اللغة دائمة التغيُّر

أكّد عالِم اللغة السويسري فرديناند دي ساسير (ويُعتبَر أب علماء اللغويات) في محاضرات له عامي 1910 و1911 هذه الحقيقة بقوله لتلاميذه:

تنحلّ اللغة أو بالحري تتطور تحت تأثير عوامل تطول الصوت والمعنى. ولا مفرّ من هذا التطور، ولا توجد لغة تقاوم هذا. ونقدر أن نرى هذا التغيير واضحاً بمرور الزمن (3).

ويكرر عالِم اللغة الفرنسي أندريه مارتينيه الفكرة نفسها في كتابه مبادئ عامة في علم اللغة (نُشر عام 1964) فيقول:

نلاحظ أن اللغات تتغيّر باستمرار دون أن تتوقف عن أداء وظيفتها. وكل لغة ندرسها نجدها في حالة تحوُّل (حتى في وقت دراستها). ويصدق هذا على كل لغة في كل وقت .

ويوضح د. لويس سولومون أستاذ اللغة الإنكليزية في كلية بروكلين في كتابه علم دلالات الألفاظ والفطرة السليمة أنه بسبب هذا التغيير المستمر توجد طريقة واحدة لمعرفة معنى أي كلمة، فيقول:

المعنى المعتَرَف به لأية كلمة في زمن معيَّن هو المعنى الذي استخدمه لها من استعملوها في ذلك الزمن (4).

وبإيجاز نقول: يتغير معنى بعض الكلمات بمرور الزمن، بينما يبقى معنى البعض الآخر بدون تغيير. واليوم إذا عرَّفنا كلمة قد نحتفظ بمعناها القديم، وقد نعطيها معنى جديداً. واستعمالنا وحده هو الذي يحدد المعنى القديم أو يعطي المعنى الجديد.

الاشتقاق الخاطئ في الدراسات المعنيَّة بأصل اللغة وتاريخها

قال الدكتور سولومون:

الاشتقاق الخاطئ في دراسة أصل اللغة وتاريخها هو الذي ينادي بأن المعنى القديم للكلمة هو وحده المعنى الصحيح، والذي ينادي بأن المعاني المتأخرة فسادٌ يجب استئصاله بأول فرصة ممكنة .

وعليه فإننا يجب أن نجد معنى الكلمة في استخدام الناس لها، لأننا نخدع أنفسنا لو حاولنا تعريف الكلمة بالرجوع إلى الأصل القديم، فهذا الرجوع للقديم لا يعطينا المعنى المعاصر، كما أن المعنى الحديث لا يعطينا المعنى القديم. فإذا وردت كلمة مرة واحدة في وثيقة واحدة أو على لوح فخاري واحد يعود تاريخه إلى 500 سنة مضت، فإن المعاني القديمة (أو الحديثة) للكلمة قد تساعدنا في تخمين معنى تلك الكلمة، ولكنه لا يؤكد ذلك. ويجب أن نفحص استعمالات كلمة ما لنعرف ما قصده بها المسيحيون في القرن المسيحي الأول، أو ما قصده المسلمون بها في القرن الهجري الأول.

ولكن د. بوكاي لا يتفق مع هؤلاء المتخصصين في علم اللغة، فيقول في أحد كتبه (5):

هناك قانون عام برهن صحّته الكاملة بالنسبة للمعارف الحديثة: فالمعنى الأصلي لكلمة ما، المعنى القديم، هو الذي يعطي بوضوح كامل ما يتفق مع المعارف العلمية، بينما المعاني المشتقَّة تقود لمعاني خاطئة أو باطلة .

غير أن قانون د. بوكاي هذا يؤدي بنا إلى الباطل! ولنعطِ مثلاً من كلمة طائر . فقد جاء في سورة الإسراء 17:13 (وترجع للسنة الأولى للهجرة) وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ (أي ما كُتب عليه) فِي عُنُقِهِ . ولكن المعنى الأصلي القديم لكلمة طائر هو ذو الجناح . وكان العرب والرومان يحاولون معرفة المستقبل من اتجاه طيران الطيور، كفأل حسن أو سيء.فإذا استخدمنا قانون د. بوكاي لصار معنى آية الإسراء 17:13: ربط الله ذا جناح كل إنسان في عنقه ! وهذا يفسد معنى الآية.

وكمثَلٍ آخر لفساد قانون د. بوكاي نقدم اسم طائر الرَّخَم وهو نوع من الطيور يحتفظ بزوج واحد مدى الحياة،وجاء ذكره في سفر التثنية 14:17. وبالرجوع إلى جذر الكلمة في اللغة العبرية نجد أنه يعني رحمة ومن المرعب أن نترجم آية سفر التثنية أن الرحمة تطير في الجو لترى جثةً تنهشها! ولكن ربط المعنى القديم بكل كلمة يؤدي إلى الخلط بين الطائر والرحمة! وهكذا لا يقدر أحد أن يقول إن المعنى الأصلي القديم للكلمة هو الذي يتفق مع المعارف العلمية.

ونقدم مثالاً ثالثاً من كلمة كحول المأخوذة من جذر كلمة تعني كُحل لتكحيل العيون، وقد أَخذت الكلمة عند الرومان بعد ذلك معنى النقاء . وعندما أُنتِج الكحول أول مرة بالتقطير كان نقياً، فأطلقوا عليه اسم كحول . والكحول والكحل من ذات الجذر. ومن الحماقة أن نتساءل: أي المعنيين يتفق مع المعارف العلمية!

وأقتبس ما قاله عبد الله يوسف علي الذي ترجم القرآن للإنكليزية:

لكل كاتب ومفكر جادّ الحق أن يستخدم كل معارفه وخبرته في خدمة القرآن، ولكن لا حقَّ له أن يخلط نظرياته واستنتاجاته، مهما كانت معقولة، ليفسّر النص الكامل كل الكمال. وتقوم صعوباتنا في تفسير النص إلى أسباب عدّة أذكر منها:

(1) اكتسبت الكلمات العربية معاني أخرى غير التي فهمها الرسول وصحابته. وكل لغة حية تجوز في تغييرات. وقد أدرك المفسرون الأقدمون ذلك، ويجب علينا أن نقبل ما وصلوا إليه. وعندما يختلفون في ما بينهم، علينا أن نستخدم حسَّنا التمييزي والتاريخي لنتبنَّى التفسير الذي نرضاه. ولكن ليس لنا أن نبتكر معاني للألفاظ .

وهذا يعني أننا يجب ألّا نخترع معانٍ جديدة للكلمات لأننا نواجه صعوبات في الفقرة التي ندرسها.

الصفحة الرئيسية