صنعت خـــــــــلاصاً

المقدمة

الباب الأول: كنيسة الخلاص

الفصل الأول: التذكارات الكنسية

الفصل الثاني: كتب الصلوات الطقسية

الفصل الثالث: الأسرار الإلهية

الباب الثاني: جوهر الخلاص

الفصل الأول: مفهوم الخلاص

الفصل الثاني: دوافع الخلاص

الفصل الثالث: طرق الخلاص

الفصل الرابع: عمل الخلاص

الباب الثالث: قضية الخلاص

الفصل الأول: فلسفة الخلقة

الفصل الثاني: مشكلة الخطية

الفصل الثالث: تدبير الخلاص

الباب الرابع: نعمة الخلاص

الفصل الأول: مفهوم النعمة

الفصل الثاني: عمل النعمة

الفصل الثالث: مجال النعمة

الفصل الرابع: وسائط النعمة

ختاماً

حمل هذا الكتاب

عودة للصفحة الرئيسية

الفصـل الثاني عمــل النعـمة



"بالنعمة أنتم مخلصون"(أف5:2).

أولاً :- التبـريـر
ثانياً :- التقديـس
ثالثاً :- التمجيـد



في بداية القرن الخامس الميلادي ظهرت في بريطانيا الهرطقة البيلاجية Pelagianism نسبة إلى مبتدعها الراهب الإنجليزي Pelagius الذي نادى بعدم احتياج البشر للنعمة المخلصة، وبأن للإنسان قدرة ذاتية طبيعية تمكنه من الخلاص والوصول للكمال بمجهوداته الشخصية دون تدخل من جانب النعمة.

وقد عقدت عدة مجامع كنسية شجبت هذه البدعة، وأكدت أن الإنسان في مسيس الحاجة لنعمة المسيح التي بدونها لا يستطيع أحد أن يخلص.

وقد انبرى القديس أوغسطينوس مفنداً هذه الهرطقة ومثبتاً أنه لا خلاص إلا بالنعمة الموهوبة من الله. وقد جمعت كتاباته ضد هذه الهرطقة في مجلد بلغ حجمه 750 صفحة.

(N.P.Fars Ser. Vol. 5) .



وعلى منوال هذه البدعة نسج كثيرون من المدعين على مر العصور، محاولين إنكار عمل النعمة كلية أو التقليل من شأنها. وحتى لا نحيد عن جادة الصواب دعنا نرجع إلى الكتاب المقدس وأقول آباء الكنيسة القديسين لنعرف عمل النعمة المخلصة ويشمل:



v التبرير :

v التقديس:

v التمجيد :



أولاً:- التبريـر
للتبرير اتجاهان : تبرير أمام الله، وتبرير أمام الناس.



1- التبرير أمام الله

وهو من عمل النعمة البحت ولا دخل لعمل الإنسان في تبريره أمام الله، فما عليه إلا أن يتوب ويثق في بر المسيح حتى ينال هذه النعمة. والتبرير أمام الله نعمة فائقة تشمل:



( أ ) ستر خطايانا: أي مغفرتها. فكلمة ستر هي نفس كلمة (غفر).{كتاب صلاة الشكر لقداسة الأنبا شنوده الثالث ص19}

ففي صلاة الشكر نرفع قلوبنا لله شاكرة نعمته (لأنه سترنا) أي غفر خطايانا. وغطاها فلم تظهر أمام العدل الإلهي.

وعن هذه النعمة قال الكتاب "طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم" (رو7:4). فالغفران إذن هو ستر خطايانا بحجاب الفادي، فيغض الله الطرف عنها لأن المسيح "كفارة لخطايانا. ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم" (1يو2:2).



(ب) محو خطايانا: فالتبرير لا يشمل فقط الغفران بمعنى ستر الخطية فحسب، وإنما يشمل أيضاً محوها وهذا من عمل النعمة أيضاً إذ يقول داود النبي "استر وجهك عن خطاياي وامح كل آثامي" (مز9:51). وقال الرب عن لسان أشعياء النبي "قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك" (أش22:44). وأيضاً "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي، وخطاياك لا أذكرها" (أش25:43). وهذا أيضاً هو عين ما وضحه بطرس الرسول إذ قال "توبوا وارجعوا لتمحى خطاياكم" (أع19:3). وبولس الرسول يصف عمل المسيح الفدائي بقوله "محا الصك الذي علينا" (كو14:2).

ونعمة محو خطايانا تتم في دم المسيح إذ يطهرنا من كل خطية "إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم"(1يو9:1).

فشكراً لله على هذه النعمة العظيمة.







قصــة:

تعاملت النعمة مع أحد الخطاة حتى سقط تحت التبكيت، واعتراه الحزن واليأس. وفي الليل كشف الرب عن عينيه ليرى هذه الرؤيا … نظر فوجد أمامه لوحة كبيرة سوداء. ولما اقترب منها عرف أن ما كتب عليها بالأسود هي خطاياه الكثيرة. فصار يبكى وينتحب. وبينما هو على هذا الحال، إذ به يرى يداً مثقوبة تسيل بالدماء وتسير على اللوحة من فوق إلى أسفل، فلاشت كل ما كان مكتوباً عليها، وصارت بيضاء كالصوف النقي. وقد كتبت عليها "محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك" وقام من نومه وإذا بشمس الأحد تمزق ستائر الظلام، فأسرع إلى الكنيسة وتقدم إلى أبيه الروحي الذي قدمه إلى سر الشركة المقدسة بعد أن استمع إلى اعترافه وأعطاه الحل من خطاياه. وصار له سلام في الداخل "وفرح لا ينطق به ومجيد" (1بط8:1).



(جـ) عدم حسبان خطايانا علينا:

تأمل يا أخي هذا الامتياز المدهش فالله لا يستر خطايانا فقط، ولا يمحوها فحسب، بل ما هو أعظم من ذلك، إذ أنه لا يحسبها علينا مطلقاً. فمعلمنا بولس الرسول يقول "إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه غير حاسب لهم خطاياهم" (2كو19:5).

كيف يكون هذا؟ ولماذا لا يحسبها الرب علينا مع أننا نحن قد ارتكبناها؟ إن السبب في ذلك هو أن خطايانا قد حسبت على المسيح شخصياً. كما يقول أشعياء النبي "كلنا كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا"(أش6:53). وبولس الرسول يقول "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا، لنصير نحن بر الله فيه"(2كو21:5).



أنسيمس العبد:

أنسيمس هذا كان عبداً عند أحد تلاميذ بولس الرسول ويدعى فليمون. سرق هذا العبد بعض الأموال من سيده وهرب. ثم تقابل مع بولس الرسول وتجدد على يديه معترفا بخطاياه تائباً عنها. فكتب بولس الرسول رسالة إلى فليمون وسلمها لأنسيمس لتوصيلها. وقد كتب فيها "إن كان (أنسيمس) قد ظلمك بشيء، أو لك عليه دين. فاحسب ذلك على. أنا بولس كتبت بيدي أنا أوفي" (فليمون18). فهل بعد هذا يعود فليمون ويطالب أنسيمس بالدين؟ كلا. فقد دفعه بولس، ونحن نعلم أن الدين لا يدفع مرتين.

هذا ما صنعه يسوع معنا، فإذ كنا مديونين للعدل الإلهي وفًّي يسوع الدين كله على خشبة الصليب. فلا يحسب الرب علينا خطية.



( د ) حسبان بر المسيح:

إن للتبرير معنى أعظم بكثير من مجرد الغفران والمحو، وعدم حسبان الخطية علينا، فهذه كلها أمور سلبية لتطهير المؤمن من نتائج الخطية. فإن أسمى ما في التبرير هو الناحية الإيجابية أي حسبان بر المسيح لنا. يوضح ذلك معلمنا بولس الرسول في قوله "جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لأجلنا. لنصير نحن بر الله فيه" (2كو20:5).

