شكراً بن لادن

سيد القمني

بن لادن شكراًً !!

ولعل الأهم فيما حدث بجريمة القاعدة في 11 سبتمبر 2001 ، و الأشد خطرا و الأبعد أثرا ، هو إفاقة العالم الحر وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية على الخطر الذي يهدد كل مكتسباتها خلال القرون الماضية ، و إدراكها أي جناية ارتكبت في حق شعوبنا بتحالفها مع أشد الأنظمة قمعية و استبدادا ، و مع تيار الإسلام الإجرامي ، و من ثم قرارها التدخل في مواطن الإرهاب لإصلاح شأن هذا الوطن و خاصة الثقافة السائدة فيه و التي أفرزت لها هذا الإرهاب . و يصدق هنا المثل العربي ( رب ضارة نافعة ) صدقا عظيما ، لأن ما أصاب أمريكا ، رغم بشاعة الفعل و فظاعته ، كان السبب في استفاقتها و قطعها تحالفاتها المجرمة ضد شعوبنا ، بل و إدراكها ألا سبيل سوى تحديث الثقافات عندنا ، بعد أن كنا قد فقدنا كل الآمال في حدوث أي تغيير في مواطننا ، بعد أن تحولت لغة الإعلام و التعليم و شعبيا و رسميا إلى لغة طائفية عنصرية بحت ، بل إلى أسوأ لغة متخلفة تم اختيارها بين مئات الاختيارات الأخرى و القراءات الأخرى للإسلام مع سيادة ذهنية خرافية ضاعت معها كل مواصفات التفكير العلمي .

9

و بين اليأس و القنوط ، و صعود نجم الجهلاء و المستفيدين من آلام الوطن وأوجاع الناس ، و حصار أنصار الحريات بالتهديد أو القتل كما حدث مع فرج فودة . أو التكفير و التخوين العلني و المحاكمة أمام محاكم الدولة و أمنها كما حدث مع صاحب هذا الكتاب . أو مصادرة الكلمة و حصار الفكرة كما حدث مع كثيرين … مع استشراء الفساد في كل ركن من بلاد العرب و المسلمين ، و ضياع هيبة القانون . و ارتشاء كل أنواع السلطات ، و خراب الضمائر ، حتى أشرف الوطن على هلاك .. في هذا الوقت الشديد الظلمة يقوم بن لادن بالفعل الهائل ليتغير معه وجه العالم و خط سير التاريخ .

فشكراً ….بن لادن

10

 

القسم الأول:

ممنوع من النشر

الموضوعات التالية لم يقيض لها النشر في حينها وقت سخونة الأحداث ، بعد أن رفضتها كل الصحف مستقلة أو حزبية ، يمينية أو و سطا أو يسارية ، و بالطبع الحكومية جميعا . و بعضها اتصل رئيس تحريرها بالمؤلف ليبدي احترامه و أسفه اللطيف مع استعداده للنشر إذا قام المؤلف ببعض التعديلات . و من يومها و هي حبيسة أدراج مكتب المؤلف حتى تم نشرها في هذا الكتاب .

 

حكاية سعد الدين

و قد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحول ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل . بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت و تألمت كما يتألم الأجهر من النور . و إذا ألزمت بالحرية تشقى و ربما تفنى كما تفنى البهائم الأهلية إذا أطلق سراحها و عندئذ يصير الاستبداد كالعلق يطيب له المقام على امتصاص دم الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت و يموت هو بموتها .

" عبد الرحمن الكواكبي "

توطئة لابد منها :

قبل اعتقال الدكتور سعد الدين إبراهيم صاحب مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية لم أعرف سعدا و لم ألتقه مرة واحدة ، لكني كنت أتابع ما يكتب في كتبه و في مجلة المجتمع المدني الصادرة عن مركزه . كذلك لم تربطني بسعد صداقة ، و لا حزب سياسي فأنا لا أنتمي لأي جماعة أهلية أو حزبية أو حكومية أو وظيفية كما لا تجمعني به طبقة اجتماعية فالفرق هنا هائل ، و لم يسبق أن وجهه لي دعوة لحضور منتداه ( رواق ابن خلدون ) لا محاضرا و لا مستمعا ، فلم أعرف حتى الآن أين يقع مركزه بالضبط و لا رأيته . عرفت سعدا فقط عندما تم اعتقاله ، و هنا كان موقفي اتساقا مع المبادئ ضد محاكمة مفكر على فكرة أو سياسي على نضاله السلمي في سبيل ما يعتقده . فسعيت إلى بيته أدور في دهاليز المعادي التي أجهل دروبها و مسالكها ، لأضع يدي بيده مؤيدا يوم الإفراج عنه بعد الاعتقال و قبل المحاكمة ، و معبرا عن تضامني ، لأن ضميري ككاتب كان قد اتخذ قراره ، ذلك القرار الذي وقفت في خلفيته عملية التشويه و الاغتيال المدني الكبرى للرجل قبل صدور أي أحكام بشأنه . و لا تعني هذه الدراسة بالدفاع عن شخص سعد ، إنما يشغلها حالة مثقف مصري يخوض معركته لأجل أهداف معلنة بالطرق السلمية . حالة ترمز لأي مثقف في بلادنا قد يضطره قلمه أو موقفه إلى الوقوف في قفص الاتهام . و يشغلها أيضا قراءة لواقع تعامل مؤسسات الدولة مع حالة سعد الدين ، و كيف ارتكبت من الأخطاء فوادحها ، باستبداد كان المظلة لحملة التشويه الإعلامي ، التي كان الصوت القمعي فيها أعلى كثيراً من صوت الحق . و حوكم سعد و حكم بسنين سبع … و يقال في بلادنا إنه لا معقب على حكم قضائي و إلا كانت العقوبة سجنا ( ؟ ‍) و لا علم لي بشئون قانون

17

يحكمنا و نجهله . و لا أعلم إن كان هذا مجرد شائعة تهديديه رائجة سرت مسرى الحقائق لكثرة ترديدها . أم هي حقيقة صادقة قانونيا فعلا ، لذلك و توقيا لشر سجن و إذلال إنساني لن يحتمله جسدي المحمل أصلا بكل ما اكتشفه العلم من أمراض ، و ما لم يكتشفه بعد ، سأعمد هنا إلى الحديث في منطقة ما قبل صدور الحكم ، و بعيدا عن المحكمة و القانون ، و هي منطقة كافية فيما أعتقد لو أعملنا فيها الإنصاف و المبادئ المحترمة لأنصفنا أي مفكر يتم اعتقاله كما في حالة سعد الدين و هو رجل علم اجتماع في مجتمع يعاني مشاكل مجتمعية أزلية و يحتاج إلى ألوف من رجال علم الاجتماع و علماء النفس ، ناهيك عن المنهج العلمي ذاته في التفكير المفتقد من مستوى رجل الشارع إلى مستوى مؤسسات الدولة . هناك كلمة أخيرة في هذه التوطئة و هي ما أثير حول علاقة ابن خلدون بالدولة الإسرائيلية . و ما حدث بعد سجنه من احتجاج إرييل شارون على أوضاع مصر الداخلية لصالح منظومته ، و هو الأمر الذي ربما أدى إلى إحجام كثيرين عن الكتابة خشية الاتهامات المعتادة بالعمالة و الهيمنة و الخيانة .. الخ . و هنا لابد من توضيح موقفي بشكل شفاف . فأنا رجل فكر و لست رجل سياسة بالمعنى الحركي ، و لم يسبق لي زيارة إسرائيل أو أي من هيئاتها التمثيلية بمصر و لا خارج مصر ، لكن الفكر إذا لم ينفصل عن السياسة فإن ما أزعمه هو الحديث في نظرية المعرفة للرؤية السياسية و ليس العلم السياسي الناشط . و موقفي المعلن هو ضد احتلال أي أرض بالقوة ناهيك عن استعمارها إحلاليا بإحلال بشر فيها محل بشر . و أن المقاومة بكل الألوان الممكنة هي المشروع الأول لأصحاب الأرض المحتلة . أما مشروع الحرب النظامية بين الدول العربية و إسرائيل فهو الخبل بعينه ، بعد أن أوصلنا سادتنا العناتر إلى مستوى لا يمكن فيه الحديث عن حرب ، ناهيك عن حاجة بلادنا إلى السلام من أجل بناء المجتمع المدني الذي نحلم به و بعدها يكون لكل مقام مقال . و ما قيل بشأن علاقات مركز ابن خلدون بإسرائيل اختلط فيه التهويل بحملة التجريس العلني مما يجعل اتخاذ أي موقف بشأنه بهذا الصدد بغير حقائق ثبوتية لونا من الشطط غير المحمود ، أما إذا كانت لسعد لقاءات مع شخصيات إسرائيلية من دعاة السلام ، من باب دفع الموقف الإسرائيلي إلى بعض التنازلات ، في ضوء خواء الوفاض العربي ، و لتحصيل الممكن من خلال تفعيل النشاط السلامي في مجتمع الديمقراطية الإسرائيلية المتاحة ، فأعتقد أنه أمر لا يمكن لوم سعد عليه .

18

عجالة نظرية تمهيدية

اللا معلومة و السلطة القامعة

المعلومة / المعرفة / هي تلك التي يمكن مناقشتها و الجدل معها للتحقق من صدقها ، وردها بمعلومة أحدث أو أدق أو أصدق . و الصدق هنا إما بقياسها على قوانين العقل دون البدء من مسلمات مطلقة خارج الواقع ، أو بمدى مطابقتها للواقع التجريبي و إمكانات تفعليها فيه ، و إلى أي حد هي نافعة و تحقق مصالح أو بمدى ضررها . لذلك هي قابلة دوما للتغيير و التجدد و التطور بالإضافة و التحديث . فهي تراكمية متصلة ، لا مطلقة مفارقة منقطعة ، تصلح دوما للانتفاع بها بغض النظر عن عنصر أو طائفة أو وطن منتجها أو مستهلكها ، لأنها تقدم مشروعية الاتفاق حولها بذاتها . و لم يتم تحديد معنى المعلومة إلا مع اكتشاف المنهج العلمي في التفكير ، بعد أن ظلت الإنسانية تخلط الإخيولة بالموضوعات الإيمانية ، و الغيب بالواقع ، و المرض العضوي بالمس الشيطاني و أضغاث الأحلام بالتمنيات و الينبغيات اللا محققة . حتى إنه تم استخدام القياس الأرسطي / الاستنباطي العقلي / لضبط النتائج وفق الشروط الشكلية لهذا المنطق ، لكن انطلاقا من مقدمات باطلة تماما للوصول إلى نتائج أشد بطلانا بشروط منطقية شكلية سليمة تماما . استنادا إلى مرجعية صدق الأوائل و أصولهم الثوابت . و هو ما نرى صداه في الفلسفة المسيحية ثم في نظيرتها الإسلامية ، حيث جعلت تلك المرجعية للمعلومة دينا تصدق أو تكذب بشروطه . و قد مرت المعلومة / المعرفة عبر مناطق زمنية تحققت بها و لها فتوح كبرى من النهضة الأوروبية إلى الثورة الصناعية إلى التكنولوجية إلى ثورة المعلومات و الاتصالات إلى هندسة الجينات . متصاحبة مع منحينات كبرى في العلوم الإنسانية و علوم النقد التاريخي . مفرزة رقيا إنسانيا ترك بصماته في معاني الحريات الليبرالية العلمانية . كالتسامح و حرية الاعتقاد و التفكير و تبادل المعلومات و المعارف ، بغرض بلوغ الكرامة الإنسانية المتكاملة . و من ثم تميزت الرؤية الكوزمولوجية اليوم بالثقة في قدرة الإنسان على صنع مصيره الأفضل بالرقي و التقدم مع توسيع دوره في الكون ، مما حرره من الإيمان بخرافات ما قبل المنهج العلمي و العصبيات العنصرية ، و الطائفية ، التي أهدرت في خلافتها من دماء البشرية و من الفظاعات أكثر مما حدث في أية خلافات أخرى بما لا يقاس أو يقارن .

19

هذا ما حدث في دول العالم المتقدم ، فماذا حدث عندنا ؟

حتى اللحظة الراهنة تحرص مناهجنا على تصوير نبي الإسلام بأنه أمي لا شأن له بالمعرفة أو الثقافة قبل الوحي ، كما تحرص على تأكيد أن كل معارف الدنيا قبل ذلك – فيما عدا الموضوعات الدينية التي أقرها الإسلام – كانت جاهلية ، بل إنها بأديانها لم تكتمل بشريتها بالمعلومة الصادقة و المعرفة الصحيحة قبل الوحي الإسلامي ، الذي جاءها بالمعلومة الصادقة صدقا تاما مطلقا مكتملة بذاتها لا تحتمل حذفا و لا إضافة . لذلك كانت إنسانية الإنسان ناقصة و ما استقام أمرها أو وجودها أو اجتماعها أو سياستها أو معرفتها إلا بوصول الدين القويم ، وكل ما قبل ذلك مطعون في بشريته . و لأن الإسلام كانت له خصوصية ظرفية مكانية وزمانية ، حيث كان يقيم لقبائل بدو الجزيرة العربية الشتات دولة مركزية متوحدة ، فإن السلطة التي نشأت مع الثقافة الجديدة أصبحت شأنا إلهيا و ليست من شئون البشر أو اجتماعهم و اقتصادهم ، و هو ما عنى رد السياسة إلى الله . لذلك لا تكون المعلومة ، و لا المعرفة معرفة ، لأنها محصلة تفاعلات اجتماعية اقتصادية نفسية بيئية ،إنما لأنها ثقافة كاملة جاهزة صادقة بالمطلق ، و ما عداها باطل و قبض الريح . ورغم مرور الإمبراطورية الإسلامية بعد الفتوحات بتلاقح الثقافات في أزمنة انفتاح على معارف البلاد المفتوحة ، فرضها الظرف الموضوعي حينذاك ، إلا أن ذلك كان استثناء ظرفيا ، انتهى بدول المنطقة إلى الخضوع لسلطة خليفية استمدت مشروعيتها من الرداء الديني ، وواكبتها مظالم تنوء بها كتبنا التراثية و التاريخية الإسلامية . في وقت كانت فيه الدنيا قد تحركت إلى فضاء معرفي آخر ، بينما انتهى أمرنا إلى تخلف كامل في الزمن المملوكي و العثماني ، الذي كانت نتيجته المحتومة إعمال فلسفة القوة و الضعف ، باحتلال دول الغرب لبلادنا . و مع استيلاء العسكر المحلي على مقدرات الوطن كان الصدام مع المجتمع الغربي و معارفه و أساليب حياته باعتباره المستعمر ، هو الأساس في التمسك بخطاب دوجمائى كاره لكل ما هو مخالف حتى لو كان وسيلة تقدم ، لذلك لم تنتج مغامراتنا الثورية تغييرا جذريا في المناهج و لا في المفاهيم ، و غاب النقد بالتحديد ، بتأثير عسكرة المجتمع من أجل المعركة المقدسة التي سلت فوق الأدمغة و الألسن ، التي دونها الخيانة الوطنية القومية الدينية معا بوثوقية كونية جاهزة تربط الوعي كله برؤية السلطة و حدها ، عبر المتوسط الشارح المبرر الجاهز دوما لخدمة السلطان عبر العصور ... رجال الدين المحترفين . الأمر الذي منع أي تفاعل أو جدل

20

تجابه فيه الذات و عي الآخر . بحيث كان التخلص من الوجود الأجنبي في البلاد ، مدخلا إلى عبودية كاملة للماضي و طرائقه في التفكير ، سواء كانت عبودية نصية ، أو عبودية لأفكار هلامية عن أمة كبرى على غرار الأموية و العباسية و غيرها . و هو ما تخلفت معه بني الأجهزة الثقافية للدولة على مستوى المفاهيم و المعارف و القيم و العادات و السلوك و الذوق ، هذا رغم أنه ليس هناك شئ اسمه ثقافة أصلية خصوصية ، فأي تراث كان هو حاصل تفاعل حضارات إنسانية شتى . و الخصوصية التي كنا نعنيها و ما زلنا هي التي يشهد الواقع أنه قد امتنع معها أي تجديد أو ابتكار ، و كل ما أظهر للعيان دون جهد فاحص تخلف يقاس بالقرون بيننا و بين العالم المتقدم . و التساؤل البسيط بهذا الصدد ، ما هي الخصوصية التي نعينها مقابل التقدم ؟ لا يبقى على مستوى الرؤية الواقعية الحادثة سوى التخلف ، و من هنا كان الحرص الدائب على تلويث الفكر المدني الحداثي لا لعيب ذاتي في الفكر ، لكن لأسباب أولها أنها منتج الغرب المكروه البغيض ، و لأنها لا تتفق و ثوابت الأمة و خطوطها الحمراء ، بغض النظر عن النتائج التي أفرزتها هذه الأفكار من تقدم عظيم أينما تم العمل بها ، ثم لأنها تحمل مع التقدم فيروسات الانحلال الخلقي ، رغم أن الأخلاق مسألة معيارية و مجموعة قيم متغيرة دوما بتغير البني التحتية ، أما السبب غير المعلن و الأساسي فهو تناقض تلك الأفكار مع مشاريع السلطة و تكوينها في بلادنا ، التي هي في نهاية الأمر شكل حديث المظهر لذات السلطة الخليفية الممتدة في تاريخنا التليد . و مع المزيد من اتساع الهوة بيننا و بين العالم المتقدم ، لم يكن بيدنا سوى نظرية المؤامرة نبرر بها أحوالنا ، تلك التي بدأت مبكرا منذ اختراع شخصية اليهودي اللئيم المقتدر عبد الله بن سبأ ، الذي تمكن بدهائه من جعل صحابة الرسول الله يقتلون بعضهم بعضا ، إلى يومنا هذا الذي نتحدث فيه عن المؤامرة الاستشراقية الصليبية اليهودية العلمانية الإمبريالية كله معا . مع إشاعة الوهم و تكراره حتى تصديقه . أن العالم يبيت ساهرا يدبر لنا نحن بالذات المؤامرة ، في تصوير مهين يجعلنا على الدوام مفعولا بنا قابلين طوال الوقت لتنفيذ مؤامرات الأعادي دون أن نستفيد مرة من المؤامرة السابقة ودروسها إن كانت هناك مؤامرات . و من جانب آخر فهو تصوير يضخم الذات المهانة و يصيبها بمرض النرجسية ، فيتضخم شأنها و لكن في الوهم المرضي الذي انتشر بشكل وبائي خطير ، حتى بات يقينا لدينا أن العالم لا يشغله غيرنا .

21

و حتى لو لم يوجد عداء حقيقي فإنها تخترعه اختراعا و تفتعله افتعالا حسب الظروف و الطوارئ الممكن استثمارها لترضى الغرائز المبثوثة بين الناس . ثم تتصدى للأعداء بالزئير ، الزئير فقط ، بالكلام و الشعارات ، لتبرز لمواطنيها دورها التاريخي في حماية الهوية و الانتماء و التراث و الأخلاق و الدين . و بسبيل ذلك تستخدم الثقافة المحنطة و كل ما في جعبتها من تثوير الغرائز الطائفية و العنصرية و الفخ فيها باستمرار ليتوحد الجميع في ذاتها ، مما انتهى ، خاصة منذ 1925 ، إلى إزالة الطبقة الرقيقة للمفاهيم الليبرالية التي كانت قد نمت فوق طبقات الماضي و هو ما أدى إلى تشويه كامل لوعي المواطن باستخدام أحدث تقنيات الغرب المكروه ، حتى أصبحت لغة الحرية هي اللغة الفاسدة الخائنة التي تتم محاكمتها و تشويهها في تناغم سيمفوني بين الشارع و المايسترو الحكومي و بسبيل ذلك استخدمت السلطات لغة واحدة يغيب عنها التنوع مكرره منمطة ، ذات إيقاعات محدودة و محددة ، تستعيد من التراث أسوأ ما فيه و تخفي إمكانات الفعل الحر بداخله ، لا تحتمل أي تناقض و لا تقبل بأي تحليل عقلاني يتخطى السائد الثابت . فتكافئ الصبية من حفظة القرآن و تختفي بدعاتها المحترفين في كرنفالات موسمية تمنح فيها العطايا و الهبات ، أكثر مما تخصص لدعم البحث العلمي بما لا يقارن بالمرة . و هكذا .. كلما انحط المنهج تزايد قمع التفكير و الاختلاف ، لذلك لم تسع السلطات في بلادنا قط لتنمية المعرفة نظرية أو علمية أو تقنيه إلا بما يدعم و جودها عن طريق تحويل المثقفين الملتحقين بها لضرورة لقمة العيش إلى موظفين بيروقراطيين ، مع إهدار و تهميش و حصار و تشويه سمعة أي مثقف يرفض القيام بهذا الدور أو حتى يصر على استقلاليتها بل يصل الأمر – حسب تجربة شخصية و تجارب مشاهدة تعلمونها – إلى تحريف نصوص هؤلاء و تزويرها لاغتيالهم جماهيريا بأساليب رخيصة و أسلحة فاسدة رديئة ، لإحداث القطيعة بينهم و بين الجماهير التي يكتبون من أجلها ، و إلغاء دور العقل الواعي في إصدار الأحكام الصادقة ، لأن لديها كل الإجابات الجاهزة التي لا تحتمل أي احتمالات ، مع خطاب طائفي عنصري عصبي قبلي عشائري فاشى ، لإغلاق أي منافذ على الخطاب المغاير . و يقول لنا علماء الأنثروبولوجيا حول جذور التشكيل القبلي ، إن الشكل القبلي أفقر التشكيلات الاجتماعية و أكثرها تخلفا ، فالقبيلة فقيرة في قدرتها على إنتاج ما تحتاجه ، و تعتمد على الخطف و السطو و النهب كلما أمكن . فقيرة في قدرة المرور عبر الزمن ، فهي تحتاج دوما إلى تلاحم أفرادها لذلك يتم إمساكها من فوق بقيادة قدسية قامعة صارمة تجعل

22

الأفراد التحتيين بلا فكاك . مع إشاعة بدائية في عالم الفكرة و ليس في الواقع ، بذوبان كل الأفراد في الكلية القبلية / الأمة المعنوية / و من أجلها ، فيكون الفرد من أجل الكل و ليس العكس . و من هنا لا تحتمل هذه التركيبة أي اختلاف أو تمايز أو تعدد في الآراء حيث الكل في واحد . المقصد من ذلك هو إيضاح أن المشكلة معقدة و مركبة ، فلم تعد الأنظمة فقط هي ما لا تقبل المخالفة أو التغيير ، بل الناس الذين فقدوا و عيهم و معه حريتهم بعد أن تمكنت مؤسسات الحكم من الأرواح و العقول بآلة الإعلام الجهنمية التي اختراعها أصحابها لغرض آخر ، هو مزيد من العلم و الحرية ، أما هنا فقد تم استخدامها لتنميط و تأطير العقل حتى أصبحت النفس عبدة . ورأينا المرأة المثقفة ترد علينا بالتكفير لأننا أخطأنا الصواب و طالبنا لها بحقوق مماثلة لحقوق الذكور ، مما يفصح عن استشراء الوباء تحت قشرة حداثة ظاهرية لم تمس الجوهر . و إذا كان المفترض أن الدولة مؤسسة سياسية تعبر عن علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع . وأنها التغيير الرسمي عن المجتمع كله ، فإن الدولة في بلادنا لا تخضع لهذا التعريف و لا تعترف به و تعلم أنها لا تعبر عن مجتمعها ، لذلك تمارس وجودها الفوقي و استمرارها بغسل العقول و نشر أيديولوجيا القبلية الطائفية العنصرية مع القمع بالطبع ، المأساة أن تلك ليست مجرد أدوات في يد الدولة ، بل تحولت إلى خلايا تكوينية عضوية في بنيتها ، تتخلل كل مجالات التخطيط ، و العمل و الإدارة و التوجيه و الإعداد و التنفيذ . حتى مثقفوها ، و معهم مثقفو الأحزاب يختزنون بدورهم أوبئة الكذب و يتنفسون في هواء راكد قديم ضمن النسق المحدد الذي أجمع عليه الجميع في تعريفه البسيط ، و البديل يصبح هو الكفر الديني و الوطني عند اصطدامه الحاد بخطوط الأمة الحمراء وثوابتها الواحدة المصمتة . و رغم الوضوح الجهير للمساحة الهائلة التي تفصلنا عن العالم المتقدم ، وإن الأنظمة العربية عاجزة بين الأمم لكنها قوية القمع و التنكيل مع مواطنيها ، فإنها قط لم تلجأ للأدوات التي أثبتت نجاحها عالميا لتجاوز هذه المساحة ، لأنها لا تعترف بشيء اسمه البحث العلمي ، و تحتسب القضايا الاجتماعية أمورا بسيطة من التوافه الهيئات التي لا تحتاج كثيرا من العبقرية أو عناء البحث أو تصنيف المشاكل و تبويب الحلول و رسم سلطة ملهمة ليست بحاجة لباحثين ، و على هذا الأساس تصدر قراراتها . مما يكشف أن المشروع الأوحد لهذه الأنظمة هو البقاء و الاستمرار مع

23

 

إيهام الناس بوجودهم في سياستها وأنهم الأهم في مشاريعها و أنهم شركاء معها ، خاصة أنها المحافظ على ثوابتهم العزيزة ، و هكذا لا يفرز المجتمع بل لا يملك قدرة فرز أي جديد من أصولي قديم متفق عليه بين الرعية و الحاكمين ، و يستمر المواطن خاضعا لاستمرارها كالسلطة ، و هو وضع لا شرعي بذات القياسي الأصولي ، لأنه إذا كانت السلطة حسب هذا الفهم موجودة بشرعة طاعة الله و الرسول وأولى الأمر ، فإن هذه الثوابت تم ترتيبها بحيث تأخذ صفاتها من بعضها و تتبادلها ، إضافة إلى تزوير عملية التبادل فتصبح شخوص الآن هي شخوص الزمان المقدس السالف برؤية متجمدة عند لحظة الطاعة التاريخية الأولى ، و تظل مشاركة المواطن طاعة لأمر مقدس تم تزويره ، يتصور أنه مشارك بوعي ، رغم أن الوعي الحقيقي ليس مجرد عملية إجرائية ، فبإمكان أي إنسان أن يظن نفسه العريف الفهيم ، فما بالك لو قيل له ذلك من سادته ، ليقدم كل فروض الطاعة مقابل القرب من مناطق السلطان من أجل الحصول على منجزات و مكاسب رخيصة و بأساليب عطاء السيد للمولى بحل بعض المشاكل و المعاملات لنفسه أو لمن حوله لإثبات أنه شريك سلطة ، و هي المشاكل الناشئة عن تكوين النظام برمته ، و التي استفحلت و استشرت في كل مناحى حياتنا بفوضى شاملة ، هذا عن المواطن البسيط ، أما المواطن الشريك الحقيقي ، فهو عضو في جهاز السلطة بالطبع . و إعمالا لكل هذا فإن النتيجة ستكون ترديد و مضغ اللا معرفة مع انعدام و جود أي آليات لإنتاج المعلومة / المعرفة . و من ثم فقر معرفي و ثقافي مدقع بالضرورة . لذلك أصبحت المعلومة بمعناها العلمي و المعرفي غريبة ، و لكثرة ما استهلكنا من منجزات الآخر المعرفية ، أصبحت المعلومة المعرفة هي ما ينتجه الغير المكروه . الذي نسطو عليه

لاستخدامه في غير أغراضه التي أنتج من أجلها ، ثم نسطو عليه فكريا بالعادة القبلية لنؤكد أننا من أنتج هذه المعرفة لتحليلها شرعيا كي يمكن استخدام منتجها بنسبتها إلى ربنا الذي عرفها مسبقا في المقدس . أما أن نعرف أو ننتج معرفة فليس هنا أي مشكلة ، فما دام الآخر يفكر و ينتج و نحن نستهلك على الجاهز فلماذا وجع الدماغ ؟ و مع هذا الفقر المعرفي كان لابد أن تمارس السلطة شحا شديدا في دعم أي بحث علمي أو معرفة ، مما انتهى بمثقفيها الذين تختارهم لأداء هذا الدور الوظيفي إلى خطاب اتهامي إزاء أي جديد مخالف و نصحي إرشادي دوما . و عندما يظهر مثقف يقدم معرفة جديدة . بمعناها العلمي فإنه على الفور يصبح آخر ، عميلا معاديا كافرا وطنيا و دينيا .

24

و مجرد ظهوره يستحث آليات الخوف و دفع الخطر لأنه نافذة يتسرب منها الأعداء لشق الصف الوطني أو إهانة المقدسات . لذلك يتم تجريم أي جديد و يصبح كل إبداع بدعه تستدعي المحاكمة السريعة و إصدار الحكم حتى قبل أن تتم محاكمته قضائيا ، في عملية إطلاق صفارات إنذار مسبقة ودمغه بعلامات واضحة منعا لأي تواصل بينه و بين مجتمعه ، كالصليب القديم الذي كان يسم القبطي بالعظمة الزرقاء تمييزا له و تحقيرا . و هكذا تكون مؤسسات السلطة شديدة الاطمئنان رغم شدة ضعفها و هوانها بين الأمم ، عملا بالشطر الشعري العربي ( أسد على وفى الحروب نعامة ) باستنادها إلى قناعات رجل الشارع الذي أصبح متوجسا من أي مخالف مبتدع إعمالا لخطه النظري و سورة المانع . فيمد السلطة دوما بالاطمئنان لأنها تعلم أنه غير قادر على تخطي أسوار الكتراز ، غير قادر على نقد خطابه النظري أو حتى محاورته أو تحديث الممكن فيه . لذلك تشجع الدولة هذا الخط النظري عبر وسائل إعلامها و تعليمها و تدعمه دوليا بدعمها دينا على دين بين مواطنيها ، و لا تترك لكل دين فرصة ظهوره وبروزه بقدرته الذاتية ، و تفسد المساواة بيد رعيتها و تخلق كثيرا من الحساسيات و الإشكاليات المزمنة ، ثم تنوح بعد كل هذا على عدم وفاء أقباط المهجر ، و ما يزعمون على الإنتاج المتردي لتهاون المواطن في الإنتاج و تصعر خدها مقابل استجداء مليارى دولار أمريكي سنويا معونات لها شروطها ، ثم تترك المؤمنين يحملون مثليها سنويا إلى بنوك السعودية المباركة كل عام .

2- الخطاب الاتهامي في قضية ابن خلدون نموذجا تطبيقيا :

لنقرأ معا نماذج عشوائية مما نشرته الصحف المصرية بشأن مركز ابن خلدون و مشاريعه وبشأن اعتقال سعد الدين إبراهيم ، للمطابقة بين ما سلف إيراده و بين تلك النماذج . في 7 / 5 / 1999 نشرت صحيفة ( الشعب ) الخبر التالي " أحال فضيلة الإمام الأكبر محمد سيد طنطاوي ، المقترح المشبوه للتربية الدينية الذي وضعه مركز ابن خلدون إلى د . محمد رجب البيومي عضو مجمع البحوث الإسلامية ليبدي رأيه الشرعي في مدى صلاحيته للتدريس في دولة دينها الرسمي هو الإسلام . و قد أكد التقرير أن المشروع يثير الفتنة الطائفية ... وأضاف واضع التقرير د . البيومي : " أني أكاد أحس برائحة خبيثة يبعثها مركز ابن خلدون . يبث الوقيعة بين عنصري الأمة لتشفى

25

 

 

صدور قوم آخرين " . و بغض النظر عن الموقف العلمي السليم و النقدي الصحيح لمشروع التعليم و التسامح الخلدوني الذي يطيب لنا مناقشته و يحتاج إلى قول آخر . لكن في مقام آخر غير مقامنا المحدد هنا ، نقف مع ما قالته ( الشعب ) غير دهشين لمدى مطابقته النموذجية لما أوردناه في العجالة النظرية . الملاحظة الأولى عدم مراعاة الصحيفة للحياد المفترض في عرض الخبر الصحفي ، بنعتها للمشروع بدءا بالمشبوه ، أنها الدمغة للتمييز و التحذير و إطلاق صفارات الإنذار . أما الثانية فهي أن ( الشعب ) صحيفة معارضة للحكومة و مناهجها التعليمية ، و طالما تحدثت كثيرا بهذا الشأن ، و هي صحيفة لحزب معارض هو العمل ، استولى عليه الإخوان المسلمون بنخرة و تسويسه من الداخل و هو المؤسس على مبادئ يسارية عمالية تحت سمع و بصر السلطة ، ولم تتدخل مؤسسات السلطة القمعية بل سهلت لهم الاستيلاء الكامل على الحزب . لكن الحزب و صحيفته و هما بسبيل منافسة السلطة على امتلاك أرواح الناس عبر الوسيلة المعتمدة تاريخيا في بلادنا ، الدين ، دخلت الصحيفة صراعا علنيا مع مؤسسات الحكم لتثبت التزامها بصحيح الدين ، و اتهمتها جهارا بالفساد ، فقط لتثبت للجماهير أن حزبها هو الأحق بدور الراعي الرسمي للإسلام ، و من ثم يكون حزبها هو الحق بأمر سياسة الرعية ، لذلك دخلت في مزايدات طالت أعمدة النظام الحاكم إلى أن غامرت بالنشاط الحركي لتثوير الشارع بدءا بتثوير طلبة الأزهر تحديدا ، بسبب رواية لكاتب سوري ( و ليمة لأعشاب البحر ) ، الأمر الذي انتهى بصدام مع أمن النظام سالت بسببه دماء بريئة ، و هنا اختتم الرعي الرسمي الأقوى المباراة بإغلاق الصحيفة . لكنن الغرض لكليهما كان واحدا ، و الوسائل لكليهما فاشية ، تعتمد ذات الأسلحة الفاسدة بالإشاعة و التخوين المتبادل ، و العقل الذي تم الصراع على امتلاكه كان على ذات الخط النظري الواحد . و هنا الغرابة أو اللا غرابة ، حيث شارك بعض أساتذة الأزهر في عملية التثوير بتحريض الطلبة و توزيع ألوف النسخ من مقال محمد عباس المطبوخ في معمل غرائزي ، بل و شاركت الوجوه الأزهرية في مؤتمر الحزب للمبايعة على الموت . هذا علما أن الأزهر هو مؤسسة الدولة الرسمية منذ أقامه الاستعمار الفاطمي ، و من يومها ظل مؤسسة التبرير لكل الأنظمة على تباينات مظالمها ، لأنه المالك المحترف و المقتدر للوسائل و الأدوات التي تخاطب خط الجماهير النظري ، و الضامن لتقاطع مطالب

26

الأنظمة المتغيرة مع هذا الخط ، لذلك هو المؤسسة التي تمولها الدولة ببذخ قل نظيره ، و تسمح له بالتمويل اللا محدود و اللا معلن من خارج البلاد ، و يتم تكريم رجاله في كرنفالات فصلية ، دون أن نعلم له إنتاجا حسب المفهوم من معنى المؤسسات الإنتاجية التي تستأهل كل هذا التمويل الكريم ، و من جانبها تمكنت مؤسسات السلطة من غرس رهاب الأزهر و اليونيفورم المشيخي في نفوس الناس حتى كاد يكون معبرا عن الإسلام أو هو الإسلام رغم أنه لا يوجد في آية قرآنية واحدة أو حديث نبوي واحد شئ أسمه الأزهر أو رجال الأزهر !!

أما صحيفة الشعب التي كانت تتطهر دوما بإسلامها المتميز عن إسلام الدولة وأزهرها ، و تقف بعنف ضد مؤسسات الدولة و دستورها ، فإن ذلك لم يمنعها من الانتهازية الرخيصة في النص السابق ذكره حيث رفعت المادة الصدر في هذا الدستور التي يتكئ عليها جميع الفاشيست عند الحاجة " دين الدولة هو الإسلام " . لأنه ظهر مخالف تحديثى للخط الواحد للدولة و الحزب المعارض ، لتتفق الصحيفة مع مؤسسة الدولة الدينية ( الأزهر ) و كلامه البيومي ، على أن ابن خلدون يوقع الفتنة بين عنصرى الأمة . ورغم أن الأزهر نفسه بذاته و قوامه و عمله وأهدافه هو الطائفية العنصرية المجسدة في مواده التي تنص على عدم دخوله لغير المسلمين . رغم أن النص الدستوري المستند إليه " دين الدولة هو الإسلام " يستبعد ملايين المواطنين غير المسلمين من المواطنة بصريح العبارة و دون مواربة و لا خجل ، فإن كليهما وقف على ذات الخط النظري ليعلن أن من يشق الصف الوطني و يثير الفتن و يوقع بين عنصري الأمة هو مركز ابن خلدون و هي ذات التهمة التي سبق ووجهها الطرفان لكاتب هذه السطور في محاكمة مشهودة قبل ابن خلدون ، في تزوير فاضح كامل فصيح البنود و غير محتشم اللسان و لا عفه . أما الرائحة التي أحسها مركز البحوث الأزهري فيبدو أنها تنبعث من تحته لأنها عبارته الدائمة في مواجهة كل من لا يبدأ من مسلماته المشيخية كمرجعية أولى تامة الصدق ، بغض النظر عن صحيح تلك المسلمات في دين المسلمين ، فهو يحمل اسم مركز البحوث و لم نعلم له بحثا واحدا حتى الآن من أجل قضايا المواطن أو المجتمع ، فقط يستمد قوته و مشروعيته بإشاعة كذبة كبرى يدعى فيها لنفسه أن قراراته منحة سماوية و دستورية على التبادل و التساوي . بحسبانه مؤسسة من كبرى مؤسسات الدولة ، وشيخه الأكبر يتم تعيينه بقرار سيادي من الدولة ، ليقوم بتشغيل السماء ووحيها حسب المطلوب منهما من فبل الدولة و حاجاتها اللا مستقرة ، ليعطيها ديمومتها

27

و مشروعيتها . أما القوم الآخرون الذين يريد مركز ابن خلدون أن يشفي صدورهم بسعيه للفتنة فهم أي آخر بإطلاق من غير المسلمين ، حزب الشيطان الذي يتربص بنا الدوائر لا يكل و لا تفتر همته خاصة في بلاد الغرب المغتاظ لما بأيدينا من أسلحة التقدم السرية المخفية تحت العمائم صيانة لها حتى يأتي الله بأمره . إن هؤلاء الآخرين ليس لديهم مركز يعلن أنه للبحوث و يعمل فقط لمصادرة الفكر و قمع الرأي و الحريات ، و ليس في بلادهم مركز مثله ذو سلطان مبين يستند في ظاهره إلى مرجعية دينية و في حقيقته هو الرأي الإنساني أو الكهنوتي المتاجر الانتهازي بالدين و ليس عنده مراكز قوى تستمد قوتها من السماء و من المعتقلات لتخوين مواطنيه وطنيا و تكفيرهم دينيا لأنهم أنشأوا في بلادهم مؤسسات مدنية أو بالقول الأدق علمانية . تلك الصفة المكروهة في بلادنا لأنها تساوي بالعدل بين البشر بغض النظر عن الجنس أو الملة أو العنصر ، فيجتمع في أمريكا وحدها كمثال وافدون من كل بقاع الأرض ، منهم ما يزيد على خمسة ملايين نسمة من بلاد العرب ، و يشكل هؤلاء الوافدون من الدنيا مئات العقائد و العناصر ، لا مرجعية لهم جميعا سوى ذلك الوثن الأعظم الذي نكرهه بشدة : القانون المدني ، ولأن الطائفية و العنصرية لا تفرز إلا فاشية دموية ، فإننا سنجد بأيدينا نماذج مثالية لهذا الفرز في صحف تزعم التمايز و التغاير . نسوق منها الأمثلة التوالي :

صحيفة الأحرار مثلا لسان حزب معارض هادئ الطبع إزاء مؤسسات الحكم فتحت صدرها لأزهري معلوم من أشد المعارضين صرامة و أعلاهم صوتا ، ولا مفارقة إن شاهدته وجها لامعا في تلفاز الدولة هو الشيخ يحيى إسماعيل حبلوش ، الذي قال للأحرار في 11 / 6 / 1996 بشأن أحد باحثي ابن خلدون دون أن يطرف له جفن : " إن آراء هذا الرجل .. تتطلب إحالة أوراقه إلى فضيلة مفتى الديار المصرية فوراً " . إنها خفة الظل السوداء القاتلة حيث يرى صاحب الفضيلة ( ‍؟ ) وجوب شنق هذا الباحث لإسكات صوته ، و الحبلوش نفسه هو من أفتى بإهدار دم المفكر فرج فودة هو و جماعته المعروفة بجبهة علماء الأزهر ، و يطلب الآن شنق باحث خلدوني بقرار مختوم بختم دار الإفتاء . ختم الدولة الرسمي ، فهل تمت محاسبة هذا الرجل و عصابته قانونيا بعد أن وضعوا الرشاش بيد القاتل لذبح المفكر فودة ؟ و ماذا لو كان هذا الرجل في دولة تحترم القانون و تقدس الإنتاج و تجل المفكرين ؟ إن بقاء هذا الرجل و عصابته في مناصبهم دون محاكمة عادلة يتقاضى راتبه ضرائب من جيوبنا دون أن ينتج سوى الكراهية و الإرهاب و الدم ، لأنصع تصديق على ما قدمنا في

28

العجالة النظرية ، مع تساؤل ساذج : إذا كان هؤلاء هم العلماء في مفاهيمنا فكيف نصنف روسو وإديسون و نيوتن و دور كهايم وأينشتين ؟ لنترك هذا المفكراتي لنذهب نطالع الشيخ الطيع اللطيف السائر دوما في ركاب السلطان ، الذي أعطاه مشروعية التسلطن زمن الاشتراكية و الحرب المقدسة ، ثم أعطاه إياها زمن اقتصاد السوق و السلام ، و ترقى في المناصب في المرتين ، أزهري نموذجي يضع بصمته حسبما يشار إليه بأدب جم ، لكنه هذه المرة يتفق وزميله العصبي المعترض دوما ، صورة كربونية ، يسير على دربه بالنعل حذو النعل ، هو الدكتور فؤاد مخيمر الذي قال لصحيفة عقيدتى في 1 / 7 / 2000 و هي من الصحف القومية ، الاسم الحركي للصحف الحكومية : " و قد حدد الإسلام جزاء المفسدين أمثال زبانية ابن خلدون بقوله : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله و يعيثون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " . و هكذا كان الرجل واضح التحديد ، فباحثو بن خلدون ، و هم بالتحديد من قصدتهم الآيات . و المطلوب تقطيع أوصالهم أحياء . أما صحيفة الأسبوع و هي من الصحف القومية ذات الخط الناصري ، فقد كتبت بشأن سعد الدين إبراهيم في 3 / 7 / 2000 : " و إذا كانت الوقائع كثيرة و متعددة فإنها تحوي حجما من الفضائح توجب شنق هذا الرجل في ميدان عام " . " كل هذه المشانق و كل هذا الدم ، والأرض المفروشة بالسعادة و الحبور و السرور ، بالأيدي المنزوعة و الأرجل المقطوعة ، تم إصدارها قبل أن يتم توجيه أي اتهامات رسمية للدكتور سعد أو محاكمة قانونية ، كل ما حدث أن الدولة مارست فاشيتها باعتقاله وفق قانون الطوارئ ، ودون إصدار اتهام وأعطت الضوء الأخضر لمختلف الفاشيات لتحاكم وتشوه وتذبح قبل المحاكمة الرسمية و قبل صدور حكم القضاء بالإدانة أو البراءة . و في هذا المناخ لا يأخذنا العجب أبدا عندما نجد عضو حزب الحكومة و عضو المجلس التشريعي الموقر محمود الفران ، المفترض أنه ممن يصادقون على القوانين ، و يعلمون أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته ، حين يعلن لصحيفة عقيدتى 11 / 7 / 2000 عن سعادته الغامرة بالقبض على سعد الدين ، تلك السعادة التي بناها على حكمه الخاص بعد حملة التشويه بإدانة سعد بالخيانة العظمى ، حيث قال دون تردد أو ترو : " أنا كنت شخصيا سعيدا جدا عندما علمت بخبر القبض على صاحب هذا الوكر المشبوه الذي حاول بيع وطنه للأعداء : .

