النتيجة

يعرف كل قارئ أنه يقدر أن يعثر في أي كتاب على ما يريد العثور عليه! ولو قرأنا القرآن أو الكتاب المقدس بافتراض مسبَّق أنهما مليئان بالأخطاء فسنجد تلك الأخطاء الكثيرة لأننا نتبع أسلوب الهجوم . أما إذا درسناهما بقلب مؤمن، واثقين أن كلمة الله وعلومه متفقان فإننا نتبع أسلوب التوفيق . وسنجد وقتها أخطاء قليلة إن كنا نلوي ذراع العِلم أو نضغط على تفسير الكتاب المقدس.

ولقد اتّبع د. بوكاي أسلوب الهجوم مع الكتاب المقدس، بينما اتّبع أسلوب التوفيق مع القرآن. وكنموذج لذلك معالجته لأيام الخليقة، فيقول في الفصل الأول عن الكتاب المقدس (ص 45):

إن إدراج مراحل الخلق المتعاقبة في إطار أسبوع.. لا يقبل الدفاع من وجهة النظر العلمية، فمعروف تماماً في أيامنا أن تشكيل الكون والأرض قد تم على مراحل تمتد على فترات زمنية شديدة الطول.. وحتى إذا كان مسموحاً لنا، كما هو الأمر بالنسبة للرواية القرآنية، أن نعتبر أن المقصود فعلاً هو فترات غير محددة وليس أياماً بالمعنى الحقيقي، فإن النص الكهنوتي يظل غير مقبول، حيث أن تعاقب الأحداث فيه يناقض المعلومات العلمية الأصلية .

وكلام د. بوكاي هذا يعني احتمال أن يكون يوم الكتاب المقدس حقبة غير محدودة . ولكن د. بوكاي عندما يناقش الموضوع مرة أخرى في الفصل الثالث عن القرآن يقول: إن كلمة يوم كما يُفهم من التوراة تعرّف المسافة الزمنية بين إشراقين متواليين للشمس، وذلك بالنسبة لسكان الأرض (ص 158). فهو يقول إن يوم الخلق في الكتاب المقدس هو 24 ساعة، وهي غلطة كبيرة.

وفي الصفحة نفسها يناقش د. بوكاي الكلمة العربية يوم ويقتبس آيتين قرآنيتين ليوضح أنها قد تعني حقبة زمنية، فيقول إنه جاء في سورة السجدة 32:5 فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ثم يقول: والقول إن الخلق حدث في ست حقب هو ما تقولهسورة المعارج 70:4 فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ .

ويبدو كلام د. بوكاي مقنعاً حتى نقرأ الآيات في قرينتها، ففي السجدة 32:4 و5 (من العهد المكي الوسيط) نقرأ: ا للَّهُ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سَتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ . وتقول سورة المعارج 70:4 (وهي من العهد المكي الأول) تَعْرُجُ المَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ . وعندما ننظر إلى القرائن نرى أن هذه أيام روحية تختص باليوم الأخير، وعروج الملائكة والروح. ولا نقدر أن نجزم كيف فهم أهل قريش معنى كلمة يوم - هل هو حقبة أو 24 ساعة؟ ولكن نقول: إن كانت كلمة يوم في اللغة العربية قد تعني حقبة فلماذا لا تعني الكلمة يوم الواردة في الكتاب المقدس معنى حقبة أيضاً؟ جاء في 2 بطرس 3:7-9 وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الكَائِنَةُ الآنَ فَهِيَ مَخْزُونَةٌ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ عَيْنِهَا، مَحْفُوظَةً لِلنَّارِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَهَلَاكِ النَّاسِ الفُجَّارِ. وَل كِنْ لَا يَخْفَ عَلَيْكُمْ هذَا الشَّيْءُ الوَاحِدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَنَّ يَوْماً وَاحِداً عِنْدَ الرَّبِّ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَأَلْفَ سَنَةٍ كَيَوْمٍ وَاحِدٍ.,, ل كِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لَا يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ . فاليوم هنا روحي، هو اليوم الأخير، ولا خلاف بين هذا وبين المعنى القرآني. وفي كتاب تكوين 1 وأصل الأرض يقول الكاتبان نيومان وإكلمان (11):

لا نحتاج إلى دراسة مطوَّلة لمعنى كلمة يوم في العبرية، فهي كثيراً ما تعني الزمن الذي تشرق فيه الشمس، وهو نحو 12 ساعة (تكوين 1:5 و14أ) كما تعني يوماً وليلة أي 24 ساعة (تك 1:14 ب والعدد 3:13). وقد تعني حقبة زمنية (تك 2:4 والجامعة 12:3) .

