كتاب الروح القدس وعمله فينا
لقداسة البابا شنودة الثالث

الفصل الأول: مَنْ هو الروح القدس؟

الفصل الثاني: رموز الروح القدس

الفصل الثالث: الروح القدس في العهدين

الفصل الرابع الروح القدس المُعطي

الفصل الخامس الروح القدس روح القوة

الفصل السادس: الروح القدس الناري

الفصل السابع: عمل الروح فينا وعلاقتنا به

الفصل الثامن  شركة الروح القدس

الفصل التاسع: مقاومة الروح
الفصل العاشر: لا تطفئوا الروح

الفصل الأول: مَنْ هو الروح القدس؟

1- الروح القدس وعمله فينا - مقدمة
موضوع الروح القدس موضوع هام جداً في الكنيسة.
فعليه يتوقف كل عملها، وهو العامل في كل أسرارها.
والكنيسة تحتفل كل عام بعيد حلول الروح القدس على الرسل القديسين، ويسمى عيد الخمسين، أو عيد البندكستى، ويعتبر بداية لتاريخ الكنيسة المسيحية، وبدء كرازتها وانتشارها. حيث تحقق فيه وعد السيد الرب لتلاميذه القديسين "ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لي شهوداً في أورشليم وكل اليهودية وفي السامرة وإلى أقصى الأرض" (أع1: 8).
وفي عهد الحاضر، صارت لعيد العنصرة أهمية خاصة.
وفيه تمت سيامتة غالبية الآباء الأساقفة.
وشعر جميع الناس بأهمية هذا العيد السيدى، وفرحة الايبارشيات فيه. وفي كل عام كانت تجتمع الآف عديدة من الأقباط في الكاتدرائية المرقسية الكبري، للاشتراك في الاحتفالات بسامة أحبار الكنيسة الأجلاء. وكنا نلقى عظات ومحاضرات عن الروح القدس في تلك المناسبات السعيدة، وفي اسبوع العنصرة، من الصعب تجميعها كلها ...
وهناك عمل آخر خاص بالروح القدس، أنعم به الله علينا، وهو:
تكريس الميرون المقدس مرتين: في سنة 1981 م، وفي سنة 1986م. ثم لحقة مرات أخرى عدة في عهد البطريرك الأنبا شنودة الثالث (117).
وذلك لاحتياج الكنائس إليه، وبخاصة لتأسيس كنائس عديدة جداً في بلاد المهجر، واحتياجنا للميرون في تدشين الكنائس والمذابح والمعموديات، وأيضاً ما تحويه الكنائس من الأوانى المقدسة ومن الأوانى المقدسة ومن الايقونات. يضاف إلى هذا احتياج الآباء الكهنة إلى ميرون في سر المسحة المقدسة التى صاروا يتقونها تماماً بسته وثلاثين رشماً للمعمد. وكنا نلقى أيضاً عن الروح القدس في أيام تقديس الميرون.
إلى جوار اجابة اسئلة عديدة كانت تصل للبابا شنوده عن الروح القدس. وما نشره قداسته عن الروح القدس في مجلة الكرازة وفي الكرازة وفي جريدة وطنى.
وقد جمعنا ما بين يديك في هذا الكتاب كدفعة أولي.
وقصدنا بالدرجة الأولي أن تكون مقالات روحية:
أما الجزء العقائدى أو اللاهوتى، فله كتاب آخر. ولذلك نعدك إن شاء الله بإصدار كتال عن [ إنبثاق الروح القدس ] ضمن مجموعة كتب ستصدر عن [ اللاهوت المقارن ] في مجال الحوار اللاهوتى الذي توم به سعياً وراء الوحدة المسيحية. ونستثني من منهجنا الروحي في هذا الكتاب، الفصل الأول الذي موضوعه (من هو الروح القدس)، الذي لزم لنا كمدخل إلى الموضوع الروحى
ونحن نرجو أن تشعر بأهمية الروح القدس في حياتك وخدمتك.
ومن أجل هذا خصصت الكنيسة المقدسة، في السبع صلوات اليومية، صلاة الساعة الثالثة، نتذكر فيها عمل الروح القدس منذ حلوله على التلاميذ يوم عيد العنصرة، مبتهلين إلى روح القدوس أن يحل فينا ويطهرنا من كل دنس. ختاماً هذه المقدمة ، لكي تدخل معنا في موضوع الروح القدس، وعمله فينا وشركتنا معه، وصفات عمل الروح، ومدي استجابتنا أو مقاومتنا له، مع فصل طويل عن (إطفاء الروح). ليكن الرب معك أيها القارئ العزيز، بعينك بعمل روحه القدوس فيك، وفي خدمتك أيضاً .
البابا شنودة الثالث
2- مَنْ هو الروح القدس؟
لابد أن تكون لكم معرفة بالروح القدس من هو؟
وما عمله فيكم ولأجلكم... لكى تكون علاقة به، ولتعرفوا عمق احتاجكم إليه...
الروح القدس هو " روح الله القدوس" (أف4: 30)، (2كو3: 3).
بل الروح القدس هو الله، لأن " الله روح" (يو4: 24).
3- لاهوت الروح القدس
قال القديس بطرس " إن الكذب على الروح القدس معناه الكذب على الله" (أع5: 23 ). ومادام هو روح الله، (أي 33: 3) (2كو3: 3)، وهو روح السيد الرب ( اش61: 1)، إذن هو الله.
هذا المعزي، روح الله، حل على التلاميذ في يوم الخمسين (أع2: 1 4). وهو الذى وعد به الله في سفر يوئيل النبى قائلاً " ويكون بعد ذلك أنى اسكب روحى على كل بشر، فيتنبأ بنوكم وبناتكم، ويحلهم شيوخكم أحلاماً، ويري شبابكم رؤي" ( يؤ2: 28). وقد ذكر القديس بطرس أن هذه النبوءة تحققت في يوم الخمسين (أع2 : 16، 17). هو روح الله، وهو " روح إبنه" (غل4: 6) " روح المسيح" (1بط1: 11).
هو " روح الرب" (اش11: 2) " روح السيد الرب" (اش61: 1). قيل في سفر ايوب الصديق "روح الرب صنعى" (أي33: 4). وقال حزقيال النبى " وحل على روح الرب وقال لي..." (خر11: 5). وقال القديس بطرس في توبيخ ما فعله حنانيا وسفيرا " ما بالكما قد اتفقتما على تجربة روح الرب" (أع5: 9). وهو " روح الحق" (يو14: 17). وقال عنه السيد المسيح "روح الحق الذي من عند الآب ينبثق" (يو15: 26). وقال أيضاً " متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو16: 13).
ويثبت لاهوت الروح القدس أنه في الثالوث القدوس.
إنه واحد مع الآب والأبن. وفي ذلك يقول السيد المسيح الرب أرسله القديسين " تلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والآبن والروح القدس" (أع28: 19) ولاحظوا هنا أنه يقول " باسم " وليس باسماء... وهذا يوافقه أيضاً ما ورد في رسالة القديس يوحنا الأولي، إذ يقول " فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة: الآب والكلمة (اللوجوس) والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحد" (1يو5: 7 ).
ويثبت لاهوته أيضاً أنه الحيى ومعطي الحياة.
ولذلك يسمى " روح الحياة" (رو8: 2). وقد ورد في سفر حزقيال النبى، أنه هو الذي يحيى الموتى (حز37: 9، 10). ومن الذي يستطيع أن يحيى الموتي ويقيهم، إلا الله وحده. الروح القدس هو أقنوم الحياة. هو مصدر الحياة في العالم كله، سواء الحياة بمعني الوجود أو البقاء، أو الحياة مع الله. وبصفه قانون الإيمان بأنه " الرب المحيى ".
ويثبت لاهوت الروح القدس، أنه مصدر الوحى.
وقانون الإيمان يصف لروح القدس بأنه " الناطق في الأنبياء ".
ولعل هذا يوافق ما ورد في الرسالة الثانية للقديس بطرس الرسول عن الوحي الإلهى إذ قال " لأنه لم تأت نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط1: 21). ومادام الوحى من الروح القدس، إذن هو من الله، لأنه من روح الله. لذلك قال القديس بولس الرسول " كل الكتاب موحي به من الله، ونافع للتعليم" (2تى3: 16). يقول الرسول أيضاً " حسناً كلم الروح القدس آباءنا بأشعياء النبى قائلاً.." (أع28: 25 - 27). وكمثال لهذا الوحي قال حزقيال النبى "... وحل على روح الرب وقال لي ك قل هكذا قال الرب..." (حز11: 5). ويقول الوحي الإلهى في سفر اشعياء النبى " أما أنا فعهدي معهم -قال الرب- روحى الذي عليك وكلامى الذى وضعته في فمك لا يزول من فمك، ولا من فم نسلك... من الآن وإلى الأبد" (اش59: 21).

4- صفات الروح القدس اللاهوتية
نضيف إلى كل هذا، أن الروح القدس اشترك مع الآب والإبن في عملية الخلق.
فكما قيل عن الآب إنه بالإبن قد عمل العالمين (عب1: 2) " فإنه فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض... الكل به وله قد خلق" (كو1: 16) " كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان" (يو1: 3)... هكذا يقول الكتاب عن الروح القدس:
" ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض" (مز104: 30).
وقيل في سفر أيوب الصديق " روح الرب صنعنى" (أى 33: 4).
وهذا يدل على لاهوت الروح القدس، لأن القدرة على الخلق خاصة بالله وحده.
وقد ذكر الكتاب صفات إلهية له، منها الأزلية:
كما قيل عن السيد المسيح " فكم بالحرى دم المسيح، الذي بروح أزلى قدم نفسه لله بلا عيب" (عب9: 14).
ومن الصفات الإلهية للروح القدس، وجوده في كل مكان.
وفي ذلك قال داود النبى للسيد الإله " أين أذهب من روحك؟! ومن وجهك أين أهرب ؟! إن صعدت إلى السموات فأنت هناك وإن فرشت في الهاوية فها أنت" (مز139: 7) . وطبعاً الواحد الموجود في مكان هو الله.
ومن الدلاله على وجوده في مكان، عمله فينا.
يقول بولس الرسول " أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم" (1كو3 : 16) وأيضاً " أم لستم تعلمون ان جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم" ( 1كو6: 19). وسكنى الروح في كل المؤمنين، في كل أقطار الأرض، يدل على وجوده في مكان، وبالتالي على لاهوته.
إذن روح الله في كل مكان، يعمل في المؤمنين ويحل فيهم.
ومما يثبت لاهوته أيضاً، أنه عالم بكل شئ.
كما يقول القديس بولس الرسول "... لأن الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله" ( 1كو2: 10). " وهكذا أيضاً أمور الله، لا يعرفها أحد إلا روح الله " (1كو2: 11). ويقول لنا الرب عن الروح القدس " يرشدكم إلى جميع الحق" ( يو16: 13) " يعلمكم كل شئ، ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26).
الروح القدس قادر على كل شئ:
ومن صفات الروح في نبوءة اشعياء إنه " روح القوة" (اش11: 2). وهكذا يتحدث القديس بولس الرسول عن كرازته إنها كانت بقوة آيات وعجائب، بقوة روح الله" ( رو15: 19). ويقول أيضاً ص " برهان الروح والقوة... بقوة الله" (1كو2: 4). والسيد الرب يقول هذا، كما ورد في سفر زكريا النبى " لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحي قال رب الجنود" (زك4: 6).
ومما يثبت لاهوته أيضاً، أنه مانح المواهب الفائقة.
يقول الكتاب " كل عطية صالحة، وكل موهبة تامة، هي فوق، نازلة من عند أبي الأنوار" (يع1: 17). ومع ذلك فإن كل المواهب ينسبها الكتاب إلى الروح القدس كما ورد في إصحاح المواهب (1كو12)، إذ يقول الرسول: " فأنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد ".. (1كو12: 4). وبعد أن ذكر انواع المواهب ومنها الحكمة، والإيمان، ومواهب الشفاء، وعمل القوات، والنبوة وتميز الأرواح، والألسنة وترجمتها، وقال " ولكن هذه كلها يعمل الروح الواح بعينه، ٌاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء" (1كو12: 11). وطبيعى لا يمكن أنت يمنح كل هذه المواهب، إلا الله. والسيد المسيح وصف الروح القدس لتلاميذه بأنه " المعزى البارقليط" (يو16: 7 ). ووصف هذا المعزى بصفات إلهية، فقال:
أ إنه " يمكث معكم إلى الأبد" (يو14 ك 16). إذن فهو ليس إنساناً يمكث معهم فترة ويموت، إنما هو روح الله الذي يمكث معهم إلى الأبد، بل قال عنه أكثر من ذلك إنه:
ب " ماكث معكم ويكون فيكم" (يو14: 17). وعبارة " يكون فيكم " لا ينطبق على إنسان. وقال عنه أيضاً :
ج " لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه" (يو14: 17). وهذه العبارة أيضاً لا تنطبق على إنسان يراه الناس ويعرفونه. وفي رسالة إلى العبرانين يصفه الرسول بأنه " روح النعمة" (عب10: 29). وفي نبوة زكريا يقول الوحي الإلهى " وأفيض على بين داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات، فينظرون إلى الذي طعنوه، وينوحون عليه كنائح على وحيد له في مرارة..." (زك12: 10). والكتاب يسمى الروح القدس أيضاً " روح القداسة" (رو1: 4). ويقول عنه المرتل في المزمور " وبروح رئاسي أعضدنى" ( مز50). ونقول عنه في صلوات الأجبية " روحاً مستقيماً ومحيياً، روح النبوة والعفة، روح القداسة والعدالة والسلطة ". ونقول عنه أيضاً "الملك المعزى، الحاضر في كل مكان والمالئ الكل، كنز الصالحات ومعطى الحياة... " ونطلب إليه قائلين " هلم تفضل وحل فينا، وطهرنا من كل ذنس أيها الصالح، وخلص نفوسنا". وفي سفر اشعياء النبى، ما أكثر الأوصاف التى بها روح الله إذ يقول: " ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب" (اش11: 2). وقد قال السيد المسيح الرب عن بصلئيل الذي قام بصناعة ما يلزم خيمة الاجتماع " وملآته من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة وكل صنعه الاختراع" (خر31: 3 6). ولعل بصالئيل هذا أول مثل لموسى " وتلكم جميع حكماء القلوب الذين ملأتهم روح حكمة أن يصنعوا ثياب هرون لتقديسه ليكهن لي" ( خر28: 3).
وعن روح الحكمة يصلي بولس الرسول من أجل أهل أفسس لكي يعطيهم الله " روح الحكمة والإعلان في معرفته" (اف 1: 17). وذلك لكى " تستنير اذهانكم ليعملوا ما هو رجاء دعوته ". 5- أقنوم الروح القدس
شهود يهوه لا يعتقدون أن الروح القدس أقنوم (شخص Hypostasis)، بل يرونه مجرد قوة!!
وللرد على ذلك نقول إن ما ورد عن الروح القدس في الكتاب المقدس، يدل أنه شخص ...
فهو يتكلم: ويقول الرب في ذلك لتلاميذه القديسين " لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح ابيكم الذي يتكلم فيكم" (مت10: 20). ويقول الرسول أيضاً عنه " إن سمعتم صوته ، فلا تقسوا قلوبكم" (عب3: 7 9)
وهو الذي قال " افرزوا لي برنابا وشاول، للعمل الذى دعوتهما إليه" (أع13: 3 ). فهو هنا يتكلم، وأيضاً يدعو...
وهو يعلم، ويذكر، ويرشد، ويخبر، ويبكت.
وفي ذلك يقول الرب لتلاميذه عن الروح القدس " يعلمكم كل شئ، يذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26). وأيضاً "متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق... ويخبركم بأمور آتية" (يو16: 12، 13). وهو أيضاً الذي يبكت على خطية (يو16: 8).
وهو يقود المؤمنين جماعات وأفراداً.
يقول الرسول " لأن الذين ينقادون بروح الله، فأولئك هم أبناء الله" (رو8: 14).
وهو يقيم الرعاة: وعن ذلك قال القديس بولس لأساقفة أفسس " احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التى أقامكم الروح القدس عليها أساقفة" (أع20: 28). وهو الذي يحدد تحكات الخدام. فيقول القديس لوقا الإنجيلى عن القديس بولس الرسول وأصحابه " وبعد ما اجتازوا في فريجية وكورة غلاطية، منعهم الروح القدس أن يتكلمون بالكلمة في آسيا. فلما أتوا إلى ميسيا، حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية، فلم يدعهم الروح " (أع16: 6، 7).
والروح القدس يعزى المؤمنين ويشفع فيهم.
يقول السيد المسيح " وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد" (يو15: 26). . ويقول الرسول " الروح نفسه فينا بأنات لا ينطق بها" ( رو8: 26).
إذن هذا الذي يتكلم ويعلم ويذكر، ويرشد ويخبر، ويبكت، ويقود المؤمنين ويقيم الرعاة، ويحدد تحركاتهم، ويعزى ويشفع... أليس هو شخصاً؟!
أما القوة فهي إحدي نتائج حلوله على المؤمنين (أع1: 8). كما نقول أيضاً إن حلوله يمنح غيره وحرارة، ويمنح حكمة ومعرفة... إلخ.
6- إنبثاق الروح القدس
نحن نؤمن بأن الروح القدس ينبثق من الآب.
وهذا واضح من تعليم السيد المسيح نفسه في الأنجيل المقدس، إذ قال لتلاميذه القديسين عن الروح القدس "روح الحق الذي من عند الآب ينبثق..." (يو15: 26) . وهذا هو نفس ما يقوله قانون الإيمان المسيحى " نعم نؤمن بالروح القدس، بالرب الحميى المنبثق من الآب ". وهذا ما قرره مجمع القسطنطينة المسكونى المقدس المنعقد سنة 381 م.
ولكن الكاثوليك يقولون " المنبثق من الآب والآبن ". فيضيفون عبارة " والآبن " Filioque وهي إضافة لم تكن موجودة إطلاقا في أصل قانون الإيمان. ولم تكن معروفة في القرون الأولى للمسيحية. ومبدأ ظهورها – كما يقولون – كان في أسبانيا في القرن السادس، وانتقل منها إلى رومة:
وقد لاقت هذه الإضافة معارضة من الكاثوليك في القرون الأولى.
ويقال أن البابا ليو الثالث في أوائل القرن التاسع، علق لوحتين إحداهما باللاتينية والأخرى باليونانية، لقانون الإيمان بغير هذه الإضافة وقال "لا أريد أن أغير إيمان آبائي". والكاثوليك الذين يستخدمون اليونانية لا يقبلون هذه الإضافة.
ولم تستقر إضافة " والابن " عند الكاثوليك اللاتيني إلا في القرن الحادي عشر.
وقد سببت انقسامات كثيرة بلا داع...
وهي أيضاً ضد للثالوث القدوس. وكما قال البعض إنها تجعل في الثالوث ابنين وأبوين، إن كان الروح القدس يعتبر ابناً للابن، إن كان منبثقاً منه ويكون الابن أباً له أيضاً...!!
ويحاول الكاثوليك أن يثبتوا هذه العقيدة عندهم ببعض آيات تدور حول ارسال الأبن للروح القدس كما في (يو15: 26) التى هي صريحة في انبثاق الروح القدس من الآب على الرغم من ارسال الأبن له.
وهناك فرق كبير بين الإرسال والانبثاق.
الانبثاق أزلي، والإرسال في حدود الزمان.
الروح القدس منبثق من الآب منذ الأزل، بحكم فهمنا للثالوث. ولكن الابن أرسله لتلاميذه في يوم الخمسين...
ولا أريد الآن أبحث معكم هذا الموضوع لاهوتياً.
لأن هدف هذا الكتاب هو هدف روحي بالدرجة الأولى بعيداً عن الجدل اللاهوتي الذى سننشر عنه إن شاء الله في كتاب آخر. إنما أردت أن أشير مجرد إشارة...

الفصل الثاني: رموز الروح القدس

7- خمسة رموز للروح القدس
نذكر في هذا المقال خمسة رموز إلى الروح القدس وهي:
1- الحمامة،
2- الماء،
3- النار،
4- الزيت،
5- الريح العاصف.
وسنحاول أن نتناول كل رمز منها بشئ من الإيجاز، حسب شرح الكتاب المقدس:
8- الحمامة من رموز الروح القدس
وقد ورد هذا الأمر في قصة عماد السيد المسيح له المجد، إذ قيل عن يوحنا المعمدان إنه " رأي روح الله نازلاً مثل حمامة وآتياً عايه" (مت 3: 16). وفي إنجيل مارمرقس " رأي السموات قد انشقت، والروح مثل حمامة نازلاً عليه" ( مر1: 10). " ونزل علية الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة" (لو3: 22).
ولذلك فالكنيسة أو النفس البشرية الممتلئة من الروح القدس، شبهت بحمامة Pigeon.
وهذا واضح جداً في سفر النشيد، إذ يقول الرب لهذه النفس للكنيسة "يا حمامتى، يا كاملتى" (نش5: 2) (نش6: 9). وأيضاً "عيناك حمامتان" (نش1: 15). ولعله يعنى النظرة البسيطة البريئة الروحية التى قال عنها الرب في العظة على الجبل " إن كانت عينيك بسيطة، فجسدك كله نيراً" (مت5: 22). وما هو أعظم مثل لهذه البساطة والبراءة؟ يقول:
" كونوا بسطاء كالحمام" (مت10: 16).
وهذه صفة الناس الروحيين، الذين يعمل الروح فيهم، يعطيهم صفة الحمامة التى ترمز إلى الروح. هديل الحمام يرمز إلى تسبيح الروح لعل الحمام أيضاً يذكرنا بالوح في حمامة نوح التى أتت إليه ببشري السلام ممثلة في ورقة زيتون خضراء...؟ ورفرفة الحمامة بجناحيها يذكرنا بقصة الخليقة، وقد قيل في البدء " وروح الله يرفرف على وجة المياة" (تك1: 2)
9- الماء من رموز الروح القدس
يرمز الماء إلى الروح في أنه سبب الحياة، أو لأنه غذاء ضرورى ولازم للحياة. وفي ذلك يقول المزمور الأول عن الإنسان البار إنه " يكون كشجرة مغروسة على مجارى المياة" (مز1: 3). وهذه المياة تعطيها الحياة. ولذلك أكمل قلئلاً " تعطى ثمرها في حينه وورقها لا ينتثر ". ولعل بنفس المعنى يقول في مزمورلا آخر " مجارى المياة تفرح مدينة الله" (مز45: 4).
والله ذاته شبة نفسه ينبوع الماء الحى.
فقال في سفر ارمياء النبى " تركونى أنا ينبوع المياة الحية، لينقروا لأنفسهم آباراً، آباراً مشققة لا تضبط ماء" (أر2: 13)... حقاً إنه ينبوع الماء الحى، لأن منه ينبثق الروح القدس (يو15: 26).
وهذا الماء الحى ذكره السيد المسيح في حديثه مع المرأة السامرية، فقال:
" لو كنت تعلمين عطية الله، ومن الذى يقول أعطنى لاشرب، لطلبت أنت منه، فأعطاك ماء حياً" (يو4: 10). ثم قال " من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد. بل الماء الذى أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو4: 13، 14). والرمز واضح جداً وصريح في قول الرب:
" من أمن بى كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حى. قال هذا عن الروح الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه. لأن الروح القدس لم يكن قد أعطى بعد " (يو7: 38، 39).
لهذا شبه الآباء الرسل بالأنهار، لأنهم كانوا يحملون للناس هذا الماء الحى، يهبونهم الروح القدس الذى يرويهم ويعذبهم، ويصير فيها ينبوعاً لحياة أبدية وهكذا قيل عنهم لما هاجمهم اليهود والرمان، فصرخوا بسببهم إلى الله... قيل عنهم " رفعت الأنهار يارب، رفعت الأنهار صوتها. ترفع الأنهار صوتها من صوت مياة كثيرة" (مز92). ولعل رمز الماء إلى الروح القدس، يظهر واضحاً في المعمودية، حيث نولد من الماء والروح" (يو3: 5).
يحل الروح القدس في الماء، فلا يصير بعد ماء حياً، يمكن أن يولد الإنسان منه ميلاداً ثانياً، وينال منه غسل " حميم " الميلاد الثاني (تى3: 5). وينال منه الإنان التطهير والتقديس، كما قال الرسول " لكن اغتسلتم، بل تقدستهم بل تبررتم، باسم يسوع وبروح إلهنا" (1كو6: 11). وعن هذا قال الرب في سفر حزقيال للخاطئة أورشليم " حممتك بالماء، وغسلت عنك دماءك، ومسحتك بالزيت" ( مز16: 9). عبارة حممتك بالماء ترمز إلى عمل الروح في المعمودية، ومسحتك بالزيت ترمز إلى المسحة المقدسة بزيت الزيتون.
ما أكثر ما ورد في الكتاب عن الماء الحى. يمكن أن تتبعه. اقرأ مقالنا عن الماء في كتاب (خميس العهد) ضمن مجموعة كتب اسبوع الآلام... ونتنتقل إلى رمز آخر هو:

10الزيت من رموز الروح القدس
واضح رمز الزيت إلى الروح القدس، من سر المسحة المقدسة، أو سر الميرون.
بالمسحة المقدسة كان الأنبياء قديماً يمسحون الكهنة والملوك والأنبياء، فيحل عليهم روح الرب، ويعطيهم الروح مواهب. وقد أمر الرب موسى النبى أن يصنع زيت أو دهن المسحة هذه، من زيت الزيتون النقي ومجموعة من الأطياب (حز30: 22 24 ). وقال له " وتصنعه دهناً مقدساً للمسحة... وتمسح به خيمة الاحتماع وتابوت الشهادة، والمائدة كل آنيتها، والمنارة وآنيتها، ومذبح المحرقة... وتقدسها فتكون قدس أقداس. كل من يمسها يكون مقدساً" (خر30: 25 29).
وكما كان يتقدس بهذه المسحة بيت الرب وكل مذابحه وأوانيه هكذا كان يتقدس به الكهنة أيضاً.
وفي هذا قال الرب لموسى " وتمسح هرون وبنيه لكهنوا لي " " يكون لي هذا دهناً مقدساً للمسحة في أجيالكم" (خر30: 30، 31). وكرر الرب هذا الأمر مرة أخرى لموسى النبى، في نفس سفر الخروج فقال " وتأخذ دهن المسحة، وتمسح المسكن وكل ما فيه وتقدسه وكل آنيته ليكون مقدساً وتمسح مذبح المحرقة وكل آنيته، وتقدس المذبح ليكون قدس أقداس... وتقدم هرون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع، وتغسلهم بماء. وتلبس هرون الثياب المقدسة، وتمسحه وتقدسه ليكهن لى" (خر40: 9، 13 ). " وتقدم بينه، وتلبسهم أقمصة، وتمسحهم كما مسحت أباهم ليكهنوا لي ويكون ذلك لتصير لهم مسحتهم كهنوتاً أبدياً في أجيالهم" (خر40: 14، 15). وفعل موسى كما أمره الرب (لا8: 4) وصب من دهن المسحه لى رأس هرون لمسحه وتقديسه ( لا8: 12) وكان قد مسح المسكن والمذابح من قبل وبعد هرون مسح بنيه.
أي زيت هذا؟ وأى دهن هذا؟ الذى كل ما يمسح به يتقدس... ومن يمسح به تصير له لمسحه كهنوتاً أبدياً. في مسح شاول قيل " فأخذ صموئيل قنينة الدهن، وصب على رأسه، وقبله. وقال: أليس لأن الرب مسحك على ميراثه رئيساً" (1صم10: 1) وحدث أن الله أعطاه قلباً آخر وحدثت آيات في ذلك اليوم. وحل عليه روح الرب فتنبا، حتى قيل: أشاول أيضاً من الأنبياء" (1صم10: 9 11).
فكان مع المسحه المقدسة حلول روح الرب على هذا الممسوح، مع موهبة من الروح القدس هي نوهبة النبوءة.
وعن مسحة داود، قيل " فأخذ صموئيل قرن الدهن، ومسحه في وسط اخوته. وحل روح الرب على داود في ذلك اليوم فصاعداً" (1صم16: 13).. نفس الأمر: حلول روح الرب مع مسحة الزيت. ووهب الله داود موهبه تهدئة شاول من الروح الردئ، بعد أن فارقة روح الرب (1صم16:: 14، 22). 
نسمع بعد ذلك عن ايليا النبى، وكيف مسح ملكين ونبياً هو أليشع.
إذ قال له الرب: امسح حزائيل ملكاً على آرام، وَامْسَحْ يَاهُوَ بْنَ نِمْشِي مَلِكًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَامْسَحْ أَلِيشَعَ بْنَ شَافَاطَ مِنْ آبَلَ مَحُولَةَ نَبِيًّا عِوَضًا عَنْكَ" (سفر الملوك الأول 19: 15، 16).
وبالمسحة كان يحل روح الله...