وقد علق على ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: (إن الرسول لم يقل "جعل البار خاطئاً. ليصير الخطاة أبراراً ولكنه قال ما هو أسمى من ذلك بكثير. ولم يقل جعل الذي لم يخطئ بل الذي لم يعرف خطية. جعله لم يقل خاطئاً بل جعله خطية لنصير نحن ليس أبراراً بل براً وبر الله. فهذا هو بر الله أننا لم نتبرر بالأعمال بل بالنعمة حتى أن جميع خطايانا قد محيت. وهذا الأمر لا يدفعنا إلى الكبرياء، إذ أن الكل عطية مجانية من الله، وفي نفس الوقت ترينا عظمة ما حصلنا عليه)

(N.P.Frs 1st. Ser. Vol. X11 P. 33)



ويعود معلمنا بولس الرسول فيقول: "متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السابقة بإمهال الله وإظهار بره في الزمان الحاضر ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع" (روو24:3-26).



ويعلق على ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم قائلا ما هو إظهار البر؟ إن إظهار البر يشبه إظهار الغنى، فالغنى هو ليس أنه غنى فحسب بل أنه يغنى الآخرين. ومثل إظهار الحياة، ليس أنه حي فحسب بل إنه يعطى الأموات حياة. ومثل إظهار قوته، ليس أنه قوى فحسب بل إنه يعطى الضعفاء قوة.

فهكذا أيضاً في إظهار بره، ليس أنه بار فحسب، بل إنه جعل المملوئين فساداً ونتانة أن يصيروا أبراراً ...

ولكي يوضح ذلك أي (إظهار بره) أضاف قائلا: (ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع) فلا تشك إذن لأن التبرير ليس بالإعمال بل بالإيمان فلا يفوتك بر الله، إذ أنه امتياز له صفتاه:

v سهولة الحصول عليه.

v وعموميته للجميع.

فلا تتوان ولا تخجل، فإذ قد أظهر أنه هو نفسه الذي يقوم بهذا العمل، وهو بالتأكيد يجد فيه مسرة وفخراً، فلماذا تغتم أنت وتخزى من الأمر الذي يتمجد به سيدك؟!

(N.P.Frs 1st. Ser. Vol.X1 P.377, 378)



هذه هي عظمة التبرير. ولقد قامت ضد هذا التعليم السامي هرطقات عديدة تقلل من شأن هذه النعمة وتجعل للتبرير ركيزة أخرى غير دم المسيح، الأمر الذي يهين الله، ويطعن في كفاية كفارة المسيح. لهذا قام آباء الكنيسة بردع المدعين المبتدعين وإليك بعض أقوالهم في هذا الصدد.

v يتساءل القديس أوغسطينوس قائلا: (ما معنى قول الرسول "متبررين مجاناً بنعمة" وماذا يقصد بقول "لأنكم بالنعمة مخلصون" وحتى لا يظن أحد أن الخلاص بالأعمال يضيف الرسول قائلاً "بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان" وخشية أن يفكر أحد أن الإيمان عمل بشرى مستقل عن النعمة، يوضح الرسول أن الإيمان هو أيضاً من عمل النعمة بقوله "وذلك ليس منكم هو عطية الله"(أف8:2) .

(N. P. Frs 1st. Ser. Vol.V P. 229,230)

وقال أيضاً القديس أغسطينوس:

v بدون نعمة المسيح لا يمكن لصغير أو كبير أن يخلص، وهذه النعمة لا تعطى مقابل أي شئ صالح وإنما هي مجانية

لهذا فهي تسمى نعمة "متبررين مجاناً بنعمته" (رو24:3 ).

(P. 122 1 bid)



وقال أيضاً القديس أغسطينوس:

v "إن في هذا ثناء عظيما على النعمة أيها الأخوة، حتى تتعلم النفس الاتضاع، ويستد فم الكبرياء. فليجب الآن إن استطاع أولئك الذين إذ يجهلون بر الله ويطلبون أن يثبتوا بر أنفسهم لم يخضعوا لبر الله (رو3:10).

إن إجابتكم تتضمن الكفر عندما تقولون أن الله قد خلقنا ونحن نستطيع أن نصير أبراراً بأنفسنا"

(N.P.F. Vol.7 P. 345)

وقال أيضاً القديس أوغسطينوس:

دفاعاً عن نعمة المسيح أرفع صوتي قائلا: بدون النعمة لا يتبرر أحد.

(N.P.F. Vol.5 P.142)

v ومن أجمل أقواله في هذا الصدد ما ختم به حديثه إذ قال "وختام القول أن الإنسان لا يتبرر بمظاهر حياة القداسة وإنما بواسطة الإيمان بالرب يسوع. أي ليس بالأعمال بل بالإيمان، ليس بالأعمال الصالحة بل بالنعمة المجانية".

(1 bil P. 92).



والقديس يوحنا ذهبي الفم يقول:

"إننا لم نتبرر بالأعمال بل بالنعمة، حتى أن جميع خطايانا قد محيت. وهذا الأمر لا يدفعنا إلى الكبرياء، لأن الكل عطية مجانية من الله."

(N.P.F.1st. Ser. Vol.12 P. 334)

v ومن روائع أقوال ذهبي الفم ما قاله تعليقاً على قول بولس الرسول "لأن فيه معلن بر الله بإيمان لا يمان كما هو مكتوب أما البار فبالأيمان يحيا" (رو17:1). فيقول:

وحتى لا يشك أحد في إمكانية الخلاص والسلام يتكلم عن البر، ليس بر الإنسان بل بر الله، ليظهر فيض هذا البر وسهولة الحصول عليه، إذ لا يحصل عليه الإنسان بالجهد والعمل بل يقبله عطية من فوق. متطلباً شيئاً واحداً من جانبك وهو الإيمان ... وحتى لا يشك أحد في صدق كلامه بأن الزاني والشرير والسارق لا يتحرروا فقط من العقوبة بل يصيروا أبراراً، ولهم أسمى أنواع البر (أي بر الله ذاته) يدعم كلامه باستشهاد من العهد القديم من سفر حبقوق الذي قال "أما البار فبالإيمان يحيا." (حب4:2).

(N.P.F 1st. Ser Vol. 12 P.349)





ملحوظة:

إن اختبار التبرير هذا لا يمكن أن يفهم منه أن الإنسان طالما قد تبرر بالإيمان، وحسب له بر المسيح، فيستبيح لنفسه الخطية ويتمادى فيها … أو على الأقل يشجعه على الكسل والتراخي وعدم الاكتراث هذا فكر خاطئ ولا يمكن أن يحدث للإنسان قبل المسيح حقاً.وبولس الرسول قد ناقش هذا الموضوع فقال: "حيث كثرة الخطية ازدادت النعمة جداً .. فماذا نقول. أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة. حاشا. نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها" (رو20:5).

وكقاعدة عامة: تبرير بلا تقديس يجعل الإنسان أشر من إبليس. وما أجمل ما قاله القديس يوحنا ذهبي الفم في هذا الصدد. (لا تستسلم للكسل بحجة أن الكل بالنعمة، فالرسول يسمى الأعمال الصالحة أيضاً نعمة لأنها تحتاج إلى قدرة علوية للقيام بها)

(N. P.F 1st. Ser Vol X1 P.345).

2- التبرير أمام الناس
فالخاطئ الذي حصل على التبرير لا بد وأن تظهر نعمة الله في حياته الجديدة، وأعماله الجديدة، وبهذا يتبرر أمام الناس فزكا العشار بعد أن تقابل مع المسيح وقبله فرحاً، قال للرب "هاأنا يارب أعطى نصف أموالي للمساكين وإن كنت وشيت بأحد أرد له أربعة أضعاف" (لو1:19-8). فكان هذا دليلا على خلاصه، لذلك قال له رب المجد "اليوم حصل خلاص لهذا البيت" (لو9:19).