و من الأحزاب اللطيفة المستأنسة إلى الأحزاب الزاعقة الفلوت نقلب صفحات العربي الناصري نستمع إلى تحليل رجل القانون وذوى دراية

29

هو اللواء صلاح سليم حيث يشرح لنا في عدد 9 / 7 / 2000 معنى المعلومة و معنى حرية تداول المعلومة في أزمة ابن خلدون بقوله السديد : " أن المجتمع المصري معرض للخطر اقتصاديا و مخترق إعلاميا ولابد أن يباشر الأمن القومي نشاطه الذي نص عليه القانون ، و أن تنتظم اجتماعات كي يسيطر على عملية جمع المعلومات التي تقوم بها جهات أجنبية لا تحترم إلا مصالحها " ثم تنبه الصحيفة إلى " الدور المشبوه الذي لعبه سعد الدين إبراهيم في إذكاء نار الفتنة الطائفية . و في تقديري أن ما حدث قد أنهى الرجل ، ليس بتوجيه التهم و تقديمه إلى المحاكمة ، لأنه في تقديري أن أي محام من المرصوصين على كراسي المقاهي يستطيع أن يسقط التهم الساذجة الموجهة إليه " . هكذا كل شئ واضحا أو بالأحرى فاضحا ، وأنهم جميعا في سلة واحدة على خط نظري واحد في قبيلة واحدة ، فالصحيفة تعلم أن كل التهم الموجهة إلى الدكتور سعد وابن خلدون عند اعتقاله ساقطة سلفا لشدة سذاجتها ، لكنها قط لم تتطرق لحماة أمن الوطن الذين يسكنون الفيللات و يقضون الصيف في الشاليهات و المارينات ( جمع مارينا دام عزكم ) و يمارسون القمع حسب النزوات ، كلها بضرائب جيوبنا و مرتبات من عرقنا . لم يتطرق إلى مناهج تفكيرهم و هم من قام بإعداد الاتهامات التي وصفتها بالسذاجة . السافر في الأمر هنا أن السيد يزكي هذه الاتهامات الساذجة و يصدر الحكم على المتهم قبل المحاكمة ، لأن الأهم ليس تأكيد التهم وإدانته قضائيا ، الهم أن عملية الاغتيال الجماهيري قد تمت . ألا ترون الصحيفة تقول : ( إن ما حدث قد أنهى الرجل ) و هو غاية المراد من رب العباد . لقد تمت عملية التشويه و التلويث التي لابد أن تلحق الأفكار التي نادى بها سعد الدين ورددها ، من أجل استتباب الأمن في مجتمع الأمان . لكن ماذا عن أمن وطننا القومي العزيز الذي يتعرض للخطر في إعلان اللواء الفهيم العريف ؟ هنا تكشف مجلة المصور الحكومية بدورها في 28 / 7 / 2000 في مانشيت كبير ما صرح به مصدر أمني رفيع " 15 مليون دولار لاختراق الأمن القومي " ، في إيعاز مبطن أن هذا المبلغ دخل جيب سعد الدين ليخترق به أمننا القومي ، و هو الجانب المتروك للمحكمة للفصل فيه ، لكن ما يشغلنا هو مأساة العقلية الأمنية التي صرحت بالخبر المهول و فيه هذا الأمر المرعب ، و التي كشفت كم هو هزيل أمن هذا الوطن و كم هو ضعيف حتى يمكن لـــ 15 مليون دولار أن تخترقه و تنال منه ... يا بلاش يا وطن ‍‍‍‍‍‍‍. يبقى حزب الوفد المفترض حسب إعلانه أنه امتداد الزمن

30

الليبرالي قبل يونيو 1952 ، لذلك لا تفوت صحيفته الفرصة لتثبت أنها على ذات الخط السائد ، وأنها مع العربي الناصري و الشعب الإسلامي و المصور الحكومي في قفة واحدة ، فتقول في 8 / 7 / 2000 موضحة إمكاناتها المعرفية في عصر المعلومات " ورغم عنف الحملة التي شنتها الصحافة المصرية مبكرا على الأبحاث الأجنبية منذ عام 1983 إلا أن كتائب البحث العلمي لم تتوقف عن النهب المعلوماتي " .. بالله عليكم ماذا تعني بالنهب المعلوماتي ؟ و هل المعلومة الموجودة بالضرورة تنهب أم أنها مرة أخرى عقلية القبيلة النهابة ؟ هكذا تصبح حركة المعلومة و حرية البحث العلمي في عصر ثورة الاتصالات جريمة ، بينما ثورة المعلومات التي أدت إلى سينولة و حرية انتقالها و عدم احتكارها كانت هي الناتج الضروري لتطور مجتمع الحريات الأرقى الذي لم يعد يسمح بإخفاء الأسرار و التحفظ عليها إلا في حدود شديدة الضيق ، و هي الحدود التي تذوب و في طريقها إلى زوال كما في مسأة الجينوم البشرى مثلا . و هذا النادر جدا يعرفون في بلادهم كيف يحافظون عليه ، و لا يخشون عليه و لا على أمنهم القومي من مراكز بحثيه صغيرة ، بل أن المؤسسات و الشركات و الدولة في بلد كأمريكا مثلا تقوم بتمويل مؤسسات البحث العلمي الأهلي في بلادها بمبلغ 135 مليار دولار سنويا ( انظر رضا هلال الأهرام 17 / 7 / 2000 ) و لا يخشون تلك المراكز على أمنهم القومي حتى أن لديهم برامج سياحية تثقيفية TOURS لزيارة البنتاجون و ناسا و المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض . ففي المجتمعات الحرة مسموح لأي مواطن بالحركة الواسعة و تكون إمكانات الضرر المحتملة عالية ، ومع ذلك لا يقع الضرر لأن " السيستم " الحضاري و القانوني يضبط كل الأنغام المتحررة المتمايزة فلا تحدث تقاس بما نتوقعه من تخريب لأمننا القومي مقابل 15 مليون دولار ‍ ، بينما لو حاولنا هذا التحرك داخل هامشنا الضيق فإن ذلك يضايق الخطوط الحمراء لا المحبوسين داخلها ، و من ثم يهدد الأمن القومي . النتيجة أن المعلومة بيد الأمم سبيل وعي و تقدم بينما هي في بلادنا ما زالت أمرا يخص الأمن ولابد أن نأخذ به تصريحا ، و يمتنع هذا التصريح دون إبداء أسباب . و هو ما حدث مع شخصي الضعيف عندما قررت أن أطبع كتبي بنفسي بعيدا عن الناشرين الذين يخلصون لمنطق القبيلة بالخطف و السلب ، ورفض الأمن

الأمن منحى هذا الترخيص ، و لكن بعد موافقة السجل المدني المبدئية و كذلك الغرفة التجارية ، الأمر الذي شجعني على بيع ما أملك لإنشاء داري الصغيرة ، و بعدما تأكدوا أني لم أعد أملك سوى غرفتين للنشر

31

منعوني التصريح من باب خراب البيوت و قطع الأرزاق و الحصار و التركيع . المعلومة بيد الأمم معرفة و وعي و تقدم وفي بلادنا ما زالت أمنية يتم بسببها الحصار و القمع و الاعتقال و التجريس و السجن كما حدث مع سعد الدين لأنها تتسرب مع بحوثه إلى الخارج رغم أن هذا الخارج يعلم بموافقة الدولة على كل شئ عنا ، لأنها تفتح كل أبوابها و ملفاتها لتقديم القروض و المعونات وفق خرائط وجداول اجتماعية واقتصادية ودراسات لكل كبيرة و صغيرة من شئوننا و وفق حاجات لنا تم درسها عندهم قبل عندنا حتى جيشنا و تسليحه و تدريبه و كل ما يتعلق به معلوم لديهم في مشاركات ميدانية مدروسة بالتمام و الكمال . إن المعلومة المقصودة إذن بالخطورة على الأمن القومي تلك التي إذا تسربت إلى الخارج أساءت إلى النظام الذي يتجمل أمام العالم بتوقيعه مواثيق دولية لا ينفذ منها في الداخل شئ أما في الداخل فلا معلومة ولا معرفة ... إذن فالأمن مستتب . تلك الفلسفة التي اعتنقناها منذ الزمن الخليفى و حرمنا الناس المعرفة حتى المعرفة بالأعداء . و وصل الأمر بأهل الحكم أنهم حرموهم على أنفسهم إمعانا في الإخلاص للمبدأ فجهلوا كل أمر عن العدو حتى جاءهم على حدود الدلتا الشرقية 1967 ودمروا بنية الوطن التحتية وأزهقوا أرواح مئات الألوف من أبناء الوطن الأبرياء في صراع كبارهم الأماثل على السلطة فيما صرح به أكثر من مصدر من بينهم ، كان أوضحها حديث حسين الشافعي إلى قناة الجزيرة في شهادته الفضيحة على العصر . و جلبوا العار لتاريخهم و فلسفتهم . ورغم كل هذا النتائج المخجلة مازلنا عند المبدأ نرفع أعلامه و نحرسه بسيوف الأمن منعا لأي معلومة أو أي معرفة ، لأي و عي ، حتى يستتب الأمن . هذا رغم أن المعلومة موجودة بالضرورة ، خاصة في هذا الزمن . و الوعي بها حادث ، و و ضعها في إطار معرفي يعيه سيكون سيكون .

1- ألغام الفتنة :

ما دمنا في مقام مناقشة طروحات الخطاب الاتهامي و التعرف على منطقة ، نقف مع مؤرخ مصري مسيحي مستنير ، هو أحد أعلام الفكر المحترم في مصر الدكتور يونان لبيب رزق ، لكن أنظره معي و هو يدفع الجزية حين يقول للعربي بتاريخ 1 / 7 / 2000 : " لكن إذا كانت هناك مشاكل ، فذلك لا يعني أن تكون الحلول واردة من الخارج " .. إنها عبارة لا تصدر عن مثله إلا لدرء الأذى ودفع الجزية بالوقوف تحت الراية الرسمية منافحا . لأنه لا شك و هو أستاذ تاريخ حديث متمرس ، يعلم جيدا أننا لم

32

نملك بأيدينا أية حلول من الداخل بسبب مناهجنا التليدة . فحركة النهضة التي بدأها محمد على تمت باستقدامه خبراء أجانب و إرسال الوفود لطلب العلم و المعرفة في بلاد الغرب . و لم ينزعج أهل الغرب لذلك و لم يحتسبوه نهبا معلوماتيا . و مفكرو عصر النهضة العرب أنتجوا معارفهم بالتماس مع المعارف في الغرب المتقدم و التفاعل معها . و خرج الإنجليز من مصر برعاية أمريكية ، حيث تم توقيع اتفاقية الجلاء في بيت السفير الأمريكي ( كافرى بالقاهرة ) عام 1954 . و عندما كان عبد الناصر يعلن في الأزهر أنه قد كتب علينا القتال و لم يكتب علينا الانهزام كانت الهزيمة قد و قعت بالفعل قبل هذا الإعلان ، و كانت إسرائيل قد احتلت كل شبر في سيناء ، و لم تنته معركة 1956 بسبب القتال الذي كتب علينا ( رغم البطولات العظيمة لشعبنا المصري آنذاك ) ، بل بتدخل روسي أمريكي . و كان تسليحنا أجنبيا ، و بناء السد العالي بتمويل و خبرة علمية أجنبية و كانت مبادرة روجرز أجنبية . و من 1973 حتى الآن و كل الحلول المتعلقة بأمننا القومي تأتي في الولايات المتحدة الأمريكية .. إنه الفرق بين المعرفة و اللا معرفة ، بين القوة و الضعف . و لا شك أن الدكتور يونان بماله من خزائن معلوماتية يعلم أن المعلومة ليس لها داخل و لا خارج و لا وطن لها ، و أننا أصبحنا اليوم نحصل على ما نريد من معلومات و نحن جلوس في بيوتنا ، وأن مجتمع الشفافية في بلاد الحريات هو ما جعلنا في بلادنا نعلم ما يحدث لرئيس أكبر دولة في العالم علنا ( محاكمة كلينتون و قبلها و ترجيت و غيرهما كثير ) . أما إذا كانت معلوماتنا بهذه الخطورة العالمية التي نحتاج إلى حفظها و إخفائها في لفائف محنطة ، فهو الأمر الذي يفسر ما آلت إليه أحوالنا بين الأمم . و في سياق الخطاب الاتهامي ، يطل علينا رجل آخر هو من المستنيرين و المتفتحين وذوى الرصيد العلمي ، لكن ليهاجم مركز ابن خلدون و باحثيه ، و يقف إلى جانب جوقة التكفير الوطني ، بعبارة تشككنا في مساحة صدق مفكرينا المستنيرين ، مع كل احترامنا له هو الدكتور نور فرحات ، إذ يقول : " إن تبني بعض المثقفين للخطاب الأجنبي يمكن أن يؤدي إلى إشعال الفتنة الطائفية في مصر / انظر الأهرام العربي بتاريخ 8 / 7 / 2000 " ، أو هذا ما نسبته إليه الصحيفة . و مسألة الفتنة الطائفية تلك ، ستأتي في موقعها من هذه الدراسة ، لكن ما يحير الفهم هو هلا يعلم سيادة الدكتور أن الخطاب الأجنبي المكروه من العامة ، هو الذي يفهم منه الخاصة من أمثال سيادته أنه خطاب ديكارت و نيوتن و كانط و فرويد و هيجل و فيبر و ماركس ... الخ ؟ ‍‍ على ذات الخط يصب الدكتور حمدي عبد العظيم مدير مركز

33

 

البحوث بأكاديمية السادات للعلوم الإدارية جام غضبه على المؤسسات الأجنبية الداعمة للمراكز البحثية في دول العالم الثالث بقوله : " تحاول هذه المؤسسات إشراك الشركات المصرية في برامجها التدريبية و البحثية بمقابل مالي ضخم ، وذلك لتسهيل الحصول على المعلومات التي لو أرادها أحد الباحثين أو الصحفيين المصريين ما استطاع إليها سبيلاً ( انظر العربي في 1 / 7 / 2000 ) . الرجل المؤسسي الكبير في واحدة من مؤسسات الدولة الأكاديمية البحثية يعترف – من حيث أراد أن يدين – أن دولته تحجب عنه المعلومات بعد أن عينته لهذا العمل مديرا لمركز معلوماتي كبير ، وبصرف النظر عما يعانيه أمثالنا من الباحثين المستقلين الغلابة للحصول على المعلومة ، فإن هذا الكبير تكمن معاناته في وضعه الوظيفي و حلمه البحثي ، و يعترف بتقاعسه عن العمل و الإنتاج في مؤسسة تصبح بلا معنى و هدرا لمال الوطن في اللاشئ ، لأنه إما أن يحتفظ بمركزه المرقوق ، وإما أن يجازف بطلب المعلومة . و لم يسأل الرجل نفسه : إذا كانت هناك معوقات تضعها الدولة أمام الباحث المصري للحصول على المعلومة ، فهل يكون ذلك ذنب المؤسسات الأجنبية التي تحصل عليها من مؤسساتها دونه ؟ و هل هي من يستحق غضبه ؟ ولابد هنا أن يبرز السؤال : لماذا الحرص على إخفاء ما يخصنا من معلومات عن الغير ؟ و كيف تتم لعبة الإخفاء ؟ هنا نستأنس بأكثر من مرشد لنعرف السر العظيم الذي نحرص على إخفائه عن العالم و عن باحثينا ، لنسمع الأستاذ إبراهيم نافع رئيس تحرير " الأهرام " يردد " أن حرية توفير المعلومة الدقيقة و حرية تداولها ، لا ينبغي أن تمس الأمن الداخلي لأي دولة تحت أي مبرر " و " أن حرية البحث العلمي مكفولة شرط ألا يمس ذلك الأمن القومي المصري " . لا بأس من التكرار حتى نتأكد من حكمة الإخفاء و خطورة المعلومات التي لو فشت أضرت بأمننا القومي ، فتتفق صحف المعارضة مع صحف الحكومة لتسمى العربي الناصري في 9 / 7 / 2000 تلك المعلومات بالألغام في مانشيت ( ألغام البحث العلمي في مصر ) ، و هو ما كررته المجلة القومية روز اليوسف في 13 / 3 / 1999 تحت مانشيت ( الألغام المؤجلة ) !! الأمر هنا يصيب الفهم بحيرة شديدة ، فهل ما نخفيه من معلومات في شكل ألغام هو أسرار كشوف عسكرية غير مسبوقة سنستخدمها في المكان المناسب و الوقت الذي نحدده ضد من يعادينا ، أم أنها معلومات أجنبية تم دفنها في بلاد في غفلة منا لتفجيرها في وجوهنا وقت اللزوم وإذا كانت ضدنا و نعرف أمرها فلماذا نخفيها بدلا من تعريتها و نزع

34

فتيلها ؟ الأمر هنا في غاية الالتباس و الاضطراب و الاستعصاء على الفهم أنظر معي ذات التعبير المرتعب في تعليق كاتب من لون آخر هو الكاتب الإسلامي الأستاذ فهمي هويدي على مؤتمر الأقليات الذي عقده ابن خلدون ، وذلك في 6 مايو 1994 حيث قال بصحيفة الوطن العربي " لست مطمئنا لأهداف هذا المؤتمر ، وأظن المؤتمر قد جمع ألغام الأمة العربية كلها وأراد أن يعبث بها " . وتتتالى التساؤلات تقفو بعضها بعضا بعد أن علمنا أن تلك الألغام ستنفجر في وجوهنا ... فمن زرعها ؟ الجانب الذين يحكيون لنا المؤامرات ليل نهار دون كلل ولا ملل ، أم نحن الزارعون ؟ الكارثة أن حديث الألغام هذا كان عن وضع أقليات البلدان العربية خاصة و ضع أقباط مصر الذي استشاط لوضعه على بنود المؤتمر كل السدنة و الكتبة ، و مجيئه في وقت متأزم بعد أن رفع أقباط مطالبهم مرة تلو أخرى لأولى الأمر منا دون جدوى حتى أصابهم القنوط . فنزحوا عن الوطن في هروب جماعي و هم زهرة شبابه المنتج ، أعطيناهم لبلاد الغرب المكروه لدينا بشدة بلا ثمن ، ليعلو هناك صوتهم بمطالب الأقباط ، و ليشكلوا للدبلوماسية المصرية في بلاد الحريات أرقا مزمنا . بينما فضلنا من جانبنا طوال الوقت دقتها و تغطيتها رغم تسميتهم لها الألغام ، و هو الأمر الذي بدت بوادره عندما وصل الصوت القبطي إلى المحافل الدولية ، مما دفع بالباحثين المستقلين إلى محاولة المساهمة في تفهم الأزمة و وضع البحوث بشأنها بغرض حلها و نزع فتيل ألغامها . فقام العناتر يتهمونهم بالعبث بالألغام التي لم يزرعوها ، ولازرعها الغرب المكروه ، إنما كانت وراءها طائفيتنا و عنصريتنا و فاشيتنا .. كنا نحن الزارعين . فهناك إذن ألغام حقيقية لا مجازا ، لكن أي محاولة لتعريتها هي خيانة للوطن و شق للصف الوطني و نشر للفتنة الطائفية و إضرار بالأمن القومي ( ؟! ) ... رغم أن الدنيا قد أصبحت غير الدنيا ، و أصبح هناك أكثر من مليوني قبطي يتحدثون خارج البلاد بلا تحريمات و لا حرج ، و نحن نصر على عدم الحراك خارج زمن الخيمة و القبيلة و البعير ، و لانفعل شيئا مطلقا لتطهير أرضنا من الألغام بل نستمر في زرع المزيد . لماذا ... لماذا يا خلق ؟!! الإجابة البسيطة الواضحة لكنها المؤلمة حقا تكمن في مواد الدستور الأولى الطائفية تماما العنصرية بالكامل ، حيث للدولة دين هو الإسلام ، و حيث الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي ، فماذا ستفعل دولة تعلن أنها دولة إسلامية بهذه المواد ؟ و بعد أن نفت من دستورها

35

مواطنين لا يدينون بالإسلام ، بل نفتهم من المواطنة ؟ ماذا ستقول لجماهيرنا المؤمنة الطائفية صاحبة الدين الرسمي بعد أن زرعت فيهم الطائفية و العنصرية زرعا نما و ترعرع عبر وسائل إعلامها و تعليمها و أزهرها الميمون صباح مساء و غدوا و عشيا ؟ و بعد أن ظلت تبكي عدالة الإنسانية المهدورة في أفغانستان ثم في البوسنة و الهرسك بانتماء إسلامي شق المواطنة المصرية شقا ، حيث انتمى المصري المسلم لطوائف خارج وطنه ، ووضع الإثم كله على رأس الطائفة المتاحة أمامه من بين وطنه ليدفعوا ثمن ما يحدث في بلاد الأفغان و بلاد تركب الأفيال ، و هو منطق بعني بوضوح أن غير المسلم في وطنه قد أصبح رهينة لأنه ينتمي إلى طائفة معادية . هل يمكن أن نصدق أن في العالم اليوم دولا ( عدانا بالطبع ) تفكر هكذا ؟ وتبني سياستها داخليا و خارجيا على أسس كتلك ؟ المهم أن الرد الدائم على مطالب الأقباط هو الكذب و الإنكار الذي ما عاد يمر في زمن سيولة المعلومات . بزعم يردده الجميع طوال الوقت أن المصريين مسلمين و مسيحيين كانوا و ما زالوا سبيكة واحدة . فماذا عن تلك السبيكة ؟!

4- السبيكة الوطنية : إثباتا لوجود السبيكة المسبوكة يستشهد المسبكاتية بالأقباط أنفسهم في أمثلة تاريخية نادرة المثال في الوطنية ، فتعيد صحيفة الشعب 18 / 5 / 1994 المتأسلمة تذكير المصريين ، أو بالأحرى تذكير الأقباط المحتجين بعبارة مكرم عبيد الشهيرة عندما قال زمن الاحتلال الإنجليزي " إنني مسلم وطنا قبطي دينا ؟! و بصرخة القمص سرجيوس في ثورة 1919 ضد الاحتلال : " إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية الأقباط ، فأقول : ليمت الأقباط و ليحيى المسلمون أحراراً " . و من نماذج أقباط اليوم نقرأ رد بعضهم على ما سمى فتنة أقباط المهجر من قبيل " نحن مصريون إلى أخر الزمان ، لا حب و لا انتماء لغير مصر " .. و كلام شبيه لكثير من الوجوه القبطية الرسمية يدلك الغرائز و منه قول البعض في الأهرام الحكومية " فنحن لا ننتمي إلى الدولار الأمريكي و لا إلى الحضارة الغربية " .. لا بأس أيضا رغم المغالطة بكلام إنشائي ، فالعالم اليوم نظام إن شئنا الانخراط فيه فلابد أن ننتمي بكل طوائفنا ، ولابد أن نصبح دولة منتجة يترجم إنتاجها و يسلع و يصنف و يقيم و يوضع بسعر عملة موحدة ، هي بورصة الأوراق المالية العالمية . كذلك حتى لو لم نشأ . و تبقى المجاملات الإنشائية بعيدة عن الموضوع .

36

و يتم الانطلاق من مقولات الأقباط الذين رفضوا و صفهم بالأقلية لأنهم مواطنون أصلا ( لكنهم أقلية حقوقية ) . لتخوين دعاة المجتمع المدني و وصمهم بشق الصف الوطني وزرع الشقاق بين عنصري الأمة ، بمثل تلك الشهادات القبطية الإنشائية الهلامية الزئبقية .. و هنا يتقاطع موضوعنا مع قضية سعد الدين مرة أخرى ، عندما نقرأ في صحيفة الجمهورية الحكومية في 3 / 7 / 2000 : " روى مصدر أمني للجمهورية قصة تورط سعد الدين إبراهيم في علاقات مشبوهة ببعض الدول الأجنبية . و كيفية القبض عليه ، فقال : إن تحريات أمن الدولة و بعض الأجهزة الرقابية أكدت أن رئيس المركز المقيم بالمعادي يحصل على أموال طائلة من جهات أجنبية في مقابل إمدادها بمعلومات مشبوهة عن اضطهاد الأقباط في مصر " . لنستمع إذن ، ما دامت الشهادات مطلوبة حول السبيكة ، إلى أقباط يقولون قولا آخر ، و نحكم أن القولين يدفع الجزية حديثا خطابيا في الهواء الطلق للحفاظ على مكاسب أو مناصب أو رضا رسمي ، و من يعلن سخطه الكامل بحقائق نرجو من أصحاب نظرية السبيكة أن يقدموا وثائق جحدها و إنكارها ليستبين لنا الخيط الأسود من الخيط الأبيض . وإبان ذلك نتأسى بذكرياتنا عن مكرم عبيد و القمص سرجيوس و موقف الأقباط التاريخي مع إخوانهم المسلمين ضد الاستعمار ، و كيف تم رد الجميل لهم بعد طرد الاستعمار و استيلاء الخفر المحلي في يوليو 1952 على حكم البلاد .. و حتى الآن . يقول نبيل عزيز عبد الملك : " بينما بدأت الدولة عهد عبد الناصر في التوسع فيما يعرف بالتعليم الأزهري بدءا من المراحل الأولى للتعليم و حتى الجامعة من خلال مؤسسات تعليمية مقصورة على المسلمين . استولت على كل المدارس القبطية التي كانت تضم تلاميذ من المسلمين و المسيحيين . كما بدأت زيادة تدعيم المؤسسات الدينية الإسلامية ، فأقامت مجمع البحوث الإسلامية ، و المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، و الإدارة العامة للدعوة الإسلامية ... هذا إضافة إلى إنشاء المكتبات الإسلامية بطول البلاد و عرضها ، و في مراكز الشباب و النقابات ، كما أنشأت محطة إذاعة دينية إسلامية ، و كل ذلك بدعم مالي ضخم في الوقت الذي لم تقم فيه الدولة المعاهد الدينية أو الثقافية القبطية على الإطلاق ... و بعد أن أممت الدولة كل المدارس القبطية و مدارس الإرساليات في أواخر الخمسينيات ، أضافت إلى مادة اللغة العربية المقررة على جميع الطلبة بصرف النظر عن انتمائهم الديني و في كل مراحل التعليم ، كمية كبيرة من

37

النصوص القرآنية ، بها العديد مما يتعارض مع عقائد المسيحيين و يسئ إليهم . بل فرضت على التلاميذ المسيحيين حفظ القرآن كنصوص لغة عربية . و في الثمانينيات و التسعينيات تطورت الأمور إلى ما هو أخطر وذلك بسماح الدولة بإقامة مدارس خاصة مقصورة على الأطفال المسلمين ، و فيها يلقنون الأطفال ما يحض على كراهية غير المسلمين و اللافت للنظر أن إيراد هذه المدارس معفى من الضرائب . أما في مجال الإعلام المرئي و المسموع ... فيتمتع المسلمون بساعات البث الديني و الثقافي الديني يوميا .. و لم يعط الأقباط إلا نصف ساعة لإذاعة جزء من قداس الأحد ، و حوالي ساعة لإذاعة جزء من عيد القيامة و أخرى لإذاعة عيد الميلاد السنوي . و نلاحظ نفس التمييز فيما يتعلق بالإعلام المقروء ، فبينما لا توفر الصحافة القومية أية مساحة عن الديانة المسيحية أو الثقافة القبطية إلا في العيدين المشار إليهما .. تخصص الصحف و المجلات شبه الرسمية الصفحات الأسبوعية للثقافة الإسلامية و على مستوى الجامعة بينما وجد قسمان للآثار أحدهما مصري قديم و الآخر إسلامي ، لم تنشئ الدولة قسما للآثار القبطية ، هذا على الرغم من أن الفترة القبطية تمتد لأكثر من ألف و مائتى عام ( من القرن الثاني قبل الميلاد إلى القرن العاشر الميلادي ) . في الوقت الذي تهتم فيه معظم جامعات العالم بالثقافة القبطية و حضارتها . و كان المؤتمر الدولي للدراسات القبطية و مقره بروما قد طالب الدولة على مدى العشرين سنة الماضية بإنشاء مثل هذا القسم ، كما طالب الأقباط بإنشائه لكن دون جدوى .. وقد شهدت السنوات العشرون الماضية على وجه الخصوص سيلا عارما من الكتب و المجلات الصادرة عن الأزهر .. و كلها تهاجم العقيدة المسيحية ، ليس فقط بأسلوب بعيد عن أمانة البحث بل و بعيد أيضا عن أدب الكتابة .. كما دأبت وسائل الإعلام المرئية و المسموعة و المملوكة للدولة على السير في نفس الخط .. لتصل الإباحة و الاستباحة إلى نشر أحاديث صريحة مسجلة على أشرطة فيديو يطالب فيها قائلون جموع المسلمين بعدم التعامل مع المواطنين الأقباط ولا مجرد تحيتهم " . هذه شهادة باحث تفرش لنا الأرضية الواضحة للاحتجاج القبطي و من نماذجها شهادة مريت بطرس غالي في مذكراته التي رفعها للدولة في 1979 يقول فيه : " فضيحة منكرة و اعتداء على النظام العام أن يعتنق مسلم واحد الديانة المسيحية ، و جائز و مقبول و مستحب أن يعتنق الإسلام مئات من الأقباط فتقدم لهم التسهيلات و العلاوات و الهدايا و تقام لهم الحفلات الزفاف

38

و الأفراح في الشوارع .. ومن يعتنق المسيحية طواعيه من المسلمين يتعرض للسجن و التعذيب و التطليق من زوجته و فقدان حضانة أولاده .. هذه أمثلة لانتهاكات حرية العقيدة و هي حرية من المفروض أنها مصونة حسب نص الدستور المصري ، و مع ذلك تلغيها المادة 98 ف من قانون العقوبات في حال تغيير المسلم دينه بادعاء أن هذا التغيير يعتبر تحقيرا للأديان ، كما أنه ينطوي على تهديد للوحدة الوطنية و السلام الاجتماعي " . مثال آخر نموذجه الباحث المسيحي سامح فوزي الذي لاحظ ما جاء في هامش مجلة الوعي الإسلامي في العدد 174 الصادر في إبريل 1979 ص 108 ، 109 في فتوى مرعبة حقا و كريهة و منفرة و بشعة تقول نصا " إن المسيحي الذي يقتل في الحرب إلى جوار المسلمين ليس له من أخرته شئ من الإيمان بالله ورسوله .. و المسيحيون .. أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، لأنهم آثروا الكفر على الإيمان و تركوا الحق و اتبعوا الباطل فكيف يتشرفون بالشهادة " .كما رصد الفتوى المنشورة في عدد روز اليوسف الصادر 5 / 4 / 1993 بعدم جواز تهنئة المسلم المسيحي بعيد القيامة لأن في ذلك اعترافا بقيامة المسيح ، و عدم جواز مشاركتهم أفراحهم و مآتمهم لأنها تجرى داخل الكنيسة . ولاحظ الصحفي المسيحي سليمان شفيق أمورا أخرى منها " اختصار فترة التجنيد في القوات المسلحة إلى ستة أشهر لمن حفظ القرآن الكريم .. و لا تختصر نفس المدة للمسيحي الذي يحفظ الإنجيل ... و الميزانية السنوية للأزهر و الدعوة الإسلامية بشكل قانوني من المال العام الذي يساهم فيه الأقباط دون أن ينالوا نصيبا ، مع عدم قبول جامعة الأزهر للطلاب المسيحيين و عدم السماح للمسيحيين بإقامة جامعة مثيلة .. و في قضايا الأحوال الشخصية أي نزاع ينشأ بين زوجين مسيحيين بسبب اعتناق أي من الطرفين للإسلام بعد الزواج تطبق معه أحكام القانون الإسلامي " . ثم يحيطنا الباحث المسيحي محب زكي علما أنه قد " أصبح عرفا لا استثناء فيه الامتناع الكلي عن تعيين الأقباط في بعض الإدارات الحساسة مثل المخابرات العامة و رئاسة الجمهورية حيث ينظر لهم على أنهم خطر على الأمن القومي .. و اختيار وزيرين من الأقباط من باب المحافظ على الشكل لتولى وزارتين هامشيتين ، و من بين حوالي 600 و كيل وزارة فإن عدد الأقباط منهم لا يزيد على 15 كما يوجد عشرة أقباط بين رؤساء الشركات المملوكة للدولة و التي يزيد عددها على 3600 شركة . و يوجد

39

سفير لمصر معين في دولة لا أهمية لها مطلقا لمصر .. و نسبة موظفى وزارة الخارجية من الأقباط حوالي 5و2 % ، و لا يوجد من الأقباط محافظ واحد أو مدير منطقة أو مدير جامعة أو عميد أو حتى وكيل كلية مؤسسة تعليمية عليا من مجموع هذه المؤسسات التعليمية التي يفوق عددها المائتين . " و إزاء كل هذا الحديث عن السبيكة المسبوكة يرى الدكتور إبراهيم كروان أن الفضيلة الغائبة عن دولتنا هي فضيلة المصارحة مع خداع النفس تحت دعوى حماية الذات الوطنية و القومية . ثم يتساءل : " هل الصحيح أن المواطنين مصريين مثل المسلمين تماما مستبعدون عمليا من قيادات الوزارات السيادية للدولة ، ليس بسبب اعتبارات تتعلق بانعدام الكفاءة إنما بسبب انتمائهم الديني ، أم أن مجرد طرح السؤال هو جزء من المؤامرة ؟ " يبقى أن نعلم أن تلك الشهادات جميعا مأخوذة من تقرير مركز ابن خلدون ( الملل و النحل ) الصادر في 1995 و من كتاب هموم الأقباط الصادر عن المركز ذاته ، و هو ما يفسر لنا سر الغضب الرسمي على المركز و صاحبه إضافة للأسباب الأخرى التي سبق الإشارة إليها . ( انظر التقرير 124 ، 125 ، 119 ، 204 ، 205 ، 206 ، 207 ، 133 ، 135 ) . هذه أمثلة قليلة من كثير مفجع ، و مع ذلك فإن مؤسسات السلطة و مثقفيها ينفون وجود المشكلة أساسا بل و يعمدون لإثبات أن الأقباط أكثر أقلية سعيدة في العالم . و هكذا لن نحتاج إلى جهد كبير لاستخلاص أن دولتنا تفكر بعقلية القبيلة العربية الغازية المستوطنة في غير وطنها ، بعقلية السيد الفاتح الذي يستبعد من تاريخ البلد المفتوح كل ما سبق الفتح ، عقلية تستبعد من تاريخ مصر الحقبة القبطية بالكامل من مناهج الإعلام و التعليم لأنها كانت حقبة مسيحية غير عربية رغم أنها حقبة مصرية و جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر المتصل . دولتنا تفكر بعقلية الغازي المغتصب حتى اليوم ، كما لا ترى في مصر مشاكل للأقباط بل ربما هم غير موجودين في قاموسها اليومي أصلا . و لا غرابة أن تتفق بذلك مع زعيم جماعة الإخوان المسلمين و مرشدها العام السيد مشهور الذي أعلن منذ سنوات أنه يجب عدم تجنيد الأقباط في الجيش تحسبا لخيانتهم مع وجوب دفعهم الجزية ، فهل ثمة جزية بعد كل هذا ؟! المصيبة في مناهج مثقفينا اتفاقهم على العويل لما يجرى للأقليات المسلمة في أوروبا أو بلاد تركب الأفيال ، لكنهم لا يرون أبدا حقوق أهل

40

الوطن . هو ذات المنطق الصهيوني عندما كانت إسرائيل تنفي وجود شعب فلسطين في أرض فلسطين .. و يلعنون منطق الصهاينة بكرة و أصيلا رغم شاعرنا الذي و بخ من ينهي عن فعل و يأتي مثله ، لأنه عار علينا إن فعلنا عظيم .

5- عن ضرورة المراكز البحثية : في ثقافتنا المنشورة يظهر لدينا مع أزمة سعد الدين إبراهيم اتجاه آخر ، يرى أنه لا حاجة بنا إلى باحثين مستقلين ، و لا مراكز بحثية أهلية ، لسبب واضح مقنع هو أن الدولة لديها مراكزها البحثية ، و فيها كفاية و غنى ( ؟ ! ) هذه ليست ملحة و لا نادرة فكهة .. تعالوا نقرأ معا مجلة آخر ساعة المملوكة للدولة في 20 / 10 / 1999 في نص لطيف ظريف لا يعرف ما هو البحث العلمي و لا معناه لكنه يصول و يجول في صحف الدولة و مجلاتها ، يقول فيه المثقف العريف الفهيم : " علماؤنا يؤكدون أن في مصر مركزا قوميا للبحوث الاجتماعية تابعا للدولة ، و لديه خطط و مبادئ و خطوط فاصلة ، تغنينا عن أية مراكز بحثية خاصة تمس أمننا الاجتماعي و القومي ، فهذه المراكز الخاصة تحتضن عقولا مشغولة .. بجميع العملات الصعبة ، أكثر من انشغالها بمشاكل المجتمع . " و هكذا فالدولة عند مثقفيها هي صاحب الحق الأوحد في البحث ، و غيرها مشغول بجميع الأموال بحجة البحث العلمي .. و هذا توجه و فهم و طرح بحاجة إلى مناقشة . لنستمع إلى باحثي هذا المركز القومي التابع للدولة إذن .. مستشار المركز الدكتور أحمد المجذوب يقول لــ " آخر ساعة " بذات التاريخ في ذات الموضوع : " إن المركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية الذي أنشئ منذ عام 1956 قد أنجز كما هائلا من الدراسات و البحوث في كل المجالات التي تخطر لك على بال . مما يغنينا عن أية مراكز بحثية تمس الأمن الاجتماعي و القومي " . حتى الآن لا مشكلة ( لو سلمنا دون مناقشة ) ، لكن المشكلة تظهر عندما نقرأ للدكتور المجذوب نفسه لكن في تصريح آخر لصحيفة العربي بتاريخ 9 / 7 / 2000 تحت مانشيت ( ألغام البحث العلمي في مصر ) يقول فيه قولا آخر ، لابد أن يكون فيه أحد القولين كاذبا و ملفقا و مزورا لنستمع إذن : " إن تبعية المركز المباشرة للدولة من خلال وزارة الشئون الاجتماعية قد وضعت له خطوطا حمراء لا يتجاوزها البحث العلمي ، لذلك لا تجد دراسة موضوعية عن واقع الأوضاع السياسية في

41

 

مصر . بل رغم وجود المركز في قلب أحداث إمبابة الشهيرة لم يقم حتى الآن بدراسة ميدانية عن الإرهاب . و لقد تقدمت بمشروع دراسة عن ذات الموضوع عندما كانت آمال عثمان وزيرة للشئون الاجتماعية ، و كانت مديرة المركز د . ناهد صالح ، و تم رفض المشروع بحجة عدم وجود ميزانية كافية و لطابع المركز الحكومي لا يمكن إذن أن ننتظر فيه دراسة كالتي قام بها سعد الدين إبراهيم عن الوعي لدى الناخب المصري . و يضيف المجذوب : هناك عواما أخرى تقيد نشاط المركز البحثي أهميها على الإطلاق طبيعة المناخ السياسي الديمقراطي العام . فكما أن الحرية مفقودة في الحياة السياسية و الإعلامية فهي أيضا غائبة في الحياة العلمية .. فلا يستطيع باحث من المركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية جمع بيانات من خلال استمارة استبيان إلا بموافقة جهاز التعبئة العامة و الإحصاء على موضوع البحث و الدراسة ، بل إنه لا يستطيع الحصول على تقارير مصلحة الأمن العام أو أي بيانات أو معلومات أخرى متعلقة بالجريمة تصدرها تقارير وزارة الداخلية دون إذن وزير الداخلية شخصيا ودون أن يمر موضوع الدراسة على مكتبه و يحصل على تأشيرة الموافقة " . و في حركة إدانة مبطنة للرأي المخالف تنشر " آخر ساعة " في العدد المشار إليه قول الدكتور سينوت حليم( وهو مسيحي كما يظهر من اسمه )هو عضو في مؤسسات هامة منها المركز القومي الذي نحن بصدده " المركز القومي تمويله قليل فنحن لا نستطيع أن نشتري الدوريات العالمية بل نحصل عليها إما بالاقتراض أو بالتصوير .. أنا عايز معلومة معينة ، من الذي يمولها ؟ الأمر لا يهمني " . نستمر ننقب وراء المركز القومي الذي يغنينا عن أي بحوث فردية مستقلة أو أهلية ، لنستمع إلى قول منسوب إلى مستشار المركز السابق علي فهمي يقول لصحيفة العربي بذات التاريخ . ردا على الدكتور المجذوب (؟‍ ) : " ليس صحيحا أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية قد أهمل قضايا خطيرة مثل الإرهاب أو عمل استطلاعات رأى من قبل جهات سياسية مباشرة ، فمثل هذه الدراسات يتم تكليف المركز بها من قبل جهات سيادية

أو صانع القرار ، وفي هذه الحالة يتم تكليف المركز بها من قبل جهات سيادية أو صانع القرار ، و في هذه الحالة تتخذ تلك الدراسات طابع السرية ، حيث لا يعلن عن نتائجها لأسباب متعلقة بالأمن القومي و ليس معنى مشروع لدراسة الإرهاب للدكتور أحمد المجذوب أن هذه القضية لم تدرس ، فهناك عشرات المشاريع التي ترفض " . إذن لا يحزن المجذوب على مشروعه و حياته العلمية و شهاداته لأن

