دروس قرآنية ( 3 ) Qur'anic Studies ( 3 )

نظم القرآن و الكتاب

The Composition of the Qur'an and the Book

يوسف درة الحداد

Professor Youssef Durrah al-Haddad

الكتاب الأول : إعجاز القرآن

Book One : The Inimitability of the Qur’an

www.muhmmadanism.org

Andalus & Arabic Transparent fonts

February 14, 2004

دُروسٌ قُرآنيّة

3

نَظمُ القُرآنِ وَ الكِتَابِ

* إعْجَازُ القُرآن

** مُعْجزة القُرآن

دُروسٌ قُرآنيّة

3

نظم القرآن و الكتاب

*

الكتاب الأول : إعجاز القرآن

(( و ما يعلم تأويله إلاّ اللّه !

(( و الراسخون في العلم يقولون : آمنا به ))

( آل عمران 7 )

 

الأستاذ يوسف درّة الحداد

هذا الكتاب

نَظُم القرآن مفخرةٌ في آداب الدين والدُّنيا، وهو أية الضاد والإسلام. عَرض لـه الأستاذ الحداد بطريقة علميّة حافلة بالدقّة، واستند، أكثر ما اسـتند، في عرضه هذا إلى كتاب (( الإتقان في علوم القرآن )) لجلال الدين السيوطي الذي يُعدّ خلاصة ما كُتِب ومرجعَ ما يُكتب في موضوع الإعجاز القرآني.

تناول المؤلّف أولاً تاريخ الكلام في إعجاز القرآن فبين موقف الفِرَق الإسلاميّة من ذلك، ثم انتقل إلى الإعجاز في معنى القرآن ومبناه، وتوقّّف طويلاً عند لغة القرآن وبيانه وبديعه، وجال جولات واسعة في المقدّم والمؤخَّر، والعام والخاص، والمجمَل والمبيَّن، والآيات المتشابهات، ولم يفُتْه النظر في المحكَم والمتشابه من القرآن، والناسخ والمنسوخ، وغريب القرآن، وأساليب نظمه وفنونه، وتوقّف أخيراً عند الإعجاز في ذاته وفي رأي بعض العلماء، ثم عند الإعجاز ما بين الإنجيل والقرآن. وكان في ذلك كله نظراً ثاقباً، ورأياً حكيماً، وعالِماً

ـ هـ ـ

يقيس كل شيء بقسطاس الاتّزان والعلم. وانتهى إلى القول: الإعجاز في التنزيل ،بياناً وهُدىً، ميزة ((الفرقان)) كله أي التوراة والإنجيل والقرآن بحسب شهادة القرآن نفسه. فليس الإعجاز ميزة القرآن وحده، بل ميزة التوراة والإنجيل (( من قبل )) ، وما جاء القرآن إلاّ (( مصدِّقاً لما بين يديه )) أي قبله.

( حنا الفاخوري )

تمهيد

(( هذا بيان للناس ))

 

نظم القرآن مفخرة في آداب الدين والدنيا.

وهو آية الضاد والإسلام في كل زمان ومكان.

وهذا النظم العجيب (( إعجاز ومعجزة )).

ندرس في هذا الكتاب الأول ( إعجاز القرآن ) في واقعه. وفي كتاب آخر (معجزة القرآن). ندرس معجزة الإعجاز، دليلاً على النبوة والرسالة.

وقد جمع خاتمة المحققين، جلال الدين السيوطي في كتاب شهير (الإتقان في علوم القرآن) ـ وهو خلاصة كتب جميع الذين سبقوه ـ خيرَ البحوث في نظم القرآن، إعجازه ومعجزته. فرأينا أن نوجز هنا بعض فصوله مع تعليق موجز عليها.

*

وصف القرآن نفسه بثلاث صفات تحدِّد معنى إعجازه (( ذلك اللّغز الذي حيّر الناس1 )) : ((حكى ابن حبيب النيسابوري ثلاثة أقوال: أحدها إن القرآن

ــــــــــــــــ

(1) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي 307 .