فتبرير المؤمن أمام الناس هو انطباعات تبريره أمام الله. فكما غفر له الله خطاياه عليه أن يغفر للآخرين أيضاً "اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا" (مت12:6). وكما نال من الرب نعمة وإحسانا، لا بد وأن يعطى هو للآخرين أيضاً بحسب مقدوره. وهذا ما وضحه معلمنا يعقوب في رسالته إذ قال "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا، ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد فما المنفعة" (يع15:2،16). وبهذا يكمل حديثه قائلا "ترون إذن أنه بالأعمال يتبرر الإنسان لا بالإيمان وحده." (يع24:2).

وقد وضح معلمنا بولس الرسول اتجاهي التبرير هذين (أمام الله وأمام الناس) في معرض حديثه عن تبرير أبينا إبراهيم فوضح قائلاً:



v التبرير أمام الله بالإيمان في قوله:

"لأنه ماذا يقول الكتاب. فآمن إبراهيم بالله فحسب له براً ... أما الذي يعمل فلا تحسب له الأجرة على سبيل نعمة بل على سبيل دين. وأما الذي لا يعمل ولكن يؤمن بالذي يبرر الفاجر فإيمانه يحسب له براً. كما يقول داود أيضاً في تطويب الإنسان الذي يحسب له الله براً بدون أعمال. "طوبى للذين غفرت آثامهم وسترت خطاياهم. طوبى للرجل الذي لا يحسب له الرب خطية" (رو3:4ـ8).



v تبرير أمام الناس بالأعمال في قوله:

"إن كان إبراهيم قد تبرر بالأعمال فله فخر. ولكن ليس لدى الله"(رو2:4). علماً بأن القيام بأعمال البر هذه لا يقوم بها المؤمن من ذاته وإنما بعمل النعمة فيه إذ يقول رب المجد "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً"(يو5:15). وبولس الرسول يؤكد هذه الحقيقة بقوله "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (فى13:2).

وقد أيد الآباء القديسون هذا المفهوم بكل جلاء كما نرى.

v يقول القديس أغسطينوس (فليجب أصحاب الأخلاق الرفيعة الذين يظنون أنهم ليسوا في حاجة لله للقيام بالأعمال الصالحة! ألا يقاوم الحق أولئك الناس الفاسدة أذهانهم، والمرفوضون من جهة الإيمان. (2تى8:3). ما هذا الذي تقولونه يا من تخدعون أنفسكم؟). لماذا تقولون أن الإنسان يستطيع أن يعمل البر بنفسه؟. فإن هذا هو قمة غروركم … ولكن الحق يناقض قولكم ويعلن "أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة".

ومن يتوهم أنه يستطيع أن يأتي بثمر من ذاته فهو ليس في الكرمة، ومن ليس في الكرمة فهو ليس في المسيح، ومن ليس في المسيح فهو ليس مسيحياً.

(N. P. F. 1st. Ser. Vol. 7P. 345)

v وقال أيضاً تفتخرون بأعمالكم الحسنة كما لو كانت من صنعك، لأن الله هو العامل فيك هذه الأعمال الصالحة "الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة" (فى13:2)..

(N. P. F. 1st. Ser. Vol 5P. 452)

v وقال أيضاً: "هذه الأعمال الصالحة التي تقوم بها ونكافأ عليها ترجع أيضاً إلى عمل نعمة الله فيينا إذ قال الرب يسوع "بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً"

(1 bad P. 451)

v ولقد قرر مجمع آرليس Arles الذي انعقد حوالي سنة 473م. ما يلي: (لابد من أن يقترن عمل الإنسان وسعيه بنعمة الله).

{مذكرات الكلية الإكليريكية ـ هرطقة بيلاجبوس ص29 للقمص باخوم المحرقي (نيافة الأنبا إغريغوريوس).

v وما أجمل ما قاله القديس يوحنا ذهبي الفم (إن الحديث عن النعمة لا يقلل من شان العزيمة البشرية وإنما يهدم روح الكبرياء. إذن لا تستسلم للكسل بحجة أن الكل هو بالنعمة، فان الرسول يسمى الأعمال الصالحة أيضاً نعمة لأنها تحتاج إلى قوة علوية للقيام بها).

(N.P.Frs 1st. Ser Vol.X1 P. 345)







ثانياً :- التقديس
التقديس هو عملية مستمرة في حياة المؤمن تبدأ من وقت تبريره، وتستمر طيلة أيام حياته على الأرض.وفي الوقت الذي نرى فيه التقديس نعمة إلهية موهوبة، ترى في نموه يحتاج إلى مشاركة الإمكانيات البشرية التي يستطيع الإنسان أن يقدمها من جانبه. فعندما نناقش هذين الجانبين.



1- النعمـة الإلهيـة

فالتقديس نعمة موهوبة من الله لكل المؤمنين فان مقامهم أمام الله قديسون يتضح من قول بولس الرسول لأهل روميه "إلى جميع الموجودين في روميه أحباء الله مدعوين قديسين" (رو7:1). وقد علق على ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله (هذا هو أعظم امتياز، ويظهر منه كيف تم التقديس. فيوضح أنه تم بالمحبة، إذ بعد أن قال الرسول (أحباء) قال (مدعوين قديسين) ليظهر أن المحبة هي مصدر التقديس. لهذا فهو يدعو جميع المؤمنين قديسين)

(N.P.F. 1st. Ser. Vol X1 P. 341).

ويكمل حديثه في هذا الموضوع عندما علق على قول الرسول (الله أبينا) في نفس الآية (رو7:1). فيقول (عجباً ما أعظم حب الله، نحن الذين كنا أعداء، وكنا في خزي، أصبحنا فجأة at once قديسين وأبناء.. وبما أن القداسة والتبني هما هبة من الله فلا يمكن أن تزول حتى بالموت، وإنما تميز الإنسان على الأرض، وتصحبه في رحلته إلى الأبدية)

(1 bid P. 342)

وحيث أن المؤمن قد حسب له بر المسيح، فقد حسب له أيضاً قداسة المسيح. أي أن المسيح قد أصبح له (براً وقداسة) كما يقول بولس الرسول "ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء" (1كو30:1). وقد علق على هذه الآية القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: "هذا الشرف لم يكن مصدره الإنسان بل المسيح الذي صيرنا أبراراً وقديسين فهذا هو ما يعنيه بقول (صار لنا بر وقداسة).. فقد صيرنا أبراراً وقديسين بإعطائه لنا الروح القدس. فمن المسيح تصدر كل الأشياء".

( N. P.F. Vol, X11 P.24). .

من هذا نرى أن المؤمن يعتبر قديس لا لأنه قديس في ذاته بل على أساس تبريره وحسبان قداسة المسيح له إذ يقول الرسول "فبهذه المشيئة نحن مقدسون بتقديم جسد يسوع مرة واحدة" (عب10:10).



والمؤمن قديس لأنه عضو في جسد المسيح، فقد تقدس بهذه العلاقة إذ يقول الرسول "لأننا أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أفسس30:5). ولهذا نقول في القداس الإلهي (القدسات للقديسين). {القداس الباسيلي}.

وهناك عديد من الآيات تؤيد ذلك:

¨ "إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع المدعوين قديسين. مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان لهم ولنا"(1كو2:1).

وقد علق على هذا القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله:

"يذكر الرسول الكورونثيين بنجاستهم التي خلصهم المسيح منها، ويقودهم إلى الاتضاع إذ يظهر لهم بأنهم لم يتقدسوا بأعمالهم الصالحة بل بمحبة الله المترفقة".

(N.P.F. 1st. Ser, Vol X11 P. 3). .

¨ "بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله إلى القديسين الذين في أفسس والمؤمنين في المسيح يسوع" (أف1:1).

وقد علق أيضاً على هذه الآية القديس يوحنا ذهبي الفم بقوله: (لاحظ أنه يدعو الرجال والسيدات والأطفال والعبيد قديسين، فهذه الفئات التي يدعوها قديسين قد وضحها في نهاية الرسالة إذ يقول "أيها النساء اخضعن لرجالكن" (أف22:5). وأيضاً "أيها الأولاد أطيعوا والديكم" (أف9:6). وأيضاً "أيها العبيد أطيعوا سادتكم" (أف5:6). فالعلمانيون أيضاً يدعون قديسون)

( N.P.F. 1st. Ser. Vol.X111 P. 50). .