والذين يمسحون كانوا يسمون مسحاء الرب. ولذلك قال داود عن شاول الملك لما حرضه رجاله على قتله " حاشا لى من قبل الرب أن أعمل هذا الأمر بسيدي مسيح الرب، فأمد يدي إليه! لأنه مسيح الرب هو" (1صم24: 6). وعن هؤلاء الممسوحين قال الرب " لا تمسوا مسحائي" (مز105: 15). وكانت الزيتونة ترمز إلى الكنيسة من حيث أنها مملوءة بهذا الزيت، وتعطية للناس .
بولس الرسول يقول عن كنيسة العهد القديم أنها الزيتونة الأصليه، وكنيسة العهد الجديد زيتونة برية قد طعمت فيها (رو11: 17، 24)... ولعله عن هذا قد تنبأ زكريا النبى فقال " ما هاتان الزيتونتان عن يمين المنارة وعن يسارها" (زك4: 11).
ولعلنا بعد هذا نتأمل أمراً هاماً وهو:
ما هو الزيت في مثل العذارى العشر؟
هل العزاري الجاهلات لم يكن معهن زيت في آنيتهن، اشارة إلى أنهن لم يحتفظين بعمل الروح القدس فيهن... هناك آراء اخرى ولكنى اميل إلى هذا الرأى، لأنه اقرب إلى الفهم اللاهوتى.
ننتقل الآن إلى رمز آخر وهو: النار.
11- النار من رموز الروح القدس
واضح في يوم البند كنسى أن حل الروح القدس على التلاميذ كألسنة كأنها من نار" (أع2: 3).
وحينئذ " امتلأ الجميع من الروح القدس، وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى، كما أعطاهم الروح أن ينطلقوا" (أع2: 4). وليس هذا الأمر غريباً، فالكتاب يقول " إلهن آكله" (عب12: 29). " والله روح" (يو4: 24). ونزول النار على الذبيحة، كان شاول اشارة إلى أن الله قد قبلها، كما حدث مع ذبيحة ايليا النبى التى أخزى بها أنبياء البعل وأنبياء السوارى. يقول الكتاب في ذلك: " فنزلت نار الرب، وأكلت المحرقة والحجرة" (1مل18: 38).
ونلاحظ أن النار كانت لا تفارق بيت الله اطلاقاً.
كانت النار دائمة على مذبح المحرقة، اشارة إلى قبول الله للذبائح " النار على المذبح تتقد عليه. لا تطفأ عليها الكاهن حطباً كل صباح. ويوقد عليها شحم ذبائح السلامة. نار دائمة تتقد على المذبح. لا تطفأ" (لا6: 12، 13). وفي المجمرة ترمز النار إلى اللاهوت، والفحم إلى الناسوت. ولعل الجمرة التى أخذتها أحد السارافيم من على المذبح (اش6: 6، 7). وطهر بها شفتى اشعياء تحمل نفس الرمز
وكانت النار أيضاً في السراج.
هذه السرج كانت تملأ الزيتون النقي للضوء (خر27: 20) " يرتهبها هرون وبنوه من المساء إلى الصباح أمام الرب فريضة دهرية في أجيالهم" (خر27: 21). وهنا نجد الرمزين متحدين معاً: الزيت والنار، أمام الرب فريضة دهرية. وفي الكنيسة حالياً الشموع إلى جوار السرج.
وفي الشموع أيضاً نجد الأمرين معاً: الزيت والنار. وكذلك القناديل: زيت ونار . ونفس هذا الأمر نكرره في الاحتفال بليلة أبو غلمسيس. سبعة قناديل، زيت ونار .. لو دخل الناس إلى عمق الطقس، لاستطاعوا أن يروا الحكمة فيه، والروح الذي وضع به. ونفس القنديل، الزيت والنار، نجده في سر مسحة المرضى، الذي يعمل فيه الروح القدس.
تري ما هو الدروس الروحية واللاهوتية التى تأخذها باستمرار من الزيت والنار، سواء في الشموع أو في السراج أو في القناديل، في طقس الكنيسة المقدس؟
ليتنا ندخل هذه المعنى إلى عقول أولادنا من سن طفولتهم، حتى لا يكتفوا بالشكل دون الجوهر، في كل ما يرونه في الكنيسة.
كلمة سرج هي جمع سراج. والمزمور يقول:
" سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلى" (مز9: 1).
فهل نتذكر هذا أثناء قراءة أو سماع الكتاب المقدس... فالكتاب هو ما كتبه رجال الله القديسون مسوقين من الروح القدس (2بط 1: 21) . والروح القدس الناطق في الأنبياء. لذلك نتذكر السراج والنور وما في السراج من زيت ونار، وكل ما في ذلك من رموز الروح القدس. ويدعونا الرسول أن نكون " حارين في الروح" (رو12: 11)، ليذكرنا بنار الروح القدس في القلب
ننتقل إلى رمز آخر وهو الريح:
12- الريح من رموز الروح القدس
في الواقع أن الكلمة اليونانية "ابنفما" تعنى الريح والروح في نفس الوقت...
فنقول: "الريح تهب حيث تشاء" أو "الروح يهب حيث يشاء" (يو3: 8).
ومع ذلك نرى حلول الروح القدس في يوم الخمسين، قيل في مقدمته " وصار بغتة من السماء من السماء صوت كما من ريح عاصفة، وملأ كل البيت... وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار، واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع2: 2 4). ومن الأمثلة المواضحة آحياء العظام في سفر حزقيال إذ " قال السيد الرب لهم يا روح من الرياح الأربع، وهب على هؤلاء القتلى فيحيوا.. فدخل فيهم روح" (حز37 : 9، 10). ونلاحظ أن السيد المسيح منح الروح القدس للتلاميذ في سلطان الكهنوت، بأن نفخ في وجوههم وقال " اقبلوا الروح القدس" (يو20: 22). وهذه النفخة هي ريح. وهذا ما نفعله أثناء رسامة الكاهن. ينفخ الأسقف في فمه ويقول له اقبل الروح القدس.. وهو يردد ما قيل في المزمور " فتحت فمي واقتبلت لي روحاً" (مز119).

الفصل الثالث: الروح القدس في العهدين

13- الروح القدس في العهد القديم
إن المعرفة الواسعة التى أخدناها في العهد الجديد عن الروح القدس ولاهوته وصفاته وعمله، لا تعني أن الروح القدس ولاهوته وصفاته وعمله، لا تعني أن الروح القدس خاص فقط بالعهد الجديد، أو أن علاقة البشر به بدأت منذ حلوله يوم عيد البندكستى (العنصرة)... إنما الروح القدس، روح الله القدوس موجود منذ الأزل وللبشر علاقة به في العهد القديم أيضاً... وسنورد هنا بعض معلومات عنه في العهد القديم، وفي فترة ما بين العهدين:
1 منذ بدء الخليقة، وفي أول اصحاح من سفر التكوين، يقول الكتاب:
" روح الله يرف على وجه المياه" (تك1: 2).
2 وقد اشترك الروح في عملية الخلق، إذ يقول المزمور " ترسل روحك فتخلق، وتجدد وجة الأرض" (مز104: 30).
3 وروح لله هو الذي تكلم من أفواه الأنبياء.
كما تقول عنه في قانون الإيمان "الناطق في الأنبياء". وكما يقول القديس بطرس الرسول " لم تأت نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط1: 21). ويقول القديس بولس الرسول " حسن كلم الروح القدس آباءنا باشعياء النبى قائلاً..." (أع28: 25). وحزقيال النبى يتكلم كثيراً عن تحريك الرب له، وعن وحى الرب إليه (حز2: 2) (حز37: 1) ( حز8: 3). ما أجمل قول نحميا، وهو يتذكر عمل روح الرب مع شعبه في إرشادهم عن طريق الوحى فيقول " وأعطيتهم روحك الصالح، لتعليمهم" (نح9: 20).
4 مقاومة اليهود للأنبياء كانت مقاومة للروح القدس:
وهكذا وبخهم القديس اسطفانوس رئيس الشمامسة قائلاً " أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده آباءكم؟!" (أع7: 51، 52).
5 "قال الرب لزربابل ومن معه على فم حجي النبى " تشدد يا زربابل... وتشددوا يا جميع شعب الأرض... فإنى معكم يقول رب الجنود، حسب الكلام الذي كلمتكم به عند خروجكم من مصر، وروحى قائم في وسطكم" (حج2: 4، 5). إذن روح الله كان قائماً في وسطهم، سواء أحسوا بهذا أم لا. وهو الذي كان يقودهم ويقويهم ويشجعهم في غربتهم.
6 قال الرب لموسى النبى أن يجمع سبعين شيخاً لكى يساعدوه في الخدمة. ثم يقول الكتاب "فنزل الرب في سحابة وتكلم معه. وأخذ من الروح الذي عليه، وجعل على السبعين رجلاً الشيوخ. فلما حل عليهم الروح تنباوا" (عد11: 24، 25).إذن روح الرب كان على موسى، وانتقل من موسى إلى الشيوخ، فحل عليهم روح الرب فتنبأوا.
ويحكى الكتاب أيضاً عن رجلين آخرين بقيا في المحلة إسم الواحد ألداد، وإسم الاخر ميداد. " فحل عليهما روح الرب... فتنبآ في المحلة" (عد 11: 26). وهنا يبدو أن روح الرب قد عمل في كثيرون، ومنحهم موهبة النبوة، ولو لوقت محدود. أما الشيوخ فاستمر فيهم روح الرب ليمنحهم الحكمة في القيادة.
7 قال الرب لموسى النبى " خذ يشوع بن نون رجلاً فيه روح. وضع يدك عليه... واجعل من هبيتك عليه، لكى يسمع له كل جماعة بنى اسرائيل" (عد27: 18). وهنا نرى أن سشوع بن نون كان فيه روح الرب، ولكنه احتاج لوضع يد موسى لكى ينال من الروح موهبة القيادة وطاعة الشعب له...
8 نسمع أيضاً أن روح الرب يحل على بعض الحرفين ليعطيهم حكمة في الصناعة الخاصة بالكنيسة والكهنوت.
مثال ذلك بصلئيل الذي أمتلأ من روح الله بالحكمة والفهم لعمل كل ما يلزم لخيمة الاجتماع (خر31: 3). وكذلك حكماء القلوب الذين ملأهم الرب من روح الحكمة لكى يصنعوا ثياب الكهنوت لهرون (خر28: 3).
9 سمعنا أيضاً عن شمشون الجبار، وكان نذيراً للرب من بطن أمه (قض13: 5)، وقد بشر ملاك الله بولادته. هذا قيل عنه إن الرب باركه " وابتدأ روح الرب يحركه في محله دان..." (قض13: 25) وقيل أكثر من مرة إن روح الرب حل عليه ( قض4: 6، 19) (قض15: 14).
10 كذلك حل روح الرب على شاول الملك لما مسحه صموئيل النبى " وأعطاه الله قلباً آخر ". ولما حل عليه روح الرب تنبأ، حتى تعجب جميع الذين عرفوه ن قبل وقالوا: " أشاول أيضاً بن الأنبياء؟!" (1صم10: 9 11).
12 وبنفس الوضع حل روح الرب على الصبى داود، لما مسحه صموئيل النبى ملكاً على إسرائيل. وقال الكتاب في ذلك " فأخذ صموئيل قرن الدهن، ومسحه في وسط أخوته. وحل روح الرب على داود من الآن فصاعداً" (1صم16: 13) وقال داود للرب في المزمور " روحك الصالح هدينى" (مز143: 10).
14- دهن المسحة المقدسة
13 هذه المسحة المقدسة، التى كان يحل بها روح الرب، وكان يمسح بها الكهنة والملوك والأنبياء (خر30: 30) (لا8: 30) (1مل19: 15).
وتجلت مسحة هرون الكهنة في سفر المزامير:
إذ يقول المرتل " هوذا ما أحسن وما أجمل أن يسكن الأخوة معاً، مثل دهن الطيب الكائن على الرأس، النازل على اللحية لحية هرون، النازل إلى طرف قميصه "... (مز133).
استخدمت المسحة المقدسة في مسح بيت الله ولعلنا نجد أصداء لهذا الأمر في تدشين يعقوب أبى الآباء لأول بيت لله في التاريخ (تك28: 10 19). وهكذا كان يمسح بيت الرب. كل مذابحه، فتتقدس بروح الرب وتتكرس لخدمته. (لا8: 10، 11).
14 نلاحظ هنا أن الله كان يعطى الروح القدس عن طريق أولاده وبطقس وضعه هو لهم.
فموسى النبى يأخذ الروح مباشرة من الله، ثم يمنحه لهرون وبنيه، عن طريق المسحه التى من وضع الله نفسه. كان ممكناً لله أن يمنح الكهنوت لهرون وبنيه، بروحه القدوس، مباشرة. ولكنه لم يشأ ذلك، وإنما أراد أن يكون ذلك عن طريق عبده موسى الذي جعله أميناً على كل بيته، وفماً إلى فم يتكلم معه (عد12: 7، 8).
وكان ممكناً أن يمنح الله الروح القدس لداود مباشرة.
ولكنه شاء أن يكون ذلك عن طريق عبده صموئيل، وبواسطة المسحة المقدسة التى هي من وضع الله نفسه. علينا إذن من هذا الأمر، أن نفهم طريقة الله في التعامل مع البشر، وخطة الله في اتخاذ وكلاء له من البشر، يأتمنهم على الأمور المختصة بملكوته.
كذلك نلاحظ أمراً هاماً جداً في إقامة السبعين شيخاً.
لم يمنحهم الله الروح من عنده مباشرة. إنما أخذ من الروح الذي على موسى وجعله عليهم، فحل عليهم الروح (عد11: 24). وأنا أقف متعجباً أمام عبارة " أخذ الرب الروح الذي على موسى ". إنه وكيله، ويريد أن الشيوخ يعترفون بمصدره الإلهى.
18 ولعله بهذه المسحات الثلاث قد مسح السيد المسيح.
مسح من روح ملكاً وكاهناً ونبياً. فهو الذى قيل عنه في سفر اشعياء النبى " روح السيد الرب على. لأنه الرب مسحنى لأبشر المساكين. ارسلنى لأعصب منكسرى القلوب .." (اش61: 1). وهو الذي قصده الرب بقوله "... مختارى الذي سرت به نفسى. وضعت روحى عليه، فيخرج الحق للأمم. لا يصيح... ولا يسمع أحد في الشوارع صوته ..." (اش42: 1، 2).
وقد شرح القديس بطرس الرسول هذه المسحه بقوله:
" يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة" (أع10: 38).
إنه هذا الذى مسح بزيت البهجة أفضل من رفقائه (عب1: 9) تحقيقاً لنفس هذه النبوة التى وردت في المزمور (مز44).
وكانت المسحه وقت العماد، حين حل الروح عليه.
وبهذه المسحه دعى إسمه مسيحه أزليه، كانت في فكر الله منذ الأزل. ولذلك قال في سفر الأمثال " منذ الأزل مسحت، منذ البدء" (أم8: 23).
إن علاقة السيد المسيح بالروح القدس علاقة مزدوجة:
احداهما علاقة أقنومية أزليه، هو في الروح القدس، والروح القدس فيه منذ الأزل . إنه روحه. وعلاقة مسحه للخدمة في وقت العماد، والتى اشير إليها في (اش61: 1). وسنشرح هذا الأمر عند حديثنا عن الزيت كرمز للروح القدس.
16 كان روح الرب في العهد القديم يحل على أفراد.
كما حل على الأنبياء، وعلى بعض الملوك فتنبأوا، وعلى السبعين شيخاً وغيرهم فتنبأوا. وحل على البعض فأعطاهم مواهب، كما أعطي شمشون قوة خارقة. وكما أعطى بصالئيل حكمة ومعرفة في صنع كل ما يحتضن خيمة الاجتماع... إلا أنه لم يكن عاماً كحلوله في العهد الجيد يصير جميع المؤمنين هياكل للروح القدس، وهو يسكن فيهم.
17 وعن هذا الحلول العام، وردت نبوءة في العهد القديم.
مثل قول الرب في سفر حزقيال النبى " وانزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم. واجعل روحى في داخلكم. واجعلكم تسلكون في فرائضى" (حز36: 26 / 27). وكذلك النبوءة التى وردت في سفر يويل النبى وتحققت في يوم الخمسين (يوء2: 28 ). ولكن لعل الجميع في العهد القديم لم يكونوا مستحقين لحلول روح الله فيهم بصفه عامة، لا نحرافهم عن الإيمان، ولقسوة قلوبهم، ووقوعهم أحياناً في الوثنية.
18 وكان روح الرب في العهد القديم، يفرق أحياناً من يحل عليهم:
+ وهذا واضح في قصة شاول الملك الذى رفضه الرب، وقال عنه الكتاب " وذهب روح الرب من عند شاول، وبغته روح ردئ من قبل الرب" (1صم16: 4). هذه المفارقة يشابهها قول داود في المزمور " روحك القدوس لا تنزعه منى" (مز50).
19 وكان الروح القدس في العهد القديم، يقود أحياناً بعض الملوك الأمميين، لصالح شعبه.
ونذكر من بين هؤلاء ثلاثة من ملوك فارس: كورش وداريوس وأرتحشستا، وما فعلوه من أجل إعادة بناء بيت الله وبناء سور أورشليم مما ورد في سفر عزرا ونحميا " ففي بدء السنة الأولى لكورش ملك فارس " نبه الرب روح كورش ملك فارس" (عز1: 1)، فإمر ببناء بيت الله في أورشليم، وأعاد آنيه بيت الرب التى أخرجها نبوخذ نصر من أورشليم (عز1: 7)، مع الإنفاق على كل هذا. وهكذا فعل داريوس الملك ( عز6: 3 12). وكذلك فعل أرتحشستا الملك في خطابه إلى عزرا الكاهن (عز7: 11 25).
15- فترة ما بين العهدين
كانت فترة عمل عميق من الروح القدس، وبخاصة في الأحداث التى عاصرت البشارة والتجسد. وسنخلصها في النقاط الآتية:
1 أهم عمل للروح القدس، كان عمله في التجسد الإلهى: فقد قيل عن القديسة مريم العذراء إنها "وجدت حبلى من الروح القدس" (متى1: 18). وكان جبرائيل الملاك قد بشرها قائلاً " الروح القدس يحل عليك، وقوة العلى تظللك. فذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعي أبن الله" (لو1: 35). وعندما راودت الأفكار يوسف النجار من جهة حبل مريم، وقال له ملاك الرب " الذى حبل به فيها، هو من الروح القدس" (متى1: 20). الروح القدس ساعد على تكوين جسد المسيح في بطن العذراء بدون زرع بشر، لذلك نقول في القداس الإلهى عن السيد المسيح الرب " الذى من الروح القدس ومن مريم العذراء، تجسد وتأنس ". ونقول في قانون الإيمان " نزل من السماء، وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنس ". والروح القدس أيضاً قدس مستودع السيدة العذراء أثناء الحبل الإلهى، حتى أن المولود منها لا يرث شيئاً من الخطية الجدية الأصلية.
2 قال ملاك الرب لزكريا في البشارة بميلاد يوحنا المعمدان:
ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس" (لو1: 15).
ولعل هذه أول إشارة في الإنجيل عن الامتلاء من الروح القدس. ولعله بسبب امتلاء يوحنا بالروح القدس وهو في بطن أمه، أن أمه قالت للقديسة العذراء لما زارتها "هوذا حين صار صوت سلامك في أذنى، ارتكض الجنين بابتهاج في بطني" (لو1: 44) . ارتكض بابتهاج، لأنه أحس بالروح وهو جنين، أنه أمام جنين آخر في بطن العذراء هو المسيح، فإبتهج بلقائه، وارتكض متحركاً لهذا اللقاء...!
3 امتلاء أليصابات من الروح القدس:
لما دخلت القديسة العذراء بيت زكريا، سلمت على زوجة أليصابات. وهنا يقول الكتاب " فلما سمعت أليصابات سلام مريم، ارتكض الجنين في بطنها، وامتلأت اليصابات من الروح القدس" (لو1: 41))... ترى أية قوة روحية كانت في هذا السلام؟!
4 امتلاء زكريا الكاهن من الروح القدس:
بعد ولادة يوحنا المعمدان، انفتح فم زكريا أبيه وتكلم وبارك الرب "وامتلأ زكريا أبوه من الروح القدس وتنبأ قائلاً.." (لو1: 64 67). وهنا نرى أسرة بأكملها تمتلئ كلها من الروح القدس: الأب، والأم والإبن وهو جنين. ومع الأب موهبة النبوة، ومع الأم موهبة الكشف الروحى الذى عرفت به أن مريم هي أم الرب، وأنها آمنت "أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو1: 43 45).
5 عمل الروح القدس في سمعان الشيخ:
يقول افنجيل المقدس إن " الروح القدس كان عليه " وكان " قد أوحي إليه بالروح القدس "إنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. وإنه أتى "بالروح" إلى الهيكل (لو3: 25 27). ولذلك أمكنه بالروح أن يتعرف على المسيح وهو طفل، ويتنبأ نبوءات بشأنه... ولا شك أن حنة النبية كانت بنفس الوضع في تسبيحها وكلامها عن الرب (لو2 ك 38). 6 الروح القدس قبيل العماد وأثناءه:
حل الروح القدس على السيد المسيح بهيئة حمامة (لو3: 22) (متى3: 16). والروح القدس هو أيضاً الذى أرشد يوحنا المعمدان إلى معرفة المسيح. وهو نفسه قال " وأنا لم أكن أعرفه. لكن الذى أرسلنى لأعمد بالماء، ذاك قال لي: الذى ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذى يعتمد بالروح القدس" (يو1: 23). 16- أهمية حلول الروح القدس في كنيسة الرسل
حلول الروح القدس كان بدء عمل الكنيسة المسيحية.
لقد بدأ السيد المسيح في تكوين الكنيسة حينما اختار الرسل الأثنى عشر وأرسلهم ( متى10: 1 16). ثم أختار سبعين آخرون وأرسلهم (لو10: 1 20)، مع مجموعات متفرقة من أحبائة وتلاميذه هنا وهناك. ولكنه على الرغم من اختيار الرسل لم يسمح لهم بأن يبدأوا الكرازة إلا بعد حلول الروح القدس عليهم. فكان ذلك الحدث العظيم هو نقطة التحول العظيم في بدء الكرازة على أوسع نطاق.
فالروح القدس هو الذى منح القوة اللازمة للعمل الكرازى.
كان ارسال الروح القدس هو وعد من الرب" (يو14: 26) (يو15: 26) (يو16: 7). ولكنه مع ذلك قال لهم "ها أنا أرسل إليكم موعد أبى. فأقيموا في مدينة أورشليم، حتى تلبسوا قوة من الأعالى" (لو24: 49). فمن أين تأتيهم تلك القوة؟ قال لهم عن هذا "لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكوون لى شهوداً وفي كل اليهودية والسارة وإلى أقصى الأرض" (أع1: 8)..
كان روح الله لازماً جداً لهم، وبدونه لا يعملون:
وسنرى كيف عمل الروح القدس معهم في الكرازة والتعليم. فانتظروا حسب أمر الرب. وكل أعدادهم السابق للخدمة على مدي أكثر من ثلاث سنوات، لم يكن يغنيهم عن الروح القدس وعمله وبهم. ولعل هذه الأيام العشرة التى أنتظروها كانت أيام صلاة ورجئ واستعداداً من القلب للعمل المقبل... الروح القدس يعمل في الخدام. وهو الذى يعينهم:
هو الذى حل على الرسل في يوم الخمسين، ولم يبدأوا خدمتهم إلا بعد حلوله عليهم . وكان الامتلاء من الروح القدس شرطاً للخدمة، ليس فقط لدرجة الرسولية، إنما حتى للشمامسة إذ قال الرسول للشعب حينما أرادوا سيامة الشمامسة " انتخبوا أيها الرجال الاخوة سبعة رجال منكم مشهوداً لهم ومملوئين من الروح القدس والحكمة، فنقيهم على هذه الحاجة" (أع6: 3). وكان الروح القدس هو الذى يدعو ويختار الخدام، كما قال "افرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذى دعوتهما لإليه" (أع13 :2) وهذان بعد وضع الأيدى عليهما، قيل أنهما " أرسلا من الروح القدس" (أع13 : 4). وقد قال القديس بولس الرسول لأساقفة أفسس "احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التى أقامكم الروح القدس فيها أساقفة" (أع20: 28). والروح القدس كان هو الذى يحرك الخدام:
ففي قصة عماد الخصى الذى كان يقرأ نبوءة اشعياء في مركبته " قال الروح لفيلبس: نقدم ورافق هذه المركبة" (أع8: 28، 29).
وفي قصة عماد كرنيليوس لما وصل رجاله إلى بطرس " قال له الروح: هوذا ثلاثة رجال يطلبونك. قم وانزل واذهب معهم غير مرتاب في شئ. لأنى أنا قد أرسلتهم" ( أع 10: 19، 20). وفي خدمة بولس وسيلا ومن معهم " منعهم الروح أن يتكلموا بالكلمة في آسيا. فلما أتوا إلى ميسيا، حاولوا أن يذهبوا إلى بيثينية فلم يدعهم الروح" (اع16: 6، 7). وأخيراً دعاهم لتبشير مكدونية... وفي رؤيا يوحنا يقول " فمضى إلى جبل عظيم عال، ورأيت المدينة العظيمة أورشليم..." ( رؤ21: 10). والقديس بولس الرسول يقول " والآن ها أنا اذهب إلى أورشليم إلى مقيداً بالروح، لا أعلم ماذا يصادفني هناك" (أع20: 21، 22). وفي العهد القديم قيل عن شمشون " وابتدأ روح الرب يحركه في محله دان" (قض13: 25).
17- كيف حلَّ الروح القدس؟
1 حل الروح القدس عليهم بهيئة ألسنة من نار. وكان نتيجة ذلك أن "امتلأ الجميع من الروح القدس" (أع2: 4). وصاروا يتكلمون بألسنة كل الشعوب المجتمعة في ذلك اليوم العظيم (حوالى 15 شعباً) متحدثين بعظائم الله (أع2: 9 11). وألقى بطرس كلمة، كانت نتيجتها أن نخس السامعون في قلوبهم، وقبلوا الكلام بفرح، واعتمد في ذلك اليوم ثلاثة الآف نفس (أع2: 37، 41).
2 ولكنهم فيما بعد كانوا يمنحون الروح القدس بوضع اليد. كما حدث لأهل السامرة، أذ يقول الكتاب إن الرسل أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا " اللذين لما نزلا ، صليا لأجلهم لكى يقبلوا الروح القدس " " حينئذ وضعا الأيادى عليهم، فقبلوا الروح القدس" (أع8: 15، 17). وكما حدث أيضاً لأهل أفسس، إذ يقول سفر أعمال الرسل "فلما وضع بولس يديه عليهم، حل الروح القدس عليهم، فطفقوا يتكلمون بألسنة ويتنبأون" (أع19: 6).
3 ثم صار منح الروح القدس بالمسحة المقدسة.
ولذلك لم تكن هناك فرصة لوضعه أيدى الرسل، بعد أنتشار المسيحية في بلاد عديدة . لذلك استخدمت المسحة التى هي حالياً الميرون المقدس. وقد أشار القديس يوحنا الرسول إلى هذه المسحه فقال " وأما أنتم فلكم مسحة من القدوس..." (1يو12: 20) وأيضاً " وأما أنتم فالمسحة التى أخذتموها منه ثابته فيكم..." (1يو2: 27) [ أنظر أيضاً 2كو1: 31 ].
4 أما الكهنوت فقد أخذه الرسل بالنفخة المقدسة.
إذ أن السيد المسيح نفخ في وجوههم "وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. ومن أمسكتمم خطاياه أمسكت" (يو20: 22، 23). فالروح القدس الذى فيهم كان يغفر الخطايا أو ممسكها. عن طريقهم. على أن الرسل كانوا فيما بعد يمنحون الروح القدس في سر الكهنوت بوضع اليد. ونذكر في ذلك قول القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس اسقف أفسس " أذكرك أن تضرم أيضاً موهبة الله التى فيك بوضع يدي" (2تى1: 6). وقال له عن رسامته للآخرين " لا تضع يدك على أحد بالعجلة. ولا تشترك في خطايا الآخرين" (1تى5: 22). وهكذا نرى في إرسالية وشاول إنهم "صاموا حينئذ وصلوا. ووضعوا عليهما الأيادى. فهذان إذ أرسلا من الروح القدس انحدرا إلى سلوكية.." (أع13: 3، 4). فبوضع الأيدي أرسلاً من الروح القدس. وفي سيامة الشمامسة السبعة نفس الوضع "أقاموها أمام الرسل. فصلوا ووضعوا عليهم الأيادي" (أع6: 6).
+ وهكذا نرى أن وضع اليد كان مصحوباً بصلوات معينة، هي حالياً طقس السيامة.
كما نرى أن الروح القدس قد حل على التلاميذ من الله مباشرة، إذ ليس هناك من هو أعلى منهم يمنحهم إياه. ولكن بعد أن صار الرسل "وكلاء سرائر الله" (1كو4: 1).. صار وكلاء الله هؤلاء هم الذين يمنحون الروح القدس.
بوضع أيديهم وصلواتهم، كما في إقامة الأساقفة والقسوس والشمامسة، أو بوضع اليد أولاً ثم استخدام المسحة، كما في منح الروح لعامة المؤمنين. وبهذا صار الروح الذى فيهم، ينتقل منهم إلى غيرهم بالطريقة التى ذكرناها... حالياً نحن نمارس سر الميرون المقدس أو سر المسحة المقدسة بعد العماد.
وفي طقس هذا السر نرشم الطفل بالميرون في مواضع كثيرة من جسده، وأيضاً نضع اليد على رأسه وننفخ في وجهه ونقول له "اقبل الروح القدس..." وبالنسبة إلى السيدات الكبار أن يضع الأسقف يده على المرأة بالصلوات لتقبل الروح القدس. ويرشم الأجزاء الظاهرة من جسدها... وكان الروح هو الذى يتكلم على أفواه الخدام:
وفي ذلك قال السيد المسيح للتلاميذ حينما أرسلهم ".. لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم" (مت10: 20). وقال القديس بطرس الرسول " لم تأت نبوءة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" ( 2بط1: 21). لذلك نقول في الإيمان عن الروح القدس: " الناطق في الأنبياء ". وقيل عن الرسل في يوم الخمسين " وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى، كما أعطاهم الروح أن ينطقوا" (أع2: 4). وقد تنبأ أغابيوس عن بولس الرسول بدأهل بقوله " هذا يقوله الروح القدس.." (أع21: 11). وقال القديس بولس الرسول " لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله، التى نتكلم بها أيضاً، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعمله الروح القدس" (1كو2: 12، 13).
 

