريم" تُبدل من "كلمة الله" واسماء الاشخاص لا تُبدل من امر معنوى. ولكن بما ان المسلمين لا يؤمنون بألوهية عيسى فيضطرون ان يفسّروا ذلك اللقب الكبير باشتقاقه من الامر "كن"... ومما يدل على ان "الكلمة" اسم شخص لاسم امر كما يريدون (اولا) ألقابه (ثانياً) توابعه: منه، اسمه، وجيهاً ومن المقربين وكلها تعود إلى مفرد مذكر (تفسير العلامة ابى العود).

2 - "اسمه المسيح" قال البيضاوى: المسيح لقبه وهو من الالقاب المشرّفة كالصدّيق. وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك. سّمى كذلك لأنه مسح بالبركة او بما طهره من الذنوب - او مسح الارض ولم يقم فى موضع - او مسحه جبريل - وعيسى معرب إيشوع. واشتقاقهما من المسح والعيس تكلّف لا طائل تحته: والزمخشرى : "ومشتقّهما من المسح والعيس كالراقم فى الماء".

قال الرازى: "المسيح هل هو اسم مشتق او موضوع؟ اصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب وغيروا لفظه. وعيسى اصله ايشوع وعلى هذا القول لا يكون له اشتقاق. والاكثرون انه مشتق موضوع - 1) قال ابن عباس انما سمى مسيحاً لانه ما كان يمسح بيده ذا عاهة الا يرئ من مرضه - 2) قال احمد بن يحيى : لانه كان يمسح الارض اى يقطعها فى المدة القليلة - 3) لانه كان يمسح رأس اليتامى لله تعالى - 4) لانه مسح من الاوزار والآثام - 5) لانه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسح به الانبياء ولا يمسح به غيرهم - 6) لانه مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون له ذلك صونا عن مس الشيطان - 7) لانه خرج من بطن امه ممسوحاً بالدهن". وقدم اللقب على الاسم ليفيد علو درجته. وذكّر الضمير فى قوله "اسمه" عائداً إلى الكلمة وهى مؤنثة لان المسمى بها مذكر.

3- "واسمه عيسى" معرّب ايشوع.

4- "ابن مريم" صفة تمـّيزت بتمـّيز الاسماء ونظمت فى سلكها. وانما قيل: "ابن مريم" والخطاب لها، تنبيهاً على انه يولد من غير أب اذا لا تنسب الاولاد إلى الأم الا اذا فُقد الاب (بالاجماع). ويحتمل ان يراد : ان الذى يعرف به ويتميّز عن غيره هذه الثلاثة، فان الاسم علامة المسمّى والممّيز له ممّن سواه.

46 ويّكلمُ الناس فى المهد وكهلاً ومن الصالحين.

"وجيهاً فى الدنيا والأخرة" اول صفة، حال مقدّرة من كلمة، وتذكيرها "وجيهاً" للمعنى، والوجيه ذو جاه. والوجاهة فى الدنيا النبوّة، وفى الآخرة الشاعة ( البيضاوى، الجلالان)، الوجاهة فى الدنيا النبوّة والتقدم على الناس، وفى الآخرة الشفاعة وعلوّ الدرجة فى الجنة (الزمخشرى)، وعن الرازى: الوجاهة فى الدنيا هى النبوّة او استجابة دعائه او براءته من العيوب، وفى الآخرة بالشفاعة او علوّ درجته ومنزلته او كثرة ثوابه. - "ومن المقرّبين" من الله: صفة ثانية، وقيل اشارة إلى علو درجته فى الجنّة او رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة (الزمخشرى والبيضاوى)، وزاد الرازى: جعل ذلك كالمدح العظيم للملائكة فالحقه بمثل منزلتهم.

آية 46- " ويكلم الناس فى المهد وكهلاً" صفة ثالثة، اى يكلمهم حال كونه طفلاً كما يكلمهم كهلاً، الانبياء من غير تفاوت. وهذا لم يحدث لنبيّ غيره فكان صفة ممـّيزة له. وقال ابو مسلم : "معناه انه يكلم حال كونه فى المهد وحال كونه كهلاً على حدّ واحد وصفة واحدة، وكذلك لا شك انه غاية فى المعجزة" (عن الرازى) - "ومن الصالحين" صفة رابعة، "ولا رتبة اعظم من كون المرء صالحاً، ومعلوم ان ذلك يتناول جميع المقامات فى الدنيا والدين، فلما ذكر بعض التفاصيل اردفه بهذا الكلام الذى يدل على ارفع الدرجات" (الرازى)، فتمت القاب المشّر به، مولود مريم، الاربعة، وصفاته الاربع الممـّيزة له.

 

47 قالت : ربَ أنَّى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر؟

قال : كذلك! الله يخلق ما يشاء اذا قضى امراً فإنما

يقول له: كن ’ فيكون!

(ومن بعد يأخذ القرآن فى ذكر نبوّة المسيح ورسالته ومعجزاته 48 - 56).

.........................................

آية 47- "انى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر" تعجب او استعباد عادى، او استفهام عن انه يكون بتزوج او غيره. انّى اى كيف يكون او من اين يكون. "ولم يمسسنى بشر" جملة حالية منافية للولادة اى والحال انى على حالة تتنافى مع الولادة.

"قال: كذلك" دون ان يمسسك بشر. وكيف؟ "الله يخلق ما يشاء". وكيف يخلقه؟ "اذا قضى امراً انما يقول له كن فيكون" اشارة إلى انه تعالى كما يقدر ان يخلق الاشياء مدرجاً بأسباب ومواد يقدر ان يخلقها دفعةً من غير ذلك (البيضاوى وابو العود).

الآية 47 من آل عمران تنقض تفسيرهم آية "الانبياء" و "المؤمنون" عن خلق عيسى بنفخة من جبريل.

النص الخامس سورة النساء 157 و 170

فى المقطع الاول يحمل القرآن على البيهود حملة شعواء يعدّد فيها مظالمهم لانهم انكروا رسالته وسألوه كتاباً من السماء: "يسألك اهل الكتاب ان تنزل عليهم كتاباً من السماء! - 1ً فقد سألوا موسى اكبر من ذلك فقالوا: أرنا الله جهرة! فأخذتهم الصاعقة بظلمهم. 2ً ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البيّنات، فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطاناً مبيناً. 3ً ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم: ادخلوا الباب سجّداً، وقلنا لهم: لا تعْدُوا فى السبت،واخذنا منهم ميثاقاً غليظاً! فيما نقضهم[3] ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق، وقولهم:"قلوبنا غلْفُ"! بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون الاقليلاً.

تلك انواع ثلاثة من كفرهم، واما النوع الرابع الاخير والعظيم فهو "وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً! وقولهم: إنا قتلنا المسيح" (نساء 157).

ذلك الكفر والقول والبهتان العظيم هو نسبتها إلى الزنى (البيضاوىوالجلالان).

