الفصل الثاني

هل توجد مشاكل علمية في القرآن؟

(أ) الأرض والسماوات،

وأيام الخليقة: ستة أم ثمانية؟

1 - الجبال:

خصص د. بوكاي صفحات 206-208 من كتابه ليتحدث عن تضاريس الأرض وناقش الآيات القرآنية التي تحدثت عن الجبال، وقال: يصف علماء الجيولوجيا الحديثون تعرُّجات الأرض بأنها تثبّت الأجزاء البارزة التي تتراوح أبعادها من الكيلومتر إلى عشرة كيلومترات، ومن ظاهرة التعرج هذه ينتج ثبات القشرة الأرضية . ويقتبس من سورة الأنبياء 21:31 (وهي من العهد المكي الوسيط) وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ومن سورة النحل 16:15 (من العهد المكي المتأخر) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ومن سورة لقمان 31:10 (من العهد المكي المتأخر) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ومن سورة النبإ 78:6 و7 (من العهد المكي المبكر) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَاداً وَالجِبَالَ أَوْتَاداً ويقول: والأوتاد المشار إليها هنا هي تلك التي تُستخدَم في تثبيت الخيام في الأرض (ص 208). ويقتبس من سورة الغاشية 88:19 و20 .. وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ .

وتقول هذه الآيات إن الله أرسى الجبال في الأرض كأوتاد خيمة ليحفظها من أن تميد (أي تميل وتضطرب).

ويعلّق د. دافيد يونج على ما اقتبسناه من د. بوكاي في مطلع كلامنا هنا بالقول:

صحيحٌ أن سلاسل جبال كثيرة تكوَّنت من صخور متعرجة، ولكن ليس صحيحاً أن هذه التعرجات تثبت الأجزاء البارزة. بل إن وجود هذه التعرجات دليل على عدم ثبات أديم الأرض (3).

وهذا يعني أن الجبال لا تحفظ الأرض من أن تميل، بل إنها تجعل سطح الأرض يهتزّ! وتقترح النظريات الجيولوجية الحديثة أن أديم الأرض الصلد مكوَّن من أجزاء أو طبقات تتحرك مع بعضها ببطء، بسرعة تعادل سرعة نمو الأظافر. وتنفصل الطبقات أحياناً. ويعتقد معظم الجيولوجيين أن هذا يوضح انفصال أمريكا الشمالية والجنوبية عن قارتي أوربا وأفريقيا. وفي بعض أنحاء الكرة الأرضية تتصادم هذه الطبقات وتنبعج وتتغضَّن وتنزلق فوق بعضها. وتجد هذا في الشرق الأوسط حيث كان تحرُّك شبه الجزيرة العربية نحو إيران سبباً في ظهور سلسلة جبال زاجروس، وجبال أطلس في المغرب، وجبال الألب التي تكوَّنت بسبب تحرك الطبقات الأرضية. وفي أنحاء كثيرة من العالم يشهد المسافر تلالاً من طبقات حجر جيري كانت سابقاً في وضع أفقي في البحار منذ دهور، ولكنها قائمة اليوم بزوايا 30 و50 وحتى 90 درجة. والرسم البياني 7 يبيّن مثل هذا النوع من التكوين.

رسم بياني 7

وقد كتب ابن سينا في كتاب الشفاء (412 هـ ، 1021م) ملاحظاته عن هذه الطبقات، قال ما معناه:

من الممكن أنه في كل مرة انحسر فيها البحر ترك طبقة، لأننا نرى الجبال تكوّنت من طبقات، فمِن المحتمل أن الطين الذي تكونت منه كان يوماً ما مرتَّباً في طبقات، تكونت طبقة منه أولاً، ثم في أزمنة مختلفة جاءت عليه طبقة تبعتها طبقة ثالثة، وهكذا.. (4).

وفي بعض الأحيان تتماسك الطبقات معاً وتتوقف عن الانزلاق. وعندما تعجز قوى الاحتكاك عن العمل تبرز الطبقة المتماسكة بضغط قوي متواصل محدثة هزّة هائلة. وفي زلزال حديث في سهل كوكوز في مكسيكو قفزت طبقة متماسكة إلى الأمام مسافة ثلاثة أمتار. وأثناء هزات أرضية أخرى قفزت طبقات أرضية إلى أعلى أو إلى أسفل، ففى عام 1923 حدثت هزة أرضية في خليج سَجَمي دمرت نصف مدينة طوكيو، فقد انخفض قاع المحيط في الشمال الغربي 140 متراً، وانخفض في منتصفه 180 متراً، وانخفض 200 متراً في الطرف الجنوبي الشرقي. وارتفع القاع في الشمال الشرقي 250 متراً، وارتفع في الجنوب الغربي مئة متر! (5)

ومع أن ابن سينا كان يظن أن الهزات الأرضية تنتج عن رياح قوية تحت الأرض، إلا أنه أحسن وصف التأثيرات التي ذكرناها بقوله:

هناك سبب رئيسي لتكوين المرتفعات، فإن الريح، في حالة الزلازل الأرضية العنيفة، تسبّب ارتفاع أجزاء من الأرض، فتتكون المرتفعات (6).

وهناك أنواع أخرى من الجبال تكوّنها البراكين، إذ تقذف الأرض الحمم، حتى من قاع البحار، فتصبح جبالاً، فقد برزت مرتفعات هاواي من عمق محيط قدره كيلومتر ونصف لتصير جبالاً ارتفاعها 2ر4 كيلومتراً. وأحياناً ينفجر بركان (كما حدث في جنوب الباسفيكي) فأطاح بجزيرة كاملة وقتل 36 ألف نفس. وأحياناً تتسبب البراكين في زلازل تدمر مدناً محيطة بها. فقد دُمرت مدينة كاتانيا (بجوار جبل أطنة في صقلية) ثماني مرات منذ حدث تسجيل للتاريخ. ولا زالت تلك المرتفعات (بارتفاع ثلاثة كيلومترات) نشطة. وفي عام 1983 سُجلت مائتا هزة أرضية، وثارت الحمم حتى دمرت عدة قرى.

ونستخلص من هذه المعلومات أن الجبال تكونت من الاهتزازات الأرضية، كما أن ثورة البراكين تسبب الزلازل. و قد ناقش د. تركي هذه الآيات القرآنية (7)، وبذل جهداً كبيراً في محاولة التوفيق بينها وبين العلم الحديث، ولكنه انتزع تلك الآيات من قرائنها. وبعد عدة فقرات من شرح حركة أديم الأرض، والقول إن هذه الحركة تكون عدة سنتيمترات سنوياً، قال إن هذا ما جاء في سورة النمل 27:88 (وهي من العهد المكي الوسيط) وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ولكن الآية السابقة لها تقدم معنى آخر، فهي تقول: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ (سورة النمل 27:87 و88).

وواضح أن النفخ بالصور خاص باليوم الآخِر، فتمرّ الجبال مر السحاب. فلا نرى لهاتين الآيتين علاقة بالجيولوجيا. وقد يحاول الفقهاء والعلماء المسلمون أن يفترضوا افتراضات أساسية بخصوص تكوين الجبال واهتزاز الأرض، ولكنهم بغير شكٍ يواجهون مشكلة!

2 - سبع سماوات:

تحدث القرآن في بضع آيات عن سبع سماوات. وقد اقتبس د. تركي هذه الآيات وتحدث عنها:

سورة نوح 71:15 و16 (من العهد المكي المبكر): أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً .

سورة المُلك 67:3 (من العهد المكي الوسيط): ا لَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ .

سورة المؤمنون 23:17 و86 (من العهد المكي المتأخر): وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخَلْقِ غَافِلِينَ.. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ .

سورة فصلت 41:12 (من العهد المكي المتأخر): فَقَضَاهُّنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا .

سورة الإسراء 17:44 (وتعود للسنة الأولى للهجرة): تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السََّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ .

سورة البقرة 2:29 (وتعود للسنة الثانية للهجرة): هُوَ الذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ا سْتَوَى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

وعندما يقرأ المرء هذه الآيات يرى فيها معناها الرمزي، ولكن د. تركي حاول أن يرى توافقها مع العلوم الفلكية الحديثة، فبدأ بالغلاف الجوي وسُمكه نحو 40 كيلومتراً، وقال إنه السماء الأولى. ثم ضاعف هذا عشرة آلافمرة، وقال إنه السماء الثانية، سماء القمر. ثم ضاعف هذا عشرة آلاف مرة، وقال إنه السماء الثالثة، سماء الشمس. وجعل يضاعف الرقم كل مرة عشرة آلاف مرة، متحدثاً عن سماء النجوم الأقرب، ثم سماء المجرة (لأنها نحو حجم مجرتنا) ثم سماء أقرب المجرات وأخيراً السماء الكونية .

وقد تبدو تقسيمات د. تركي السبعة صحيحة عددياً، ولكنها غير مُقنعة. فتسمية الغلاف الجوي للأرض بالسماء الأولى قد يكون صحيحاً، لكن بقية التسميات مجازية لأن الفضاء ممتد ومتشابه، كما يقول د. تركي نفسه.

فهو يفترض أساساً إمكانية فصل سماء القمر عن سماء الشمس، ويفترض إمكانية فصل الشمس (وهي نجم) عن النجوم القريبة وعن المجرة التي تحتويها، ويفترض تسمية مجرتنا سماءً والمجرات الأخري سماءً أخرى. ومضاعفة الرقم عشرة آلاف مرة أمر جزافي أيضاً لا برهان علمي عليه، ولا يوحي ب الأعداد المقدسة 7 و19 التي ذكرها د. تركي.

ولا غبار على عمل افتراضات أساسية، فقد قصدت بكتابة هذا الفصل أننا جميعاً نفترض افتراضات أساسية، ولكننا لا نقتنع علمياً من افتراض أساسي. كما أن افتراضات د. تركي تناقض آيات قرآنية أخرى، منها:

سورة الصافات 37:6 (من العهد المكي المبكر): إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةِ الكَوَاكِبِ .

سورة فصلت 41:12 (من العهد المكي المتأخر) فَقَضَاهُّنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً .

سورة المُلك 67:3 و5 (من العهد المكي الوسيط) ا لَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً,,, وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ .

وقال د. تركي إن المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا هي الكواكب، وهذا يناقض ما سبق أن قاله عن أن النجوم أو الكواكب هي السماوات الخمس الخارجية!

وقد تحدث الكتاب المقدس عن السماوات في نحو 700 آية، ولا يذكر للسماوات عدداً إلا مرة واحدة في 2كورنثوس 12:2-4 أَعْرِفُ إِنْسَاناً فِي المَسِيحِ قَبْلَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً. أَفِي الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ، أَمْ خَارِجَ الجَسَدِ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. اللّه يَعْلَمُ. اختُطِفَ هذَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ. وَأَعْرِفُ هذَا الإِنْسَانَ,,, أَنَّهُ اختُطِفَ إِلَى الفِرْدَوْسِ، وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لَا يُنْطَقُ بِهَا، وَلَا يَسُوغُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا .

وواضح أنه يتكلم عن أمور روحية، لا شأن لها بالخليقة المادية، فما معنى أن يقول إنه اختُطف إلى مكان ما من المجرات؟!

3 - الشهب والنيازك والحجر النيزكي:

سبق وذكرنا هذه الفكرة في الفصل 2 من القسم الأول، والآن نتأمل الآيات القرآنية في هذا الموضوع:

سورة الصافات 37:6-10 (من العهد المكي الأول) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةِ الكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ .

سورة الجن 72:8 و9 (من العهد المكي المتأخر) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً .

سورة المُلك 67:5 (من العهد المكي الوسيط) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ .

سورة الحِجر 15:16-18 (من العهد المكي المتأخر) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَاٍن رَجِيمٍ إِلاَّ مَنِ ا سْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ .

سورة الطارق 86:2 و3 (من العهد المكي المبكر) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ .

وهناك نوعان لما يُسمى الشهاب الثاقب : النيازك والحجارة النيزكية.

(أ) النيازك: وهي الأعم، ولا يزيد حجمها عادة عن رأس الدبوس. وعندما تدخل الغلاف الجوي للأرض بسرعة 30 كم في الثانية ترتفع حرارتها وتحترق. أما أصغرها (وقطره واحد على 20 من المليمتر) فتقل سرعته دون أن يحترق، وينزل ببطء للأرض في صورة نيازك دقيقة. وقد عُثر على نيازك دقيقة فوُجد أنها تحتوي على حديد ونيكل، ونسبة النيكل فيها 60%.

وقد تسقط عدة نيازك معاً في وقت واحد، والأغلب أنها تكون حطام أحد المذنّبات. فإذا مرَّت الأرض وسط الحطام فإنه يظهر للعين كأن النيازك تسير في خط متوازٍ، مع أنها قادمة من نقطة واحدة في الأفق، وهي تتكون من ماء متجمد ونشادر متجمدة وميثان وثاني أكسيد الكربون (8).

(ب) الحجارة النيزكية: وهي مواد صلبة تستمر أثناء اختراقها الغلاف الجوي للأرض، فتصل للأرض، ولو أن غلافها الخارجي ينصهر ويبتعد عنها، فتراها وكأنها كرة نار، وتُسمى الشهاب المتفجر . ولعل هذا ما قصده القرآن في سورة الطارق ب النجم الثاقب .

وهناك ثلاثة أنواع رئيسية من الحجارة النيزكية: (1) تلك المكونة من الحديد والنيكل، (2) الحجارة المكونة من السليكات، (3) الحجارة الحديدية المصنوعة من خليط من المواد. والضوء الصادر عنها يشبه الضوء المنبعث من الكواكب السيارة كما يُرى بالتلسكوب. وتجيئنا معظم الحجارة النيزكية من حزام الكواكب السيارة.

ولا صعوبة أمامنا في التكوين العلمي للنيازك أو الحجارة النيزكية، ولكن الصعوبة هي معرفة ما قصده القرآن بها. فسورة المُلك تقول إن الله زيَّن السماء بالمصابيح (النجوم) لرجم الشياطين. فكيف يرجم الله كائنات روحية هي الشياطين بشُهبٍ مادية مكونة من الحديد والنيكل؟ وماذا نفهم ونحن نرى الحجارة النيزكية القادمة علينا وكأنها في خطوط متوازية؟ هل نفهم أن الشياطين تقف في خطوط متوازية في تلك اللحظة؟

4 - تناقض في الزمن:

(أ) أيام الخَلق القرآنية:

تحدثنا في فصل 2 من الجزء الأول عن معنى كلمة دخان في علاقتها بأيام الخليقة. ونتأمل الآن في عدد تلك الأيام وتتابُعها. وفي القرآن سبع إشارات لخلق السماوات والأرض في ستة أيام، هي سورة الأعراف 54 وسورة يونس 3 وسورة هود 7 وسورة الفرقان 59 وسورة السجدة 4 وسورة ق 38 وسورة الحديد 4. ونكتفي هنا باقتباس سورة يونس 10:3 (من العهد المكي المتأخر) لأنها تحوي كل ما أوردته الآيات الأخرى من حقائق: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ا سْتَوَى عَلَى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ؟ .

وهذا كلام واضح، ولكن سورة فصلت 41:9-12 (من العهد المكي المتأخر) تقول: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ ا سْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ا ئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُّنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ .

وواضح أن هذه الآيات تقول إن الله خلق الأرض في يومين، وأقواتها في أربعة. والمجموع ستة أيام. وبعد أن خلق الجبال والأقوات من نباتات وحيوانات خلق السماوات السبع في يومين. فيكون المجموع الكلي ثمانية أيام.