الفصل الرابع الروح القدس المُعطي

18- الروح القدس المُعطي
الروح القدس هو دائم العطاء، منذ بدء الخليقة... ولا تزال يعطى باستمرار. ونلمس عطاه في الكنيسة كل يوم. ولكى نتبع هذا العطاء، نذكر النقاط الآتية:
· الروح القدس هو اقنوم الحياة في الثالوث القدوس. فطبيعى إذن أنه يعطينا الحياة .
لولاة كنا لا نزال على الأرض. ولكنه منحنا الحياة. " جبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة. فصار آدم نفساً حية" (تك2: 7). وكانت هذه أول عطية نلناها من الروح القدس، اعنى الروح، عطية الحياة. وإن كان روح الله قد وهبنا الروح والحياة، فطبيعى كذلك أنه وهبنا ما لهذه الروح من عقل وفهم وضمير وخلود، وباقى صفات الروح.
والروح القدس لم يهب الحياة لنا فقط، بل لكل الكائنات الحية أيضاً.
كانت الأرض خربة وخاليه ومظلمة " وروح الله يرف على وجه المياه" (ك1: 2). ثم " قال الله لنفض المياة زحافاً ذات نفس حية، وليطير طير فوق الأرض..." ( تك1: 20). وهكذا فإن روح الله الذى كان يرف على وجه المياة، اخرج منها هذه الكائنات الحية. وهذه الكائنات الحية، يحفظ روح الله وجودها، فيجدده على الأرض. ويقول عنها المرتل في المزمور " كلها إياك تترجى، لترزقها قوتها في حينه... تنوع أرواحها فتموت، وإلى ترابها تعود. ترسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض" (مز104: 27 30).
· روح الله يعمل أيضاً في القيامة، فيعيد الحياة للبشر.
حسب قول الرب للعظام في سفر حزقيال " هأنذا داخل فيكم روحاً فتحيون... واجعل روحى فيكم فتحيون" (حز37: 5، 14)... تقال هذه عن القيامة الجسدية، وعن القيامة الروحية أيضاً.
· الروح القدس يعمل إذن في التوبة.
يقول الرب في ذلك "أعطيكم قلباً جديداً، واجعل روحاً جديدة في داخلكم... واجعل روحى في داخلكم، واجعلكم تسلكون في فرائضى، وتحفظون أحكامى وتعلمون بها " (حز36: 26، 27). الروح القدس هو الذى يبكينا على خطية (يو16: 8). وتبكيت الروح القدس أقوى جداً من تبكيت الضمير البشرى العادى. ولا يقتصر عطاء الروح على تبكيتنا، وإنما يقودنا في الحياة الروحية. وقد قال الرسول في ذلك " لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فاولئك هم أبناء الله (رو8: 14).
التفاصيل كثيرة جداً ولكى ألخصها في عبارة قصيرة وشاملة وهي:
· الله يعطينا روحه القدوس ليسكن فينا. وروح الله يعطينا كل شئ...
لقد اعطى الروح القدس للتلاميذ في يوم الخمسين (أع2: 2، 3). والتلاميذ أعطوا الروح للناس أولاً بوضع اليد (أع8: 17، 18) ثم بالمسحة المقدسة ( 1يو2: 20، 27). ويعطينا الله روحه حالياً بسر المسحة، سر الميرون المقدس. وكما يقول الرسول "أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم" (1كو6 : 19).
والله يعطينا روحه بسخاء، كما قال المعمدان:
" لأنه ليس بكيل يعطى الله، الروح" (يو3: 34).
أي أن عمل روح الله فينا، يكون بوفرة كبيرة. والروح يعطينا كل شئ، لأن "كل عطية صالحة وكل موهبة تامة هي من فوق نازله من عند أبى الأنوار" (يع1: 17) .
والعطايا التى يعطيها الروح، بعضها طبيعية، وبعضها فائق للطبيعة لذلك نقول:
· الروح القدس هو مصدر جميع المواهب ومعطيها:
جميع المعجزات والمواهب الفائقة للطبيعة، وجميع العجائب والقوات، كلها بعمل الروح القدس في الإنسان، وليس بقوة بشرية خاصة. وقد شرح القديس بولس ذلك في اصحاح كامل من رسالته إلى كورنثوس (1كو12) فقال في ذلك:
"أنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد... ولكنه لكل واحد يعطى إظهار الروح للمنفعة، فإنه لواحد بالروح يعطى بالروح كلام حكمة. ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد. ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد ولآخر عمل قوات. ولآخر نبوة ولآخر تمييز أرواح. ولآخر أنواع السنة ولآخر ترجمة ألسنة ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء" (1كو12 4: 11).
وغرض هذه المواهب هو المنفعة الروحية.
حسب قول الرسول " يعطى اظهار الروح للمنفعة" (1كو12: 7)، وحسب قوله لتبنى الكنيسة" (1كو14: 4). وكما قال أيضاً " لأجل تكميل القديسين، لعمل الخدمة ، لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهى جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله" (أف4: 12، 13).
فالمواهب التى يعطيها الروح القدس، ليست للافتخار والمجد الباطل، إنما لبنيان الكنيسة.
وأعظم العصور التى مرت على الكنيسة، هى العصور التى كان يعمل فيها الروح القدس بهذه المواهب.
فنمو الكنيسة وانتشار الإيمان، لم يكن نتيجة للنشاط البشرى أو الجهاد الفردى أو يكرز، والراعى يرعى. ولكن الروح القدس هو الذى كان ينخس القلوب، وبغيرها ويجددها ويعطيها حرارة... فالرسل كانوا يبشرون " شاهداً الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة، ومواهب الروح القدس حسب إرادته" (عب2: 4).
وحتى في الوعظ والتبشير، نقول:
· كان الروح القدس هو الذى يعطى الكلمة.
وفي هذا يقول القديس بولس الرسول " مصلين بكل صلاة وطلبة... لأجل جميع القديسين ولأجلى، لكى يعطى لى كلام عند افتتاح فمى، لاعلم جهاراً بسر الإنجيل" (اف6: 18، 19). وهذا ما قاله السيد المسيح لتلاميذه " لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم" (مت10: 20). فها في كل خدمة تقوم بها، تكون أنت المتكلم أن تطلب من الروح القدس أن يعطيك كلمة، ويعطى السامعين تاثراً؟!
ويقول السيد الرب لتلاميذه عن هذه النقطة من عمل الروح القدس:
وأما المعزى الروح القدس. فهو يعلمكم كل شئ، ويذكركم بكل ما قلته لكم" ( يو14: 26).
ويقول القديس يوحنا الرسول في ذلك "وأما أنتم، فلكم مسحه من الروح القدس، وتعلمون كل شئ" "كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ" (1يو2: 20، 27) . الروح القدس يعلمنا، ويرشدنا، ويذكرنا... كل هذه عطايا من عنده...
وفي عصور الأنبياء، كانت النبوة أيضاً هي عطية من الروح القدس.
وفي ذلك يقول معلمنا القديس بطرس الرسول " لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (2بط1: 21). ويقول، الرب في سفر يؤئيل النبى "اسكب روحى على كل بشر. فيتنبأ بنوكم وبناتكم. ويحلم شيوخكم أحلاماً. ويرى شبابكم رؤى" (يو24: 28). ولعله بسبب هذا، قيل عن الروح القدس في قانون الإيمان "الناطق في الأنبياء".
إنه مصدر النبوءة والتبشير والتعليم.
وهكذا يقول معلمنا بولس الرسول عن كرازته "ونحن لم نأخذ روح العالم، بل الروح الذى من الله، الأشياء الموهوبة لنا من الله، التى نتكلم بها أيضاً، لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات" (1كو2: 12، 13).
الروح القدس أيضاً يعطى قوة.
ولذلك سمي روح القوة (2تى1: 7)، (أش11: 2) وهكذا قال الرب لتلاميذه "ولكنكم ستنالون قوة، متى حل الروح القدس عليكم، وحينئذ تكونون لي شهوداً" ( أع1: 8). وقال لهم في ذلك لا تبرحوا أورشليم إلى أن "تلبسوا قوة من الأعالى" (لو24: 49). ويقول القديس بولس الرسول " لكى يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيدوا بالقوة بروحه" (أف3: 16). وما أجمل كلمة الرب إلى زربابل "لا بالقدرة ولا بالقوة، بل بروحى قال رب الجنود" (زك4: 6). · الروح القدس يعطى أيضاً ثمر الروح.
· إنه الثمر الذى بنتيجة لانقياد روح الإنسان بالروح القدس. وعنه قال القديس بولس الرسول " وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام، طول أناة، لطف صلاح إيمان، وداعة تعفف" (غل5: 22، 23). وعن المحبة التى هي أولى ثمار الروح يقول " لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا، بالروح القدس المعطى لنا" (رو5: 5). بل الفضائل كلها بلا استثناء، ننالها عن طريق شركتنا مع الروح القدس. فهو العامل فينا.
· حتى الإيمان، هو من الروح القدس:
وفي ذلك يقول الرسول " ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب، إلا بالروح القدس" ( 1كو12: 3). ولعله بعمل الروح القدس، استطاع كرنيلوس أن يؤمن (1كو12: 9) . ولعله يقصد هنا الإيمان الذى يقول عنه الرب " كل شئ مستطاع للمؤمن" (مز9: 23).
· الروح القدس هو الذى يعطى العزاء
ولذلك سمى البارقليط، الروح المعزى. وعنه يقول السيد الرب لتلاميذه " ومتى جاء المعزى... روح الحق الذى من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى" (يو15: 26 ) وأيضاً " وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الآبد، روح الحق..." (يو14: 15). وأما المعزى الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى، فهو يعلمكم كل شئ" (يو14: 26). والمقصود طبعاً أنه مصدر كل تعزية روحية. أو هو الذى يعطى العزاء الروحى. · الروح القدس هو معطى القداسة:
ولذلك سمى أيضاً " روح القداسة" (رو1: 4). ولا يمكن لأنسان أن يصل إلى القداسة، إلا بعمل الروح القدس فيه... والأمر لا يقتصر على البشر فقط، وإنما أيضاً:
الروح القدس يقدس كل المقدسات:
الروح القدس بمسحة الميرون المقدس، يقدس الكنائس والمذابح، يدشنها. ويمنح القداسة لآوانى الخدمة المقدسة، وللمعموديات والايقونات... وكل ما ندهنه بزيت الميرون المقدس. · والروح القدس يمنح الميلاد الجديد في سر المعمودية:
· إنه يقدس ماء المعمودية، ويمنح من يغطسه الكهنة فيه نعمة الميلاد الجديد أو الميلاد الثاني. ولذلك قال الرب لنيقوديموس " إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو3: 5) " المولود من الجسد، جسد هو. والمولود من الروح هو روح" (يو3: 6). وعن هذا الميلاد الثاني قال القديس بولس الرسول "... بل بمقتضى رحمته خلصنا، بغسل الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس" (تى3: 5).
· تذكرنا هذه الآية، بأن الروح القدس يمنح التجديد أيضاً:
· ولذلك فإن الذى يولد من الماء والروح في المعمودية يسلك " في جدة الحياة" ( رو6: 4)، أي في الحياة الجديدة في المسيح يسوع " عالمين هذا. أن إنساننا العتيق قد صلب معه" (رو6: 6) " وفي هذه الحياة الجديدة نلبس المسيح" (غل3 : 27) أي نلبس البر الذي من المسيح. والروح القدس يمنح أيضاً الكهنوت وسلطانه، بوضع اليد. ويمنح الدعوة الإلهية:
أما عن الدعوة الإلهية فواضحة من قول الروح القدس "افرزوا لى برنابا وشاول، للعمل الذى دعوتهما إليه" (أع13: 2) فلما وضعوا عليهما الأيادى "هذان إذ أرسلا من الروح القدس.. انحدروا إلى سلوكية" (أع13: 4). ويقول القديس بولس الرسول لاساقفة أفسس " احترزوا إذن لأنفسكم ولجميع الرعية التى أقامكم الروح القدس فيها أساقفة لترعوا كنيسة الله التى اقتناها بدمه" (أع20: 28) . ويقول عن ذلك في رسالتيه إلى تيموثاوس الأسقف "موهبة الله التى فيك، بوضع يدى" (2تى1: 6). "والموهبة التى فيك" (1تى4: 14). · والروح القدس هو الذى يمنح المغفرة، عن طريق الكهنوت:
· ولهذا لما منح الرب تلاميذه سلطان الكهنوت، نفخ في وجوههم، وقال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه، غفرت له، ومن امسكتموها عليه امسكت" (يو20 : 22، 23). فبالروح القدس الذى أخذوه يغفرون الخطايا. وهكذا يقول الأب الكاهن في صلاة سرية في أواخر القداس عن الشعب " يكونون محاللين من فمى، بروحك القدوس". في كل سر من أسرار الكنيسة، الروح القدس يمنح نعمة سرية:
فكما تحدثنا عما يمنحه في المعمودية والميرون، وسر التوبة وسر الكهنوت، نتحدث عن باقى أسرار الكنيسة أيضاً. على أنه في سر الكهنوت لا يمنح فقط سلطان المغفرة، سلطان الحل والربط (مت18: 18)، إنما يمنح أيضاً سلطاناً آخر لممارسة المقدسة، وسلطاناً في الرعاية أيضاً. وفي مسحة الملوك بواسطة الأنبياء في العهد القديم، كان أيضاً يمنح سلطاناً مديناً. في سر مسحة المرضى يمنح الشفاء. وفي سر الزواج، يمنح شريعة الحياة شرعية الحياة الزوجية، ويمنح الوحدة بين الزوجين، فلا يكونان اثنين بل واحد (مت19: 6). وهذا هو الفرق بين الزواج الكنسى، والزواج المدنى الذى لا نستطيع أن نقول فيه "ما جمعه الله". * أننا لا نستطيع أن نحصى كل ما يعطيه روح الله:
فكل عطية صالحة، وكل موهبة تامة، هي نازلة من عنده... لذلك لست استطيع أن أدعي أننى استوفيت هذا الموضوع، أو قلت فيه كل ما ينبغي أن يقال.
· على أننى أريد أن أختم بكلمتين:
1 إن كان روح الله، هكذا في عطائه، فليتنا نقابل عطاءه بالشكر.
2 إن كنا نحن قد خلقنا على صورة الله، والله هكذا في عطائه، فلنتعلم منه العطاء في النطاق المتاح لنا كبشر. وهو نطاق واسع بلا شك.