وفى المقطع الثانى، بعد حملته على اليهود يلتفت إلى النصارى ليحذرهم من الغلو فى اكرام المسيح. أجل انه "كلمة الله" و "روح منه " ولكنه ليس طثالث ثلاثة:

170 "ياأهل لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله الا الحق، انما المسيح عيسي ابن مريم، رسولُ الله وكلمتهُ - أَلقاها إلى مريم - وروح منه. فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا: ثلاثة!"

انه يصرّخ بمن تحمل مريم، بشخصية مولودها: هو مسيح الله، وكلمة الله، وروح الله. تحمل به مباشرةً من فبل الله، دون واسطة ولو مُعْجزة: ألقى الله كلمته إلى مريم مباشرةً.

فى هذه الآية يحمل القرآن ايضاً، لا على التثليث المسيحى كما يظَنّ، بل على بدعة نصرانية ظهرت قبل القرآن فى الاجيال الاولى باسم المرقيونية،وفى القرنين الخامس والسادس باسم ا"لمثلّثة و المثلثّين" الذين جعلوا التثليث المسيحى المبنى على وحدة الجوهر الالهى، ثلاثة آلهة، فعددوا الجوهر الالهى الفرد فهل ظن القرآن ان فى تلك البدعة الضالة يجتمع تعليم المسيحية الرسمى؟ [4]

النص السادس: سورة التحريم 12

فى آخر سورة التحريم يضرب القرآن لنساء النبى والمسلمين مثل النساء الفاسقات ليهربن منه، ومثل النساء المؤمنات ليقتدين به. ويقدّم لهنَّ فى الختام وفى مريم خيرَ مثال:

12 "ومريم ابنت عمران التى أحصنت فرجَها فنفخنا فيه من روحنا. وصدَّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين"

وهناك قراءة أخرى أبلغ:

"مريم ابنت عمران التى أحصنت فرجَها فنفخها فيها من روحنا. وصدّقتْ بكلمة ربها وكتابه وكانت من القانتين"

قال البيضاوى: "التى أحصنتْ فرجَها (من الرجال) فنفخنا فيه (فى فرجها) وقرِئ "فيها" أى فى مريم. "من روحنا" من روح خلقناهُ بلا توسُط أصل. طبكلمات ربها وكتبه" وقرئ "بكلمة الله وكتابه" أى بعيسى والانجيل.

قال الجلالان : نفخ جبريل فى جبريل فى جيب درعها بخلق الله فعله الواصل إلى فرجها فحملت بعيسى.

"من روحنا" تتحمل معنى الفاعل كما ارتأى الجلالان أى كان جبريل الواسطة الالهية المعجزة فى حمل الميسح. وتتحمل معنى المفعول كما فهم البيضاوى : أى حملت مريم بروح الله مباشرة. ورأى البيضاوى ينسجم أكثر مع تعليم السور المدينة على الحبل المباشر المعجز دون وساطة نفخة جبريل.

وهكذا انجد تطوراً ملموساً فى تعليم القرآن عن كيفية حبل مريم بالمسيح بين السور المكية حيث يظهر جبريل وكأنه الواسطة المعجزة للحَمْل ينفخته الخلاَّقة (مريم 18، مؤمنون 51 ، انبياء 91) وبين السور المدينة حيث تمت المعجزة مباشرة، دون واسطة على الاطلاق: “الله يخلق ما يشاء، إذا قضى أمراً فانما يقول له: كن ، فيكون" (آل عمران 47،، "انما المسيح عيسى ابن مريم، رسولُ الله وكلمتُه - ألقاها إلى مريم - وروح منه" (نساء 170) فالمُلقى إلى مريم مباشرة من الله هو كلمةُ الله وروح الله :"روح منه" (نساء 170) "فنفخنا فيها من روحنا) (تحريم 12).

النص السابع : سورة المائدة 76 - 80 و 113 - 119

فى هذة السورة يرد القرآن على بدعة مؤلهى مريم وكانوا يُدْعون "مريميين". ويسميهم ابيفانس فى (كتاب الهرطقات) " كَلّيريّين" لانهم كانوا يقدمون للعذراء قرابينَ أقراصاً من الرقاق اسمُها "كلّيرس". فيظهر ان تلك الهرطقة قد وصلت إلى الحجاز واخذ بها بعض نساء العرب الجاهلات فانبرى القرآن لدحضها.

75 لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم [5]

76 لقد كفر الذين قالوا : ان الله ثالث ثلاثة .......

78 ما المسيح ابن مريم الا رسولُ قد خلتْ من قبله الرسل. وامه صدّيقة[6]. كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أتى يؤفكون!

79 قل : أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضُرًّا ولا نفعاً والله هو السميع العليم.

80 قل : يا أهل الكتاب ، لا تغفلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، واضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.

ينكر القرآن تأليه عيسى وتأليه مريم بحجة أنهما ظهرا بمظهر البشر، وما أدلَّ على بشرية شخص مثل أكل الطعام! فساقه دليلاً على ضلال تأليههما. كما اعطاه المسيح فى الانجيل برهاناً على صحة قيامته من القبر. ويقر بأن ضلال تأليه مريم ليس من صلب النصرانية بل هو من أَهواء قوم قد ضلوا من قبلُعن سواء السبيل : فليس الله ثالثَ ثلاثة، وليس المسيح الهاً مع الله، وليست مريم إلاهة من "الثلاثة". فهذا التكفير لمن قال من النصارى "الله هو المسيح" (75) "الله ثالث ثلاثة" (76) لا يشمل النصارى كلهم بل "الذين كفروا منهم" (76) لانه بعد ان يعلن اليهود (81) يبارك النصارى ويمدحهم على صداقتهم (85) وايمانهم (86) ويعدهم بالجنة (88).

ومن سورة المائدة مشهد لمحاسبة الرسل يومَ القيامة:.

112 يوم يجمع الله الرسل

113 اذ قال الله : يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتى عليك وعلى والدتك اذ أيّدتك بروح القدس...

(1) قال البيضاوى : بين اولا اقصى ما لهما من الكمال ودل على انه لا يوجب لها ألوهية لان كثيراً من الناس يشاركهما فى مثله. ثم نبه على نقصهما وذكر ما ينافى الربوبية ويقتضى ان يكونا من عداد المركبات الكائنة الفاسدة. ثم عجب ممن يدعى لهما الربوبية مع امثال هذه الادلة الظاهرة.

وأى شئ ادل على البشرية من أكل الطعام وما ينشأ عنه! وهكذا ترى انهم لا يفقهون من معنى التجسد شيئاً:فالتجسد يترك الله المتجسد الهاً كاملاً وانساناً كاملاً. قال الانجيل: "والكلمة صار جسداً وحل فينا". وقال القرآن : "كلمته القاها إلى مريم". - والنسبة إلى إله يسميها البيضاوى "ألوهية" والزمخشرى "لاهوتية" والرازى والغزالى "الهية".

ويعدّدمفاعيل هذه التأييد : انواع المعجزات

119 واذ قال الله: يا عيسى ابن مريم أَأَنت قلتَ للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله؟! - قال : سبحانك ما يكون لى ان اقولَ ما ليس بحق...