42

قواعدنا فوقية و ليس مشروعه فقط هو لم يدرس فهناك عشرات المشاريع ترفض ، و في الوقت ذاته فإن المركز لا يهمل قضايا ( ؟) .. هذا قول منسوب لباحث كان مستشارا للمركز ( ؟ ) و نتابع مع الصحيفة حوارها مع المستشار السابق فتقول عنه " لكن الدكتور على في ذات الوقت يؤكد حقيقة أخرى هي ضعف المستوى العام و ضعف أداء الباحثين الجدد ، و يقول إن عنصر الواسطة قد دخل في اختيار الباحثين .. و يمكن عد الباحثين المتميزين على أصابع اليد الواحدة ، و يضيف علي فهمي : إن مركز البحوث يعاني خللا خطيرا في هيكله الإداري ، حتى إنه عندما قامت د . زيني رضوان بتقديم استقالتها و كانت رئيسة وحدة البحوث الدينية . ألغيت هذه الوحدة ... ويكمل تقييمه للمركز قائلا : إن ميزانية المركز معقولة و الباحثين متوافرون بشكل جيد ، لكن الناتج النهائي ضعيف من ناحية الكيف " الكلام ليس بحاجة لشرح و لا تعليق ، فمركز الحكومة البحثي مثله مثل كل لافتات الدولة المرفوعة كواجهة تجميلية أمام العالم ، لهذا لا يتم حل المشاكل و لا تفكك الألغام التي يتحدثون عنها . حتى يكاد الظن يذهب بنا إلى أن ترك هذه الألغام كما هي أمر مقصود كي يظل المواطن رهينة عند السلطة . و كي يبتعد الجميع عن حقول الألغام خوفا ورعبا . أما الخلل الذي أشار إليه المدافعون عن مركز الحكومة البحثي فمعناه عدم الأداء اللا عمل ، و عندما يأتي باحث من خارج السلطة ليعمل و يحاول نزع فتيل الألغام يصبح من الخونة الذين يشقون الصف الوطني .. يعني لا نور و لا ماء و لا هواء ، و يصبح حجب المعلومة خارجا وداخلا واجبا وطنيا ، و بالطبع حجبها بالأساس عن المواطن المزروعة تحت قدميه . أما الملحوظة التي تفرض نفسها بقوة أن مراكز الحكومة البحثية لا تبحث لأنها تنتقي مشكلات وطن يستحق عناء الباحثين لكن لأنه يتم تكليفه بموضوعات البحث من جهات سيادية و تتخذ طابع السرية لأسباب تتعلق بالأمن القومي ، في وقت تركن فيه ذات الجهات السيادية المرحوم الشيخ الشعراوي يكفر بنصف الأمة في تليفزيون الدولة لسنوات .. فماذا عن الأمن القومي هنا ؟! و من يثير الفتنة الطائفية ؟ أم أن الحكاية تشبه حكاية الفتوة الذي لا يستطيع أن يخفي قبحه فيخيف الناس برفع الغطاء عن عورته ؟

6- عن المعلومة و الأمن

في مذكرة الدفاع التي تم تقديمها إبان التحقيقات الأولية مع سعد الدين إبراهيم ، برزت عدة ملاحظات جديرة بالعرض ، و هاكم تلك

43

الملحوظات حتى يمكن لمن أجب إقامة سرادقات العزاء لنقول لبعضنا البعض : عظم الله أجركم في مصر !! أنظر معي : الزمن وقت الاستعداد لانتخابات برلمانية جديدة ، بعد دوى هائل أحدثه حكم المحكمة الدستورية بعدم شرعية البرلمانية السابق هو أيضا الزمن الذي أعلن فيه سعد الدين إبراهيم عزمه على توسعة التجربة السابقة لمراقبة الانتخابات ، و لقت دعوة الدكتور سعد صداها في عدد كبير من وسائل الإعلام العالمي ، التي لم تعد بحاجة إلى دعوة لحضور حدث الانتخابات . أيضا هو الزمن الذي يشهد تداعيات المشاكل مع أقباط المهجر وصوتهم العالي في مهجرهم و تعالى اللغط حول الحريات في مصر بالكونجرس الأمريكي . في هذا الزمن تحديدا ، و ليس قبله و ليس بعده ، تقرر السلطة اعتقال سعد الدين بعد اتفاق واضح تم إبرامه سلفا مع معظم الصحة المصرية إن لم يكن جميعها لتشن حملة تشويه و تشنيع واسعة النطاق و غير مسبوقة . هذا رغم كل ما لسعد من حول وطول . فهو رجل علم اجتماع معروف دوليا . و ناشط سياسي عريق . وداعية ديمقراطية معلوم الشأن وجنسيته الثانية أمريكية ، وذو علاقات دولية واسعة ، إضافة لصداقة لعدد كبير من الوزراء و المتنفذين في مصر ، و كان من خيرة مساعدى النظام عند الاحتياج إليه . ورغم كل ما لدى سعد اعتقلوا سعدا وتم تشويهه بالكامل ، و النتيجة المنطقية التي لابد أن يصل إليها أي مفكر أو باحث خارج السلطة " لقد هلك سعد ، انج بجلدك يا سعيد " . و كانت هذه هي الرسالة الموجهة إلى الداخل بعد بيان المائة الذي وقعه المثقفون إبان أحداث قرية الكشح ... و كان أبرز الاتهامات في صحافتنا و بأقلام مثقفي السلطة أن سعد أساء إلى سمعة مصر في الخارج ، و صحب الاتهامات زفة التجريس المعلومة في بلادنا منذ زمن المماليك ، أيام كانوا يحلقون رأس المحكوم ويضعونه عكسيا على دابة تطوف به المدينة في زفة تجريس علنية .. و استمرت الزفة لاغتيال سعد مدنيا رغم تلاحق التقارير المصورة في وكالات الأنباء الدولية لرجال الشرطة يضربون الناخبين ، و لما حدث في الجولة الثالثة للانتخابات التشريعية الجديدة ، دون أن يحتسب ذلك بالطبع إساءة لصورة مصر في الخارج . مرة أخرى يتساءل العقل عمن يسئ إلى سمعة مصر في الخارج و هو يتذكر أيام كان العالم المتحضر يستعد في ديسمبر 1998 للاحتفال باليوبيل الذهبي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في باريس

44

1948 ، عندما اختار جهازنا الأمني التوقيت المناسب لاعتقال حافظ أبو سعدة أمين عام المنظمة المصرية لحقوق الإنسان في وقت كان ينتظره فيه الرئيس الفرنسي شيراك ، لأنه بين المكرمين في المناسبة التاريخية . و بينما كانوا يبدأون عندنا زفة التجريس بحلق شعر رأس أبو سعدة بدرجة ( زيرو ) كما يقول أهل المدن أو ( ظلبطة ) كما يقول أهل الريف ( حيث إن ثقافة الإذلال الإنساني في بلادنا أصبحت لها لغتها الخاصة لعراقتها ) ، كان الرئيس الفرنسي يتصل بالسلطات المصرية مستفسرا عن صحة ما بلغه ، لتفرج عنه السلطات و تضعه على أول طائرة إلى باريس ليتسلم الرجل نيشانه ولم تزل آثار المهانة على رأسه تلمع .الملاحظ في الحالتين غياب منهجي تعتم معه رؤية متغيرات العالم ، و غياب كامل للمعلومة المفترض أنها مهمة جهاز الأمن الأولى .. لقد آمن جهاز الأمن بأن المعلومة خطر فمنعها على الناس جرمهم بسببها ، وإمعانا في الإخلاص منعها على نفسه . وتتوتر العلاقات الأمريكية المصرية فيكون الرد العاجل اتهام سعد بالتخابر لصالح أمريكا في تحقيق يوم السبت 5/8/2000 .. و قامت التهمة على دعوة تم العثور عليها في أوراق سعد للمشاركة بورقة بحثية ، وجهها إليه معهد الدراسات الاستراتيجية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية . و هنا أيضا تغيب المعلومة في موقف دبلوماسي مع أكبر دولة في العالم ، حيث يكشف سعد في التحقيق أنه كان مدعوا ضمن وفد مصري يضم عددا من السفراء وضباط الجيش المصريين ، وأيضا الوزير الحالي علي الدين هلال ، و مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام الدكتور عبد المنعم سعيد ، و اللواء أحمد فخر ، إضافة إلى أن أعمال هذا المؤتمر قد تم نشرها هنا في كتاب ... ( ؟! ) و تتراجع الدولة بعد الاكتشاف و يعلن النائب العام أنه لم يتم توجيه تهمة التخابر لسعد بعد أن تم نشرها في كل الصحف ووكالات الأنباء مع زفة التجريس المعتادة لمرتكب جريمة الخيانة العظمى (؟!!) .

فمن الذي يسئ إلى صورة مصر أمام العالم ؟ مثال أخير من نماذج كثيرة بهذا الصدد ، يتمثل في اتهام سعد الدين إبراهيم بتلقي أموال من الاتحاد الأوروبي نظير معلومات تضر بالأمن القومي المصري ، لكن ليعلن الدفاع أن مركز ابن خلدون لم يتعامل أو يتعاقد على الإطلاق مع كيان أو هيئة تسمى الاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه و حتى الاعتقال ، إنما تعامل مع الجماعة الأوروبية و هي كيان كونفيدرالي سيادي له مفوضية مستقلة بالقاهرة ، وله أمانة عامة في

45

 

بروكسيل ، و يرتبط مع مصر باتفاقات و معاهدات أصبحت جزءا من القانون بعد أن أقرها مجلس الشعب ، وهذه الجماعة الأوروبية تتعامل مع الحكومات و مع تنظيمات المجتمع المدني و القطاع الأهلي ، وأن مصر وقعت معها اتفاق برشلونة الذي يتضمن اتفاقا على مخصصات من هذه الجماعة تمنح للجماعات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني بموافقة الحكومة المصرية . ومع بدء اعتقال سعد واتهامه أصدرت الجماعة الأوروبية بيانا من بروكسيل في 13/12/2000 تؤكد هذه المعاني وأن الحكومة المصرية شريك موقع على الاتفاق بدعم دعاة الديمقراطية و المجتمع المدني ، ثم أضافت نصا له مغزاه ودلالته يقول : " إن مشروعي مركز ابن خلدون وهيئة دعم الناخبات قد خضعا لمراجعة خارجية أثناء تنفيذه ، ولم تشر تقارير المراجع الخارجي إلى ما يمكن أن يثير أي تساؤل مالي . أو مضموني " !! ولا تعليق إلا علامات التعجب والدهشة .

7- التمويل المحلي والأجنبي :

في هذه المنطقة الحساسة عند صحفيينا ومثقفينا الأشاوش الذين لا يجدون أي غضاضة في التمول من أي نظام عربي فاشى ، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها على أي متمول من المؤسسات الأهلية في بلاد الغرب الحر ، لابد أن أوضح أن كاتب هذه السطور بالتعبير المصري العامي الدارج راجل فقري ، لا يملك لحب الفقر دفعا ، فلم يتمول لا من أجنبي ولا من عربي ولا من مصري ، و يعيش كفافا كافيا نفسه شر المتطهرين من مثقفينا المحترمين ، وسعيد بما لديه ، هذا رغم أن هذا الأسلوب في الحياة لباحث يحمله فوق الطاقة للحصول على مصادر مادته العلمية ، لأن أي بحث علمي يحتاج إلى تمويل يجب أن تقدمه الدولة والمؤسسات حكومية أو أهلية أو أفرادا قادرين للباحثين المتفرغين للعمل العلمي . لكن تجربتي الشخصية أثبتت أنه إذا أردت أن أكون مستقلا تماما حتى أقول ما أريد دون قيد أو تحريمات أو ضغوط في بلادنا كبلادنا فعلي أن أتحمل وحدي نفقات عملي نأيا بنفسي عن الاتهامات و التشوهات ، وأهدي ما أعمل لأبناء وطني حبا وكرامة بينما يترصد ني بعضهم ليدخل بدمي جنات الرحمن . هذا على مستوى البحث العلمي النظري ، فماذا عن مستوى آخر هو مستوى البحث الميداني و الحركي النشط ، الذي يحتاج إلى عدد من الباحثين في فريق و عاملين وإداريين إضافة إلى الأنشطة الميدانية والندوات و المؤتمرات ليحقق وجوده المسموع والمؤثر ؟ هنا يصبح حديث

46

الرهبان عن الباحث الزاهد كلاما أقرب إلى الخرافة قد يصح مع شخصي الضعيف الذي ينشغل في عمله بالخرافة والأسطورة ، لكنه لن يصح أبدا بحال مع العمل الحركي النشط ، ويصبح التمويل ضرورة دونها العبث . وتعالوا نناقش المسألة ، نسمع من الدكتور سعد الدين إبراهيم إجابته عن السؤال حول تمويله من الخارج ، في صحيفة الأحرار 5/7/2000 ، بقوله المبرر و المتطهر : " إن الهدف من عملنا دائما هو مصلحة مصر " . وبغض النظر عن تثمين هذه الإجابة ، يشغلنا رد الصحفي المستنكر " ومصلحة مصر بأموال أجنبية ؟! . ورد سعد بشكل ربما أفضل بعض الشئ من رده السابق : " المهم أبحاثنا هل تخدم الناس أم لا ؟ " هذا الصحفي نموذج للعقل الغائب أو الفصامي . فهو يستغرب الإجابة ، لكنه يثير الاستغراب والغرابة ، ولا يستذكر أن مصر أكبر دولة ممولة من العالم إذ يصل حجم تمويلها إلى خمسة مليارات دولار سنويا من مختلف دول العالم . و هو باستغرابه وعدم استنكاره يعبر عن أخلاق مجتمع لا يريد معرفة ذاته بمثل تلك الأبحاث بل ويهرب من مواجهة نفسه ، بعكس المجتمعات المتقدمة التي تسعى لمعرفة ذاتها ونقد مناهجها وبيان أخطائها بكل أنواع التمويل لمراكزها البحثية التي تقدم لها هذه المعلومات . هذا مستوى ، وهناك مستوى ضمني في رد الصحفي المستنكر المستغرب ، لأن التمويل يصبح خطيئة أخلاقية عندما لا تعطي المقابل ، عندما لا تنتج ، وسعد أنتج ، فماذا عن مؤسسات دولتنا الممولة جميعا ؟ وماذا عن الديمقراطية في بلادنا وهي المقابل للتمويل الغربي ، لتمكيننا من إنجاز الإصلاح الاقتصادي ومن ثم ديمقراطية سليمة . لقد قبضت الدولة الفلوس فهل سلمت البضاعة ؟ هذا منطق السوق . هل أقمنا ديمقراطية مقابل الفلوس ؟ إضافة إلى مقارنة واجبة بهذا الشأن أن مركز ابن خلدون و الجهات المانحة لا تعمل في السر بل تعلن عن مشاريعها وأهدافها وقيمة التمويل و تنتج المقابل و تنفذ بل وتدفع عنه الضرائب للدولة (؟!) ، لكن هل بيد أحدنا أي تفاصيل حول المعونات الأجنبية للدولة و مشاريع وجهات صرفها ؟ ناهيك عن كون التمويل على مستوى الحكومة مشروطا وغير شفاف ، فهل المعنى في عقل المثقف الذي يمثله صاحبنا الصحفي هنا أن الأفضل أن تضلل و تلتبس وتزيف ويكون هذا مقبولا ، أما أن تكون واضحا شفافا فإنك تصبح مصدرا للقلق . هو ذات الخط النظري الذي حول

47

مواطنينا إلى شيوخ يتطهرون بالشعارات و الحديث المتوضئ بالنصوص المقدسة بينما السلوك على كل المستويات في الاتجاه النقيض . إن المقارنات الواجبة أكثر من أن تحصى ، لذلك نستذكر فقط الأمثلة ، وما أوضحه في الذكرى مؤتمر القاهرة للسكان الذي كان ممولا من الألف إلى الياء ، وحاربت الدولة من أجل عقده بالقاهرة ، لتجميل وجهها أمام العالم المتحضر . ومن ذكريات ذلك المؤتمر الطريفة أو الحزينة ، أن الدولة المصرية جهزت ورقتها التي ستلقيها في المؤتمر كبقية التقارير الخطابية المعلنة على شعبها فكل شئ تمام في نظام مثالي أنجز ما لم ينجزه آخر . لولا عاقل في النظام تنبه للورقة الفضيحة فذهب يسعى باحثا عمن يستطيع أن يكتب ورقة كتابة الورقة من جديد ، وكان كاتبها هو الدكتور سعد الدين إبراهيم ( فيما أحاطني به شخصيا – ولتوثيق الأمر سجلت هذا الحديث على شريط كاسيت ) لتقدم باسم الحكومة المصرية . فالنظام فقير معرفيا ومنهجيا ، وليس لديه مثقفون بالمعنى الدقيق للكلمة ، لأنه أختار من يكتبون له ما يحب ويريد ما يضمن استمرار الولاء له والدفاع عنه ، لذلك لم يتم العثور على واحد فقط بين مثقفي النظام يمكنه أن يفهم لغة الخطاب المطلوب أمام العالم . وتكررت المأساة الملهاة مرة أخرى في مؤتمر المرأة في بكين . وكان الأداء الدولي المصري مثارا للسخرية لأنهم ذهبوا يجملون وجه النظام في بكين . وكاد العار يلحق مصر جميعا لولا نشاط الجمعيات المصرية الأهلية المتهمة بالتمويل جميعا ، وكان دورها هناك ممولا بدوره ، لكنه كان الإنقاذ ، لكن حتى تكون الفضيحة بجلاجل ، فإن من هاجم الأوراق المقدمة من الجمعيات الأهلية المصرية داخل المؤتمر ، كانوا هم العناصر التي اختارتها الدولة المصرية لتمثيلها هناك ، فكشفوا عن وجه عنصري طائفي فاشي متطرف أساء لوجه مصر إساءة تحدث بها الركبان .

السؤال هنا إزاء قبول الدولة للتمويل أو السماح به كما في مؤتمر السكان ومؤتمر المرأة ما الحكمة إذن في تجريمه مع ذات الجماعات الأهلية عندما تتحدث عن حقوق الإنسان بينما تمويل الدولة نفسه هو من أجل ديمقراطية سليمة ومن أجل حقوق الإنسان ؟ أين المباح ؟ وأين الممنوع حتى نفهم ولا نخطئ ولا نجرم ونحاكم ونسجن ؟ إن ما تفعله الدولة تدينه ، وهذا يشوشنا فلن نعد نعرف ما هو المسموح به وما هو غير المسموح ، ولابد للدولة من قواعد واضحة ، وما

48

ينطبق على الأفراد لابد أن ينطبق أولا على سياسة الدولة التي هي النموذج المثالي للمواطن . ثم ألا يصح في مقامنا هذا أن نتساءل عن حجم التمويلات التي تصل إلى مؤسسة كالأزهر الظاهر منها و الخفي ، أم أن الأزهر منطقة حرام ؟ التساؤل يلحقه بالضرورة سؤال آخر : ماذا ينتج الأزهر ؟ إننا نعلم أن الدين ليس إن إنتاجا إنسانيا بل هو وحي إلهي ، إذن لا إنتاج يقدمه الأزهر . وفي حسابات الفلوس و التمويل لابد أن نتساءل عن العائد و الإنتاج المضاف إلى رصيد الوطن .. فما هو ؟ إن قراءة مادة واحدة تدرس في كلية الدعوة بالأزهر تكفينا لمعرفة مصدر الإرهاب الفكري و الدموي . وعندما يقوم مركز ابن خلدون بإعادة تأهيل التائبين من الإرهابيين يصبح جريمة و فضيحة و سرقة ، رغم أنه كان يقوم بتأهيل ضحايا الدولة وأزهرها ، وهذا ممول و هذا ممول ، لكن الأزهر هو المبرراتي الشرعي لتصرفات السلطة و المصدق الديني لقراراتها . ومع الخط النظري للدولة ومواطنيها ، و عمليات تزييف الوعي و التجهيل الإعلامي و التعليمي ، نجد الدولة والأفراد غاية في الكرم عندما يقيمون آلاف المساجد ويستوردون لها الرخام و السيراميك و الأخشاب النادرة من البلاد الشقراء الحسناء ، لكن يصيبهم العطب و الشح عندما يكون ذلك من أجل البحث العلمي ، ولا نعلم كيف لا يخجل من يعلنون نسبة البحث العلمي في ميزانية الدولة ( ستة من عشرة بالمائة ) بينما هي ثلاثة بالمائة في دولة إسرائيل . و هو التفسير الواضح الفصيح لخيباتنا إزاءها . وهو ما دفع مجدي يعقوب و فاروق الباز وأحمد زويل و غيرهم كثير لترك الوطن إلى بلاد العلم ، حيث التمويل من أجل الإنتاج و الإنجاز و ليس مقايضة الفساد بالفساد . فالدولة هنا شديدة الكرم فقط في العمولات المقننة لحراسها ومثقفيها ومؤسساتها الدينية الذين يرفلون في النعيم العظيم لأنهم في النهاية يردون الجميل .

السؤال البسيط هنا عن وضع سعد الدين إبراهيم في المعتقل لتمويله أو لأنه تحدث عن تزوير الانتخابات ووجوب مراقبتها ( رغم حكم المحكمة الدستورية ببطلان شرعية المجلس المنحل ) ، فماذا عن تقيين الرشوة باسم العمولات ؟ انظر ما نشرته العربي الناصري في 10 سبتمبر 2000 تحت عنوان ( حاكموا سليمان متولي أو حاكمونا ) ، تؤكد أن العمولات التي تلقاها المسئولون عن قطاع الاتصالات في مصر الذي رأسه الوزير سليمان متولي بلغت ستة عشر مليار دولار عمولات زمن وزير واحد في قطاع واحد . ترى كم عمولات الآخرين في مختلف القطاعات ؟ ترى كم

49

كان بإمكانها تمويله من بحوث علمية ومراكز بحثية أرقام خيالية كتلك ؟ في ضوء هذا البذخ لماذا لم تمول الدولة مرتكز ابن خلدون ؟ وهل كانت ستموله حقا وفق أهدافه المعلنة ؟ تعطيه ثمن عمله ليعطيها إنتاجا في شكل معرفة ؟ بالطبع هذه أسئلة افتراضية لأن الدولة لديها مثقفون الذين يبررون كل قرار وبدون إثارة مشاكل . لكن المواطن خارج سلطانها ليس له سعر ، و ليس لعمله سعر . إما أن يعمل ما تريد و يكون تابعا أو لا يعمل ، وإن عمل وتمول خارجيا يعتقل لأنه ليس هناك تقييم عمل من أي نوع . التقييم الأزلي الأصيل الموروث هو الوحيد الباقي : سادة وبطانتها والبقية عبيد وموال ، ووجهة نظر الدولة هي الحلال المشروع وغيرها هو الحرام و الضلال و الخيانة الوطنية و القومية و الدينية . ألم نقل إنها امتداد للزمن الخليفى ؟

50

وليمة لأعشاب البحر

وحلف خراب مصر

إن رجال الدين في جميع الأمم و العصور يطلبون الحكم ويريدون أن يكون بيدهم زمام الناس يأمرون فيهم و ينهون ، و يحرمون عليهم و يحللون . فإذا لم يستطيعوا أن يكونوا هم أنفسهم ولاة الأمر وأرباب السلطان التجأوا إلى رجال الحكم السياسي يستمدون منهم القوة و يتخذونهم وسيلة إلى الحكم . و الحكام السياسيون من الجهة الأخرى يريدون أن يكون لهم على قلوب الرعية سلطان ديني ، يثبت لهم الحكم و يمكن لهم من رقاب الأمة ، لذلك كانوا يزعمون أنهم ينوبون في الحكم عن الله .. و على هذا الأساس أرادت القوة السياسية من قديم الزمان أن تحدث لها في

مصر قوة دينية تؤيدها و تعاضدها ، فأنشأت الجامع الأزهر وأسبغت عليه اسم الدين و على أهله بردا دينيا ، وما برح الأزهر منذ يومئذ ربيب السياسة وآلة الحكام السياسيين وسندهم .

" الشيخ على عبد الرازق "

51

هناك أمور تحدث في الوطن ، قد يتم التوافق على مرورها بهدوء منعا لنتائج أفدح وأوخم ، لكن هناك أمورا أخرى لا يمكن السكوت عليها مهما كانت النتائج ، لأن الصمت ، أو الحديث الحذر ، ستكون نتائجه مدمرة ، لأنها تتعلق بمصير الوطن ووجوده على صفحة التاريخ . وأوهم تلك الأحداث الخطيرة الوخيمة العواقب ، تلك الهزة الكبرى التي أحدثتها رواية ( وليمة لأعشاب البحر ) ، الصادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة إحدى هيئات وزارة الثقافة ، وما لحق تلك الهزة من توابع متلاحقة شديدة الزلزلة . و هو الأمر الذي سنستثمره لدراسة ما هو أبعد وأجدى بالبحث في جذور المسائل و مسبباتها الكامنة . لذلك سنبدأ بالوقوف مليا ، نعمل قوانين الفكر فيما حدث ، وما قد يحدث نتيجة امتداد الحدث في جذور عميقة تحت السطح الظاهر . نحاول الفهم و التحليل ، وإعادة ترتيب الأحداث ، للوصول إلى نتائج واضحة حول الأسباب و الدوافع والأدوار الكامنة وراء الأحداث ، وأصحاب تلك الأدوار ، حتى لا يتكرر الحدث الهائل مرة أخرى وأخرى ، فيجر على البلاد خرابا ودمارا ، ومصر فيها ما يكفيها . فهو نوع من الأحداث التي لم يعد بالإمكان السكوت عنها أو على اللاعبين بنيرانها . وحيث إن صاحب هذا القلم لا يخشى أحدا و ليس على رأسه أي بطحة من أي نوع ، ولا يملك أموالا يخشى ضياعها و لا تمويلا يخاف عليه من الانقطاع ، ولا يحتاج لعلاقات بذوى نفوذ يخشى خيارة منافعهم ، ولا يملك سوى قلمه وأوراقه وحريته التي يصر على تفعيلها بشجاعة لا تهاب أحدا و لا تستأذن أحدا ، ويثق بأنه صاحب نصيب في تراب هذا الوطن سيأخذه حيا أو ميتا ، لهذا جميعا سنلقي في هذه الدراسة قولا ثقيلا ، لا يضع بحسبانه أية حسابات لأي شخص أو هيئة أو مؤسسة ، سوى مستقبل يعيش فيه أبنائي زمنا أفضل مما عشت ، ومصلحة وطن هو فوق كل المصالح وفوق جميع الشخوص وفوق كل المقامات ، وأغلى من كل القباب المقدسة .

 

53

 

و حتى نفهم ، و نحلل و نستنتج ، لنكتشف أدوار اللعبة و اللاعبين علينا أولا إعادة ترتيب الأحداث الأخيرة المؤسفة ، وفك خيوطها المتشابكة حتى نكتشف أين تكمن العقد الرابطة بينها ، وإلى أي يد ينتهي طرف الخيط ، و العقول المدبرة التي تقف وراءه . ظللنا طويلا نختبر مدى صلابة الهامش الديمقراطي المسموح به في مصر إزاء ما كانت تقوم به صحيفة الشعب . ومع كل فتنة كبرى كانت تثيرها تلك الصحيفة كنا نطمئن النفس أحيانا على ذلك الهامش وإمكانات اتساعه يوما بعد يوم ، مع صبر مفهوم من مؤسسات الدولة إزاء صحيفة لا تنشغل إلا بإشعال الحرائق في الوطن ، وأخص بالذكر مقالات الطبيب ( محمد عباس ) الذي استمر ما ينيف على عقد من الزمان يكتب ما لا يمكن تصنيفه ضمن أبواب النقد المثمر أو الأغراض الإصلاحية بقدر ما كان لونا من السفه و البذاءات المتكررة الدائمة . حيث كان يوزع الاتهامات الشنيعة دون وثائق إدانة ثبوتية واضحة على الجميع ، بلون يشير إلى قلم مصاب بلوثة غير مسبوقة و لم يسلم من لسانه لا الصحفيون ولا المبدعون ولا المثقفون ولا المفكرون ولا الوزراء ولا حتى رئيس الجمهورية ذاته ومع ذلك لم نسمع أن أحدا قد قبض عليه وأودعه حبس المخابيل بسبب ما يكتب ، ولم يتم إيداعه معتقلا ، وكان استمراره فيما يكتب حقيقة ليس طمأنة بقدر ما كان بيانا وإيضاحا لمساحة السماح للطرف الآخر في الحلف . واستمرأ هذه ( العباس ) لذة السعار فقام ينهش الناس في شخوصهم وشرفهم وأعراضهم بسب وقذف علني . وفي الوقت ذاته كان هذا العباس مع جوقة عصابة الإخوان بحزب العمل لا يملون رفع عقيرتهم بالغناء لما تحقق من إنجازات كبرى ودولة كاملة مثالية في السودان الممزق مع الدفاع الحار عن بلاد الأفغان ورجال طالبان . وفجأة تكتشف صحيفة الشعب أن رواية ( الأعشاب ) بها عبارات تتطاول على الذات الإلهية و على القرآن و على نبي الإسلام ، ومن ثم قامت بإطلاق مسعورها الملتاث ينفث سمومه في صفحة كاملة ، زرع في كل سطر فيها قنبلة . لكن السيد ( عادل حسين ) أمين عام الحزب ( الذي أصبح مقر نشاط جماعة الإخوان المحظورة ، تحت سمع الحكومة و بصرها ) يفاجئنا مفاجأة أخرى . وهي أن أمر رواية

( الأعشاب ) كان معلوما لديهم منذ صدورها أول مرة . لكن رد فعل الحزب كان مؤجلا إلى حين ، حيث كانت لديهم معارك تمهيدية يجب أن ينتهوا منها كمراحل تكتيكية . كمعركتهم مع اللواء الألفي و الدكتور وإلي و الدكتور صبور ، ليصلوا إلى العمل العظم ،

 

54

حيث حان الوقت ودقت الساعة معلنة بداية المعركة الحقيقية و الهدف المرتجي . وأن تلك البداية سيكون ظاهرها مع وزير الثقافة . وأن التأجيل الذي صبروا عليه طويلا كان تكتيكا مرحليا قبل الوصول إلى الهدف الاستراتيجي ، الذي تمت دراسته بتأن و عمق من أجل تثوير شعب بكامله ، بعد شحنه في المراحل التكتيكية السابقة . باستغلال العواطف الدينية المعلومة لهذا الشعب منذ رع وأمون مرورا بيسوع المسيحية و إله الإسلام ، وذلك بتأكيد السيد عادل حسين القائل : " إننا لا نعبر عن أنفسنا بل عن مبادئ الإسلام ، و الخارج عليها لن ترحمه الأمة " وقوله " إن حزبنا يحتكم إلى شرائع الإسلام ومبادئه الأساسية " . لذلك كان تكراره لنداء عباس الملتاث " من يبايعنا على الموت و الدم و الاستشهاد " !!

إذن فالهدف لم يكن إسقاط وزير الثقافة ، بل إسقاط نظام الدولة برمته ، و هكذا تصور حزب العمل و عصابة الإخوان و حلفاؤهم من أصحاب العمائم ( الذين أثنى على مواقفهم زعماء جماعات الإرهاب الدموي في بيانات تأييد علنية ) أن الثمرة أمست ناضجة و حان قطافها . لاستلام إدارة شئون البلاد وإقامة الدولة المقدسة بعد إقصاء الحليف الحاكم ، على ردم من الخراب بطول الوادي ، و بالخوض في بحار الدم ، و هو الأمر الذي نطقت به صحيفة الحزب ومؤتمره الحاشد دون تحفظ . و كان تكتيك ساعة الصفر يعتمد أساسا على حلف الإخوان وزعماء الإرهاب ( بدليل بيانات التأييد ) ، مع رجال الأزهر بالذات و بالخصوص ، و هو الأمر الذي يعنينا هنا ، فالآخرون وجوههم مكشوفة وأمرهم معلوم ، أما الأزاهرة فهم من يحتاجون وقفة طويلة ، بعد أن تجلى تحالفهم في أكثر من مشهد :

v مشهد تواجد أكثر العمائم نكارة ودموية على منصة القيادة في مؤتمر الحزب الحاشد . وتحريضها السافر للجماهير على الانفلات و العصيان المدني ، دون أن تكن أو تحتشم ولو من باب التقية التي مارسوا فنونها طويلا . فكرسي السلطان قد بات قريبا ولا خوف من حذر ، وضمن تلك الوجوه الأزهرية سواء على المنصة أم بين الحشد الجامع ، كان مشايخ المنسر الذي كانوا وراء اغتيال الشهيد فرج فودة ببيان ندوتهم الذي أفتوا فيه بارتداده وبالكتاب الذي أصدروه بعد استشهاده بعنوان ( من قتل فرج فودة ؟ ) يشرحون فيه مبررات الاغتيال . وكانوا وراء سيل الدم و قنابل الغدر بعد فتواهم باتجاهات الدولة غير الحلالية ، وحرمة أموال السياحة وربوية أموال البنوك . فتفجرت القنابل عند البنوك . وانطلقت رصاصات الغدر تعجن طين مصر الطاهر بدم ضيوفها لتلطخ به وجوهنا أمام العالم . وتخرب بيوت مئات ألوف الأسر تعتاش من أرزاق السياحة ، وتدمر

55

 

اقتصاد الوطن و سمعته أمام العالمين ، ناهيك عن استباحة دماء أشقائنا في الوطن من مسيحيين ، وما جره على سمعة الوطن و الإسلام نفسه أمام الرأي العام العالمي

0 مشهد العمل السري لنسخ ألوف الصور من مقال عباس ، وتوزيع الأدوار بين من يقومون بالنسخ ومن يقومون بتوزيع النسخ على طلبة و طالبات الأزهر . فإذا لم يكن هناك تحالف و عمل تحت الأرض ، فلماذا تم ذلك في جامعة الأزهر بالذات ؟ ولم يتم في جامعات مصر الأخرى و يقفز السؤال يطلب إجابة من الجهات الأمنية : من الذين خططوا ؟ ومن الذين نفذوا وصوروا ووزعوا ؟ و متى و كيف تم تحديد ساعة الصفر ؟

0 مشهد قيام رئيس جامعة الأزهر الدكتور أحمد عمر هاشم بوصفه رئيسا للجنة الشئون الدينية و الاجتماعية بمجلس الشعب ، بإذاعة بيان تحريضي سافر تحت قبة المجلس لتثوير أعضائه بالمرة ، أقل ما يوصف به مع كل الأدب الممكن بأنه بيان هستيري ، أدان فيه الجميع و طالب بمصادرة الرواية و محاسبة مؤلفها و ناشريها ، بل و المطالبة بحرقها ( ؟! ) ، و هي العادة المألوفة في أمر رعاة شئون التقديس مع الثقافة عبر العصور الطويلة المظلمة ، منذ المعتزلة حتى ابن رشد مرورا بمصادرات هذا الزمان و قائمتها الطويلة .

0 اكتشفت العصابات المتحالفة خطأ حساباتها ، بإعلان السيد عادل حسين فشل الخطة وانحسار نهر الدم المنتظر ، في سوء تقدير للزمن ، حيث كان الطلبة في جامعات مصر الأخرى منشغلين بأداء الامتحانات السنوية ، ولولا هذا الخطأ لنجحت الخطة و غرقت مصر في دماء أبنائها . وساعد إفشال الخطة التحرك الأمني السريع بينما كانت بقية الوزارات تتخبط في إدارة الأزمة .

0 بعد فشل خطة التثوير الكامل لم يترك الحلف غير المقدس الفرصة دون تحقيق مكاسب في بدائل تم ترتيبها مسبقا ، فقد أصدر الأزهر عبر مجلسه البحثي بيانا تم توزيعه في ذات اليوم على كافة وكالات الأنباء و المحطات الفضائية بسرعة قياسية مذهلة ، وقد استثمر البيان ما حدث ، ليضع مطالب أو ربما

( أوامر ) للحصول على مكاسب سريعة . بوضع مبدأ فرضه على الحكومة و على الناس ، بطرق الحديد و هو ساخن ، بفقرة تتحدث عن ضرورة عرض أي عمل أدبي أو ثقافي أو فني على الأزهر قبل نشره لبيان رأي الدين فيه ( ؟!) . ولم تعد مهمة الأزهر قاصرة على مراقبة الأعمال الدينية . لإعلاء سلطان الأزاهرة أحد أضلاع الحلف فوق كل سلطان في الوطن ، ليصبحوا المرجعية الأولى و الأخيرة في كل شأن ، وبعدها صرح شيخ الأزهر لمجلة روز اليوسف في 20 / 5 / 2000

56

بأن القانون 103 لسنة 61 بشأن إعادة تنظيم الأزهر و الهيئات التي يشملها يقول : " إن الأزهر وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص ، أو رفض الترخيص للمصنفات .. وهو كلام ألقى على عواهنة إلقاء لأن هناك كلاما كثيرا حول هذا القانون بالذات لا يعطي الأزهر هذا الحق .

0 ومع الفشل الذريع الذي منيت به خطة خراب مصر جاءت بدائل أخرى جاهزة من نوع آخر ، من قبيل رفع ستين عالما أزهريا نداء للسيد رئيس الجمهورية ، يفزعون إليه بعد الله تعالى حماية العقيدة من العبث وحماية الأخلاق الفاضلة من الكتابات المغرضة التي تحاول إصابة الأمة في أثبت ثوابتها .

0 هذا ما كان عن تكتيك حلف العمل و الإخوان و الجماعات الإرهابية و الأزاهرة في تذكرة فقط لم نناقشها بعد ، فماذا عن موقف مؤسسات الدولة إبان الأزمة ؟ بعد ارتباك معهود ناتج عن خلل أزلي في فن إدارة الأزمات في حكومتنا الرشيدة . كلف وزير الثقافة من أكفاء نقاد الأدب في مصر ، لكتابة تقرير حول الرواية النكبة . وتمت دعوة السيد الدكتور عمر هاشم رئيس جامعة الأزهر ليكون عضوا باللجنة ، بعد أن أرسل إليه المجلس الأعلى للثقافة نسخة من الرواية للاطلاع . لكن سيادته لم يحضر ، وسيادته لم يعتذر حتى عن عدم الحضور ، فقد كان فيما يبدو مشغولا بصياغة بيانه التثويري داخل مجلس الشعب دون أن يجهد نفسه بقراءة الرواية ( ؟!) . وما حدث بعد ذلك كان أنكى وأمر ، فقد قام السيد رئيس الوزراء بتحويل تقرير الأساتذة المتخصصين إلى رعاة التقديس الأزاهرة (؟!) .

ولا نعلم : هل كان السيد رئيس الوزراء يطمح إلى إقناع الضلع الأزهري في حلف خراب مصر ، ( الذي ما عاد يعلم من شئون الكون سوى حفظ النصوص وشروح المتون وفقه الحيض و النفاس وتوريث الرقيق ) ، بالتقرير الأكاديمي الرفيع ، أم كان يطلب موافقة الأزاهرة على التقرير و وضع بصمة الأزهر الكريمة المباركة بجوار توقيعات أساتذة الأدب الكبار ، أم تراه كان يطلب الرضا و السماح من أهل السماح من أهل السماح على الحكومة و غفران خطيئتها المبينة ؟ وبدلا من أن يتم تحويل أعضاء حلف خراب مصر إلى التحقيق ، بؤثاثق إدانة معلنة بأفواههم في مؤتمرهم وبأقلامهم في صحيفتهم ، تم تحويل أديب كبير مثل إبراهيم أصلان مع زملائه إلى المحاكمة بحسبانهم المسئولين عن نشر الرواية . إن هذه سقطة أخرى و كبرى من سقطات الدولة إبان إدارتها للأزمات يجب الوقوف عندها طويلا لتقصى أسبابها ، ولاستيضاح الأسباب الكامنة وراء ما آل إليه حال البلاد و العباد في مصر .

57

في الأزهر تحديدا تم تصوير ألوف النسخ من مقال ( محمد عباس ) المنشور بصحيفة الشعب ، حول رواية ( وليمة لأعشاب البحر ) . وفي الأزهر بالتخصيص تم توزيع هذه النسخ على الطلبة و الطلبات . ومن الأزهر بالذات انطلقت مظاهرات الغضب لطلبة لم يقرأ أحدهم الرواية التي خرج يتظاهر ضدها . وهو ما يشير إلى بشر تم انتزاع عقولهم وتحولوا إلى كائنات يكفي أن تصدر لها همس التحريض أو مجرد الصفير ليصبحوا وحوشا كاسرة ترى هل هم من ظلموا أنفسهم أم نحن الظالمون ؟

السؤال جد هام وخطير و يحتاج إلى إجابة واضحة ستأتي في موضعها من هذه الدراسة .

0 وأساتذة الأزهر هم من حرضوا الطلبة ثم جلسوا على منصة قيادة حزب العمل لتثوير مصر ، ينادون جماهير مصر أن تبايعهم على الدم و الهدم .

0 ورجال الأزهر هم من أسسوا ندوة تحولت إلى جمعية لها ملف طويل من المواقف المعلنة إلى جانب لإرهاب الدموي ، ومن الفتاوي القادمة من قبور المحتضرين وثقافة موتى التاريخ ، لقبر أي تجديد أو اجتهاد أو أي محاولة للتكيف مع واقع الدنيا المتغير . وهو ما نتج عنه بالضرورة و هم يعلمون سلفا – إسالة الدماء الزكية ، مع خراب للاقتصاد المصري في مرحلة تحول مأزومة . مما يشير إلى الارتباط تحت الرضي بين أصحاب الفتاوى و الأوامر الدموية و بين المنفذين .

0 ورجال الأزهر هم من شكلوا القسم الأعظم في عصابة الإخوان المحظورة منذ نشأتها الأولى ، بل كانوا أعضاء في تنظيمها الدموي المعروف بالتنظيم السري ، وهو ما يفسر لنا الارتباط حتى اليوم مع جماعات الإرهاب ومع حزب العمل الإخواني .

0 و الأزهر هو من تقلب في انتهازية رخيصة فاضحة مع تقلبات المؤسسة السياسية ، فكان مع الحرب مرة و مع السلام أخرى ، ومع الاشتراكية مرة ومع اقتصاد السوق أخرى . مما يشير إلى عدم احترام حقيقي وصادق للإسلام ، بقدر ما هي منافع اقتصادية ومكاسب سياسية لا علاقة لها بدين و لا بوطن . فلا يزعمن لنا اليوم أنه راعي الدين المخلص بحلفه مع زعماء الإرهاب وإخوان حزب العمل .

0 ورجال الأزهر اليوم ، هم النجوم اللوامع في سماء المحطات الفضائية التي تدفع لهم بسخاء ، وهم أصحاب الجاه و الوجاهة الاجتماعية ، حتى باتوا يطلقون أسم من يدفع أكثر على قاعات أزهرهم ، و يتهمون غيرهم بالفساد و الارتشاء و العمالة للأجنبي .

0 ورجال الأزهر هم من أصدروا البيان الأخير القاضي بتحويلهم

58

إلى مجلس رقابي أعلى على كل حركة أو سكنة في عقل الوطن . مستندين إلى نص القانون المدني القاضي بمعاقبة ازدراء الأديان ، رغم أمهم لا يعترفون بالقانون المدني لأنه وضعي ، في انتهازية رخيصة ، لمحاكمة المبدعين و المفكرين . علما أن هذا القانون يدين ازدراء الأديان و ليس الإسلام وحده ، ومع ذلك يؤلفون الكتب ويقررونها على طلبة الأزهر ، وهي كتب تزدرى كل دين أو فكرة خارج حدود فكرهم ، إن جاز تسميته فكرا . ويغرسون في أرواح طلبتهم كراهية إخوانهم في الوطن عبر دراسات يتم تدريسها خاصة في كلية الدعوة تزدري الدين المسيحي علنا . فهل هناك انتهازية فاضحة كتلك ؟ فينهون عن المنكر ويأتون بما هو أنكر منه (!!) و يستخدمون نصوص قانون وضعي لا يعترفون به ، لنهش من يخالفهم بينما يكسرونه عيانا بيانا و بكل حاجة ؟

0 و بيانهم الأخير بعد أزمة رواية ( الوليمة ) يعني أنهم يطلبون لأنفسهم الوكالة عن الله في الأرض . بحسبانهم ممثلى الإسلام و نواب السماء ، و المالكين وحدهم لمفاتيح الفهم الصحيح الوحيد لنصوص الدين . ليتحولوا إلى بابوات بيدهم مفاتيح الجنة و النار . يؤسلمون و يكفرون و يطلعون وحدهم على المقاصد الإلهية إزاء أي مسلم يرى رأيا يخالفهم في فهم نصوص الدين .

