الاعتراضات على سفر نشيد الأناشيد والرد عليهـا

مقدمة

سفر نشيد الأناشيد والشعر

هل كُتب سفر نشيد الأناشيد بلغة مُبتذلة

ماهو التصـوف

العلاقة بين التصوف وسفر نشيد الأناشيد

العشق الإلهى والإبتداع فى الدين

ألفاظ سفر نشيد الأناشيد ومعانيها السامية

أوصاف الجسم

تعبيرات يُقال عنها لاتليق بكتاب من الله

سفر نشيد الأناشيد وجـنة حور العـين والولدان المخـلدين

الجنة فى القرآن والأحاديث والتفاسير

حور العين وعملهم فى الجنة

الولدان المخلدون ودورهم فى الجنة

الخمر فى الجنة

الفاكهة ولحم الطير فى الجنة

 مقارنة بين ماقيل فى الجنة ونشيد الأناشيد

كلمة ختامية

حمل هذا الكتاب

عودة للرئيسية

الفصل الثالث

العلاقة بين التصوف وسفر نشيد الأناشيد

 

   الواقع إن العلاقة وطيدة بين ما وضحته عن التصوف الروحي وسفر نشيد الأناشيد، وسر هذه العلاقة يكمن في أن جميع الاتجاهات الصوفية الروحانية لها قاعدة واحدة وهي الحب الإلهي أو كما يفضلون أن يسموه العشق الإلهي. وإذ لم يسعفهم النثر للتعبير عن التجربة الوجدانية العميقة، فعبروا عن شعورهم الجارف بما يعرف بشعر الغزل المقدس. وهذه هي التهمة الموجهة إلى سفر نشيد الأناشيد، فإذا ما عرف المعترض أساس شعر العشق الإلهي بطل استعجابه.

  

 فسفر نشيد الأناشيد في الكتاب المقدس هو قصيدة شعر باللغة العبرية ، شعر صوفي روحاني، تماما مثل ما في التصوف الإسلامي من قصائد الشعر الصوفي، أمثال قصائد رابعه العدوية، وابن عربي، وابن الفارض، وذي النون المصري، وغيرهم.

 

وقصائد الشعر الصوفي كما قلت تتحدث عن العلاقة الحبيَّة والعشق الإلهي بين الإنسان وبين الله.

 

 ولا يخفى على القارئ أن الشعر عموما، والشعر الصوفي خصوصا، يتميز بالصور البلاغية، والتعبيرات الرمزية المجازية، أي أنه مملوء بالتشبيهات والاستعارات والكناية والتورية، وهي كلها أساليب أدبية بلاغية راقية، للتعبير عن المحبة الإلهية السامية. ولا تؤخذ كلمات الشعر بالمعنى الحرفي المادي، وإلا ما كان شعراً.

فإذا ماوضعنا هذا الاعتبار في قراءتنا لسفر نشيد الأنشاد، بطل الإدعاء بأنه شعر غزل فاضح، فلا يقول هذا القول سوى متخلف عن ركب الثقافة والمعرفة.

 

ولكن هل صحيح أن نشيد الأنشاد رسالة من الملك سليمان موجهة إلى عشيقة له؟

هذا كلام غير صحيح. ولا يقول به إلا إنسان ساذج، لا يعرف معنى العشق. فالعشق تشوق واشتياق، والاشتياق رجاء، والرجاء رغبات بعيدة المنال يسعى الوَلْهان جادا ليحققها، أما الملوك فلا ينطبق عليهم ذلك، فليس شيء بعيد المنال بالنسبة لهم، إذ هم قادرون أن يحققوا كل ما يرغبون، وأن يبلغوا بالقوة إلى كل ما يرجون، وشعارهم: "وما ملكت أيمانكم". فأيمانهم طائلة، بل متطاولة حتى إلى زوجاتِ أبنائهم، فليس لديهم مشكلة، لتُدْخلَهم في دائرة العشق والتلهف والوَلَه. فالواقع  هو أن الملوك لا يعشقون، ولكنهم عندما يشتهون يملكون. ومن هنا جاء تعدد زوجاتهم وسراريهم وما ملكت أيمانُهم.

 

وعندما نرى ملكا عاشقا كسليمان، فمن المؤكد أن عشقة ليس موجها إلى إمرأة يستطيع أن ينالها، فلابد أن عشقه موجه إلى محبوب بعيد المنال: إلى الله ذاتِه. فأشواقه البعيدة المنال التي يصبوا إليها، ويسعى متلهفا حتى تتحقق، هي اللقاء الحبي مع من تحبه نفسه. اسمعه يقول في هذا السفر الروحي: "أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه ... اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك، لأن المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالهاوية، لهيبها لهيب نار لظى الرب، مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة، والسيول لا تغمرها، إن أعطى الإنسان كلَّ ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارا" (نشيد 7: 10، نشيد8: 6،7) .