هذا هو مقام المؤمن أمام الله، معتبر قديس في المسيح، لأنه أخذ مقام المسيح الذي قد أخذ كل موقف الإنسان المدان (إذ صار خطية لأجلنا) وأعطاه موقفه الكامل من بر وقداسة (لنصير نحن بر الله فيه) (وصار لنا بر وقداسة).

إن مقامنا السامي هذا لا يقودنا إلى الكبرياء،بل إلى التواضع إذ أن هذه الامتيازات لم يحصل عليها المؤمن بأعماله، وليست هي من ذاته، وإنما هي نعمة موهوبة مجاناً. لهذا قال القديس يوحنا ذهبي الفم (يقود بولس الرسول أهل كورنثوس إلى الاتضاع إذ يظهر لهم أن اعتبارهم قديسين ليس هو نتيجة أعمالهم الصالحة، بل نتيجة محبة الله المترفقة).

(N.P.F.1st. Ser. Vol 12. P. 3). .



ويقول بولس الرسول أيضاً في هذا الصدد"أين الافتخار. قد انتفى. بآي ناموس (تبررنا) أبناموس الأعمال؟. كلا. بل بناموس الإيمان"(رو24:3-28).

ومقامنا السامي هذا هو مصدر تعزية وقوة مشجعة في نضالنا المقدس وحربنا الروحية. فان من أكبر المفشلات، أن يشغلنا الشيطان بحالتنا الردية وحياتنا الضعيفة، ويحاول أن ينسينا مقامنا السامي في المسيح، فهذا كفيل بأن يؤدى إلى الخيبة والفشل.

كما أن هذا المقام السامي يقودنا إلى الحرص والحذر في كل ما نفتكر أو نتصرف أمام الله والناس، بما يتناسب مع مقامنا ويطابق مركزنا. وهذا هو المبدأ الذي يجب أن نسير عليه دوما.

قصــة:

بينما كان إحدى الأمراء ممتطياً جواداً له في حديقة القصر، عثر الجواد، فرقع الأمير من عليه، إلا أن الضابط الذي كان سائراً بجانبه تلقاه على زراعة، فلم يلحق الأمير أذى. نظر الأمير إلى الضابط الذي كان برتبة (صول) وقال له "أشكرك يا بك" فسمع الملك وأسرع في الحال لرؤية نجله وهنأه بنجاته، ثم سأله "ماذا قلت لمن أنقذك؟" أجاب الأمير "قلت له أشكرك يا بك" قال الملك "لقد منحته لقب البكوية لأجل خاطرك. ولكن لا تنطق فيما بعد بعبارة مثل هذه، لأنك أمير وولى عهد، وكل ما تقوله محسوب عليك. اذكر مقامك يا ابني" هذه نصيحة الملك لابنه "اذكر مقامك ومركزك" أي تكلم وتصرف بما يليق ومركزك السامي ومقامك الكبير.

هذا ما يجب أن يتذكره كل مؤمن، فهو ابن الله بار وقديس في المسيح يسوع. فيجب أن يسلك بالقداسة في حياته العملية.



أما عن القداسة العملية في حياة المؤمن فهي أساساً من عمل المسيح في داخلنا بالروح القدس، كما يقول يوحنا ذهبي الفم "صيرنا المسيح أبراراً وقديسين بإعطائه لنا الروح القدس. فالمسيح هو مصدر كل شئ".

(N.P.F.1st. Ser. Vol.12 P. 24).

وقد أوضح الرب هذه الحقيقة قديماً بقوله "أنا الرب مقدسكم" (لا8:20).



وعمل النعمة في التقديس يشمل:

( أ ) التجديد:

التجديد هو أول خطوة في التقديس، فلا يمكن أن توجد قداسة بدون تجديد القلب. فان محاولات تهذيب النفس العتيقة عملية فاشلة. لهذا لزم تجديد الطبيعة كلية. وهذا التجديد هو عمل النعمة البحت، إذ يقول الكتاب "لا بأعمال في بر عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس" (تى5:3). وهذا التجديد يحدث كما هو واضح في المعمودية. ولكن بعد أن يخرج الإنسان من المعمودية يكون عرضة للسقوط وبهذا يعود قلبه إلى حالة الفساد بسب الخطية الجديدة. ومن أجل ذلك يحذرنا بولس الرسول قائلا: "من يفسد هيكل الله فسيفسده الله"(1كو17:3). وبطرس الرسول أيضاً يقول:"هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة."(2بط4:1).

وبناء على ذلك فقد قرر الآباء في مجمع قرطاجنة أن "دموع التوبة معمودية ثانية" أي أنها تجدد القلب من الفساد الذي لحق به بعد المعمودية. ومن أجل ذلك أيضاً رتبت الكنيسة أن نصلى في كل صلاة من السبع صلوات اليومية قائلين في المزمور "قلباً نقياً اخلق في يا الله"(مز10:51).

فان كان قلبك قد أفسدته الخطية اطلب من الروح القدس أن يجدده مرة أخري.



(ب) التطهير:

وهو تنقية النفس من شوائب الشرور وآثار الخطية، وهي عملية تستمر مع المؤمن مدى حياته على الأرض ويقوم بها الروح القدس نفسه لهذا فنحن نصلى في القداس الإلهي قائلين "وصيرنا أطهاراً بروحك القدوس".

[القداس الباسيلي - صلاة التقديس]

فان السر في عدم نقاوتنا أننا لم نسلم أنفسنا للروح القدس لكي ينقينا بالإيمان كما قال معلمنا بطرس الرسول "معطياً لهم الروح القدس إذ طهر بالإيمان قلوبهم" (أع9:15). ولكن إذ نسلم ذواتنا للروح القدس يقوم هو بتطهيرها وتنقيتها حتى أن الخطية تصبح مكروهة جداً ومبغوضة ولا تطيقها نفسك.



ولقد صور هذه الحالة نيافة الأنبا إغريغوريوس بقوله "في حالة القداسة، التي أصبح إليها المولود من الله، تمسى الخطية غير مقبولة إليه، وتمسى مكروهة جداً لديه، وتمسى شنيعة في عينيه، وتصير عفنة وقذرة لا يقدر أن يتطلع إليها بعينيه، خذ مثلا لذلك قطعة من اللحم المتعفن. فحينما تكون هذه القطعة من اللحم يتحرك فيها الدود، ولها هذه العفونة، هل تقدر أنت أن تقبل إليها. بالطبع لا. لو أن واحداً قربها إلى فمك لأشحت عنها وجهك، وتريد أن تسد أنفك لأنك لا تقدر أن تقبلها، وقد تكون جائعاً ومع ذلك لا يمكن أن تقبلها ولا تستسيغها، ولا تقدر أنت أن تأكلها، وتمسى أنت غير قادر على أن تأكلها. فبهذه الشناعة تمسى الخطية شنيعة، تمسى الخطية مكروهة للإنسان المولود من الله، والذي يحتفظ بحالة الولادة من الله ويحتفظ ويصون وسائط الخلاص المعدة في الكنيسة. لو أن واحداً من الناس رأى شيئاً من المأكولات العفنة في المذبلة، فهل يليق به أن ينحني ليأخذ من المزبلة شيئاً ليأكله؟ …

هذه هي مشاعر القديسين عندما يكونون في حالة الروحانية العادية إذ تصبح لهم الخطية مكروهة جداً.

[مفهوم الخلاص في الكنيسة الأرثوذكسية ص19 للقمص باخوم المحرق الأنبا إغريغوريوس].



(جـ) المــلء:

إن حياة القداسة حياة دائمة النمو، فهي وإن كانت تبدأ عند التجديد، لكنها تنمو بالتدريج في اختبارات العمق. والملء هو المرحلة التي فيها يمتلك الروح القدس كلية زمام المؤمن، ويقتاده عبر نهر الأعماق، نهر السباحة الذي لا يعبر، الذي خاض فيه حزقيال النبي ودون اختباره قائلا: "وقاس ألف ذراع وعبرنى في المياه والمياه إلى الكعبين. ثم قاس ألفاً وعبرنى في المياه والمياه إلى الركبتين. ثم قاس ألفاً وعبرنى والمياه إلى الحقوين. ثم قاس ألفاً وإذا بنهر لم أتستطيع عبوره. لأن المياه طمت. مياه سباحة نهر لا يعبر" (حز3:47-5).