120 ما قلتُ لهم الا ما أمرتنى به ان اعبدوا الله ربى وربكم .... قال الله: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم.

فى هذا المقطع يعدد الله للمسيح انواع الميزات و المعجزات التى اسبغها عليه وعلى والدته، والخوارق التى أجراها بواسطة تأييد الروح القدس له. فيستدرجه بذلك إلى السؤال العظيم عن البدعة الكبرى : أَأَنت قلت للناس اتخذونى وأمى الهين من دون الله، فينكر المسيح ذلك اشد الانكار ويوافق الله على صدق اعترافه.

فيؤخذ من هذين المقطعين من سورة المائدة ان القرآن يجعل الثالوث المسيحى مؤلفاً من الله وعيسى ومريم!... فهل جعل مسيحيو العرب الجهال البعيدون عن مراكز النصرانية الرسمية الثالوث الاقدس مركباً من الله والمسيح ومريم حتى ثارت ثائرة القرآن عليهم فكذبهم على لسان عيسى نفسه بشهادته للتوحيد فى يوم الدين؟ أم هل ظن ان تلك البدعة هى تعليمُ النصرانية الجامعة فنسبه إلى الكتاب كلهم؟ .. أهذا اختلاق أم بدعة مسيحية مفرطة دحضها بشدَّة؟.. يظهر من قوله "لَيَمَسّنَ الذين كفروا منهم عذاب أليم" (76) انها مقالة بعضهم، وانها بدعة مسيحية[7] غالى فيها نصارى العرب البائيون، فأنكر عليهم جعل المسيح الهاً آخر مع الله، ومريم الالهة اخرى مع الله: يكفيها انها "الصديقة المصطفاة"

الجزء الثانى : تحليل النصوص

مريم العذراء آية للعالمين فى اصطفائها

مريم العذراء آية للعالمين فى ميلادها

مريم العذراء آية للعالمين فى حداثتها

مريم العذراء آية للعالمين بمعجزة حبَلها البتولى بالمسيح

مريم العذراء آية للعالمين فى ولادتها المسيح

مريم العذراء آية للعالمين مع ابنها فى حداثته

مريم العذراء آية فى حياتها كلها وشخصيتها

اولاً : مريم العذراء آية للعالمين فى اصطفائها.

"وجعلناها وابنها آيةً للعالمين"

(انبياء 91، مريم21، آل عمران 47، مؤمنون 51)

ان القرآن يرى فى مريم ام المسيح آية فى اصطفائها، آية فى ميلادها، آية فى اختلائها فى الهيكل، آية فى ولادتها المسيح، آية فى طهارتها وقداستها، آيةً فى شخصيتها.

ان اصطفاء مريم للمعجزة الكبرى، ولادة المسيح، يمتزج فى اصطفاء المسيح لرسالته العظمى. فهى مع ابنها "آية واحدة للعالمين" (انبياء 91).

وقد فكر الله فى هذا الاختيار منذ اول الخليقة : فاصطفى آباءَ واجداد مريم والمسيح، من آدم إلى عمران، على العالمين: "ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين" (آل عمران 33) اى على الانس والجن والملائكة (البضاوى). وعمران هذا هو زوج حنة ام مريم، لا ابو موسى وهارون ومريم اختهما. وهذا يدل على شرف حسبها ونسبها وعلى عظمة ابنها الفريدة اذ وُلد من الذرية المصطفاة "بالنبوة والرسالة والخصائص الروحانية والجسمانية".

وكان الله اصطفاهم جميعاً بسببها وسبب ابنها فجاءت هذه المقدمة لميلادد مريم "اذ قالت امرآة عمران..." (35).

اصطفى الله مريم خاصة على نساء العالمين: "واذا قالت الملائكة : يامريم ان الله اصطفاك وطهّرك واصطفاكِ على نساء العالمين" (42 آل عمران). فما من امرأة بين الملائكة والبشر أشرف منها على ما نصّ به القرآن جازماً، فلا ام موسى ولا ام غيره من الانبياء والمراسلين الا كنّ دونها كرامة ومنزلة. ذلك انها بأمومتها للمسيح سمت عليهن جميعاً فكانت مع ابنها آية الخلق: "وجعلناها وابنها آيه للعالمين".

ثانياً : مريم العذراء آيه للعالمين فى ميلادها.

لقد حملتْ بها امها حنة العجوز العاقر بمعجزة. قال البيضاوى فى تفسيره: فبينما هى فى ظل شجرة اذا رأت طائراً يطعم فرخة فحنّت إلى الوالد وتمنّتْه فقالت : اللهم انّ لك علىّ نذراً ان رزقتنى ولداً ان اتصدّق به على بيت المقدس فيكون من خدمة، فحملتْ بمريم : "اذا قالت امرآة عمران : ربّ انى نذرتُ لك ما فى بطني محرّراً: فتقَبّلْ منى انك انت السميع العليم" (آل عمران35).

لقد حُبِل بها ايضاً فى طهارة كاملة تواكب اصطفاءَها "ان الله اصطفاك وطهّركِ" فالاصطفاء الفريد يلزمه ويلازمه طهارة فريدة.

ولكن، هل وصلت هذه الطهارة إلى عصمة مريم من كل خطيئة؟

إنّ امها حنة تستعيذ فى حَمْلها وولادتها من الشيطان الرجيم:"انى اعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم" (آل عمران 36). ويقبل الله إستعاذتها، فتحمل بها وتلدُها بدون ان يكون للشيطان من سبيل اليها، فخُلقت بدون خطيئة.

لا شك ان فى هذا التعليم صدى لعقيدة النصارى بعصمة مريم العذراء من الخطيئة الاصلية؟ بل رأى المفسرون فيه اكثر من صدى، رأوا تعليماً صريحاً.اذا ما عملُ الشيطان المستعاذ منه وتأثيره على المولود سوى مسّه بالخطيئة؟ واية خطيئة تولد مع المولود غير التى يسمّيها النصارى "الخطيئة الاصلية" الموروثة عن أصلنا آدم؟ جاء فى صحيح البخاري عن هذه الآية: "حدثنى عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن الزهرى عن سعيد بن المسيّب عن ابى هريرة انّ النبى قال: "ما من مولود يولد الا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهّل صارخاً من مس الشيطان اياه، الا مريم وابنها". فهو يعّبر عن الخطيءة الاصلية الموروثة بمسّ الشيطان للمولود. فهل اوضح من هذه الشهادة واصرح من هذا التفسير فى ذكر خطيئة آدم المنقولة إلى ذريته وعلاقتها بالآدميين جميهاً باستثناء العذراء مريم وابنها يسوع المسيح؟ ومعنى الآية الكامل ان الله عصم مريم ثم ابنها من بعدها من إرث خطيئة الجدّين الاوَّلين. ويشرح صحيحُ البخارى ايضاً عصمة مريم وابنها من تلك الخطيئة بنقله عن قتادة: "كل آدمىٍ يطعن الشيطانُ بجنبه حين يولد الا عيسى وامه عليهما السلام: جُعل بّينهما حجاب ولم ينفذ اليهما شئ منه". يعّبر هنا عن الخطيئة الآدمية بطعنة الشيطان للمولود بنبه وقد حال حجابُ دون طعنة الشيطان لمريم وابنها.