الفصل الخامس الروح القدس روح القوة

19- الروح القدس روح القوة
قبل أن يصعد السيد المسيح إلى السماء، أوصى تلاميذه أن لا يبرحوا أورشليم " إلى أن يلبسوا قوة من الأعالي" (لو24: 49). فلماذا كانت تلك القوة؟ لقد قال لهم:
" ولكنكم ستنالون قوة، متى حل الروح عليكم. وحينئذ تكونون لي شهوداً" (أع1 : 8).
وقد أخذوا هذه القوة في اليوم الخمسين، وانتشر بها الملكوت. ويقول سفر الأعمال عن كرازته "وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع. وتحقق قول السيد المسيح لهم "إن من القيام عهنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة" (مز9: 1).
حقاً، كان ملكوت الله قد أتى بقوة.
في حوالي ثلاثين سنة فقط، كانت البشارة بالملكوت قد ملأت كل البلاد اليهودية والسامرة، وانتقلت إلى أنطاكية، وإلى قبرص وآسيا الصغرى، وإلى مصر وليبيا وإلى بلاد اليونان، وايطاليا، وإلى بلاد الشرق... بقوة... بقوة في قلوب التلاميذ، الذين ما كانوا يخافون الموت ولا السجن ولا الجلد أو التهديد... وقوة أخرى في تأثير كلامهم على السامعين، وأيضاً قوة آيات ومعجزات وعجائب.
قوة ساعدت على انتشار الإيمان.
نسمع مثلاً عن كرازة القديس اسطفانوس أول الشمامسة أنه وقف أمام ثلاثة مجامع يحاورنه، " ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذى كان يتكلم به" (أع6: 9، 10)... فليس من السهل مقاومة الكلام الصادر من الروح "الروح القدس الناطق في الأنبياء".
نفس الوضع يقال على بولس الرسول:
أنه نفسه يقول "وكلامى وكرازتى لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، بل ببرهان الروح والقوة. لكى لا يكون إيمانكم بحكمة الناس، بل بقوة الله" (1كو2: 4)... ولهذا استطاع القديس بولس الرسول أن يأتى بثمر كثير في خدمته، وأن ينشر الإيمان في أقطار عديدة...
ونفس الكلام يقال عن باقى القديسين.
وكلمهم قد بدأوا رسالتهم بعد أن حل الروح القدس عليهم "وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع2: 4). ولذلك قيل "وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جداً في أورشليم. وجمهور كثير من الكهنة يطيعون الإيمان" (أع 12: 24). وقيل أيضاً " وأما الكنائس في جميع اليهودية والجليل والسامرة، فكان لها سلام وكانت تبنى وتسهر في خوف الله، وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر" (أع9 : 31).
وقبل رسل السيد المسيح، كانت كرازة يوحنا المعمدان بنفس قوة الروح.
هذا الذي قال عنه الملاك المبشر به، إنه " يتقدم بروح إيليا وقوته" (لو1: 17).. وكيف أتيح له ذلك؟ السبب هو أنه من بطن أمه امتلأ من الروح القدس ( لو1: 15). وهكذا كانت خدمته قوية، بعمل الروح القدس فيه ومعه... واستطاع في شهور قليلة أن يقود الآلاف إلى التوبة، ويمهد الطريق أمام المسيح، ويهيئ للرب شعباً مستعداً" ((لو1: 17).
لهذا كان الامتلاء من الروح القدس شرطاً لجميع الخدام في الكنيسة أيام الرسل.
حتى الشمامسة... ففي اختيار الشمامسة السبعة قال الآباء الرسل لجمهور الشعب " انتخبوا أيها الرجال الأخوة سبعة رجال منكم مشهوداً لهم، ومملوئين من الروح القدس والحكمة، فنقيمهم على هذه الحاجة" (أع6: 3). " فاختباروا اسطفانوس ، فإذ كان مملوءاً إيماناً وقوة، كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب" (أع6 : 8).
كذلك كانت خدمة برنابا في أنطاكية.
يقول عنه سفر الأعمال أنه " كان رجلاً وممتلئاً من الروح القدس، فانضم إلى الرب جمع غفير" (أع11: 24). حتى الرسل الذين امتلأوا من الروح القدس في يوم الخمسين، كانوا في مناسبات معينة تحتاجون إلى دفعة خاصة من الروح. فنسمع أنه لما اجتمع رؤساء اليهود وكهنتهم القوا الأيادى على بطرس ويوحنا. وجعلوا يسألونهما بأية قوة صنعتما هذا " حينئذ امتلأ بطرس من الروح القدس وقال لهم ..." (أع4: 7، 8). الروح القدس هو الذى كان يعمل في كنيسة الرسل. لذلك كانت كنيسة قوية.
وكان حلول الروح القدس عليهم، هو نقطة التحول في حياة الكنيسة. فبعد أن كان الرسل خائفين ومختبئين في العلية، أخذوا قوة في الكرازة وخدمة الكلمة. وقوة في نشر الإيمان والأعتراف به أمام الكل... أخذوا قوة في الكرازة وخدمة الكلمة . وقوة تقف أمام الفلسفات والأديان والبدع، وأمام الولاة والحكام والسلاطين. أخذوا أيضاً قوة في الصلاة، وقوة في الأحتمال وقوة في العمل والسهر والجهاد...
على أن عمل الروح القدس لم تظهر قوته العجيبة في عصر الرسل فقط.
إنما نرى مثالاً رائعاً لقوة الروح القدس في القرن الرابع الميلادي وامتداده.
نرى ذلك واضحاً في ثلاث نقاط أساسية:
1 عمل الروح في الشهداء واحتالهم العجيب من أجل الإيمان، وقوتهم في مواجهة الأباطرة والولاة. بل فرحهم في مواجهة الموت، وقدرتهم على احتمال ألوان التعذيب البشعة. وتراتيلهم وهو في الطريق إلى المحاكمات أو إلى الحبس. وتسابيحهم وألحانهم داخل السجون... أية قوة هذه التى أذهلت الناس؟ أنها قوة الروح القدس. 2 قوة الروح القدس العاملة في أبطال الإيمان:
هؤلاء الذين شهد عصرهم المجامع المسكونية المقدسة أمثال مجمع نيقية سنة 325م، ومجمع القسطنطينة سنة 381م... ثم في الأول من القرن الخامس. مجمع افسس سنة 431م، وكيف شهدت تلك الفترة ابطالاً عظاماً عمل فيهم الروح القدس بكل قوة سواء من جهة المعرفة اللاهوتية، أو القوة في الآقناع، أو القوة في مواجهة أعداء الإيمان وفى مواجه الاضطهادات والنفى والعزل وسائر الاتهامات... ونذكر في مقدمة هؤلاء القديس أثناسيوس الرسولى، والقديس باسيليوس الكبير، والقديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات، والقديس كيرلس عمود الدين في القرن الخامس... وعدد كبير من هؤلاء القمم، كان الروح القدس يعمل فيهم ومعهم للقضاء على الهرطقات ولولاة قوة الروح فيهم، ما وصل إلينا الإيمان كما نؤمن به الآن.
وتظهر قوة الروح القدس أيضاً في تلك الفترة في عمله في حياة الرهبنة والنسك.
في حياة الرهبان والمتوحدين والسواح الذين امتلأت بهم البرارى والقفار، والجبال وشقوق الأرض، في صلوات وتسابيح وأصوام، وانتشرات وأصوام، وانتشرت رائحتهم الزكية العطرة في كل ارجاء المسكونة.
وأتى السائحون من كافة الأقطار ليسمعوا كلمات منفعة ينطقها الروح على أفواه هؤلاء النساك. لكى يروا نماذج عالية من أناس عاشوا في حياة الروح، في شركة كاملة مع الروح القدس، يقدموا صوراً مثالية لحياة القداسة، في الهدوء والوداعة والتأمل والسكون والصلاة الدائمة. إنه عمل ثلاثى عجيب للروح القدس، في الاستشهاد والأيمان والنسك.
ظهرت قوة الروح في أوجها: في احتمال الموت والتعذيب، وفي الدفاع عن الإيمان السليم وفي حياة الوحدة والصلاة... كل ذلك في جيل واحد... كما قدم لنا مارجرجس ومارمينا والأمير تادرس ودميانة في مجال الاستشهاد قدم لنا أثناسيوس في اللاهوتيات وذهبى الفم في التفسير، ومارافرام في الشعر، وأغسطينوس في التأمل ... وقدم لنا أيضاً قديسى الرهبنة العظام: الأنبا أنطونيوس والثلاث مقارات والأنبا باخوميوس والأنبا شنوده والأنبا بيشوى والأنبا موسى الأسود، وعشرات القديسين العظام... وظهرت قوة الروح القدس فيما أجراه على أيدى القديسين من آيات ومعجزات.
ما أكثر العجائب التى كانت تحدث على أيدى القديسين، وللقديسين... ليس فقط في العصر الرسولى، وفى القرنين الرابع والخامس، وإنما في كل العصور بلا استثناء . ويحدثنا القديس بولس الرسول في رسالته الأولى إلى كورنثوس عن مواهب الروح القدس التى يهبها "قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء" (1كو12: 11)... في قوات وعجائب ونبوءة ومواهب متعددة، كلها تدل على القوة العجيبة التى للروح، والتى يمنحها للمؤمنين والخدام. وبواسطة هذه الآيات والعجائب انتشر الإيمان وليس بالتعليم وحده... كانت المعجزات برهاناً على صحة الكرازة والتعليم، وعلى أن الله يسند الإيمان بقوة روحه. مشكلتنا الحالية أن خداماً كثيرين يخدمون بكل نشاط وباتساع في العرفة ولكنهم لا يخدمون بقوة الروح القدس فيهم.
ربما يعتمدون على الذكاء البشرى، أو على المعرفة التى من الكتب ليس على الروح. وقد ينطقون عليهم بكلام الحكمة الإنسانية المقنع، ولكن لا ينطق الروح على أفواههم. ولا ينطبق عليهم قول الرب لتلاميذه " لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم" (مت10: 20). لإغن تكلم الروح فيكم، حينئذ ستظهر القوة في كلماتكم. وكمثال لذلك:
عظة واحدة ألقاها بطرس الرسول، وهو ممتلئ بالروح، جذبت ثلاثة آلاف نفس إلى الإيمان (أع2: 41).
لأن الروح حينما يعمل، إنما يعمل بقوة... بقوة ليست عادية، إنما هي قوة إلهية.
ماذا نقول إذن: إن كان خادم لا يخدم بقوة الروح القدس، ولا حتى بروحه البشرية، وإنما بطرق عالمية، فيها الحلية والأسلوب العلمانى وربما فيها أيضاُ أخطاء أهل العالم‍‍‍!! هل يمكن لمثل هذا الخادم أن ينجح في خدمته أو ينشر الملكوت؟ كم بالأكثر لو دخل في الخدمة لون من الروتين أيضاً!
لكى تنجح الكنيسة، ولكي تكون قوية، ينبغى أن يعمل فيها الروح القدس.
من نقظة البدء، إذ يكون الخادم نفسه فيه روح الله، كما كان الشمامسة السبعة ( أع6). وأيضاً يستمر عمل الروح مع الخادم في كل مراحل الخدمة، فيدخل في شركة الروح القدس، ويعمل الروح القدس فيه وبه ومعه... وهكذا تكون لخدمته قوة... لا قوة الفصاحة والبلاغة. ولا قوة المعرفة والقراءة... إنما قوة الروح. وقوة الروح ليست فقط في الخدمة، إنما في الحياة الشخصية أيضاً.
من صفات أولاد الله أنهم دائماً أقوياء. على الأقل لأنهم صورة الله ومثاله، والله بطبيعته قوى. وثانياً لأن أولاد الله هم الذين يعمل فيهم روح الله القدوس. وهو روح القوة (أش11: 2)... وهذه القوة التى لأولاد الله، لا تغنى بها قوة جسدية، إنما قوة في الروح وفى الفكر، قوة فى الإرادة وفى العمل . قوة في حياة القداسة وفي الانتصار على حروب الشياطين. قوة في النفس والصعود ، لا نعرف الخوف ولا القلق.
وكل هذا يمنحه الروح القدس للإنسان.
فإن كنت ضعيفاً، تأكد تماماً أنك لا تشترك مع الروح القدس الساكن فيك.
ولا أقول أن ضعفك يدل على أن الروح القدس لا يعمل فيك... كلا فالروح يعمل. إنما المهم هو تجاوبك أنت مع الروح، هل تعمل معه؟هل تشترك معه في العمل؟ هل تقاومه؟! إن سكنى الروح القدس فيك عبارة عن قوة جبارة. ولكن هل أنت تستخدم هذه القوة أو لا؟
إن حبة القمح فيها قوة الحياة. تظهر هذه القوة، إن وجدت ظروف إنبات مواتية.
إن وجدت هذه الظروف من أرض وماء وحرارة وضوء، نبت. وإلا فإن الحياة التى فيها تبقى كاملة أو معطلة. مثال آخر، كالقوة في الذرة، إن وجدت ظروفاً مساعدة، تفجرت أو استخدمت كطاقة معينة. وإلا بقيت حيث هي، طاقة غير مستخدمة.
كم من الناس فيهم قوى معطلة؟
قوة الروح فيهم لا تعمل، لأنهم لم يستخدموها. أو لأنهم أحزنوا روح الله الذى فيهم (أف4: 30). أو أطفأوا الروح (1تس5: 19). هذا الذى يضعف أمام أية خطية ويسقط، ما عمل الروح فيه؟ هل هو يستخدم قوة الروح الذى في مسحة الميرون المقدسة؟! أم قوة الروح فيه طاقة معطلة؟‍! على أية الحالات، لا تحزن على الماضى، إنما استمع في رجاء إلى قول الكتاب:
" أما منتظروا الرب فيجدون قوة. يرفعون اجنحة كالنسور، يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يعيون" (أش40: 31).
إن فقدت قوة الروح، يمكنك أن تجدد عملها فيك مرة أخرى... أطلب من روح الله أن يعطيكم قوة على التوبة، وقوة على العمل. واشترك أنت في العمل معه... وستنال هذه القوة... لأنه " يعطى المعيى قدرة يكثر شدة" (أش40: 29). وحينما يمنحك الروح هذه القوة ، يمكنك أن تسبح وتغنى مع المرتل وتقول:
" قوتى وتسبحتى هو الرب وقد صار لي خلاصاً" (مز118: 14).
أخيراً يا أخوتى... تقووا في الرب، وفى شدة قوته (أف6: 10).

الفصل السادس: الروح القدس الناري

20- الروح القدس روح ناري، إن حلَّ في أحد يلتهب
الروح القدس هو روح الله. والكتاب يقول "إلهنا نار آكله" (عب12: 29) ( حز24: 17). وهكذا يكون الروح القدس روحاً نارياً، بكل ما تتميز به النار من حرارة ونور. ونقصد الحرارة الروحية والنور الروحى.
وعندما حل الروح القدس على التلاميذ القديسين، حل كألسنة من نار (أع 2: 3) .
وهذه النار ألهبت قلوبهم وأرواحهم. ألهبتهم للخدمة ومنحتهم قوة. وتحولوا جميعاً إلى شعلات من نار، انتشرت في العالم، فاشتعل العالم بنار الكرازة وبنورها... وكان الروح القدس يعمل فيهم، إذ "امتلأ الجميع من الروح القدس" (أع2: 4). وكانت النار تعمل فيهم... لعلها النار التى قال عنها السيد الرب:
"جئت لألقى ناراً على الأرض... فماذا أريد لو اضطرمت" (لو12: 49).
كل من تدخل هذه المار إلى قلبه، يلتهب في الداخل، ويصبح حاراً في الروح (رو12: 11). هذا هو الروح النارى الذى اختبره التلاميذ في الخدمة، حينما تلامسوا مع النار وصاروا ناراً. اشتعلت فيهم نار الغيرة المقدسة، فلم يهدأوا مطلقاً حتى بنوا ملكوت الله في قوة عجيبة ونشاط لا يفتر. وعن مثل هذا قال القديس بولس:
" من يعثر وأنا لا ألتهب؟!" (2كو12: 29).
إنه إلتهاب بمحبة الله والناس بالروح القدس العامل فيه، الذى يلهبة بالغيرة الروحانية . فمحبة الإنسان لله تجعله يغار على ملكوت الله، ويلهب حماساً ونشاطاً من أجل خلاص نفس كل أحد. إنها نار مشتعلة في القلب والروح، إن حاول أحد إطفاءها، لا يستطيع.
هل أخذت هذه النار من الروح القدس؟...
هذه النار هي الدرس الذى نأخذه من يوم الخمسين.
ويقول المرتل أيضاً في المزمور " غيرة بيتك أكلتنى" (مز119)... داود النبى حينما اشتعلت فيه نار الغيرة المقدسة، لم يستطيع أن يصبر على تعيير جليات، وتقدم الصفوف وهو صبى صغير، ولكنه ملتهب بالروح. ولم يرجع إلا وقد أصمت صوت ذلك المعير (1صم17)... إن نار الروح إذا اشتعلت في القلب، لا يستطيع أحد اطفاءها. وبهذه النار فإن القديس بطرس ويوحنا لما طلب منهما رؤساء اليهود أن لا ينطقا البتة ولا يعلما باسم الرب، قالا بكل قوة " نحن لا يمكننا أن لا نتكلم " (أع4: 18، 20)... إن عدم الكلام عن المسيح أمر مستحيل لا نستطيعه... حقاً إنها نار.. الروح القدس يعمل كنار... داود النبى، لما حل روح الرب، اشتعل قلبه بالنار. لذلك لما سمع جليات الجبار يعير صفوف الله الحى، تحرك الروح فيه. كان الكل يسمعون التعييرات وهم صامتون فلم يستطيع أن يصمت. وقرر أن يتدخل ويريح الشعب من تعبيرات جليات، وقد كان ... ولم يهدأ داود حتى اسكت صوت ذلك المعير... كانت غيرته النار أقوى من أن يحتملها... وبطرس الرسول الذى كان خائفاً من قبل، لما حل عليه روح الرب، أزال منه الخوف ، فملأ الدنيا تبشيراً، ولم يستطيع أن يصمت. وقال لرؤساء كهنة اليهود "نحن لا نستطيع أن لا نتكلم" (أع4: 20). لقد ألقوا بطرس في السجن، وهددوه وأهانوه... ولكنه احتمل ولم يستطيع أن يصمت...
كانت كنيسة الرسل كنيسة نارية ملتهبة بالروح...
كانت قوية، كانت كنيسة الألسنة النارية والكلمة الملتهبة التى قال عنها الرسول "كلمة الله حية وفعالة، وامضى من كل سيف ذى حدين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح" (عب4: 12). ذلك لأنها كانت كلمة صادرة من اللسان النارى، الملتهب بالروح منذ يوم الخمسين. هناك إنسان يكلمك كلاماً كثيراً لا يحدث فيك أثراً ... بينما إنسان روحى يقول لك كلمة روحية تظل تدوي في البيت، وفي مكان العمل وفي مكان العمل وفي الطريق، وفى قيامك وتعودك، وفى دخولك وخروجك. وتحفر آثاراً عميقة في قلبك، وتعمل فيك عملاً. إنها كلمة نارية.
بولس الرسول وهو أسير تكلم عن البر والتعفف والدينونة: فارتعب فيلكس الوالى من كلمة هذا الأسير (أع24: 25).
كانت كلمة نارية، صادرة من عمل الروح النارى.
نلاحظ أيضاً أن كلام الله كان يشبة بالنار، بما يحدثه من حماس في القلب والإرادة:
ولذلك قال الرب لأرمياء النبى "هأنذا جاعل كلامى في قلبك ناراً" (أر5: 14) . وقال له أيضاً "أليست هكذا كلمتى كنار يقول الرب" (ار23: 29). وفي وقت من الأوقات، تعب أرميا من كلمة الرب، التى كان يوبخ بها الناس، فيستهزئون به ويثورون عليه عن الرب " قلت لا أذكره ولا أنطق بعد بإسمه، فكان في قلبى كنار محصورة في عظامى، فمللت من الإمساك ولم استطيع" (أر20: 9).
حقاً إن كلمة الرب نار تلهب القلب، فيشعر أنه مشتعل من الداخل، ويقول "غيرة بيتك أكلتنى" (مز69: 9). لأن الغيرة نار، مادام روح الله يدفعها...
هذا إذا أخذ إنسان الروح الذى في الكلمة، والروح يشبه بالنار. وهكذا لم يستطيع ارمياء أن يصمت، على الرغم من الضيقات التى صادفها.

21- الروح والنار
يطلب منا الرسول أن نكون " حارين في الروح" (رو12: 11). لأن روح الله حينما يحل في الإنسان يشعله بالحرارة. القوات المرسلة من الله، كانت تظهر أحياناً بهيئة نار.
فعندما ارسل الله قواته السمائية لانقاذ السامرة أيام أليشع النبى حينما أصعده الله إلى السماء، إنما صعد في " مركبة من نار " في العاصفة إلى السماء (2مل2 : 11). وقد قيل في المزمور عن هذه القوات السمائية: خلق ملائكته أرواحاً، وخدامه ناراً تلتهب" (مز104: 4).
إنها أرواح قريبة من روح الله، ومرتبطة به حباً وارادة، وإلهنا نار آكله ( عب12: 9). لذلك فهذه الملائكة هي أيضاً نار تلتهب... تعمل عمل الرب بسرعة، وبكل قوة. ولذلك ناجاها داود النبى في المزمور قائلاً "باركوا الرب يا ملائكته، المقتدرين قوة، الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه" (مز103: 20) . أي أنها ما أن تسمع أمراً من الله، حتى تنفذه في الحال، كما هو، بهذه الروح النارية، وبدون تردد، ولا تمهل ولا ابطاء. والله أرادنا أن نكون بهذه الروح، حينما علمنا أن نصلى قائلين: "لتكن مشيئتك، كما في السماء كذلك على الأرض" أي لتكن هذه المشيئة منفذة على الأرض، كما يفعل الملائكة في السماء، الذين هم نار تلتهب.
حقاً، ما أجمل عبارة "... وخدامه نار تلتهب "...
هكذا ينبغى أن يكون خدام الله على الأرض، كما خدامه في السماء. وهذا ما حدث في يوم الخمسين. حل الروح القدس على التلاميذ كألسنة من نار، فالهبت ارواحهم وقلوبهم. ألهبتهم للخدمة ومنحتهم قوة، وصارروا ناراً... شعلات من نار تسرى في كل جهات العالم، حتى اشتعل العالم ناراً، في الكرازة وخدمة الكلمة والشهادة للرب... والكنيسة المقدسة لكى تذكر الناس بالنار وباللهيب الذى ينبغى أن يكون باستمرار في قلوبهم، نلاحظ ملاحظة عجيبة وهي:
إن الكنيسة لا تخلو منها النار مطلقاً، على الأقل في المجمرة وفي الشموع...
وفي كليهما نرى عنصر البذل والعطاء، سواء في الشمعة التى تبذل ذاتها لكى تنير لغريها، أو في حبة البخور التى تحترق لكى تقدم رائحة ذكية لله وللناس. ونلاحظ في الشموع كما في السرج قديماً أ أنها تضئ بالزيت يرمز إلى الروح القدس. . أما البخور، فهو يحترق بالنار، والنار ترمز إلى الروح القدس أيضاً... كما أن نار المجمرة ونار الشمعة، يذكراننا في كل حين بالحرارة التى ينبغى أن تتصف بها حياتنا، حينما نكون كالشمعة نوراً للناس، وحينما نكون كالبخور " محرقة وقود، رائحة سرور للرب" (لا1: 9، 13، 17).
النار في الشمعة تعطى نوراً، كما تعطى حرارة ودفئاً...
وهكذا الشمس التى شبة الرب يها" (ملا 4:2) " لأن الرب الإله شمس ومجن" ( مز84: 11) هذه الشمس تقدم لنا نوراً وحرارة وبنفس الوضع روح الله، يضئ لنا الطريق فيما يرشدنا، ويعطينا حرارة روحية في كل عمل نعمه. وجود النور والنار، في الكنيسة باستمرار، يرمز إلى عمل الروح القدس فيها...
النار ترمز إلى الروحخ، وإلى عمل الروح، وإلى من يعمل فيهم الروح...
ومن هنا كلنت نار الشموع عند الايقونات ترمز إلى القديسين الذى يعمل فيهم روح الله القدوس. كما أن نار الشموع على المذبح، ترمز إلى الملائكة المحيطين بالذبيحة المقدسة. وهم أروارح قدسيه يعمل فيهم أيضاً روح الله القدوس وعنهم قال الوحى الإلهى في المزمور: الذى خلق ملائكته أرواحاً، وخدامه ناراً تلتهب" (مز104: 4).
وعندما أرسل الله قواته السامرة أيام أليشع النبى، ظهرت بهيئة " مركبات نارية " (2مل6: 17). فقال إن الذين معنا أكثر من الذين علينا. نتذكر أيضاً أن ايليلا النبى صعد إلى السماء في مركبة نارية (2مل2: 11). اصعده روح الله وملائكة الله، فإذا في مركبة من نار.
وطغمة السارافيم معناها المتقدون بالنار أو المحرقون.
هؤلاء الملتهبون بالمحبة الإلهية والذين عملهم التسبيح الروحى. والمرة الوحيدة التى حدثنا فيها الكتاب المقدس عن السارافيم، أخذ فيها الكتاب المقدس عن السارافيم، اخذ فيها واحد من السارافيم جمرة نار من على المذبح، مسح بها شفتى أشعياء النبى، فتطهر بالنار، بروح الله (اش6: 6، 7).
هكذا كانت الروح النارية التى للسارافيم في خدمتهم السريعة.
لم يحتملوا إطلاقاً أن يسمعوا عن ذلك أنهم واقفون أمام الله، وأنهم منشغلون بتبيحه وأنه لم يطلب منهم أن يقوموا بهذا العمل... وإنما للتو " طار واحد من السارافيم " ولم يعد إلا وهو مطمئن على أنه انتزع إثم هذا الإنسان وكفر عن خطيئته... واشعياء هذا، إذ مست الجمرة شفتيه، اشتعل هو أيضاً بالنار المقدسة وما أن سمع قول الرب " من أرسل؟ ومن يذهب لأجلنا" حتى استجاب بسرعة وقال " هأنذا أرسلنى" (أش6: 8).
ألستم ترون يا أخوتى أن الحرارة هي الفرق جسدياً بين الحى والميت؟ فالميت فاقد لحرارته تماماً...!
أليست الحرارة هي الفارق بين الحى والميت...؟
جسد الإنسان الميت تجده بارداً تماماً، لا حرارة فيه... أما الجسد الحى، ففيه دفء وحرارة وهكذا الروح أيضاً. يتميز الأنسان الذى يعمل فيه روح الله، بحرارته الروحية، كما قال الرسول " حارين في الروح ". لذلك عيشوا في الحرارة التى في الروح... فيهذه الحرارة عاشت لكنيسة الأولى، في العصر الرسولى، وفي القرن الرابع الميلادى بالذات، الذى نميزه بلونين هامين من الحرارة هما: الحرارة العجيبة في الدفاع عن الإيمان ضد الهرطقات مميزة في حياة القديس أثناسيوس مثلاً، وحرارة العميقة جداً في حياة النسك والرهبنة والتوحد، كما تبدو في سيرة القديس أنطونيوس وآباء برية شهيت... الإنسان الذى يعمل فيه روح الله، ينبغى أن يكون حاراً في الروح...
وهكذا يعلمنا الرسول قائلاً " حارين في الروح" (رو12: 11). وهذه الحرارة تشمل الحياة الروحية كلها. فيكون الإنسان حاراً في صلاته، حاراً في خدمته، حاراً في محبته نحو الله والناس، حاراً في معاملاته وفي مشاعره. كل ما يعمله من خير يتصف بالحرارة...
ونلاحظ أن الإنسان حينما يقل عمل الروح فيه، تقل تبعاً لذلك حرارته ويفتر...
فيقولون: هذا الإنسان عنده فتور يتطور إلى برودة روحية، وإلى موت... لذلك اشعلوا حرارة الروحخ في قلوبكم باستمرار... واحتفظوا بشعلتكم موقدة على الدوام لا تنظفئ. وفى ذلك يقول الرب " لتكن أحقاؤكم ممنطقة، وسرجكم موقدة" (لو12: 35).
خذوا لكم مثلاً من ذبيحة المحرقة التى كانت نارها لا تنطفئ أبداً.
باستمرار يلقون حطباً ووقوداً. ويشعلونها بمحرقة صباحية وأخرى مسائية، وبشحوم وذبائح أخرى... نار دائمة، تتقد على المذبح، لا تطفأ... " لا6).. هكذا هي الحياة التى يعمل فيها روح الله... وإن لم تستطيع أن توقد حياتك الروحية باستمرار وتزيد لهيبها اشتعالاً، فعلى الأقل استمع إلى وصيه القديس بولس الرسول وهو يقول...
" لاتطفئوا الروح..." (1تس5: 19).
أي ابتعدوا عن كل ما يقلل حرارتكم الروحية، عن كل الأسباب التى تجلب لكم الفتور الروحى. أبتعدوا عن الرياح المضادة التى تطفئ عمل الروح فيكم. ولعل البعض يسأل: هل تتفق النار مع المحبة؟
نعم تتفق. فالمحبة نفسها نار، وقد تشبهت بالنار في سفر النشيد، وقيل " مياة كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة" (نش8: 7). والمحبة تعطي حرارة في القلب.

