جميع القرائن

ولكي ندرس كل القرائن نحتاج أحياناً أن نجمع الجُمَل من فصول أخرى، أو كل الإشارات الواردة في الكتاب كله. وكمثال لذلك نذكر مقالاً للكاتب الأردني الأستاذ حسن عبد الفتاح كَتْكَت نُشر في مجلة منار الإسلام (يناير وفبراير 1981) عنوانه عُرف الرسول من قبل مولده اقتبس فيه برهاناً على دعواه ما جاء في التثنية 18:18 و19 قول الله في التوراة أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِي الذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ . ثم اقتبس جزءاً من التثنية 34:10 وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى.. . ثم لخَّص كلامه بأن: (أ) وعد الله أن يقيم نبياً آخر مثل موسى. (ب) ولم يقُم نبي مثل موسى. ثم استنتج الأستاذ كتكت أنه لما لم يقُم نبي مثل موسى في بني إسرائيل، تكون كلمة إخوتك تعني نسل إسمعيل وليس نسل إسحق، وتكون هذه نبوة عن محمد.

ولنعرف إن كان استنتاج الأستاذ كتكت صحيحاً يلزمنا أن نعرف كيف استعملت التوراة التعبير إخوتك وكيف وصفت موسى. ولما ندرس التوراة نجد معلومات أخرى عن الموضوع. فلو درسنا التثنية 18:15-18 لوجدنا 15 يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهكَ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي. لَهُ تَسْمَعُونَ. 16 حَسَبَ كُلِّ مَا طَلَبْتَ مِنَ الرَّبِّ إِلهكَ فِي حُورِيبَ (أي جبل سيناء) يَوْمَ الاجْتِمَاعِ قَائِلاً: لَا أَعُودُ أَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلهي وَلَا أَرَى هذِهِ النَّارَ العَظِيمَةَ أَيْضاً لِئَلَّا أَمُوتَ 17 قَالَ لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. 18 أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ.. . ومن هذه القرينة نفهم أن موسى كان يكلم بني إسرائيل الذين سمعوا صوت الله على جبل سيناء، ووعدهم أن يجيب طلبهم. وهذا يعني أن إخوتك تعني بني إسرائيل وحدهم الذين كانوا حاضرين يوم الاجتماع . كما أن الأصحاح السابق (تثنية 17:14 و15) يوضح لنا أكثر ما هو المقصود بالعبارة من بين إخوتك فيقول:

مَتَى أَتَيْتَ إِلَى الأَرْضِ التِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهكَ، وَامْتَلَكْتَهَا وَسَكَنْتَ فِيهَا، فَإِنْ قُلْتَ: أَجْعَلُ عَلَيَّ مَلِكاً كَجَمِيعِ الأُمَمِ الذِينَ حَوْلِي. فَإِنَّكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً الذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهكَ. مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِكَ تَجْعَلُ عَلَيْكَ مَلِكاً. لَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْكَ رَجُلاً أَجْنَبِيّاً لَيْسَ هُوَ أَخَاكَ . وهذا يوضح أن الأخ إسرائيليٌّ وليس إسماعيلياً.

والفكرة نفسها موجودة في سورة الأعراف 7:65 و73 وَإِلَى عَادٍ (أرسلنا) أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ ا عْبُدُوا اللَّهَ,,, وَإِلَى ثَمُودَ (أرسلنا) أَخَاهُمْ صَالِحاً . ويقول محمد حميد الله (مترجم القرآن إلى الفرنسية): الكلمة العربية أخ تعني الشقيق أو عضو القبيلة . وهذا هو نفس معنى ما اقتبسناه من التثنية: شقيق أو من القبيلة نفسها.

والآن لنتأمل ما جاء في التثنية 34:10-12 وتقول: وَلَمْ يَقُمْ بَعْدُ نَبِيٌّ فِي إِسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وَجْهاً لِوَجْهٍ، فِي جَمِيعِ الآيَاتِ وَالعَجَائِبِ التِي أَرْسَلَهُ الرَّبُّ لِيَعْمَلَهَا فِي أَرْضِ مِصْرَ بِفِرْعَوْنَ وَبِجَمِيعِ عَبِيدِهِ وَكُلِّ أَرْضِهِ . وتوضح التوراة هذا أكثر في سفر العدد 12:6-8 فَقَالَ (الرب) ا سْمَعَا كَلَامِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي الحُلْمِ أُكَلِّمُهُ. وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. فَماً إِلَى فَمٍ وَعَيَاناً أَتَكَلَّمُ مَعَهُ .

فما أوضح الضوء الذي تكشفه القرينة في هذه الآيات لمعنى كلمة مثلك . لقد كان موسى فريداً، وحتى كتابة سفر التثنية لم يكن قد قام نبي مثله عرفه الرب وجهاً لوجه وكلّمه فماً لفم . ويؤيد القرآن التوراة في هذا فيقول في سورة النساء 4:163 و164 إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (يا محمد) كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعَقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً,,, وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً . فقد أفرد ذكر موسى وميَّزه عن محمد وسائر الأنبياء، لأن الله كلم موسى تكليماً أي مباشرة.

لقد كان محمد نذيراً لقومه من عُبّاد الوثن في مكة، ولكن القرآن لا يقول إنه أجرى معجزات كموسى، ولا كلّم الله محمداً فماً لفم. ومنذ موسى لم يتميّز نبيٌّ بالميزتين الفريدتين لموسى إلا المسيح، الذي أجرى معجزات عديدة سجّل الوحي منها نحو خمسين. أما معرفته لله وجهاً لوجه فهو كلمة الله الذي كان في البدء عند الله وفي حضن الله (يوحنا 1:1 و18).

فإذا قلنا إن التثنية 18:18 و19 تتنبّأ بمحمد نكون قد أهملنا القرينة التي جاءت في التوراة وفي القرآن.

الصفحة الرئيسية