فلماذا يُغفل د. بوكاي ذكر هذه الحقائق؟ لقد ورد ذكر ستة أيام الخلق ويوم الراحة السابع في تكوين 1 وبعدها يقول تكوين 2:4 هذِهِ مَبَادِئُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ، يَوْمَ عَمِلَ الرَّبُّ الإِله الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ . وكلمة يوم هنا تعني كل زمن الخليقة. وفي الجامعة 12:3 يقول: فِي يَوْمٍ يَتَزَعْزَعُ فِيهِ حَفَظَةُ البَيْتِ، وَتَتَلَوَّى رِجَالُ القُوَّةِ، وَتَبْطُلُ الطَّوَاحِنُ لِأَنَّهَا قَلَّتْ، وَتُظْلِمُ النَّوَاظِرُ مِنَ الشَّبَابِيكِ . وهذا كلام رمزي، يمكن ترجمته تفسيرياً كالآتي: سيأتي يوم تصطك فيه ركبتاك من كِبر السنّ، وتصبح ساقاك ضعيفتين .. إلخ . وتجيء كلمة يوم هنا وصفاً لمرحلة الشيخوخة.

وقول د. بوكاي إن كلمة يوم العربية يمكن أن تشير إلى حقبة ليس جديداً، فقد سبقه القديس أغسطينوس إلى ذلك في القرن الرابع وقال إن يوم الخليقة عظيم ورائع حتى إنه لا ينقسم بشروق الشمس، بل بتقسيم الله. إنها أيام إلهية لا شمسية.

جاء في كتاب العلم الحديث والإيمان المسيحي (12) (نُشر عام 1948) أن يوم الخليقة هو حقبة زمنية، سُمّي نظرية يوم الدهر .

وكتب مفسر يهودي معاصر هو أندريه نِهِر (13) يقول:

في تكوين 1 جاءت كلمة يوم بثلاثة معانٍ. في آية 4 يتطابق اليوم مع النور، وبالحري تُطلق كلمة يوم على النور، ولكلمة يوم معنى كوني. أما في آية 14 فإن كلمة يوم تحمل معنى فلكياً، من شروق الشمس إلى شروقها التالي. أما المعنى الثالث فهو حقبة تتلوها حقبة أخرى. وعليه فإن أيام الخليقة ليست 24 ساعة، بل حقب متتالية .

من كل هذا نرى أن د. بوكاي اختار أسلوب الهجوم، وأغفل كل هذه النقاط المضادة لفكره، ليبرهن وجود تناقض بين الكتاب المقدس والعِلم.

الماء و الدخان

ونقدم نموذجاً آخر لأسلوب الهجوم وأسلوب التوفيق كما جاء بكتاب د. بوكاي من جانب، وكتاب تكوين وأصول الأرض للكاتبين نيومان وإكلمان من جانب آخر، والذي أوضحا فيه حقائق تبرهن أن قصة الخلق كما جاءت في سفر التكوين تتوافق مع العلم الحديث. نتأمل أولاً آية من الكتاب المقدس عن الماء، استخدم د. بوكاي معها أسلوب الهجوم، واستخدم الكاتبان نيومان وإكلمان معها أسلوب التوفيق:

الماء: التوراة، تكوين 1:1و 2

فِي البَدْءِ خَلَقَ اللّه السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللّه يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ المِيَاهِ .

 أسلوب الهجوم من د, بوكاي:

أسلوب التوفيق من د. نيومان ود. إكلمان (14):

نستطيع أن نقبل تماماً أن في مرحلة ما قبل خَلق الأرض، كان ما سيصبح الكون كما نعرفه غارقاً في الظلمات. ولكن الإشارة إلى المياه في تلك المرحلة أمر رمزي صرف وربما كان ترجمة لأسطورة. وسنرى في الجزء الثالث من هذا الكتاب أن هناك ما يسمح بالاعتقاد بوجود كتلة غازية في المرحلة الأولى لتكوّن الكون. إن القول بوجود الماء في تلك المرحلة غلط (ص 41).

لكلمة ماء ومياه معنى أوسع مما تراه العين أول وهلة، فهي تصف سوائل متنوعة. فكلمة ماء تعني البول (2 ملوك 18:27) وتعني المني (إشعياء 48:1) وتعني حالة الماء كبخار أو قطرات (2 صموئيل 22:5 وأيوب 26:8 و36:27 و28 وإرميا 51:16) أو كثلج (أيوب 37:10 و38:30). فمعناها في تكوين 1:2 غير محدد: قد يكون بخاراً أو سحاباً أو قطرات أو ثلجاً، أو أي سوائل أخرى. على كلٍّ من هذه كان يمكن أن روح الله يرفّ . ويتفق هذا مع النظريات العلمية، فالغيمة السديمية قد تحتوي على بخار. وهناك احتمال أن المياه تعني كيماويات داخلة في تكوين السحب.

الدخان: سورة فصلت 41 آيات 9-11

قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ .

الصفحة الرئيسية