ـ ز ـ

كله محكم لقوله تعالى: (( كتاب أحكمت آياته )) (هود 1). الثاني كله متشابه لقوله تعالى: ((الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً )) ( زمر 23 ) . الثالث وهو الصحيح انقسامه إلى محكم ومتشابه لقوله تعالى: ((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أمّ الكتاب، وأخر متشابهات )) (آل عمران 7). والمحكم لا تتوقف معرفته على البيان، والمتشابه لا يرجى بيانه1)). ولذلك يقول:

(( وما يعلم تأويله إلا الله!

(( والراسخون في العلم يقولون: آمنا به )) !

(آل عمران 7)

ــــــــــــــــ

( 1 ) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن 2:2 .

ـ ح ـ

فهرس

 

 

صفحة

توطئة

هذا بيان للناس

ب

الفصل الأول

تاريخ الكلام في إعجاز القرآن

1

موقف الفرق الإسلامية

1

الإعجاز علم مستحدث

4

كتب الإعجاز عبر الأجيال

5

الفصل الثاني

الإعجاز البياني في سلّم الإعجاز المطلق

12

الفنون الجميلة

12

إعجاز القرآن في نظمه و بيانه

13

الفصل الثالث

كيفية الوحي القرآني : أباللفظ ؟ أم بالمعنى ؟

14

الفصل الرابع

لغة القرآن

16

لغة قريش و لغة نجد

16

لغة القرآن و لغة الشغر الجاهلي

20

الفصل الخامس

تأليف القرآن في تنزيله

22

نزول القرآن منجَّماً

22

علم المناسبة : الروابط لترتيب الآي في السورة

25

الفصل السادس

في بيان القرآن

28

مدرسة يحيى الدمشقي و مجاز القرآن

28

ـ ط ـ

صفحة

بحث أول : وجوه الخطاب في القرآن

29

بحث ثانٍ : المجاز في القرآن

32

بحث ثالث : التشبيه في القرآن

37

بحث رابع : الاستعارة في القرآن

38

بحث خامس : الكناية و التعريض في القرآن

40

بحث سادس : الحصر و الاختصاص في القرآن

41

بحث سابع : الإيجاز و الإطناب في القرآن

43

بحث ثامن : الخبر و الانشاء في القرآن

50

خاتمة البحث : إعجاز القرآن في بيانه العربي

56

الفصل السّابع

البديع في القرآن

63

أنواعه مائة و نيف

63

موقف أصحاب الإعجاز من البديع

98

هل من إعجاز في التوراة و الإنجيل ؟

100

الفصل الثامن

من الإعجاز في نظم القرآن

103

بحث أول : في مقدمه و مؤخره

104

بحث ثانٍ : في عامه و خاصه

106

بحث ثالث : في مجمله و مبينه

109

بحث رابع : في مشكله و موهم الاختلاف و التناقض

112

بحث خامس : في الآيات المتشابهات

116

الفصل التاسع

المحكم و المتشابه في القرآن

118

أولاّ : من المتشابه آيات الصفات الإلهية

121

ـ ي ـ

صفحة

ثانياً : من المتشابه فواتح السور بالحروف المتقطعة

122

ثالثاً : نظرة الأستاذ دروزة : القرآن أسس و وسائل

123

الفصل العاشر

الناسخ و المنسوخ في القرآن

127

تاريخ النسخ في التنزيل و الجمع

128

أنواع النسخ

131

الفصل الحادي عشر

(( غريب القرآن ))