لقد قال القرآن في سبع آيات إن أيام الخلق ستة، وفي فُصلت قال إنها ثمانية. فماذا نفعل؟ علينا أن نضع الشك في صف الكاتب، وليس في صفّنا. فلنفترض أساساً أن محمداً اعتبر بعض تلك الأيام متزامنة، فيكون مجموعها الكلي ستة. ولكن هذا الافتراض يتركنا مع مشكلة أخرى هي أن الأرض تكوّنت، وبردت، ونمت فيها أشجارها وحيواناتها قبل خلق السماوات، وهو ما تقوله أيضاً سورة البقرة 2:29 هُوَ الذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ا سْتَوَى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .

وواضح أن هذه العبارات القرآنية لا تتوافق مع نظريات العلم الحديث في بدء الكون. وسأترك لغيري أن يجد إجابة لهذه المشكلة.

(ب) أيام يونان بحسب الكتاب المقدس:

وقد يسأل القارئ: لماذا نضيّع وقتنا في أمر تافه كهذا؟.. والإجابة أن د. بوكاي يكتب صفحة كاملة في مشكلة مشابهة، فيقول (ص 83):

إنجيل متّى هو الذي يحتوي على هذا القول الذي يتميز بعدم معقولية لا جدال فيها من بين كل الأقوال التي وضعها كتّابُها على لسان المسيح نفسه. يسرد متى حادثة آية يونس (يونان) كما يلي (أصحاح 12:38-40): المسيح بين قوم من الكتبة والفريسيين يخاطبونه بهذه الألفاظ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً . فَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلَّا آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لِأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الحُوتِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ، هك ذَا يَكُونُ ابنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَثَلَاثَ لَيَالٍ .

ثم يقول د. بوكاي: يذكر متّى أن المسيح صُلب يوم الجمعة، وبقي في القبر ليلة الجمعة وكل يوم السبت وليلة الأحد، وقام في صباح الأحد. وهذا يعطينا ليلتين وأجزاء من ثلاثة أيام .

وكان المسيح قد تنبأ في أواخر الشتاء وأوائل الربيع لعام 29م، قبل الفصح اليهودي بقليل، أنه سيموت ويبقى في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. وبعد ذلك بستة شهور أعلن الأمر نفسه بتفصيل أكثر: مِنْ ذ لِكَ الوَقْتِ ابتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلَامِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي اليَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومَ (متى 16:21). وبعد ذلك بعشرة أيام كرر النبوة نفسها (متى 17:22 و23). وأخيراً عام 30م، قبل الفصح بعشرة أيام، وصف نفسه بأنه ابن الإنسان وقال لتلاميذه: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَابْنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِالمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى الأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي اليَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ (متى 20:18 و19).

ولا يرى د. بوكاي أن عبارتي في اليوم الثالث و ثلاثة أيام وثلاث ليال متساويتان، ويرى بينهما تناقضاً عظيماً. إنه يتغاضى عن حقيقة تنبُّؤ المسيح بموته وقيامته، ويهتم بأن حسابات المسيح خاطئة!

ولكن هل نحن متأكدون أن متّى أخطأ؟ ألا يليق بنا أن نضع الشك في مصلحة الكاتب، ونسأل متّى والمسيح ويهود القرن الأول المسيحي عمَّ يقصدونه بتعبير ثلاثة أيام وثلاث ليال بمقارنة ذلك بالتعبير وفي اليوم الثالث ؟

ويقول أ. ت. روبرتسون (9): العادة المعروفة عند اليهود أنهم يحسبون جزءاً من اليوم يوماً كاملاً.. وهكذا يكون جزءٌ من يوم الجمعة بمثابة يوم كامل، ويوم السبت يوم ثان، وجزء من يوم الأحد يوم ثالث .

ولا زال نفس الحساب سارياً في شمال أفريقيا، فإذا سألتُ مريضاً يوم الإثنين، بدأ مرضه مساء يوم السبت، عن مدة مرضه، يجاوبني: ثلاثة أيام مع أن المدة أقل من 48 ساعة. وهذا يشبه ما قاله المسيح.

ولو قرأ د. بوكاي بشارة متى بعناية أكبر لوجد عبارة ثالثة تقدم الجواب، فنقرأ في متى 27:62-64 وَفِي الغَدِ (السبت) الذِي بَعْدَ الا سْتِعْدَادِ اجتَمَعَ رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيُّونَ إِلَى بِيلَاطُسَ قَائِلِينَ: يَا سَيِّدُ، قَدْ تَذَكَّرْنَا أَنَّ ذ لِكَ المُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ. فَمُرْ بِضَبْطِ القَبْرِ إِلَى اليَوْمِ الثَّالِثِ.. .

إنهم يقتبسون قول المسيح بعد ثلاثة أيام أقوم . فهل فهموا أنه يقصد 72 ساعة؟ لا! فإنهم طلبوا حراسة القبر حتى ثالث يوم.

هذه العبارات الثلاث إذاً تساوي نفس المدة. فلنضع الشك في صف الكاتب كما قال أرسطو.

وهناك حقيقة روحية تُقنِع مسيحيين كثيرين: في بدء خدمة المسيح، نحو نهاية عام 26م أو بداية عام 27م حضر المسيح عُرساً في قانا الجليل، وطلبت أم يسوع منه أن يمدّ يد العون لأهل العرس بعد أن فرغ الخمر، فقال لها: لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ (يوحنا 2:4). وبعد هذا بثلاث سنوات، مساء الخميس قبل القبض عليه قال لتلاميذه قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ! هُوَذَا ابنُ الإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي الخُطَاةِ (مرقس 14:41).

أية ساعة؟ يفهم المسيحيون أنه يقصد ساعة آلامه وموته لأجل خطايانا. وقد بدأت الآلام ليلة الخميس لما أُلقي القبض على المسيح، بعد قوله قد أتت الساعة واستمرت آلامه بالضرب والتعذيب ثم موت الصليب والدفن، حتى قام. ومنذ أن قال: قد أتت الساعة مساء الخميس حتى قام قيامة عزيز مقتدر صباح الأحد، نجد ثلاثة أيام وثلاث ليال.

وسواء قبل القارئ هذا الاحتمال أو رفضه، فإني أفترض أن ثلاثة أيام وثلاث ليال تتساوى مع بعد ثلاثة أيام و في اليوم الثالث ,

(ب) عِلم التشريح، وعِلم الأجنَّة، وعِلم الوراثة

5 - مكان إنتاج المَنيّ:

ذكر لي أحد أصدقائي المسلمين ما جاء في سورة النساء 4:23 (وترجع إلى عام 5 أو 6 هـ ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ (للزواج).. حَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ (بخلاف أبنائكم بالتبنّي). وقال لي إن هذه معرفة سابقة بعلوم الطب الحديث، فإن خصية الذكر تتدلى من منطقة الكلى أثناء التطور الجنيني.

ولا نستطيع منطقياً أن نرفض هذه الفكرة، ولكني كطبيب أتساءل: لماذا يشير الله إلى حقيقة مبهمة كهذه في آيةٍ لا تناقش علم التشريح كبرهان على قوة الله الخالقة! لا شك أن الآية تستخدم تعبيراً لغوياً، فالقول إن الأبناء من الأصلاب يشير إلى مكان القوة. ونحن نستخدم التعبير ابن صُلبه كاستعارة ومجاز.

وهناك آية قرآنية أخرى في سورة الأعراف 7:172 (من العهد المكي المتأخر) تقدم استعارة أخرى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ.. والظهور في سورة الأعراف، كالأصلاب في سورة النساء إشارة إلى مكان القوة. ويقول علماء اللغات إن هذين تعبيرين معروفان في الحضارات القديمة بالشرق الأوسط.