ويرى الحديث والتفسير ان الولد يُخلق صارخاً من مسّ الشيطان له وطعنته فى جنبه. قال البيضاوى: "ومعناه ان الشيطان يطمع فى اغواء كل مولود بحيث يتأثر منه الامريم وابنها فان الله تعالى عصمهما ببركة الاستعاذة".

وهكذا، فبينما يولد جميع الناس، حتى الانبياء وامهاتهم، فى حالة تلك الخطيئة الاصلية المتحدّرة الينا من ابينا الاول بمسّ الشيطان وطعنته، يشهد القرآن والحديث والتفسير الصريح انَّ الله تعالى عصم منها مريم العذراء وابنها يسوع المسيح.

فطهارة مريم فى خَلْقها كاملة اصلية هى العصمة من كل اذى شيطاني، وهذا هو المعنى الكامل البليغ لهذه الآية: "ان الله اصطفاكِ وطهّرك"‍! حقّاً انه اصطفاء عجيب وطهر عجيب، صارت بهما مريم "آية للعالمين".

ثالثاً: مريم العذراء آية للعالمين فى طفولتها وحداثتها.

"واني سمّيتهُا مريم". يرى البيضاوي ان معناه فى لغتهم العابدة. وتذكر امها حنة اسم ابنتها لله فى صلاتها تقرياً اليه تعالى وطلباً لان يعصمها ويصلحَها حتى يكون فعلهُا مطابقاً لاسمها.

"وانبتَها نباتاً حَسَناً" بهذه الكلمة يوجز القرآن حياة مريم وفضائلها الخَلْقية. قال الثعلبي: "أى سوّى خلُقها من غير زيادة ولا نقصانط وهذا هو الكمال بعينة. وقال البيضاوي: "هذه الكلمة مجاز عن تربيتها بما يُ صْلحها فى جميع احوالها".

ويذكرون ان من جملة طهارتها، تطهيرها عمّا يُستقذر من النساء (البيضاوي) ومن مسيس الرجال (الجلالان).

ونقلوا ان حنة لما ولدتها، وكان ابوها قد مات، لفّتها فى خرقة وحملتها إلى الهيكل ووضعتها عند الاحبار وقالت :"دونكم هذه النذيرة!" فتنافسوا فيها لانها كانت ابنة إمامهم وصاحب قربانهم[8] (البيضاوي).

"فتقبّلَها بقبول حسن"، استقبلها بوجه حسن. وكان لا يُقبل فى الهيكل الا الذكور، فرضي الله بها بَدَل الذكر لوفاء النذر.

وكَفِلَها زكريا على اثر معجزة الاقلام. وينقلون لنا قصة كفالته لها عن "انجيل الحداثة" المنحول: قال زكريا للاحبار انا احق بها لان خالتها اليشاع عندي. فقالوا: لا حتى نقترع. فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الاردن وألقوا اقلامهم التى كانوا يكتبون بها التوراة على ان من ثبت قلمُه فى الماء وصعد فهو اوالى بها. فثبت قلم زكريا. فأخذها وبنى لها غرفة فى المسجد، وجعل بابها فى وسطها من فوق لا يصعد اليها غيره، وبسلّم، وسمّى الفرقة المحراب لانه محل محاربة الشيطان كأنها وّضعت فى اشرف موضع من الهيكل. وروي ايضاً انه كان لا يدخل عليها غيره واذا خرج اغلق عليها سبعة ابواب (عن البيضاوى).

أما حياة مريم فى الهيكل فكانت ملأى بالعجزات :"كَفّلها زكريا" بمعجزة حتى يسهر على اعالتها وحياتها، وغذَّاها الله بمعزة ايضاً:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً! قال يامريم انّى لكِ هذا؟ قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب". ونقل الثعلبي عن محسن : يجد عندها قوتها وكان رزقها يأتيها من الجنة. وقيل وجد عندها فاكهة فى غير اوانها. قال الجلالان: يجد عندها فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء فى الصيف! فيستغرب الامر ويسألها: يامريم انى لك هذا الرازق الآتى فى غير اوانه والابواب مغلقة عليك؟ فتجيب ببساطة طهو من عند الله" (آل عمران 37).

وقد وجدوا فى جوابها هذا معجزة اخرى اذ نطقت به قبل اوان النطق: "تكلمت صغيرة كعيسى عليه السلام، ولم ترضع ثَدْياً قط وكان رزقها ينزل عليها من الجنة" (البيضاوي).

فمن هى هذه المخلوقة العجيبة التى تعيش منعزلة فى غرفة فى هيكل الرب حتى ان الله يهتمّ بقوتها فيرسله من السماء او يخلقه لها بنوع غريب؟ انها امُّ المسيح التى يستعد الملائكة لبشارتها به.

فتقضي حداثتها فى هيكل الرب لا تفكّر الابعبادته تعالى قانتة له، ساجدةً كل يوم، راكعة مع الراكعين: "يامريم اقنتيلربك واسجدي واركعى مع الراكعين" (47). انها لحياة اقرب إلى عيشةالسماء منها إلى عيشة الارض.

فانها كما عُصمَتْ من الخطيئة فى خَلقها، عُصمَت منها فى حياتها: "تقبّلها ربها بقبول حسن وانبتها نباتاً حسناً" هذا كمال النفس وكمال الجسد. ونقل الثعلبي ايضاً: "وذكروا لنا ايضاً انهما (مريم وابنها) كانا لا يُصيبانِ من الذنوب كما يُصيب سائر بنى آدم". فهذا الحديث الذى يفسُر الآية يعنى ان الله عصمها من الخطيئة الفعلية كما عصمها من الخطيئة الاصلية. فنحن اذن نعّبر بكلام مسيحي عما يقولونه فى احاديثهم وتفاسيرهم.

ومن ثم فان حياة العذراء مريم فى كنف العصمة من الخطيئة على انواعها بل من كل غبار الشر، وفى كنف بيت الله تطوى على الصلاة والسجود وتعال من عند الله، لحياة اقرب إلى حياة السماء منها إلى حياة الارض، وبها ارتفعت مريم مع ابنها فوق سائر المخلوقات فكانا آية الدنيا: "فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين".

رابعاً : مريم العذراء آية للعالمين فى حبلها البتولى بالمسيح.

يذكر لنا القرآن في موضعين وبسهاب قصة بشارة الملاك لمريم العذراء بالمسيح:فى سورة مريم وفى سورة آل عمران. والنصّان يكمّل بعضهما بعضاً. وفى اربعة مواضع اخرى يوجز الخبر بآيات (انبياء، مؤمنون، نساء، تحريم).