134

بحث أول : غريب القرآن في مفرادته

134

أولاً : ألفاظه الغريبة

134

ثانياً : ما وقع فيه بغير لغة الحجاز

137

ثالثاً : ما وقع فيه بغير لغة العرب

141

بحث ثانٍ : غريب القرآن في الضمائر و الافراد و النظائر

145

أولاً : الضمائر في القرآن

145

ثانياً : (( الأفراد )) في القرآن

146

ثالثاً : في معرفة الوجوه و النظائر

149

بحث ثالث : غريب القرآن في بعض تراكيبه و تعابيره

151

أولاً : غريب القرآن في التذكير و التأنيث

151

ثانياً : غريب القرآن في التعريف و التنكير

152

ثالثاً : غريب القرآن في الإفراد و الجمع

153

رابعاً : غريب القرآن في السؤال و الجواب

154

خامساً : غريب القرآن في الخطاب بالاسم و الخطاب بالفعل

154

سادساً : غريب القرآن في أحوال العطف

155

ـ ك ـ

 

صفحة

الفصل الثاني عشر

أساليب نظم القرآن و فنونه

157

أولاً : السور المسجعة و الموزونة و المقطعة

157

ثانياً : فواصل القرآن

160

ثالثاً : مخالفة الأصول مراعاةً للفاصلة في أربعين حكماً

164

رابعاً : أسرار فواتح القرآن

168

خامساً : التطور في أساليب النظم

169

سادساً : عهود الدعوة و أثرها على أساليب القرآن

175

الفصل الثالث عشر

ما هو إعجاز القرآن

177

بحث أول : واقع الإعجاز البياني في القرآن

177

بحث ثانٍ : الاختلاف على وجه الإعجاز

183

بحث ثالث : مسائل في الإعجاز القرآني

188

خاتمة الكتاب

الإعجاز ما بين الإنجيل و القرآن

192

أولاً : التحدّي بالإعجاز في الإنجيل و القرآن

192

ثانياً : أثر هذا التحدي بهما عند السامعين

193

ثالثاً : الإعجاز بالأقوال و الأعمال فيهما

195

رابعاً : أقوال الأستاذ العقاد في إعجاز الإنجيل

198

خامساً : (( الفرقان )) كله معجز

201

ـ ل ـ

الفصل الأول

تاريخ الكلام في إعجاز القرآن

كان إعجاز القرآن فرعاً من علم التفسير، ثم صار باباً من علم الكلام، أخيراً استقل في القرن الرابع الهجري علماً قائماً بنفسه. وأمسى اليوم عقيدة إيمانية.

والإعجاز ناحيتان: الإعجاز ذاته، ثم دلالته على أنه معجزة القرآن التي تشهد له. قال الرافعي: (( وهل يراد من إثبات الإعجاز إلا إثبات أنه كلام الله تعالى )) .

وقد أنكره بعض الفرق الإسلامية مع بعض المعتزلة، واعتمده المتكلمون ليقيموا الدليل على صحة الوحي والنبوة في القرآن كأنه ليس لهم سواه دليلاً.

سنرى لمحة من تاريخ الكلام في إعجاز القرآن عند الفرق الإسلامية ونقول كلمة في أمهات كتب الإعجاز عند أهل السنة والجماعة.

*

قد أفرد مصطفى صادق الرافعي فصلاً عن تاريخ الكلام في القرآن وإعجازه، في كتاب ( إعجاز القرآن ) ننقل منه ما يلي 1 .

كان أول ما ظهر من الكلام في القرآن مقالة لبيد بن الأعصم. فكان يقول: إن التوراة مخلوقة: فالقرآن كذلك مخلوق.

البنانية أو البيانية. فأخذ المقالة عن ابن الأعصم بنان بن سمعان الذي إليه تنسب البنانية، وقد لقّبت بالبيانية. جاء في ( تأويل غريب الحديث ) لابن

ــــــــــــــــ

( 1 ) مصطفى صادق الرافعي: إعجاز القرآن والبلاغة النبوية 160-174 .

ـ 1 ـ

قتيبة أن أول من قال بخلق القرآن قوم من الرافضة يقال لهم البيانية، ينسبون إلى رجل يقال له (بيان) وقد كان يقول إليَّ : أشار الله بقوله (( هذا بيان للناس )). وهذا تحريف لاسمه مقصود للنكتة، فصار لقب بنان بياناً وعرف المذهب بالاسمين.