آه يا أخي ليتك تختبر عمل النعمة هذا المبارك. إنك في الميرون قد أصبحت مسكنا للروح القدس الذي حل فيك بالسر. ولكنك قاومت الروح مراراً (اع51:7) وأحزنت الروح أيضاً(أف30:4) وربما يا أخي تكون قد أطفأت الروح من داخلك. (1تس19:5). إن هذه الموهبة التي أخذتها عندما تضرمها(2تى6:1) في الداخل تنعشك وتمتلك حياتك ملكية تامة.

هل أنت مشتاق إلى عمق هذا الاختبار، إذن ارفع صوتك مرنماً...

لقـد تشــوقت لقـد تعطشـت

لهذا ربي رجـوت أدخل إلى العمق

خذني إلى العمـق خذني إلى العمق

نهر سباحة لا يعبر هذا هو العمـق



هذا هو الروح الناري الذي أشتاق الأنبا أنطونيوس أن يحصل تلاميذه عليه فقال لهم:

"ذلك الروح الناري العظيم الذي قبلته أنا اقبلوه أنتم أيضاً .. اطلبوا باستقامة قلب هذا الروح الناري وحينئذ يعطي لكم بالصلاة .. وهو يكشف لكم الأسرار العلوية، وأشياء أخر أمسك عن قولها، ويكون لكم فرح سماوي ليلا ونهاراً." {حياة الصلاة الأرثوذكسية ص24 نشر دير السريان}



هذا هو عمل النعمة في حياة المؤمن. فبدون النعمة لا يستطيع أن يسير مع الله أو أن ينفذ وصاياه ولقد حرمت المجامع الكنسية كل من يقلل من شان النعمة. وقبل أن أعرض قرارات هذه المجامع، أناجيك من كل قلبي أن تخضع ذاتك تحت إرشاد الروح القدس وتطلب من الله أن يسكب نعمته فيك حتى تنجو من الهلاك.

واليك قرارات بعض تلك المجامع:



1- مجمع قرطاجنة:

المنعقد سنة 417م وحضره (200) أسقفاً.

¨ (من قال أن نعمة الله التي بها يتبرر الإنسان بواسطة يسوع المسيح ربنا لا تفيد إلا في غفران الخطايا التي ارتكبت بالفعل، وأنها لا تعين في منع ارتكاب الخطايا، فليكن محروماً. فمن هذا يتضح أن المجمع يقرر بأن النعمة تعمل على غفران الخطايا وتعين في منع ارتكابها ومن يقول غير ذلك فهو محروم.



¨ من قال بأن هذه النعمة.. تعيننا فقط لكي نتجنب الخطية … وأن بها قد أعطينا.. فهما لوصايا الله.. ولكنها لا تمنحنا أيضاً اللذة في فعل ما عرفنا.. ولا القوة لفعله، فليكن محروماً.

وبهذا يقرر المجمع أن النعمة تعين في تجنب الخطية، وتعطي فهما للوصية، وتمتع لذة في السلوك بالروح، وتهب قوة لذلك. ومن يقول غير ذلك فيكن محروماً.

ومن قال أن نعمة التبرير أعطيت لنا حتى يمكن أن نفعل بالنعمة ما أمرنا بفعله.. وأنه كان يمكننا أن نتمم تلك الوصايا بدون هبة النعمة.. فليكن محروماً.

وبهذا يقرر المجمع أيضاً أن النعمة تبرر، وتعين في تنفيذ وتتميم الوصايا ومن يقول غير ذلك فهو محروم. وبهذا فقد نصوا على وهنية (ضعف) الإرادة الإنسانية إذا كانت بغير عون من نعمة الله وأننا في حاجة أساسية وحيوية إلى النعمة لنتمكن بها من إتمام وصايا الله).

{مذكرات الكلية الإكليريكية الأرثوذكسية - لاهوت مقارن - هرطقة بيلاجبوس "للقمص باخوم المحرقي" ص27 إلى 29}.

2- مجمع آرليس Arles

v الذي انعقد حوالي 473م أصدر التصريح التالي: "لابد من أن يقترن عمل الإنسان وسعيه بنعمة الله" {المرجع السابق ص37}.



3- مجمع أورانج Orange

الذي عقد حوالي 529م من بين ما قرره هذا المجمع ما يلي: "أنه عن طريق خطية الإنسان الأول إلتوت حرية الاختيار وضعفت حتى لم يعد أي إنسان بعد ذلك قادراً على أن يحب الله كما ينبغي أو يؤمن بالله أو يصنع شيئاً صالحاً من أجل الله إلا إذا سبقته نعمة (رحمة) الله".

{المرجع السابق ص41}

هذه هي أقوال الآباء القديسين صريحة واضحة لا تحتاج إلى تعليق. يستد أمامها فم الهراطقة من ينكرون عمل النعمة لكي تنال رحمة وتجد نعمة عوناً في حينه" (عب16:4).

لهذا فليس بعجيب أن نرى القديس أوغسطينوس ذلك الرجل الذي اختبر عمل النعمة يكتب كلاماً اختبارياً فيقول:

¨ دعنا نعترف أن النعمة ضرورية لنا، ولنصرخ مع بولس الذي قال: "ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت؟" هذا سؤال حائر، وإجابته: نعمة الله بالمسيح ربنا هي التي تنقذنا"

(N.P.F.1st. Ser. Vol.5 P. 142)

¨ وقال أيضاً: عندما يصلي المؤمنون يقولون "لا تدخلنا في تجربة لكن تجنا من الشرير" (مت13:6). فان كان لهم القدرة فعلا على خلاص، فلماذا يطلبون هذه الطلبة.. إن نعمة الله وحدها هي التي تخلصهم بربنا يسوع المسيح.. فلا يمكن للإنسان أن يتحرر من شهواته الجسدية إلا بنعمة المخلص.

(1 bid P. 142).

كان هذا عن جانب النعمة الإلهية في تقديس المؤمن ولننتقل إلى الجانب البشري لنري ما يستطيع أن يقدمه المؤمن من:



2- الإمكانيات البشرية

لكي نعيش في القداسة العملية يجب أن نقدم كل إمكانياتنا البشرية وإرادتنا الشخصية تحت تصرف الروح. فلكي يقوم الروح بعمليات: التجديد والتطهير والملء، على الإنسان من جانبه واجب مثلث أيضاً هو: الأمانة، والاعتزال، والتكريس.



( أ ) الإماتة:

أي صلب الذات. فان عملية التجديد التي يقوم بها الروح القدس داخلك إنما هي في حقيقتها عملية إماتة لذاتك القديمة ليضع عوضاً عنها ذات جديدة. هي صلب الذات ليحيا المسيح كما يعبر معلمنا بولس الرسول قائلا: "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في" (غل20:2).

وعملية التجديد هذه التي يقوم بها الروح القدس لابد وأن يقابلها من جانبك عملية أخرى وهي إماتة أعضائك "أميتوا أعضاءكم التي على الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الردية الطمع.." (كو5:3). ولهذا يقول بولس الرسول أيضاً "الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" (غل24:5). ويشير إلى ذلك أيضاً في موضع أخر فيقول "احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية" (رو11:6).

حقيقة نحن في المعمودية قد متنا مع المسيح، إذ يقول بولس الرسول "أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع اعتمدنا لموته فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صلب معه ليبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية" (رو3:6-6). هذا ما يحدث في المعمودية. إماتة وقيامة في جدة الحياة … ولكن إذ يعود الإنسان للخطية يسقط الإنسان مرة أخرى تحت عبوديتها … ويعود الإنسان العتيق لسابق حياته، من أجل ذلك يحذرنا بولس الرسول قائلا: "إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواته ولا تقدموا أعضاءكم آلات للخطية" (رو12:6،13). لهذا لزم أن تكون عملية الصلب والإماتة مستمرة بالتوبة الدائمة والسهر حتى لا تسمح للذات أن تعود ثانية للظهور بل يكون المسيح هو الكل في الكل.