0 هم باختصار يطلبون كهانة رسمية ليست في الإسلام السني و لن تكون ، ويطلبون عصمة لا نعترف أبدا إلا أنها لله وحده لا شريك له . و معلوم أن دار الإفتاء لم تقر بعصمة اجتهادات الزهر و لا صحتها أصلا في أكثر من موقف ، وكلاهما من الرجال الأزاهرة . و الآن انظر معي قارئي إلى مدى الخبث و الدهاء في مؤسسة تزعم أنها المعبر الطاهر للدين و للرأي المعصوم ، بشكل لا يمكن توصيفه – مع كل الحذر الممكن – إلا بالاحتيال غير المحترم . فمنذ سنوات طلبت هذه المؤسسة الدينية مصادرة كتابى ( رب الزمان ) ومحاكمتى معه ، بتهمة ازدراء الأديان ، فبرأني القضاء وأفرج عني و عن كتابي ، فماذا فعلوا بعدها إزاء الحكم النزيه ؟ هناك أمر لا أفهمه و لا أفهم معاييره ، حيث لا يمكن السماح في جمارك مصر بتصدير أي كتاب للخارج إلا بعد موافقة الأزهر ( ؟!) لماذا ؟ هل يخشون مثلا تصدير ما يرونه كفرا إلى بلاد الفرنجة في أمستردام و لندن ونيويورك حرصا على الدين في تلك البلاد ؟ و عندما تقوم مؤسسات التصدير الرسمية كالأهرام مثلا ( وهو ما حدث فعلا ) برفع قوائم بأسماء الكتب المطلوب تصديرها من تأليفي و تأليف غيري إلى الأزهر لأخذ الموافقة . فإن الأزهر يقوم بشطب كل

59

أعمالي من بين الكتب الموجودة بالقائمة . و عندما طلبنا منهم إعطاء إفادة رسمية مكتوبة بالمنع وأسبابه رفضوا . وحتى تاريخ كتابة هذا الموضوع ما زالت أعمالي تمنع من التصدير بهذا الأسلوب الرخيص في محاربة الأرزاق و بهدف آخر هم هو التعتيم على أعمالي و منعها من الانتشار رغم المعلوم أن ذلك لا يتم إلا بحكم محكمة ؟ ومع ذلك فهو يتم بمعرفة جهات التصدير و الجمارك و الأمن معا (؟!) فهل أفادنا المسئولون يرحمهم الله ما السبيل إلى الفكاك من هذا الفخ الئيم ، أم سيظلون في صمت القبور ؟ انظر معي قارئي إلى لون آخر من رخص الأساليب التي يستخدمها نواب الله في الأرض في بيانهم الأخير الذي طلب محاكمة رواية ( العشاب ) وناشريها . مشفوعا بإشارة إلى أن كاتب الرواية يسب فيها كل الملوك و الرؤساء العرب ، في تحريض و خبث فلاحي مضحك، رغم المعلوم أن الرواية تروي أحداثا يفترض تخيليا أنها قد حدثت في حقبة الستينيات ( !!) .وهو ذات الرخص و الابتذال في التحريض الذي تضمنه تقريرهم ضد كتابى رب الزمان ، حيث أشاروا للقاضي الذي سيحاكمنى إلى أنني قمت بسب القضاء وقذفه بسبب حكمه في قضية نصر أبو زيد ، وهو ما يعلمنا بوضوح أي عقل يسكن تحت العمامة ، وأي ضمير يتمتع به العاملون تحت القباب المقدسة . ثم أنظر معي قارئى إلى الشيخ عبد المعز الجزار الذي كتب تقرير الإدانة لكتابي المذكور ، يصرح في 29/8/1996 لصحيفة المصور تصريح مذهلا يقول فيه : " أنا حققت خلال الثلاثة شهور الماضية خمسين ألف كتاب " وضمنها كتابى ( رب الزمان ) . و بحسبه بسيطة نجد الرجل الصادق ابن الأزهر ( الشريف ) قد قرأ خلال هذه الأشهر الثلاثة عدد 555 كتابا يوميا ، واستوعبها ونقدها واتخذ القرار بشأنها (؟!) . وبحسبه أخرى نجده قد قرأ كتابى وطلب إدانته ومصادرته ومحاكمتى وما قد يجره ذلك إلى مجزرة اللئام ، فقط في دقيقتين و عشرين ثانية (؟!) .. هذا بالطبع مع عدم احتساب أوقات راحته وقضاء حاجات فضيلته البيولوجية ولذائذه الضرورية . فهل رأيت قارئى مدى أمانة وصدق الزاهرة في إصدار الأحكام على الكتاب و المفكرين ؟ و على الجانب الآخر نجد أعضاء حلف خراب مصر المنتشرين في كل مكان ، يأخذون تقرير الأزهر ضد كتابى و ينشرون بعضه بمجلة اللواء الإسلامي ( التي يصدرها الحزب الوطني ) قبل إجراء المحاكمة أو الإدانة أو البراءة ليعلنوا لحراس العقيدة من حملة الرشاشات و السيوف في

60

سبتمبر 1997 تحت عناوين جذابة تلك الإعلانات : " رب الزمان : أحدث صيحة للفكر الضال ، مشحون بالإسفاف و التجريح ، و لم يسلم منه الأنبياء ورجال الدين " . ولك أن تلاحظ مساواة التقرير بين الأنبياء ورجال الدين ، ذلك التقرير الذي وصل إلى مجلة اللواء الإسلامي بمجرد صدوره وظللنا نلهث وراءه لنعرف تهمتنا ولماذا نحاكم ، فلم نظفر به وطاشت جهودنا ولم نعرف بالتهم إلا أمام القاضي ونيابة أمن الدولة العليا. ثم هناك أمر آخر علمته صدفة بالممارسة ، وهو أمر شفاهي لا يتم أبدا بشكل رسمي مكتوب ، لأنه ببساطة غير قانوني و لا دستوري . فعلى أي مطبعة في مصر أن تقوم بإحالة أي كتاب يصلها خاصة من أمثالي ، إلى مباحث أمن الدولة ، التي ترفعه بدورها إلى الأزهر ليوافق عليه أولا ، وبعد ذلك يأذن أمن الدولة تليفونيا لصاحب المطبعة بالطباعة ، ويا ويله وظلام ليله لو لم ينفذ صاحب المطبعة تلك الأوامر الشفاهية . فهل من إجابة يا أصحاب السيادة المسئولين عن تفعيل مواد القانون والدستور ؟ .. لقد كانت هذه تجربتي الخاصة عندما قررت طباعة أعمالي بنفسي . ووقع صاحب المطبعة بيني و بين أمن الدولة في حيص بيص . ولولا من جانبي لأمن الدولة لتوقفت أعمالي داخل أروقة الأزهر تنتظر الرفض المؤكد ، ولا أظن أن أمن الدولة قرر السماح للمطبعة بطباعة أعمالي لسواد عيوني وهيبة مشهدي المتواضع ، إنما بعد مناقشة جادة واضحة لا تقبل لبسا ، أوضحت فيها معرفتي لحقوقي وكيف يمكنني عنها بشكل علني سافر .. إن هذا جمعية ليس عرضا لأمور شخصية ، بل هو الأمر الذي يتعرض له جميع مثقفي هذا الوطن دون سند من قانون ولا دستور ، وهو أيضا محاولة للوصول إلى الأسباب التي أدت بالأزهر إلى بلوغ هذا السلطان العظيم ليصبح بهذا التورم الهائل القابع فوق قلب الوطن وعقله مصيبا إياه بالشلل التام . ومن هنا وجب البحث عن العلة ، والتعرف على أسبابها . لولا ظروف تاريخية بعينها لكان المسجد الأزهري كأي مسجد آخر في الديار المصرية ، فقد أنشأه الاستعمار الفاطمي لمصر ، حتى يكون بوق دعاية سياسية للسلاطين الفاطمية ، ومذهبهم الشيعي ، وكان ذلك عام 970 ميلادية . وبزوال الاستعمار الفاطمي ، وعودة الاستعمار العباسي السني المذهب على يد الكردي العرق ( صلاح الدين الأيوبي ) ، تم إغلاق هذا المسجد بالضبة و المفتاح . وإبان صراع العبيد المصطلح على تسميتهم المماليك ، ( المستجلبين من بلاد الترك والديلم و الألبان ) على الحكم و السلطان في مصر . تمكن العبد ( الظاهر بيبرس ) من حكم مصر سنة 1260 ميلادية . ولما كان بحاجة سريعة لمسجد يدعو له ويضع لحكمه

61

المشروعية ، قام بإعادة فتح المسجد الأزهر مرة أخرى لنفسه ، كي يتم الدعاء له فيه كحاكم شرعي باسم الإسلام ومشايخ الإسلام الأزاهر و جعل منه الجامع الأول الرسمي في مصر ، المتحالف مع السلطة السياسية . إلى أن جاء إلى البلاد احتلال آخر باسم الإسلام هو الاحتلال العثمانلي سنة 1760 ميلادية . لكن هذا الاحتلال ظل مؤرقا بنفوذ وقوة المماليك الذين بنوا مساجد لأنفسهم مثل مسجد قلاوون ومسجد برقوق و غيرهما ، مما اضطر العثمانيين بعد 150 سنة من الاحتلال إلى إصدار فرمان سلطاني بتحويل المسجد الأزهر إلى المؤسسة الدينية الأولى في مصر ، وإعلانه المسجد الرسمي التابع للسلطنة مباشرة ، ويدعى فيه فقط للسلطان العثماني ، وأقيمت فيه مشيخة ذات تراتب وظيفي عين على رأسها أول شيخ رسمي للأزهر هو الشيخ الخراشي ، وحددت وظيفته بالولاء للسلطان . وتنظيم أمور المسجد و الإشراف على أو قافه ورئاسة شيوخه ، لتمكين السلطان من استخدام الدين للسيطرة على البلاد في مواجهة التمرد المملوكي الدائم . وعند دخول الحملة الفرنسية مصر شارك الأزهر في مناهضتها لكن نابليون أدرك أهمية هذه القيادات الدينية فأشركها في ديوان الإدارة الذي أسسه ، ومن بينهم من كتب قصائد الشعر الغزلي المكشوف : غراما وصبابة في ضباط نابليون وعيونهم الرزق وشعرهم الذهب . وجاء الإنجليز ليحتلوا مصر بعد الفرنسيس ، والأزهر على حاله ومكانته ، حتى استولت حركة عسكر الجيش على السلطة في عام 1952 ، وهنا بدأ عهد آخر للأزهر وبدأ نجمه في الارتفاع و السطوع . حيث احتاج العسكر إلى الأزهر وبدأ نجمه في الارتفاع و السطوع . حيث احتاج العسكر إلى الأزهر اكتسابا للمشروعية . وحدث بينهما الزواج و الوصال . وهكذا تقلب الأزهر ما بين شيعي و سني وبين مملوكي و عثمانلي . وبين فرنساوي و إنجليزي وملكي و بين محافظ وثوري ، لكن مع يوليو 52 أصبح شأنه شأنا ، فقد أصبحت مشيخة الأزهر تتم بالتعيين من رأس المؤسسة الحاكمة ، وأصبحت مهمته تبرير توجهات الجهاز الحاكم السياسية ، مقابل منح وأعطيات ومقاومات رفيعة عالية . إضافة إلى قوانين تعطي الأزهر بعض السلطات ، مثل القانون 103 لسنة 1961 بشأن إعادة تنظيم الأزهر ومعلوم أن تلك الأعطية بالذات وبالتحديد كانت مقابل سكوت الأزهر عن القوانين الاشتراكية بل ودعمها وتأسيسها في جذور الإسلام . و قد نص هذا القانون على حق الأزهر في " البحث في الدراسات الإسلامية و تجديد الثقافة الإسلامية ، وتجريدها من الفضول و الشوائب وآثار التعصب السياسي و المذهبي . وتوسيع نطاق العلم بها وتحقيق التراث الإسلامي و نشره " . أما الفقرة التي يستند إليها أزاهرة اليوم في حق الرقابة

62

و المصادرة ، فستند إلى آخر نص مبهم هذا القانون يقول : " وبيان الرأي فيما يجد من مشكلات مذهبية واجتماعية تتعلق بالعقيدة " . و هو ما لا ينطق بما نطق به شيخ الأزهر الدكتور طنطاوي لمجلة روز اليوسف في قوله إن القانون ينص على " أن الأزهر وحده صاحب الرأي الملزم لوزارة الثقافة في تقدير الشأن الإسلامي للترخيص أو رفض الترخيص للمصنفات الفنية " . و هو الأمر الذي يذكرنا دوما بدور الأزاهرة في ألاعيب السياسية ، وهو ما تكرر مثله عندما أطلق السادات يد الأزاهرة و الإسلاميين المتشددين في كل ساحات مصر تمهيدا لقبولهم صلحه مع إسرائيل ، وقام بتوسيع فقرة الشريعة الإسلامية بالدستور لتصبح هي المصدر الرئيسي للتشريع . وهي التي يستند إليها كل من هب ودب من اللاعبين بالدين و المشتغلين بالسياسة و بالنار ، رغم أن هذه الفقرة مع قانون 61 بشأن قرارات ذات أسباب مرحلية مؤقتة كان يجب أن تزول بزوال أسبابها ... لكن الأزهر كان قد أصبح أزهرا آخر و لم يعد ذلك المسجد الذي أغلقه صلاح الدين بكل بساطة ، وهو ما يحتاج منا إلى وقفة أخرى شارحة مفصلة . نتابع إذن ما حدث من زواج ووصال بين العسكر وأصحاب العمائم الأزهرية منذ يوليو 1952 حتى الآن ، حيث تم منح شيخ الأزهر لقبا عظيما فخيما هو ( الإمام الأكبر ) فأصبح هو الإمام فوق كل إمام ، وصار هو صاحب الرأي في كل ما يتصل بشئون الإسلام ، وباختصار أصبح هو المسئول عن الإسلام في الأرض . و قبل عقد الزواج المتين هذا ، لم يكن في مصر كلها سوى سبع مدارس ابتدائية وثانوية تتبع الأزهر في كل أصقاع مصر ، أطلق عليها من بعد ( تفخيما ) لقب ( المعاهد الأزهرية ) . ولك أن تندهش أو تصعق إن شئت عندما تعلم أن عددها الآن قد أصبح ينيف على ستة آلاف معهد ، إضافة إلى 280 معهدا عاليا للعلوم الدينية وحدها (؟!) . مع ملاحظة هامة وخطيرة هي عدم تبعية هذه المدارس أو المعاهد لوزارة التربية ونظمها على الإطلاق . ثم لك أن تعلم أن عدد تلاميذ المراحل قبل الجامعية بهذه المدارس قد بلغ مليونا ونصف مليون تلميذ ، تم احتضانهم في عمليات عسكرة إلى معسكرات مثل معسكر عمر بن الخطاب ومعسكر أبي بكر الصديق بالإسكندرية . ثم تم تحويل الأزهر من جامعة لاهوتية تختص بأمور الدين وعلومه إلى جامعة كاملة فيها كل ألوان العلوم الدنيوية من كليات الهندسة إلى الطب إلى العلوم إلى الصيدلة ، إضافة إلى ثلاث عشرة كلية لها فروع

63

 

أخرى بالمحافظات ، وشرطها الأول لقبول الطالب أن يكون مسلما . وبذلك قامت بتخريج ألوف الخريجين الموزعين في مؤسسات الدولة على أساس عنصري وطائفي كامل . أما عدا ذلك فليست هناك أية شروط ، فمصروفات تلميذ المرحلة قبل الجامعة في المعاهد الأزهرية 210 قروش ، وتصل المصروفات السنوية الجامعية للطالب إلى خمسة جنيهات . وأقام الأزهر لنفسه لائحة نظام خاصة غير مسبوقة ولا مكررة في أي دار علم أخرى . فلطلاب الثانوية الأزهرية الحق في دخول امتحان دور ثان في أربع مواد بالإضافة إلى مادة القرآن الكريم (؟‍‍) وذلك إذا فشل الطالب في اجتياز الدور الأول . أما جامعات الأزهر فتستوعب جميع الناجحين في مدارس الأزهر حتى لو بلغت درجاتهم الحد الأدنى فقط للنجاح . ومن ثم ضم الأزهر جميع الفاشلين علميا ليلقنهم فنون التطرف و العنصرية و الطائفية ، ويخرج 12% من نسبة خريجي التعليم في مصر جميعا ، مشكلا بهم بنيته التحتية وميليشياته وقت الحاجة ، الذين يدينون له بالفضل و الولاء العظيم ، ويمكن تحريكهم بإشارة أو بصفارة كما حدث في فتنة ( الوليمة ) التي دبرها حلف خراب مصر . وإبان الأزمة الانتقالية التي مرت بها مصر من اقتصاد ملكية الدولة الملقب بالاشتراكي إلى نظام السوق ( وهي الأزمة كان لابد أن يمر بها أي وطن في نفس الظروف ) . استشعر رجال الأزهر مدى حاجة الدولة إليهم لتبرير توجهاتها الجديدة . وزاد الطين ظهور جماعات الإرهاب الدموي ، مما دفع الدولة أكثر إلى قبضة الأزهر في حاجة لمؤسساتها الدينية لإثبات أن الدولة أكثر حرصا على الدين من المتطرفين بينما كان الأزهر يستشعر كل يوم قوته ، ويلعب لعبة مزدوجة ، يصدر معها بيانات التأييد للدولة ، ثم بيانات التأييد للإرهاب . و هكذا أدرك الأزاهرة مدى ضعف مؤسسة الحكم وهشاشتها في تلك الفترة الانتقالية ، وأدركوا فرصتهم السانحة ليفرضوا وجودهم على الدولة كقوة مشاركة في صياغة القرار السيادي وليس فقط مجرد مشايخ للتبرير ، وكان مشهد الشيخ شعراوي تجاوز الله عن سيئاته بعد محاولة وهو يربت فجاءة فوق كتف الرئيس مبارك بعد محاولة الاغتيال الآثمة في أديس أبابا أمام عدسات التليفزيون العالمية ليحمل أكثر من مغزى و معنى ودلالة ، في حركة لا يسمح بها أبدا لا موقع الرئيس و لا أصول البروتوكول ، ومررها الرئيس بتسامح و حكمة احتاجهما الموقف . ثم أخيرا جاءت أحداث الوليمة ليجازف الأزهر بمشاركة بعض رجاله في حركة التثوير الفاشلة التي تمت تحت رأيه حزب العمل .

 

64

ولنا أن نلاحظ أن طلاق بينونة صغرى بين المؤسستين السياسية و الدينية قد بدأت بوادره عندما بدأ الأزهر يصدر بيانات وفتاوي تخرج تماما على إرادة الدولة وسلطتها ( رحم الله شيخ الزهر جاد الحق وتجاوز عن سيئاته ) ، كما أصبح بإمكان مشايخهم في كل القرى و النجوع الوقوف ضد إرادة الدولة في تحديد النسل و السياحة و البنوك ، وأصبح بإمكانهم صناعة مؤسسات بديلة لمؤسسات الدولة كندوة علماء الأزهر التي تحولت لتحمل اسما له مغزى فأصبحت ( الجبهة ) . و تمكنوا من إنشاء مدارس دينية مستقلة . إضافة إلى عشرات الصحف و المجلات ودور النشر وشركات الكاسيت ، بل وإقامة شركات إقتصادية متكاملة ، بعد أن حصلوا على الاستقلال الاقتصادي بخروج شيوخهم إلى دول النفط وحصولهم على التمويل اللازم ببذخ قل نظيره . ثم إنشائهم منظمات عالمية كمنظمة رابطة العالم الإسلامي ، ناهيك عن التمويلات الشخصية السرية . و كان التزايد العددي الهائل مع التسامح في قبول الفاشلين في الدراسة الثانوية العامة و تأهيلهم عنصريا و طائفيا في معهد الإعداد و التوجيه ، ثم التحول بهم إلى تخصيصهم سنة تمهيدية بالأزهر قبل الانخراط بالكليات العلمية بالأزهر أيضا لتلقينهم فنون العنصرية الطائفية .. كل هذا له دوره في إيجاد منظومة كبرى قوية تشبه منظومات العسكر . التي لا تملك للتفكير بقدر ما تطيع فقط الأوامر . وهو ما يذكرنا بالضباط الذين كانت تخرجهم الكليات الحربية بعد قبولهم فيها بأدنى المجاميع من الدرجات العلمية ، فكان ما كان من خسائر ودمار أمام عدو به مثل السياسات إلى حدود الدلتا الشرقية في عام 1967 . و للعلم ، فقد وصل عدد الشيوخ الأزاهرة في مصر إلى خمسمائة ألف شيخ ، ينتشرون في 000و190 مسجد وزواية حسب إحصاء عام 1992 ، إضافة إلى 000و120 أزهري يقومون بالتدريس في مدارس الأزهر قبل الجامعية ، إضافة إلى خريجي الكليات الأخرى كالهندسة و الطب الذين يدينون بالفضل في وظائفهم وألقابهم إلى الأزهر (*) . فهل تعلم الدولة هذه الحقائق المرعبة ، أم هي لا تدري بها ؟ و هل الثمن المدفوع للدولة من قبل الأزهر يقابل ما كان يمكن حدوثه لو انفلت أمر المظاهرات ونجح حلف خراب مصر ، و هو الأمر الذي يمكن حدوثه في أي لحظة ؟ و هل الأكثر أمنا وأمانا أن تظل الدولة بحاجة لمشايخ التبرير

65

الديني ، أم إلحاق كل تلك المعاهد بوزارة التربية وعودة الأزهر لدوره الديني ، مع تواصل الدولة مع شعبها تمنحه الحقائق وتطلب منه المشاركة في تجاوز الأزمات ؟ و هل الأسلوب المتبع حتى الآن في الإعلام و التعليم العام و الذي يقوم بالتخديم على ذات المبادئ سواء ذعرا ( وهنا مصيبة ) أو إيمانا بها

( وهنا المصيبة الأعظم ) ؟ هل هذا الأسلوب يمكن أن يخدم أهداف الدولة المدنية المرتقبة المترافقة بالضرورة مع نظام السوق ؟ إن الملاحظ و المتابع سيكتشف أن الإعلام و التعليم قد هيأ الشارع بعد أن محى وعيه لأى انفلات قد تقوده أحلاف الخراب ، بعد أن ظل هذان الجهازان يزايدان على تيارات الإسلام السياسي لإثبات التحاء الدولة و تدينها . و يبقى السؤال الأخطر : هل كانت المظاهرات و كل ما حدث بسبب كلام فلوت في رواية لكاتب سورى ؟ أم أن المناخ كله ( نتيجة سوء السياسات ) قد تهيأ لخراب مصر ؟ وبعد صورة بيان الأزهر الأخير إزاء المثقفين و الكتاب نقف نتساءل هل يملك الأزهر بالفعل الحقيقة الكاملة و المطلقة في كل قضية ، وأن مثقفى هذا الوطن معتوهون ومعوقون بالكامل وبحاجة إلى هذه الوصاية البغيضة ؟ وهل يتصل الأزاهرة بالسماء عبر وحي متصل مازال يحمله الملاك جبرائيل ، أم أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف ؟ لقد كانت سلسلة المصادرات السابقة تحتج باجتهادات المفكرين فيما يخص البشر من شرائع الدين ، لكن الأستاذ عادل حسين أعلن على قناة الجزيرة الفضائية في برنامج الاتجاه المعاكس بتاريخ 30/5/2000 أن ثورته مع حزبه وأزاهرته كان لها سبب آخر ، حيث إن الروايات تطاولت على الله نفسه ، وهو الأمر غير المسبوق ، لهذا كانت المبايعة على الموت و الدم و الهدم و الخراب . و هنا لا نجد سوى استفسار شديد البراءة : ما دمتم تحتجون قبل ذلك في المصادرات بالدفاع عن الشريعة ، وما دام الأمر وصل هذه المرة إلى الاعتداء على الله نفسه ، فلماذا لا تتركون الله يدافع عن نفسه ؟ ولنا في عبد المطلب بن هاشم أسوة حسنة عندما قال لأبرهة الحبشي : " رد على إبلي فللبيت رب يحميه " .. لماذا إذن لا تتركون الله يدافع عن نفسه بنفسه حتى يعود عصر المعجزات و الطير الأبابيل ؟ ولماذا تعكسون الأوضاع بعد أن قال تعالى في كتابه الكريم إن الله يدافع عن الدين آمنوا /38/الحج " و ليس العكس ( ؟‍) و لماذا تصرون أن عليكم حقا جهاديا بتوحيد كل الألوان و الأفكار و التباينات بينما القرآن الكريم قد أقر أن التعددية

66

و الاختلاف و التمايز قرار إلهي بحقوق الإنسان ، في قوله تعالى : " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء لجعلكم أمة واحدة / 48 / المائدة " . و هنا لابد أن يطرح المؤمن إيمان العوام أسئلته المترتبة على ما سبق : لماذا يا أزهر وقد أنعمت عليك مؤسسة الحكم وأغدقت ، فرفل رجالك في النعيم ، وأصبحوا نجوما أبهة ومنازل اجتماعية رفيعة ؟ لماذا يا أزهر وقد أنعموا عليك بلقب ( الشريف ) وجعلوك رمزا للإسلام ، رغم أنه لا يوجد في صحيح الإسلام رموز ، ولا يوجد في القرآن كله ولا في الحديث كله شئ اسمه الأزهر ولا رجال الأزهر ؟ لماذا يا أزهر وقد سمحوا لك بجعل معاهدك وجامعتك مأوى لكل فاشل دراسيا ، ثم أنعموا على خريجيك بلقب العلماء ، ومن يومها اختفى من بلادنا علماء الفيزياء و الكيمياء و الأحياء و لم يبق سوى علمائك ورضينا بهم قسمة وحظا ونصيبا ؟ لماذا أيها ( الشريف ) وأنت تتقلب كل مرة في النعيم مع تقلبات المؤسسة السياسية من أقصى اليسار اليمين و بالعكس ، ولم يسألك أحد يا شريف عن تقلباتك أو سؤالك عن موقعك من صحيح الإسلام ؟

لماذا يا أزهر ؟ أسئلة إجاباتها لاشك معلومة لدى جهاز الدولة الحاكم ، وهو بها أدرى .

67

القسم الثاني : شكرا .. بن لادن !!

تنويه وعرفان

تنويه :

الموضوعات التالية تم نشرها بعضها في دوريات مصرية ، لكن مع تدخل الجهات الناشر تدخلا سقيما أحيانا ، ولئيما أخرى ، ومريضا أو جبانا ثالثة . دون حتى استئذان المؤلف ، مما شوهها تشويها فظيعا ، يليق بالعقل الواقف وراء التدخل المقيت ، ولم ينج منها إلا ما نشر في مجلات شديدة التخصص لم تصل إلى مساحة أوسع من القراء ، لذلك وجب نشرها مرة أخرى . هذا إضافة إلى موضوعات لم يسبق نشرها من قبل .

عرفان :

كان لرصد السيد مرتضى العسكري للوقائع في سياقها التاريخي و لتحليلات جبران شامية ، ولمفاتيح على حرب النقدية ، دور لا ينكر أثناء قراءة الحاضر وأحداث الماضي ، وتحليل وتركيب النصوص ودلالاتها ، لذلك وجب التنويه ، حفظا للأمانة .

 

الآن .. أو الطوفان

أن العصبية هي أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين

" أحمد بن الطيب "

 

أصبح " الإسلام المعدل المطلوب أمريكيا " عنوانا لمناقشات منوعة في الإعلام العربي و الإسلامي ة العالمي بعد ضربة الحادي عشر من سبتمبر 2001 وعزم الولايات المتحدة الأمريكية على التدخل في ثقافات المسلمين ، ضمن حملتها الدولية الموسعة على الإرهاب العالمي ، من أجل إعادة صياغة المفاهيم التي يسلك بموجبها المسلمون مع أنفسهم أو مع العالم . لضمان ما تراه استقرارا أمنيا لها ولنا و للعالم من وجهة نظرها ، بعد أن عاشت زمنها السابق وفق حسابات مصالحها ومصالح شعبها فقط ، فحالفت شرار الأرض كما هو حالها مع العنصرية الإسرائيلية ، وصادقت أعتى الأنظمة القمعية في دول العالم الثالث بغض النظر عن أحوال شعوبه . وأدامت سلطات هذه الأنظمة التي نشرت الفساد في مواطنها مع قهر العباد ، وشجعت عزل تلك الشعوب عن الحداثة وحجبتها عن التطور بتشجيع السلفيات المنوعة ، وهي الخط النظري الذي يجمع الشعوب مع سلاطنيها استجابة لحميمية رغبة هذه الشعوب في عدم تسرب أي غريب إلى خصوصيتها الثقافية عليها . بغرض إبقاء تلك الشعوب في حالة سكونية خارج حركة التاريخ المتسارعة ، مع الاعتماد على الأنظمة الحاكمة للحفاظ على المصالح الأمريكية في مناطقها . وهو ما أدى إلى انتشار الجهالة المعممة الضامنة للاستبداد السياسي ، لكنه زرع في الوقت نفسه حقدا حضاريا متناميا في تلك المواطن ، خاصة مع مواقف الحليف الأمريكي من القضايا العزيزة على الشعوب . ومولت المخابرات الأمريكية ببذخ الحركات السلفية الفكرية و المسلحة ، وأقامت في العواصم الإسلامية المؤتمرات المغذية للخصوصية الثقافية كمؤتمرات ما يسمى العلوم الإسلامية . فكان أن أفرزت لها تلك المواطن إرهابا دوليا عقرها في عقر دارها الذي تصورته آمنا من كل سوء ، مما وضعها للمرة الأولى أمام مسئولياتها كسيدة للعالم ، من أجل

75

تجانس هذا العالم ثقافيا ، وربما سياسيا ، لتكون العولمة صداقة المعنى و المضمون و حفاظا بالطبع على أمنها ومصالحها في المقام الأول . وإزاء هذا الهول العظيم " الإسلام المعدل المطلوب أمريكيا " الذي ما خطر على قلب مسلم ( وإن خطر لنا وكتبنا بشأنه وحذرنا على مدى العقد الماضي لإصلاح البيت من الداخل دون سامع ولا مجيب حتى أزفت الآزفة ) يجدر وضع الأمر على مائدة بحث مكشوفة وعلنية في بيت أصحابه ، لمناقشته واتخاذ المناسب بشأنه بيد أصحابه ، للوصول إلى مشركات بين المختلفات تؤدي إلى النتائج الأقرب إلى مصلحة الوطن و المواطن قبل أي أمر آخر . وكان الأساس الذي سبق وطرحته ولم أسلم بسببه من الأذى ( من محاكمات رسمية إلى محاكمات أمام أمن الدولة إلى إدانات آزهرية إلى تعتيم وحجب ومنع نشر إلى تشنيع صحفى مصحوب بالتخوين الوطني والتكفير الديني ) هو الذي أصر عليه ، وهو وجوب إعادة النظر في مناهجنا سياسة أو تشريعا أو اجتماعا أو إعلاما أو تعليما ، والأهم في فهمنا للإسلام وطرق تدريسه وشروحاته وقواعد التعامل معه وبه من تشريع و تحليل وتحريم وقواعد فقهية بل وثوابت نظنها كذلك ، أو نريدها كذلك ، وعلاقة هذا كله بالعصر الذي نعيشه باعتبار ذلك مطلبا وطنيا قبل أن يكون أمريكيا ، وأنه قد أصبح ملحا وضروريا لصلاح أحوالنا ، وفي الوقت ذاته – ببعض الواقعية – توقيا لعصف الدولة العظمى الكبرى القادرة الغاضبة و معها كل دول العالم تقريبا ، إزاء أوطان ضعيفة متهالكة لا تملك لنفسها ردا ولا دفعا سوى استمطار اللعنات من رب السماء بالدعاء على الأمريكان أناء الليل وأطراف النهار ، وهو ما لم يغن عنا شيئا خاصة أن أصحاب منهج الدعاء لم يحسموا لنا الموقف حتى الآن و يحددوا لنا موعدا نهائيا لهذا التدخل الإلهي ، وحتى يحدث هذا التدخل أو لا يحدث فلا سبيل إلا ما بأيدينا وما في متسطاعنا . وإن مخاطر عدم الوضوح وصراحة الطرح و المناقشة رهبة أو خوفا ستكون نتائجها على الأجيال المقبلة هي الأوخم و الأسوأ ، خاصة مع ما وصلت إليه أحوالنا النفسية و العقلية وأوهامنا الرافضة لأي تغير مهما حدث من كوارث ، غير العابئة بأي نتائج مهما تراكمت النوازل و المصائب و التراجعات ، ناهيك عن أولئك النفر المستفيد من استلقائنا الخامل خارج التاريخ نجتر أساطيرنا ، وهم نفر كثير وله نفير ، وهي الأمور التي أدت بنا إلى عدم التحرك إلا إلى الخلف وإلى مزيد من الخسائر مطمئنين إلى حصوننا الكلامية ووعودنا العقدية متعثرين من منزلق إلى منحدر ، حتى اصبح من مواهبنا بين الشعوب اتخاذ القرار غير المناسب في التوقيت

76

غير المناسب . وأمست القضايا العربية بين قضايا العالمين هي النموذج الأمثل للخسائر الأمثل . رفضا لمواجهة الذات بعوراتها . وإيمانا بأننا شعوب مختارة بعناية فهي لا تخطئ ، و غيرنا دوما هو المخطئ . و عندما يصبح الأمر هو البقاء في ساحة الفعل التاريخي أو الخروج من التاريخ إلى الزوال الحتمي ، فإنه لا يبقى لدينا وقت للمراوغة اللغوية واستخدام الشراك اللفظية للتحايل على القول ، في ظل تحريمات سائدة ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا التعامل بالأساليب الملتبسة للإجابة على الأسئلة المصيرية المطروحة علينا ، لملاطفة رأى عام غير سوى ولا رشيد ، أو توقيا لعصف سلطة سياسية أو غضب سلطة دينية . وإذا كان النوم ثقيلا فإن الصحو سيحتاج إلى النهر و الزجر وتشديد النكير ، لأن الهزيمة التاريخية المروعة التي نعيشها لا تتمثل فقط في الهزائم العسكرية أو التراجع الحضاري ، لكنها تكمن في كوننا لا نصدق أننا شعوب مهزومة على كل المستويات حتى النخاع ، ومتخلفة على كل الأصعدة ، وفي كوننا لا ندري لماذا هزمنا ولا كيف هزمنا ، لأننا لا نملك فضيلة المكاشفة و الشفافية و الصدق مع الناس ومع الذات ، وهي الآن أبرز الفضائل الكونية في الدنيا المتقدمة المتفوقة . علما أن البداية الصحيحة و الناجحة هي الاعتراف بالهزيمة المروعة وأن بدء العلاج يكون بقبول النقد و الاتهام الذي ربما كان علقما أو موجعا أو يحتاج لجراحات كبرى ، لكنه الضروري بلا بديل آخر ، محاكمة للذات وفحصا للمسلمات ، للوعي من خدر الغيبوبة ونقد مانظنه بدهيات لاسترداد العافية ، لأنه – وهذا هو الأخطر – لا توجد خدمة أن نقدمها لقوى العنصرية الإسرائيلية أكثر من الاستمرار فيما نحن فيه من هلاوس ، ناهيك عن كون تلك الأسباب هي التي حالت بيننا وبين التوصل إلى لغة يفهمنا بها العالم وجذر المشكلة يتموضع في نظرتنا ونفهمه ، هذا مع الأخذ بالحسبان أننا لا نفهم بعضنا بعضا . وجذر المشكلة يتموضع في نظرتنا لكل شأن من خلال الهويات ( دينية ، قومية ، عرقية ، لغوية ، ثقافية ... الخ ) ، ومدى اتفاق الآخر معنا أو اختلافه وفقها وحسب شروطها . وتتحزم هذه الهويات جميعا برباط الدين الإسلامي الذي لا نرى أمرا إلا من خلاله ، حتى اصطبغت به حياتنا حتى في تفاصيلها الدقيقة ( كيف نأكل وماذا نقول عندما نشرب أو عندما ننتهي من هذا أو ذاك ، وبماذا ندعو ونستعيذ عند الغائط وعندما نتجشأ ، مع دعاء الركوب سواء كانت الركوبة حمارا أو طائرة لا فرق ، وبم نبدأ الجماع من أدعية وبم نحمد عند الانتهاء ... الخ ) ، ثم نتعامل مع المختلف وفق رأي ديننا فيه و ليس كما هو ، لذلك ننفيه و لا نعترف له بحق أن يكون

77

مختلفا عنا ، بحسبان ديننا مصدر كل حق وكل معرفة ممكنة وكل فضيلة كاملة ، ومن ليس تحت مظلته فاقد لكل هذا بالضرورة . وبينما العالم لا يرانا إلا في تخلفنا المزري ، نطلب منه أن يتعامل معنا باعتبارنا أصحاب أرفع الأديان أو بالأحرى أصحها على الإطلاق و بحسباننا وارثى مجد حضارة كبيرة ، بينما لكل الأمم و الشعوب أديانها ومآثرها وحضاراتها السالفة ، ولا يعطيها ذلك مزية أو أفضلية على غيرها بالدين و المآثر السوالف ، إنما هي تصنع أفضليتها بتأمين حريات المواطنين وإحقاق حقوق البشر التي تصنع مناخا يسمح بالتوسع المعرفي و الابتكار و الاختراع و المساهمة في المنجزات الإنسانية لاحتلال موقع كريم تحت الشمس . أما نحن فانشغلنا عن العلم و المعرفة بحسبان كل معرفة قد تمت معرفتها مسبقا في مقدسنا ، ومن ثم خضعنا بالكامل للنصوص المقدسة و لم نضع ضمن أهدافنا السعي لمعرفة ما لم نكن نعرف ، قدر ما سدرنا في إعادة إنتاج ما سبق و عرفنا ، لتبرير ثوابتنا و ثباتنا عند نقطة زمنية تبعد إلى الوراء ما ينوف بقرون على عشرة قرون . لذلك لم ننتج أي معرفة حية سواء حول النص أو الواقع ، وكيف ذلك و شاغلنا وهمنا يفصح عنه دعاؤنا المرعوب إلى رب السماء " اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا (؟!! ) .. أليست تلك هي المصيبة عينها ؟! وكي نثبت جدارتنا في عالم يسجل كل ليلة آلاف الكشوف و الاختراعات قام جهابذتنا اللواذع يشمرون عن همتهم لتعريفنا معلومة واحدة فيها الكفاية و الغنى ، وهي أننا علماء الأكوان لآخر الأزمان بالكشف في مأثورنا عن كل علم سبق اكتشافه . والصرعة الجديدة الآن هي ظاهرة الشيخ الدكتور زغلول النجار الذي تعدى القرآن إلى الحديث النبوي يستكشف فيه آخر النظريات العلمية ، رغم ما في علوم الحديث من مآخذ على الحديث . ليس لفائدة البلاد و العباد بكشف ما لم يسبقنا إليه المتفوقون في ، لكن ليثبت لنا صدق ما بيدنا من مقدسات وتقييمها بقيمة العلم الغربي الذي يكفرونه سلفا . ويؤكد لنا عبر حلقات طوال أن الله قد أنزل الحديد من السماء إلى الأرض ما بيدنا من مقدسات وتقييمها بقيمة العلم الغربي الذي يكفرونه سلفا . ويؤكد عبر حلقات طوال أن الله قد أنزل الحديد من السماء إلى الأرض إنزالا عملا بظاهر الآيات " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد / 25 الحديد " ، و بعمليات حسابية حول عدد ذرات الحديد و الألفاظ القرآنية بأساليب الحواة البلهوانية ، إثباتا لجدارتنا بين الأمم ، بالخبيئ داخل نصوصنا النظرية الذي كان ينتظر كل تلك القرون مجيء السيد زغلول ليكون بطل الكشف ونجم العلم ودرة الإيمان . وجعل زغلول من نزول الحديد قضية كبرى يبسمل حولها المؤمنون ويحوقلون ، بدلا من أن يستخدم إجازته العلمية لدخول المختبر

78

و تقديم ما يمكن أن يفيد به وطنه من هذا الحديد ، بغض النظر عن كونه قد هبط أم صعد أم قعد ، خاصة أن النصوص الدينية ليس من وظائفها إنجاز الكشوف و الاختراعات و النظريات العلمية ، لأن زمنها وبيئتها لم تكن بعد مهيأة لهذه المعاني ، ولأن مثل هذه المنجزات تتم بجهد الإنسان وكده وراء المعرفة ولا يمطرها الله على أحبابه من السماء . ثم إن لها منهجا يعتمد على الملاحظة و المشاهدة الحسية و التجربة المخبرية ولا يحكم فيها إلا العقل الإنساني وحده ولا محل فيها لغير الإنسان . و التذاكر و التذاكي باستذكار سالف العصر و الأوان بعلماء كانوا فخر زمانهم في العصر الذهبي للإمبراطورية الإسلامية ( الرازي ، الخوارزمي ، ابن سينا .. الخ ) لا يصنع شيئا في أي شئ ، ناهيك عن كون المنتج العلمي لهؤلاء لا علاقة له بدين الإسلام بل لمكان المسلمين في الشرق حينذاك ، و تمازج علوم ومنجزات حضارات البلاد المفتوحة داخل الإمبراطورية الإسلامية ، فأثمرت علوما ليس من العلم أن نصفها بأنها كانت علوما إسلامية فليس للعلم جنسية ولا دين ولا وطن .. كانت علوما فقط . و قبل زغلول كان أصحاب لعبة العلم و الإيمان قد أرسوا في عقول شبابنا خلطا عظيما بين مفهوم القدرة الإلهية و بين القدرات السحرية ، بمحاولاتهم تفسير كسر قوانين الطبيعة بالمعجزات في مأثورنا على ضوء ما انتهت إليه النظريات العلمية ، وهو ما كان كفيلا بإسكان صوت العقل ، لأن قدرة الله تتجلى في ثبات قوانين الطبيعة و ليس في كسرها ، ولأن من يزعم خرق هذا الثبات هو العقل السحري السابق للعقل الديني زمنا و كيفا وفهما . وهو ما يعني أننا انتكسنا إلى مراحل ما قبل ظهور الأديان . ولم يعد هناك فرق بين مشايخنا و علمائنا وبين عوام الناس الذين كانوا يخرجون عند تأخر فيضان النيل خارج أبواب قلعة محمد علي ، يتلون صحيح البخاري و يختمونه احتسابا لتأثير الكلام في قوانين الطبيعة ومازلنا نتصور أن مجرد الكلام لابد أن يؤثر حتى في كبرى قضايانا السياسية مع العالم . بينما الإسلام يعد أبرز الأديان التي حاربت السحر و السحرة ، ولا يرى أفاضلنا هؤلاء أي تناقض بين الموقف الإسلامي وبين ما يفعلون ، ولا يلتفتون إلى أن علوم الصواريخ و الأجنة والهندسة الوراثية هي منجزان متراكمة لجهود إنسانية من كل ملة وموطن ، ولم يعرفوها من القرآن ، ولم يعلموا بوجودها خبيئة طي ألفاظ تحتاج من يؤولها ويسقط عليها ممكناته المعرفية التي تعلمها من زمننا و ليس من زمن القرآن ، فهي في النهاية ممكنا المفسر وزمنه و ليست أبعد من ذلك . ولا شك إن إخيولتنا التي تركبنا وتصور لنا قد حققنا في