الجعديّة. وتلقاها عنه الجَعْد بن درهم (مؤدب مروان بن محمد آخر خلفاء بني أميّة). (( فكان أول من صرّح بالإنكار على القرآن والردّ عليه، وجحد أشياء ممَّا فيه. وأضاف إلى القول بخلقه، أن فصاحته غير معجزة وأن الناس يقدرون على مثلها وعلى أحسن منها. ولم يقل بذلك أحد قبله. ولا فشت المقالة بخلق القرآن إلا من بعده إذ كان أول من تكلم بها في دمشق عاصمة الأمويين. وكان مروان (ويلقب بالحمار) يتبع رأيه، حتى نسب إليه فقيل: ((مروان الجعدي )) .

وشاعت المقالة بخلق القرآن ومعارضته في صدر العهد العباسي في زمن المأمون.

المعتزلة. وقد تزعم هذه المقالة المعتزلة، بعد دراسة كتب الفلسفة مما وقع إليهم عن اليونان وغيرهم، فنبغت لهم شؤون أخرى من الكلام، وتفرقوا عشر فرق، واختلفت بهذا آراؤهم في وجه إعجاز القرآن اختلافاً كبيراَ. وقد فشت مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة.

الرافضة. اسم عام أُطلق على بعض غلاة الفرق الذين كانوا ينكرون أشياء من القرآن. وقد أُطلق أيضاً على فرقة خاصة. قال الرافعي: ((أما الرافضة ـ أخزاهم الله ـ فكانوا يزعمون أن القرآن بُدِّل، وغُيِّر، وزيد فيه فيه، ونُقص منه، وحُرِّف عن مواضعه، وأن الأمة فعلت ذلك بالسُنن أيضاً. وكل هذا من مزاعم شيخهم وعالمهم هشام بن الحكَم)) .

بعض الشيعة. (( وقال المرتضى من الشيعة (وقد أخذ بمبدإ الإعجاز بالصرفة) بل معنى الصرفة أن الله سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في المعارضة ليجيئوا بمثل القرآن. فكأنه يقول: إنهم بلغاء يقدرون على مثل النظم والأسلوب، ولا يستطيعون ما وراء ذلك مما لبسته ألفاظ القرآن من المعاني، إذ لم يكونوا أهل علم ولا كان العلم في زمنهم )) .

ـ 2 ـ

العجاردة. (( إما إنكار أشياء من القرآن نفسه على أنها ليست منه فقد وقع لبعض الكفرة كالعجاردة الذين ينسبون إلى عبد الكريم بن عجرد في أواخر المائة الأولى. فإنهم ينكرون مثلاً أن سورة يوسف من القرآن لأنها قصة كما زعموا )) .

المزدارية. ((ولم تظهر فتنة ا لقول بخلق القرآن، بعد الجعد والخليفة مروان، إلا في زمن أحمد بن أبي ذود، وزير المعتصم (سنة 220 هـ). وكان أول من بالغ في القول بذلك عيسى بن صبيح الملقب بالمُزْدار الذي إليه تُنسب المزدارية. وكان الرجل من الزهد والورع بمكان حتى لقبوه راهب المعتزلة. وقد زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة وبلاغة ونظماً )) .

النظّامية. تفشت الفتنة وعظم الخطب بين أهل السنة والمعتزلة. فتوسّط ((المتكلمون)) أهل علم الكلام بين الفريقين ليردوا على المعتزلة بسلاح العقل والنقل معاً.

(( فذهب شيطان المتكلمين أبو إسحاق النَظام 1 إلى أن الإعجاز كان بالصّرفة وهي أن الله صَرَف العرب عن معارضة القرآن مع قدرتهم عليها. فكان هذا الصرف خارقاً للعادة. أما الشطر الآخر من رأيه فهو أن الإعجاز إنما كان من حيث الإخبار عن الأمور الماضية والآتية)) . وقد لخص الجاحظ زعمهم بقوله: ((يزعمون أن القرآن حق وليس تأليفه بحجّة، وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة )) .