ولئن وجد المسلم في هذه الآية دليلاً على سبق القرآن العلمي، فليعلم أن الفكرة موجودة بالتوراة، فالكلمة العبرية chalats هي نفسها الكلمة العربية أصلاب بمعنى مكان القوة. يقول النبي إشعياء تَنَطَّقْنَ عَلَى الأَحْقَاءِ chalats (32:11) ويقول النبي إرميا كُلَّ رَجُلٍ يَدَاهُ عَلَى حَقَوَيْهِ chalats (30:6) (بمعنى ظَهْر، أو وسط). وقال الله ليعقوب مُلُوكٌ سَيَخْرُجُونَ مِنْ صُلْبِكَ chalats (تكوين 35:11) ويقول لداود ابْنُكَ الخَارِجُ مِنْ صُلْبِكَ chalats هُوَ يَبْنِي البَيْتَ لا ِسْمِي (1 ملوك 8:19).

وفي العهد الجديد نجد كلمة يونانية تحمل نفس المعنى هي osphus استخدمها الرسول بطرس وهو يقتبس وعد الله للملك داود حلف له بقَسَمٍ أنه من ثمرة صُلبه osphus يقيم المسيح حسب الجسد ليجلس على كرسيه (أعمال 2:30).

وهناك مشكلة ثالثة: يستخدم القرآن (بخلاف الكتاب المقدس) كلمة صُلب في آية لا تسمح بتقديم تفسير يلطّف التعبير، وذلك في سورة الطارق 86:5-7 (وهي من العهد المكي المبكر) فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ .

وتتحدث هذه الآيات عن وقت التزاوج. فهي لا تتحدث عن زمن التطور الجنيني، بل عن خلق الإنسان من ماءٍ منصبّ باندفاع، يخرج من بين صلب الرجل (أي ظهره) وترائب المرأة (أي عظام صدرها) (التفسير لمحمد فريد وجدي، في كتابه المصحف المفسّر). والآية تقول إن المني يجيء من ظهر الرجل، أي منطقة الكلى، وليس من الخصية!

6 - عَلَقَة، وأطوار أخرى في تكوين الجنين:

جاءت كلمة علقة (بصيغة المفرد) خمس مرات في القرآن، وجاءت بصيغة الجمع عَلَق مرة واحدة، في خمس آيات قرآنية، لتصف مرحلة من مراحل نمو الجنين.

تقول سورة القيامة 75:37-39 (من العهد المكي المبكر) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى . وتقول سورة غافر 40:67 (من العهد المكي المتأخر) هُوَ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

وتضيف سورة الحج 22:5 (من العهد المكي والمتأخر والعهد المدني المبكر) بعض المعلومات، فتقول يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً.. ,

ولكن سورة المؤمنون 23:12-14 تقدم أكثر الآيات معالجة للموضوع (وهي من العهد المكي المتأخر) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ .

ويعرف كل دارس للأحياء أن لا وجود لمرحلة العلقة في تكوين الجنين، وهذا يخلق مشكلة علمية كبرى.

قال الراغب الأصفهاني في كتابه معجم مفردات ألفاظ القرآن عن علقة الدم الجامد، ومنه العلقة التي يتكون منها الولد، وعلِقت المرأة حبلت. والعَلَق التشبُّث بالشيء .

وكان أول ما أُنزل على محمد من القرآن في مكة سورة العلق 96:1 و2، وتقول فاتحتها ا قْرَأْ بِا سْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ .

ويقول د. بوكاي: علق تشير إلى ما يعلُق (ما يتشبَّث بالشيء). ذلك هو المعنى الأول. وجلطة الدم معنى مشتق من هذا المعنى (ص 231).

وينتقد د. بوكاي مترجمي القرآن إلى الإنكليزية والفرنسية في ترجمتهم لكلمة علقة فيقول:

فأكثر ما يُضل الباحث هنا أيضاً هو مشكلة المفردات. فالواقع أن ترجمات وتفسيرات بعض الفقرات التي ما زالت منتشرة في عصرنا تعطي لرجال العلم الذين يقرأونها فكرة مغلوطة تماماً عن الآيات الخاصة بهذا الموضوع. على سبيل المثال تقول معظم هذه التفسيرات بتشكُّل الإنسان ابتداءً من جلطة دم أو ابتداءً من التحام . وهذه المقولة لا يقبلها مطلقاً العالِم المتخصص في هذا الميدان.. مثل هذه الملاحظة تجعلنا نتصوَّر الأهمية الكبرى لاقتران المعارف اللغوية والمعارف العلمية للوصول إلى إدراك معنى المقولات القرآنية عن التناسل (ص 226 و227).

فكيف يريد د. بوكاي أن يترجموا كلمة علقة للإنكليزية أو الفرنسية؟.. يريدهم أن يترجموها التحام أو ما يعلق أو ما يتشبَّث بالشيء . ويقول يتحقق استقرار البويضة بالرحم بواسطة امتدادات حقيقية، كما لو كانت بذوراً تضرب في الأرض.. وهذه الامتدادات هي التي تجعل البويضة تتعلق بالرحم (ص 230).

وهذا الكلام ممكن، وهو أقرب لحقائق العلم. ولكن أين ذِكر البويضة؟ إن ما يتشبث بالشيء لا يتكون من السائل المنوي وحده، بل من اندماج نواة المني ونواة البويضة. وبالطبع فإن إغفال ذكر أمرليس بالضبط ارتكاب خطإ، ولكنه ينتقص من الحقيقة.

وثانياً: إن ما يتشبث بالشيء لا يتوقف عن التعلُّق حتى يصبح مُضغة ، ولكنه يستمر عالقاً مدة ثمانية أشهر ونصف حتى يولد.

وثالثاً: تقول تلك الآيات إن المضغة تصبح عظاماً، ثم يغطيها اللحم (العضلات). وهذا ما يتكرر في سورة البقرة 2:259 وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً . ويتضح من هذا أن الهيكل العظمي يتكون أولاً، ثم يكسوه اللحم، والحقيقة أن العظام واللحم يأخذان في التكوُّن في وقت واحد، وفي نهاية الأسبوع الثامن يكون الجنين قادراً على الإتيان ببعض الحركات العضلية، لأن الضلوع تصبح غضروفية، وتتواجد العضلات، ويبدأ تكوين العظام عند أطراف الضلوع وتنتشر في العمود إلى أن تصل إلى أطراف الغضروف في الشهر الرابع. وتكون العضلات قادرة على الحركة ببداية الأسبوع الثامن، ولو أنها منذ الأسبوع العاشر إلى الثاني عشر تتطور وتنمو.

فلو قلنا إن العلقة تصبح مضغة في الأسبوع الرابع، فإن العضلات تكون موجودة مع العظام، ولا تكسو عظاماً كانت موجودة من قبل، كما يقول القرآن. وتبقى المشكلة بغير حل.

ونكرر سؤالنا: هل كانت فكرة العلقة ثم المضغة المخلّقة معروفة مفهومة عند أهل مكة والمدينة لتكون لهم آية ؟ إن المرء لا يرى الجنين عند الإجهاض المبكر، ولا يرى ما يشبه المضغة إلا المشيمة البالغة من العمر شهرين. ترى ماذا فهم أهل مكة والمدينة من كل هذا ليدفعهم ويقنعهم ليؤمنوا بالقيامة؟

حديثان يذكران العلقة

الحديث الأول: عن أنس بن مالك أن جبريل أتى رسول الله وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب واستخرج منه علقة سوداء، فقال: هذا حظ الشيطان. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه، ثم أعاده في مكانه. وجاء الغلمان يسعون إلى أمه (يعني مرضعته حليمة) فقالوا: إن محمداً قد قُتل. فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنتُ أرى أثر ذلك المخيط في صدره (السيرة الحلبية 1:231).

ويظهر من هذا الحديث استعمالٌ مبكر لكلمة علقة استُخدمت لتعني كتلة دم سوداء، ولكنها لا تثبت المعاني المقترحة من د. تركي ولا د. بوكاي، ولا محمد أسعد.