79

ماضينا كل ما حققته البشرية من تقدم هائل كما ونوعا في حاضرها ، تعمل على تخليق مستمر للعامل القديم الجديد في تخلفنا ، بالركون إلى وهمنا فلا نرى ما نحن فيه حاضرا ولا ماضينا ، وهو ما يؤدي إلى عدم بذل أي محاولة للانتفاع بما لدى المتقدمين من فلسفات ونظر ومناهج أدت إلى تقدمهم . وظلت اجتهاداتنا محصورة في كيفية الحفاظ على ما نحن فيه حرصا على أصالتنا ، وهو حاضر موحش أصبح رميما منذ أزمان . وآخر إنجازات شبابنا المسلم المهاجر الذي عاش ثقافة البلدان الحرة هو ما يسمونه الإعجاز الرقمي ( الديجيتال ) للقرآن في الكمبيوتر ، ذلك الجهاز الذي لم يساهم فيه عباقرتنا بأي شئ بدءا من التيار الكهربائي ( الذي سيدخل صاحبه جهنم لأن اسمه إديسون و ليس أحمد أو علي ) وانتهاء بالتصنيع و البرمجة . لكن نصيبنا فيه أو قل مصيبتنا هي اجتراح المعجزات السحرية من خلاله ، بينما اخترعه أصحابه لتسهيل تخزين و تسريع المعلومة وسيولتها وتحليلها وتركيبها وتصنيفها .. الخ . ومن الأمثلة الفواضح لهؤلاء الأفذاذ ما نشرته صحيفة العالم اليوم في يناير 2002 ، وكيف أمكن لعلمائنا أخيرا إعلان العالم بمكتشفاتهم باستخدام كمبيوتر علاء الدين السحري ، ومعرفة أن الآية (110) في سورة التوبة وترتيبها (9) بين سور القرآن ، قد تنبأت بتحريق الأمريكان داخل الأبراج جزاء وفاقا لما قدمت أيديهم . ويحيطوننا علما نافعا مفاده أن عدد كلمات سورة التوبة ( بعد إسقاط أحرف الجر و العطف و الذي منه حسب المطلوب ) هو ( 2001 ) كلمة بالتحديد المبين ، ولو رتبنا الأرقام لنطقت بالمعجزة و هي ( 11 / 9/ 2001 ) يوم ضرب أشاوسنا مركز التجارة العالمي بنيويورك . والآية المقصودة تقول : " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا ِأن تقطع قلوبهم والله عزيز حكيم " ، وفي أسباب النزول نعلم أنها قيلت في شأن بعض الصحابة الذين بنوا مسجدا بغير رضا النبي فأسماه مسجد ضرار وأمر أصحابه بهدمه وتحريقه فوق رؤوس المجتمعين فيه ، ولأن الأمريكان مثل أصحاب مسجد ضرار ( لا تعرف كيف ؟ ) فقد استحقوا الموت حرقا داخل بنيانهم كأصحابهم الذين بنوا مسجد ضرار . ويبدو أن جهابذة بحور علمنا الديجيتال لم يعلموا أن الترقيم الذي اعتمدوه للآيات وترتيب السور لا علاقة له بالشأن الإلهي و لا بصلب الآيات و لا تاريخها ، لأن عملية الجمع و الترقيم و التبويب كانت كلها بشرية من الألف إلى الياء . اللهم إلا إذا نسبنا المعجزة إلى اللجنة التي شكلها الخليفة عثمان برئاسة زيد بن ثابت لتدوين القرآن وترتيبه في مجمع واحد .. و اللجنة التي شكلها الحجاج بن يوسف الثقفي من بعد

80

الأهم في تلك الأمثلة هو إقرارنا بالعجز عن الفعل الإنساني المبدع المنتج .. فقط حضراتهم يقومون بتأكيد صدق مقدسنا ، مما يعني شكهم العميق و المسبق في هذا الصدق ، وإلا ما بذلوه وراءه جهدا بلا طائل سوى التباهي بما لم ننجز و ما لم نبدع . هو إقرار فصيح بعجزنا عن استخدام العقل في إنجاز مبدع خلاق ، لأن المبتدعات في بلادنا أول المكروهات ، ولأنه لا مجال لعلم لم يعلمه ربنا وكفانا بذلك احتسابا . و هكذا نروح ونجئ لتأكيد أنه لا جديد خارج ما علمه ربنا وأسلافنا من الأصحاب و الشراح و الفقهاء من موتى التاريخ ، غير مدركين أن أنجاز المجتمعات القديمة لابد أن يكون متخلفا بالضرورة عما أنجزته عجلة التطور في المجتمعات الحديثة ، وأن من يقول بغير ذلك هو معتوه كبير . وغير عابئين بأوضاع التاريخ وشروط سيره وتعاقب أطواره ، ولا مكترثين بالتمييز بين الصور البسيطة للأفكار التي أنتجها الأسلاف وتمت صياغتها في عموميات وبين الصور المعاصرة المعقدة و المركبة من متراكمات وتفاصيل تند عن الحصر في جمل مأثورة ، ولا قادرين على التمييز بين النصائح الدينية الأخلاقية المرسلة التي لم تجد طريقها إلى إصلاح الواقع في زمانها وبين الصيغ القانونية الحديثة التي تناسب تعقيدات مجتمعنا الحديث . و هكذا تعززت نظرتنا للغرب المتقدم بكراهية أصيلة فينا له منذ الاستعمار التقليدي حتى الآن ، وزكاها الخطاب القومي للعسكر المحلي عند استيلائه على السلطة في بلادنا ، حتى أمست كراهية أمريكا على وجه الخصوص هي مقياس وطنية المواطن ، وهي كراهية يفخر عناترنا بإعلانها بسفور مدهش ، فهذا صحفي يدعى ( زياد أبو غنيمة ) يعقب على ضرب أمريكا في قناة الجزيرة بقوله : " إننا نكره أمريكا ونكره أصدقاء أمريكا .. ونعمل على محاربة أمريكا ، وهذا أمر لا نستحي منه ولا نخجل منه في 11 / 12 / 2001 " و لا تفهم سر اختيار أبو غنيمة أكبر قوة في العالم ليعلن الحرب عليها .. ولا تعقيب !! إن ما يجب نلتفت إليه ونحن في نشوة الكراهية التفريق بين هذه الكراهية وبين مناهجهم في التفوق ، رغم أني لا أظن شعبا لديه المبرر لكراهية أمريكا أكثر من الشعب الياباني الوحيد في العالم الذي تعرضت مدنه لتجربة الإبادة النووية على يد الأمريكان . ومع ذلك فإن الشعب الياباني تبنى المنظومة الفكرية للغرب المنتصر ، لإدراكه أنها كانت عامل انتصاره ، ولا أحد يمارى في أن أهل اليابان قد فازوا به فوزا عظيما وفزنا نحن فقط بالكراهية إضافة إلى أصالتنا ... التخلف .

81

ونظرا لما يسره المنتج التكنولوجي الغربي وإبداعاته من راحة ورفاه وعلاج و سعادة لبني الإنسان ، فقد قبلنا منتجه التقني في كل مناحي حياتنا ، لكننا رفضنا الأهم ، منهجه الذي أدى به إلى هذا الإنتاج و الإبداع الهائل و الرفيع ، حرصا على تخلفنا أن تصيبه جرثومة الغير بالتلوث كاملة ، كانت هي ما أفرز تفوقه ، لا لشئ إلا لأن مبادئ الحريات عنده لا تصلح في بلادنا على إطلاقها . فماذا – مثلا – سنفعل بمساواة الجنسين في الحقوق ؟ وكيف سنسمح بحرية الاعتقاد مع مبدأ قتل المرتد ؟ أو كيف سنسمح بحرية النقد أن تطال ما نظنه ثوابت غير قابلة حتى للفحص ؟ .. وإن حدثتهم عن ثقافة الغرب المتقدم كمطلب للتقدم أجابوك بأنه الغزو الثقافي ، فثقافة التقدم مرفوضة لأنها تمارس علينا عمليات غزو .. أن تصبح المعرفة محايدة يمكن أخذها و الاستفادة منها دون أن ندفع فيها المليارات .. هذا غزو (؟!!) .. ولا يلتفت الصناديد الواقفون لمواجهة هذا الغزو صفا مرصوصا للحفاظ علينا حفرية حية لكائنات انقرض مثلها . . لا يلتفتون إلى كون موقفهم هو اعترافا للثقافة المرفوضة بأنها الأقوى ، رغم كل التطبيل و الترميز لثقافتنا الفريدة في العالمين . وأحيانا لا يفهمنا البعض لإصرارنا على ثقافة لا تستطيع مواجهة الجديد بقواها الذاتية ولا أن تفرض ذاتها على ثقافة الآخرين و تغزوهم كما يغزونا . ولأننا على يقين من وهننا الثقافي أمام الثقافات العصرية المتفوقة في الغرب . نضع للثقافات الأخرى مناطق حظر استيراد جمركية تفتش فيها العقول عن أي مهربات ثقافية ونحاكمها وندينها . والحل لدينا لما آل إليه حالنا هو الانتظار ، لأننا سنسود الدنيا بالتأكيد بحسباننا خير أمة أخرجت للناس ، ليس بعملنا وإنجازنا ولكن لأن الغرب المتقدم سينهار ( انظر غاية أماني الكراهية لدينا .. أن ينهار المتقدم ؟! ) وسوف ينهار في فلسفة فلاسفتنا بسبب تخمته المادية ، ومثالا لذلك نستمع إلى الدكتور عماد الدين خليل أستاذ التاريخ بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة دبى يحيطنا علما نافعا يقول : " إن الحضارة الغربية بتجاوزها للقيم ذات العمق الروحي الوجداني الإنساني الخلقي الديني .. ستؤول إلى نوع من التفكك و العجز و الشلل / الجزيرة في 16/12/2001 " ومن ثم تعقب الدكتورة الجامعية (؟!) نوره السعد على ما قام به تنظيم القاعدة في أمريكا بقولها : " إن الإسلام هو الوحدانية التي يحتاجها العالم المعاصر ليتخلص من متاهات الحضارة المادية المعاصرة التي لابد لو استمرت أن تنتهي بالإنسان إلى ضياع .. وكان لابد من هذه المواجهة .. الآن بدأت الصحوة

82

الحقيقية / الجزيرة / في 3 / 12 / 2001 " وهو الوهم المريض الذي تكذبه كل الظواهر الحادثة و التي تشير إلى أن كل من يتعامى عنها هو بلا شك يعاني من خلل عقلي ولأنهم كمن يرفض الاعتراف بشروق الشمس لأنها لم تشرق من قريته . باختصار اخترنا التخلف حرصا على الموروث على الأخلاق الحميدة و على الشرف الذي لابد كي يسلم من الأذى أن يراق على جوانبه الدم ، فهم يعلنون توجسهم من أساليب الحضارة الحديثة لأنها حضارة مادية شريرة ، هي انحراف وضلال وفجور ، مع تفاؤلهم الشرير الذي يتمنى أن تقتلها حضارتها المادية و عطشها الروحي حتى يعلو الإسلام دون تعب أو مشقة أو علم ولا هم يحزنون ، و يظل التمني مجرد نبوءة كاذبة لأن حضارة الغرب تملك كل عناصر الاستقرار و القوة وأهمها ذلك الذي لا نفهمه : قدرتها على نقد نفسها باستمرار . وفي سياق أحاديثنا عن الشرف و الأخلاق نتغافل عن المستور في سلوكياتنا غير العلنية وأننا أكثر مادية من أهل الغرب وأوغل في الحسية . وأننا ننفق الأموال في أدنى ألوان المتع المادية و اللذات الجسدية منذ فجر إمبراطوريتنا تحت مظلة الشرعية الدينية العلنية وتغص به مأثوراتنا التاريخية . ويبدو أن تشديدنا على الفارق الأخلاقي يعود إلى عدم امتلاكنا ما نتميز به من فعل أفضل أو إنتاج أو علم ، لذلك نلجأ إلى العامل الوحيد المحايد الرجراج الذي لا يمكن تحديد مقاييسه وضبطها لأنه معياري قيمي تتوقف مقاييسه على وجهة نظر كل مجتمع حسب ظروفه وثقافته ودرجة تطوره أو اختلافه عن المجتمعات الأخرى . ولو راجعنا الأمر على أصوله لوجدنا الرقى الخلقى و المسئولية عن الفعل و هي الجانب الأهم في فلسفة الأخلاق و التي تبني على الاختيار الحر ، تترافق مع التقدم لا مع التخلف و التقييد و التحريم و المنع ، وهو ما يعني تفوق المتفوقين حتى في ما نريد سلبه منهم تميزا و ترفعا . خاصة أن الدنيا تعرفنا بخصائصنا التاريخية و علاقتنا بالمال و السلطة و الجنس ، هذه الشهوات الثلاث التي حارب المسلمون بعضهم بسببها عبر التاريخ ، وعن الهاجس الجنسي و هو الكامن وراء كل نقد للغرب . فحدث في بلادنا و تاريخنا ولا حرج ، فقد أباحت الشريعة لذ كورنا مساحات اللذة على مصراعيها ، من بعد الزوجات الأربع ملك اليمين و التسري و الاستمتاع بأي عدد ، وأقمنا من قبل إمبراطورية للمال و الجواري ، وسخرنا المساحة الروحية التي نزعمها لتحقيق شهواتنا الدنيوية وإكسابها الرضي القدسي . هذا ناهيك عن كون المبادئ الأخلاقية المطلقة غير موجودة بالمطلق لا عندنا و لا عند غيرنا إلا في السجلات النظرية ، وأن هذه السجلات لم تضع لها القواعد إلا لأن البشر يخالفونها ، وكل ابن آدم خطاء .

83

و إضافة للعامل الأخلاقي كأساس لنبوءة دمار ليقينهم دمار المتفوقين حتى يتخلفوا مثلنا ، يتحدث مفكرونا عن أسباب أخرى ليقينهم ، فالدكتور خليل المشار إليه آنفا ، يشرح لنا هذه العوامل و الأسباب بما لديه من أثقال علم على كاهله يحملها أسفارا فيقول : " هذا حدس يبنى النتائج على أسبابها و مقدماتها في الفعل التاريخي .. فهل شهد التاريخ البشري نظاما يقوم على القطبية الأحادية ؟ .. و في شهد التاريخ البشري نظاما يقوم على القطبية الأحادية ؟ .. و في المنظور القرآني عندنا : ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " . فحدس الرجل ينبني على أن التاريخ لم يشهد العالم محكوما بقوة كبرى واحدة ( وهو أستاذ التاريخ ؟! ) . ومع هذا فإن مؤرخنا أسكت الله له حسا يصبح مع القطبية الأحادية الواحدة المسيطرة على العالم إذا كانت إسلامية لأسباب وهمية لفظية طقسية نرجسية سحرية تنضح في قوله المتسائل : " إلى متى تظل العقول الوضيئة ( ؟!!) و الأيدي المتوضئة و الحضارة الطاهرة النبيلة التي تليق بإنسانية الإنسان .. منسحبة من العالم ؟ .. إننا الأمة الوحيدة التي تحمل القدرة على إعادة التوازن لعالم انحرف به المسار ومال بثقله وبعينه العوراء الواحدة ، كالمسيخ الدجال باتجاه كل ما هو مادي في هذه الحياة .. ورغم أننا أمة مهزومة لا تملك حضارة و لا حتى كيانا سياسيا يؤهلها لأن تقف في مواجهة الآخر بخطاب أشد قوة وأكثر إحكاما ، فإن في هذا الدين من القدرة ما يجعله يخترق كل التحديات . لأن كل المذاهب و النظريات و الأديان المحرفة وصلت إلى طريق وقدرتها على الإقناع وقدرتها على اختراق عقل الآخر بغض النظر عن مستواه الحضاري " .. مؤرخنا مشغول ليس بالإنسان لكن بالدين الذي له رب يرعاه ، كذلك عامة المثقفين في بلادنا ، أما السبب الأهم لسيادة الإسلام المقبلة فهو ما أورده الصحفي زياد أبو غنيمة و هو يقول : " تزخر آيات القرآن الكريم بالعديد من الآيات التي تطمئننا بل تبشرنا بأن المستقبل للإسلام مهما أكثر أعداؤه " . ويرى حامل الأسفار من جانبه أن الإسلام عندما يسود بعد انهيار الغرب لن يقبل الشراكة في حكم العالم من أي قطب ثان ، ناقضا بذلك استنتاجاته ونظريته في عدم سلامة عالم يقوم على القطبية الأحادية ، فيقول دون أن يشعر بأي يشعر بأي صدع مخي عمن يطلبون إسلاما مشاركا قويا وسط القوى العالمية : " في تحليلات هؤلاء يدخل الإسلام مشاركا في المصير .. ليس مزيحا للآخرين و لا محتكرا .. هذا منظور الغربيين ، أما منظورنا نحن الذين نتعامل مع النص القرآني فإن العقيدة الأعلى الأقوى الأكثر مصداقية هي التي ستحكم في نهاية الأمر " . أما لماذا نحن بوجه خاص دون البشرية المؤهلون لسيادة العالم و قيادته في قطبية واحدة ، فهو ما يفسره لنا الدكتور ( أحمد التويجرى ) صاحب المناصب في السعودية

84

العربية بقوله : لأن " هذه الأمة أقل الأمم تطرفا وأكثر الأمم تأصيلا للاعتدال و الوسطية .. ولا يمكن أن توضع في مصاف الآخرين / الجزيرة في 3 / 12 / 2001 " ، و هو ما يعني ببساطة أننا كالرجل الأبيض عنصرى النزعات الذي يعتبر لون جلده مبررا كافيا وشرعيا لسيادته وتفوقه . بهذا ، ولهذا فضلنا أن نظل عالة على من نكره ، وأن نكون في حالة تبعية له ، ننتظر دوما سبقه الكشفي و الإبداعي لنستفيد منه بعده ، بدلا من أن نقف مع الدنيا عند مستوى المنجزات على قدم وساق ، بتبريرات من رجال الدين في بلادنا هي الأكثر إدهاشا ، إذ غير مطلوب من المسلمين بذل الجهد و العنت و المشقة و سهر الليالي طلبا للعلى ، وغير مطلوب منا إثارة مشاكل لا داعي لها حلول الحريات و الديمقراطيات اللازمة لفرز مناخ علمي ، لأن ربنا قد أعفانا من هذا و سخر لنا أهل الغرب كما سخر لنا بهيمة الأنعام من البغال و الحمير لنركبها وزينة ، هم يكدون و يخترعون ونحن نستهلك على الجاهز ، بعد أن منحنا الله المال بلا مشقة متفجرا تحت أقدامنا في شكل حيض جيولوجي اسمه النفط ، حتى لا نكد أو نتعب فنحن أحباب الله المدللون ، هذا موجز ما قال المرحوم الشيخ شعراوي يوما في حلقاته التلفازية ، رحم الله شعراوي وتجاوز عن سيئاته . هذا بينما وقف المرحوم الصادق النيهوم يصرخ في البيداء يقول : " إن العرب في لغتهم الشرعية لا يعترفون بقدسية الوطن ، ولا يموتون طائعين في سبيله ، بل يموتون في سبيل الله ، وهي فكرة مختلة جدا ، لأنها قد تعني أن يرفع المواطن سلاحه باسم الشرع في وجه ما يدعى بوطنه المقدس.. وكلمة دولة تعني للدولة حدود و تكون لها هوية ونشيد قومي وعلم مرفوع فوق سارية .. ما عدا الدول العربية التي ترتفع فيها أصوات المؤذنين معلنة ولاءها لدولة خفية لا تعترف بحدود أو نشيد قومي أو قيادة " .. رحم الله النيهوم وأكثر من أمثاله . ويختصر الكاتب الإسلامي الأستاذ ( غازي القصيبي ) موقفنا من الغرب في قوله : " بوسعنا أن نبغض الحياة الغربية أو نحبها ، لكن ليس بوسعنا أن نزعم أننا نستطيع العيش بدون منجزاتها .. فغما أن نتابعهم أو نبقى متخلفين عن ركب المدينة . وقد علمتنا حرب حزيران 1967 أن ثمن التخلف قد يكون كرامتنا وأراضينا واستقلالنا السياسي / من هنا وهناك صــ 23 " . هذه فقط بداية الكلام .. وتبقى التفاصيل .. سنقولها إن ظل مسموحا لنا بالقول ، أو إلى حين إخراس الصوت ، أو أقرب الأجلين .

85

 

المستنير و المعتدل و الإرهابي

أزمة الديمقراطية بين المقدس و السلطان

" أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الرسول وأولى الأمر منكم "

59 / النساء / قرآن

" الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع "

الدستور المصري

ضمن حملتها على الإرهاب الدولي : اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية فوادح سياستها الخارجية التي أفرزت لها هذا الإرهاب ، بعد أن أسهمت بباع وافر في تنشئته و تربيته وتدريبه وتطويره ، منذ دعمها بالمال و السلاح وخبرات المخابرات الأمريكية لمقاتلى الحرية ، أيام كانت تسميهم كذلك في حربهم ضد الوجود السوفياتي في بلاد الأفغان . إلى بذل الأموال السخية لدعم الصحوة الإسلامية وإقامة مؤتمرات العلوم الإسلامية (!!) على صنوفها في حسابات مخابراتها المعلنة : ناهيك عن الجريمة التأسيسية المتمثلة في تحالفها مع أشد الأنظمة رجعية في العالم ، وأكثرها فسادا واستبدادا في البلاد الإسلامية ، بغرض تحقيق أسرع وأقل كلفة للأهداف الأمريكية في الخارج بغض النظر عن البشر وحقوق الإنسان في تلك البلدان . وهو ما قطع بين تلك الشعوب وبين المناهج الغربية في الحريات و الحقوق و المعارف العلمية التي أدت إلى تفوق الغرب الهائل الفارق . و كان واضحا أن غرض كل مؤتمرات الصحوة هو العزف على أوتار الماضي و الانكفاء عليه بتغذية الخصوصية الثقافية و التخويف من ثقافة التقدم الغربي حرصا على الموروث الأصيل . وهو ما يعني أنها كانت تستثمر فينا إسلامنا ووفاءنا له لإبقائنا خارج التاريخ المتحرك ، لنبقي في حال ثبات عند عشرة قرون ماضية برضا منا ورغبة ، وامتنان من الأنظمة الحاكمة التي تقاطعت مصالحها لمزيد من طول العمر مع مصالح الحليفة الكبرى .ومن هنا أمكن لصموئيل هانتنجتون أن يقول : " إن الصحوة قد أثبتت أن الإسلام هو الحل لمشكلات الأخلاق و الهوية و الاعتقاد ، لكن ليس لمشكلات الظلم الاجتماعي و القمع السياسي و الضعف العسكري

( 1) وكان قادة الغرب يعلمون ذلك يقينا ، لكنهم كانوا في الوقت ذاته " يدركون أن العلميات الديمقراطية في المجتمعات غير الغربية غالبا ما تأتي

89

بحكومات غير صديقة " ( 2 ) ، لذلك وبتعبير هانتجتون كانت " ورطة التعامل مع جامعات العسكر و الطغاة الذين كانوا معادين للشيوعية ( 3 ) ، ومن ثم رصد في كتابه من الوثائق ما يؤكد أن " أكبر مقاومة لجهود التحول الديمقراطي جاءت من الإسلام " ( 4 ) .

حتى جاء 11 سبتمبر 2001 المهول ...

وأدركت أمريكا أي مارد ربته وغذته وسمنته ، لتجد نفسها في مواجهة خطر عظيم يصعب تحديده أو الإمساك به للقضاء عليه . منتشر عبر أكثر من سبعين دولة يتناسخ و يتكاثر حشريا في أي مكان حتى في بلاد الغرب القوي ويتلبس أي شكل . تغذيه و تقف من ورائه أيديولوجيا عقيدية متكاملة ، تضمن لمقاتليها الخلود في جنات النعيم في كرامة لا ترقى إليها رتبة أخرى . وهو الفارق الثقافي الهائل في فهم قيمة الفرد الإنسان في منظومة الغرب الليبرالية وفي منظومة المجاهدين المسلمين فارق يجعل أحدهما دوما غير مفهوم للآخر ولا حتى معقولا . واكتشفت الحرب الجديدة ضد الإرهاب أنه ليس بآلة القتل وحدها يمكن محاربة الإرهاب ، إنما الحل الناجح هو بتجفيف منابعه ، وأولاها وأهمها المنابع الثقافية ، وهو ما يعني أن الحرب دخلتها معان جديدة وبحاجة لأدوات مناسبة لميدان جديد ، وهي المساحة التي لا يمكن تحقيق النصر فيها بصواريخ كروز و القنابل الذكية ، إلا كعوامل تمكينية مساعدة كما هو متوقع بشأن العراق ، التي لابد ستنتقل فيها الحرب من بعد تنظيف الأرض عسكريا إلى مساحة العقل و الضمير . هكذا جنت أمريكا ما زرعت في مفاجأة مليودرامية فاجعة ، أما الإنسان في بلادنا فكان دوما هو الضحية لتلك السياسات دونما ذنب جناه سوى حظه النكد ونصيبه بالميلاد في شرقنا التليد . حيث أمكن استثمار الخط النظري لجماهير المسلمين باستخدام أجهزة الإعلام الحديثة ليتحول تاريخنا عن الاستبداد الشرقي الشهير إلى استبداد من لون جديد تمت رعايته بالمؤسسة الدينية الرسمية الباذخة عبر أجهزة التثقيف المملوكة للحاكم أو للدولة ... لا فرق استبداد اجتماعي يخضع فيه الفرد كليا في تفاصيل حياته الدقيقة لإرادة المجتمع وتقاليده التي هي بالأساس مقدسات دينية . ليتشابه كل الأفراد في تميز خاص عن البشر اليوم ، كالتشابه في الزي و اللحية للرجل و الخمار للمرأة ، وفي لغة خطاب خاص مميز بمعجم مفرداته واصطلاحاته ومفاهيمه وأحكامه ، وفي سلوكيات وشعارات واحدة متطابقة ، ومثل هذا التشابه الشديد و التقارب بين الأفراد هو سمة بدائية

90

حدث فيها نكوص نحو الشكل القبلي ، حيث تنعدم شخصية الفرد وتذوب في الجماعة حتى تغيب عنه حقوقه ويتنازل عنها طائعا وراغبا بحسبان ذلك شأنا قدسيا وحفاظا على الهوية القبلية المتماسكة . وعندما يصبح الوجدان المشترك مطابقا للوجدان الفردي تكون العودة إلى البداوة قد تمت بنجاح ، أيام كان الفرد و القبيلة شخصا واحدا . وهو الأمر الذي التقت عنده خبرات رجال الدين المحترفين والدولة القامعة و المتطرفين في جماعات الإسلام السياسي ، معا ، بوفاق وتناغم عظمين ، وأمكن تدعيمه بظرف استثنائي دولي تمثل في الصراع العربي الإسرائيلي الذي تم استخدامه انتهازيا طوال الوقت لتأجيل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان لأن الذئب يقف للجميع على الحدود ، فارضا على المواطنين الانكماش و التماثل القبلي و التماهي في القبيلة و شيخها بوجود الطوارئ الدائمة . وهي ليست مجرد طوارئ اعتيادية إزاء عدو يحتل أرضا ، لأن لهذه الأرض سمات مميزو تماما ففيها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين ، ومن ثم كان بالإمكان العمل دوما بقاعدة لا صوت يعلو ... وتلخص د . هالة مصطفى الموقف على طريقتها بقولها : " فإذا أخذنا بالتعريف الغربي للثقافة الديمقراطية ، والتي تتمثل بشكل أساسي في الليبرالية الفكرية و الإعلاء من الحرية الفردية و الاعتقاد في حكم القانون و العلمانية : أي تنظيم العلاقة بين المجال الديني و السياسي وقوة المجتمع . سنجد أن كثيرا من التحارب التي تشهد عمليات التحول الديمقراطي سواء في أسيا أو أفريقيا أو الشرق الأوسط تحديدا ، لا تعرف بالضرورة هذه الثقافة ، أو أنها تعرف بعض عناصرها ولكنها لا تتوافر فيها مجتمعة . كما أن الخصائص العامة للمجتمع المدني فيها تختلف ربما جوهريا عن مثيلاتها في التجارب الغربية .. إن كثيرا من المحددات الثقافية ما زالت تشكل تحديا أساسيا أمام عمليات التحول الديمقراطي " (5) . وحول المبادرة الأمريكية لدعم المقرطة في بلادنا ضمن عمليات إصلاح سياسات أمريكا الخارجية بعد سبتمبر 2001 ، تعقب د . هالة قائلة : " إن التطور الديمقراطي لأي مجتمع يصعب اختزاله في مجرد إجراءات أو تشريعات ومؤسسات تنقل من مجتمع لآخر بشكل تحكمي ، ولكنه يرتبط ارتباطا وثيقا بثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده وأنماط سلوكياته .. إن استعداد المجتمعات العربية لدفع التطور الديمقراطي بها لا يعتمد فقط على قبولها بمبدأ توسيع المشاركة السياسية و التنوير الثقافي .. فإن متطلبات معينة مثل ترسيخ الحريات الفردية أو تمكين المرأة و التسامح وضمان حرية الفكر و التعبير واكتساب المعرفة وتطوير

 

91

التعليم و غيرها ، سيصعب تحقيقها بحكم المتغيرات الثقافية المرتبطة ببعض عناصر التراث القديم و العادات و التقاليد " ( 6 ) . وما تقصده د . هالة بالمحددات الثقافية التي تعوق المقرطة ، و ثقافتنا الخاصة التي تبني مواقفها على عناصر التراث القديم ، ربما يشرحه لنا لون من الخطاب الإسلامي ،واضح القسمات صريح لا يلجأ للخداع و المراوغة ، كما في قول محمد مندورة الأستاذ بجامعة الملك سعود ( وهو مصري الجنسية فحاز الحسنيين !! ) : " إن الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية هي : أولا فصل الدين عن الحياة . وثانيا : أن الأمة هي مصدر التشريع و السلطات ، وهي التي تضع الأنظمة و التشريعات بحكم الأكثرية و ثالثا : تقديس الحريات الفردية و ضمانها مثل حرية العقيدة و حرية الرأي و حرية الملكية و الحرية الشخصية . وهذا كله يخالف الإسلام جملة و تفصيلا ، فليس في الإسلام فصل للدين عن الحياة ، و الحاكميو لله وحده ومصادر التشريع فيه معروفة .. وليس في الإسلام تقديس للحرية بمفهومها الموجود في الديمقراطية . فلا يستطيع المسلم أن يغير دينه مثلا . وليس في الإسلام الحرية الشخصية بمفهومها الديمقراطي و الخلاصة أن الديمقراطية ليست من الإسلام في شئ وأنها تخالف الإسلام مخالفة صريحة لا يشك فيها أحد .. وأن مفهوم الديمقراطية وجميع ما ينبني عليه من أحكام ودساتير وما ينبثق عنه من أنظمة ، تتنافى تماما مع الفكر الإسلامي " ( 7 ) . ولأن الإسلام يتميز بين سائر الأديان أنه كان يقيم دولة بالمعنى السياسي للعرب ، فقط اختلط فيه العقيدي بالسياسي اختلاطا شديدا بل وارتبط به في أدق تفاصيله ، حتى غدا النموذج النبوي المحمدي هو أفضل نماذج الحكم في تاريخ الإنسانية السابق و اللاحق ، لأنه كان الحاكم العدل الخالص لدولة إسلامية مركزية توحدت فيه جزيرة العرب جميعا ، ومثل هذا الاعتقاد وحده في فرادة النموذج المحمدي للحاكم كمطلب لخيال طوباوى لدولة يرأسها زعيم كالنبي ، يشكل النقيض الكامل للديمقراطية وانتظار مثل هذا النموذج اليوم هو رغبة نفسية عبدة في الخضوع لديكتاتورية كاملة تامة ، فالنبي بالنبوة وحدها جاز له أن يكون صاحب الأمر كله فكان هو الحاكم وهو مفسر الآيات وهو منفذ أحكام الشريعة وهو القاضي بين الناس وهو القائد الأعلى للجيوش وهو مدبر الغزوات وقائدها أحيانا وهو من يقوم بتوزيع الدخل القومي ( الغنائم ) على أفراد المجتمع ، وهو القائم بالأعمال الدبلوماسية وهو مراسل الملوك ، فجمع في شخصه كل السلطات روحية وقضائية وتشريعية وتنفيذية وإدارية

92

و عسكرية ومالية . ولم يصلنا من تاريخ السيرة النبوية أن النبي شكل هيئة استشارية أو سياسية أو إدارية تساعده في أداء مهامه . وهو نموذج إن صلح في ظرفه التاريخي فإنه لا يصلح اليوم ممثلا في دعي بالخلافة ، لتبدل أحوال الزمن ومطالب المجتمع اليوم ، وما اتفق للنبي ذلك إلا لظرفه التاريخي ولأنه كان نبيا ، وبعده لا أنبياء . و لكن ؛ لأن الديمقراطية هي أفضل نظام حكم توصلت إليه الإنسانية حتى اليوم ، فقد قررت كل الأنظمة و الأحزاب و الأيديولوجيات على تباينها أن تدعى الديمقراطية صدقا أو تجملا أو نفاقا ، لاكتساب ما تحمله الديمقراطية من تشريف بدلالاتها حول الحريات الفردانية وحقوق الإنسان ومقدسها الأعلى : الكرامة الإنسانية . وأوغلت بعض الأنظمة في العالم الثالث قليلا أبعد من الشعار و الإعلان إلى تفعيل المبدأ الديمقراطي ، لكن مع قصر المسألة كلها على الديمقراطية السياسية أو صندوق الانتخابات ، على أن تخرج نتائجه بما سبق أن تقرر سلفا محسوبا بالتزييف أو التزوير ، فانخرطت في تمثيلية الديمقراطية ولكن يفعل محاكاة بدائي . وفي المقابل فقد قبل تيار الإسلام السياسي باللعبة الانتخابية مع محاولات مستميتة دؤوبة مكنته من نجاح ملحوظ على مستوى النقابات و الحصول أحيانا على بعض كراسي البرلمان . وقد بدأ واضحا في خطاب هذا التيار أن الديمقراطية كأي اكتشاف إنساني هام أو عظيم تستحق السطو عليها كعادتنا المعلومة وادعاء الأحقية التاريخية في الاكتشاف ، بحسبانها سبقا إسلاميا قررته آيات القرآن بقولها " وأمرهم شورى بينهم / 26 / الشورى " ثم تأكيدها على نبي الإسلام " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله / 158 / آل عمران " ... وهنا نكون قد انتقلنا إلى الخطاب الإسلامي المخادع الذي يعيد اكتشاف المنجزات الإنسانية بأثر رجعي ، لكن أهم دلالاته هنا هو الإقرار بأن الديمقراطية مبدأ عظيم يستحق نسبته إلى الله في قرار إسلامي قدسي سماوي رباني ، وإن كان ذلك لا يعني حقا أن الشورى الإسلامية هي ديمقراطية الغرب اليبرالية اليوم ، وبملاحظات سريعة تكتشف فارقا هائلا ، فمن غير الواضح على بعد يعود ضمير الغائب في " وشاورهم " و لمن يتوجه بطلب الاستشارة ؟ ولا من هم المستشارون ؟ ولا هل طلب المشورة فرض واجب على الحاكم أم لا ؟ وهل الحاكم ملزم بالتقيد بالمشورة ؟ ولو فرض واجب على الحاكم أم لا ؟ وهل الحاكم ملزم بالتقيد بالمشورة ؟ ولو ذهبنا للزمن الخليفي لمزيد من التيقن حيث مارس الحكم كبار صحابة النبي ، لوجدناهم غير معتدين بالمرة بمبدأ الشورى كما لو كان غير مقرر بما يريدوننا أن نفهمه عنه اليوم . فقد تولوا الخلافة بغير شورى بل

93

وبمصاحبة العنف عندما لزم الأمر ( 8 ) . ورغم أن خطبة أبي بكر عند توليه الخلافة تلمح إلى اعترافه بحق الأمة في مراقبة أفعاله ، فإنه لم يقم بأي جهد لإنشاء لجنة الرقابة المفترضة ، كذلك خلت خطبته تماما من أي إشارة للشورى ، أما عن قوله : " إن أسأت فقوموني " ، فتعني وجوب تقويم الناس له متى أخطأ ، والإنسان لا يخطئ إلا بعد أن يقرر العمل و ينفذه فعلا . وعلى ذات المنوال نسج عمر و عثمان . و في الحالات الحرجة التي قرر فيها الصحابة إبداء المشورة لضرورة فرضها الموقف كما في حرب مانعي الزكاة عندما عارض الصحابة أبا بكر و على رأسهم عمر بن الخطاب ، فإن الخليفة رفض مشورتهم وأنفذ رأيه و شن حربا ضروسا على معارضيه ( 9 ) . وعند و فاته لم يستشر أبو بكر أحدا بل اختار عمر ليخلفه ، ولم يشر أي مصدر تراثي إلى أن أحدهما قد شكل مجلسا للمشورة من بين صحابة النبي ، بل إن توليهما الخلافة كان برضا فريق من أهل المدينة دون بقية الفرق و بقية العرب في مكة و البوادي و المضارب ، أما عثمان فقد قضى على أي ظل باهت لمعنى الشورى المقصود بضربة واحدة عندما أعلن أن الخلافة قميص ألبسه له الله و ليس الناس ، ومهما بحثت في ذلك الزمن فلن تجد أية إشارة إلى من هم أهل الشورى ، لذلك قام الفقهاء في زمن متأخر لسد تلك الثغرة باختراع اصطلاح ( أهل الحل و العقد ) بحسبانهم أهل الشورى ، وهو اصطلاح لم يسبق له الذكر . قبل أبو الحسن الماوردي ( 974 1058 ) . وبعد الماوردي ظل الاصطلاح كيانا غامضا غير معروف إلا نظريا كمدون فقهي مع بعض الاجتهادات النظرية حول عدد أهل الحل و العقد " فمنهم من قال إن أقلة خمسة ومنهم من قال ثلاثة ومنهم من قال واحد ( 10 ) !! و لا تجد هنا المرجع المعول عليه في تصنيف الناس للصلاحية لعضوية هيئة الحل و العقد دون غيرهم ، ولا من المنوط به الإعلان عن ضرورة اجتماع تلك الهيئة ولا مواعيد اجتماعها ولا مكانة ( سنقوم في بحث مستقل بتفصيل أوضح لمبدأ الشورى في الإسلام ، فيما يلي من فصول ) . و كالعادة مع المنجزات الإنسانية الكبرى ، فإن العقل الإسلامي يتعامل مع الديمقراطية بعقلية الغزو و قاطع الطريق ، بغرض الاقتناء النظري و إثبات السبق الإسلامي للإنسانية فيما اكتشفته و ما لم تكتشفه بعد ، ليس لأن للمنجزات و المكتشفات قيمة في ذاتها تستحقها ، ولكن بحسبانها مجرد حلي للزينة ليس اكثر . ومن هنا لاندهش عندما نكتشف بعد كل الحديث الطويل العريض عن سبق الإسلام إلى الديمقراطية

94

بمبدأ الشورى أن المرشد السابق لجماعة الإخوان عمر التلمساني يرفض الأحزاب السياسية لأن " كلمة الأحزاب قد وردت في القرآن مقرونة بالشر " أو عندما نقرأ لحسن البنا الزعيم المؤسس " إن حزب الله هو الحزب المأمور بقيامة و عكسه حزب الشيطان الممنوع قيامه " أو عندما يعلن المرشد مصطفى مشهور بلغة فصيحة غليظة " إننا نقبل بمبدأ التعددية الحزبية الآن ، لكن عندما يقوم حكم إسلامي فإننا نرفضها ولا نقبلها " ( 11) . هذه التصريحات و المواقف لابد أن تصل إلى أن تيار الإسلام السياسي لا يؤمن إطلاقا بالديمقراطية كمبدأ إنما كوسيلة للوصول إلى السلطة لمرة واحدة ناجحة وبعدها ينقلبون على التعددية و الديمقراطية و يغلقون البرلمان ليحكموا باسم الله . ولو صرفنا النظر عن لا أخلاقية هذا المنهج ( التقية ) وانتهازيته و عدم شفافيته في الوصول إلى السلطة ، وتناقضه مع المبادئ الرفيعة لقيم الديمقراطية ، ومع أي قيم لأي دين حتى يكون دينا ، فإن خطاب الإسلام السياسي المعلن يقوم على تناقضية إزاء الديمقراطية ، فهو من جانب يتخذها وسيلة لتمكين الإسلام في الأرض بتمكين أصحابه من السلطة وأصحابه ليسوا كل المسلمين وإنما من اختاروا أنفسهم ليكونوا كذلك دون بقية المسلمين ، ويعمل بآليات الدورية الانتخابية حتى يوم التمكين بنصر كاسح يضعهم على الكراسي حيث آلة الدولة . لكنه من جانب آخر يرفض جانبها الاجتماعي وشروطها الحقوقية كحقوق المرآة ، وحق تشريع البشر لأنفسهم ، وحق الاعتقاد الذي أصبح مقدسا لا يمس لأنه علاقة الإنسان بضميره . و هكذا يتفق الطرفان : الحكومات وحركات الإسلام السياسي على مبادئ أساسية ليس من بينها حقوق الإنسان وكرامة المواطن ، فالأنظمة تتجمل بصندوق الانتخابات في رقصة تعبيرية لجمع التبرعات لمرشحيها ، بينما تكرس آلتها الإعلامية لخلق قمع داخلي ورقيب نفسي يكفر تلك الحقوق على أساس ديني . وهو ما يلقي بالطبع الاستحسان و التقدير من حركات الإسلام السياسي التي تتفق و الحكومة على جانب وحيد من الديمقراطية هو صندوق الانتخابات كلعبة صراعية حول المساحات الممكنة من السلطة . ويتفقان أيضا على استبعاد أي مكون آخر في بنية الديمقراطية ، وعبر إعلام الحكومات أمكن للإسلام السياسي ضخ مفاهيمه ومواقفه لتنميط العقل الجماهيري بموجبها في اتفاق وتحالف معلن ، عبر أسماء لدعاة حولهم إعلام الحكومات إلى مشاهير أعلام وجعل بعضهم يصل إلى رتبة القداسة كما في حالة متولي شعراوي حيا

95

وميتا . و بعضهم الآخر إلى شخص كلي القدرة و المعرفة مثل مصطفى محمود وتابعه زغلول النجار . وضمن تلك المفاهيم المنشورة المبثوثة قام خطاب الإسلام السياسي بخداع ورياء ونفاق بإعلانه الموافقة على الجانب السياسي للديمقراطية لكن مع تبديع وتكفير بقية جوانب الديمقراطية مع التأكيد بالاستخدام المستمر و المتكرر لمصطلح الديمقراطية كدال على معنى واحد هو الجانب السياسي . أما بقية جوانب الديمقراطية التي تندرج تحتها كل المعاني الحقوقية الليبرالية وهي الحريات التأسيسة للديمقراطية كي تكون ديمقراطية ، فقد استخدم لها اصطلاح ( العلمانية ) ، مع تحميل مصطلح العلمانية كل المعاني السلبية الممكنة إزاء القواعد الإيمانية في الإسلام ، وهو الأمر الذي يسعد به عبيد كما سعد به زيد . ولا يبقى من الديمقراطية غير صندوق الانتخابات الذي لن يأتي أبدا لا بحريات ولا بحقوق إنسان ، لهذا يلاحظ كل المراقبين في هزلية الدورية الانتخابية في بلدان العالم الثالث الإحجام الشعبي الواضح عن المشاركة في التمثيلية . و بسبيل تنفير ضمير المؤمن من العلمانية يرجع الباحثون المشاهير من التيار الإسلامي بالمصطلح إلى جذور نحته اللفظي في الأصل اللاتيني ، وهو ما كان يعني في لاتينية العصور الوسطى الإنسان العادي مقابل رجل اللاهوت ، و العالم المحسوس أو الدنيا مقابل عالم الميتافيزيق ، لكن لتتم إحالتها إلى ترجمة واحدة مباشرة هي " اللادينية " كما يشرحها الداعية يوسف قرضاوي ( 12 ) الملقب بالمعتدل وفهمي هويدي الذي يستطيب وصفه بالمفكر الإسلامي المستنير ( 13 ) بينما لو أردنا توصيف العلمانية أو تعريفها بشكل دقيق فسنجد أنها ليست عقيدة جديدة كالدين ضد أديان أخرى ، إنما هي مجموعة تدابير تنظيمية و قانونية للمجتمع ، وصل إليها البشر عبر مراحل طويلة من الصراع لتقنين السلطات ورفع يد رجال الدين عنها ، ففكت اشتباك سلطان الدين بسلطان الدولة بما يضمن حياد الدولة تجاه أي دين ، وبما يضمن حرية المواطن في الاعتقاد و الرأي . ومنعت رجال الدين إعلان آرائهم إزاء بقية الآراء المختلقة كمقدسات يسيطرون بها على الناس و الدولة باسم الدين لهذا يتهمها رجال الدين بالإلحاد رغم إنها تضمن لكل المؤمنين من كل دين حق صيانة معتقداتهم وضمان أداء طقوسهم بحرية تامة . وهو ما يعني أنها صيغة تنظيمية تستبعد عوامل النزاع و المشاحنة في المجتمع و الدولة باسم الدين بما يهدد أمنه و سلامته ، بشهادة تاريخية تؤكد أن جميع ألوان الحروب الأخرى منذ فجر التاريخ وحتى اليوم .