فالإعجاز عندهم يقوم على النبوة لا على البيان الخارق وهذا قول قريب من مقالة النصارى في حقيقة الإعجاز النبوي.

على أن القول بالصرفة هو المذهب الفاشي من لدن قال به النظام، يصوّبه فيه قوم ويشايعه عليه آخرون.

ــــــــــــــــ

( 1 ) من يسميه الرافعي شيطان المتكلّمين كان يسميه الجاحظ أحد المصلحين الذين يجود بهم الدهر مرة كل ألف سنة: قال: (( إن السلف زعموا أن كل ألف عام يظهر رجل لا نظير لـه فإذا صدق هذا الزعم كان النظام هذا الرجل للألف عام هذه )) ( تجدها في حياة المسيح للعقاد 32) .

ـ 3 ـ

الجاحظية. ((أما الجاحظ فرأيه في الإعجاز كرأي أهل العربية وهو أن القرآن في الدرجة العليا من البلاغة التي لم يُعهد بمثلها كما جاء في كتابه (نظم القرآن). غير أن الرجل كثير الاضطراب. ولذلك لم يسلم هو أيضاً من القول بالصرفة وإنْ كان قد أخفاها وأومأ إليها عن عرض (في كتاب الحيوان). وجاء على هامش الكامل (ج 2 ص 145 ) زعم الجاحظ أن القرآن جسم، وزادوا على قوله: ((أنه جسم يجوز أن ينقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً أو أنثى)). وما هذا القول سوى استعارة مستورة للقول بخلق القرآن.

الحسينيّة. ((هم الذين يقولون إن القرآن غير معجز، لا بقوة القدر، ولا بضعف القدرة، فأشدهم بعد الجعد بن درهم، عيسى بن صبيح المزدار الذي زعم أن الناس قادرون على مثل القرآن فصاحة وبلاغة ونظماً. وهو جنون ليس أقبح منه إلا جنون الحسينية أصحاب الحسين بن القاسم الغناني الذين يزعمون أن كتبهم وكلامهم أبلغ وأهدى وأبين من القرآن)) .

*

أصحاب الإعجاز. يقول بإعجاز القرآن أهل السنة والحديث. ويختلفون في وجه الإعجاز فيه.

وبعض الفرق تقول أن وجه الإعجاز في القرآن هو ما اشتمل عليه من النظم الغريب، المخالف لنظم العرب في مطالعه ومقاطعه وفواصله. فإعجازه في غرابته.

وقال بعضهم أن وجه إعجاز القرآن في فصاحة ألفاظه وسلامتها مما يشين اللفظ.

وقال بعضهم إنما إعجازه في بلاغة معانيه وخلوها من التناقض على حد قوله: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كبيراً )) .

وذهب جماعة إلى أن الإعجاز مجتمع في بعض الوجوه المذكورة جملة.

أما الرأي المشهور ففي الإعجاز البياني كما بينه أصحاب المؤلفات في إعجاز القرآن في القرن الرابع الهجري أمثال الرماني والواسطي والخطابي والجرجاني

ـ 4 ـ

والباقلاني. وكتاب الباقلاني مشهور ((أجمع المتأخرون من بعده على أنه باب في الإعجاز على حِدَة. والغريب أنه لم يذكر فيه كتاب الواسطي ولا كتاب الرماني ولا كتاب الخطابي الذي كان يعاصره. وأومأ إلى كتاب الجاحظ بكلمتين لا خير فيهما. فكأنه هو ابتداء التأليف في الإعجاز. وفي ذلك ما يُثبت لنا أن عهد هذا التأليف (في الإعجاز) لا يُرَدُّ في نشأته إلى غير الجاحظ )) .

فيظهر لنا من هذا الوصف أن علم الإعجاز، والاحتجاج به مستحدث في أواخر القرن الثالث الهجري والقرن الرابع، ومرجع الإعجاز عندهم في القرآن إلى الكلام الجميل.