أما الحديث الثاني فعن زيد بن وهب، قال عبد الله: حدّثنا رسول الله، وهو الصادق المصدوق، قال إن أحدكم يُجمَع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله مَلَكاً فيؤمر بأربع كلمات، ويُقال له: اكتُب عمله ورزقه وأَجَله وشقيٌّ أو سعيد، ثم يُنفخ فيه الروح. فإن الرجل منكم ليعمل حتى ما تكون بينه وبين الجنة إلا ذراع فيسبق عليه كتابه فيعمل بعمل أهل النار. ويعمل حتى ما يكون بينه وبين النار إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة (البخاري، كتاب بدء الخلق ج 4 ص 135 ط دار الشعب بالقاهرة - ومشكاة المصابيح حديث رقم 82 - متفق عليه).

وهذا الحديث عن محمد، وقد رواه البخاري ومسلم، وأخطاؤه واضحة في القول إن المني يبقى 40 يوماً، ثم العلقة 40 يوماً (ومجموعهما 80 يوماً). ثم المضغة 40 يوماً (ومجموعهم 120 يوماً). وقد أثبت العلم الحديث أن الجرثومة المنوية تبقى حية لمدة أقل من أسبوع داخل المرأة، وأن في مدة 70 يوماً تكون أعضاء الجنين قد نمت وتطورت، ما عدا المخ والعظام. ولكن هذا الحديث يقول إن الجنين لا يصير مضغة إلا بعد 80 يوماً، وهو خطأ علمي. ويذكر د. بوكاي هذا الحديث ويقول وصف تطور الجنين في هذا الحديث لا يتفق مع المعلومات العلمية الحديثة (ص 281).

ولا يساعدنا هذا الحديث في تحديد معنى كلمة علقة ولكنه يرينا ما كان العامة يؤمنون به في عصر محمد، ولو أنه يواجهنا بمشاكل فقهية متعددة.

المشكلة الفقهية

هل الأخطاء العلمية في حديث تضعف التعاليم الفقهية الواردة فيه؟ وإن كان حديث ما ضعيفاً أو مدسوساً، فكيف نضمن صدق أي حديث آخر؟ وكيف نتأكد أن النقل صحيح لأي حديث؟ وماذا نقبل من الحديث إن كان ذلك الحديث لا يقدم إلا معرفة محمد ومداركه العلمية؟؟

7 - مدة الحَمْل:

تقدم الآيات القرآنية التالية معلومات وأمراً بخصوص مدة الرضاعة:

سورة لقمان 31:14 (من العهد المكي المتأخر) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ (فطامه) فِي عَامَيْنِ أَنِ ا شْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِليَّ المَصِيرُ .

سورة البقرة 2:233 (وتعود إلى عام 2 هـ ) وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ .

سورة الأحقاف 46:15 (من العهد المكي المتأخر) وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ (فطامه) ثَلاَثُونَ شَهْراً .

ولا مشكلة أن ترضع الأم طفلها مدة سنتين، إن استطاعت. والأطباء اليوم يوصون بالرضاعة الطبيعية ليحصل الطفل على غذائه نقياً. وتعطي سورة الأحقاف 15 مدة 30 شهراً للحمل والرضاعة. فهل يقصد أن مدة الحمل ستة شهور؟ وقد أحسَّ عبد الله يوسف علي بالمشكلة، فذكر أن أقل مدة للحمل هي ستة شهور ليكون المولود قابلاً للحياة والنمو.

وتمضي الأحقاف 46:15 لتقول وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي (ألهِمني) أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِي أَنْعَمْتَ عَليَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المُسْلِمِينَ

ويبدو من الآية أن 40 سنة هي متوسط العمر العادي وقتها. فإن كانت مدة الرضاعة العادية (بحسب القرآن) سنتين، ومتوسط العمر وقتها 40 سنة، تكون مدة الحمل المذكورة (وهي ستة شهور) هي العادية، وليست تسعة شهور. مع أن الحمل الذي يستمر ستة شهور هو غير العادي!

8 - الوراثة، والصفات المكتسَبة:

(أ) علم الوراثة ولبن الأم:

كانت حضارات كثيرة ماضية تؤمن أن ما تراه الأم أو تفعله يؤثر في وليدها. ومنذ مئة سنة كان أهل الولايات المتحدة الأمريكية يعتقدون أن الأم التي ترى أرنباً أثناء حملها تلد طفلاً مشقوق الشفة كالأرنب! ولا زال تعبير شفة الأرنب مستخدماً في الكتب الطبية الأمريكية عن الشفة المشقوقة.

ويبدو أن القرآن يحوي أحد الأفكار القديمة، ففي سورة النساء 4:23 (وتعود إلى عام 5 أو6 هـ ) نقرأ قائمة بالنساء التي يُحرَّم على الرجل الزواج بهن، ومنهن حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ,,, أُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ,,, وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ (بخلاف زوجات الأبناء بالتبنّي المسموح بالزواج منهن في سورة الأحزاب 37).

ويؤكد د. بوكاي حقيقة علمية هي أن ما نرثه من صفات تحكمه الجينات فقط التي نأخذها من آبائنا وأمهاتنا. ولا تصلنا أية صفة وراثية من الرضاعة أو من المرضعات. ولا علاقة مطلقاً بين ولدٍ رضع من مرضعة والابنة الجسدية لتلك المرضعة، وعليه فلا يوجد سبب علمي يمنع زواج الولد الذي رضع من مرضعة أن يتزوج بابنة مرضعته.

يمكن أن يُقال إن في هذا المنع تكريمٌ للمرضِعة، ولكن لم يكن هذا هو السبب الذي جعل القرآن يحرم هذا الزواج، فالسبب الواضح أن الرضاعة تجعل الذي رضع قريباً للمرضعة. جاء في البخاري (كتاب النكاح، ج 7 ص12) أن النبي قال لعائشة الرضاعة تحرّم ما تحرم الولادة ولكنها تسمح بزيارة الأخت في الرضاعة وهي غير محجَّبة. ولله الحرية في التشريع، ولكن هذا لا يتوافق مع معرفتنا العلمية في الوراثة!

(ب) الوراثة والأغنام الرقطاء في التوراة:

جاءت في سفر التكوين 30:32-31:13 قصة عن يعقوب، حفيد إبرهيم الخليل، تُظهر أن ما كان يعقوب يعتقده يخالف العلم الحديث. فقد كان يعتقد أن ما تراه الغنم يؤثر في نوعية وليدها. وتقول القصة إن لابان (خال يعقوب وحماه في الوقت نفسه) طلب من يعقوب أن يحدد أجرته، فطلب يعقوب أن يأخذ كل أرقط وأبلق من الغنم، فوافق خالُه.

وأخذ يعقوب قضبان حورٍ خُضراً ولوزٍ ودِلبٍ، وقشَّر فيها خطوطاً تكشف عن بياض القضبان، وأوقف القضبان المقشرة تجاه الغنم في أحواض مجاري الماء حيث كانت الغنم ترد لتشرب. فكانت الغنم تتوحم على القضبان .

كانت معلومة يعقوب العلمية خاطئة، ولكن الله لم يتركه لخطإ ظنونه، بل أوضح له حقيقة روحية، قال بعد معرفتها لزوجتيه: قال لي ملاك الله في الحلم: يا يعقوب، ارفع عينيك وانظر. جميع التيوس التي تشبّ على الغنم مخططة ورقطاء ونمراء، لأني رأيت كل ما يفعله لابان بك. أنا إله بيت إيل حيث نصبتَ عموداً ومسحتَه بالزيت لتكرّسه لي، ونذرتَ لي نذراً. والآن قم اخرُج من هذه الأرض وارجع إلى أرض مولدك .