96

ومن جانبه يلجأ فهمي هويدي إلى أسلوب في إدانة العلمانية ، فيؤكد أننا قد جربنا في بلادنا جميع أنظمة الحكم بما فيها العلمانية ، وأثبت الكل فشله ولم يبق سوى العودة إلى نظام الحكم الإسلامي الذي يناسبنا بالضرورة !! أما متى عرفت بلادنا العلمانية فهو ما يراه الأستاذ هويدي قد حدث في الزمن الناصري وتجربة يوليو وتوابعها في دول العرب من حكومات العسكر المحلي من الطغاة ، لينتهي إلى أن " تجربة العلمانية العربية ظلت على الدوام نقطة سوداء في السجل العلماني ، ليس فقط من زواية موقفها من الدين ، إنما أيضا من زواية موقفها من الحرية و الديمقراطية و حقوق الإنسان ( 14 ) و هو " الأمر الذي وجد فيه الدارسون دليلا قويا على أن التلازم بين العلمانية و الديمقراطية ليس ضروريا " (15) . ويبدو أن هذا اللون من الخطاب يعتمد إلى حد كبير على فقد الذاكرة العربي المشهور تاريخيا لأن العودة القوية للإسلام كفاعلية موضوعية واضحة في شئون السياسة و القانون و الحرب و المجتمع ، إنما كانت مع قفز العسكر المحلي على السلطة ، للحصول على شرعية المقدس عبر المؤسسة الدينية التي كانت قد تراجعت بشدة إبان التجربة الليبرالية المصرية قبل حركة خفر يوليو ، ليعاد بعثها من جديد ، وتدعم بإقامة المؤتمر الإسلامي سنة 1954 ، ثم المجلس الأعلى للشئون الإسلامية سنة 1960 التابع مباشرة لرئاسة الجمهورية ،واصبح مقر رئيس الجمعية الشرعية أيضا بمقر الرئاسة . ومع تطوير الأزهر تم منحه صلاحيات رقابية واسعة على ضمير الأمة مع تبعيته المباشرة لرئيس الجمهورية . كذلك تم إنشاء مجمع البحوث الإسلامية وأصبح للأزهر وزير لشئون الأزهر . ومن سبعة معاهد أزهرية في المحافظات قبل يوليو إلى ستتة آلاف معهد الآن ، وتم إنشاء دار القرآن سنة 1964 لنشر التراث وفي نفس السنة افتتحت إذاعة القرآن ، وأصبح هناك شيخ رقيب في أي لجنة إذاعة أو سينما أو تلفاز ، هذا غير المواد الطائفية بالدستور .. وغيره كثير ، أكثر من أن تحصيه دراسة قصيرة كتلك . باختصار كان زمن حكومات العسكر هو الزمن الذهبي للبعث الإسلامي ورجاله ، وهو ما أفرز في النهاية ما وصلت إليه أحوال البلاد و العباد ، ابتداء بالهزائم وتأبيد الفقر و الجهل و المرض و الفساد بالإرهاب ، و ليس آخرا ، ولا تعلم أين العلمانية من كل هذا !! و بحسبان استخدام الخطاب الإسلامي لمصطلح العلمانية كدال على الحريات الليبرالية ، يقرر الداعية المشهور بالمعتدل ( يوسف قرضاوي ) : " إن العلمانية لا اعتراض

لها على الجانب الأخلاقي في الإسلام بل لعلها

97

ترحب به و تدعو إليه " ( 16 ) بل إن " العلمانية لا تجحد الجانب العقدي في الإسلام ، ولا تنكر على الناس أن يؤمنوا بالله ورسوله و اليوم الآخر انطلاقا من مبدأ مسلم به عندها هو تقرير الحرية الدينية لكل إنسان فهذا حق من حقوقه أقرته المواثيق الدولية ومضت عليه الدساتير الحديثة " ( 17 ) ، هي أيضا " لا ترفض الإسلام باعتباره عبادة و شعائر " ( 18 ) إذن أين المشكلة ؟ .. يجيب قرضاوي : " إن العلمانية لا تقف مع الإسلام موقفا محايدا " ( 19 ) . أما كيف ذلك رغم تقريره على حياد العلمانية إزاء الأديان . فهو ما يشرحه بقوله : " إن العلمانية لا يمكن أن تكون محايدة كما زعم بعض العلمانيين العرب ، فهذا بالنسبة للإسلام مستحيل . لأن الإسلام يواجهها بشموله بكل جوانب الحياة الإنسانية و هي لا تسلم له بهذا الشمول . فلا مفر من الصدام بينهما . إن النصرانية قد تقبل قسمة الحياة و الإنسان إلى شطرين ، شطر لله و شطر لقيصر . أما الإسلام فيأبى إلا أن يواجه الحياة كلها بأحكامه ووصاياه وأن يصبغها بصبغته .. إن طبيعة الإسلام أن يكون قائدا لا مقودا وسيدا لا مسودا يعلو ولا يعلي " ( 20 )

و لمزيد من الإدهاش يقول الشيخ المعتدل قرضاوي : " إن الإسلام في داره دار الإسلام لا يكتفي بأن تكون عقيدته مجرد شئ مسموح به .. ولا يقبل في مجتمع مسلم أن يكون الإسلام وهو في قلب داره وعز سلطانه مجرد شئ مأذون فيه لا غبار على من أمن به ، كما لا حرج على من تركه أو أن الدين لله و الوطن للجميع كما قالوا " !! ( 21 ) . وحتى يكشف لنا عدم حياد العلمانية يقول : " تريد العلمانية من الإسلام أن يقنع بركن أو زواية له من بعض جوانب الحياة لا يتجاوزها ولا يتعداها . وهذا تفضل منها عليه لأن الأصل أن تكون الحياة لا يتجاوزها ولا يتعداها . وهذا تفضل منها عليه لأن الأصل أن تكون الحياة كلها لها بلا مزاحم أو شريك . فعلى الإسلام أن يقنع بالحديث الديني في الإذاعة و التلفاز ، وأن يقنع بالصفحة الدينية في الصحيفة يوم الجمعة ، وأن يقنع بحصة التربية الإسلامية في برامج التعليم العام ، وأن يقنع بقانون الأحوال الشخصية في قوانين الدولة ، وأن يقنع بالمسجد في مؤسسات المجتمع وأن يقنع بوزارة الأوقاف في أجهزة الحكومة " (22) و للكلام هنا دلالات مكنية تحتاج إلى فكها لتصرح بما تريد ، ففي ضوء الفقرة الأخيرة لا شك سنتذكر النغمة السائدة في الخطاب الإسلامي عبر مجلاته وصفحة المتعددة ، وعبر مقاره التي تتعدد بتعدد المساجد و الزوايا ألوفا ألوفا ، ترسل نواحها وعويلها وهوانها تندب تواري الفكر الإسلامي في إعلام الدولة وتعليمها ، بعد أن فتحت أبوابها للفكر العلماني

98

 

على مصراعيه ، وهو ما أجمله المستنير فهمي هويدي في عبارة واحدة توضح أنه " تطرف علماني يمارس الإرهاب عبر وسائل الإعلام " ( 23 ) . و تصحب تلك الشكوى أمثلة بالمسرحيات التجارية و الأفلام الخلاعية و الأغاني الفيديو كليب وما شابه كما لو كانت هذه هي العلمانية . هذا بينما لا تجد مجلة ولا صحيفة واحدة مخصصة للفكر العلماني على غرار عقيدتي و الدعوة و اللواء و النور و الأزهر .. الخ .. الخ .. الخ ، ولا حتى مساحة في بريد قراء الصحف المسماة القومية ( الاسم الكودي للصحف الناطقة بلسان الحكومة ) . بل المعلوم أن أي مفكر علماني يعاني كل المعاناة في إيجاد منفذ يعبر منه إلى وعي الناس ، ويتحايل فيما يكتب ، ويلتف ويحاذر كي يقول بعض فكره ، هذا إن وجد المنفذ ، حتى أصبحت لغة الإعلام بل لغة الدولة و المجتمع جميعا لغة إسلامية ، لا يبرز فيها سوى تجليات الفكر الإسلامي ومفاهيمه ومصطلحاته وحده . ورغم ما عدده المعتدل من مساحات استولى عليها رعاة الفكر الإسلامي كالإذاعة و التلفاز و الصفحات الدينية ومناهج التربية الإسلامية بالمدارس وقانون الأحوال الشخصية في القضاء ووزارة الأوقاف في الحكومة ، فإنه لا يبدو محتجا بقدر ما يبدو غير قانع بكل هذا سوى السلطة ذاتها ، ليقيم دولته الإسلامية الثيوقراطية على أنقاض الدولة القائمة . وهنا يتدخل المستنير في مقاربة دفاعية عن فكرة الدولة الإسلامية قائلا : " تعرضت فكرة الدولة الإسلامية لعملية اغتيال معنوي باشرها العلمانيون المتطرفون ، واستخدموا فيها الاجتراء و الافتراء مختلف أساليب التدليس و التزوير . إذ حاولوا أن يثبتوا في الأذهان أنها دعوة إلى الحكم الإلهي محملة بكل شرور تلك الصفحة السوداء من تاريخ التجربة الأوروبية في العصور الأوسطى . وفي مختلف كتاباتهم وحواراتهم ، فإنهم ما انفكوا يدسون على عقولنا أفكارا و صياغات تضفي على التطبيق الإسلامي مختلف صفات الكراهية و النفور ، فهو عندهم يتلبس الحق الإلهي و يباشر بدعوى التفويض الإلهي . ويتخفي بقناعات العصمة و القداسة و يحيل الحكم إلى كهنوت يحتكره القابضون على أسرار الشريعة القائمة على السلطة الدينية . وهم في ذلك ما فتئوا يحتجون علينا بتاريخ لم ينبت لنا في في أرض ، ويخوفوننا بعفاريت لم تدخل لنا بيتا ، ويصطنعون أوهاما وكوابيس ما أنزل الله بها من سلطان ، لا في ماضي المسلمين ولا فكرهم ولا في تعاليم دينهم " ( 24 ) . و يعود المعتدل شارحا أن ذلك كله وإن عرفته أوروبا في عصورها

99

الوسطى فهو ما لم تعرفه ديار الإسلام ، وذلك لأن " تاريخ الكنيسة غير تاريخ الإسلام .. فقد وقفت الكنيسة مع الجهل ضد العلم ومع الخرافة ضد الفكر ومع الاستبداد ضد الحرية ومع الملوك و الإقطاعيين ضد الشعب حتى ثارت الجماهير عليها .. واعتبروا عزل الدين عن الدولة كسبا للشعوب ضد جلاديها .. فهل يمكن أن يؤاخذ الإسلام بمثل ذلك ؟ ( 25 ) . ومع هذا الخطاب المخاتل المخادع لا تدري أين تضع فظا عات جيش أبي بكر الصديق مع المسلمين الذين خالفوا بيعته وامتنعوا عن أداء الزكاة إليه ، و الوحشية التي عومل بها الأسرى من تحريق بالنار مقموطين إلى الإلقاء من شواهق الجبال إلى التنكيس في الآبار ( 26 ) . وهو من حكم بحسبانه خليفة رسول الله وباسم الله وحاز من تراثنا قدسية عظمى حولت موافقة و تصرفاته وأقواله إلى سنة ، حتى قال قرضاوي بشأنه هو والخلفاء الموصوفين في تاريخنا بالراشدين تمييزا لهم لعدلهم ورحمتهم كأبي بكر : " فما أجمله القرآن من أمور الإسلام بينته السنة النبوية وهي قول النبي وفعله وتقريره ، وأكدته سنة الراشدين المهديين الذين اعتبرت مواقفهم في فهم الإسلام وتطبيقه من السنن الواجب اتباعها لأنهم أقرب الناس إلى مدرسة النبوة " ( 27 ) وهو ما يعني أن أفعال أبي بكر إنما هي تأكيد لسنة النبي التي هي بيان القرآن ؟ لكن الرؤية المتأنية الفاحصة وراء تلك الأهوال التي حدثت للمسلمين على يد حكامهم المقدسين لا يمكنها حس أخلاقي ناهيك عن أي دين ، وإن كان يبررها سدنة الدين و يشرعونها كما يفعل المعتدل و المستنير . أيضا لا تعرف أين تضع العهود التي نكثها الصحابة و الرؤوس التي قطعوها وطافوا بها البلاد، و القبور التي نبشها الحكام و الأحلاف التي عقدها المسلمون مع أعداء الإسلام ضد المسلمين ، ولا اغتيال الأب و العم و الأخ صراعا على السلطان . أيضا لا تعرف أين تضع سلوك الخليفة الراشد عثمان في تحريق المصاحف ، ولا نهبه مال بيت المسلمين على أحبائه وأهله ، ثم قمعه كل من اعترض على قراراته بكل عنف كما فعل مع عبد الله بن مسعود حبيب رسول الله الذي أوصى بحبه ، وكيف سبه علنا سبا قبيحا وضربه حتى كسر أحد أضلاعه ومنع عنه غطاءه ثم جلده بالسياط عندما قام بدفن صحابى جليل كان معارضا لعثمان هو أبو ذر الغفاري . وأيضا لا تعرف أين تصنف سلوك عائشة بنت أبي بكر التي اشتغلت بالسياسة و الفتوى كأرملة للنبي ، وقامت تحرض الناس ضد الخليفة عثمان

100

عندما أنقص من عطائها واتهمته بالكفر الصريح ، مستثمرة وضعها كأم للمؤمنين تناديهم " اقتلوا نعثلا فقد كفر " ولا موقفها من الإمام علي عندما اتهمته بدم عثمان وخوضها ضده حربا مزقت صفوف المسلمين ومات حول جملها ألوف المسلمين ، وما سلم شأن معاوبة معها إلا عندما سدد عنها ديونها ودفع لها ثمانية ألف دينار ( 28 ) . أيضا لا تعرف أين تضع كل سلوكيات معاوية الذي تعتبره فرق السنة إماما مجتهدا أو صحابيا جليلا ، خاصة وهو يحول الخلافة إلى ملك عضود و يخاطب الناس : " الأرض لله وأنا خليفة الله ، فما أخذت فلي وما تركته للناس فبفضل مني " ليؤسس في التاريخ مملكة الأمويين الذين دشنوا حكمهم بقتل حفيد الرسول الحسين ابن الزهراء ، و بضرب كعبة المسلمين بالمجنيق وحرقها . ومن بعد معاوية أفتى الفقهاء لولده يزيد بأنه " ما على الخلفاء حساب ولا عذاب " ( 29 ) . ثم جاء العباسيون ليبزوا الأمويين في الظلم و الاستبداد و الذبح و الحرق ، وكله باسم الله وخلافة رسول الله ، وظل ذلك ديدن حكام المسلمين المتوشحين بالدين و مشرعين حكمهم برجال الدين المحترفين . و كانت بشاعة الفعل تصل إلى أقصاها عندما يتسربل القرار السياسي بالدين لإسكات رأي سياسي معارض يدعم نفسه بقراءة جديدة للدين ، كما حدث مع الجعد بن درهم أول من قال بخلق القرآن وقدرة العبد على الفعل بنفسه ، فأرسل الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك إلى واليه على العراق خالد القسري يأمره بقتله . فوقف القسري على منبر المسجد يوم عيد الأضحى وأنهى خطبته بقوله : " ايها الناس انصرفوا وضحوا تقبل الله منكم : فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم فإنه يقول ما كلم الله موسى ولا أتخذ إبراهيم خليلا ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ، وكان الجعد مربوطا في السلاسل تحت المنبر فنزل إليه خالد القسري وذبحه بيده في المحراب مفتتحا للناس عيد النحر . ومثل الجعد بن درهم كان غيلان الدمشقي المصري ، الذي كان يقول بالقدر وأن الإمامة لكل الناس و غير قاصرة على قريش ، فتم صلبه و تقطيع أوصاله وهو حي بفتوى من الفقيه الأشهر و الأنشر ( الأوزاعي ) ( 30 ) . ومثلهم عمرو المقصوصي الذي دفنه الأمويون حيا ، ومثلهم ابن المقفع المفكر الحكيم الذي قطع المنصور أصابع يديه وشواها أماه على النار وأطعمه إياها ، ومثله كثير يصعب إحصاء ما ورد بشأنه ووجد طريقة إلى التسجيل . لنسأل المستنير : هل هذا هو التاريخ الذي لم ينبت لنا في أرض ؟ وهل تلك عفاريت لم تدخل لنا بيتا ؟ و هل تلك مجرد أوهام وكوابيس لم توجد في ماضي المسلمين ؟

101

نعود نفك دلالات الكلام المكني في الخطاب القرضاوي ، لنجده يروج العلمانية كما كانت دينا أو عقيدة جديدة نقيضة للإسلام ، تريد منه أن يقنع بركن أو زاوية في بعض جوانب الحياة لا يتجاوزها .. إلى أخر ما قال . وأنها تتربص بالإسلام تحديدا لأنها تقوم على حرية المواطنين في اعتقاد ما يشاؤون وهو ما لا يقبل به الإسلام . ومن ثم فهو يسرب حولها فهما قديما كانت توصم به العقائد الفاسدة أو الباطلة أو الشيطانية ليدعمه المستنير مؤكدا أنها بالفعل عقيدة إذ يقول : " إنها عقيدة تحول دون الوفاق الوطني " ( 31 ) . و السر في حيلولتها دون الوفاق الوطني هو أنها تضع المواطنين جميعا على

مستوى واحد من الحقوق و الواجبات بغض النظر عن عقائدهم . ولما كان الإسلام هو السيد الأعلى فإن وضعه على مستوى واحد مع بقية الأديان يعني النيل من سيادته التي يعيش المواطنون في بلادنا بسببها في وفاق وطني ( ؟ !! ) . أما الأوضح في خطاب سادتنا أهل الدين وسدنة العقيدة ، ومنهم المعارض لكنه يشتهر بأنه معتدل كالقرضاوي ، ومنهم من هو مفكري الدولة وأبرز الكاتبين في صفحها لكنه يشتهر بأنه مستنير مثل هويدي فهو أنه خطاب لا يلتفت بالمرة لمعنى المواطنة وحقوق المواطنين . فالخطاب عندما يعلن أن الإسلام " في داره لا يكتفي بأن تكون عقيدته مجرد شئ مسموح به " فإنه لا ينشغل أن يكون ذلك قسم آخر من المواطنين لا يدينون بالإسلام ، فهم أهل ذمة سيتسامح معهم الإسلام و المسلمين السادة . لذلك يكون المبدأ الليبرالي مزعجا تماما لهؤلاء السادة لأنه يقوم على مبدأ المساواة التامة بين المواطنين . وأنه ليس هناك من يملك حق أن يتسامح مع الآخرين أو لا يتسامح . بل إن الخطاب يؤكد عدم اعتراف الإسلام لغير المسلمين بأي حقوق لأن طبيعته أن يكون قائدا لا مقودا سيدا لا مسوداً ز بل أنه لا يعترف بالمواطنة و الانتماء الوطني و يسخر منه و يترفع عليه ، بدءا من ازدرائه الواضح لشعار الزمن المضئ : " فالدين لله و الوطن للجميع .. كما قالوا ؟ ! " ( 32 ) و " إن العلمانية وإن قبلت عقيدة الإسلام نظريا .. فإنها ترفض ما تستلزمه العقيدة من معتنقها ، ترفض اتخاذ العقيدة أساسا للانتماء و الولاء .. بل تقدم عليها رابطة التراب و الطين .. وهذا مناقض تماما لتوجيه القرآن .. الذي يلغي كل رابطة مهما يكن قربها وقوتها إذا تعارضت مع رابطة الإيمان .. ويحذر المؤمنين من اتخاذ أعداء الله : ومن يتولهم منكم فإنه منهم / 51 / المائدة " (33) . وهكذا فإن " المسلم إذا فرضت عليه العلمانية فقد فرض عليه أن يتحلل من دينه .. " ( 34 ) و السبب الأوضح لذلك التحلل " هو أنه لا يستطيع أن يوالي أو بعادي على

102

أساس العقيدة لأن العلمانية ترفض العقيدة أساسا للولاء و الانتماء " ( 35 ) . و هنا لا يتخلف المستنير عن المعتدل ليتساءل هويدي إزاء دعاة الحريات يائسا منهم قائلا : هل هناك جدوى من الحوار ؟ أحيانا يتسرب اليأس إلى أعماق المرء و يستعيد الآية القرآنية التي ترشدنا إلى أن اليهود و النصارى لن يرضوا عنا إلا إذا اتبعنا ملتهم . ويبدو إن ذلك دأب المخالفين جميعا بمن فيهم العلمانيون " ( 36 ) . وهكذا تخرب العلمانية الوفاق الوطني كما يرى هويدي ، وهو ما يشرحه الأزهري التليفزيوني محمد المسير في المجلة القومية ( عقيدتي ) بقوله : " إن سورة المائدة من السور التي تناقش اليهود و النصارى و تلزمهم ضرورة الإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء بالحق و صدق المرسلين ، ولكن أهل الكتاب حرفوا وبدلوا وطمسوا البشارات فكانوا أحق الناس باسم الكفر " ( 37 ) . و عليه لا حل للوفاق إلا بأسلمة غير المسلمين أو إخضاعهم لسيادة الإسلام و المسلمين وهو أضعف الإيمان . وتكون أي محاولة لتغيير الأوضاع السائدة نحو الليبرالية هي علمانية كافرة تحول دون استتاب الوفاق الوطني . فلنذهب نبحث عن الوفاق الوطني في خطاب أبعد عند الإرهابي شكري مصطفى نستمع إليه وهو يشرح موقفه من قضية الديمقراطية و الوحدة الوطنية في وثيقة الهجرة إذ يقول : " إن الإحسان في التعامل مع غير المسلمين معناه التسوية بين المسلم و الكافر في نهاية الأمر سواء محياهم أو مماتهم . فيما يسمونه ديمقراطية الإسلام أو تسامح الإسلام أو الوحدة الوطنية وسائر الشعارات الماسونية في ثياب الإسلام أو أن يكون للكافر بالله عزة في أرض الله ، نرفض ذلك ونرفض ما ينادي به أولئك الذين يبيعون الإسلام بالبخس " ( 38 ) . فهل أختلف المعتدل و المستنير و الأزهري عن الإرهابي الدموي ؟ وهل اختلف جميعهم عن زعيمهم أسامة بن لادن وهو يفتتح حربه الدينية معلنا " إن الذين يحاولون أن يغطوا حقيقة أنها حرب دينية إنما يخادعون الأمة .. فهي مثبتة في كتاب الله سبحانه و تعالى : ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . فالمسألة ملة .. وإن موالاة الكافرين ومظاهرتهم على المسلمين من نوا قض الإسلام الكبرى " ( 39 ) . لكن لأن مبادئ الديمقراطية الاجتماعية تفرض نفسها على أي ضمير ، ولأن اختيار العقيدة بلا إكراه هو من علامات الرقي الإنساني ، فإن قرضاوي يفاجئنا بكلام جميل يؤكد إن الإسلام قد جعل للإنسان " حقوقا يجب أن ترعى ، حقه في أن يختار دينه بلا إكراه أو ضغط ، وأن

103

يفكر بلا حجر ولا إعتات وأن يعبر عن رأيه بلا خوف ولا إرهاب " ( 40 ) لكنك ستكتشف أن هذا الكلام مجرد لطائف تنثر في الهواء لتلطيفه ليس أكثر لأنه يعود ليقول في الصفحة المقابلة مباشرة : " لكن المجتمع المسلم ليس مجتمعا سائبا و لا مجتمعا علمانيا لا دينيا بل هو مجتمع يلتزم بعقيدة يعيش لها .. لهذا يرفض الردة و يعاقب عليها حفاظا على هويته " ( 41 ) ، بل إن إقرار الليبرالية ( العلمانية ) بحرية الاعتقاد ينتقص من سيادة الإسلام لأن للإسلام سيادة و سلطانا يتمثلان في تطبيق حدوده وأبرزها حد الردة ، و يشرح ذلك بقوله : " إن المسلم الذي يقبل العلمانية أو يدعو إليها وإن لم يكن ملحدا لا يجحد وجود الله أو ينكر الوحي .. قد تنتهي به علمانيته إلى الكفر البواح و العياذ بالله إذا أنكر معلوما من الدين بالضرورة .. بل إن العلماني الذي يرفض مبدأ تحكيم الشريعة .. هو مرتد عن الإسلام بيقين و يجب أن يستتاب .. ويفرق بينه و بين زوجه وولده و تجري عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة و بعد الوفاة " ( 42 ) . و إن سيف الردة الذي يرفعه هذا الخطاب في مواجهة حرية الاعتقاد هو سيف مغلول لا علاقة له بدين الإسلام كما سيأتي في الفصول التالية ، حيث أثبتنا بطلان الحديثين المنسوبين للنبي محمد بهذا الشأن و سقوط السند ناهيك عن المتن . وأن الأمر جميعه كان تبريرا لقرار الخليفة أبي بكر بإعلان الحرب على مسلمين رفضوا الاعتراف بإمارته لعدم اشتراكهم أو أخذ رأيهم في الأمر ، وعبروا عن ذلك بمنع ضريبة المال / الزكاة ، فكان أن تم وصمهم بالردة لتبرير قتالهم و قتلهم ( 43 ) . و يلحق بذلك قاعدتان فقهتان هما : " لا اجتهاد مع نص " ، وأن من أنكر " معلوما من الدين بالضرورة فقد ارتد " واستحق الحد بالإعدام و التي يصر عليها المعتدل و المستنير و الإرهابي وهي من أكثر قواعد علم أصول الدين ضراوة ، تضعنا برأينا مباشرة في مواجهة المقدس ، إما هذا أو ذاك ، في مصادمة صريحة لا معنى لها سوى إيقاف العمل العقلي إن حاولنا التوفيق بين النص الثابت و الواقع الحي المتغير ، بل و الحكم على الواقع المتغير بالفساد لأنه تغير دون إذن منا وتحرك دون أن يراعي شروط مأثورنا القدسي . وهنا لا تفهم كيف يتفق الإصرار على هذه القواعد مع مواقف وآراء وفعال وقرارات صحابة النبي الكبار الذين عاصروا الوحي وكانوا مادة الإسلام وهو يتحرك في واقع زمنه و يتشكل من حال إلى حال . وكيف كانوا أول من خالف نصوصا واضحة قاطعة ثابتة لا متشابهة ولا منسوخة . بل خرجوا عليها وألغوا العمل بما لم يعد يناسب الزمان منها . حتى إن

104

بعضهم خالفها لمصالحة الشخصية ومكاسبه الدنيوية علنا ودون مواربة . كذلك عطلوا أحكاما وألغوا فرائض وحرموا حلالا دون أن ينظروا قبل القرار في قواعد فقهائنا التي لم تكن قد اخترعت بعد . فقط كان هناك نص ثابت وهناك واقع حي يتغير ويتطلب حكما جديدا يخالف النص ، فخالفوه برأيهم الإنساني ببساطة ودون تعقيدات أو تعقيدات وشروط . ووصل الرأي بكبار الصحابة إلى تعطيل حدود ومخالفة نصوص قاطعة بل و العمل بعكسها دون عبرة بفقه الثبات وقواعده الدموية فلم يلتزموا شروطا لما يفعلون سوى المصلحة بغض النظر عن قول النص في الأمر ، ناظرين إلى الغايات لا إلى ظاهر النص ؛ وأن العبرة بالغايات لا بالوسائل ، لأنه إذا ما تخلفت الوسيلة عن غايتها أدت إلى نقيض الهدف من التشريع الذي هو نفع الناس وتحولت إلى الضرر . ولم يجلسوا يتقعرون يتساءلون هل هذا منسوخ أم ناسخ وهل هو من المتشابه أم من المحكم ؟ بل غيروا وبدلوا وألغوا تبعا لمصالح الناس المتغيرة بتغير الأيام لأنهم كانوا على يقين واحد هو أن غاية الله والدين و النصوص هو سعادة الإنسان بتحقيق مصالحه وتيسير حياته وإقامة العدل . وهو كله ما يعني أن سادتنا رعاة المقدس وسدنته من مستنير الدولة إلى معارضها المعتدل إلى معارضها الإرهابي يرفعون فوق رؤوسنا سيوفا ما أنزل الله بها من سلطان ، ولا علاقة لها بالناس ولا بالدين ولا بالديان . ومع ما يقدمه هؤلاء السادة عن الإسلام وداره حيث عز سلطانه يبدو الإسلام هو الحاكم الوحيد المناسب لبلادنا بتطبيق شرائعه ، وهي فيما يقول المعتدل : " شرائع الإسلام القطيعة في شئون الزواج والطلاق و الميراث والحدود و القصاص ونحوها من نظم الإسلام التي ثبتت بنصوص قطعية الثبوت قطيعة الدلالة ، فهذه الأمور ثابتة تزول الجبال ولا تزول ، نزل بها القرآن وتوافرت بها الأحاديث وأجمعت عليها الأمة . فليس من حق مجمع من المجامع ولا من حق مؤتمر من المؤتمرات ولا من حق خليفة من الخلفاء أو رئيس من الرؤساء أن يلغي شيئا منها لأنها كليات الدين وقواعده وأسسه " ( 44) . ولا يسعك مع مثل هذا الخطاب سوى الدهشة إزاء جرأته على الحقائق وعل أحداث التاريخ . لأن تلك الشرائع التي ليس من حق خليفة من الخلفاء أن يلغي أو يعطل منها شيئا ، قد تعرضت للتعطيل و الإلغاء على يد خلفاء رسول الله الراشدين وصحابته المقربين . وأن بعضها قد زال وانتهى ولم تزل الجبال ولا كثيب من الكثبان بقرارات سيادية من صحابة النبي المبشرين بالجنان ، ولما يمض على رحيل صاحب الدعوة أشهر .

105

و هناك ما زال وانتهى ليس بقرار مجمع ولا مؤتمر ولا رئيس ولكن بفعل الزمن ورقي البشرية الأخلاقي ، مثل أحكام ثلاث وعشرين آية تتحدث عن الرق وملك اليمين ، مع أبواب فقه كامل في أحكام الرق وتفاصيله في مختلف الجوانب كالميراث و الدية و الحدود و العقوبات وهي ما كان يضع فيها فقهنا للعبيد نظما تختلف عن نظم الأحرار . من وجهة نظر مدعومة بالوثائق و المستندات التاريخية من أحداث ووقائع وشهادات موثوقة كتلك التي نطرحها ، لا تجد من الخطاب الديني السائد سوى ما يرفعونه في وجه المختلف كالعادة من سيوف تكفير دون حجج مماثلة و بيانات مفحمة بخطاب صريح غير مخاتل ومداور ومخادع و ليس لهم من سند سوى اعتياد الناس على فكر دون آخر و سيادة وجهة نظر حتى لو كانت خطأ بمنظار الدين دون وجهات نظر أخرى حتى لو كانت هي الأقرب لكليات الدين ومعقوله و الحرص عليه . وظل تاريخنا حتى اليوم يطلق على المختلفين عن السائد اللقب الأشهر ( المعطلة ) الذين يريدون تعطيل شرائع الدين وحدوده وأحكامه . ونموذجا لردهم على الاجتهاد ما جاء في وثيقة اتهام ابن رشد قائلين : " فخطر هؤلاء المعطلة أهم من خطر الأسبان .. وأضر من أهل الكتاب ، لأن الكتابي يجتهد في ضلال ويجد في كلال ، وهؤلاء جهدهم التعطيل .. وقف لبعضهم على كتب مسطورة أسياف أهل الصليب دونها مغلولة " ( 45 ) . لذلك لا حل مع المختلف حتى لو كان واقفا على أرض الإسلام سوى توقيع حد الردة كما قال ابن عبد البر ، لأن أهل السنة " مأمورون بعداوة أهل البدع و التشريد بهم و التنكيل لمن انحاش إلى جهتهم بالقتل فما دونه " ( 46 ) . وإعمالا لذات المبادئ يعلن فقيه زماننا المعتدل قرضاوي : " وقد أجمع العلماء على أن من أنكر معلوما من الدين بالضرورة .. فإنه يكفر بذلك ويمرق من الدين وعلى الإمام أن يطلب منه التوبة و الإقلاع عن ضلاله وإلا طبقت عليه أحكام المرتدين " ( 47 ) . وإزاء هذا الموقف التاريخي العتيد يطرح السؤال نفسه : هل كان الإسلام هو الحاكم طوال تاريخنا الطويل الرهيب التليد ؟ وهل كان هو المسئول عما لحق بالعباد من ظلم وتنكيل وقتل وسحق ؟ كما أن الحق يدعونا إلى عدم الاعتراف بسادتنا المشايخ المستنير و المعتدل و الإرهابي وكل من اشتغل بأمور الدين ، كممثل وحيد صحيح للرأي الإلهي ، ولأن القصد الإلهي أعلى من أن يزعم أحد الاطلاع التام عليه ، فإن الحق يدعونا أيضا إلى تأكيد أن بداية الفصل بين الدين و السياسة في التاريخ الإسلامي لم تبدأ مع الملك العضود الذي أقامه

106

الأمويون ، إنما كان قبل ذلك واضحا بلا التباس . فاللافت للنظر في تاريخ الدولة الإسلامية هو فصلها المبكر بين الدين و السياسة على مستوى القرار العملي منذ أن مرض نبيها مرض الموت سواء صرح بذلك رجال الفقه و الحكام أو لم يصرحوا ، وحتى لو تسربلت السياسات بثوب الدين لأن تلك السياسات كانت في تباعد متواتر ومتصاعد من لحظة تيقن الصحابة أن نبيهم في مرض الموت ، عندما وصف عمر بن الخطاب كلام النبي بأنه لون من الهذيان " دعوا الرجل إنه يهذي " ، وهو يطلب منهم صحيفة ودواة يطتب لهم كتابا لا يضلوا بعده أبداً ( 48 ) . لأن صاحب الدين كان ذاهبا ولأن الدنيا كانت هي الآتية . ثم ما تلا ذلك من سياسات بكرية و عمرية و عثمانية . الخ .. كانت صراعا على الدنيا ولحوقا بمتغيراتها في ابتعاد واضح عن ثبات النصوص ، وهو ما دعا قرضاوي ليقول : " إن أخطاء المسلمين وانحرافاتهم على مدار التاريخ إثمها على أصحابها ولا يتحمل الإسلام وزر شئ منها " ( 49 ) . والدارس للتاريخ الإسلامي سيلحظ دون جهد أن تحالف أهل الدين مع أهل السياسة كان دوما لحسابات مصلحية دنيوية ، ولتمرير القرار السياسي وتبريره دينيا ، أما القرار نفسه فكان من اختصاص الحاكم الذي كان غالبا مالا يأبه لرأي الدين في الموقف أو القرار . وبعد أن يبرم الأمر يعود للفقهاء يطلب منهم فتوى تبرر القرار . وفي النهاية يعود الموقف بمكاسب وجاه وبلهنية على أهل الدين ورعاته ومشاركه ولو تابعه في حكم البلاد و العباد . وهو ما سمح لهم بالبحث و التأليف في شئون الشريعة والفقه ، وأحيانا كان الخليفة يستمتع بلذة الفكر و الفقه وعلم الكلام مع فقهائه بعد لذة الشعر و الشراب و الطرب . وربما سمح الخلفاء لفقهائهم ببعض النقد للولاة أو الرعية ، وبعضهم عندما كان يريد دخول التاريخ من باب الدين يلجأ إلى قطع سارق أو ذبح مفكر أو إراقة بعض زجاجات الخمر في مناسبات خاصة . ومقابل الجاه والمال و السلطان الذي حظى به العاملون على شئون الدين تركوا للحكام شئون السياسة مقابل الاعتراف دوما للدين بالسيادة النظرية ، بل لقد شارك الفقهاء أنفسهم في الاحتيال عللا أحكام الدين بعلم ابتدعوه هو علم الحيل لتمكين الحكام والرعية من التهرب من الله وأحكام شريعته دون أن يبدو تهربهم هذا غير شرعي وما زال المسلمون يستفيدون حتى اليوم من هذه الذرائع . وفي تراثنا العشرات من كتب الحيل على المذهبين الشافعي و الحنفي للتحايل على أحكام الشريعة حتى يبدو المسلمون ملتزمين بطاعة الله وإن خالفوه ( 50 ) . أما الظلم الاجتماعي والقهر الفكري وسحق المخالف . فقد اجتمع عليه كلاهما : السلطان و الفقهاء .

107

وحتى اليوم يجد معاوية مؤسس الملك العضود وبنو أمية قتلة آل بيت الرسول من يدافع عنهم من فقهائنا . فهذا المعتدل القرضاوي يقول " إن معاوية وبني أمية بصفة عامة ظلمهم الإخباريون من رواة التاريخ الإسلامي . ولو كان معاوية بالسوء الذي تصوره بعض الروايات ما تنازل له عن الخلافة راضيا رجل مثل الحسن بن علي رضي الله عنه حرصا على وحدة الكلمة وحقن الدماء ، ولهذا سمى المسلمون ذلك العام عام الجماعة بل جاء في الحديث الشريف التنويه بموقف الحسن و الثناء عليه حين قال جده صلى الله عليه وسلم : " إن نبي هذا سيد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " ( 51 ) . ولا تعلم كيف تتأتي للبعض هذه الجرأة على الحق و الدفاع بالباطل عن مواقف تشين من يفكر بالدفاع عنها ، وإلى حد الاستشهاد بالأحاديث المختلفة و الباطلة و المعروفة بذلك ، فحتى اليوم لا يجد الفقهاء بأسا من الاستشهاد بالباطل لدمغ الحق وإفساد التاريخ ، والمدهش أن يتخذ قرضاوي من تنازل الحسن بن على حقبة متفق عليها يتولى بعدها الخلافة ( ولم يتأت له ذلك بعد أن أوعز معاوية لزوجته بقتله بالسم ) مقياسا لصلاح معاوية ، دون النظر إلى فعال معاوية نفسه . إن هذا الفقيه نموذج لفقهائنا عبر التاريخ ، فهو يعلم جيدا حجم الانحرافات الهائل عبر التاريخ عن الدين وشريعته ، ويؤكد " إن الإسلام شئ و التطبيق شئ آخر " ( 52 ) ، لكنه يزور علينا تاريخنا قائلا : " أن المسلمين التزموا بهذه الشريعة قرونا طويلة فاستطاعوا أن يقيموا دولة العدل و الإحسان وأن يشيدوا حضارة العلم و الإيمان وأن ينشروا الإسلام في الآفاق ، في فارس و الروم ومصر وغيرها فلم تضق شريعتهم بجديد ولم تمنعهم من الحركة و الانطلاق .. وأنا لا أنكر أن هناك من أساء إلى الشريعة على امتداد التاريخ فهما وعملا ، لكن هذا ليس ذنب الشريعة فهي منه براء " ( 53 ) . هذا رغم علم سيادته الذي لا ننكره أن كثيرا من الانحرافات كانت على حساب حقوق العباد وحريات الناس وأقواتهم ، وأن تجاوب الفقهاء كان مع رغبات السلطان حتى اخترعوا له الأحاديث النبوية كالحديث الذي استشهد به منذ قليل عن الحسن بن على . و لجأوا لكل الحيل الشرعية لتبرير أهواء السلطان ونزواته وأدانوا بالمطلق كل موقف معارض حتى لو انطلق من آيات الله وشرائعه ووصموه بالرافض المعطل المرتد الكافر ، حتى لم يبق للإسلام قراءة تفسيرية عبر التاريخ سوى قراءة كهنة السلطان كتفسير أوحد وحيد معتمد ، لأنه يحافظ على تماسك قراءة الجماعة باتفاقها حوله ويضمن طاعتها للحاكم حفظا للأمة من الفتن

108

و الانقسامات . فاحتكروا فهم الدين و تفسيره وتأويله ليس بدافع الدفاع عن الدين بل تحقيق أمن النظام الذي بدونه تسود الفوضى ، فدافعوا عن خلفاء ضربوا الصحابة وجلدوهم وركلوهم بالنعال وأعدموهم حرقا منذ حروب أبى بكر مرورا بدرة عمر وتجسسه على العباد حتى سوط عثمان وتكسيره أضلاع الصحابة إلى تقطيع أوصال المفكرين علنا وسلخ جلودهم بفتاوي فقهية سحقت كرامة بني آدم الذي قال الله بشأنه " ولقد كرمنا بنى أدم " وكانت البداية بخلط سلطة النبي بخلفائه مما أدى إلى هدر حقوق الناس بعد أن لبس الخليفة لباس النبي واستبد بالناس باسم الله . منذ أبي بكر حتى طالبان وفقهاء زماننا من المعتدل إلى المستنير . وهكذا ، وفي مواقف تاريخية حاسمة غير صحابة الرسول وبدلوا وعطلوا أحكاما وشرائع ، وفي مواقف أخرى فلسف الفقهاء مواقف السلطان وبعضهم سكت وقنع بالجاه ، وكان التغيير أحيانا بما يناسب الأوضاع الجديدة وأحيانا أكثر بما يناسب المنافع السلطانية . ورغم أننا اليوم نحتاج إلى جراءة وأحيانا أكثر بما يناسب المنافع السلطانية . ورغم أننا اليوم نحتاج إلى جراءة وشجاعة على التقليد اقتداء بالسلف الصالح كما يطلبون هم منا ، خاصة في أمور لم تعد تحتمل تأجيلا كموضوع المرأة وتكفير المسلم المختلف بالردة وتكفير غير المسلم وقتاله بالجهاد ، كذلك مسألأة لم تعد تحتمل تأجيلا هي حرية الاعتقاد وأيضا العقوبة البدنية وكراهية المختلف ، فإنك لا تجد منهم إلا ثباتا عجيبا وتعنتا أعجب ، رغم ممكنات إعادة القراءة ، و الفهم بما يناسب الزمن دون تسجيل أي خروج على الدين شريطة إلغاء قراراتهم الفقهية المصلحية التي سبق لنا وناقشناها وأثبتنا بطلانها كقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، أو لا اجتهاد مع نص ، أو عقوبة الخروج على معلوم من الدين بالضرورة ( 54) . مصورين للناس أن تلك قواعد الإسلام وأصوله ، رغم أنها أبدا ليست كذلك بل هي من وضع بشر لم يكونوا فوق مستوى الشبهات وأنها كانت لصالح حلف العمامة ، و السيف السلطاني وليس لصالح الإسلام ولا المسلمين عبر تاريخ طويل من القهر و الاستعباد لم يحكم فيه الإسلام يوما ولا حكم الله الناس بنفسه يوما . وحتى نفهم هذا الإصرار على التوحد بالإسلام وعلى قواعد فقهية صارمة لا تقبل تحولا ، ننتقل من الاستماع إلى قرضاوي ، بعد أن دافع عن معاوية و الأمويين ، وهو عالم بحجم التحول الذي حدث على أيديهم إلى الاستماع للداعية المرحوم محمد الغزالي وهو يقول : " ومع أ، هذا التحول كان هزيمة للحق وضربة موجعة للمثل العليا إلا أن من الغلو المرفوض تضخيم نتائجه لما يأتي :

109

أ‌- أن الخلفاء و الملوك الذين ولوا أمر المسلمين بطريقة غير صحيحة أعلنوا ولاءهم للإسلام ... واستأنفوا الجهاد الخارجي كما تركوا للفقهاء حرية الحركة .