ورب سائل يقول: كيف أصلب ذاتي؟! لكي نوضح هذا الأمر أسوق لك الصورة التي تخيلها أحد رجال الله.

أنى سمرت ذاتي على الصليب كأني أخذت حياة الذات بكل رغباتها، وأميالها، ومطامعها للشهوة والكمال، وتقلباتها، وحكمها على الآخرين، وبغضها، أخذتها كمجرم وقلت أنت ملعونة. يجب أن تموتي. إلهي قد سمرك على الصليب. وإني أضعك هناك باختياري وبمحض إرادتي بالإيمان وسأتركك معلقة هناك".

فعلى الإنسان أن يسلم الذات باختياره للمسيح حتى يصلبها، وهو الذي يقوم بدور إماتتها … ثم اسلك في الحياة حاسباً نفسي ميتاً "احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية"(رو11:6). فان حاولت الخطية أن تتجاذب أطراف الحديث معك لكي تسقطك في حبائلها، لا تجاوبها لأنك ميت. لا تتفاوض مع الشيطان بل اعتبر نفسك ميتا.. لا يغرنك العالم لأنك قد حسبت نفسك مائتا.. ولا يقتصر عملك على هذه النواحي السلبية بل تتجه بقلبك في الحال إلى شخص الرب يسوع الساكن فيك وقل له:

حام عنى يوم تأتى الريح بالموج العنيف

في ظلام الليل ربي واحمني

وأمر الريح وموج البحر طراً بالوقوف

بل تعـال يا حبيبي عزيني

إن المسيح لا يمكن أن أن يملك على عرش القلب إن لم تمت الذات، فسلمها له حتى يصلبها ويميتها "لكي تظهر حياة يسوع في جسدنا المائت."(2كو11:4).



(ب) الاعتـزال:

إن عملية التنقية الداخلية التي يقوم بها الروح القدس يقابلها عمل آخر من جانب المؤمن وهو الاعتزال عن مجال الخطية ومسبباتها. فهذا هو أمر الرب لشعبه "اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لي بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شئ" (2كو17:6،18).

لكن وا أسفاه لقد اختلط أبناء الله بأهل العالم وما عدنا نميز بينهم، حتى أن الله اشتكى من هذه الحالة فقال: يا أبن آدم قد صار لي بيت إسرائيل زغلا. كلهم نحاس وقصدير وحديد ورصاص في وسط كور. صاروا زغل فضة." (حز18:22).



وقديما وقف ايليا وقفته التاريخية وكلم الشعب وقال "حتى متى تعرجون بين الفرقتين. إذ كان الرب هو الله فاتبعوه وان كان البعل فاتبعوه"(1مل21:18). فكن مثل ايليا لنفسك لتحديد موقفها واعتزل عن العالم ومحبة المال والشهوات، وأصدقاء السوء، والأماكن المعثرة لتتيح للروح فرصة تنقية قلبك من الداخل.

هذا هو الجانب السلبي أي تعتزل عن مجال الخطية. ولكن هناك جانب إيجابي وهو الوجود في حضرة الله ومجال النعمة.

لهذا فقد أوصى بولس الرسول تلميذه تيموثاوس قائلا: "أما الشهوات الشبابية فاهرب منها واتبع البر والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي" (2تى22:2).

فعندما تتشبع نفسك بالنعمة تدوس على الخطية التي كانت كالشهد في حلقك وهكذا يقول الحكيم "النفس الشبعانة تدوس العسل" (أم7:27).

(ج) التكريس:

هو التسليم الكامل ومعناه أن تكون إرادتنا كما يريد الرب. ويأتي هذا عندما نعتبر أننا لسنا ملكا لأنفسنا بل للمسيح كما يقول الرسول "أنتم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن. فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله." (1كو20:6).


إن التكريس للقداسة لازم كلزوم التوبة للتبرير. فمن جانب الله تعمل النعمة فينا بسكب الروح القدس ليملأنا، ومن جانبنا علينا أن نسلم القلب بالكامل لله لنحصل على الملء. إن كنت تريد تكريساً كاملا اركع وقل "ضع يارب شوكة في كل متعة، ودودة في كل يقطينة تمتعني أو تعوق تكريس قلبي لك."


المفتاح الصغير:

تقابل خادم مع رجل مختبر وممتلئ من الروح القدس فقال لاحظت شيئاً غريباً فيه، لم أكن حاصلا عليه، الأمر الذي كان له منبعاً للراحة والقوة والفرح الدائم. ولم أنس منظراً رأيته في الساعة 7 صباحاً. بينما كان نور النهار يتسرب إلى غرفة نومه. رأيت الكتاب المقدس مفتوحاً أمامه وهو يقرأه على ضوء شمعة. وبعدما تناول الفطور، مشينا معا وتحدثنا على هذا النحو. قلت له "لقد لاحظت أنك استيقظت مبكراً اليوم" قال "نعم إني قد استيقظت في الساعة الرابعة. لأن سيدي المسيح يعرف عندما أنام كفاية أن يوقظني ليكون لي شرف الشركة معه" سألت "وماذا كنت تعمل؟" أجاب "تعرف أن المسيح قال إن أحبني أحد يحفظ كلامي" وأنا أطالع الكتاب كل صباح حتى أرى كم أنا أحفظ من وصاياه وكم مقدار محبتي له" سألته "وهل صرفت كل هذا الوقت من الرابعة إلى ما بعد السابعة صباحاً في مطالعة الكتاب؟" قال "نعم صرفتها في مطالعة الكتاب والصلاة" سألته "وكيف أكون نظيرك؟" أجاب "هل فتحت قلبك للمسيح لكي يملأك من شخصه؟" قلت "نعم إني فتحت قلبي له بطريقة عامة. ولست أظن أنى فعلت هذا بطريقة خاصة" قال "عليك أن تفعل هذا بكيفية خاصة".


وفي مخدعي ركعت على ركبتي في تلك الليلة. وافتكرت أنى أقدر أن أسلم نفسي للمسيح بسهولة. أعطيته حلقة حديدية مملوءة مفاتيح، حلقة مفاتيح إرادتي مع كل مفاتيح حياتي، بعد أن انتزعت منها مفتاحاً واحداً صغيراً وضعته في جيبي، فسألني الرب "هل هذه كل المفاتيح؟" أجبت "نعم يارب قد أعطيتك الكل إلا مفتاحاً واحداً صغيراً، وهو مفتاح غرفة صغيرة في قلبي يجب أن أكون أنا المسيطر عليها" قال الرب "إذا كنت لا تأتمني على الكل فأنت لا تأتمني بالمرة." وحاولت أن أنتحل لنفسي أعذاراً وأقدم شروطاً للرب. قلت "يا سيدي الرب إني نستعد أن أكرس لك كل شئ آخر. فقط أنا لا أقدر أن أعيش بدون محتويات هذه الغرفة" في ذلك الوقت كنت كمن يعرج بين الفرقتين. فلو أنني امتنعت عن تسليم مفتاح تلك الغرفة ما كان باركني الرب أو بارك خدماتي. أراد أن يتركني، إلا أني بادرت ودعوته وقلت "يارب أنا لست راضياً لكني أريد أن تجعلني راضياً" تقدم إليَّ واقترب منى ثم تناول المفتاح الصغير من يدي، وذهب توا إلى الغرفة المحبوبة وفتحها. عرفت ما سيحدث هناك كما عرف هو أيضاً. وفي الحال نظف تلك الغرفة نظافة تامة، ولم يتركها فارغة، بل ملأها بشيء آخر أفضل. عندئذ أدركت مقدار غباوتي وجهلي. إنه أراد أن يزيل الجواهر المزيفة، ليعطيني بدلاً عنها جواهر حقيقية وثمينة. لقد نقاها مما أتلف حياتي، وعوض ذلك أعطاني نفسه. من ذلك الوقت صار الرب متكلي وسندي وكان تكريسي الكامل شرطاً ضرورياً وأساسياً لنوالي كل بركاته واختبار قوته الحافظة".