ولكي ندرك عظمة هذه المعجزة، يجب أن نعرف أن العيون الزرقاء صفة وراثية ناشئة عن جين ذي فعالية أضعف من جين آخر. وهكذا الحال مع الغنم الرقطاء. ففي الظروف العادية من التزاوج المختلط تكون 25% من الغنم ذات جينين متشابهين لتنتج اللون الواحد، و25% من جينين متشابهين لتنتج الأرقط، بينما 50% تكون ذات جين واحد تنتج اللون الواحد، وجين آخر للأرقط. وهذه ال50% تكون أيضاً ذات لون واحد لأن جين اللون الواحد هو الغالب، تاركاً جين الأرقط في الظلال. والتزاوج العادي الذي يحدث مصادفة (25% - 50% - 25%) بين الكباش والنعاج يستمر في إنتاج 25% من الغنم الرقطاء.

وعندما استبعد لابان الأرقط (وعدده 25%) ترك قطيعاً ثلثه من لون واحد وثلثاه مختلط (أو ذو جين واحد). وكان يمكن أن هذا يُنتج عكس ما أراده يعقوب، فيعطيه نحو 17% فقط من الغنم الأرقط. وهنا تدخَّل الله بمعجزة ليعطي يعقوب ما لا تقدر الطبيعة أن تعطيه!

ولهذا التصنيف نتيجة تستمر وقتاً أطول، فكل الأغنام الوليدة من اللون الواحد تكون ذات جين واحد مع جين مختفٍ من الغنم الرقطاء التي لقَّحت الأنثى، مما يزيد عدد المواليد ذات اللون الواحد في موسم الولادة التالية بنسبة 75% فتكون نصف الخراف المولودة رقطاء، مما يضاعف أجر يعقوب.

وهكذا ترى أنه بالرغم من جهل يعقوب العلمي عام 1700 ق م، يظل ما جاء في الكتاب المقدس صحيح علمياً.

9 - مشاكل أخرى:

ويمكن أن نتحدث عن مشاكل أخرى جاءت في سورة النحل 1:66 (من العهد المكي المتأخر) حيث نقرأ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ . فهل يجيء اللبن من بين الفرث والدم؟

ومشكلة أخرى في السورة نفسها، الآية 69 يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا (النحل) شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ (العسل) فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ . فما معنى أن العسل يخرج من بطون النحل؟ وما هي الأمراض التي يشفي العسل منها؟

وتأمل سورة الأنعام 6:38 (وهي من العهد المكي المتأخر) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ.. . فما معنى أمم أمثالكم ؟ يقول د. بوكاي إن المقصود هو النحل، ولا شك أن النحل أمة، ولكن ماذا عن العنكبوت الذي تأكل أنثاه الذكر بعد التلقيح، فهل هذه أمة مثلي ومثلك؟

وخُذ ما جاء في سورة الفرقان 25:45 (وهي من العهد المكي المبكر) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً . فهل تتحرك الشمس لتدل على الظل؟ إن دوران الأرض هو الذي يطيل الظل أو يقصّره! إن ما يقوله د. بوكاي دفاعاً عن هذه الآيات لا يُقنع أحداً.

10 - المسلمون في المنطقة القطبية الشمالية، وصلاة رجال الفضاء:

المشكلة الأخيرة التي أذكرها هي الحقائق التي أغفلها القرآن، مع أنه يقول إن فيه الهدى والنور للعالمين، ولكن لا يوجد إنسان في المنطقة القطبية الشمالية يمكن أن يكون مسلماً! وقد يعترضني معترض بأن كل من يشهد الشهادتين يصبح مسلماً، ولكني أجيبه إنه إلى جوار هذا يجب أن يصوم رمضان. والمسلم المقيم في المنطقة القطبية الشمالية سيموت جوعاً لو جاء رمضان صيفاً، لأن الشمس لا تغرب أبداً. فسيظل ينتظر غروب الشمس ليفطر فيموت قبل أن تغرب! وسيقول المعترض: إذاً فليصُم ويفطر بحسب التوقيت في مكة أو استكهولم. ومع أن هذا منطقي إلا أن معظم المسلمين سيعترضون عليه لأنه فكر غير أصولي. ولا زال المسلمون يعتمدون على رؤية الهلال بالعين المجردة لبدء شهر الصوم أو نهايته. ومع أن الحساب الفلكي لظهور القمر صحيح تماماً، إلا أن القرآن يقول فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ (سورة البقرة 2:185).

وهناك مشكلة حديثة، فإن أحد رواد الفضاء السعوديين طار بارتفاع 200 كيلومتراً، بسرعة 29 ألف كيلو متر في الساعة، وكان يدور حول الأرض مرة كل 90 دقيقة. فكيف يؤدي صلواته اليومية الخمس والشمس تشرق وتغرب عليه 18 مرة كل 24 ساعة؟ وكيف يجعل مكة قبلته، والقبلة تتغير كل ثانية؟ وقد أفتى رجال الدين السعوديون بأن عليه أن يثبت قدميه في سفينة الفضاء ويصلي ثلاث مرات كل 24 ساعة، وهو قرار منطقي ولو أن ذكره لم يرد في القرآن.

ذكرت كل هذا لأن د. بوكاي كتب صفحتين يشرح فيهما كيف أن كلمة إنْ في سورة الرحمان 33 نبوة عن إمكان غزو الفضاء. ولكن قيمة هذا الشرح تتضاءل أمام الأسئلة التي أثرناها. أَمَا كان الأفضل أن تكون عندنا نبوة تجاوب على الأسئلة الأساسية!

ويقدم لنا الكتاب المقدس نبوات واضحة مفصَّلة، سنتأملها في فصلٍ قادم,

(ج) خرافات وقصص رمزية وتاريخ

11 - الأساطير، هل هي أمثال تعلم دروساً أخلاقية، أم هل هي خرافات خيالية؟

يبدو أنه لا مكان للحديث عن الخرافات في فصل يتحدث عن العِلم، ولكننا نضعه هنا لأننا سنتحدث عن التاريخ الصحيح كما سجله الكتاب المقدس أو القرآن. والتاريخ ينتمي للعِلم بمعناه الواسع.

ويدّعي د. بوكاي أن التاريخ الوارد في الكتاب المقدس غير صحيح، بل هو خرافات من خيال الرواة. ففي ص 20 تحت عنوان أصل الكتاب المقدس يقول:

كان الكتاب المقدس قبل أن يكون مجموعة أسفار تراثاً شعبياً لا سند له إلا الذاكرة، وهي العامل الوحيد الذي اعتمد عليه في نقل الأسفار..

ويلاحظ إدموند جاكوب أن تناقل هذه الأقوال كان يتم إما عن طريق الأسرة، أو عن طريق المعابد، في شكل روايات لتاريخ شعب الله المختار.

وقد تحوَّل هذا التاريخ بسرعة إلى حكاية كمَثَل يوثام (قضاة 9:7-21) عندما ذهبت الأشجار لتمسح عليها ملكاً، فتوجهت أولاً إلى الزيتونة، ثم إلى شجرة التين، ثم إلى الكرمة، ثم إلى العوسج .

وهذا ما سمح لإدموند جاكوب أن يقول إن الوظيفة الأسطورية في الرواية لم تعبأ بما يتعلق بموضوعات وعصور لم يكن تاريخها معروفاً جيداً .

والقول إن سفر القضاة ليس من الوحي، بل هو الرغبة في الوظيفة الأسطورية في الرواية، هو قول خاطئ تماماً. ويؤمن المسيحيون أن سفر القضاة الذي يذكر مثَل يوثام عن الأشجار يحتوي على تاريخ صحيح لأحداث جرت في القرن 12 ق م، تالية لأحداث سفر الخروج.

ويقول إ. جاكوب إنه في ذلك الوقت لم يكن هناك من يعبأ بموضوعات وعصور لم يكن تاريخها معروفاً جيداً. ويذكر القارئ أننا عندما درسنا هذا السؤال في الفصل الأول من جزء 3 عرفنا أن الكتابة كانت معروفة في تلك المنطقة منذ عام 2300 ق م، وأنه في القرن 13 (قبل كتابة سفر القضاة بمئة سنة) كانت هناك خمسة أنواع مختلفة من الكتابة معروفة في كنعان. ولا شك أن إ. جاكوب مخطئ في هذه النقطة.