يرينا مريم فى عزلة عن الناس وعن اهلها، فى مكان سرقّي بيت المقدس والهيكل حيث تتربي. ولم تكن تبارح الهيكل الا عن ضرورة: "واذكرْ فى الكتاب مريم" - اى فى الانجيل اذا كان هذا الامر يعنى الماضى، واما اذا كان يحمل معنى الحاضر والمستقبل، فهو القرآن - أي اجعلْ واكتب فى القرآن ذِكر مريم وخبرهَا "اذ انتبذت من اهلها مكاناً شرقياً. فاتخذت من دونهم حجاباً". فالقرآن يشدّد كثيراً على عزلة العذراء فى كل اطوار حياتها وفي كل مواطن سكناها.

وبينا هى فى عزلتها يأتيها روح الله، اى ملاكه، بهيئة بشر كامل الخَلْق: "فأرسلنا اليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً".

دُعرت مريم ورابها امر هذا الشاب فاستعاذت بالرحمن منه، وان تكن قد علمت انه من الملائكة الصالحين، اذانها لم تكن تعهد غيرَهم يظهرون لها ويأتونها بطعامها من الجنة. "قالت : اني اعوذ بالرحمن منك! ان كنت تقيا...".

قال : إنما انا رسول ربك لِيَهَبَ او لأهبَ لك غلاماً زكياً! والزكى هو الطاهر من الذنوب، النامي على الخير، المترّ في من سن إلى سن على الصلاح. وتلاحظ ان مولود مريم طاهر قدوس بريء من الذنوب من قبل ان يُحبل به! استعاذتْ بالله من الرؤيا فاجابها: لا تجزعى انما انا رسول ربك الذي استعذت به. ارسلنى لاكون واسطة فى هبته لك علاماً. وقد عنّ لبعض الجهال ان الملاك قام مقام الرجل فى حَمْلها! ولكن نصوص القرآن جميعها تبعد هذه الفكرة السمجة، وهذا الكفر الشنيع (نساء 157).

ثم سألتْ مريم الملاك: "انّى يكون لي غلام، ولم يمسنى بشر! ولم الُ بغيُا؟ "اى كيف يكون لي غلام ولم يقربني بشر، بالحلال او الحرام؟ يؤكد القرآن، هنا وفي كل موضع جاء فيه ذكر ميلاد المسيح، بتولية مريم فى حملها. هذه عقيدة راسخة ثابتة واضحة فى القرآن: يعلنها فى سورة مريم، والانبياء، والمؤمنون، وآل عمران، والنساء.

فطمأن الملاكُ العذراء بشأن حَبليها البتولي "قال : كذلك !" أي الامر كذلك يخَلْقِ غلام منكِ من غير ابٍ (الجلالان).

وخَلْق غلام منك من غير اب امر هّين على الله: "قال ربك : هو علىَّ هيّن!" لان هذَا الحبل البتولي سيكون آية للناس به يعرفون عظمة الابنِ وامه، ويؤمنون برسالته، فهذا المولود رحمة من الله: "ولنجعله آية للناس، ورحمة منا. وكان امراً مقضيّاً : فحملته!".

وفى سورة آل عمران يبّينُ لنا مَن هو هذا المولود العظيم، وكيفيّة الحبل به.

يظهر هنا مع روح الله ملائكة آخرون، لان الامر الالهى والرسالة الالهية ذات شأن: "اذ قالت الملائكة: يامريم ان الله يبشّرُك بكلمة منه - اسمه المسيح - عيسى - ابن مريم - وجيهاً فى الدنيا والآخرة - ومن المقرّبين - ويكلّمُ الناس فى المهدِ وكهلاً - ومن الصالحين". هذا هو الولد الموعود به: اربعة القاب تسمّيه، واربعة اوصاف تعنيه. ابنك يامريم هو كلمة من الله! فى معنى هذا اللقب يضطرب المفسرون المسلمون اّيما اضطراب، ولا يجدون له مخرجاً مستساغاً لانهم يريدون تجريده من المعنى الذى نزل به فى الانجيل وردّده القرآن. قال البيضاوى: سُمّي كذلك لانه وُجد بأمره تعالى دون ابٍ فشابه البدعيات التى هي عالم الامر. وقال الجلالان: سُمّي كلمة لانه خُلق بكلمة "كنْ". ولكن الملائكة والانبياء والاولياء خلقوا جميعاً، وآدم وموسى ومحمد، خلقوا بأمر الله وبكلمة كُنْ، ومع ذلك لا يلقّب القرآن احداً. منهم بلقب "كلمة الله"، وسياق الآية 45 من آل عمران يظهر لنا ان كلمة الله اسم شخص مرسل معروف قائم بذات خاصة "اسمه المسيح" فليس هو اسم شئ او معنى امر. والاية 170 من سورة النساء ترينا انّ الُلقى والمتجسد والمحبول به فى مريم والمولود منها هو الكلمة. فهل يكون هذا الكلمة مجرّدا امر؟ "انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتُه القاها إلى مريم وروح منه". فهل حملت العذراء وولدت امراً معنوياً لا غير؟ لا، بل بُشّرت بشخص وحملت شخصاً : اسمه كلمةُ الله وروح الله ومسيح الله ورسول الله كما فى سورة النساء، واسمه المسيح، عيسى، ابن مريم كما فى سورة آل عمران.

لاحظ ان لقب "كلمة" يُبدَل منه فى آل عمران بثلاثة ألقاب اخرى: "يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح، عيسى، ابن مريم". ولاحظ كذلك ان هذه الالقاب تُبدَل في النساء بدورها من لقب كلمة: "انما المسيح، عيسى، ابن مريم، رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه". فلا تُبْدَل اسماء شخص من امر معنوى! ولكن بما ان المسلمين لايؤمنون بألوهية المسيح يضطربون ان يفسروا ذلك اللقب الكبير، ذا المعنى العميق، باشتقاقه من الامر "كن!" ومهما يكن من هذه التفاسير المضطربة القاصرة فان تسمية المسيح بـ "كلمة" قد تفرّد بها يسوع فى القرآن دون سائر الانبياء والمرسلين، ولا تنتقص من اهميتها ومعناها شيئاً تفاسير المفسرين الظالعة.

بشّرها الملاك بكلمة من الله "اسمه المسيح"، وقد اوضحت تلك التفاسير بعض الشئ من هذا اللقب، قال البيضاوي: "المسيح لقبه وهو من الالقاب المشرفة واصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك. واشتقاقه من المسح لانه مُسح بالبركة أو طهره من الذنوب او مسح الارض ولم يقم فى موضع، او مسحه جبريل". وقال الامام فخر الدين الرازى:" المسيح : فى سذلك مذاهب شتى: منها انه مُسح من الاوزار والآثام، ومنها انه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يمسح به الانبياء. ومنها انه مسحه جبريل بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له من مسّ الشيطان. ومنها انه خرج من بطن امه ممسوحاً بالدهن". فمولود مريم عظيم فى مسحته: مُسح من الخطيئة الآدمية: مسحه جبريل بجناحه صوناً له من مس الشيطان فى الحبل به وولادته. مُسح من الخطايا الفعلية طيلة حياته "مسح من الآثام والاوزار". وُلد نبياً بينما غيره صار نبيّاً على كبر. خرج من بطن امه ممسوحً بالدهن، وكان ممسوحاً بدهن طاهر يُمسح به الانبياء. وعظمته انه مسَح الاؤض ولم يقم فى موضع. فهذه المسحات تجعل مولود مريم اكثر من نبي: انه: “مسيح الله، اى كلمته وروح منه".