اختبار راهب:

سجل راهب من الكنيسة الشرقية اختباراً جميلا فقال:

كثيرا ما يبدو يسوع سجيناً في نفسي، وكأنه بلا حراك تماماً كما كان في القبر قبل القيامة. وحجر خطاياي الكبير يجعله هكذا، كم من مرة اشتاقت نفسي أن تري يسوع قائماً في نوره وقوته! كم من مرة حاولت أن أدحرج الحجر ولكن بلا جدوى! إن ثقل الخطية مع ثقل العادات المرتبطة بها كان أقوى جداً.. وكثيراً ما قلت لنفسي في يأس: من يدحرج الحجر؟".

والآن.. لقد وجدت النسوة أن الحجر قد دحرج بطريقة لم يتوقعنها، "حدثت زلزلة لأن ملاك الرب نزل من السماء ودحرج الحجر".(مت2:28).



فلكي يتدحرج الحجر لابد من معجزة مروعة ـ زلزلة! لأن مجرد رفعه أو إزاحة بسيطة لن تكون كافية. هكذا أيضاً ذلك الحجر الذي يبدو أنه يشل حركة يسوع فيَّ يحتاج إلى زلزلة أي إلى انقلاب باطني عنيف، وتغيير جذري كامل. فالأمر يحتاج إلى قذيفة من النور لتهزني، وهكذا يقوم المسيح فيَّ إذ يختفي إنساني العتيق ليعطي مكاناً للإنسان الجديد. وهذا الأمر يتعدى التعديل والتنظيم إذ يستلزم موتاً ثم ولادة.

{كتاب حوار مع مخلص ص145}

القلعـة الأخيـرة:

إن من يقدم على عمل التكريس الحقيقي يساعده الله بأن يعمل فيه شيئاً فشيئاً إلى أن يلاشى حياة الذات منهم. وفي الغالب تتركز كل قوي الذات في نقطة وتتأصل وتصير كقلعة. وعندما تقهر تلك النقطة وتسلم تلك القلعة حينئذ تأتى النصرة. كان يمكن أن يكون إبراهيم راغباً في تسليم كل شئ، ولكن إذ لم يكن قد سلمه، فكل الأشياء التي سلمها تعد كلا شيء. فالله يريد اسحق حياتنا.

وعزيا الملك كان القلعة الأخيرة في حياة أشعياء النبي لتعلق أشعياء به، وفي السنة التي مات فيها عزيا رأى أشعياء مجد الرب. فلا بد أن يموت عزيا العزيز في قلبك.


كثيرون من المسيحيين يظلون متمسكين بشيء عزيز في حياتهم بينما الروح القدس يطلب منهم تركه حتى يحصلوا على البركة، ربما يكون الشيء الذي تمسكه عن المسيح زهيداً جداً، وتقول أن الله لا يطلب هذا الأمر الزهيد، ولكن هذا الأمر الزهيد هو القلعة التي تحصنت فيها الخطية، وسيظل هذا الأمر الزهيد علة النزاع والصراع في حياتك. ربما يكون هذا الشيء الزهيد هو اهتمامك بنوع من أنواع الزينة يا أختي، أو التمسك بعادة معينة يا أخي تصر على الاستمرار فيها، أو صلة مع آخرين لا تريد قطعها. ولسان حالك يقول استلم يارب كل شيء، ولكنك تحتـفظ بهذا الأمر البسيط لأنك تحبه وتتعلق به، ولكن اسمع ماذا يقول المرنم: "إن راعيت إثماً في قلبي لا يستمع لي الرب" (مز18:66).

ولكن أعلم يا أخي أنه قبل مجيء البركة يجب أن يكون هناك تسليم تام كامل بدون قيد أو شرط. قال أحد القديسين "اترك الكل تأخذ الكل". عندما تسلم الإرادة القلعة الأخيرة حينئذ يحل المسيح بملء حياته بدل حياة الذات القديمة، فيتأكد المؤمن حينئذ أنه ميت عن الخطية وحي في الله بالمسيح يسوع.


خلاصـــة:

رأيت يا أخي شقيّ التقديس فالإنسان يقبل باختياره إماتة ذاته، ويعتزل عن مجالات الخطية، ويقبل تكريس نفسه للمسيح، فهو بهذا العمل الثلاثي الاختياري يسلم نفسه لله. والله من جانبه يعمل فينا مقدساً ذواتنا، فيعطينا القلوب الجديدة التي تبغض الخطية وتحتقرها، وتحب المسيح وتتعلق به، ثم ينقي ذواتنا من شوائب الشرور، ويسكب فينا روحه القدوس ليتسلم قيادة حياتنا في موكب النصرة. "فشكراً لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معروفة في كل مكان"(2كو14:2).



إيضاحـات هامـة:

بعد أن عرفت هذا بخصوص القداسة يجب أن نستوضح بعض النقاط حتى لا تفشل في حياتك. وهذه النقاط هي القداسة والعصمة، ثم القداسة والتجربة.


1- القداسة والعصمة:

لا تظن يا أخي أن القداسة هي العصمة من الخطية، فلا يوجد سوى الله وحده المعصوم منها. أما القداسة فهي الحالة التي يكون فيها المؤمن محصناً بقوة الله ضد الوقوع في الخطية كما يقول بطرس الرسول "أنتم الذين بقوة الله محروسون" (1بط5:1). ولكنه بلا شك هو معرض للسقوط في أية لحظة إن تهاون في حياته، أو نظر إلى وراثة.. فان أسمي درجات النعمة لا تجعل الإنسان غير قابل للسقوط … فمهما وصلنا من درجات الاختبار في النعمة، فان إمكانية الوقوع في الخطأ ملازمة لطبيعتنا، إلى أن نخلص من هذا الجسد الفاسد بمجيء الرب يسوع في مجده ويغير أجسادنا.

وتعرضنا للسقوط ناتج من أن الله عندما قدسنا وجدد قلوبنا لم يسلبنا حرية الإرادة وإلا أصبحنا كالحيوان. فحيث أن إرادتنا موجودة فينا إذن فالإرادة معرضة لقبول عروض الشيطان بالخطية وما لم يحذر المؤمن ويظل مخضعاً إرادته لإرادة الله، ومشيئته لمشية سيده، يعرض نفسه لخطر السقوط في الخطية، ويحتاج الأمر إلى إعادة خطوات التقديس معه. وجميل جداً أن تعرف أنه من صفات القداسة أنك إن سقطت تقوم في الحال وتنتفض، وتعود إلى حضن أبيك، ولسان حالك يقول للخطية "لا تشمتي بي يا عدوتي إذا سقط أقوم. إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي.. سيخرجني إلى النور سأنظر بره. وترى عدوتي فيغطيها الخزي" (ميخا8:7ـ10). تقوم وتأتى إلى الله عالماً أن لك في دم الصليب كفارة، وفي قلب يسوع مكانة.



2- القداسـة والتجـربة:

إذ أن القداسة ليست هي العصمة من الخطية، لهذا فالمؤمن معرض للتجربة مهما حصل على اختبارات النعمة، ومهما نما في معرفة مخلصه ومهما تقدم إلى الأمام في حياته الروحية.

والتجربة هي عرض الخطية على المؤمن لمحاولة إسقاطه فيها. وليس في ذلك خطية إن كان المؤمن لا يستجيب لهذا العرض بل يرفضه. وهناك تجارب أخري يشنها إبليس ضد أولاد الله. ومن هنا نجد أن حياة المؤمن هي حرب دائمة مع قوي الشر. وهذه الحرب على مرحلتين.