22- الوداعة والروح الناري
كثيراً ما نسمع عن "الروح الوديع الهادئ، الذى هو قدام الله كثير الثمن" ( 1بط3: 4)، ونقرأ عن أهمية الوداعة والهدوء في الحياة الروحية، فهل هناك تعارض بين الروح النار، والوداعة والهدوء...
إنهما لا يتعارضان، إلا لو أساء البعض فهم الوداعة والهدوء!
لقد كان السيد المسيح وديعاً ومتواضع القلب (متى11: 29). ومع ذلك كان قوياً جداً في خدمته، ودائب الحركة والنشاط بعمل لا يتوقف. وهو الذى قال " جئت لألقى ناراً على الأرض. وماذا أريد لو اضطرمت" (لو12: 49). وكان يتكلم كمن له سلطان. وقد طرد الباعة من الهيكل بغيرة متقدة (متى21: 12 14). ووبخ الكتبة والفريسيين بحزم (متى23).
هنا التكامل في الطباع، وليس التعارض...
وموسى النبى كان وديعاً جداً، حتى قيل عنه "وكان الرجل موسى أكثر من جميع الناس الذين على وزجه الأرض" (عد12: 3). ومع ذلك نرى الروح النارى في هذا الرجل الوديع، حينما أبصر الشعب يعبدون العجل الذهبى. يقول الكتاب "فحمى غضب موسى. وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل. ثم أخذ العجل الذى صنعوه ، وأحرقة بالنار، وطحنه حتى صار ناعماً، وذراه على وجه الماء..." (خر32: 19، 20). وعاقب الشعب في ذلك اليوم عقوبة شديدة.
إن كون الإنسان وديعاً هادئاً لا يعنى أن يكون خاملاً!
أو أن يكون جامداً لا يتحرك ولا يتأثر!! أو أن يكون ضعيفاً لا قوة له في عمله! حاشا. فنحن صورة الله ومثاله، ولا يليق بصورة الله أن تكون بهذا الوضع الشائن. أقول هذا لأن كثيرين باسم الوداعة لا يعملون شيئاً، ولا يغارون غيرة الرب، ولاتشعر لأحد منهم بوجود داخل الكنيسة ولا داخل الخدمة... ولا خارجها!
هو في الكنيسة، كأنه جثة هامدة، لا حرارة ولا حركة!
تضع يدك عليه، فتحس بالبرودة تشمل حياته، كأنه بلا حياة!! يقابل كل أمر، مهما كان خطيراً بلا مبالاة، بلا اكترات، بلا اهتمام، بملامح لا تتغير، كأن الأمر لا يعينه! وكل ذلك باسم الوداعة والهدوء!! مثل هذا الإنسان، لا صله له بيوم البندكستى، ولا علاقة له بالألسنه النارية. على العكس منه، إنسان يدخل الكنيسة، فتشعر بروحه يحركها.
تشعر بروح الله فيه وبه، بكل نشاط وغيرة. . خدمة هنا، خدمة هناك: اجتماعات لها فاعليتها الروحية، وافتقادات واسعة لا تغفل أحداً، وأنشطة ومشروعات، وألحان، وعنايته بالفقراء وسهرات وأيام صلاة... ويشعل الكنيسة، ويقدم عملاً لكل أحد يعمله، ويدخل آلافاً إلى الكنيسة بهذا الروح النار، يعمل الروح القدس وفي كل من حولبه. وهذا هو الفرق بين خدمة وخدمة
ومع كل هذا النشاط، تجده في تعاملة وديعاً إلى أبعد حد. إن الوداعة ضد العنف وضد القسوة وضد روح السيطرة والسيادة، وليست ضد النشاط والحركة. وليست ضد الحرارة في الخدمة والحرارة في العبادة. ونحن لا نريد في الكنيسة اشخاصاً خاملين أو باردين، فالسيد المسيح حسنما أرسل لنا الروح القدس كألسنة من نار، إنما كان في ذلك يذكرنا بالحرارة اللائقة بنا، وي منحنا هذه الحرارة والوداعة والهدوء والطيبة، وليس معناها أن يفقد الإنسان حرارته. إننا نريد أشخاصاً مشتعلين بالروح، ملتهبين بالمحبة الإلهية من نحو الله والناس. وكل عمل يعملونه، إنما يعملونه بحرارة وبقوة، لأنه إن كان روح الله معهم، لا يمكن أن يكون عملهم هزيلاً. وقد قال الوحى الإلهى:
" ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة" (أر48: 10).
إن الشخص الذى فيه روح الله: إذا صلى تكون صلاته حارة، وإذا خدم تكون خدمته حارة، وإذا تكلم تكون الحرارة في كلامه... إنه شخص ملتهب القلب في كل عمل يعمله. حتى إذا أخطأ، تكون توبته بحرارة. وإذا اعتذرعن خطأ يكون اعتذاره بحرارة أيضاً.
ليتك تأخذ درساً من الفحم المتقد بالنار.
إنه بطبيعته أسود، ولا حرارة فيه. ولكن ما أن يتقد حتى يتحول إلى طبيعة أخرى . فيحمر ويتوهج، ويصير جمراً. فتأمل إذن نفسك إذ نفسك: هل الروح القدس قد اشعل فحماتك السوداء، فالتهبت وصحت في فرح " أنا سوداء وجميلة" (نش1: 5). إن النار المقدسة قد صيرتنى جمراً.؟ قد دخل التجلى في طبيعتى بالنار، التى أعطتنى توهجاً وضياء ونوراً، فنسيت طبيعتى الأولى الفحمية، وصرت ناراً..

24- الحرارة في الصلاة
وحرارة الروح كما تكون في الكلمة، تكون أيضاً في الصلاة وفي العبادة...
عندما صلى مكسيموس ودوماديوس، رأى القديس مقاريوس الكبير صلاتهما كأنها اشعة من نار تخرج من شفاههما، وعندما كان يصلى القديس الأنبا شنوده رئيس المتوحدين حتى في صغره كانت أصابعه تبدو وكأنها شموع متقدة. وهكذا كانت الحرارة لا تشمل الروح فقط، وإنما الجسد أيضاً...
إننا نصلى، ولكن هل في صلواتنا نار البندكستى؟
هل في صلواتنا حرارة يوم الخمسين؟ إن الصلاة الحارة تنبع من عمق القلب، وتكون ألفاظها حارة. حتى الجسد نفسه يكون ساخناً، مثلماً تكون الروح حارة أياً. تأمل صلاة السيد المسيح في بستان جثسيمانى وكيف كانت (متى26: 39 45).
الصلاة الروحانية تكون ملتهبة بالروح، لذلك يقال عنها أنها صلاة حارة..
وحرارتها صادرة من حرارة القلب، ومن حرارة الحب، ومن حرارة الجهاد في الصلاة . ومن حرارة الصلاة تأتى الدموع. ومنها أيضاً تأتى المصارعة مع الله كما فعل أبو الآباء يعقوب (تك32: 24 26). ويأتى أيضاً الإيمان، وتأتى الاستجابة .
وكنتيجة لحرارة الصلاة، يثبت الإنسان في صلاته...
فلا يود أن يختم صلاته، مهما طال به الوقت فيها. بل كلما عزم على انهائها، يجد رغبه حارة في قلبه تجذبه إلى البقاء في حضرة الله مصلياً. ويجد لذة في صلاته تربطه بها، هي ثمرة حرارة الحب في قلبه... إن الحرارة تعطى صلاته استمرار وحياة. فإن كنت تصلى ولا تجد حرارة في صلاتك، أو تصلى وكذلك رغبة في ترك الصلاة وانشغال بأمور أخرى تهمك أكثر ‍ بل إن كنت لا تجد رغبة في الصلاة، وإن بدأت لاتجد كلاماً تقوله ‍ أو أنت تصلى بغير روح، تعبد الله بشفتيك وقلبك مبتعد عنه بعيداً (مت5: 18)... إن كنت هكذا فاعلم أنك بعيد كل البعد عن الروح النارى اطلبه لكى يشفع فيك، ويعطيك حرارة في صلاتك. فماذا عن صلواتنا نحن وما هي حرارتها؟
هناك عوامل كثيرة تتعلق بحرارة الصلاة نذكر منها:
علاقة حرارة الصلاة بالدموع وانسحاق القلب، وباللجاجة، وبالجهاد في الصلاة والصراع مع الله وعلاقة حرارة الصلاة بالإيمان القوى، وشعور المصلى وجوده في حضرة الله. وعلاقة حرارة الصلاة باستجابتها. بل علاقة حرارة الصلاة بمحبة الله. حينما يصعب على الإنسان أن ينهى صلاته. كلما يحاول انهائها، يجد رغبة فى الإستمرار... وقد تظهر حرارة الصلاة في نوعية الألفاظ المستخدمة فيها. ومن أمثلة الصلاة الحارة، صلاة الكنيسة بعد اطلاق سراح بطرس ويوحنا. فقد قيل " ولما صلوا، تزعزع المكان اللذة كانوا مجتمعين فيه، وامالأ الجميع من الروح القدس. وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة" (أع4: 31). هكذا كانت حرارة الصلاة. وهكذا كان مفعولها ونتائجها...
25- الحرارة في الخدمة
لنأخذ مثالين من الحرارة في الخدمة: العصر الرسولى، والقرن الرابع:
الحرارة العجيبة التى خدم بها آباؤنا الرسل، حتى أنهم في حوالى 35 سنه فقط، أمكنهم أن ينشروا المسيحية في أورشليم وكل اليهودية والسامرة، وكل أقليم سوريا، وقبرص وآسيا الصغري، وبلاد اليونان، ورومه، وساروا غرباص إلى اسبانيا، وامتدوا شرقاً إلى العراق وإلى الهند، ونزلوا جنوباً إلى مصر وليبيا، بأصوام وأسهار، بتعب وكد (2كو4) بعمل الروح النارى فيهم، هؤلاء:
"الذين لا صوت لهم ولا كلام، إلى أقطار المسكونة بلغت أقوالهم" (مز19).
وكمثال خادم كبولس الرسول، الذى كتب 14 رسالة، وتعب أكثر من جميع الرسل ( 1كو15: 10).
كان ناراً مشتعلة حيثما انتقل... حتى وهو في السجن، كانت النار المقدسة داخله ، يكتب رسائل وهو في السجن، ويبشر فيلبى (اع16: 32)... بينما رجىه مربوطتان في المقطرة، وهو ملقى في السجن الداخلى. ولكنه مع ذلك يصلى ويسبح ويبشر.
انظروا أيضاً إلى القرن الرباع، من شفيه العقيدى والرهبانى:
من جهة العقيدة نار يوقدها القديس أثناسيوس دفاعاً عن لاهوت الإبن، وتنتشر حتى تصبح المجادلات اللاهوتية في الطرقات، يضيف إليها مارافرام السريانى لهيباً بتراتيله اللاهوتية التى ينشدها الناس... . ومن الناحية الروحية انتشار عجيب للرهبنة بكل روحياتها يقوده القديس أنطونيوس والقديس باخوميوس والقديس مقاريوس ... وكل آباء برية شيهيت... جو يموج بالحركة وعمل الروح... ومن يشعله الروح لا يهدأ، حتى يبنى ملكوت الله.

26- الخادم الناري
الإنسان العادى قد يركز كل اهتمامه فى خلاص نفسه.
أما الإنسان الروحى الذى التهب قلبه بالنار المقدسة، لإغنه يهتم بخلاص كل من يدفعه الله إلى طريقة.
يلتهب قلبه بمحبة الله وملكوته. وعندما يصلى قائلاً "ليأت ملكوتك"، إنما يقولها من كل قلبه وعمق مشاعره. ولا يصلى فقط من أجل الملكوت، وإنما يعمل أيضاً بكل جهده من أجل هذا الغرض الروحى المسيطر عليه. ويبدأ في أن يعطى للخدمة كل وقت فراغه.
ثم تندرج به حرارته في الخدمة نحو التكريس.
إنه في حرارة الروح، يريد أن يعطى الله كل وقته وكل عمره. متاكداً في أعماقه أن كل وقت يقضيه خارج الخدمة يحسب بلا شك. ومن أجل التهاب قلبه نحو خلاص الناس ، يفضلهم على مفسه، قائلاً مع القديس بولس الرسول " إن لي حزناً عظيماً، ورجعاً في قلبى لا ينقطع. فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروماً من المسيح، لأجل أخوتى أنسبائى حسب الجسد" (رو9: 2، 3).
يهتم أولاً بمن يريد التوبة، ثم يهتم بمن لا يريد.
بكل حماس روحى يتعامل مع الحالات التى تصل إليه من الخاطئين، لكى يقودهم إلى الإيمان وإلى التوبة. ثم يتدرج إلى البحث عن الضالين الذين لا يهتمون بأنفسهم ، والذين لا يهتم بهم أحد. يجول باحثاً عن النفوس الضالة بكل تعب وجهد، وبكل حرارة وحب. وهذه الحرارة في الخدمة، تقوده إلى الحرارة في الصلا، لأجل الخدمة.
شاعراً انه بدون معونه من الروح القدس، لا يستطيع أن يخدم. فيسكب نفسه أمام الله، ليعطية القوة التى يخدم بها، والحكمة التى يخدم بها، والكلمة التى يقولها. ويصلى أيضاً لكى يعمل روح الله في قلوب. ويعطيها استعداداً لقبول الكلمة. فينخس الروح قلوبهم من الداخل، في الوقت الذى تنخس فيه الكلمة آذانهم من الخارج. وهكذا ينتسقل من حرارة إلى حرارة أخرى.
حرارة محبة والناس، تنقله إلى حرارة الخدمة. وحرارة المحبة تنقله إلى الحرارة في التكريس. وتنقله إلى حرارة الصلاة. وهذه تنقله إلى حرارة الإيمان...
فكلما يصلى بحرارة قلب، ويرى عمل الله معه في الخدمة، تحل في قلبه حرارة الإيمان، ويثق أن الله الذى عمل معه في الحالات السابقة، سيعمل معه في الحالات المقبلة أيضاً. والله الذى بارك في ذلك الزمان، سيبارك أيضاً الآن وكل أوان. وكلما تقابله مشكلة في الخدمة، يقول في قلبه وللناس، بكل إيمان، إن الله لابد سيحل هذه المشكلة. أنا واثق بذلك من كل قلبى.
والحرارة في الخدمة، تدفعه إلى مزيد من الجهد والتعب.
كلما ازدادت حرارته، يعتبر الراحة كسلاً. ويقول مع داود النبى "... إنى لا أدخل إلى مسكن بيتى، ولا أصعد على سرير فراشى، ولا أعطي موضعاً ومسكناً لإله يعقوب" (مز132: 3 5). ويقصد بهذا موضعاً للرب في قلب كل أحد..
والشخص الذى فيه الروح النارى، إذا بدأ خدمة، لا يهدأ حتى يتممها على أكمل وضع.
وهنا أتذكر ما قلته نعمى لراعوث عن بوعز " إن الرجل لا يهدأ، حتى يتمم الأمر اليوم" (را3: 18). وفعلاً لم يهدأ بوعز حتى قضى حق الولى للراعوث. لأنه اقتنع بالأمر، ووافق ضميره. فلم يكسل أبداً حتى تممه... وكان حاراً في عمله ...
حقاً إن كثيرين يخدمون. ولكن من منهم حار في خدمته.
من منهم تخرج عن حدود الرسميات والشكليات والروتين، إلى حرارة الحب، وحرارة العمل، وحرارة الروح. وقلب الكل تكون الخدمة بشركة الروح القدس... كم من الخدام يخرج من نطاق مواعيده المحددة للخدمة، إل الحرارة الروحية التى تخدم في كل وقت، ومع كل أحد. كالشمعة التى تضئ باستمرار لكل أحد وتظل تضئ وتضئ حتى تذوب تماماً...
ألسنا جميعاً نتكلم في عظاتنا بكلمى الرب؟ ولكن هل نحن نتكلم بألسنة نارية؟‍
وهل تخرج كلماتنا من قلوب ملتهبة، فتلتهب السامعين؟ وهكذا ينخسون في قلوبهم (أع2: 37). وتقودهم إلى التوبة؟... هذا هو المقيلس الذى نقيس به خدمتنا ومدى تأثيرها في الناس.
نعم، هل أخذنا نار الخمسين وخبأناها في قلوبنا؟ كما كان شعب الله يحتفظ بالنار المقدسة، ويحرص عليها...
27- انتقال الحرارة الروحية
من خصائص النار أيضاً: إنها إذا سرت في شئ، تحوله إلى نار مثلها...
إذا اشتعلت في خشب، يصير الخشب ناراً. إذا اشتعلت في قطن، يصير القطن ناراً . إذا اشتعلت في ورق، يصير الورق ناراً... هكذا الإنسان الروحي، الذى تسرى فيه نار يوم الخمسين.
إذا اتصل بأحد يشعله أيضاً، ويجعله ناراً مثله.
وكمثال لذلك إنسان روحى ملتهب في خدمته، يدخل إلى كنيسة ليخدم فيها ولوإلى حين ن ترى حرارته قد انتقلت منه إلى سائر الخدام. واشتعلت الكنيسة كلها.
هكذا كانت الكنيسة أيضاً في أيام آبائنا الرسل: كان الروح القدس يعمل بكل قوة ، فإذا بحرارة آبائنا الرسل تنتقل إلى تلاميذهم، وإلى باقى الخدام، وكل الشعب . والحرارة الروحية التىكانت في الرهبن في القرن الرابع...
انتقلت من مصر إلى سشائر بلاد العالم، وانشئت رهبانيات في تلك البلاد.... بل نتقلت الفضائل الرهبانية حتى إلى السائحين والزوار، فكتبوا عنها كتباً، وكان لها تأثير واسع في كل مكان، وانتقلت الروحانية إلى العالمانيين أيضاً...
وحرارة القديس أثناسيوس الاسكندري في الدفاع عن الإيمان...
انتقلت أيضاً إلى كل أساقفة وكهنة وخدام الكنائس، بل انتقلت إلى كل الشعب أيضاً. وأصبح الحماس من أجل الإيمان يجرى في دماء الناس...
وهكذا حرارة كاهن واحد في خدمته، يمكن أن تجعل شعبه كله في نشاط روحى. وحرارة خادم أو أمين خدمة، يمكن أن تسود كل خدام الفرع، وينتقل الروح من شخص إلى آخر ..
إن كان لك الروح النارى، فكل إنسان يقابلك ستشعله، وكل مكان تحل فيه ستشعله.
فهكذا طبع النار: لا تبقى حرارتها وحدها . إنما تشعل كل ما يلمسها. حتى الهواء المحيط بها يصير حاراً...
ليس المهم إذن في عدد الخدام، إنما المهم هو ما يكسبه الروح القدس في قلوبهم من محبة لله وللناس، وحماس للخدمة، وغيرة على بناء ملكوت الله فالرسل كانوا إثنى عشر فقط، ومع ذلك لإمتلأتهم بالروح أمكنهم أن يلهبوا العالم كله... والقديس بولس الرسول كان فرداً واحداً. ولكنه من أجل عمل الروح فيه بكل حرارة كان التهابه بالغيرة المقدسة سبب بركة للعالم كله...
28- الحرارة في التوبة
أنظروا إلى الحرارة الروحية التى تابت بها القديسة مريم القبطية، بحيث تدرجت من خاطئة تائبة إلى قديسة راهبة تنمو في النعمة، إلى أن وصلت إلى درجة السواح، واستحقت أن يتبارك منها القديس الأنبا زوسيما. كذلك الحرارة الروحية التى تاب بها أوغسطينوس الشاب، حتى أصبح راهباً وأسقفاً، أحد مصادر التأمل الروحى الذى انتفعت به أجيال كثيرة... ويعوزنا الوقت أن نتحدث عن الحرارة الروحية التى تاب بها القديس موسى الأسود، حتى أصبح من آباء الرهبنة الكبار، والحرارة الروحية التى صاحبت توبة كبريانوس الساحر، حتى صار القديس كبريانوس رئيس أساقفة قرطاجنة وئيساً للمجمع المقدس الذى نظر في المعمودية الهراطقة في القرن الثالث...
وحرارة الروح في التوبة، قد يصحبها فيض من الدموع:
مع اتضاع عميق في الروح، وانسحاق في القلب، وحب عجيب لله... وذلك مثل توبة المرأة الخاطئة التى بللت قدمى المسيح وفضلها على الفريسى، ومن أجل هذا نذكرها في صلاة نصف الليل، ويقول المصلى "أعطنى يارب ينابيع دموع كثيرة، كما أعطيت في القديم للمرأة الخاطئة. واجعلنى مستحقاً أن أبل قدميك اللتين اعتقانى من طريق الضلالة..". ومن أمثلة التوبة ودموعها وانسحاقها، توبة خاطئ كورنثوس والمحيطين به (2كو2: 6) (2كو7: 10 12).
وحرارة الروح في التوبة، تصحبها رغبة عجيبة في النمو الروحى.
قد يصحبها زهد عميق في العالم وكل أموره، ورغبة جادة وحماس عميق للالتصاق بالله من عمق القلب، ومنمو متواصل في حياة الروح، بحيث يعوض التائب تلك السنين التى أكلها الجراد (يوء 2: 25) . وفي كل هذا يغمره شعور بعدم الاكتفاء. فهو باستمرار في جوع وعطش إلى البر (متى5: 6)، يشتاق إلى كل ما يغذى روحه. حتى أن كثيراً من التائبين في حرارة الروح المصاحبة لتوبتهم فاقوا آلافاً من الأبرار في جيلهم...
وحرارة الروح في التوبة، يصحبها حرص وتدقيق شديدان.
فالتائب في حرارته بسيطاً. وتجده مدققاً جداً في كل واجباته الروحية، بل في كل فكر وفي كل قول، حريصاً ألا يرجع مرة أخرى إلى الوراء، مستفيداً كل الفائدة من خبراته القديمة، متضعاً أمام نفسه يخشى السقوط.

 

الفصل السابع: عمل الروح فينا وعلاقتنا به

 29- ميلادنا الجديد من الروح القدس
1 أول علاقة لنا هي ميلادنا الجديد من الروح القدس:
وعن هذا قال السيد الرب لنيقوديموس " إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لايقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو3: 5). وقال له أيضاً " المولود من الروح، هو روح" (يو3: 6). ونحن ننال هذا الميلاد الثانى في المعمودية. وقد قال القديس بولس الرسول في ذلك "... بل بمقتضى رحمته خلصنا، بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس" (تى3: 5). 30- منح الروح القدس لنا التجديد والمغفرة
2 في هذا الميلاد الثاني يمنحنا الروح القدس التجديد والمغفرة:
كما ورد في الآية السابقة (تى3: 5). وهذا ما ذكره بولس الرسول عن "جدة الحياة" بالمعمودية (رو6: 4). وكذلك صلب الإنسان العتيق (رو6: 6). وعن غفران الخطايا، قال حنانيا الدمشقى لشاول الطرسوسى " أيها الأخ شاول، لماذا تتوانى؟ فم اعتمد واغسل خطاياك" (أع22: 16). وقال القديس بطرس الرسول لليهود في يوم الخمسين " توبوا واعتمدوا على اسم يسوع المسيح لمغفرة الخطايا، فتنالوا موهبة الروح القدس" (أع 2: 38). 31- سكنى الروح القدس فينا في سر الميرون
3 وهنا ننال سكنى الروح القدس فينا في سر الميرون:
ويسمى أيضاً بسر المسحة، كما ذكر القديس يوحنا الرسول في (1يو2: 20، 27). وعن سكنى الروح فينا قال القديس بولس الرسول " أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم" (1كو3: 16). وقال أيضاً " أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذى فيكم من الله..." (1كو6: 19).
وهذه السكنى دائمة أبدية كما قال الرب عن الروح القدس " يمكث معكم إلى الأبد " (يو14: 16) وقال أيضاً " روح الحق الذى لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لايراه ولا يعرفه، وأما أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم" (يو14: 17). ولأن سكناه أبدية في الإنسان، لذلك فإن مثل هذه المسحة المقدسة لا تعاد .
وكان المؤمنون في بداية العصر الرسولى ينالون الروح القدس بوضع أيدى الرسل:
كما حدث بالنسبة إلى أهل السامرة (أع8: 17) وأهل أفسس (أع19: 6). ولما كثر عدد المؤمنين جداً، استخدموا المسحة المقدسة the Holy Chrisme( 1 يو2: 20، 27). بدلاً من وضع اليد. ولا يكفى أن ننال الروح القدس، إنما يجب أن تكون لنا شركة معه.
إنه يعمل فينا وبنا. ويجب علينا نحن أيضاً أن نعمل معه.
ويشترك الروح القدس معنا في كل عمل نعمله. 32- الشركة في الروح القدس
4 وهذا ما نسميه شركة الروح القدس:
وهذه العبارة جزء من البركة التى تقولها الكنيسة للشعب في آخر كل اجتماع. وقد أخدتها من ختام الرسالة الثانية لبولس الرسول إلى أهل كورنثوس " محبة الله الآب ، ونعمة ربنا يسوع المسيح، وشركة الروح القدس، تكون مع جميعكم" (2كو13: 14 ). وعنها قال القديس بطرس الرسول: "وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة، لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذى في العالم" (2بط1 : 4).
وهي شركة لا في اللاهوت ولا في الجوهر، حاشا. وإنما شركة في العمل.
لأننا لو اشتركنا مع روح الله القدوس: أي مع الطبيعة الإلهية في اللاهوت والجوهر، لصرنا آلهة...!! ولكننا نشترك مع روح الله في العمل. كما نقول في أوشية المسافرين للرب "اشترك في العمل مع عبيدك، في كل عمل صالح "وكما قال القديس بولس الرسول عن نفسه وزميله أبلوس: " نحن عاملان مع الله" (1كو3: 9 ). وهنا عليك أن تراجع نفسك: هل أنت لا تعمل عملاً، إلا إذا كان روح الله مشتركاً معك فيه؟ هل تحيا حياتك كلها في شركة الروح القدس؟ ولنبدأ من أول الطريق بالنسبة إلى جميع الناس.
33- عمل الروح القدس في حياتنا الروحية
5 ومن هنا نفهم عمل الروح القدس في حياتنا الروحية:
أ) إن الإنسان تتولى روحه البشرية قيادة جسده.
ب) إن روحه البشرية تكون تحت قيادة روح الله.
أما عن العنصر الأول فيقول القديس بولس الرسول " لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح " " لأن اهتمام الجسد هو موت. ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام" (رو8: 1، 6). ويقول أيضاً " اسلكوا بالروح، فلا تكملوا شهوة الجسد" (غل5: 16). أما عن العنصر الثانى فيقول " لأن كل الذين ينقادون بروح الله، فاولئك هم أبناء الله" (رو8 : 14). إذن المفروض أن يكون الإنسان تحت قيادة روح الله في كل عمل يعمله. فيشترك روح الله معه في كل عمل.