بشر الملاك مريم بكلمة من الله اسمه المسيح، واسمه ايضاً عيسى، وابن مريم.INOOU أ (ايسو) اليونانية فى صيغة المنادى وليس معرباً عن "ايشوع" العبرانية كما يقول البيضاوى وغيره. و"ابنُ مريم" صفة تميزت تميز الاسماء ونُظمت فى سلكها وانما اسنده الملاك اليها فى خطابها تنبيهاً لأمه على انه يولد من غير اب اذ العادة نسبة الابن إلى الاب ولا يُنسب إلى الام الا اذا فقد الاب. ويسمّى القرآن دائماً المسيح ابن مريم اعترافاً منه بأمومتها البتولية.

عَدّد الملاك للعذراء القاب ابنها العظيمة. ووصفه لها باوصاف تليق بتلك الالقاب: انه "وجيه فى الدنيا والآخرة". قالوا بالاجماع: الوجاهة فى الدنيا النبوة، وفى الآخرة الشفاعة والدرجات العلى. وهو"من المقربين"، أشارة إلى علو درجته فى الجنة ودنوه من الله تعالى. "ويكلم الناس فى المهد وكهلاً" اى يكلمهم حال كونه طفلاً كما يكلمهم كهلاً كلام الانبياء من غير تفاوت، وهذا لم يحدث لنبى غيره فكان صفة مميزة له. وهو "من الصالحين" الذين يخلد ذكرهم.

بعد ذلك الوصف الرائع للمولود السماوي تستفسر البتول عن كيفية الحبل والولادة. ففي السور المكية يظهر ان الملاك كان واسطة المعجزة الالهية فى حَملها دون ان يمسها بشر. ففي سورة مريم: "قال انما انا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً. قالت انى يكون لى غلام ولم يمسسنى بشر ولم اكُ بغيّا؟ قال : (هو) كذلك ! قال ربك : هو علىّ هَـّين!" (18 -20) وعلى هذا النحو يجوز ان نفهم معهم سورة الانبياء 91، بمعنى ان المعجزة حصلت بنفخة جبريل.

ولكن سورة آل عمران (47) توضح الامر فيصير الحبَل يخَلْق إلهى مباشر دون ادنى واسطة للمجزة، ويقتصر دور جبريل على نقل الخبر إلى الوالدة المصطفاة. "قالت " ربّ انى يكون لى ولد ولم يمسَسني بشر؟ قال: كذلك! (اى هو كذلك بدون مسيس بشر). الله يخلق ما يشاء، اذا قضى امراً فانما يقول له: كن! فيكون " مباشرةًوبدون واسطة: فلا اوضح ولا اصرح. قال البيضاوى: "فأحييناه فى جوفها... اشارة إلى انه تعالى كما يقدر ان يخلق الاشياء مدرجاً بأسباب ومواد، يقدر أَن يخلقها دفعة من غير ذلك".

وتاتى سورة النساء فتوضح كيفية ذلك الامر: ألقى الله إلى مريم مباشرةً كلمته وروحه فحملت: "انما المسيح عيسى ابن مريم، رسولُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" (170) قال الومخشري: "وانما قيل ان عيسى كلمة الله فخُص بهذا الاسم لانه لم يكن لكونه سبب غير الكلمة، ولم يكن من نطفة تمنى" (اعراف 157) بل هو روح من الله ألقى إلى مريم (مؤمنون 51).

بعد سورتي آل عمران والنساء لا يجوز ان يفهم معنى سورة التحريم وسورة الانبياء "والتى احصنت فرجها فنفخنا فيه (او فيها) من روحنا" بمعنى ان هذا الروح هو جبريل النافخ بل المسيح المنفوخ فى مريم بنفخة الله الخلاقة مباشرة: "من روحنا" مستمدة من معنى قوله: "كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه".

خامساً : مريم العذراء آية للعالمين فى ولادتها المسيح

لما حملت العذراء بالمسيح اعتزلت بسرّها بعيداً عن الناس "فحملته فانتبذت به مكاناً قصّياً".

ولكن كم كانت مدة الحمل؟ ان النصارى مع الانجيل يقولون هى المدة الطبيعية، اما القرآن فصامت، ولم يرق المفسرين صمته. واذ جعلوا من ام المسيح مجموعة عجائب ومعجزات، فقد رأوا فى مدة الحمل معجزة أخرى. قال البيضاوى: "وكانت مدة حملها سبعة اشهر وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية، غيرة. وقيل ساعة". والجلالان على الرأى الاخير: "الحمل والتصوير والولادة فى ساعة". فيا ليتهم يحترمون صمت الكتاب!

وكما ككان سن العذراء يوم ولادتها المسيح؟ القرآن صامت. قال البيضاوى: " وسنها ثلاث عشرة سنة. وقيل عشر سنين..." وهكذا يعرف المفسرون دائماً اكثر من الكتاب فلا يحترمون صمته.

وكيف ولدت المسيح؟ يذكر القرآن ذلك بهذه الكلمة :"فأجاءَها المخاض إلى جذع النخلة. قالت: ياليتنى متُّ قبل هذا وكنت نسياً مَنْسياً!"

قال البيضاوى : "المَخاض والماخض هما مصدر مخَضَتِ المرأة اذا تحرّك الولد فى بطنها للخرو". ومن ثم فلا يحتمل التعبير ضرورةَ معنى ""وجع الولادة" كما يريد الجلالان.

فلما حان وقت ولادتها لجأت إلى جذع النخلة - والتعريف هنا للعهد اى النخلة المعروفة او للجنس اى النخلة الوحيدة من جنسها فى المكان - فلجأت إلى هذه الشجرة لتستتر بها وتعتمد عليها - ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يُسكّن روعها، ويطعمها منها (البيضاوى).

كيف كانت الولادة، لا احد من المفسرين يراها كعادة النساء. والقرآن صامت. فلفظة المَخَاض لا تعنى انها توجعت عندما ولدت المسيح. ونقدر ان نستنتج دون ان نخون النصوص بأنها كما حملته بمعجزة ولدته بمعجزة، وكما حبلت به وهى بتول ولدته وظلتْ بتولاً. قال البيضاوى "كما حملتْه نبذَته" : اى حملته بمعجزة ونبذته بمعجزة!

وكيف لا تكون الولادة بمعجزة، وفى حال البتولية، عند الذين يرون ان الحمل والتصوير والولادة كانت فى ساعة؟ (الجلالان).

ولما ولدت العذراءُ المسيحَ قالت: "ياليتنى متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسيّاً!" قالت هذا لما رأت نفسها قد حملت وولدت بمعجزة قد لا يصدّقها الناس، فقالت ما قالت استحياءّ من الناس ومخافةَ لومهم.