والآن لنتأمل معنى خرافة أو أسطورة . جاء في سفر القضاة أصحاح 6 أن الله أمر رجلاً اسمه جدعون بن يوآش أن يهدم المذبح الذي بناه أبوه للصنم المعروف باسم البعل وأن يبني بدلاً منه مذبحاً للإله الواحد يهوه . وقد فعل جدعون هذا. وفي اليوم التالي جاء أهل المدينة ليوآش وقالوا: أَخرِج ابنك لنقتله لأنه هدم مذبح البعل وقطع السارية التي عنده . فقال: أنتم تقاتلون للبعل؟.. إن كان إلهاً فليقاتل لنفسه لأن مذبحه قد هُدم . ومنذ ذلك اليوم صار اسم جدعون يربّعل بمعنى ليقاتله البعل .

وفي الأصحاحين السابع والثامن من سفر القضاة نقرأ كيف استخدم الله جدعون و300 جندي معه ليرهِبوا جيشاً من عشرة آلاف مدياني، هربوا ليلاً وهم يقتلون بعضهم بعضاً! وبعد هذا الانتصار عاد جدعون لبيته في بلد اسمها عفرة، حيث أقام 40 سنة، وكان له سبعون ولداً. وكان له أيضاً ابن اسمه أبيمالك من سُرّيته، كان يسكن في شكيم.

وبعد موت جدعون قال ابنه أبيمالك لأهل شكيم: أَيُّمَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ: أَأَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ سَبْعُونَ رَجُلاً (هم أولاد جدعون) أَمْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ وَاحِدٌ؟ (الذي هو أبيمالك) (قضاة 9:2). فقرروا أن يتبعوا أبيمالك، وبمساعدتهم ومساعدة سكان القلعة ذهب أبيمالك إلى بيت أبيه في عفرة وقتل إخوته من أبيه، ولم يبقَ منهم إلا الأصغر واسمه يوثام لأنه اختبأ. واجتمع أهل شكيم ليملّكوا أبيمالك عليهم (قضاة 9:5 و6).

يوثام يحكي مَثَله

فوقف يوثام على رأس جبل جرزيم ونادى اِسْمَعُوا لِي يَا أَهْلَ شَكِيمَ يَسْمَعْ لَكُمُ اللّ هُ. مَرَّةً ذَهَبَتِ الأَشْجَارُ لِتَمْسَحَ عَلَيْهَا مَلِكاً. فَقَالَتْ لِلزَّيْتُونَةِ: ا مْلِكِي عَلَيْنَا. فَقَالَتْ لَهَا الزَّيْتُونَةُ: أَأَتْرُكُ دُهْنِي الذِي بِهِ يُكَرِّمُونَ بِيَ اللّه وَالنَّاسَ، وَأَذْهَبُ لِأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟ ثُمَّ قَالَتِ الأَشْجَارُ لِلتِّينَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا. فَقَالَتْ لَهَا التِّينَةُ: أَأَتْرُكُ حَلَاوَتِي وَثَمَرِي الطَّيِّبَ وَأَذْهَبُ لِأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟ فَقَالَتِ الأَشْجَارُ لِلْكَرْمَةِ: تَعَالَيْ أَنْتِ وَامْلِكِي عَلَيْنَا. فَقَالَتْ لَهَا الكَرْمَةُ: أَأَتْرُكُ مِسْطَارِي الذِي يُفَرِّحُ اللّه وَالنَّاسَ وَأَذْهَبُ لِأَمْلِكَ عَلَى الأَشْجَارِ؟ ثُمَّ قَالَتْ جَمِيعُ الأَشْجَارِ لِلْعَوْسَجِ: تَعَالَ أَنْتَ وَامْلِكْ عَلَيْنَا. فَقَالَ العَوْسَجُ لِلْأَشْجَارِ: إِنْ كُنْتُمْ بِالحَقِّ تَمْسَحُونَنِي عَلَيْكُمْ مَلِكاً فَتَعَالُوا وَاحْتَمُوا تَحْتَ ظِلِّي. وَإِلَّا فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنَ العَوْسَجِ وَتَأْكُلَ أَرْزَ لُبْنَانَ!

ثم مضى يوثام يقول: فَالْآنَ إِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِالحَقِّ وَالصِّحَّةِ إِذْ جَعَلْتُمْ أَبِيمَالِكَ مَلِكاً، وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ خَيْراً مَعَ يَرُبَّعْلَ وَمَعَ بَيْتِهِ. وَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ فَعَلْتُمْ لَهُ حَسَبَ عَمَلِ يَدَيْهِ - لِأَنَّ أَبِي قَدْ حَارَبَ عَنْكُمْ وَخَاطَرَ بِنَفْسِهِ وَأَنْقَذَكُمْ مِنْ يَدِ مِدْيَانَ - وَأَنْتُمْ قَدْ قُمْتُمُ اليَوْمَ عَلَى بَيْتِ أَبِي وَقَتَلْتُمْ بَنِيهِ، سَبْعِينَ رَجُلاً عَلَى حَجَرٍ وَاحِدٍ وَمَلَّكْتُمْ أَبِيمَالِكَ ابنَ أَمَتِهِ عَلَى أَهْلِ شَكِيمَ لِأَنَّهُ أَخُوكُمْ! فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ عَمِلْتُمْ بِالحَقِّ وَالصِّحَّةِ مَعَ يَرُبَّعْلَ وَمَعَ بَيْتِهِ فِي هذَا اليَوْمِ، فَافْرَحُوا أَنْتُمْ بِأَبِيمَالِكَ، وَلِْيَفْرَحْ هُوَ أَيْضاً بِكُمْ. وَإِلَّا فَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَبِيمَالِكَ وَتَأْكُلَ أَهْلَ شَكِيمَ وَسُكَّانَ القَلْعَةِ، وَتَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَهْلِ شَكِيمَ وَمِنْ سُكَّانِ القَلْعَةِ وَتَأْكُلَ أَبِيمَالِكَ .

ثُمَّ هَرَبَ يُوثَامُ وَفَرَّ وَذَهَبَ إِلَى بِئْرَ، وَأَقَامَ هُنَاكَ مِنْ وَجْهِ أَبِيمَالِكَ أَخِيهِ (قضاة 9:7 -21).

وواضح أن هذه الأسطورة مُثَلٌ يُعلِّم درساً أخلاقياً، ولكنها ليست تاريخاً مروياً كأسطورة. وهذه الخرافة أو الأسطورة تُروَى وسط أحداث تاريخية، دون أن تكون حدَثاً تاريخياً. ويقارن د. بوكاي بين تاريخ الكتاب المقدس وملحمة أنشودة رولاند (ص 22). ولكن قارئ مَثَل يوثام يقدر أن يقرأ القصة كاملة فيميّز بين التاريخ الحقيقي والأسطورة المروية معه، لتسوق درساً أخلاقياً لأهل ذلك الزمان ولنا نحن اليوم.

وقد أثبت رجال الحفريات صدق قصة جدعون، فقد كتب أستاذ الحفريات سيجفريد هورن عام 1968

أثناء اشتراكي في حفريات شكيم عام 1960 اكتشفنا أن المدينة وهيكل بعل بها تدمَّرا في القرن 12 ق م، وهو الوقت الذي دمرهما فيه أبيمالك ابن القاضي جدعون. والدليل هو قطع الفخار التي ترجع إلى عام 1150 ق م. وما أقوى تقارب البرهانين، من التاريخ الكتابي، ومن الحفريات (10).