34- ثمار الروح القدس في حياتنا
6 وبشركتنا مع الروح القدس، تظهر ثمار الروح في حياتنا.
وقد ذكر القديس بولس الرسول ثمر الروح في رسالته إلى غلاطية فقال " وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام، طول أناة لطف صلاح إيمان، وداعة تعفف. ضد أمثال هذه ليس ناموس" (عل5: 22، 23). ثمار الروح تأتى نتيجة لعمل الروح القدس في الإنسان، ونتيجة لاستجابة روح الإنسان لعمل روح الله فيه...
وهنا نميز مثلاً بين المحبة التى هي ثمر الروح، وأية محبة من نوع آخر. كذلك نميز بين السلام الحقيقى الذى هو من ثمر الروح، وأي سلآم زائف. وهكذا مع باقى ثمر الروح فينا.
35- الحرارة الروحية في الإنسان
7 وكلما يزداد ثمر الروح، تزداد الحرارة الروحية في الإنسان. وفى هذا المعنى يوصينا الرسول أن نكون " حارين في الروح" (رو12: 11). لقد قيل عن الرب " إلهنا نار أكله" (عب12: 29). كذلك فالذى يسكن فيه روح الله ، لابد أن يكون مشتعلاً بهذه النار المقدسة.
وهكذا حل روح الله كألسنة من نار على التلاميذ.
فأشعلهم ناراً غيرة مقدسة، ألهبتهم للخدمة، فملأوا الكون كرازة. وهؤلاء " الذين لاقول لهم ولا كلام، وصلت أقوالهم إلى أقطار المسكونة" (مز19). نستطيع إذن أن نعرف رجل الله، من ثمار الروح التى تظهر في حياته. لأن الرب يقول " من ثمارهم تعرفونهم" (مت7: 20).
ويمكننا أيضاً أن نعرفه من حرارته الروحية.
فصلاته صلاة حارة في ألفاظها وفي دموعها وفي غيمانها وفي لهجتها، صلاة تزعزع المكان كما حدث مع التلاميذ (أع4: 31). والإنسان الروحى تكون خدمته خدمة حارة في قوتها وفى انتشارها. وفي تأثيرها، وفي غيرتها المقدسة وحماسها العجيب ... خدمة كلها نشاط، وتأتى بثمر كثير.
والإنسان الذى يعمل فيه روح الله، يعرف بحرارة المحبة.
هذه المحبة الملتهبة من نحو الله والناس، التى قيل عنها في سفر النشيد " مياه كثيرة لا نستطيع أن تطفئ المحبة" (نش8: 7). . وتشمل هذه المحبة كل أحد وتسعى بكل قوة في خدمة الناس، ولخلاص الناس.
لذلك إن كنت إنساناً ليست فيك حرارة.
فأعرف أن عمل الروح فيك لي كما ينبغى.
وطبعاً من محاربات هذه الحرارة، الفتور الروحى... وإن زاد الفتور في إنسان، وطالت مدته، يتحول إلى برودة روحية... ويصير هذا الإنسان جثة هامدة في الكنيسة... ولا حركة، ولا بركة.
هنا وأقوال إن البعض يفهم الوداعة بطريقة خاطئة.
فيظن أنه في وداعته، يكون بلا حرارة ولا حيوية!!
لا يتأثر ولا يؤثر، ولا تشتعل عواطفة، ولا يغار للرب!! كلا، فالسيد المسيح كان وديعاً ومتواضع القلب ، ومع ذلك كان حاراً في عواطفه وفي خدمته، يجول يصنع خيراً (أع10: 38).  36- الروح القدس يمنح قوّة خاصة للمؤمنين
8 ننتقل إلى نقطة أخرى وهي أن الروح يمنح قوة خاصة للمؤمن، وعن ذلك قال السيد المسيح لرسله القديسين:
" ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم" (أع1: 8).
وهكذا تظهر القوة في حياة أولاد الله، قوة ليست من العالم، وإنما من روح الله، قوة في الخدمة، في الانتصار على الشياطين، في تحمل الشدائد والضيقات. قوة في الصلاة، في الإيمان، فى عدم الخوف، مهما كانت الأسباب. وهكذا قيل:
" ملكوت الله قد أتى بقوة" (مر9: 1).
هذه القوة تميز بها العصر الرسولى الذى عمل فيه الروح القدس بقوة وتميز بها عصر المجامع وابطال الإيمان، كما تميز بها عصر الرهبنة وبخاصة في بدء نشأتها...
قوة ظهرت في عظة بطرس، التى أدت إلى إيمان ثلاثة آلاف (أع2).
وتميزت بها خدمة القديس اسطفانوس، (أع6: 10) وتميزت بها كرازة القديس بولس الرسول في تأثيرها وانتشارها.
وقد شملت القوة كل شئ، حتى صلواتهم:
ولذلك قيل عنهم " ولما صلوا تزعزع المكان الذى كانوا مجتمعين فيه.
وامتلآ الجميع من الروح القدس. وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة" (أع4: 31). المشكلة التى نعانييها أن كثيراً من الخدام يخدمون بنشاط ومعرفة وربما باتساع كبير في الخدمة، ولكنهم لا يخدمون بقوة الروح. وربما تدخل بعض الأساليب العالمية في الخدمة.
الخادم الحقيقى يخدم بروحه، وبروح الله معه.  
37- الروح القدس يدخل في كل تفاصيل العبادة
9 والروح القدس يدخل في كل تفاصيل العبادة:

فيقول الرسول " أصلى بالروح وأصلى بذهنى" (1كو14: 15)... ويقول " نعبد الله بالروح" (في3: 3) (رو11: 9) (رو7: 8). ويقول " بمزامير بتسابيح وأعانى روحية مترنيمين في قلوبكم للرب" (كو3: 16) (أف5: 19). كما يقول المرتل في المزمور " لكى تترنم لك روحى" (مز30: 12) وقد قال الرب يسوع " الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغى أن يسجدوا" (يو4: 23، 24 ). ويقول القديس بطرس الرسول " مبنيين كحجارة حية، بيتاً روحياً، كهنوتاً مقدساً، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع " وكذلك الروح أيضاً يعين ضعفاتنا لأننا لسنا نعلم ما نصلى لأجله كما ينبغى. ولكن الروح يشفع فينا بأنات لا ينطق بها" (رو8: 26)... إذن كل شئ بالروح.  38- الإنسان الذي يسكن فيه روح الله 10 الإنسان الذى يسكن فيه روح الله، تكون تصرفاته روحية.
نواياه ومقاصده واتجاهاته تكون روحية، ووسائله وسائل روحية. وكل لفظة يلفظها تكون كلمة روحية، لها تأثيرها روحى في نفوس سامعيه.
فهو إن تكلم يكون روح الله هو المتكلم على فمه.
كما قال السيد المسيح لتلاميذه "لأن لستم أنتم المتكلمين، بل روح أبيكم الذى يتكلم فيكم" (مت10: 20). فهل في كل مرة تتكلم، يكون روح الله هو الذى ينطق. وهل له في كل مرة " افتح يارب شفتى، فيخبر فمى بتسبحتك" (مز50).
وإذا واقع في مشكلة، يحلها بطريقة روحية.
هناك من يحل المشكلة بأعصابة، فيثور لها ويضج.
وهناك من يقابلها بمشاعره فيبكى لها وينوح. وهناك من يعالج المشكلة بعقله، فيجلس ليفكر. وهناك أيضاً من يحلها بروحه. فيصلى من أجلها، ويصوم، وينذر نذراً، ويقيم قداسات. وفي تفكيره للحل، يفكر بطريقة روحية، بغير خطية، بلا لوم أمام الله والناس.

  39- تقديس روح الله للإنسان
11 وإذا سكن روح الله في إنسان فإنه يقدسه.
يقدسه بالكلية، يقدس قلبه وفكره وجسده وروحه ونفسه، ويقدس الحياة التى يحياها ... كما يقول الرسول " وإله السلام يقدسكم بالتمام، وليحتفظ روحكم ونفسكم وجسدكم كاملة بلا لوم..." (1تس5: 23).
إنه تقديس من الناحيتين: الإيجابية والسلبية.
الإيجابية: من جهة الحياة التى تحياها، وثمر الروح فيها. ومن الناحية السلبية: لا تكون لك شركة في أعمال الظلمة، مادمت قد دخلت في شركة الروح القدس . فالرسل يتعجب قائلاً آية شركة للنور مع الظلمة؟!" (2كو6: 14). ويقول أيضاً " لا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة، بل بالحرى بكتوها" (أف5: 11). فإن كنت تشترك في عمل من أعمال الظلمة، فلا يكون روح الله يعمل فيك...
في حالة اشتركك في عمل الظلمة، تكون قد فصلت نفسك عن عمل الروح فيك.
انفصلت عن الروح، ولو انفصالاً موقتاً. انفصالاً في العمل والتصرف، وفي الإرادة والمشيئة. ومن الجائز أن الروح لا ينفصل عن طريق آخر غير الطريق الروحى، تسلكه أو تشتهيه... من أجمل تلك العبارة التى قيلت عن شمشون الجبار في بدء حياته الروحية " وابتدأ روح الرب يحركه في محله دان..." (قض13: 25) .
فهل أنت مثله: روح الرب يحركك؟
أم أنت تتحرك من ذاتك؟ أم تحركك مشاعر خاطئة وفكر خاطئ، أم تحركك إرادة أخرى غير إرادتك من قريب أو صديق أو موجهة أو مرشد؟! وإن كان يحركك مرشد، فهل هذا المرشد يحركه روح الله، يسلك بالروح؟
هذا السوك يقول عنه القديس بولس الرسول "إذن لا شئ من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح" (رو8: 1).
ويقيم مقارنة خطيرة بين السلوك بالروح، والسلوك بالجسد.
فيقول: " لإن الذين هم حسب الجسد، فبما للجسد يهتمون. ولكن الذين حسب الروح . فبما للروح، لأن اهتمام الجسد هو موت، ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام. لأن اهتمام الجسد هو عداوة لله... فالذين هم في الجسد، لا يستطيعون أن يرضوا الله". "وأما أنتم فلستم في الجسد، بل في الروح، إن كان روح الله ساكناً فيكم". "فإذن أيها الأخوة: نحن مديونون وليس حسب الجسد، لنعيش حسب الجسد. لأنه إن عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن إن كنتم بالروح تمتون أعمال الجسد فستحيون" (رو8: 5 13).
إذن هناك صراع بين الروح والجسد، يقول عنه الرسول:
" اسلكوا بالروح، فلا تكلموا شهوة الجسد ".
" لأن الجسد ينتهى ضد الروح، والروح ضد الجسد ".
" وهذان يقاوم أحدهما الآخر..." (غل 5: 16، 17). فهل يظل الإنسان في هذا الصراع طوال حياته على الأرض، يشكو من الجسد ومن شهوات الجسد، ويصرخ قائلاً " إنى أعلم أنه ليس ساكناً في، أي في جسدى، شئ صالح " " ويحى أنا الإنسان الشقى . من ينقذنى من الجسد هذا الموت؟" (رو7: 18، 24).
أم تراه صراعاً في بدء الحياة الروحية؟
إلى أن يتم استلام الجسد للعمل الروحى.
وخلال هذا الصراع، يقول إنسان الله " أقمع جسدى وأستعبده. حتى بعد ما كرزت للآخرين، لا أصير أنا نفسى مرفوضاً" (1كو9: 27). ومتى تقدس الجسد بالتمام ، وخضع للروح، بل اشترك معها في العمل الإلهى، العمل الروحى، حينئذ لا يكون بينهما صراع، بل يتعاونان معاً.

40- الروح القدس هو مصدر التعليم

 12 وقد أعلن الرب أن الروح القدس هو مصدر التعليم:
فقال لرسله القديسين عنه " وأما المعزى الروح القدس الذى سيرسله الآب باسمى، فهو يعلمكم كل شئ، ويذكركم بكل ما قلته لكم" (يو14: 26) وأيضاً " متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو16: 13). " ويخبركم بأمور آتية" (يو16: 13). وقال القديس يوحنا عن مسحة الروح القدس " وأما أنتم فالمسحة التى أخذتموها منه ثابته فيكم. ولا حاجة بكم إلى أن يعلمكم أحد، بل كما تعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شئ، وهي حق" (1يو2: 27). إن الروح القدس هو المعلم والمرشد. يعلمنا كل شئ، ويكشف لنا الحق ويذكرنا بكل وصايا السيد المسيح، ويرشد...
41- الروح القدس هو الذي يقود إلى التوبة
13 والروح القدس هو الذى يقود إلى التوبة:
هو الذى يبكت على خطية (يو16: 8).
وهو الذى يرشد في الحياة الروحية ويعلمنا الطريق السليم.
ولذلك فإن الشخص الذى يفارقه روح الرب مفارقة كاملة، أو هو الذى يرفض عمل روح الرب فيه رفضاً كاملاً، مدي الحياة هذا لا يمكن أن يتوب، لأنه لا يستطيع أن يتوب رفضاً كاملاً مدي الحياة نسميها التجديف على الروح القدس وهذه ليست لها مغفرة، لأنه ليست فيها توبة...
42- الروح القدس هو مصدر العزاء
14 والروح القدس هو مصدر العزاء:
لذلك سماه الرب المعزى (يو14: 16) أو الروح المعزى (يو14: 26) (يو16: 7 ). فليتنا باستمرار نطلب عزاءنا منه.
43- المواهب التي يمنحها روح الله للإنسان بعد هذا ننتقل إلى نقطة أخرى في علاقتنا بالروح وهي:
15 المواهب التى يمنحها روح الله للناس.
وقد تخصص القديس بولس الرسول الأصحاح الثانى عشر من رسالته الأولى إلى كورنثوس للحديث عن مواهب الروح القدس فقال " أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد... ولكنه لكل أحد يعطى ىظهار الروح للمنفعة" (1كو12: 4، 7).
ثم تحدث عن هذه المواهب بالتفصيل فقال:
فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة. ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد. ولآخر أيمان بالروح الواحد. ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد. ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الآرواح، ولآخر أنواع ألسنة، ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء" (1كو12: 8 11).
وتحدث بولس الرسول عما فعل الرب بواسطته لإطاعة الأمم، فيقول " بقوة آيات وعجائب، بقوة روح الله" (رو15: 19).
43- المواهب التي يمنحها روح الله للإنسان
بعد هذا ننتقل إلى نقطة أخرى في علاقتنا بالروح وهي:
15 المواهب التى يمنحها روح الله للناس.
وقد تخصص القديس بولس الرسول الأصحاح الثانى عشر من رسالته الأولى إلى كورنثوس للحديث عن مواهب الروح القدس فقال " أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد... ولكنه لكل أحد يعطى ىظهار الروح للمنفعة" (1كو12: 4، 7).
ثم تحدث عن هذه المواهب بالتفصيل فقال:
فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة. ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد. ولآخر أيمان بالروح الواحد. ولآخر إيمان بالروح الواحد. ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد. ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز الآرواح، ولآخر أنواع ألسنة، ولكن هذه كلها يعملها الروح الواحد بعينه، قاسماً لكل واحد بمفرده كما يشاء" (1كو12: 8 11).
وتحدث بولس الرسول عما فعل الرب بواسطته لإطاعة الأمم، فيقول " بقوة آيات وعجائب، بقوة روح الله" (رو15: 19). 45- الروح القدس يقود غير المؤمنين إلى الإيمان
17 الروح القدس هو الذي يقود غير المؤمنين إلى الإيمان:
وفي ذلك يقول الكتاب "ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب، إلا بالروح القدس" (1كو12: 3).
فإن لم يعمل روح الرب في غير المؤمن، لا يمكن أن يصل إلى الإيمان.
وهذا هو الذى حدث مع كرنيليوس الأممى، إذ عمل فيه روح الله، حتى بالمواهب فقاده إلى الإيمان، واقنع بطرس الرسول بقبوله وهو رجل أممي، فعمده وقال:
" أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء، حتى لا يعتمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضاً" (أع10: 47).
18- عمل الروح القدس في كثير من غير المؤمنين من أجل الكنيسة ومن أجل توبتهم 18 بل عمل الروح القدس في كثير من غير المؤمنين من أجل الكنيسة أو من أجل توبتهم...
لقد عمل روح الله القدوس في ملوك فارس الأمميين من أجل شعبه. وفي ذلك يقول الكتاب " نبه الرب روح كورش فأطلق نداء في كل مملكته" (عز1: 1). إن الرب أوصاه أن يبنى له بيتاً في أورشليم (عز1: 2). وقد بذل كل جهده في سبيل ذلك، وهو ملك أممى. وكذلك فعل أرتحشستا الملك أيام نحميا (نح3). وهكذا فعل داريوس الملك أيام دانيال النبى والثلاثة فتية القديسين (دا3: 29، 30 ؛ دا61 : 25، 26). روح الرب حرك قلب فليكس الوالى، فارتعب لما تحدث بولس عن البر والدينونة والتعفف (أع24: 25). وكذلك حرك قلب أغريباس الملك (أع26: 28) . وكان ينخس قلب شاول الطرسوسى بمناخس (أع9: 5). تبقى نقطة أخيرة من حيث علاقة الروح بنا وهي:
47- مفارقة الروح القدس للإنسان المفارقة الكلية تؤدى قطعاً إلى هلاك الإنسان. . ولعل من أمثلتها ما حدث لشاول الملك، إذ قيل عنه:
"وذهب روح الرب من عند شاول. وبغته روح ردئ من قبل الرب" (1صم16: 14).
وهلك شاول، لأن الرب كان قد رفضه. هذا الأمر الذي يخاف منه المرتل جداً، حينما يقول للرب في صلاته:
"روحك القدوس لا تنزعه منى" (مز50) .
ولكن هناك نوعاً من التخلي الجزئي...
إنه ليس مفارقة كاملة، وإنما بعض الشئ، وإلى حين. ربما لكي يشعر الإنسان بضعفه إذ يسقط... فيتعلم الحرص والتدقيق في حياته، ويتعمق في صلاته طالباً عمل روح الرب فيه.
وأيضاً لكي يشفق على الساقطين، عالماً أنه تحت الآلام مثلهم. وفى كل ذلك يتعلم الاتضاع...
عمل الروح القدس فينا هو الجانب الإلهي ولكن يبقى علينا نحن أن ندخل في شركة الروح القدس:

الفصل الثامن  شركة الروح القدس

48- شركة الروح القدس
وذلك لأن الروح القدس يعمل في الجميع. يعمل فينا وبنا، ويبقى أن نعمل نحن معه . الروح القدس في سر المعمودية منحنا نعماً كثيرة، منها التجديد والتبرير والولادة الجديدة.
ولكن نعم الروح القدس لم تسلبنا مطلقاً نعمة الحرية:
فنحن أحرار تقبل الروح القدس فينا أو لا تقبل. نقبل الشركة معه أو نرفض ذلك. وفي هذه النقطة بالذات يبدو الخلاف بين القديسين والخطاة. الروح القدس يتقدم ليعمل في كليهما. والأبرار هم الذين يقبلون الشركة معه، من أجل خلاصهم وخلاص الآخرين أيضاً. وكل عمل يرون أن الروح القدس لا يشترك معهم فيه، يرفضونه تماماً.
وهكذا لا يعملون أى عمل بمفهم، بل بشركة روح الله معهم. كما نصلى في الكنيسة قائلين: اشترك في العمل مع عبيدك، في كل عمل صالح. ونتيجة لهذا، تصبح حياتهم كلها حياة روحية: صلواتهم صلوات روحية، وخدمتهم خدمة روحية، وحلهم للمشاكل يكون بحلول روحية، وتصرفاتهم روحية، وأهدافهم روحية، ومحبتهم للآخرين محبة روحية. الروح القدس العامل فيهم يعطى كل أعمالهم طابعاً روحياً ...
عليك إذن أن تراجع كل أعمالك وتفحصها، لترى هل اشترك فيها معك روح الله القدوس .
وتقول للروح القدس في صلواتك: أنا يارب أريد أن أعمل معك وتعمل معى. لا أريد أن أفارقك أو تفارقنى. الأعمال التى لا توافق عليها، اعطني القوة أن أرفضها وابعد عنها. ما الفائدة أن أكون هيكلاً للروح القدس، وأنا لا اشترك مع الروح القدس في العمل.
حتى ونحن في حالة الخطية، نطلب الروح القدس لكى يساعدنا على التوبة:
إنسان خاطئ يقول: أنا قررت أن أتوب. أنا عاهدت الله أن أتوب... . حسنة يا أخى هي نيتك الطيبة... ولكن الوصول إلى التوبة، لا يتم بمجرد قراراتك وتعهداتك، ولا بمجرد ما تضعه لنفسك من تداريب روحية. وأنما توبتك تأتى بعمل الروح القدس فيك. كما يقول الكتاب " توبنى يارب فأتوب" (أر31: 18).
ولنضع أمامنا كمثال: صلوات داود النبى لأجل التوبة:
ولنسمعه في المزمور الخمسين وهو يقول " انضح على بزوفاك فاطهر. واغسلنى فأبيض أكثر من الثلج ". ولم يقل أنا يارب سوف أتوب، وأنما أنت الذى تطرنى وتغسلنى. وهكذا يقول أيضاً " اغسلنى كثيراً من إثمى، ومن خطيئتى تطهرنى. أنا عارف باثمى، وخطيتى أمامى فى كل حين. ولكن أنت يارب الذى تغسلنى منها وتطهرنى. لأنى لا استطيع بضعفى أن أطهر منها. وعندما تسألنى يارب: أتريد أن تطهر. أحببتك نعم ولكن...
الإرادة حاضرة عندى، ولكن أن أفعل الحسنى لست أجد (رو7: 18).
فأنا " أرى ناموساً آخر في أعضائى يحارب ناموس ذهنى، ويسبينى إلى ناموس الخطية " " لأنى لست أفعل الصالح الذى أريده. بل الشر الذى لست أريده، إياه أفعل " " ويحى أنا الإنسان الشقى" (رو7: 23، 19). إذن إرادتى وحدها لا تكفى. وبدونك يا رب لا استطيع أن أفعل شيئاً (يو15: 5).
إن لم ينشلنى روحك القدوس، فلن استطيع أن أتوب...
أنا يارب مثل ذلك المريض، الذى مرت عليه 38 سنة، لا يجد إنساناً يحمله ليلقيه في البركة ليبرأ (يو5: 7). أو أنا مثل بطرس الذى لم تمسك به يدك، لا يستطيع أن يمشى فوق الماء (مت14: 30). هدفى في التوبة هو أنت. ووسيلتى في التوبة هي انت. روحك القدوس هو الذى يبكتنى على الخطية (يو16: 8). لأن تبكيتى لنفسى أضعف من أن يقودنى إلى التوبة. تبكيت الروح القدس هو القوى والمؤثر.
وأيضاً روحك هو الرشد في الطريق الروحي.
هو الذى يستنير به ضميرى، وتقوى خطواتى. وإن لم استرشد به سأضل. عيبنا الأول في حياتنا الروحية، أننا نعتمد على أنفسنا، وليس على روح الله بينما الكتاب يقول " وعلى فهمك لا تعتمد" (أم3: 5). نحن لا نتوب، لأننا لم نطلب من روح الله معونة لتوبتنا. كذلك خدمتنا لا تنجح، إن لم يعمل روح الله فيها. فالخدمة ليست مجرد حكمة بشرية، ونجاحها لا يتوقف على الذراع البشري. إنما تنجح الخدمة إن كانت شركة مع الروح القدس. نذكر فيها باستمرار قول المزمور:
إن لم يبن الرب البيت، فباطلاً تعب البناءون (مز127: 1).
ولهذا في الكنيسة أيام الرسل، كان يشترط حتى في الشماس أن يكون مملوءاً من الروح القدس (أع6: 3). لأن الروح القدس هو الذى في خدمته، وليس مجرد مجهوده البشرى. ولهذا نجحت الخدمة تماماً لآن روح الله هو الذى كان يعمل من خلال الخدام، الذين كانوا مجرد أو أدوات في يدية. إذن من جهتنا، لابد أن نقبل روح الله، ونشترك معه، وننمو في هذه الشركة ولكن إلى أي مدي؟
يقول الكتاب " امتلئوا بالروح" (أف5: 18).
ويحكى لنا الكتاب أمثلة من حالات الآمتلاء بالروح القدس، لعل من أشهرها بيت زكريا الكاهن: فقد امتلأت أليصابات زوجته بالروح القدس (لو1: 41) وزكريا أيضاً امتلأ بالروح القدس (لو1: 67) وابنهما يوحنا من بطن أمه امتلأ من الروح القدس (لو1: 15). وفي يوم الخمسين " امتلأ الجميع من الروح القدس ( أع2: 4). وقيل عن المجتمعين للصلاة " ولما صلوا تزعزع المكان الذى كانوا مجتمعين فيه، وامتلأ الجميع من الروح القدس" (أع4: 31). ولما وقف بطرس أمام رؤساء الكهنة، قيل عنه إنه " إمتلأ من الروح القدس وقال لهم.." (أع4: 8). كذلك اسطفانوس الشماس (أع7: 55). وشاول الطرسوسى (أع9: 17 ؛ 13: 9 ). ونسمع يوحنا الحبيب في رؤياه يقول " كنت في الروح في يوم الرب" (رؤ1: 10 ). ولما رأى العرش الإلهى قال قبلها " وللوقت صرت في الروح" (رؤ4: 2).
إن كان مطلوباً منا أن نمتلئ بالروح، فالمفروض أن نعد أنفسنا لذلك...
نسير في الخطوات الروحية التى تجعلنا مستحقين لهذه النعمة. وتكون قلوبنا مستعدة في كل حين لعمل الروح فينا. وأول الخطوات أن تكون لنا الحياة الروحية والسلوك بالروح. كما قال الرسول " اسلكوا بالروح، فلا تكلموا شهوة الجسد" ( غل5: 16). وإن بدأنا بذلك، نستمر فيه. ولا نكون كالغلاطيين الذين وبخهم الرسول قائلاً " أبعد ما ابتدأتم بالروح تكلمون بالجسد؟!" (غل3: 3). ثم ننمو في الحياة بالروح...
ونبعد عن كل ما يحزن روح الله، أو يطفئ الروح فينا، ولا نقاوم الروح القدس ...
وقد قال الرسول في كل ذلك " لا تحزنوا روح الله القدوس الذى به ختمتم" (أف4: 30). وقال " لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19). وقد وبخ القديس اسطفانوس اليهود قائلاً "يا قساة القلب... أنتم دائماً تقاومون الروح القدس. كما كان أباؤكم، كذلك أنتم" (أع7: 51). الروح القدس مستعد ان يعمل فينا. ولكننا نحزنه، حينما نرفض عمله، ونرفض الشركة معه، وبهذا نسقط في الخطية. والروح القدس باستمرار يهبنا يدعونا دائماً إلى حياة القداسة، ولكننا نقاوم عمله فينا وربما في الآخرين ايضاً.
إننا إن اشتركنا مع الروح القدس، نكون لذلك نتائج واضحة في حياتنا.
لعل ابرزها ما قاله الرب في سفر حزقيال النبى " اعطيكم قلباً جديداً، واجعل روحاً جديدة في داخلكم وانزع قلب الحجر من لحمكم. وأعطيكم قلب لحم. واجعل روحى في داخلكم. واجعلكم تسلكون في فرائضى، وتحفظظون أحكامى وتعلمون بها" ( حز36: 26، 27). فهل تشعر في داخلك أن روح الله قد غير حياتك ومشاعرك، واعطاك قلباً جديداً، ومنحك السهولة التى تسلك بها في وصاياه وتحفظ احكامه... ؟ · ومن علامات عمل الروح فينا، أن نكون " حارين في الروح" (رو12: 11).
لأن روح الله عندما يحل في الإنسان يشعله بالحرارة، كما ألهب الرسل عندما حل عليهم في سوم الخمسين (أع2) على هيئة ألسنة من نار. وتحول العالم المسيحى كله إلى شعله من نار، في الخدمة والكرازة، في الغيرة والحماس، في المحبة التى شبهها الكتاب بالنار وقال " إن مياهاً كثيرة لا تستطيع أن تطفئها" (نش8: 7). إذا دخل روح الله في قلبك، ينطبق عليك قول المزمور " غيره بيتك أكلتنى " (مز119). وتشمل الحرارة كل حياتك الروحية. وإذا لم تشترك مع عمل الروح فيك ، تصاب بالفتور. ولهذا يأمرنا الرسول قائلاً " لاتطفئوا الروح" (تس5: 19). أي احتفظوا بحرارة الروح دائماً فيكم . وكونوا كذبيحة المحرقة، تشتعل فيها النار باستمرار، نار دائمة لا تطفأ" (لا6: 12، 13).
هل تسلمت من الروح القدس هذه النار المقدسة، وهل توقدها باستمرار في قلبك؟
كما قيل عن ذبيحة المحرقة " ويشعل عليها الكاهن حطباً كل صباح.." (لا6: 12 ). هل تشعل محبة الله في قلبك بمزامير وتسابيح وأغانى روحية، مترنماً ومرتلاً في قلبك للرب" (أف4: 19)، وبقراءات روحية من النوع الذى يلهب مشاعرك الروحية؟
أنت هيكل لله، وينبغى أن تكون النار المقدسة في الهيكل باستمرار:
السيدة العذراء شبهت بالمجمرة الذهبية، شورية هارون، لن الروح القدس حل عليها كجمر نار... فهل الروح القدس اشعل فحماتك السوداء، فالتهبت وصاحت في فرح "أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم" (نش1: 5). إن النار منحت الفحم توهجاً، فصار جمراً. ونسى طبيعتى السوداء إذ صار رغبة عالمية خاطئة، وتصبح حاراً في روحياتك. وماذا أيضاً: · روح الله هو روح القداسة. إن حل فيك، واشتركت في العمل معه، يمنحك القداسة:
مادمت تنقاد بروح الله (رو8: 14)، ولا تحزن روح الله بانحراف ارادتك عن توجيهة (أف4: 30)، فهل أنت تحيا حياة القداسة، التى بدونها لا يعاين أحد الرب؟! أم أنت ترفض عمل روح الله فيك، وتقاوم الروح؟ وما نهاية مقاومتك هذه؟ إن كنت بسكنى الروح القدس فيك، قد صرت هيكلاً لله، فاذكر قول المرتل في المزمور " بيتك تليق القداسة يا رب" (مز93: 5). واذكر قول الكتاب " نظير القدوس الذى دعاكم، كونوا أنتم ايضاً قديسين في كل سيرة. لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأنى أنا قدوس" (1بط1: 15، 16). · وإن اشتركت مع الروح القدس في العمل، ستكون قوياً في كل شئ.
فهكذا وعد الرب تلاميذه القديسين قائلاً: ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لى شهوداً" (أع1: 8). والإنسان القوى ينتصر على كل فكر خاطئ، وعلى كل رغبة غير مقدسة. ويكون ايضاً قوياً في خدمته، وقوياً في تاثيره على الاخرين. وتصبح القوة صفة مميزة لشخصيته في كل عمل صالح. فهل تشعر بهذه القوة، قوة عمل الله فيك؟ إن كنت ضعيفاً في روحياتك، فاعلم أنك لم تشترك مع روح الله... وإن دخلت في شركة الروح، فهو يمنحك المحبة الحقيقية.
هذه المحبة التى قال عنها الرسول "... محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" (رو5: 5). وهكذا تحب الله من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل نفسك" (مت22: 37). وتحل أيضاً قريبك كنفسك. وبهذه المحبة الإلهية التى من الروح، ترتفع عن مستوى الخوف، وتثبت في الله، والله فيك، لأن الله محبة (1يو4:18، 16). وبروح الله العامل فيك، وبالمحبة التى سكبها في قلبك، يمكنك أن تربح كثيرين للرب. وكل من يتعامل معك، يقول حقاً هذا الإنسان فيه روح الله.

الفصل التاسع: مقاومة الروح

49- مقاومة الروح القدس
إن الروح القدس يعمل فينا. ولكنه لا يلغى حريتنا.
إنه يقودنا إلى خير، ولكنه لا يرغمنا على فعله.
إنه يعطينا قوة.
ولكننا نبقى أحراراً نستخدم هذه القوة، أو لا نستخدمها... لو عاش إنسان في طاعة كاملة للروح، وفي شركة كاملة مع الروح، لصار قديساً ونما في حياة القداسة إلى أعلى الدرجات. ولكنه في الواقع، لا يكون كذلك باستمرار، وأنما كثيراً ما يأخذ من الروح مواقف سلبية. فما هي؟ فلنبحث ما يقوله الكتاب عن هذا:
50- إطفاء الروح
إذا تكاسل الإنسان وتراخى، يطفئ حرارة الروح في قلبه.
الأصل هو أن تكون لذلك أسباب خارجية وداخلية. وعن هذه الأسباب الداخلية يقول الرسول "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19). وقد خصصنا هذا الفصل تقريباً عن هذا الموضوع. 51- إحزان الروح وهناك فرق كبير بين أن يفقد الإنسان حرارته الروحية، أو تقل هذه الحرارة عنده ، وبين أن يستسلم ويسقط. وإن كان روح الله يفرح هو وملائكته بخاطئ واحد يتوب، فلاشك إنه من الناحية الأخرى بسبب من يسقط. وعن هذا قال الكتاب:
"ولا تحزنوا روح الله القدوس الذى به ختمتم.." (أف3: 30).
ولكى يظهر أن أحزان روح الله، يأتى عن طريق الحياة في الخطية، قال بعد هذا مباشرة: "ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث" (أف4 : 31). إن الخطية لها آثار كثيرة: من جهة الإنسان، ومن جهة الله... أما من جهة الإنسان، فإنه يهلك نفسه بخطيئته، ويضعف قوة الروح فيه. وقد يؤدى غيره بهذه الخطية أو يعثره... أما من جهة الله، فإننا نحزنه بخطايانا.
ما أقسى الإنسان الذى يحزن خالقه، ولا يبالى!
نحن نحزنه، لأننا أثناء الخطية، نرفض الشركة مع روحه القدوس، ونفصل عليها أعمال الظلمة. ونحزنه لأننا أبناؤه، وهو يرانا نهلك أمامه، ونفقد الصورة الإلهية التى خلقنا بها (تك1). . ونحزنه أيضاً لأننا بالخطية ندخل في خصومة معه، أو ننفصل عنه. لأنه لا شركة بين النور والظلمة (2كو6: 14).
ومع ذلك، فالله عندما نسقط يحاول إرجاعنا إليه.
روحه القدوس يبكتنا على الخطية (يو16: 8). روحه الصالح يهدينا (مز43: 10 ). ذلك لأن الله يسر بموت الخاطئ، بل برجوعه إليه ليحيا (حز18: 23). وهكذا يعمل روح الله على قيادة هذا الخاطئ إلى التوبة. ويبقى بعد هذا ان يستجيب لعمل الروح فيه أو يقاومه. وهنا نصل إلى النقطة الثالثة:
52- مقاومة الروح
إذا رفض الإنسان عمل الروح، فإنه يقاوم الروح.
وهكذا إن اخذ منه موقفاً سلبياً وحاربه، سواء حارب عمل روح الله فيه، أو في غيره ولهذا فإن القديس اسطفانوس أول الشمامسة وبخ اليهود قائلاً "يا قساة الرقاب... أنتم دائماً تقاومون الروح القدس. كما كان آباؤكم، كذلك أنتم. أي الأنبياء لم يضطهده آباوكم؟!" (أع7: 51: 52).
لذلك وصف الشيطان بأنه المقاوم، كذلك أعوانه.
وهكذا فإن ضد المسيح، إنسان الخطية، الذى يحدث بسببه الارتداد الأخير، قيل عنه إنه " المقاوم والمرتفع على كل مل يدعى إلهاً" (2تس2: 4). وقال موسى النبى في " تمردهم ورقابهم الصلبة: "هوذا قد صرتم تقاومون الرب" (تث31: 27 ). على أن الإنسان قد يقاوم عمل الروح، ولكنه لا يستمر في ذلك. مثلما قال القديس بولس الرسول عن نفسه "أنا الذى كنت قبلاً مجدفاً ومفترياً..." (1تى1: 13) " لأنى اضطهدت كنيسة الله " 0 1كو15: 9). ولكنه لم يستطيع أن يرفس مناخس kick against the goads. وترك المقاومة، وصار رسولاً تعب أكثر من الجميع (1كو15: 1). ولكن إذا استمر الإنسان طول حياته في مقاومة الروح، نخشى أن يصل إلى أخطر مرحلة في الهلاك وهي: 53- التجديف على الروح القدس
هذه الخطية لا غفران لها (متى12: 31).
وليس التجديف على الروح القدس، هو إنكار لاهوت الروح القدس. فإن الذين أنكروا لاهوت الروح أيام هرطقة مقدونيوس في القرن الربع، ثم رجعوا وتابوا، قبلتهم الكنيسة. وليس التجديف على الروح القدس هو إنكار وجوده، أو عدم الإيمان به فإن الذى يعود ويؤمن به يخلص... وليس هو أيضاً مقاومة الروح، فإن التوبة عموماً تقود إلى الخلاص. إذن ما هو التجديف على الروح؟ ولماذا لا يغفر؟
التجديف على الروح القدس، هو رفض كل عمل للروح القدس، في القلب والعقل والإرادة، رفضاً كاملاً دائماً مدى الحياة.
أو أنه يطرد الروح القدس من قلبه مدي الحياة، ويرفض أن يشترك معه في أي عمل، ولا يصغى لصوت الله في قلبه، ولا لتأنيت على الخطية... مدى الحياة. والذى يفعل هكذا، لا يمكن أن يتوب. لأنه لا يستطيع إنسان أن يتوب، بدون عمل الروح القدس فيه. وإذا لم يتب، لا تكون له مغفرة، حسب قول الرب " عن لم تتوبوا، فجميعكم كذلك قال أحد الاباء:
لا توجد خطية بلا مغفرة، إلا التى بلا توبة.
والذى يرفض عمل الروح فيه رفضاً كاملاً دائماً مدى الحياة، لا تكون له توبة وبالتالى لا تكون له مغفرة. ولعلك تقول: فإن تاب هذا الإنسان قبل موته؟ أقول لك: حينئذ لا تكون خطيئته تجديفاً على الروح القدس. لأن الروح القدس. لأن توبته دليل على أنه قبل أن يعمل فيه روح الله للتوبة. وهكذا لا يكون رفضه للروح رفضاً كاملاً مدى الحياة... وهنا نتذكر صرخة داود النبى في المزمور التوبة، إذ يقول:
"لاَ تَطْرَحْنِي مِنْ قُدَّامِ وَجْهِكَ، وَرُوحَكَ الْقُدُّوسَ لاَ تَنْزِعْهُ مِنِّي" (سفر المزامير 51: 11).
هنا الخوف من أن يفارقة روح الله تماماً، بغير عودة!! كما حدث لشاول الملك الذى قيل عنه " وذهب روح الرب من عند شاول. وبغتة روح ردئ من قبل الرب" ( 1صم16: 14). لذلك استولى عليه الشيطان. ولم ناح عليه صموئيل النبى، قال له الرب " حتى متى تنوح على شاول، وأنا قد رفضته" (1صم16: 1).
إذن التجديف على الروح القدس، هو رفض من الإنسان لروح الله، رفضاً كاملاً مدى الحياة... يؤدى إلى رفض الله لهذا الإنسان، فيتسلمه الشيطان بالتمام...
وقد يحاول الشيطان مراراً أن يوهم البعض أنهم قد وقعوا في التجديف على الروح القدس، لكيما بهذه الحرب يوقعهم في اليأس، فيستسلمون له، على اعتبار أنه لم يعد لهم خلاص... لكن طالما كان الإنسان حياً في هذا الجسد، فمازال باب التوبة والخلاص مفتوحاً أمامه، كما كان مفتوحاً أمام اللص على الصليب.

الفصل العاشر: لا تطفئوا الروح

54- لا تطفئوا الروح
لا تطفئوا الروح [1تس 5: 9 ]
الروح القدس يعمل فينا، ويمنحنا حرارة روحية. ولكنه لا يلغى حريتنا فلنا الحرية أن نحتفظ بهذه الحرارة، أو نطفئها.
الروح القدس لا يرغمنا على عمل الخير، إنما يحثنا عليه ويرشدنا إليه. ويعمل معنا إن عملنا الخير.
وكلما نشترك مع الروح القدس، وتعمل أرواحنا معه، تزداد حرارته في قلوبنا اشتعالاً، وتدفع الفكر والارادة، وينمو الإنسان بعد يوم في حياة الروح. وتلتهب فينا محبة الله... ولكننا عملياً لا نحتفظ بهذه الحرارة الروحية على الدوام. فكثيراً ما تخف أو تنطفئ غي داخلنا.
نقص الحرارة الروحية، يتسبب عنه الفتور الروحى.
وضياع هذه الحرارة بالتمام، يسبب البرودة الروحية.
وكلاهما خطر على حياة الإنسان وروحياته. وغالباً ما تكون مقدمة للسقوط في الخطية إذ يقدمان الوسط الذى يمكن أن يعمل فيه الشيطان، بدون مقاومة من إرادة الإنسان...
وانطفاء الحرارة الروحية، ينطبق عن معنيين هما:
1 انطفاء الشعلة المقدسة التى في روحك البشرية، التى تميل بطبعها إلى الخير ، إذ قد خلقت على صورة الله.
2 انطفاء عمل الروح القدس في قلبك، نتيجة لرفض إرادتك أن تشترك معه...
ولاشك ان لا تطفاء الحرارة الروحية أسباباً خارجية وأسباباً داخلية. فما هي؟
55- أسباب خارجية لإطفاء الروح
مهما كانت خطورتها، ومهما كانت ضاغطة...
ما لم تضعف أمامها الارادة وتستلم وتلقى سلاحها... إذن لابد أن الداخل قد ضعف...
وضعفه هو الذى أعطى قوة لهذه العوامل الخارجية...
ذلك لأن هناك عوامل خارجية تثير في القلب النقى روح المقاومة، فتزداد حرارته رغبة في الانتصار.
وهكذا تكون الأسباب الخارجية قد أتت بنتيجة عكسية لما يقصده الشيطان منها.
وأيضاً لأنه في وجود هذه الحروب الروحية من الخارج، يزداد عمل النعمة من الداخل، والروح القدس يسند الإنسان وعن هذا الأمر قال الرسول:
"حيث كثرت الخطية، إزدادت النعمة جداً" (رو5: 20).
إذن السباب الخارجية، هى مجرد عامل مساعد
أما أن تكون البادئة، وتضغط وتلح، حتى تسبب ضعفاً داخلياً يقبل تأثيرها، وأما أن تنتهز فرصة ضعف داخلى موجود عن طريقة أن تأتى بنتيجة...
56- البيئة الخاطئة وإطفاء الروح
1 في مقدمة السباب الخارجية: البيئة الخاطئة، والجو غير الروحى...
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك، ما حدث للوط البار في أرض سادوم، إذ قال عنه الكتاب " إذ كان البار بالنظر والسمع وهو ساكن بينهم يعذب يوماً فيوماً نفسه البارة بالأفعال الأثيمة" (2بط2: 8). بل كان لابد أن يخرج هذا الرجل البار من تلك البيئة. وهكذا قال له الملاك:
" اهرب لحياتك... ولا تقف في كل الدائرة" (تك19: 17).
لقد فقط لوط حرارته الروحية في أرض سادوم. وكلماته فقدت حرارتها وتأثيرها لذلك قيل عنه حينما دعا أصهاره إلى الخروج من سادوم، إنه " كان كمازح في اعين أصهاره" (تك19: 24).
إن البيئة الشريرة قد لا تكتفى بإطفاء الروح، بل قد يزداد تأثيرها وتستطيع أن "تفسد الأخلاق الجيدة" (1كو15: 33). وربما تؤثر على الإيمان ذاته! وعلى كسر النذر!
يدخل في البيئة أيضاً وتأثيرها: ما يطفئ الروح من داخل الأسرة، كما قيل " إن أعداء الإنسان أهل بيته" (متى10: 36). وكذلك الصداقات غير البريئة، ويعض الزملاء. وأيضاً تأثير أهل القراءات، وبعض وسائل الاعلام، وكل تأثير يأتى من الخارج ويطفئ الروح...
ومن أبرز الأمثلة في ذلك: سليمان الحكيم وشمشون الجبار.
· سليمان الذى تراءى له الله مرتين: في جبعون وفي أورشليم (1مل8: 2). وأخذ من روح الله الحكمة. حتى أنه لم يكن مثله قبله، ولا قام بعده نظيره" (1مل3: 12). . هذا الحكيم لم يفقد حرارته الروحية، وإنما بالأكثر " أمالت نساؤه قلبه ... وراء آلهة آخرى" (1مل11: 3، 4)...!!
· وشمشون الذى كان " روح الرب يحركه" (قض13: 25)... كسر نذره بالبيئة الخاطئة ومعاشرة دليلة. فكسر نذره، وانطفات حرارته " والرب فارقه ".
" وفارقته قوته" (قض16: 19، 20).
لذلك كله، وبسبب خطورة البيئة الخاطئة على الروح:
أمر الله بعدم مخالطة الأمم غير المؤمنة والنساء الغريبات.
يدخل في البيئة وتأثيرها: ما يطفئ الروح من داخل الأسرة، كما قيل " إن أعداء الإنسان أهل بيته" (متى10: 36). وكذلك الصداقات غير البريئة، وبعض الزملاء وأيضاً تأثير القراءات، وبعض وسائل الاعلام، وكل تأثير من الخارج يطفئ الروح.
يضاف أيضاً إلى تأثير البيئة في اطفاء الروح:
2 تأثير المشاكل والأحداث والاهتامات:
57- تأثير المشاكل والأحداث في إطفاء الروح
كل إنسان في الدنيا، حياته معرضة للمشاكل والأحداث. فهل بالضرورة يتعرض تبعاً لذلك إلى انطفاء حرارته الروحية؟ كلا بلا شك. إذن أين يمكن الخطر الروحى؟
تتسبب المشاكل في إطفاء الحرارة الروحية، إذا ما استقبطت الإنسان، واستولت على فكره ومشاعره.
أى أن المشكلة تستحوذ على اهتمامه، بحيث تشغل كل وقته وكل تفكيره وكل احساساته. وهكذا قد لا يبقى له وقت للصلاة. وإن صلى يسرح فكرة في المشكلة!! وهكذا يطفئ الروح وعمله فيه، لأنه غير متفرغ لأى عمل روحى. وقد استولت المشكلة عليه بالتمام ايضاً إلى القلق والاضطراب والحيرة...!
اما الشخص الروحى، فإن المشاكل تعمق صلواته بالأكثر، ولو من أجل حلها. فتزداد حرارته.
هو يطرح المر امام الله، ويتركه له ليحله. وبكل إيمان وبكل حب، يثق أن الله سيحل الاشكالات... وهكذا ينتصر على المشكلة بروح الصلاة والإيمان، ولايسمح لها بأن تنتصر عليه... ويبقى كما هو محتفظاً بحرارته. لايفكر في المشاكل، لأنه واثق أن تنتصر عليه... ويبقى كما هو، محتفضاً بحرارته. لا يفكر في المشاكل، لأنه واثق أن سيعمل عملاً..
إذن ليست الخطورة في المشكلة، وإنما في الأسلوب الذى نتعامل به مع المشكلة.
داود النبى كانت تحيط به المشاكل، فيسرع إلى مزماره وإلى عوده، ويسكب نفسه في حرارة أمام الله، حتى في الوقت الذى كثر فيه الذين يحزنونه، وقالوا له: ليس له خلاص بإلهة!! (مز3)... داود لم يفقد حرارته في وقت الشدة، لأنه لم يكن ينحصر فيها، إنما كان يلجأ إلى أحكام الله وشهادته وناموسه، يتأمل فيها. فترتاح نفسه، وتزداد حرارته. هوذا يقول:
" ضيق وشدة أدركانى. ووصاياك هي درسى" (مز119).
ويقول في نفس هذا المزمور الكبير " كادوا يفنوننى على الأرض، أما أنا فلم أترك وصاياك " " اذكر لعبدك كلامك الى جعلتنى عليه اتكل هذا الذى عزانى في مذلتى" "جلس الرؤساء وتقاولوا على. . أما عبدك فكأن يهتم بحقوقك، لأن شهادتك هي درسى" . بقى في تأملاته، ولم يهتم بما يتقاول به الرؤساء عليه... وفي شهادات الرب وفي كلماته يجد العزاء. وتزداد عليه... وفي شهادات الرب وفس كلماته، كان يجد العزاء. وتزداد روحه حرارة وحباً.
ليت كل المشاكل تدفعنا إلى الصلاة بكل حرارتها، ولا تدفعنا إلى التفكير والقلق ...
القديسون كانوا محاطين بمشاكل. لكنهم كانوا محاطين بروح الله أيضاص، هو يحلها لهم ويعزيهم، لأنه هو الروح المعزى (يو14: 26).
إن الشيطان إذا رأى أن المشاكل تربنكا وتفقدنا حرارتنا الروحية، فلا مانع عنده من أن يقدم لنا كل حين مشكلة جديدة ننشعل بها ونتفرغ لها!! ولكنه لايفعل ذلك إذا وجد أن المشاكل تقودنا إلى الصلاة...
58- كلام الناس قد يُطفئ الروح
3 مما يطفئ الروح أيضاً، كثير من كلام الناس:
وبخاصة الأحاديث غير الروحية، والفكاهات العابثة، وكلام اللهو، ومسك سيرة الناس، وما أشبه ذلك... كل هذه الأنواع من الكلام السائب غير المنبط، التى تتيه الإنسان عن أبديته وتشتت فكره وتبرد حرارته وتساعده على الاشتراك في الخطأ، وتقلل حرصه وتدقيقه وكما قال الكتاب:
" كثرة الكلام لاتخلو من معصية" (أم10: 19).
ولهذا قال أحد الآباء في بستان الرهبان: إذا أنت مشيت مع إنسان صالح من قلايتك إلى الكنيسة، يقدمك عشر سنوات. وإذا مشيت مع إنسان منحل يؤخرك خمسين سنة! ما أكثر ما يتحدث معك أحدهم، فتتركه وقد فقدت الكثير من روحياتك، وتجد حرارتك قد انطفأت! وقد تخرج من القداس متغرباً، وفي حالة روحية، فيقابلك أحد معارفك، ويفتح معك موضوعات متعددة، بعضها شائك جداً، فتدخل أفكار ومشاعر إلى قلبك، تطفئ ما نلته في القداس من حرارة وتعزية. ولذلك حسناً كان القديس مقاريوس الكبير، يقول للاخوة وهم خارجون من الكنيسة:
" فروا يا أخوة فروا "... ثم يضع يده على فمه ويقول " من هذا فروا "...
حقاً ما أفيد أن يحضر إنسان القداس الإلهى، ثم ينصرف مباشرة مستفيداً من النعمة التى قد نالها، وهارباً من اللقاءات التى تتم خارج الكنيسة، فى فنائها أو على أبوابها... هارباص من الأحاديث والاخبار والسير والفكاهات والتعليقات .. . التى تبرد حرارته.
إن الشيطان قد لايمنع الناس من الذهاب إلى الكنيسة، بل ينتظرهم خارجها ليبدد ما جمعوه!
منعهم من دخول الكنيسة حرب مكشوفه من السهل أن ينتصروا عليها. ولكنه ينتصينتظر خارجاً ويقول هلموا بنا نحكى. وفي حكاياته معهم " يعمل لهم غسيل مخ "، يضيع به كل ما أخذوه من بركة، أو على الأقل يطفئ حرارتهم. وهكذا كثيرون يذهبون إلى الكنائش، ويرجعون إلى بيوتهم بلا فائدة!
وما نقوله عن القداسات، نقوله أيضاً عن الاعتراف.
تذهب إلى أب اعترافك، وأنت مر النفس بسبب خطاياك، منسحق جداً، يعصرك الندم على ما فعلته. وتريد ان تأخذ عقوبات كنيسة تسحقك بالأكثر، وتريد أن تمارس تدريبات تقدم حياتك وتنميها. وتخرج من عند أب اعترافك، وأنت في هذه الحرارة الروحية، وفي الطريق يقابلك صديق ليحكى لك آخر الفكاهات التى سمعها... وتفقد حرارتك!! حقاً كما قال الحكيم في سفر الجامعة " للبكاء وقت، وللضحك وقت" ( جا3: 4). واضح أن يوم الاعتراف ليس هو يوم الضحك.