ب‌- أن العلم الديني مضى في طريقه يوسع الآفاق ويربى الجماهير ويقرر الحقائق الإسلامية كلها من الناحية النظرية " ( 55 ) . لكنه لا ينسى أن يؤكد لجماهير المؤمنين أن هذا التحول الذي كان هزيمة للحق وضربة موجعة للمثل العليا كان بقرار إلهي فيقول " وشاءا لله أن يكسب معاوية هذه المعارك " ( 56 ) . فلم ينشغل الفقيه بأمر المسلمين الذين حكمهم الأمويون ومن تلاهم بطريقة غير صحيحة ( بتعبيره اللطيف ) وإنما غاية ما شغله أن الحكام أعلنوا ولاءهم للإسلام ولو نظريا ، أما الأهم فإنهم تركوا للفقهاء حرية الحركة ولم ينقصوا من سلطانهم على أرواح العباد ، ثم إنهم استأنفوا الجهاد لمزيد من احتلال البلاد الذي لابد أن يعود بالضرورة بمزيد من الغنائم التي تزيد من عطاء رجال الدين المخلصين بالتبعية . وهذا كله إنما تم بإرادة الله ومشيئته التي لا يصح الاعتراض عليها . و تتضح الأهداف بشكل واضح في خطاب قرضاوي الذي لا يقبل من الديمقراطية سوى صندوق الانتخابات ويرفض كل ما يرتبط بها من أنظمة حقوقية مؤسسية ، حيث نفهم سر انزعاجهم الشديد من المفاهيم الليبرالية في طرحه المسألة على هيئة قياس منطقي يبدو صحيحا من حيث القواعد لكنه شديد البطلان من حيث المصداقية ، فهو يقول : إنه " لا كهانة في الإسلام .. ولا توجد فيه طبقة كهنوتية .. إنما كل الناس في الإسلام رجال لدينهم .. فليس للإسلام سلطة دينية بابوية ، على أن العلمانية إذا فصلت دين المسيحي عن دولته لا يضيع دينه ولا يزول سلطانه لأن لدينه سلطة قائمة لها قوتها ومالها ورجالها .. بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فإن النتيجة أن يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده .. وهذا لا يعني إلا انقراض سلطة الدين الإسلامي بالمرة " ( 57 ) . وبطلان المصداقية هنا يبدأ مع المقدمة الأساسية للقياس وهي أنه " لا كهانة في الإسلام " ، وأنه ليس فيه رجال دين لأن كل المسلمين رجال لدينهم ، فما هي وظيفة قرضاوي نفسه ؟ وبماذا يعمل ويشتغل ؟ ومن أين يحصل على أرزاقه العظيمة ، وسع الله علينا كما وسع عليه ؟ والعجيب أن يعود لينقض ما قال في الصفحة ذاتها إذ يقول : " وعلماء الدين ليسوا إلا خبراء في اختصاصهم يرجع إليهم كما يرجع إلى كل ذي علم في علمه ولا ينبئك مثل خبير / 14 / فاطر ، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون / 43 / النحل " ( 58 ) .

110

أما المصيبة التي ستسببها العلمانية هنا فهي أن الدين سيبقى بغير سلطان ، و الواضح هنا أن سلطانه لا يستمد من قدرته على الوجود و الاستمرار بقواه الذاتية بل برجال الدين أو الأكليروس الإسلامي الذين هم ليسوا أكليروسا ( ؟ !! ) . لأنه في حالة فصل الدين عن الدولة سيصبح الإسلام بغير سلطان أو قوة . ويكرر ذات المعنى في صفحات أخرى حيث يقول : إن العلمانية عندهم لم تمح سلطة رجال الدين ورجاله وإنما فصلت بين السلطتين .. أما نحن فليس لنا سلطة دينية مستقلة مقتدرة ( لاحظ مقتدرة هذه ) . فالعلمانية عندنا تعني تصفية الوجود الإسلامي " ( 59 ) . وهكذا يبدو الرجل هلعا على دين الإسلام الذي ستقضي عليه العلمانية بدون سلطته وحماية رجاله في الدولة ، رغم أن ما بدأ واضحا عبر التاريخ أن الأمر كان دفاعا عن سلطة رجال الدين ومكاسبهم وليس الدين نفسه ، وهو ما بدأ لنا واضحا في خطاب قرضاوي ذاته . الذي يفصح عن علاقة التيار الإسلامي اليوم بالأنظمة الحاكمة في الدولة الإسلامية . وسر الصراع العجيب الجديد الذي يقوده المذهب الحنبلي وامتداده الوهابي ضد السلطة رغم أنه كان طوال التاريخ مع السلطة ضد الناس ، ليظهر لنا الآن أنه مع السلطة إن أطاعت رجال الدين وأصبحت تابعة لهم وليست مقدمة عليهم ، بغض النظر عن الناس أو مصالحهم " فلا انقسام للناس ولا للتعليم ولا للقوانين ولا للمؤسسات ، فكلها يجب أن تكون في خدمة الإسلام " ( 60 ) . وليس في خدمة الناس ، وإن كانت " خدمة الإسلام " هذه تبدو فصيحة في خطابه أنها " خدمة رجال الإسلام " و لنستمع إليه وهو يشرح لنا معنى الشورى الإسلامية عنده مقابل العلمانية المرفوضة " يقول الإمام ابن عطية في تفسيره : أن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب . ذاك ما لا خلاف فيه " ( 61 ) . ومن ثم أحل الفقيه في مبدأ الشورى الإسلامي محل الأمة كلها في المبدأ الليبرالي الديمقراطي أو العلماني . وفسر سقوط رايات المسلمين بهذا الرأي الواضح بشأن سيادة الفقهاء " أهل العلم والدين " فيقول معطيا معنى جديدا لكلمة الاستبداد : " إن تاريخ الإسلام في الماضي البعيد والحاضر القريب ينطبق بأن الاستبداد بالرأي هو الذي قوض دعائم القوة و الخير في حياة المسلمين وجرأ الطغاة على أن يعبثوا بمقدرات الأمة كما يشاؤون دون أن يخشوا شيئا أو توجه لهم كلمة لأنهم غير ملزمين بمشورة أحد " ( 62 ) من " أهل العلم والدين " بالطبع فإن العلمانية وهي تأخذ من الإسلام ما يوافق هواها وتعرض عما يخالف هواها .. فإن الإسلام يناصبها العداء

111

أيضا لأنها تنازعه سلطانه الشرعي في قيادة سفينة المجتمع " ( 63 ) . مع ملاحظته المتحسرة على أن العلمانية " لا تجعل للالتزام بفرائض العبادات أو إهمالها مكانا في تقديم الناس وتأخيرهم عند الترشيح لمناصب القيادة " ( 64 ) . ولأن أيسر السبل اليوم أمام الفقهاء للوصول إلى مناصب القيادة هو صندوق الانتخابات بعد أن تم تزييف وعي الناس خلال نصف قرن انصرم بأجهزة السلاطين التثقيفية ، فإن سادتنا من أهل الدين يعضون على هذا الصندوق بالنواجذ ، إذ يقول المعتدل : " فالعلمانية .. مرفوضة في أوطاننا عامة وفي مصر خاصة بأي معيار احتكمنا إليه ، وأول هذه المعايير هو الدين ، فإذا احتكمنا إلى الدين ، أعني الدين الذي تؤمن به الأغلبية وتنزل على حكمه وهو الإسلام ، نجده يرفض العلمانية " ( 65 ) . لكن العلمانيين " في قضية تحكيم الشريعة يخونون مبدأهم .. ويحاولون أن يثنوا عنان الشعب عما يؤمن به .. فتحكيم شرع الله مطلب شعبي .. ثم إن الديمقراطية في العالم كله تحتكم إلى عدد الأصوات " ( 66 ) إنها ديمقراطية صندوق الانتخابات حيث الطريق إلى السلطة وبعدها يكون لكل مقام مقال .

112

المصادر

1- صامويل هانتنجتون : صدام الحضارات ، ترجمة طلعت الشايب ، سطور ، صــ 199 .

2- نفسه : صــ 318 .

3- نفسه : صــ 317 .

4- نفسه : صــ 310 .

5- مجلة الديمقراطية ، العدد التاسع .

6- مجلة الديمقراطية ، العدد الثامن .

7- صحيفة الشرق الأوسط ، لندن ، 19 / 3 / 1985 .

8- ابن الأثير : 2 / 325 ، وابن هشام : 4 / 336 .

9- ابن كثير : 6 / 311 وما بعدها .

10-الماوردي : الأحكام السلطانية صــ 9 .

11-رفعت السعيد : ضد التأسلم صــ 72 ، صــ 210 ، صــ 211 .

12- يوسف قرضاوي : الإسلام و العلمانية وجها لوجه ، مكتبة وهبة مصر ، صــ 42 .

13- فهمي هويدي : المفترون ، دار الشروق مصر ، صــ 245 .

14- نفسه : صـ 259 .

15- نفسه : صــ 244 .

16- قرضاوي : مرجع سابق ، صــ 103 .

17- نفسه : صــ 95 .

18- نفسه : صــ 102 .

19- نفسه : صــ 93 .

20- الموضع نفسه .

21- نفسه : صــ 95 ، صــ 98 .

22- نفسه : صــ 94 .

23- هويدي : مرجع سابق ، صــ 56 .

24- فهمي هويدي : أكذوبة الحكم الإلهي ، الأهرام ، 14 / 10 / 1986

25- قرضاوي : مرجع سابق ، صــ 50 ، صــ 51 ، صــ 53 .

26- ابن كثير ج6 وكنز العمال ج3 واليعقوبي ج2 .

27- قرضاوي : مرجع سابق ، صــ 18 ، صــ 19 .

28- السيوطي : سير أعلام النبلاء 2 / 113 .

29- السيوطي : تاريخ الخلفاء ، صــ 229 .

30- الشهر ستاني : الملل والنحل 1 / 277 والزركلي : الأعلام ، 7 / 264 .

31- هويدي : المفترون ، صــ7 .

113

32- قرضاوي : مرجع سابق ، صــ 98 .

33- نفسه ، صــ 98 ، صــ 99 .

34- نفسه : صــ 76 .

35- نفسه : صــ 77 .

36- هويدي : مرجع سابق ، صــ 284 .

37- صحيفة عقيدني ، 30 / 3 / 1999 صــ 5 .

38- رفعت سيد : قرآن وسيف ، مدبولي مصر ، صــ 99 .

39- قناة الجزيرة : 30 / 11 / 2001 .

40- قرضاوي : مرجع سابق ، صــ 29 .

41- نفسه : صــ 28 .

42- نفسه : صــ67 .

43- مجلة روز اليوسف الأعداد من 3878 وحتى 3894 .

44- قرضاوي : مرجع سابق ، صــ 141 .

45- ابن عربي : الفتوحات الملكية ، 1 / 154 .

46- ابن القيم : أحكام أهل الذمة .

47- قرضاوي : مرجع سابق ، صــ 134 .

48- البخاري باب جوائز الوفد / كتاب الجهاد ، ومسند أحمد الحديث رقم 2676 وابن سعد في الطبقات الكبرى 2 / 44 .

49- قرضاوي : صــ 23 .

50- حسين أحمد أمين : حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة ، دار سعاد الصباح مصر ، صــ 39 : صــ 43 .

51- قرضاوي : صــ 157 .

52- نفسه : صــ 169 .

53- نفسه : صــ144 ، صــ 145.

54- ارجع إلى كتابنا : الفاشيون والوطن ، وللتوسع ارجع إلى كتابنا الإسلاميات ، وكذلك : الأسطورة والتراث .

55- الغزالي : مائة سؤال عن الإسلام ، ج2 ، صــ352 ، صــ 354 .

56- نفس المرجع .

57- قرضاوي : صــ 36 ، صــ 50 .

58- نفسه : صــ 36 .

59- نفسه : صــ 90 .

60- نفسه : صــ 36 .

61- نفسه : صــ 120 .

62- نفسه : صـــ 122 .

63- نفسه : صــ 74 .

64- نفسه : صــ 120 .

65- نفسه : صــ 74 .

66- نفسه : صــ 78 .

114

خدعوك فقالوا "

إن الشورى و البيعة هما الديمقراطية

" إن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة .. وكانت ولم تزل نكبة على الإسلام و المسلمين وينبوع شر وفساد " .

" الشيخ / على عبد الرازق "

 

 

يحلو لبعض المتأسلمين الذين انخرطوا في اللعبة السياسية الحزبية أن يؤكدوا أن الدين الإسلامي قد أسس للمبدأ الديمقراطي قبل أن يعرفه عالم الغرب بقرون طويلة ، بقرار إلهي ورد في آيتين : الأولى تقول : " و الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم / 26 / الشورى " ، و الثانية تقول : " و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله / 158 / آل عمران " . ولهذا ، ومن باب الأصالة ، فإنهم يستخدمون اصطلاح الشورى كبديل إسلامي لمصطلح الديمقراطية دالا على الخصوصية وأصالة سبقنا التاريخي إلى أمر جهدت عليه البشرية وكافحت وضحت في سبيله بالغالي و النفيس عبر قرون طوال . ومن جانبه لا يرى ( د . رفعت السعيد ) في انخراط المتأسلمين في اللعبة السياسية ، تصديقا بالمبدأ الديمقراطي وإيمانا به ، لسببين :

الأول : أنهم يحصرون المبدأ الديمقراطي في التعددية الحزبية وتداول السلطة ، وهو تضييق شديد لا يفي بمعنى الديمقراطية الواسع .

والثاني : أنهم حتى في هذه المساحة الضيقة غير صادقى النوايا فهم إنما يقبلون بالعملية الانتخابية كارهين ، فإذا ما أوصلتهم إلى السلطة انقلبوا على التعددية وألغوا الأحزاب وأغلقوا البرلمان . ويستشهد ( السعيد ) على تلك النوايا بظواهر ما ينطقون أحيانا في فلتات لسانية ، كقول المرشد السابق للإخوان ( عمر التلمساني ) – وهو محسوب بين المعتدلين !! – " إن كلمة الأحزاب وردت في القرآن مقرونة بالشر " . وقد سبق لمؤسس جماعتهم ( حسن البنا ) أن قال جهارا : " إن حزب الله هو الحزب المأمور بقيامه ، وعكسه حزب الشيطان الممنوع قيامه " . و المرشد ( مصطفى مشهور ) أعلنها فصيحة في قوله : إننا نقبل بمبدأ التعددية الحزبية الآن ، لكن عندما يقوم حكم إسلامي فإننا نرفضها ولا نقبلها " . ومن ثم يكون ( السعيد ) محقا إذا استنتج أنهم يستخدمون اللعبة الديمقراطية كوسيلة لغاية ، كلعبة فقط ، بغرض

117

الاستيلاء على السلطة و بعدها يكون لكل مقام ( انظر كتابه : ضد التأسلم صــ 72 ، صــ 210 ، صــ 211) .

وتؤكد هذه النية المبيتة ، ما ستواجهه من صعوبة مع قولهم : إن الشورى هي السابق الإسلامي للديمقراطية ، ولا شك أن الشورى بذلك ستكون الأرقى والأفضل لأنها من مصدر الإلهي ، ولأنها تناسب المجتمع الإسلامي ، ناهيك عن كونها المعبر الأدق عن الديمقراطية ، وهم يعلمون يقينا تناقض الكثير من مبادئ الديمقراطية تناقضا صريحا مع مبادئ الإسلام الواضحة ، فالمبادئ الإسلامية المقررة في المذهب السني المعمول به في مصر تحسب السلطة مشيئة إلهية لا بشرية ، ولا تكون بالإرادة الجماعية لجماهير المواطنين ولا بالمجلس التشريعي / البرلمان ، إنما تكون بالشريعة الإسلامية ، لأن البشر حسب هذا المذهب لا يملكون حق التشريع لأنفسهم إنما فقط ينفذون الأوامر الإلهية . كما أن سيادة الدولة لا تستمد من موافقة المواطنين ، إنما من الله ، والحاكم / الخليفة / الأمير هو صاحب ولاية مطلقة ، له في دولته وفي رعاياه الأمر و اللنهي وحده دون بقية الناس . هذا علما أن الخلافة في المذهب السني لا تستتبع بالضرورة أن يحسن الحاكم تطبيق الشريعة ( ؟ !! ) .

و الجذور عندما نفحصها تفصح لنا عما أفرزته وأنبتته في بنية الإسلام ، الجذور المجتمعية التي كانت الظرف الموضوعي لنشأة الإسلام ودولته في وسط قبلي متشرذم في قبائل ، بذل النبي محمد ( ص ) ، في سبيل توحيدها كل طاقاته لصهرها في دولة مركزية واحدة . لذلك أصبح الإسلام ضد كل ألوان التعددية في السماء أو في الأرض ، ضد أي مخالفة للأمة ، لأن قراءة الظرف التاريخي توضح أن الدولة الوليدة كانت معرضة دوما للتمزق بالقلاقل القبلية ونزعات القبيلة الطبيعية في الاستقلال وأنفة البدوي وكبريائه من الخضوع لحاكم فرد من خارج نسب قبيلته . إلى أن تمكن النبي محمد من تجميع هذا الشتات المتنافر تحت حكمه ، بخطو مدروس ومدقق ، استخدم فيه كل الأساليب السماوية والأرضية ، وضحى بكثير من الدماء على الجانبين ، حفاظا على هذا التوحد المركزي . وكان معنى أن يخرج فرد على السيادة الواحدة أو يختلف معها أو يعترض عليها ، هو أن تخرج معه قبيلته بالعصبية المعهودة ، وهو ما تمثل من بعد في حركات انشقاقية كبرى لقبائل كبرى بمجرد موت النبي ، ومنها ما حدث في أثناء حياته ، كما في حركات المتنبئين الذين استقلوا بقبائلهم مثل حركات مسيلمة وسجاح والأسود العنسى . وحرصا على تماسك الدولة الطالعة أكد القرآن و الحديث بشدة

 

118

وحدة المسلمين وانصهارهم وفق قواعد زمنه ، ولأسباب تاريخية ولظروف التشكيل القبلي للعرب إضافة للظرف البيئي الجغرافي الذي كان عاملا مساعدا طول الوقت في التفكك كنتيجة للتباعد المكاني بين مواطن القبائل وبين المركز والأطراف . وقد اعتبر المقدس الإسلامي أن أي إخلال بهذا التوحد هو جريمة عظمى تستحق معاقبتها بكل قسوة ، وباتت تلك الوحدة هي القيمة الأعلى من أي قيمة أخرى حتى لو كانت حق المواطنين في المخالفة . أو حتى في ارتكاب الإثم كي يتم وعد الرب بحساب اليوم الآخر . ومن ثم أصبح واجبا دينيا الخضوع للحاكم حتى لو كان مستبدا مكروها من الناس مذموما . رعبا من فرقة قبلية في مجتمع مازالت قبليته بعد طازجة . وبهذا الشأن قال النبي : " من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة فيموت إلا ميتة جاهلية " ، أما ابن تيمية فكان يؤكد " أن ستين عاما من حكم سلطان غشوم ، خير من فتنة تدوم " . ورغم أن ذعر التفرق القبلي لم يعد مبررا اليوم في بلد كمصر مثلا ، فإن طاعة النص المصمتة استدعت من ( حسن البنا ) القول : " إن الإسلام دين الوحدة في كل شئ ، ويجب أن تظهر الأمة و القادة إلا مجتمعية ، لذلك فالإسلام لا يقر نظام الحزبية السياسية ولا يوافق عليه ولا يرضاه / الرسائل / صــ 168 " .

ولا يفوت الفطن أن يستنتج ببساطة أن وراء سنواتنا السوداء السوالف عبر قرون أسود ، وعناوين القمع الكبرى والاستبداد التي يتميز بها تاريخنا بين الأمم ، يقبع رهاب الخوف من الفتنة وانفراط العقد واستتبع هذا المبدأ أن صار هاجس المسلم أن تظل أمته أمة موحدة أو أو أن تظهر بمظهر الإجماع ولو بالإكراه ، أما الهاجس الديمقراطي فهو شأن آخر مباعد تماما ، لأنه الحرية الفردانية المستقلة في جميع شئونها . ورغم ما تلحظه من إجماع طويل عريض بين الكتاب المسلمين أن الحكومات الإسلامية بعد انتهاء زمن الخلافة الراشدة ، لا تعبر عن قيم الإسلام ، و ليست المثال الإسلامي ونموذج الحكم المطلوب ، فقد تم قبول هذه الأنظمة الحاكمة عبر القرون من باب تجنب فتنة تدوم وانشقاق وحروب أهلية ، بل كانت طاعة الحكام أهم الواجبات التي يحرص الفقهاء على تلقينها للناس كأوامر دينية ، ما لم تؤد طاعة الحاكم إلى معصية بالمعنى الديني وحده ، أو ما لم يظهر منه كفر بواح ، فليس المواطن هو الشاغل إنما الدين وحقوق الله لا حقوق المواطنين . فاغتصاب السلطة ، أو الفساد الإداري أو المالي أو المعاصي الشخصية ليست أمورا تستحق النظر في الخروج على الإمام لأنها ليست من الكبائر . ونلاحظ هنا أن هذا

119

الموقف من سدنة الدين موقف شديد العلمانية ، لكنه أحط أنواع العلمانية و النفاق في الدين ، و التفريط في حقوق المسلمين ، حيث كان يتم إعلان الطاعة للحاكم إذا قبل الالتزام بالشريعة وقيم الإسلام ولو قولا دون فعل ويصبح حكمه شرعيا ، لذلك ذهب الإمام ( أبو حامد الغزالي ) إلى وجوب الخضوع للحاكم ولو مستبداً طاغية غشوما مع الاعتراف بولايته ، لأن ذلك فيه تحصين للأمة من انهيار أساسها القانوني و الروحي . و عليه ؛ يبدو أن استخدام مصطلح الشورى بديلا عن الديمقراطية هو استخدام مقصود بغرض ، ليس لأن الشورى هي الديمقراطية حقا ، ولكن لأن الشورى ليست هي الديمقراطية ، وأن مسأله كون الشورى هي الديمقراطية ليست أكثر من شرك خداعى ضمن الخطاب الإسلامي المخادع الذي اعتاد عليه الإسلاميون في بلادنا ، حتى صار خاصية دالة عليهم ، معلومة عنهم ، متوقعة دائما منهم ، وللتأكد نقف هنيهة مع مفهوم الشورى في ضوء ما نفهمه عن الديمقراطية . كما سلف القول ، فإن القرآن لم يذكر الشورى سوى مرتين ، ثم اختفت حكاية الشورى تماما بعد ذلك من النصوص القرآنية ، وقد فسر الإمام ( البيضاوي ) الآتية " وأمرهم شورى بينهم " بأنها جاءت في الأنصار الذين استجابوا للدعوة " وأنهم كانوا قوما ذوى شورى بينهم " بأنها جاءت في الأنصار حتى يتشاوروا " . وفي تفسير الجلالين لذات الآية " إنها موجهة للذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه .. وأمرهم الذي يبدو لهم يتشاورون فيه ولا يعجلون " . وهو ما لا يعني أن الشورى أمر إلهي للحاكم بالاستماع للمشورة و التقيد بها ، بقدر ما هي وصف قرآني لحالة معلومة بين الأنصار الذين اعتادوا أن يتشاوروا في الأمور الهامة . ومعلوم أن الأنصار لم يتفردوا وحدهم بهذا المبدأ بين العرب قبل الإسلام إنما كان المبدأ معمولا به على نطاق واسع بين قبائل العرب ، وكان لقريش اجتماعاتها في دار الندوة منذ أنشأها ( قصى بن كلاب ) للتشاور في القرارات المصيرية . و بالنسبة للآية الثانية " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله " يشرح ( البيضاوي ) مفسرا " وشاورهم في المر أي أمر الحرب إذ الكلام فيه ، أو فيما يصح أن يشاروا فيه ، استظهارا برأيهم ، وتطييبا لنفوسهم وقلوبهم ، فإذا وطنت نفسك على شئ بعد الشورى فتوكل على الله في إمضاء أمرك " . ومن غير الواضح على من يعود ضمير الغائب في " وشاورهم " ولمن يتوجه بطلب الاستشارة ولا من هم المستشاورن ولا هل طلب المشورة فرض واجب على الحاكم أم لا ؟ وهل الحاكم ملزم بالتقيد بالمشورة ؟ هنا يختلف الفقهاء فتقول الأقلية بالإلزام وتذهب الأغلبية مع كونها غير ملزمة . وفي مذكراته يقول الإخواني ( صالح عشماوي ) : " سألت

120

فضيلة المرشد في أول عهدي بالدعوة هل الشورى ملزمة ؟ قال : الشورى غير ملزمة ومن حق الأمير أن يقبل مشورة أهل المجلس أو يرفضها .. لأنه قد يكون الأمير أحد بصرا من أهل المجلس / ضد التأسلم / صــ 249 . وهكذا توضح التفاسير ، التي لم تكن تعرف بعد ما هي الديمقراطية ، أن الشورى كانت فقط " تطييبا لنفوسهم وقلوبهم " وليس للصالح العام ، وتؤيد بقية الآية ما ذهب إليه ( البيضاوي ) : " فإذا عزمت فتوكل على الله " ، في مون الشورى غير ملزمة للحاكم بشيء ، ولو ذهبنا للزمن الخليفي حيث كبار الصحابة الأقربون بعد موت نبيهم ، لوجدناهم غير معتدين بالمرة بمبدأ الشورى كما لو كان غير مقرر بما نفهمه عنه ، فتولوا الخلافة بغير شورى بل بمصاحبة العنف عندما لزم الأمر . ويلي ذلك استفسارات أخرى تترتب على الزعم بأن الشورى كانت مبدأ إسلاميا وأنها ذات الديمقراطية بل تعلو عليها بمصدرها الإلهي ، إن الشورى الإسلامية بمفهومها في مصادرها تحصر حق الاختيار في المسلمين ، وتحجبه عن باقي المواطنين الذين تسميهم تلك المصادر أهل الذمة ، فهل هذا يشكل كمالا في ديمقراطية الإسلام أم نقصا ؟ ولو سلمنا لهم ونفينا أهل الذمة من العملية الديمقراطية وحصرناها في المسلمين تبقى أسئلة أخرى ومنها مثلا : من هم أهل الشورى ؟ ... المفترض شرعا أن يكون أهل الشورى بعد وفاة النبي هم صحابته من مهاجرين وأنصار ، لكن التعصب القبلي العربي المعلوم أدى إلى تمزق وحدة المهاجرين والأنصار ، ووحدة المهاجرين وأهل مكة عموما ، بعد عودة التنازع بين بنى أمية وبني هاشم ، ومهما بحثت في ذلك الزمن فلن تجد إشارة توضح من هم أهل الشورى . وفي زمن متأخر قام الفقهاء يسدون هذه الثغرة ويتلافون هذا النقص الحاد باختراع اصطلاح ( أهل الحل و العقد ) بحسبانهم أهل الشورى ، ومرة أخرى مهما بحثت في مصادرنا التراثية فلن تجد لهذا الاصطلاح ذكرا قبلما أورده ( ابو الحسن الماوردي / 974 – 1058 ) في الأحكام السلطانية ، و المعلوم أنه لم يرد به أي نص قرآني أو حديث نبوي ، وفيما بعد ( المارودي ) ظل أهل الحل و العقد كيانا ضبابيا غامضا غير معروف إلا نظريا فقط كمدون فقهي ، ولم يوجد حقيقة بين العرب بعد انتهاء العصر الجاهلي ، فقط يمكنك أن تجد اجتهادات نظرية – بدورها – حول عدد أهل الحل و العقد " فمنهم من قال إن أقله خمسة ، ومنهم من قال ثلاثة ، ومنهم من قال واحد " !! ... ولا تجد في تلك المساحة الاجتهادية النظرية ما هو المرجع المعول عليه في تصنيف الناس للصلاحية ليكونوا من أهل الحل والعقد دون غيرهم من الناس ، ولا من المنوط به الإعلان

121

عن ضرورة اجتماع تلك الهيئة الافتراضية ، ولا مواعيد الاجتماعات ولا مكانها ، كانت وما زالت مجرد وهم نظري أو شرك خداعي أو مجرد سراب يلهث وراءه طالبو الحريات حتى تتقطع أنفاسهم دون أن يدركوه . ومن الاجتهادات ما جاء كتعريف لأهل الحل والعقد الذي يضع ضمن الإشكال إشكالا جديدا ، لأنهم " أهل الشوكة ومن بيدهم الأمر و ( الأمر ) كما نعلم هو الحكم و السلطان في لغة العرب ، فالتعريف يقول بذلك " إن السلطة هي لأهل السلطة " ، إنه تعريف الماء بعد لأي بالماء ، ثم لا تجد أي معايير تشرح لك كيف اصبح بيدهم الأمر أو السلطة ، وبما أن الأمر كذلك فقد تصدى للقيام بهذه المهمة عبر تاريخنا فئات من كل لون ، ترك لهم الناس مهمة السلطان سواء كانوا مماليك أو قطاع طرق أو كبار أفاقين ، لتسيير شئون البلاد و العباد واختيار الحكام من بينهم تحقيقا لمصالحهم . ويلحق بهذا الوهم مصيبة كانت نتائجها كارثية على المسلمين ، فقد اتفق الفقهاء على أن الواجبات العامة مثل إقامة الحكومة وتنصيب الحاكم هي من فروض الكفاية وهو ما يختلف عن فرض العين ، ففرض العين واجب على كل مسلم بغض النظر عما يفعله بقية المسلمين ، كالصلاة و الصوم فهي واجبة سواء صلى بقية الناس أم لم يصلوا . أما فرض الكفاية فهو الفرض الذي إذا قام به بعض المسلمين سقط عن باقي المسلمين ، و الواضح أنه قد تم تفصيل هذا الفرض وحياكته خصيصا على قد ومقاس الزمن الخليفي ، لتبرير تنكب خلفاء رسول الله لمبدأ الشورى فإن وافق بعض المسلمين على خلافة ( أبى بكر ) تكون خلافته جائزة حتى لو رفض آخرون ، لأن بيعة البعض كافية ( فرض كفاية ) . مثلها مثل صلاة الجنازة يكفي أن يقوم بها أفراد لتسقط عن بقية المجتمع ، و الطريف في هذا لا تفصيل و الطراز الفقهي أنه إذا لم يتطوع أحد للقيام بفرض الكفاية يكون المجتمع كله آثما ، وهو ما يعني أن الأجر و الثواب على الفريضة يكون لمن قام بها مشكورا ، أما الإثم في تركها فيقع على رأس الجميع ، لذلك كان بإمكان أي أفاق أن يستولي على السلطان ويكون مشكورا لأنه رفع الإثم الجماعي عن المجتمع وما قد يجره من غضب إلهي على المة كلها . ويشير هذا التفصيل الفقهي إلى فرادة العقل العربي في تصوراته لشئون الحكم بحسبانها ليست من شأن المجتمع و المواطنين ، لأنها أولا وأخيرا شأن إلهي يتم تدبيره بليل ، ويكفي أن يتولاها أي طامع لتنجو الأمة من الإثم ، وهو ما يفسر خاصيتنا التاريخية المميزة لنا بين الشعوب في السلبية التامة تجاه الواجب العامة ( فيكفي أن يؤدي المؤمن فرض العين بالصلاة في المسجد ، لكن طفح مجاري المسجد أو عدم نظافته فهو فرض

122

كفاية متروك لآخرين .. دوما ) . و بالنسبة لمسألة الأمر / الحكم / تحديدا فإن السلبية تكون أعظم ، لأسباب : أولها جانبها اللاهوتي ، وثانيها أنها فرض كفاية ، وثالثها أنها مهمة أهل الحل و العقد ، ولأن الناس لا تعلم تحديدا من هم أهل الحل و العقد ، فإن المسألة تصبح كما لو كانت اختيارا ربانيا ومن ثم تركت الواجبات العامة ملقاة على قارعة الطريق لقيطة ، يتلقفها الهاب و الداب ليتصدى لها ، أما الناس فكانوا ينتظرون أن تحقق الفريضة نفسها بنفسها ، لأنهم في دواخلهم يؤمنون بأنه لا دور حقيقيا لهم في الأمر إنما في النهاية هي مشيئة الإلهية .

هذا ما كان عن الشورى .. فماذا عن البيعة ؟

قبل الإسلام كانت رئاسة القبيلة غير وراثية . وكان لديهم طريقتان لاختيار شيخ القبيلة : الأولى هي طريقة الاستحلاف . وتكون بأن يسمى شيخ القبيلة في حباته من سيخلفه بعده ، و الثانية هي الشورى ، ويتم العمل بها في حال وفاة الشيخ فجأة قبل تسمية خليفته . ونظرا للحجم العددي غير الكبير و المساحة المحدودة لتجمع القبيلة . أمكن للأفراد المشاركة الفعالة في الشورى بشكل مباشر أو بنيابة كبار العشائر . وعن هذا الأسلوب اقتبس ( أبو الحسن الماوردي ) حكاية أهل الحل و العقد ، فقال : " إن الإمامة تنعقد من وجهين : أحدهما باختيار أهل الحل و العقد ، و الثاني بعهد من الإمام من قبل / الأحكام السلطانية صــ 9 " . وإذا ما تم اختيار الرئيس الجديد بأي من الطريقتين ، تتم له البيعة من جميع أفراد القبيلة ، فالبيعة عرف بدوي معلوم قبل الإسلام . وبهذا المعنى فإن البيعة لا تعني الانتخاب كما نفهمه اليوم ، إنما هي اعتراف بقبول سلطة الزعيم الجديد الذي عادة ما كان يصل إلى هذا المكان بإمكاناته الشخصية أو بنفوذه العائلي ، أو بترتيبات تأمرية مع بقية وجهاء القبيلة وتوزيع المصالح ، أو بفرض نفسه على القبيلة فرضا . وقد حاول المجتهدون سل البيعة الإسلامية من أصولها الجاهلية وتمييزها بمعنى جديد ، فقال ( الماوردي ) : " إن البيعة عقد وكالة بين الأمة وبين حاكمها المسئول عنها . وإن عقد البيعة عقد مؤقت مشروط . فهو خاضع لمراقبة الأصيل ( أي الأمة ) . فإن رأي الوكيل ( أي الإمام / الحاكم ) ملتزما بالشروط المحددة أبقاه إن شاء " . وهذا كلام نظري جميل في هواء طلق عليل . وتجاوز ( ابن تيمية ) رفيق همه ( الماوردي ) بقوله : " إن الإمامة تثبت بمبايعة الناس لا بعهد الإمام السابق / منها ج السنة / ج1 / صــ 142 " . رافضا القبول بالإمام الجديد المختار من الإمام السابق إلا إذا وافق عليه الناس بالبيعة . لكنه بدوره قال كلاما جميلا .. مجرد كلام !! فلم يحدث مرة في تاريخنا الطويل العريض الغليظ أن عزلت الأمة إمامها لمخالفته عقد

123

الوكالة ، لعدم وجود أي مؤسسات تقوم على ذلك ، بل إن فكرة وجود مؤسسة لتفعيل المبدأ لم تخطر على البال مما يشير إلى أن أصحاب الأفكار كالماوردي وابن تيمية كانوا لا يقصدون أكثر من الكلام . نعم تم عزل حكام كثر لكن بواسطة الجند تحت قيادة طامع جديد بكرسي السلطان ، أما الأسوأ فهو أن تاريخنا لم يحدثنا مرة أن الناس قد اجتمع وقررت رفض مبايعة الحاكم ، وبقى الخلفاء و السلاطين عبر القرون يعينون المستخلف ويسوقون الناس لبيعته طوعا أو كرها . ومن لطائف طرائف البدايات لتأسيس هذه السياسة العربية الإسلامية ، موقف ( معاوية بن أبي سفيان ) عندما عين نفسه خليفة !! وطلب البيعة لنفسه ولولده ( يزيد ) من بعده دفعة واحدة !!! ، وقام يخطب في الناس يقول لهم : " أما بعد ، فإني و الله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي لكني جالدتكم بسيفى هذا مجالدة ، ليتبعه خطيبه المفوه ( يزيد بن المقفع ) ملخصا فلسفة الموقف للناس ببساطة عبقرية ، قائلا : " أمير المؤمنين هذا – وأشار إلى معاوية ، فغن هلك فهذا – وأشار إلى يزيد ، فمن أبى فهذا – وأشار إلى سيفه ، وهي الفصاحة التي طرب لها معاوية حتى لقبه قائلا : " أنت سيد الخطباء .

وبهذا المعنى فإن البيعة هي إظهار المواطنين رضاهم بالحاكم وإعلان الخضوع له ، وليست انتخابا ولا حتى استفتاء ولا توكيلا له حسب ( الماوردي ) إنما هي تسليم الناس بالأمر الواقع . وبما أن المسألة فرض كفاية فلم يكن مطلوبا من الجميع إعلان هذا الإذعان . فكان يكفي أن يقدمها أشخاص يتم اختيارهم بحيث تلزم بيعتهم الجميع بالإذعان . وتم تعضيد البيعة الإسلامية بأحاديث نبوية لم تكن يوما في صالح الناس ، قدر ما كانت في صالح الحكام ، وخوف الفتنة و الفرقة العشائرية ، من قبيل " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني " ومن قبيل من بايع إماما فليطعه ما استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ، و للتأكيد و الترهيب يأتي الحديث " من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية " ، لذلك كان الأمر " اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم حبشى كأن رأسه زبيبة " ، ومن ثم " على المسلم السمع و الطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة " . و يتحفنا ( ابن حزم ) بكلام آخر – هو بدوره مجرد كلام – يقول : " إن طاعة الإمام واجبة ما قادنا بكتاب الله وسنة رسوله ، فإن زاغ عن شئ منهما منع من ذلك ، وأقيم عليه الحد و الحق . فإن لم يؤمن من أذاه إلا بخلعه خلع وولى غيره مكانه / نقلا عن عبد الله النفيسى / عندما يحكم الإسلام / صــ 162 " .

124

ويلاحظ ( جبران شامية ) في كلام ( ابن حزم ) بناؤه الفعل المجهول ، كقوله : " منع ، أقيم عليه الحد ، خلع وولي غيره ) حيث لم يكن أمام ابن حزم أو غيره سوى المجهول ، لأن المعلوم لم تكن فيه سلطة مؤسسية مشكلة لتمنع وتخلع وتولى وتقيم الحد على الحاكم . وعمليا ما تم خلع حاكم إلا بالسم أو بالسيف أو بالمؤامرة السياسية أو بانقلاب عسكري . وبعدها تتم عملية اغتيال معنوي للمخلوع ليس لأنه ظلم الرعية أو سار بالفساد أو بعد العدل ، إنما بحجة فساد دينه ، ذلك الفساد الذي لم يكتشف مرة إلا بعد موت الخليفة أو خلعه ، وهي حجة عادة ما كانت ترضي عوام المسلمين وخواصهم رغم يقينهم أنها خطاب مخادع ، كانت ترضيهم لأن حقوق الله عندهم أهل من حقوق العباد ، وهو المر الذي كان جديرا بالاستثمار الانتهازي عبر تاريخنا غير الجميل ، لحكم الناس بالحديد و النار عن رضا واستسلام لقدر الله ، والاكتفاء بحلم عن ملك عادل آت لم يأت قط . و السبب في عدم الاعتراف بفساد الحاكم إبان حياته ، إضافة للخوف منه ، هو أن المدرسة السنية ترى أن الحاكم لابد أن يكون أتقى وأعدل وأشجع وأعلم وأفضل المسلمين ، لأنه إنما يقوم مقام رسول الله ، ولكن لأن ( لابد ) هذه كانت مطاطية فإنها سمحت بأن تكون تلك صفات نظرية ممنوحة للحاكم ما دام حيا ، أما بعد خلعه أو موته فيمكن اكتشاف زيغه عنها . و المشكلة أن هذه الصفات المفترضة في الحاكم كان ( لابد) أن تحول دون أي لون من المعارضة أو المحاسبة ، لأن بقية أفراد الأمة في النهاية هم أدنى من محاسبة الأعلم .. الأتقى .. الأشجع .. إلخ . لكن تظل تلك الصفات رمزا ذا وجهين ، الوجه الأول كرسي السلطة الذي يوحد الأمة ويجنبها الفتنة ، و الثاني أنها رمز للنموذج النبوي المفترض في الحاكم الذي هو خليفة رسول الله ، حتى وإن احتل الكرسي أكثر الناس فسادا وأعظمهم على الأمة بلاء .. وتاريخ المسلمين حافل بالمجرمين الذين جلسوا في هذا المكان الرمز وادعوا الحكم باسم الله وشريعته . ورغم هذا الواضح المعلوم في تاريخنا فلم يزل المسلمون المعاصرون يحلمون بالمستبد العادل الذي يستلهم النموذج النبوي فتؤيده السماء بعدلها ونصرها فيقيم لنا مدينة فاضلة قوية مقتدرة لياليها ملاح وأيامها سعد وأفراح ، بعد أن أصبحت بلادنا نموذجا للتخلف والأحزان .. إنه الحلم بالنموذج النبوي ، دون إدراك أن هذا النموذج العظيم كان صالحا لزمنه ولظرف النبوة ، لكنه غير صالح أبدا لزماننا . وعبر التاريخ كانت مخاوف رجال الدين العظمى من الحريات أنها قد تشكل غواية للمسلم بالانحراف عن الإسلام ، معبرين عن عدم ثقة أصيل في المسلمين ، لذلك اتكلوا على الله وعينوا أنفسهم أوصياء على الناس إلى ما شاء الله ، وتاريخنا يخبرنا أن معظمهم كان في وصف

125

الطغاة ، وأن كلهم كانوا مع الحاكم لمجرد أن تصدر عنه بعض الروائح الدينية الإسلامية ، لأنهم سيكونون السدنة المعتمدين ، مع ضمان استمرار المكاسب ، مع خشية معلنة مزعومة عن رعب من فتنة تدوم ، وخير منها طاغة السلطان الغشوم . وحتى الآن ، ونتيجة هذا المنهج غير السياسي ولا الموضوعي ولا العلمي في التفكير ، لم يزل المسلمون يحلمون بالمستبد العادل حتى لو اضطر إلى سوق الأمة بالسياط إلى الصراط المستقيم . رغم أن الاستبداد هو جوهر وعنصر رأس الفساد الأصلي ، و النقيض المطلق لفكرة العدل وقد يبدو ذلك مقهوما وواضحا لكن الأهم منه هو أن تظل الأمة واحدة طائعة للشريعة وهذا هو الخير المطلق وعداه ليس بهذه الأهمية حتى لو كان حقوق البشر . ورغم الحرص المعلن على منع الناس من ارتكاب الآثام بالوصاية عليهم لحرمانهم من حرية ارتكاب الإثم . فإن هؤلاء الفقهاء يعيشون ويعملون ويتقاضون رواتبهم في دول إسلامية هي شر دول الأرض من حيث انتشار الفساد وانتهاك حوق البشر ومرتع عظيم لكل إثم ممكن . لذلك لم ير ( أبو الأعلى المورودي ) أي غضاضة في وصف الدولة الإسلامية المرجوة بقوله : " وأسلوب هذه الدولة كوني شامل محيط بكل الميادين ... لأنها تسعى لتشكيل كل جوانب الحياة بقيمها .. وإذا نظرنا إليها بهذا المنظار تكون أشبه بالدول الفاشية و البلشفية / كتاب القانون و الدستور الإسلامي / لاهور / صــ 140 " .