 

هذه النغمة العاشقة الولهانه نراها تلون أيضا شعر العشق الإلهي الصوفي بكل وضوح، فاسمع هذه الأبيات لشاعر صوفي مسلم عن شوقه للقاء الله، وهو يقول:

أنت سؤلي وبغيتي وسروري   قد أبى القلبُ أن يَحِبَّ سـواكا

يا حبيبَ القلبِ من لي سواكا    فارحـمَ اليومَ مذنبـا  قد أتاكا

يا مناي وسيدي واعتمـادي   طال شوقي ـ متى يكون لُقاكا

ليس سؤلي من الجِنان  نعيمٌ    غيــرَ أنـي أريـدُهـا لأراكا

 

هذا هو العشق المقدس للمحبوب بعيدِ المنال، وهذه هي الأشواق المشبوبة المتوقدة لرؤيته.

 

ويقول في ذلك أيضا الدكتور عبد الرحمن بدوي: يُحكى عن رابعة العدوية أنها كانت تنوح باستمرار، فسئلت: لماذا تنوحين وأنت لا تشكين ألما؟ فأجابت: وا حسرتاه! الْعلَِّةُ التي أشكوها ليس مما يستطيعُ الطبيبُ علاجَه. إنما دواؤها الوحيد رؤية الله. وما يعينني على احتمال هذه العلة إلا رجائي أن أحقق غايتي هذه في العالم الآخر." (ص76) .

 

أفبعد هذا يجرؤ أحد أن يقول أن سفر نشيد الأناشيد رسالة من الملك سليمان إلى عشيقة له؟!  حاشا، فسفر نشيد الأناشيد كما قلنا هو قصيدة شعر صوفي روحاني كتبها بالوحي سليمان الحكيم المتيم بالعشق الإلهي، يصف خلجاتِ نفسه في علاقتها بحبيب الروح وخالقِها، وهو رغم جبروته وحكمته وغناه، لكنه يقف عاجزا وفقيرا أمام أشواقه المتعطشة إلى حب الله والتمتع برؤياه.

ولعلك تتساءل قائلاً أنه إن كان نشيد الأناشيد هو علاقة عشق، فمن هو العاشق ومن هي العشيقة؟ .

إن سفر النشيد يمثل العلاقة الحبية المقدسة بين الله والنفس البشرية المتيمة بعشقه، فهذه العلاقة الحبية هي موضوع الشعر الصوفي عموما، وموضوع سفر نشيد الأناشيد على وجه الخصوص.

 

هذه العلاقة الحبية قد وُضِعَت في قالب مجازي بليغ، قالب العلاقة الشرعية التي توحد وتؤلف بين العريس وعروسه. فشُبّهت النفس البشرية بعروس وشبه الله بالعريس. وهذا ما قال يوحنا المعمدان: "من له العروس فهو العريس" (يوحنا 3: 29) وبولس الرسول قال: "خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو11: 2).

 

وبنفس الصورة البليغة كانت علاقة رابعة العدوية المتصوفة المسلمة بالله، إذ يقول الدكتور بدوي عنها في كتابه [شهيدة العشق الإلهي: رابعة العدوية ص 26] "لقد بدأت رابعة تستشعر الحب لله، وإنه لينمو، وتواكبه مشاعر مختلفة، لعل من بينها، ومن أقواها الشعور بأنها نذرت نفسها لهذا المحب الأسمى" ويواصل حديثه قائلا: "وعما قليل ستعلن خطبتها إليه، ولعل ذلك أن يفضي في النهاية إلى الزواج الروحي بينها وبين الله"  ـ الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية" (ص26) .

 

ألا ترى معي أن هذا تعبير غريب وصعب أن يقبله أي إنسان؟

بالتأكيد هو في غاية الصعوبة، وهذا ما دعى الدكتور بدوي أن يعلق قائلا: "هذا نص على أكبر درجة من الخطورة لأنه يتحدث عن وجود فكرة الزواج من الله والاقتران به لدى الصوفيات المسلمات حتى منذ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، وهي الفكرة التي لعبت دورا خطيرا في التصوف المسيحي" ـ الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتاب "شهيدة العشق الإلهي رابعة العدوية" (ص 27) وتصديقا لكلام الدكتور بدوي نقول أن آباء الكنيسة كانوا يسمون العلاقة الحبية مع الله بالزيجة الروحانية.

 

هل فطنت الآن لتعرف من هو العاشق ومن هي العشيقة؟ إنها النفس البشرية في عشقها المقدس لله السامي غير المحدود. وهذا ما كتبه الأستاذ مأمون غريب عن رابعة العدوية بهذا الشأن فقال "فإذا مستها هذه الشرارة المقدسة شرارة الإغاثة لتتجه إلى نور الهداية فإذا بها تنقاد نحو هذا النور .. وتغرق فيه .. وتشدو بحبيبها الذي لا يعادله حبيب .. إنه الخالق العظيم .. (كتاب رابعة العدوية في محراب الحب الإلهي ص5).