59- الحروب الخارجية قد تُطفئ الروح
4 من الأسباب التى تطفئ الروح أحياناً: شدة الحروب الروحية واستمرارها.
هناك حروب روحية تدعو إلى مزيد من الجهاد ومن الصلاة، بحرارة شديدة للتغلب عليها... ولكن هناك حروباً أخرى ضاغطة ومستمرة، وربما فوق الاحتمال العادى. وهذه إن لم تؤد إلى السقوط في الخطية فعلى الأقل تبرد الحرارة... وبخاصة حروب الفكر الحواس التى تستمر مدة طويلة... ولكن الله من مراحمه لا يدع هذه الحروب تسيطر، ويتدخل لإنقاذ عبيده...
تحدثنا عن الأسباب الخارجية لاطفاء الروح، ولاشك أن هناك أسباباً أخرى عديدة. ثم أن هناك أسباباً داخلية تطفئ الروح من داخل قلب الإنسان، أو في صميم حياته الخاصة فكره ومشاعره وشخصيته... نود أن نتحدث عنها.
60- أسباب داخلية لإطفاء الروح
يمكن أن يدخل في هذا الموضوع كل الأسباب التى تؤدى إلى الفتور الروحى:
ومن ضمن ذلك الكسل والتراخى والتهاون في كل عمل روحى.
61- الكسل والتراخي قد يطفيء الروح
فالانسان الروحى يتميز بالجدية والحماس في كل ممارسته الروحية، فإن بدأ يتكاسل عند الإنسان ربما يخترع له أسباباً يخترع له أسباباً كثيرة، ويجد له حججاً واعذاراً، وبالوقت قد يتحول إلى عادة أو إلى طبع. وقد يأتى وقت يحاول ان يقوم فيه من كسله فلا يستطيع!
ومن ضمن علاج الكسل: التغصب.
فيغضب الإنسان على العمل الروحى، ويغضب نفسه على ترك الكسل، حتى إن لم تكن له أية رغبة تدفعه إلى عمل مقدس... لذلك يقول ماراسحق: اغصب نفسك على صلاة الليل، وزدها مزاميراً. فإن كنت متعباً مثلاً بالنوم، لاتستسلم للتعب وتنام بدون صلاة. بل أغضب نفسك أن تقف وتصلى. وأطل صلاتك... وهكذا تغصب نفسك على قراءة الكتب الروحية وعلى الصوم وعلى السهر...
وإذا دعاك الروح إلى أى عمل مقدس، فلا تتباطأ ولا تؤجل فالتأجيل لون من الكسل ومن حب الجسد.
وهو يؤدى إلى اطفاء الروح، وإلى اطفاء اشتياق القلب إلى الوجود في حضرة الله، وهو يمنع الروح من تناول غذاءها الذى يقويها. ويدخل فيه أيضاً تأجيل التوبة، أو تأجيل الاعتراف والتناول. لقد التهب قلب فليكس الوالى، لما تحدث القديس بولس عن البر والتعفف والدينونة. ولكنه أطفاء هذه الشعلة المقدسة بتأجيله، وقوله اذهب الآن ومتى حصل لى وقت اتدعيك" (أع24: 25). بعكس ذلك الابن الضال في توبته... لما شعر بسوء حالته الرغبة، قال أقوم الآن واذهب إلى أبى وفي الحال قام وذهب إلى أبيه ولم يطفئ حرارة الرغبة في التوبة بالتأجيل. الراهب العمال الحار في الروح، إذا ضرب جرس نصف الكسل، ينهض بسرعة من فرشاة ويذهب إلى الكنيسىة. فإن تكاسل أو تراخى، يعود إلى نومه.
لا تحاول أن تغطى كسلك بالاعذار والحجج.
بل حاول أن تنتصر على نفسك وأن تنتصر على هذه الأعذار، وتثبت عدم جديتها. وخذ الحياة الروحية بنشاط وحرارة، ولاتطفئ الروح الذى فيك... وثق أنك إن تكاسلت، سيجد الشيطان فرصته، ويساعدك على مزيد من التهاون في روحياتك. يمكن أن يقول لك: ما فائدة الصلاة وأنت متعب، وليست لديك رغبة. ولاشك أنها ستخلو من الخشوع اللائق بالوجود في حضرة الله!
إن كسلك يشجع الشيطان على التدخل.
والكسل لاتصلح له المناقشة ولا الحوار، ولا تقديم الاعذار، ولا يعالجه سوى أن تغصب نفسك على النشاط. حتى إن بدأت الصلاة بغير رغبة، فستأتى الرغبة بعد لحظات. ولاشك أن النعمة سوف تفتقدك وتمنحك حرارة روحية.
كذلك لا تتراخ في طرد الأفكار الخاطئة.
إن تراخيت في طردها، ستقوى عليك وستزيد، وتأخذ سلطاناً عليك بسبب تكاسلك، وبسبب ابقائك عليها. . وأيضاً لأن عدم طردك لهذه الأفكار بسرعة، إنما يحمل رغبة داخلية في الاسترسال مع الفكر بسبب خطية كامنة تتغذى بالأفكار... وأنت بالتباطؤ طرد الأفكار، إنما تطفئ الروح.
المفروض في الإنسان الحار بالروح، إن تكون له حرارة في الاجابيات والسلبيات.
الحرارة في الايجابيات هي الحرارة في كل عمل روحى يشترك فيه مع الروح القدس. والحرارة في مقاومة السلبيات، هي الحرارة في طرد الآفكار الشريرة الخاطئة الغريبة، والحرارة في مقاومة الكسل والتراخى، وفي مقاومة كل شهوة خاطئة.
62- التقصير في الصلوات يُطفئ الروح
ومن الأسباب التى تطفئ الروح أيضاً: التقصير في الصلوات.
ما من إنسان وصل إلى الفتور الروحى، إلا ويكون قد بدأ بإهمال لصلواته ومزاميره. فالصلاة تعمق الصلة بالله، وتسبب حرارة في القلب من نحوه. لذلك لا تهمل صلواتك، حتى ولو كانت كلمة واحدة أو عبارة بسيطة.
فقد يحاربك الشيطان بأنه ليس لديك وقت. وهي حرب مكشوفة ومعروفة.
الصلاة لا تحتاج إلى وقت، إنما إلى قلب. تحتاج إلى قلب يشتاق إلى الحديث مع الله، ولو بكلمات قليلة لا تستغرق بعض الثوانى. ومحال أن تقول أنك لا تملك هذه الثوانى. وثق أنك إن بدأت، ستجد النعمة تعمل فيك لكى تكمل وتجد رغبة في قلبك أن تستمر وتتحول الثوانى إلى دقائق.
اهتم بصلوات النهار، وقت الانشغال ووقت الحروب الروحية.
ارفع قلبك إلى الله، ولو عبارة واحدة، مثلما فعل العشار (لو18: 13) ومثلما فعل اللص اليمين (لو23: 42). وستكون عبارة مقبولة، وتأتى بثمر كثير. ولا تظن أن صلاتك لا تكون مقبولة، إلا إذا كانت طويلة! كلا، فهذه حرب أخرى...
إن الله يريدك أن تتذكره، أثناء انشغالك بعملك الدنيوى.
فلا تنساه أثناء العمل، وأثناء الاتصالات والمشغوليات، ولا تكون في غربة عنه أثناء النهار، وقد ابعدتك عنه علاقات كثيرة!! مجرد عبارة "يا رب" تقولها أثناء عملك، وأثناء مشيك في الطريق، وعند تقابلك مع الناس... وهذه العبارة وحدها، إن قلتها من قلبك، ستمنحك حرارة روحية. ولا تستغرق وقتاً... كم بالأكثر لو قلت عبارة أو عبارتين من صلواتك، أو مزموراً له تأثير معين في قلبك وعواطفك...
أما غربتك عن الله، باهمالك للصلاة فإنها تطفئ روحك
وإذا لم ينشغل عقلك بالله، سينشغل بأشياء أخرى، لأنه لن يتوقف عن العمل. وهنا تدخل روحياتك في تعقيدات لا ندرى ما نتائجها... فلماذا تترك عقلك في فراغ روحى؟ لم لا تشغله بشئ نافع، ولو يتأمل في آية تحبها، أو بتأمل في فضيلة ما، أو في صفة من صفات الله الجميلة، فهذا الفكر الروحى، يشعل قلبك. بينما الفراغ يؤذيك.
اعلم أن الفراغ الداخلى يعطى فرصة للحروب الخارجية.
فيتعاون الداخل والخارج ضدك... انصحك أن تحفظ بعض الصلوات، أو بعض القطع من الأجبية، أو بعض آيات من الكتاب، وتردد كل هذا أو شيئاً منه أثناء النهار... وفي وقت الساعة الثالثة أو السادسة، ارفع قلبك ولو بصلاة قصيرة مناسبة، لمجرد ثوان معدودة... وتأمل ماذا ستكون النتيجة.
لا تجلس في الساعة الثالثة ككتلة مجمدة على كرسيك!!
ليس فيها أى حس روحى، أو اية حرارة. تأكد أن الشيطان قد أسس شركة كبيرة منتجة للفريزرات، ليجمد فيها أرواح الناس وقلوبهم، أو على الأقل يبردهم، خوفاً من الحرارة الروحية. فلا تعطه فرصة، وانشغل عنه بعمل روحى داخلى.
هذا هو الفرق بين الراهب العمال والراهب البطال، حسب تعبير البستان.
وليس المقصود بكلمة بطال أنه انسان ردئ. كلا. بل أنه أبطل العمل الروحى داخله...
لا تقتصر إذن في عملك الروحى في كل وقت، لئلا تنطفئ حرارة الروح فيك واعلم أن النار، إن لم تجد وقوداً، فلابد ستنطفئ ولو بعد حين، لذلك:
اضف وقوداً باستمرار إلى النار المقدسة التى وضعها الله في قلبك.
بالصلاة، بالتأمل، بالقراءة الروحية، بالالحان والترانيم والتسبحة، وبالاجتماعات الروحية، بالذكريات المقدسة، بالعمل الداخلى، بالفكر الصالح. وقل لنفسك: أنا إن أهملت إضافة هذا الوقود ستنطفئ حرارتى، وافتر أو ابرد، وأضيع... اعرف بالخبرة ما هي مصادر الحرارة بالنسبة إليك، ولا تبعد عنها مطلقاً. وإن فترت في وقت ما، لا تنتظر على نفسك، بل اشعلها لتلتهب كما كانت ...
اعط روحك غذاءها باستمرار.
في كل يوم، وكل وقت، وبكل ألوان الأغذية الروحية. غذها بكل الوسائط الروحية. واجعل روحك أيضاً تتغذى بالفضيلة وبالحب الإلهى، وبمداومة التفكير في الله وفي الأمور المقدسة. وبمعاشرة القديسين والتأثر بقدرتهم الصالحة. ولا تقل ليس لدى وقت للروحيات... فأنت تعطي وقتاً للتسليات والتفيهات وللحديث مع الأصدقاء ولقراءة الجرائد والحوار حول الأخبار، بل تعط وقتاً ربما لتفاهات عديدة. لماذا تحرم روحك إذن من غذائها؟!

63- الشهوات ومحبة العالم تُطفئ الروح
من الأمور الأخرى التى تطفئ الروح: الشهوات ومحبة العالم والجسد.
كل شهوة جسدية، وكل شهوة خاطئة، وكل شهوة عالمية... يمكن أن تطفئ الروح داخلك... شهوة الانتقام، وشهوة المال والقنية، وشهوة الكرامة والمجد الباطل، وشهوة الزنا، وشهوة المديح، وشهوة المتع العالمية... كلها تطفئ الروح الذى لك، لأنها تنقلك إلى غربة بعيداً عن الله وعن الجو الروحى.
تذكر إذن قول الكتاب...
" محبة العالم عداوة لله" (يع4: 4).
وبخاصة إذا كانت الشهوة تنتقل من القلب، لكى تشغل الفكر، وتلهب الحواس.. وتنتقل إلى الإرادة. وتحاول أن تعبر عن ذاتها بالتنفيذ. ويشعر الإنسان ليس فقط بأن روحياته قد فترت أو أنطفأت، بل بالأكثر قد سقط في الخطية فعلاً، وانفصل عن الله..  ".
عليك أن تبحث إذن: أية شهوة في قلبك قد أطفات روحك؟
وتحاول أن تقاوم شهواتك، وتجعل شهوة الروح تنتصر على الجسد (غل5: 16، 17) .
اصلح مسار الحب في قلبك، واجعله يتجه نحو الله والسمائيات. وكما قال الرسول "غير ناظرين إلى الأشياء التى ترى، بل إلى التى لا ترى. لأن التى ترى وقتية. أما التى لا ترى فأبدية" (2كو4: 18).
64- الانشغال باللهو يُطفئ الروح
مما يطفئ الروح أيضاً الانشغال باللهو.
اللهو الذى يشغل عواطفك ومشاعرك وحواسك ورغباتك، وفى نفس الوقت يلهبك عن محبة الله، وعن العمل الروحى.
وينشغل وقتك، بل ويصير هو المتعة التى تريحك وتبهجك وتسليك...
وهكذا تطفئ الروح، وبخاصة إن زادت عن حجها، وأصبحت وسائل اللهو هذه، أو وسائل الترفيه، تشكل خطراً على روحياتك.
أسأل نفسك:
ما هو مقدار الوقت الذى تشله هذه الترفيهات في حياتك؟
وما مقدار الوقت الذى تعطية لوسائط النعمة والروحياتك؟
وهل أنت تحفظ ميزان التأثيرات في حياتك؟
أم أن كفة الترفهات في هذا الميزان هي الرجحة؟!
65- التعريج بين الفرقتين يُطفئ حرارة الروح
مما يطفئ حرارة الروح في قلبك أيضاً: التعريج بين الفرقتين.
الأمر الذى حذر منه ايليا النبى (1مل18: 21). ففي التعريج بين الأمور، لا يكون لك خط روحى ثابت تسير عليه. لك اشتياقات روحية، ولك أيضاً طموحات عالمية . وأنت في الكنيسة عابد، وفى خارجها تسلك كالأمم. تصوم الصوم في نسلك. وفى العيد وفي الأفطار تسلك غي تسيب، تفقد فيه كل ما ربحته نفسك أثناء الصوم.
لك شخصيته مزدوجة، لاهي روحية خالصة، ولاهي عالمية خالصة.
فما يشعلك اليوم، يمكن أن ينطفئ غداً، أو في نفس اليوم، بعد حين. تعيش كالمراجيح. كما يقول المثل العامي "يوم في العالى، ويوم في الواطى"!! تعلو وتهبط. تشرق وتغرب. تسقط وتقوم. ثم تسقط...
وهكذا بغير ثبات... كل يوم بحال. وكل يوم في طريق مختلف. يوماً في أورشليم، يوماً في غزة، كما كان يفعل شمشون. حدد منهجك في الحياة، لتحفظ بحرارتك.
66- طياشة الحواس وطياشة الفكر تطفئ الروح
من الأسباب التى تطفئ الروح أيضاً طياشة الحواس، وطياشة الفكر.
والمعروف أن الحواس هي أبواب للفكر. فإن طاشت حواسك ستجمع لفكرك أخبارً وصوراً ، مما يجلبه لها السمع والنظر... فكيف غذن تحتفظ بحرارتك لنفسك حروباً تتعبك اجتهد إذن أن تتدرب على حفظ الحواس وجمع الفكر، لكى يتركز في الروحيات. لأنه إن كانت هناك طياشة في حواسك وفكرك، ستكون نتيجتها طياشة في صلاتك. بل طياشة للفكر في غير وقت الصلاة أيضاً... وكلها أسباب لاطفاء الروح.
67- أسباب أخرى تُطفئ حرارة الروح داخل القلوب
من الأسباب التى تطفئ الروح أيضاً: التحول السريع من الانسحاق إلى الفرح.
مثال إنسان كان في الخطية وتاب، وانسحق قلبه داخله، وبلل فراشة بدموعه. واقتنى من توبته وانسحاقه ودموعه حرارة في روحه... يأتيه إنسان ويدعوه إلى الفرح بالرب... وفي هذا الانتقال السريع من الانسحاق إلى الفرح، يفقد حرارته ... الفرح فضيلة روحية. ولكنه إذا اطفأ حرارة التوبة، يكون قد استخدم في غير وقته، وبغير حكمة. وينبغى أن تأخذ التوبة ما يلزمها من اتضاع وانسحاق وندم ولوم للذات ودموع، لكى تكون مصدراً للحرارة الروحية... حتى إذا فرح الإنسان، يفرح بالرب الذى خلصه. ولايكون فرحه لوناً من اللامبالاة...
كذلك الاسراع من التوبة إلى الخدمة، يطفئ الروح.
ويفقد التوبة حرارتها، ويفقدها ثمارها الروحية، التى تستمر في حياة الإنسان، وتمتد حياته، ولا تنسيه ضعفه وسقوطه.
يطفئ الروح أيضاً الانتقال من المستوى الروحى إلى المستوى العقلانى.
بحيث يتحول الدين إلى الفكر وإلى فلسفة، وإلى بحث وحوار. ويفقد المشاعر الروحية العميقة التى تلهب القلب بمحبة الله. ويتحول الإنسان من عابد إلى عالم بل تتحول الروحيات إلى علم اسمه علم الروحيات له منهجه ومقدماته ودراسته ومشاكله. وينشغل العقل وتقف الروح. فتنطفئ الحرارة...
مما يطفئ حرارة الروح أيضاً: مقاومة عمل الروح القدس في قلبك.
أو على الأقل عدم الشركة معه، وعدم الاستجابة له... وهذا موضوع طويل لست أظن هذه السطور تتسع له.
68- حلول الروح القدس على الإنسان أقنومياً، وما هو هذا الاتحاد الأقنومي؟
سؤال
هل يمكن أن يحل الروح القدس علينا حلولاً أقنومياً ؟
وهل يمكن أن يتجدد بنا اتحاداً أقنومياً؟
وما هو هذا الاتحاد الأقنومى، ومع من يتم؟
ج
نحن نستخدم عبارة أقنوم في الحديث عن الأقاليم الثلاثة، في الثالوث القدوس. وكل من هذه الأقانيم له الطبيعة الإلهية.
يوجد اتحاد بين الأقانيم الثلاثة.
كل أقنوم متحد بالآخر أزلياً، ودائماً بغير انفصال. ويعبر عن هذا الاتحاد بالوحدة. وهي وحدة في اللاهوت وفى الجوهر وفي الطبيعة. مثلما قيل عن الاقانيم الثلاثة " وهؤلاء اللاثة هو واحد" (1يو5: 7). ومثلما قال الابن "أنا والآب واحد" أى واحد في اللاهوت، وواحد في الجوهر...
ونقول بالتحاد اقنومى بين اللاهوت والناسوت في طبيعة المسيح.
ولا نقول باتحاد اقنومى بين أى إنسان والروح القدس، لأن هذا معناه اتحاد باللاهوت، وتصبح لهذا الإنسان صفات لاهوتية، ويمكنه أن يعمل العمل الذى لايمكن أن يعمله إلا الله وحده اقنوماً بروح الله.
على أننا نستطيع أن نقول إن الروح القدس حل حلولاً أقنومياً موقتاً على السيدة العذراء إلهى مزدوج.
أ ليصنع من أحشائها جسداً للسيد المسيح، ولذلك قيل عن السيد المسيح، ولذلك قيل عن السيد المسيح "الذى من الروح القدس ومن مريم العذراء تجسد وتأنس".
ب وأيضاً لتقديس مستودعها، حتى أن المولود منها لايرث الخطية الأصلية الجدية ، فيمكنه كقدوس أن يتمم عملية الفداء، إذ يموت عن عن خطية غيره... . وهكذا قال: الملاك المبشر للسيدة العذراء " الروح القدس يحل عليك، وقوة العلى تظللك . فلذلك أيضاً القدوس منك يدعى ابن الله" (لو1: 35).
والروح القدس بعد أن كون ناسوتاً من أحشاء العذراء، اتحد اقنوم الابن بهذا الناسوت اتحاداً أقنوماً، منذ اللحظة الأولى للحبل المقدس.
69- الفرق بين حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد وحلوله على التلاميذ
س
حل الروح القدس على السيد المسيح وقت العماد. وحل على التلاميذ فما الفرق؟ وهل علاقة السيد المسيح بالروح القدس تشبه علاقة الرسل به؟
ج
السيد المسيح من جهة لاهوته له علاقة ازلية بالروح القدس، أضيف إليها مسحه بالروح القدس ملكاً وكاهناً ونبياً.
وهكذا ورد عنه في نبوءة اشعياء "روح السيد الرب على، لأنه مسحنى" (أش61: 1) وقيل إنه مسح بزيت البهجة أفضل من رفقائه (عب1: 9). وهذه العلاقة المزدوجة يوضحها سفر اللاويين في تقدمه الدقيق التى ترمز إلى ناسوت المسيح فيقول عنها:
"ملتوته بزيت... ومدهونه بزيت" (لا2: 4).
الصفة الأولى من جهة الأزلية، والثانية من جهة مسحة للخدمة.
70- أنواع وضع اليد
س
ما الفرق في وضع اليد بين حالة وحالة؟
الجواب:
كان هناك وضع اليد لنوال الروح القدس لجميع المؤمنين.
مثلما حدث مع أهل السامرة (أع8: 17)، وأهل أفسس (أع 19: 6). لما تم وضع اليد بواسطة الرسل، حل الروح القدس. وضع اليد هذا، حلت محله المسحة المقدسة (1يو2: 20، 27)، وحالياً نستخدم زيت الميرون.
ويوجد وضع يد آخر لنوال الكهنوت.
مثل وضع اليد على تيموثاوس بولس الرسول (2تى1: 6)، ووضع اليد على برنابا وشاول (أع13: 3). كذلك وضع الأيدى على الشمامسة ليكونوا من الاكليروس (أع6 : 6). وتتوقف الدرجة هنا على نوع الصلاة، والنطق.
ويوجد وضع يد للشفاء.
كما في (لو4: 40).
ووضع يد أيضاً للبركة... مثلما وضع يعقوب أبو الآباء يديه على افرايم ومنسى وباركهما (تك28: 14 20).

Home  عودة