وهنا تَدخل الله الساهر عليها وارسل ملامه ليسكّن روعها بمعجزتين جديدتين: "فناداها من تحتها: ألا تخزني، قد جعل ربّك تحتك سريّاَ (جدول ماء) وهزّى اليك بجذع النخلة تسُاقطْ عليك رُطَباً جنيّاً. فكلى من جنى النخلة واشربى من النهر السري و قرّيْ عَيناً". قالوا : كان الوقت شتاء والنخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة فيها والوادى تحتها ناشفاً لا ماء فية. فخلق الله لها ماءً وفاكهة ! وبذلك سَكّن روعها، واطعمها باعجوبة. ومَن يتولى اعالتها هكذا، يتولى تبرِئتها امام الناس من كل تهمة.

واوعز الله إلى الملاك ان يوحى اليها بالامساك عن الكلام فلا تكلم احداً من الناس لان الله اعدّ معجزة كبرى لتبرئة ساحتها: سينطق طفلها فيتنبأ عن براءة امه ويؤكد امومتها البتولية: " فإمّا ترين من الناس احداً فقولى انى انذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم انسيّاً".

فأتت به قومها تحمله. قالوا: "يامريم لقد جئت شيئاً فريّا. يا أخت هارون ما كان ابوك امرأ سَوْءِ وما كانت امّك بغيّا! فأشارت اليه (لانها صائمة عن الكلام)! قالوا: كيف نكلم مَن كان فى المهد صبيّا"؟

فانطق الله الطفل الوليد بمعجزة خارقة "قال: انى عبد الله آتانى الكتاب وجعلنى نبياً. وجعلنى مباركاً اينما كنت واوصانى بالصلاة والزكاة ما دمتُ حيّاَ وبرّاَ بوالدتى ولم يجعلنى جباراً شقيّاً. والسلام عليِّ يوم ولدتُ ويوم اموت ويوم أبعَثُ حيّاً". فلمّا نطق الوليد وعرّف الناس بذاته الشريفة، ورسالته السامية، افحمهم عن الكلام وبرّا والدته تبرِئةً كاملة.

وبهذه الولادة الغريبة الفريدة التى تجف بها المعجزات من كل جانب صارت مريم "اية للعالمين".

سادساً : مريم العذراء آية للعالمين مع ابنها فى حداثته.

يوجز القرآن حداثة يسوع، وحياة العذراء مع وليدها بهذة الآية: "وجعلنا ابن مريم وامّه آية، وآويناهما إلى ربَوة ذات قرار ومعين" (مؤمنون 51). لم يقل آيتين لان الآية فيهما واحدة: ولادة المسيح من مريم بلا أب (الجلالانوالبيضاوي)

يظهر ان المسيح وامه قضيا او قاتهما بعد الميلاد فى جنّة غنّاء على رابية يستقر الانسان عند اشجارها ومياهها قرير العين.

يظهر ان المسيح وامه قضيا او قاتهما بعد الميلاد فى جنّة غنّاء على رابية يستقر الانسان عند اشجارها ومياهِها قرير العين.

ويلاحق القرآن دائماً ام المسيح بالعزلة والانفراد حتى لا تكون ولا تفكر ولا تعمل الا لله وابنها.

والله يكفل مباشرةً إعالة مريم فى الهيكل، وفى مدة حملها، وفى ولادتها، وفى حداثة يسوع فيطعمهما بمعجزة ويسقيهما بمعجزة.

الا تذكرنا هذه العيشة الخيالية في الانفراد على رابية بنشيد اشعياء النبى: "إني أنشد لحبيبي نشيد محبوبي فى كرمه: كان لحبيبي كرم في رابية ذات خصب” (ف5 عدد 1).

وينقل لنا القرآن عن انجيل حداثة يسوع، تسلية المسيح فى صغرة بخلق الطيور. وكان هذا من آيات رسالته: "ورسولاً إلى بني اسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم اني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله"" (آل عمران 49).

ويذكر القرآن عيشة يسوع مع امه فى التقوى والفضيلة والكمال "وجعلنى مباركاً اينما كنت، واوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيّاً. وبرّاً بوالدتي ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً".

ويذكر طاعة مريم لله، طاعة الاسلام والاستسلام بالخضوع والقنوات وايمانها العظيم بمواعيده وكتبه. "وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" (تحريم). وحسب قراءة اخرى "وصدّقت بكلمة الله وكتابه" أي كانت اولى المؤمنين بالمسيح وانجيله، والتابعين له.

وهكذا كيفما تأمّل القرآن حياة الولد العجيب والوالدة المصطفاة وجدها آيةً واحدة للعالمين: "وجعلنا ابن مريم وامه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين".

سابعاً: مريم ام المسيح آية العالمين فى حياتها كلها وشخصيتها

ظلت ام المسيح عائشة على تلك الربوة السعيدة إلى ان اصطفاها الله إلى جواره ليتّم فيها آياته.

لا يذكر لنا القرآن شيئاً عن آخرة مريم كما ذكر عن آخرة المسيح انه ارتفع حيّاً إلى الله (آل عمران 55) "رفعه الله اليه وكان الله عزيزاً حكيماً" (نساء 159). وهل تكون آخرة الام الا شبيهة بآخرة الابن كما كانت فى هيكل حياتها آية واحدة معه؟

وقد اوجز القرآن حياة مريم وقداستها وشخصيتها بهذه الكلمة الكتابية التقليدية: "وامه صدّيقة". فهذا التعبير يعني مجموع الفضائل، وكامل القداسة. هكذا وصف الانجيل من قبلُ قداسة يوسف خطيبها: "وكان رجلها صدّيقاً". "فإنه تعالى فرغها لعبادته وخصها بأنواع اللطف والهداية والعصمة" (الرازي آل عمران 42).

ويختم القرآن ذكر مريم وخبرها برد افتراءات المفترين من اليهود، ونقض غلوّ المغالين من النصارى:

إنه يكفّر اليهود على قولهم "على مريم زوراً وبهتاناً عظيماً‍‍!" كانوا يهتمون العذراء بالزنى ويجعلون ابنها مولود زنى!! فينتفض القرآن لهذه التهمة السمجة ويصفها حقَّ وصفها: "انها رور وبهتان عظيم!" وان القول بها كفر! والقرآن لا يأخذ كلمة كفر الا فى حق الله سبحانه. وقد شاركت تلك المقالة كفر الكافرين به عز وجل.

ويحذّر النصارى من الغلو فى تكريمهم لام المسيح يجعلها الاهة. انها “الصدّيقة المطهرة" المصطفاة على نساء العالمين. فليست " ثالثة ثلاثة": "وما المسيح ابن مريم الا رسول قد خلت من قبله الرسل. وامه صدّبقة. كانا يأكلان الطعام"! (78) ومن يأكل الطعام كالبشر لا يكون الهاً على حدّ قوله:"قل يا أهل الكتاب لا تغلفوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا اهواءَ قوم قد ضلّوا من قبل واضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل" (مائدة 80). فهل تصوّر اولئك العربُ الجهّال البدائيون البعيدون عن مراكز النصرانية، ان الثالوث المسيحى مؤلف من الله والمسيح ومريم حتى ثارت ثائرة القرآن فكذَّبهم على لسان عيسى نفسه فى استجوابه يوم الدين يوم يجمع الله الرسل:"ياعيسى ابن مريم أَأَنت قلتَ الناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله؟ - قال : سبحانك ما يكون لى ان اقول ما ليس بحق". ان ضلال فرقة هزيلة من النصارى لا يجوز ان يعمّم ويطلق على جميع النصارى.