... وخير الكلام ما قل ودل !! المعنى و المراد ، تأسيسا على ما سلف ، أنه ليس من الضروري أن نجد في حقيبة الإسلام كل مطاليبنا مع دوران الأزمنة وتفاوت ألوان المطاليب ، وأن علينا أن نعترف بهدوء وببساطة أن الدنيا في تغير دائب لا يتوقف ، وأن ما بيدنا من نصوص واجتهادات تبدو غير كافية لمواجهة ما لحق وجه الدنيا و الإنسانية من تغير وتطور منذ زمن الدعوة وحتى اليوم وأنهم كانوا ناسا آخرين ، وأنه كان لهم نوع من الحياة و المشاكل و الحلول تباين حياتنا ومشاكلنا والحلول المطلوبة اليوم . وأن الديمقراطية هدف عظيم حتى لو خالف بعض ما فهمنا من ديننا ، وأن الأمر لا يحتاج استبدالا للمصطلحات المعاصرة بمصطلحات تلبس العمامة أو تطلق اللحية من باب الحفاظ على الشكل ليس أكثر ، فهذه عادات خداعية للذات للآخر لا مفر من كشفها و التخلص منها ، ولذلك لا يمكن أن تتفق المفاهيم الإسلامية كالشورى و البيعة مع الديمقراطية ، لخاصية أساسية في الديمقراطية وهي إنها ليست منحة ملكية ولا عطية ربانية ، إنما هي تؤخذ أخذا، وإلا ما استحقت اسمها ... الديمقراطية .

126

 

الدين الرسمي و الإسلام الأصلي

حول ضرورة إعادة النظر

في المواد الدينية بالدستور

يختلف الشقيقان وهما مثل ركبتى بعير ، تقفان معا ، وتقعان معا

" مثل عربي "

 

( 1 )

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 في أمريكا ، ودخول الكوكب الأرضي تحولات هائلة ومتسارعة في سعيه للحرب ضد الإرهاب ، ولموقعنا الذي لا نحسد عليه اليوم – فيما حدث وما سوف يحدث – بين شعوب ودول العالم ، بعدما فعل السفهاء منا وجب علينا إعادة النظر في كل شئوننا سياسة وثقافة وقيما ، بعدما أنبتت لنا تلك الشئون إرهابا دمويا ظل يمتص كبد هذا الوطن زمنا ، ثم توسع ليرتكب مجازره في بلدان العالم القوي ، لنحمل نحن وجماهيرنا البسيطة البريئة نتائج الفكر الآثم ووزر الفعل الإجرامي .. ولأن الوقت لم يعد أبدا في صالحنا على كل المستويات ، فإني أعتقد بضرورة طرح كل الأمور على مائدة بحث واضحة شفافة مهما كانت حساسة ، لأن أي أمر يهون عدا مستقبل هذا الوطن الذي أصبح محل نظر على طاولة السادة الكبار في العالم بعد جريمة القاعدة في أمريكا . ولنبدأ على الأقل بتحاشي أي أسباب أو طوارئ قد تؤدي إلى محاولات تدخل في بلادنا ، بوقاية أسلم وأوقى من العلاج . وربما أول ما يجب أن نلتفت إليه في بلادنا على ضوء خريطة المبادئ العالمية الحقوقية المعلنة ، هو أننا دولة متعددة الأديان و المذاهب و الثقافات و العروق ، ففينا العرق الحامي المصري الأصيل منذ فجر التاريخ يتوحد مع عروق شرق أوسطية وأوروبية عديدة فيها العرق اليافثي منذ زمن اليونان و الرومان حتى الترك و الألبان وفيها العرق السامي القادم من بلاد العرب ، ولدينا أديان قديمة تركت عاداتها وتقاليدها في التدين الشعبي حتى اليوم ، بعد أن أفسحت الديانات القديمة المجال لديانات أحدث كاليهودية و المسيحية و الإسلام ، ولدينا ثقافات أبرزها الثقافة المصرية القديمة العربية السائدة إلى اليوم ، هذا إضافة إلى تعدد مذهبي داخل الديانات القائمة ، فالمسيحية بمذاهبها الإنجيلية

129

و الكاثوليكية و الأرثوذكسية المصرية ، والإسلام بقطبيه السني و الشيعي ، بل و بالمذاهب داخل الأقطاب كالحنبلي و الحنفي و المالكي و الشافعي داخل المذهب السني .. الخ . وبلد يموج بهذه الثقافات وتمور فيه هذه التيارات الفكرية و تتلاقح فيه هذه العناصر البشرية ، كان يفترض أن يكون هو الأغنى و الأثرى فكرا وسياسة واقتصادا وعلما وحضارة ، لأنه مصهر لروافد عديدة كل ما فيها يغنيه و يضيف كل منها إلى رصيده الحضاري . وقد كان كذلك حقا وصدقا ، عندما كانت ساحة الفكر و الضمير حرة حرية مطلقة دون قيود أو تحريمات ، لأنهم أدركوا مبكرا أنها الساحة الوحيدة التي لا يمكن رقابتها . لذلك كانت ساحة الفكر و الضمير و الدين في مصر القديمة ساحة مطلقة السراح ، فللمواطن أن يعبد أي إله يريد من بين مئات الآلهة أو لا يعبد إن شاء ، أو أن يصرح بإلحاده بالآلهة في وجود سدنة الآلهة و الكهنة وفي حضرة الفرعون ليلقي برأيه أو يقدمه غناء في احتفالية عظيمة كما في أغنية العازف على الهارب الإلحادية الشهيرة . لذلك تلاقحت الأفكار وأثمرت وأنتجت وأنجزت فنونا ومعمارا وعلما وهندسة ورقيا أخلاقيا وقانونيا ندر مثيله في زمانه . وهو ذات الأمر الذي أنجزته شعوب أخرى في مواطن أخرى تركت مساحة الضمير و العقل مفتوحة للتعدد الحر المطلق فأنجزت حضارات ما كان يمكن إنجازها لو سيطر فيها فكر واحد ورأي واحد وضمير واحد ودين واحد . وعندما بدأ هذا الواحد في الظهور وفرض نفسه وحده وقيمه وحده على العقل و الضمير ، منحيا ما سواه مكفرا ما عداه ، بدأ انهيار تلك الحضارات واحدة فأخرى وتهاوت جميعا لتطويها يد النسيان و الإهمال . فغابت فلسفة اليونان وديمقراطيتها الأولى العظيمة وانتهت حضارة روما عندما أصبح لها دين رسمي هو المسيحية حقا ومطلقا وما عداه باطل الأباطيل ، وهو الأمر الذي سبقت إليه مصر عندما قرر الفرعون إخناتون وهو يحكم إن=إمبراطورية عظمى تركها له أجداده أن يستبعد كل رأي أو فكر أو دين عدا دينه وربه الأوحد ( آتون ) وأغلق كل المعابد وكفر كل الآراء المخالفة لتتمزق إمبراطوريته أثناء حياته ، وتعود مصر تنكمش داخل حدودها الإقليمية عند مماته بعد أن تسبب في انهيارها بتعصبه الأعمى لربه الأوحد ورأيه الأوحد . أما الإمبراطورية العربية الإسلامية فقد سجلت عبر خطوها ذات الأسباب وما أدت إليه من ذات النتائج ، فكان انفتاحها على التعددية الثقافية وعلى ثقافات العالم وحرية التفكير عامل إنجاز أبدعت به

130

وأعطت الإنسانية علما ومعرفة وتقدما . ثم تقرر قوانين الكون صدقها عندما يتم إغلاق باب الحريات بإنهاء زمن الاجتهاد بعد المتوكل العباسي ، فيسيطر الدين الواحد ، لا بل القطب الإسلامي السني دون بقية الأقطاب ، لا بل الرأي الواحد في الفلسفات الكلامية ليصبح الله جسدا و القرآن أزلا غير مخلوق وفعل الإنسان جبرا مسيرا لا مخيرا ، ومن يقول بغير ذلك كافر يحل دمه ، فتختفي كل المدارس لتبقى أجهلها وأبعدها عن العقل وأشدها تطرفا ونصية . مما كان سببا طبيعيا لانهيار إمبراطورية العرب انهيارا كارثيا ، ليتلقف بلدانها من بعد أفاقو الترك وشذاذ الآفاق من السلاجقة إلى الألبان إلى الديلم . وتستسلم الناس وتستنيم الشعوب لحكامها ما دام مسلما موحدا واحدا ، ويغيب الاختلاف ولا يبقى سوى رأي واحد أوحد بينما الآخر إما داخل المعتقلات أو تم ذبح أصحابه في الشوارع علنا . وهكذا دخلنا نفق التخلف نحو العصور الوسطى المظلمة بالواحدية المصمتة القاهرة المتسلطة ، بينما كانت بلاد الغرب تغادره من الناحية الأخرى نحو النور بالتعدية و الحريات وحق الاختلاف المثمر المنتج . و نصل إلى قاع مقلب نفايات الأمم نندب حظوظنا ناسبين ما آل إليه حالنا إلى الاستعمار الأوروبي ومؤامراته علينا . رغم أنه ما كان بالإمكان استعمارنا لولا ما وصلت إليه أحوالنا من ترد ، وأن الاستعمار عندما جاء إلينا كان نعمة فتحت عيوننا على فارق تخلفنا المزرى من تقدمه الهائل . ومع ذلك لم ندرك أن الاستعمار الحقيقي الذي دمرنا ونهشنا كان من داخلنا ، كان هو الرأي الواحد و الدين الواحد و السيد الواحد و الفكر الواحد و السلطان الواحد كله في واحد . ومع التطور العظيم على مستوى العلم و الحضارة في دول العالم ، حدث أيضا تطور على مستوى القيم الإنسانية الحقوقية أرسى نهائيا حقوق الرأي وحقوق حرية الاعتقاد . وهي الحريات التي أصبحت مطلبا عالميا بترسخيها عبر الأمم المتحدة في مواثيق دولية ، وهي أيضا التي أصبحت تقف وراء أي احتمالات لأن تدخل أجنبي في شئون الدول الداخلية ضمن خطة الحملة على الإرهاب الدولي . ولأن مصر كما قلنا بلد متعدد الثقافات و الديانات و العناصر ، فإن استمرار الأوضاع على ما هي عليه سيكون مدخلا سهلا لكل تدخل خارجي ممكن ، لأن أوضاعنا تفرض دوما رأيا واحدا ودينا واحدا أو ثقافة واحدة على بقية أديان وآراء وثقافات المواطنين ، وهو ما كان سببا فيما نحن فيه من تخلف عظيم على كل المستويات ، وسيكون لكل كوارث محتملة آتية إن لم نسرع بإصلاح بيتنا من الداخل .

131

و أعتقد أن أجلي صور الرأي الواحد ظهورا وفداحة أمام العالم هي تلك المواد الصدر في دستورنا والتي تقول : إن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام وإن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع . وهو نص دستوري دليلا لمحاكمتنا أمام الضمير العالمي الذي يبحث الآن بأساطيله وطائراته وأقماره الصناعية ومعاهد أبحاثه بين ذرات رمال الأرض عن كل ما يحتاج تصحيحا أو ربما إزالة لارتباطه فكرا أو رأيا بما هو ضد حقوق الإنسان التي أصبحت الحجة الأولى للمعركة الدولية ضد الإرهاب . وتعالوا نقف مع هذه المواد الدستورية نحاول أن نقرأها بعيون الآخرين أو بالأحرى بعيون محايدة تماما . والملحوظة الأولى بهذا الشأن أن الدولة ليست شخصا ماديا بقدر ما هي اعتبار معنوي ، لذلك يصبح القول إن للدولة دينا قولا غريبا غير مفهوم في ظاهره ، ويستتبع البحث عن أغراضه المكنية و المستنطنة ، فهو وإن كان يشبه القول إن المشروب الغازي الفلاني هو الراعي الرسمي للمباراة الكروية الفلانية ، فإن المباراة لا تتم فعلا برعاية هذا المشروب و القصد تجاري بحت لا يحتاج بحثا وراء معناه ، أما القول إن للدولة دينا رسميا فهو ليس إعلانا تجاريا ولا لمجرد تعليق اللافتات المميزة الواسمة فنحن لسنا محلا تجاريا ولا ملعبا كرويا ، لذلك سيقف الدارس مع مواد الدستور فاحصا لا يفترض أبدا حسن نية واضع هذه البنود فهذا أمر لا مجال له في دساتير الأمم التي يجب أن تكون لغتها واضحة قاطعة جامعة مانعة ، ظاهرها هو باطنها لا تحتمل أكثر من تأويل أو فهم ، ولن يكون هناك مجال للقول إن هناك بنودا قد تم وضعها لأسباب وظروف صاحبت زمن وضعها ، كانتشار التيار الإسلامي السياسي في الشارع المصري ، وإن تلك النصوص قد وضعت ثم طورت ( كما في نص الشريعة من " مصدر " إلى " المصدر " ) إرضاء لتيار شعبي غير رشيد منعا للفتنة و للحفاظ على تماسك الوطن . لا مجال لهذا القول لأنه لو كانت تلك أسبابا حقيقية وراءها فلماذا ظلت البنود قائمة حتى الآن نقدم لها حججا مضت وأسبابا انتهت ؟‍ ‍

ولا شك أن الفاحص لهذه المواد الدستورية التي تقول إن للدولة دينا بذاته وعينه هو دين الدولة الرسمي ، سيفهم أن في هذا البلد أديانا أخرى غير الإسلام يدين بها مواطنون غير مسلمين . ثم لابد أن يستنتج أن الدولة لا تعترف بأديان أخرى لأبنائها لأنها لا تعتبرها رسمية . فالدولة هنا تنفي جزءا من مواطنيها ليس لتقصيرهم في المواطنة إنما بسبب

132

عقيدتهم ، وأنهم منبوذون بسبب ذلك من اعتراف الدولة بهم مواطنين رسميين !! وهكذا سنجد أن دستور الوطن يعلن للناس داخل الوطن ، و للعالم الذي يؤمن بحقوق متساوية لأفراده بغض النظر عن لون أو جنس أو عقيدة ، أنه دستور يفرق ويميز رسميا وعلنيا بين أبناء بلاده ويصنفهم درجات في المواطنة حسب عقائدهم وليس حسب ولائهم وجذورهم الوطنية ، عبر امتدادهم التاريخي في عمق هذا الوطن الطبوتاريخي . ثم إنه دستور يعلن انحيازه السافر لبعض المواطنين دون البعض الآخر انحيازا لعقيدة هؤلاء ضد أولئك ، وهو ما يعني أن الدولة تعلن بوضوح حمايتها ورعايتها لدين قسم من رعاياها ، وتخلع مظلتها عن دين القسم الآخر بانحياز طائفي يترتب عليه بالضرورة عدم المساواة أو العدالة في ترك كل دين يعمل ويظهر أو لا يظهر بقواه الذاتية ، كما لابد سيترتب عليه – وهنا الأخطر – عدم المساواة بين الرعية في الحقوق بعد أن تم سلبهم أول حقوقهم ( حق الاعتقاد ) ، وما ترتب عليه من حرمانهم ( حق المواطنة الرسمي ) . لأنه في البداية وفي النهاية لن تجد تفسيرا آخر لهذه النصوص الدستورية العلنية سوى كونها قرارا رسميا من الدولة بنفي بعض مواطنى الدولة من المواطنة لأنهم لا يدينون بدين الدولة الرسمي ، وأن الدولة تخلع عنهم رعايتهم حتى يفيئوا إلى دينها الرسمي ويدينوا به ، فهو قهر رسمي علني لإجبار مواطنين على ترك عقيدتهم إلى عقيدة أخرى حتى يحوزوا المواطنة و الرعاية الرسمية وضمان حقوقهم القانونية وهو ما يشبه زمن الاحتلال الأموي وفرض العربية لغة رسمية بالدواوين ، وهو ما انتهى باللغة القبطية وعاء ثقافة المصريين حينذاك إلى التلاشي و الانقراض . هذه قراءة أولية للبنود الدينية في دستورنا وما تحتمله من معان في زمن لم يعد يحتمل ذلك ... وما زالت لتلك القراءة بقية ، سنجد فيها تلك المواد لا تنفي فقط غير المسلمين ، بل وكثيرا من المسلمين أيضا .

133

( 2 )

نتابع هنا تأمل المواد الدينية بالدستور المصري التي تقول : أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام وأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع ، نحاول استقراء ما بين سطورها وحروفها من معان مكنية ، وما تحتمله من معان وتفاسير ، وما يستتبع ذلك من نتائج وآثار في واقع المجتمع المصري وأنظمته . والملحظ الهام هنا أنه ليس الدستور المصري وحده هو ما يميز بتلك اللافتة الطائفية . بل إن جميع الدول العربية قد حذت حذونا ووسمت نفسها بذات الإعلان الطائفي في دساتيرها ، عدا لبنان الذي وعى حرياته الديمقراطية مبكرا ودفع ثمنها غاليا ولم يزل ، لوجوده في وسط ومحيط مباين ، وأيضا عدا السعودية فدستورها القرآن ( لا تفهم كيف ؟! . ) كذلك ليبيا لأنها جماهيرية لا دستورية . ورغم الدقة المتناهية المفترضة في الدساتير بحيث تكون لغتها وتعريفاتها حاسمة قاطعة محددة جامعة مانعة تامة ، فإن المواد الدينية في الدستور المصري تفتقد بالتمام و الكمال لهذه المواصفات ، فهي تنص على أن الإسلام هو دين الدولة ، دون تحديد أي إسلام بالضبط يقصدون ؟ ... وهو الأمر الذي يحيل إلى العقلية التي وقفت وراء وضع هذه المادة الدستورية ، و التي يتضح من صياغتها أنها عقلية أحادية فاشية طائفية عنصرية لا ترى المختلف ولا تعترف بوجوده ، كما لو كان هناك إسلام واحد معلوم للجميع ، والمر ليس كذلك ، وهو ما يعني أن تلك العقلية لا ترى هناك إسلاما غير إسلامها هي الذي لا يحتاج تعريفا وهو الذي يجب أن يسود بسيادة طائفته المذهبية ، وتكفي الإشارة إليه بالإسلام فقط لأن ما عداه لا يمكن أن يكون إسلاماً . هو الصحيح في حال ظهور أي اختلافات أو ألوان أخرى للإسلام . إسلام واحد ، وحيد ، أحد ، هو الصح المطلق ، وهو السيد المطلق تكفي الإشارة إليه بكلمة الإسلام فقد دون أي ملحقات تحديدية .

135

وهو الأمر الذي يتبطن طائفية من لون شديد التطرف ، طائفية داخلية تستبعد أي إسلام غير الإسلام المعلن دينا رسميا ، طائفية أنكى وأمر من نفي غير المسلمين من المواطنة ، طائفية تنفي كل من تمذهب بغير إسلام الدولة الرسمي . وهو ما نجد صداه في المطاردات الأمنية و المحاكمات لمن قال داخل الإسلام برأي مختلف ، كما حدث مع كثير من المفكرين المسلمين ، أو للمذاهب غير السنية كالشيعة الانثى عشرية واعتقالهم في أكثر من مناسبة ، ناهيك عن تجريم ألوان أخرى كالبهائية و القاديانية وإنكار إسلامها عليها رغم اعتقاد أصحابها أنهم على إسلام سليم ، وجريمة أصحاب هذه الألوان العقدية أنهم خرجوا على الإسلام الرسمي للدولة . ولا تقف خطورة المواد الدينية في الدستور عند هذه المعاني وهي كافية لإعادة النظر الفوري بشأنها ، ولا في إعلانها للطائفية المميزة بين المواطنين بإعلان رسمي في عالم وفي زمن أصبح يعتبر ذلك اعتداء صارخا على حقوق الناس الشخصية ، وضغطا على الضمير الإنساني ولونا شديد الفجاجة من التخلف في الميدان الحقوقي الذي تقاس به حضارات الأمم ، ووصاية بغيضة على أرواح الناس .. لا تقف هذه المواد عند ذلك بل تتعداه إلى التطبيق العملي الفعلي لبنود الدستور ، و تستخدم لسلب المواطن حقوقه بل أحيانا تدميره بحجج قانونية وتحت لافتات تشريعية ، وهو ما يحدث ويتكرر بتفعيل تلك المواد عند حدوث أي لون من ألوان الحراك الاجتماعي ، مما يعني أن هذه المواد تصادر مقدما حقوق الإنسان التأسيسية : حق الاعتقاد وحق الرأي والقول معا ومقدما . وأقرب مثال إلى الذاكرة ما حدث للكاتب الدكتور نصر حامد أبو زيد إثبات ردته عن الإسلام حيث تم تفريقه عن زوجته احتسابا لإسلامها ووجوب تفريقها عن زوج غير مسلم ، في التفاف قانوني دائري يأخذ مقدماته من نتائجه وبالعكس . للوصول إلى الغرض وهو إعلان ردة الرجل عن الإسلام بوثيقة مدموغة بخاتم الدولة الرسمي وبحكم قانوني قضائي !! ولا ننسى بوثيققة مدموغة بخاتم الدولة الرسمي وبحكم قانوني قضائي !! ولا ننسى أبدا أن القاضي قد أقام حيثيات الإدانة على بنود وأصول وثوابت من آيات قرآنية وتفاسير وأحاديث نبوية وآراء فقهية ، مع تفسيره الخاص لهذه الأصول و الثوابت واختياره تفسيرا دون تفسير وحديث دون حديث ورأي فقهي دون آراء ، في وثيقة قانونية لا علاقة لها بالقانون المعمول به في محاكمنا المدنية ، أو المفترض أنها كذلك . معلنا أنه

136

يملك كل الحق في المحاكمة ببنود الإسلام لا القانون ، لأن الدستور قد أعطاه هذا الحق . وقد كان لكاتب هذه السطور شرف الرد الفقهي العقدي الإسلامي من بطون تراثنا وأمهات مصادرنا على حيثيات إدانة الدكتور أبو زيد في دراسة مطولة موثقة بناء على طلب مكتب المحامية الأستاذة منى ذو الفقار . ورغم أنه قد تم إيقاف تنفيذ حكم التفريق بحكم جديد ، فإن الحكم ذاته لم يلحقه الإلغاء وظل سابقة قانونية قائمة باقية بوجه أي خلاف في الرأي داخل الإسلام ذاته ، وصالحة للاستخدام إزاء أي حالات مشابهة مستجدة . وهو ما يعني أنه في ميدان العقيدة يمكنك أن تجد الحجة ونقيضها ، لأن الأمر في النهاية هو اختلاف في الرأي والفهم و التفسير ، لأن نصوص الدين لا تنطق بذاتها ، بل تحتاج لمن يفهمها ويطبقها من البشر ، وهنا لابد أن يظهر الخلاف ، وهو الأمر الطبيعي السهل البسيط المفهوم . لكن عندما نحول الأمر إلى قاعدة دستورية ، وهو شأن خلافي بالكامل ، فإن أي خلاف سيصبح جريمة ، وهو ما يعني تكميم الأفواه وإخراس الألسن وإسكات صوت العقل وإخماد الرأي وبسط القهر على الضمير . هذا ناهيك عن الاحتمال الأكيد بفساد الأحكام التي تصدر على أساس ديني مساحته الضمير واختلاف الفهم بين الناس ، ولا يبقى لحسم رأي دون رأي آخر سوى لمن بيده سلطة القرار و التنفيذ ، فيتحول الأمر من منطق الحق إلى منطق القوة لتصبح هي الحق مطلقا لأنها القادرة على التقرير و الفرض و التنفيذ . لأنه في ميدان الاعتقاد لا يمكن التيقن أن رأيا أو فهما بعينه قد أصاب كبد الحقيقة ، أو أنه حقق مراد الله من نصوصه ، أو أنه أطلع وحده دون الناس على المقصد الإلهي الدقيق ، وتوحد بالإرادة الإلهية العلية ، وهو كله ليس سوى باطل الأباطيل ، ولا يدعيه إلا الأفاقون و الفاسدون و المنتفعون و المتاجرون بأرواح الناس و بالدين . والأمثلة كثيرة على استخدام مواد الدستور الدينية في معارك انتهازية ضد العقل وضد الحرية ، واستخدامها سلاحا مرجعيا بيد البعض ، فقد كانت هذه المواد حجة في محاكمة كاتب هذه السطور أمام محاكم أمن الدولة ومحكمة شمال القاهرة في محاكمة مشهورة مشهودة على أحد كتبه . كذلك تفصح هذه المواد عن قدرتها على تفعيل نفسها لتؤدي إلى مظالم فادحة في محاكمات دون تمر أن يلتفت إليها أحد أو يهتم بها أحد رغم ما فيها من افتئات على العدل مع كثير من الظلم خاصة في القضايا التي يكون فيها أحد الطرفين مسلما سنيا والآخر غير سني ، أو يكون أحد الطرفين مسلما والآخر غير مسلم ، وبالذات في

137

قوانين الأحوال الشخصية ، حيث تهدر هناك مواد القانون المدني لصالح الشريعة ومواد الدستور الدينية ، معها تهدر حقوق المواطنين باسم الدين الرسمي والإسلام الأصلي . انظر معي ( مثلا ) الشيخ محمد حبش عضو لجنة الإفتاء في 30 / 3 / 1999 في صحيفة عقيدتي قائلا : " إن الأولاد يتبعون خير الأبوين دينا كما هو مقرر شرعا ، فإذا كانت الزوجة مسلمة ولا تعرف شيئا عن زوجها وظهر أنه بهائي كان الأولاد تابعين لأمهم " . الشيخ حبش هنا يقرر فورا إن الإسلام هو خير الأديان إزاء قضية تختلف فيها الحالة المذهبية للأم السنية عن الأب البهائي ، والإسلام عنده هو السني أما البهائية فهي مذهب غير إسلامي رغم أن أصحابه يقولون أنهم مسلمون . ورغم أن الأطفال قد بلغوا مبلغ حضانة الأب فإن الفتوى حرمته منهم وأعطتهم للأم ، لأنها صاحبة خير الدينين من وجهة نظر المفتي . هي وجهة نظر لكنها لا تقوم على عدل قدر ما تقوم على الفرض القهري و القسري بمنطق قوة المبدأ أو المذهب أو الدين السائد الرسمي . وفي أحكام انتهى القاضي إلى أن المسلم هو الشخص الشريف وغير المسلم يفتقر إلى الشرف , وذلك في قضية إنهاء حضانة أم قبطية لأبنها عندما اسلم زوجها . وفي حكم آخر تم إلغاء وصاية أب قبطي على ولديه عندما أسلمت الأم ، وجاء في قول المحكمة : " يتعين أن يتبع الأولاد الدين الأصلح " . و الغريب أن تقرر المحكمة نفسها ما هو الدين الأصلح في نظرها بقولها " والإسلام هو أصلح الأديان " . انظر نماذج تلك القضايا 2473 / 53 السيدة زينب ، 17 / 61 استئناف إسكندرية ، 472 / 58 محكمة إسكندرية الابتدائية , هذه فقط أمثلة .. ومجرد نماذج سريعة توضح كيف وضعت مواد الدستور الدينية أسسا تشريعية لمعاناة مواطنين بسبب عقائدهم ومحاكمة مفكرين ، وسجن أصحاب رأي ، ونفى كتاب من بلادهم ، وتفريق آخرين عن زوجاتهم ، بسبب اختلاف في فهم النص الديني أدى لاستبعادهم من حظيرته ومحاكمتهم بمروقهم عن دين الدولة الرسمي وإسلامها الأصلي . ... وما زال لنا مع مواد الدستور الدينية حديث وقول .. هو ضرورة لازمة ومناقشة مطلوبة وضرورية ، لصلاح أحوالنا بأيدينا قبل أن تصلحها لنا يدا العم سام .

138

( 3 )

إذا كان تعريف الفساد السياسي أو الإداري الاقتصادي بأنه عملية تحويل العام لصالح الخاص ، فإن ذلك يعني أن الطائفية هي المؤسسة الأم للفساد وتشريعه . لذلك لا يحرص على تأكيد الطائفية في المجتمع ويصر عليها سوى المستفيدين من الفساد واستمراره ينخر في المجتمع و الدولة . وإعمالا لذلك تصبح إعادة النظر في المواد الدينية بالدستور المكرسة للطائفية بإعطاء الدولة دينا رسميا وشريعة دينية مصدرا للتشريع القانوني ، مليا ضروريا وأساسيا للقضاء على مفرزة الفساد الأولى بالوطن ... ( الطائفية ) . هذا إضافة إلى ملحظ بالغ الأهمية . وهو أن تلك المواد الصدر بالدستور تتناقض وتتعارض مع مواد أخرى بذات الدستور تؤكد المساواة بين المواطنين في الحقوق بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العقيدة ، فالمواد الدينية تفرق وتصنف وتمايز بين المواطنين على أساس الدين الرسمي المعترف به ، وتستبعد أديانا أخرى للمواطنين ، مع أصحابها ، بينما بقية المواد الحقوقية تؤكد المساواة التامة بينهم دون اعتبار لعقائدهم . ومثل ذلك التناقض في دستور دولة كبيرة مثل مصر ، شأن معيب ، فهو تناقض منكور مستنكر يهز القيمة العليا لدستور البلاد وينتقض منها . هذا إضافة إلى تناقض مواد الدستور الدينية مع ما تعهدت به مصر الدولة ووقعت الالتزام به في ميثاق شرف دولي أمام كل الدنيا ، أقصد العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية الذي ينص في مادته الثانية على " أن تتعهد كل دولة طرف في هذا العقد باحترام الحقوق المعترف بها فيه ، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها و الداخلين في ولايتها دون تمييز بسبب اللون أو العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسيا أو غير سياسي ، أو الأصل القومي أو الاجتماعي أو الثروة أو النسب أو غير ذلك من الأسباب ، وتتعهد كل دولة طرف في هذا العهد ، إذا كانت تدابيرها التشريعية أو غير التشريعية القائمة لا تكفل فعلا

139

إعمال الحقوق المعترف بها في هذا العهد ، بأن تتخذ طبقا لإجراءاتها الدستورية ولأحكام هذا العهد ما يكون ضروريا لهذه الأعمال من تدابير تشريعية أو غير تشريعية " . ثم هناك تناقض تأسيسي ذلك بين تلك المواد الطائفية التمييزية بالدستور وبين المعلن المفترض أن مصر دولة مؤسسات ديمقراطية ، وأساس المبدأ الديمقراطي الأول هو المساواة التامة بين المواطنين ، فما بالنا بحق المواطنة الذي ينفيه دستورنا عن بعضنا لأنهم من غير أتباع الدين الرسمي ؟ والمضحك المبكي أن تحوز إسرائيل اعتراف الدولة المصرية بدولتها والتطبيع معها بينما ملايين المواطنين المصريين تحول مواد الدستور الطائفية دون الاعتراف بهم على سواء مع بقية المواطنين مما يضع حائلا دون تطبيع عناصر المجتمع وبعضه بعضا . ثم هناك رابعة الأثافي ( مزايدة على الأثافي الثلاث ) عندما يحدث خلاف سياسي أو فكري داخل الوطن ، فبدلا من أن يحسمه لصالحه صاحب الحجة الأقوى والأكثر تعبيرا عن مصالح الوطن والناس ، فإن أصحاب الحجة الأضعف والأكثر تعبيرا عن مصالحهم أو مصالح طائفتهم لا مصالح الناس ، هم من يتمكنون من حسم الخلاف لصالحهم ، برفع مواد الدستور الطائفية في وجه الخصوم كحجة تشكك في ولائهم للوطن كنتيجة لعدم ولائهم للدستور ، وللتوضيح و الشرح أضرب هنا مثلا تفسيريا من كتاب الأستاذ فهمي هويدي ( المفترون ) الذي كرسه للرد على العلمانيين الذين هم في رأيه ( المفترون ) ، سنجد الأستاذ هويدي قد استخدم مواد الدستور الطائفية كحجة في وجه من احتسبهم علمانيين حسب فهمه للعلمانية أكثر من ست مرات ( صــ31 ، 272 ، 66 ، 71 ، 108 ، 115 ) ونموذجا لذلك قوله " إنهم يدافعون عن أحكام الدستور والقانون التي تنص على كفالة حرية الاعتقاد و التفكير وهو موقف نقدره ونحترمه . لكننا نذكرهم بأن هناك مقومات أساسية للمجتمع ونظاما عاما مقررا في الدستور يثبت بجلاء أن للدولة دينا رسميا هو الإسلام ، ومن ثم فإن كل ممارسة يجب أن تحترم دين الدولة احتراما للنظام العام للمجتمع / صــ 31 " . وهكذا فإن السيد هويدي يدرك بوضوح مدى التناقض بين مواد الدستور ، ثم يستثمر هذا التناقض فيضع في مواجهة المطالبين بتفعيل مواد الحريات مادة أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام ، وهو ما يعني من وجهة نظره المبطنة أن الإسلام دين لا يرضي بحرية الاعتقاد ، لذلك يجعل الدستور كله ونظام المجتمع كله ليس قائما على مبادئ تلك الحريات الدستورية كما هو مفترض في دساتير الدنيا ومعنى الدستور والقانون المدني ذاته ، بل يجعل كل

140

النظام العام قائما على المواد الطائفية الدينية بالدستور ، وأنها وحدها كفيلة بإسكات أي نصوص أخرى بالدستور بل وإلغائها ومسحها مسحا ليس لأن الإسلام ضد تلك الحريات مطلقا بل حسب فهمه هو للإسلام . وهو الأمر الذي نكرر بشأنه ونزيد أن الدين قابل لتعدد إفهام البشر من حوله وأن تفعيله في النهاية سيكون بفهم البشر ويد البشر ومصالح البشر ، لذلك فإن وضعه كمصدر دستوري أو قانوني سيسمح دوما بسقوطه بأيدي أصحاب المصالح ضد مصالح الوطن و الناس لأنه لا يفعل بذاته ولا بتدخل رباني بل بالناس ومصالح الناس ومكان الناس في سلم السلطة ومواضع القرار . وإعمالا لفهم السيد ( هويدي ) للإسلام وهو في ذلك ليس فريدا فهو فرد في جوقة وبطانة تاريخية – فإنه يسحب الشرعية و المواطنة عن مواطنين يعتمدون حرية الاعتقاد حقا للجميع أساسا لكل الحريات ، ويسمهم لهذا السبب بأنهم " علمانيون " مستثمرا شائعات جماعته ضد العلمانية ليكررها كما لو كانت قد أصبحت حقائق للقول إن العلمانية خصيمة للدين .. أي دين .. أي هي الإلحاد صافيا . ولا تفهم كيف تكون حرية الاعتقاد ضد أي دين أو أي اعتقاد ؟ اللهم إلا بنظر الدين الديكتاتور الذي لا يقبل بغير ذاته دينا للناس ، أو الدين الضعيف الذي يخشى مبدأ حرية الاعتقاد العلماني خشية وضع حرية اختيار الدين بيد العباد ليختاروا بينه وبين غيره !! وبينما نحن نظن أن الإسلام ليس ( كذلك ) فإن كلام السيد هويدي يفصح عن يقينه أن الإسلام هو ( ذلك ) نفسه ، وهو ما ينضح فصيحا في قوله السالف مدعوما باستطراده : " وإذا كان لكل نظام أساسه الذي ارتضته الأمة وأثبتته في دستورها ، فمن حق النظام أن يمنع هدم ذلك الأساس .. إن كل تيار سياسي يحترم عقيدة الأمة ويلتزم بنصوص الدستور المعبرة عن ذلك ، يصبح من حقه أن يكتسب الشرعية .. أما أهل التطرف العلماني المخاصمون للدين فلا مكان لهم في إطار الشرعية / صــ 272 " . إن هذا السيد يمتلك قدرا من الاجتراء على سلامة المفاهيم ، هو اجتراء معتاد عند فريقه ، لكن أن يصل إلى جعل ديانة قسم من المواطنين هي أساس النظام الذي ارتضته الأمة دستوريا ، رغم إنها عقيدة ودين و ليس نظاما صالحا لجميع المواطنين ، فهو ما كان ممكنا لولا تجمل الدستور بهذه المواد الطائفية إرضاء لتيار غير رشيد ، وضد كل المصطلحات و المفاهيم السياسية ، بل إنه يرفع تلك المواد في وجه أنصار الحريات الدستورية وضد الحريات الدستورية باسم الدستور ، وهو يعلم حجم ما يرتكب من مغالطة واجتراء وذلك بفضل مواد الدستور الطائفية ، ولنا أن نلاحظ أن السيد هويدي لا يجعل الأصل في الدستور هو تأسيس

141

حريات المواطنين وضمانها بل ويجعل الأصل هو عقيدة بعض المواطنين ولا تفهم لماذا نضع إذن دستورا بالأساس إذ كان الإسلام هو أساس النظام السياسي و التشريعي للدستور وأي مواد أخرى بالدستور لا تتفق وهذا الأساس هي مواد غير شرعية ؟ ولماذا لا نقول جماعة الإخوان القرآن دستورنا وننهي الإشكال ووجع الدماغ ؟ وحتى لا نقفز على كلام السيد هويدي لابد أن نوضح أنه ضمن الفريق المتأسلم الذي يعلن إيمانه بالمبدأ الديمقراطي بينما يرفض في الوقت ذاته أساس الديمقراطية التحتى ودونه لا ديمقراطية ألا وهو العلمانية ، فالديمقراطية ليس مجرد صندوق انتخابات يتحايلون للوصول عبرها إلى سدة السلطة وبعدها يكون لكل مقام مقال ، إنما للديمقراطية أسسها وجذورها ودونها تصبح وسيلة لأبشع ألوان الديكتاتورية وممرا للنازية و الفاشية إلى سدة الحكم . وأبرز تلك الأسس هي أن البشر هم من يشرعون لأنفسهم حسب ظروف زمانهم ومصالحهم ولا يتلقون شرائع سماوية جاهزة على واقع زمن مختلف عن زمانها ومباين لظروفهم بل مناقض لمصالحهم . وأن حرية الاعتقاد حق مقدس مطلق ، سواء بالانتقال من دين إلى دين ، أو بالانضواء إلى فكرة مقدس مطلق ، سواء بالانتقال من دين إلى دين ، أو بالانضواء إلى فكرة عقدية جديدة مبتدعة ، أو حتى بعدم الاعتقاد في هذا أو ذاك ، ودون هذا الحق لا يمكن الحديث عن حريات ، لأن حق سلطان الإنسان على ضميره دون قهر خارجي أو قسر من أي لون كان فهو مساحة الحرية الشخصية المطلقة . كذلك حق المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق بغض النظر عن اللون أو الاعتقاد أو الجنس وهو ما يعني أهلية كاملة للمرأة مع الرجل سواء في الشهادة أو المواريث أو تولى الولايات العامة بألوانها أو كل ما يتعلق بتمامية الخلقه وعدم النقص الذي يلاحقها في مأثورنا ، كذلك لا يصبح هناك قبطي ذمي وسيد مسلم لأن الكل في المواطنة سواء . هذه الأسس هي أهم أعمدة العلمانية التي هي الأساس التحتي للديمقراطية ، لذلك فإن المهمة الأولى للعلمانية هي فصل الدين ، أي دين عن نظام المجتمع السياسي حتى يبقى هذا النظام ميدان بشريا بحتا ، تتصارع فيه برامجهم الاجتماعية و الاقتصادية دون أن يكون لطائفة منهم الحق في الزعم أنها تمثل وجهة نظر الإله . وبذلك فإن العلمانية تترفع بالإله وتتنزه به عن عملية تشغيله عند كل طائفة ليؤكد لها وجهة نظرها أمام جماهير المؤمنين من بسطاء الأتقياء المضحوك على ذقونهم دوما والمستثمرين ضد أنفسهم بالدين وبالله دوما . فالعلمنة تحرر الدين من الانتهازيين و المستثمرين وتحرر العباد من استثمارهم باسم الدين وتحرر نصوص الدين من رجال الدين المحترفين والكتاب والمؤلفين باسمه

142

الذين يتصورون أن كتاباتهم هي ما جعل عبادة الله في الأرض ممكنة يرحلون من النقيض إلى النقيض ويركبون كل وعر ممكن حتى أصبحت بيوتهم من زجاج ، بل تحولوا هم برصيد ما كتبوا إلى رجال من زجاج . ومع ذلك ولشديد الغرابة يستمرون غير عابئين ما داموا يلتحفون عباءة الله والدين ويصبح كل قول عندهم جائزا وممكنا ، فركبوا أعناق العباد ودمروا البلاد ونشروا فيها الفساد حتى تلطخت أيدي السفهاء منهم بدماء الشعوب الحرة المنتجة في سبتمبر 2001 فأزفت عليهم الآزفة ما لها من كاشفة . ومن ثم فإن العلمانية تمكن النظام الديمقراطي من فضح أي أيديولوجيا تزعم القداسة وتدعي العصمة ، حتى يستعيد الناس سلطانهم على أنفسهم الذي هو أساس الديمقراطية الأول . ومن هنا لا يمكننا أن نفهم عداء الكهنة وأصحاب الأقلام الكهانية للعلمنة إلا لأن تلك المعاني التأسيسية تهز عروشهم ومصالحهم .. وما أشد افتضاحهم بلسانهم وهم يطلبون ديمقراطية منزوعة من جذورها العلمانية في فضيحة كاملة المواصفات ، مع اتهام العلمانية بكل التهم الممكنة وأهمها العداء للدين ، تلك جماهير البسطاء للدين ضد مصالحهم ..

ومازال للحديث بقية ....

 

عودة