( أ ) مرحلـة أوليـة:

(وهي الحرب الداخلية) في بداية حياة المؤمن الروحية. وتكون الحرب عنيفة والصراع مرير. صورها نيافة الأنبا إغريغوريوس أسقف الدراسات العليا والبحث العلمي يقول: (لاحظوا أن الكلام الذي قاله الرسول بولس "الروح يشتهى ضد الجسد والجسد ضد الروح". فانه يصف فيه مرحلة أولية من حياة التوبة ليعبر فيها الرسول عن مرحلة (التماس) بين حالة الخطية وحالة التوبة. هذه هي المرحلة التي يكون فيها الإنسان قد خرج من حالة الخطيئة ودخل في حالة النعمة. هنا في هذه المرحلة يكون الإنسان في حالة حرب شديدة، قوة تشده من هنا وأخرى تشده من هناك. إنما هذه الحالة لا تستمر طويلا، هذا النزاع بين الروح والجسد لا يستمر طويلا. بل شيئاً فشيئاً يبدأ الإنسان في حالة النعمة ودخوله في دائرة الفضيلة يعلوا شيئاً فشيئاً عن مرحلة التماس، ويعلوا على مرحلة الصراع. ولا تكون الخطية بعد جذابة ولا يكون لها إغراء. وقد تحاول الخطيئة أن تدخل إلى حياة التقي أو القديس ولكن عن بطريقة غير واضحة – تدخل إليه مستورة. تدخل إليه لابسة لباساً غير لباسها، لأن يوم تدخل الخطية بلباسها الحقيقي تكون شنيعة جداً في نظر القديسين). (مفهوم الخلاص في الكنيسة الأرثوذكسية ص19،20 نيافة الأنبا إغريغوريوس).

(ب) مرحلـة متقدمـة:

(وهي الحرب الخارجية) وهي وإن كانت في مظهرها أعنف من الأولى، إلا أنها في حقيقتها أهون منها، لأن ميدانها خارج حدود النفس إذ انتقل العدو إلى خارج وأصبحت هجماته كصرخات اليأس. وتتخذ الحرب صورة أخرى، فبعد أن كانت في المرحلة الأولي محاربات شهوة وخطية، تكون في هذه المرحلة (أي الحرب الخارجية) عبارة عن اضطهادات، ومضايقات وشدائد.. وربما تصل إلى الضرب والسجن وقتل الجسد.. وهي في صورتها صعبة ولكن في حقيقتها هينة ولذيذة جداً لنفس المؤمن لأنها من جهة فهي لا تمس الروح، ومن جهة أخري هي شركة آلام رب المجد. فبولس الرسول يقول "لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات"(فى10:3). ولهذا نراه يقول "لذلك أسر بالضعفات والشتائم والضروريات والاضطهادات لأجل المسيح".(2كو10:12).


وقد تكلم أيضاً نيافة الأنبا إغريغوريوس أسقف الداسات والبحث العلمي فقال: (وربما يصل الإنسان في حالة الفضيلة إلى مرحلة معها تسقط عنها الحرب الداخلية لكن ليس معنى ذلك أن الإنسان يصل إلى مرحلة تسقط عنه كل الحروب، فالروحانيون حربهم في الغالب أصبحت حرباً خارجية. بعد أن يكونوا بالمجاهدات الروحية قد طردوا الشهوات من حياتهم ووصلوا إلى مرحلة الاتحاد بالله، وبعد أن يكونوا قد وصلوا إلى الإماتة بأن يموت الإنسان عن نفسه ويصل إلى المرحلة التي عبر عنها الرسول "فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في " يكون قد مات بمعنى الإماتة الجسمانية، هذه الإماتة، فعل الإماتة معناه أن يموت الإنسان نهائياً عن رغباته فتسقط عنه كل شهوة وتصبح إرادة الله هي إرادته ومشيئة الله هي مشيئته وتصبح شهواته كلها صالحة. إن كبار الروحانيين يصلون إلى هذه المرحلة فمعها تسقط الحرب الداخلية ولكن مع هذا تكون هناك حرب من الخارج. والشيطان يحاربهم عن طريق مشورات خارجية لكنها قد لا تكون لها أثر عليهم، وأيضاً عن طريق الاضطهادات، أو عن طريق الحروب، أو عن طريق المعاكسات من الناس، أو معاكسات من أي قوة خارجية، أو أنواع من الضيق والشدائد التي يقعون فيها، أو أنواع من الظلم الذي يصيبهم من الناس. ممكن أن يصل كبار الروحانيين إلى مرحلة معها تسقط عنهم الحروب الداخلية أو على الأقل تقل جداً إلى الدرجة التي تصبح معها تكاد أن تكون معدومة … ولكن مرة أخرى لا يفهم هذا أن الإنسان يصل إلى حالة العصمة.) {المرجع السابق صفحة 20،21.}

هذا عن عمل النعمة في المرحلة الثانية من حياة المؤمن وهي التقديس. بقي أن نعرف المرحلة الثالثة عن عمل النعمة وهي:

ثالثـاً:- التمجيـد

يقول معلمنا بولس الرسول "متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد" (كو4:3). هذا هو التمجيد الذي سيحصل عليه المؤمن بالنعمة يوم ظهور الرب، حيث يتم قول الرسول "الذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً" (رو29:8،30).

هذا هو الرجاء الذي ينتظره المؤمن على أحر من الجمر "منتظرين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح"(تى13:2). يوم يأتي ليخطف المؤمنين "لأن الرب نفسه بهتاف بصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولا. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء. وهكذا نكون كل حين مع الرب" (اتس16:4ـ18).

في ذلك اليوم تكون عطية النعمة لنا:

1- أجساد غير فاسدة:

فهذا الجسد الفاسد الذي كان سبب متاعبنا في نضالنا المرير ضد الخطية سيتغير إلى جسد غير فاسد. هذا ما وضحه بولس الرسول بقوله "هو ذا سر أقوله لكم. لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير. فانه سيبوق فيقام الأموات عديمي فساد ونحن نتغير. لأن هذا الفاسد لا بد أن يلبس عدم فساد. وهذا المائت يلبس عدم موت. ومتى لبس هذا الفاسد عدم فساد ولبس هذا المائت عدم موت فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة ابتلع الموت إلى غلبة … ولكن شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح" (1كو51:15ـ57).

2- أجسـاد ممجـدة:

فأجسامنا هذه الترابية الفاسدة التي ألبستنا الهوان ستتغير إلى أجساد ممجدة، إذ يقول الرسول "إن سيرتنا نحن هي في السموات التي منها ننتظر مخلصنا هو الرب يسوع المسيح الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده"(فى5:3،21). ويقول أيضاً "يزرع في فساد ويقام في عدم فساد. يزرع في هوان ويقام في مجد"(1كو42:15،43).


3- أجساد روحانية:

نحن الآن في أجساد مادية حيوانية، ولكن في ذلك اليوم ستكون أجسادنا روحانية كما قال الرسول بولس "يزرع جسما حيوانياً ويقام جسما روحانياً. يوجد جسم حيواني ويوجد جسم روحاني ... لكن ليس الروحاني أول بل الحيواني وبعد ذلك الروحاني."(1كو44:15،46).

4-أجساد كجسد المسيح السماوي:

يقول يوحنا الحبيب "أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله ولم يظهر بعد ماذا سيكون. ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله لأننا سنراه كما هو" (1يو2:3). ويضيف بولس الرسول قائلا "كما لبسنا صورة الترابي (آدم) سنلبس أيضاً صورة السماوي (المسيح)" (1كو49:15).

هذا هو عمل النعمة البحت ولا دخل للإنسان في ذلك، فالرب نفسه هو الذي سيغير أجسادنا يوم مجيئه بعمل نعمته ولهذا يقول معلمنا بطرس الرسول "فالقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح" (1بط13:1).

وعندما نلبس الأجساد غير الفاسدة الممجدة الروحانية التي هي كجسد المسيح السماوي نستطيع أن نتمتع بشخصه المبارك وبالحياة معه في المجد.


هذا هو عمل النعمة الفائقة.(2كو14:9). من تبرير وتقديس وتمجيد "فشكراً لله على عطيته التي لا يعبر عنها"(2كو15:9).