ومن ثم فليست مريم الاهة بل افضل مخلوقة، طهّرها الله واصطفاها على نساء العالمين، وجعلها بمعجزة لا مثيل لها فى تاريخ البشرية، امّ مسيح الله وكلمة الله وروح الله.

خاتمة: موجز تعليم القرآن

هكذا يعلم القرآن عن مريم بحسب ظروف زمانه ومكانه، تعليماً قيّماً يستحق كل اعتبار. ونقدر ان نرى فيه صدى لتعليم الكنيسة المقدسة فى قرونها الاولى كما وصل إلى قلب الجزيرة.

مجد مريم وعظمتها:

يرى القرآن عظمة مريم ومجدها الفريد فى كونها مسْك الختام للذرية النبوية المصفا:"ان الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين" (آل عمران 33)، وفى كونها ام المسيح كلمة الله، البتول: "وجعلنا ابن مريم وامه آية للعالمين" (مؤمنون 51).

اصطفاه مريم:.

ويصرح باصطفائها على نساء العالمين: "يا مريم ان الله اصطفاك وطهّرَكِ واصطفاك على نساء العالمين" من الملائكة والانس والجن (آل عمران 43). ويرى دائماً هذا الاصطفاء فى صلة مع طهارتها وأمومتها: "والى احصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا، وجعلناها وابنها آية للعالمين" (انبياء 91). فصارت ببتوليتها الدائمة وامومتها "الصدّيقة المصطفاة على العالمين"، "وآية للعالمين".

عصمة مريم من الخطيئة:

يلمح القرآن تلميحاً واضحاً إلى عصمة مريم من الخطية الاصلية اذا تصلى امها فى وحي من الله: "انى اعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". فقيل الله استعاذة الأم ويخلق الابنة معصومة من مس الشيطان الذى لا ينجو منه احد. ويأتى الحديث فبصرخ بذلك تصريحاً: "ما من مولود يولد الا ويطعنه الشيطان حين يولد فى جنبه فيستهل صارخاً من مس الشيطان له الا مريم وابنها فذهب ليطعن فطعن فى الحجاب" الموضوع بينه وبين مريم وابنها. ويضيف الحديث إلى عصمتها الاولى العصمة من الخطيئة طيلة حياتها: "وذكروا لنا انهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيب سائر بنى آدم" (نقله الثعلبي).

البتولية مع الامومة:.

هذه هى الميزة الاولى والكبرى التى يراها القرآن فى مريم ام المسيح، ويدهش لها دائماً ويقدمها آية للعالمين. ففى سورة مريم: "انى يكون ذلك ولم يمسسنى بشر؟ قال الملاك (هو) كذلك". وفي الانبياء والمؤمنون والتحريم: "فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين‍" ومن ينكر هذه العقيدة يكفر مثل اليهود: "وبكفرهم وقولهم على مريم زوراً وبهتاناً عظيماً".

قداستها الفائقة:

منذ صغرها اصطفاها وطهرها: "اذا قالت الملائكة يامريم ان الله اصطفاك وطهرك‍" فتقضى حياتها فى المحراب منعزلة مواظبة على القنوات والركوع والسجود:"يامريم اقنتي لربك واسجدى واركعي مع الراكعين". ولما بشرتها الملائكة بميلاد كلمة الله وروحه منها بمعجزة لم تستسلم للأمر الرباني حتى امّنت على بتوليتها. "الله يخلق مايشاء، اذا قضى امراً فانما يقول له كن فيكون". وبعد ميلاد المسيح تعيش مع وليدها منفردة على رابية عنّاء.

عناية الله الخاصة بها:

ويجتهد القرآن فى اظهار عناية الله الخاصة بها: تولد بمعجزة من ام عاقر عجوز، تعتزل طفلة فى الهيكل حيث يعولها الله بمعجزة فيرسل لها رزقها من الجنة، وتلد المسيح وهى بتول بمعجزة لا مثيل لها فى تاريخ البشرية، ويغذى الله الوالدة والوليد من نخلة يابسة ويسقيهما من جدول ناشف ويحتفظ بهما فى جنة بعيداً عن اعين الناس. من هى تلك المخلوقة المصطفاة التى اختصها الله بكل هذه الخوارق؟ هى ام المسيح ام كلمة الله وروح الله: " انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته القاها إلى مريم وروح منه" (نساء 170).

مريم آية للعالمين:

وهكذا يرى القرآن فى مريم آية للعالمين فى اصطفائها وميلادها وحداثتهاوبشارة الملاك لها وولادتها المسيح وحياتها مع ابنها وكل اطوار حياتها: “فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين!".


[1] ترتيب سور القرآن حسب تاريخ تدوينها مشكلة عويصة. فاخترنا الترتيب والتزمين النصوص عليه فى مطلع بعض المصاحف (المصحف الاميرى).

[2] وعندي ان التعبير "من روحنا" يحتمل معنى الفاعل والمفعول : النافخ والمنفوخ. اذا اخذناه بمعنى الفاعل يكون الروح هو النافخ فى مريم لتحمل بمعزة. واذا اخذنا بمعنى المفعول يكون الروح القدس هو المفعول اى المنفوخ فى مريم. وهذا المعنى هو الافضل لانه ينسجم مع تعليم سورة مريم وآل عمران على خلق المسيح فى مريم دون واسطة معجزة، ولان آية الانبياء : "انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" فاللقى إلى مريم كلمة اللة الله وروح الله. قال احدهم: "نزل نفخ الروح فى عيسى لكونه فى جوف مريم فنزلت نفخ الروح فى مريم، فعبّر بما يفهم ظاهر هذا".

[3] اى فبنقضهم ، وما مزيدة للتوكيد (الزمخشري) : والباء سببية.

[4] راجع تاريخ مختصر الدول لابن العبرى، صفحة 122 ، بيروت، 189 - وتعليقنا على سورة المائدة

[5] مائدة 75 و 76 فيهما مقالة فئتين من النصارى لا مقالة فئة واحدة فمنهم من قال : الله هو المسيح، ومنهم من قال : الله ثالث ثلاثة!

[6] مائدة 78 "وامه صديقة" لانها صدقت بكلمات الله وابنها أو لانها صدقت بكلمة جبريل فى البشارة أو لانها بلغت الكمال فى العبادة (عن الرازى).

[7] أى ليمسَّن الذين بقوا على الكفر منهم لان كثيراً منهم تابوا (الزمخشرى).

[8] لم يكن يواكيم من سبط لاوي!

عودة الى الصفحة الرئيسية