الأحداثالقرآنية التاريخية،

هل هي أساطير؟

سليمان وملكة سبا:

جاء في سورة النمل 27:15-44 (من العهد المكي الوسيط) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحَمْدُ لِلَّهِ الذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ا دْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التِّي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لاَ أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ (الهدهد) أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ ا مْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ قَالَ (سليمان): سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الكَاذِبِينَ ا ذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ (الملكة): يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سَلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إلَِيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ا رْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ (سليمان): يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ (سليمان) مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِرُّوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا العِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ا دْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ (سليمان): إِّنَهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَواَرِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ .

هذه القصة عامرة بكلام الهدهد والنملة والعفريت من الجن، والإتيان بالعرش في طرفة عين. ويقدم حميد الدين ملحوظة يصف فيها العفريت بأنه نوع من الشياطين الشريرة الموجودة في كثير من القصص الخيالية!

فماذا يقول الكتاب المقدس عن سليمان والحيوان والطير؟

وَتَكَلَّمَ (سليمان) بِثَلَاثَةِ آلَافِ مَثَلٍ، وَكَانَتْ نَشَائِدُهُ أَلْفاً وَخَمْساً. وَتَكَلَّمَ عَنِ الأَشْجَارِ، مِنَ الأَرْزِ الذِي فِي لُبْنَانَ إِلَى الزُّوفَا النَّابِتِ فِي الحَائِطِ. وَتَكَلَّمَ عَنِ البَهَائِمِ وَعَنِ الطَّيْرِ وَعَنِ الدَّبِيبِ وَعَنِ السَّمَكِ. وَكَانُوا يَأْتُونَ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ لِيَسْمَعُوا حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ (1 ملوك 4:32-34).

ومع ذلك يقول د. بوكاي في كتابه الإنسان

لم أجد في أي آية قرآنية أية إشارة إلى خرافة أو أسطورة منذ وصوله للبشر، كما وجدت في الكتاب المقدس المكتوب بأقلام مؤلفين تكلموا بلغة العصور التي عاشوا فيها (11).

ولا يستطيع المسلم أن يضع قصة سورة النمل التي ذكرناها تحت باب المثَل أو الأسطورة التي تعلّم درساً لأن القرآن يذكرها كحادثة تاريخية، فإن القصة السابقة لها تذكر حادثة تاريخية هي رؤية موسى للعليقة المشتعلة بالنار، والقصتين التاليتين هما إرسالية النبي صالح إلى قبيلة ثمود، ثم حديث لوط إلى قومه، والقرآن يذكرهما في سور أخرى كأحداث تاريخية.

واضحٌ إذاً أن مَثَل يوثام عن حديث الأشجار يجيء بعد حادثة تاريخية هي قتل أولاد جدعون السبعين. وقد أدرك سامعو يوثام أنه يضرب لهم مثَلاً. أما قصة سليمان (في سورة النمل) فتجيء بين قصتين تاريخيتين، ولا تشير إلى أنها مذكورة كمَثَل.

وإن كان د. بوكاي حريصاً على دراسة مصادر الكتاب المقدس فقد كان حرياً به أن يدرس كتاب سنكلير تسدل مصادر الإسلام (12) الذي ذكر أن قصة سورة النمل عن سليمان مأخوذة عن الترجوم الثاني لسفر أستير، وتقول قصة الترجوم إن رِجلي ملكة سبإ كانتا مليئتين بالشعر كرِجلي رجل. وقد جاءت هذه الفكرة في الكتاب الإسلامي عرائس المجالس

موت سليمان:

ونورد أيضاً قصة القرآن عن موت سليمان كما جاءت في سورة سبإ 34:12-14 (وهي من العهد المكي المبكر) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القِطْرِ وَمِنَ الجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ا عْمَلوُا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ .

نرى هنا الملك سليمان يتكئ على عصاه، يراقب الجن وهم يعملون في خدمته. ومات وهو متكئ، دون أن يشعر بذلك أحدٌ من خدمه الذين يقدمون له الطعام، ولا أحد من قادة جيشه الذين يتلقون منه الأوامر، ولا أحد من نبلائه الذين يصادقونه، ولا حتى الهدهد الذي أحاط عِلماً لم يعلمه سليمان.. إلى أن قرضت دودة الأرض عصاه فسقط أرضاً.

ترى ما هو تعليق د. بوكاي على هذه القصة؟

ولكن اسمع ما يقوله الكتاب المقدس عن سليمان: وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ سَبْعُونَ أَلْفاً يَحْمِلُونَ أَحْمَالاً، وَثَمَانُونَ أَلْفاً يَقْطَعُونَ فِي الجَبَلِ، مَا عَدَا رُؤَسَاءَ الوُكَلَاءِ لِسُلَيْمَانَ الذِينَ عَلَى العَمَلِ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَ مِئَةٍ المُتَسَلِّطِينَ عَلَى الشَّعْبِ العَامِلِينَ العَمَلَ (1 ملوك 5:15 و16).

ويواجهنا سؤال أخلاقي: هل يخدع الله الجن ليسخّرهم ليخدموا سليمان؟ وهو نفسه السؤال الذي نثيره بخصوص صلب المسيح: هل يخدع الله البشر فيظنون أنهم صلبوا المسيح، بينما واقع الحال أنه شُبِّه لهم؟

تقول سورة آل عمران 3:52 و53 إن تلاميذ المسيح كانوا مؤمنين به، ولكن آية 54 تقول وَمَكَرُوا (اليهود الذين كفروا بالمسيح) وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ . والمكر هو الخدعة.

ويقول الإنجيل إن شيوخ اليهود بمكر أرادوا أن يلقوا القبض على المسيح سراً حتى لا يحدث شغب في الشعب. ولكن لماذا يخدعهم الله ليظنوا أنهم ملكوا مقصدهم، ثم يطلق على نفسه لقب خير الماكرين ؟ إن هذه الخدعة تخدع تلاميذ المسيح أيضاً، وهم من المؤمنين! كيف للإله الحق أن يفعل هذا؟

روايات متّى التي يستحيل تصديقها

يقول د. بوكاي (ص 82) إن متّى ألحق بكتابه روايات يستحيل بالدقّة تصديقها . فلنتأمل متى 27:50-53 فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ (وهو على الصليب)، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَإِذَا حِجَابُ الهَيْكَلِ قَدِ انشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، وَالقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَامَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ القِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ وَخَرَجُوا مِنَ القُبُورِ بَعْدَ قِيَامَتِهِ، وَدَخَلُوا المَدِينَةَ المُقَدَّسَةَ (أورشليم)، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ .

وتعال نرَ تعليق د. بوكاي على هذا: يقول ليس لهذه الفقرة من إنجيل متى مثيل في الأناجيل الأخرى (ص 82) بمعنى أنها وردت مرة واحدة. وينسى د. بوكاي إن إنكار صلب المسيح لم يأت في القرآن إلا مرة واحدة في سورة النساء 4:157!

ثم يقول: ولا نرى كيف استطاعت أجساد القديسين المعنيين أن تقوم عند موت المسيح، وألا تخرج من قبورها إلا بعد قيامة المسيح (ص 82 و83).

وللرد أقول: إنه بالرغم من أن الفقرة توحي بهذا المعنى الظاهري، إلا أننا يجب أن نضع الشك في مصلحة الكاتب. فلا شك أنه لم يقصد أن أولئك الأموات الذين قاموا ظلوا في قبورهم الباردة يرتعشون من يوم الجمعة إلى صباح الأحد. لقد قصد أن القبور تفتحت يوم الجمعة وأن الأموات قاموا يوم الأحد وقت أن قام المسيح، اشتراكاً معه في انتصاره على الموت.

صحيح أن التوراة والإنجيل كُتبا بلغة البشر الذين أتاهم الوحي الإلهي، ولكن الروح القدس عصمهم من خلط الخرافة والأسطورة البابلية أو الرومانية أو اليونانية بالوحي المقدس.

الصفحة الرئيسية