*

ودرس السيد محمد زغلول سلام 1 (أثر القرآن في تطوّر النقد العربي)، ومما قاله في تاريخ الإعجاز: بدأت الدراسات القرآنية بمحاولات فردية متفرقة لمعرفة المرامي اللغوية المحدودة أو العقلية لأسلوب القرآن. وكان هذا طبيعياً لأن الأمة في أول الأمر كانت أحوج إلى التشريع في نموها من الأدب. ونجد محاولات شتى ترمي إلى معرفة أساليب التعبير أو ((المجاز)) على حدّ تعبيرهم الأول. ولم يكن هذا الاصطلاح يعني شيئاً قبل القرن الثالث. يقول ابن تيمية في (كتاب الإيمان) : ((إن تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز إنما اشتهر في المائة الرابعة. وظهرت أوائله في المائة الثالثة. وما علمته موجوداً في المائة الثانية إلا أن يكون في أواخرها)) .

فقد بدأ بحث المجاز بتأليف (مجاز القرآن) لأبي عبيدة عام 188هـ : وهو أول ما أُلِّف في البيان. وكان لفظ مجاز يعني عنده الخروج عن حدود التعبير العادي إلى طريق آخر من التعبير فيه فضل تأنق. وكانت محاولة أبي عبيدة ضئيلة لكنها كانت جريئة في عصره، ولم يحسن الناس هضمها فتعرّضوا له واعترضوا على الكتاب وقاوموا اتجاهه.

ــــــــــــــــ

( 1 ) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي .

ـ 5 ـ

وقام الجدل واحتدم الخصام حول بيان القرآن من زاوية المجاز بين المعتزلة وأهل السنة. ويمثل الفريق الأول الجاحظ، ويمثل الفريق الثاني ابن قتيبة. وتساءَل الناس هل يسوغ المجاز في كلام الله ! ... لكنهم سلموا به آخر الأمر وتوسعوا في دراسة المجاز وفنون القول في القرآن ثم في الأدب. وتدخلت عوامل جديدة 1 فكانت دراسة الجاحظ في (نظم القرآن) وهي تساير وجهات النظر المحدثة والاتجاهات الناشئة في محاولات دراسة الفنون القولية. وكانت دراسة ابن قتيبة في (مشكل القرآن) تعرّض فيه للمجاز في القرآن وكلام العرب، وقسّمه إلى أبواب. وقد وضع في هذا الكتاب أسس الدراسات البلاغية التي انفصلت عن القرآن، ودراسات أسلوب القرآن تحت أسماء (إعجاز القرآن).

وهكذا ولدت البلاغة في القرن الثالث. وها هي ذي في القرن الرابع تتطور، ويغذوها لبان الهلينية 2 على يدي قدامة بن جعفر في كتابيه (نقد الشعر، ونقد النثر). وهو زعيم المذهب البلاغي الذي تشرب روح أرسطو وغلبت عليه الفلسفة فتأثرها تأثراً واضحاً حتى أطلَّ أرسطو وبرزت روح الفلسفة من بين السطور. ولكن هناك من تأثر بأرسطو تأثراً منهجياً وأخذ روح الفلسفة في دقة النظر والتحليل والخروج بالنتائج، واحتفظ لنفسه بالطابع العربي والذوق الأدبي والروح الإسلامي فجاءَت دراسته للبيان مطبوعة بهذا كله. من هذا الفريق أبو بكر الباقلاني في النقد القرآني والقاضي الجرجاني صاحب (أسرار البلاغة) والآمدي في (نقد الشعر). وهؤلاء كانوا أصحاب المذهب العربي أو كما كانوا يقولون ((طريقة العرب)) . وهناك فريق آخر ثالث تأثر بأرسطو والمنطق إلى جانب ذوق خاص وثقافة عربية وقرآنية. وقد حاول هذا الفريق أن يكون حلقة بين أصحاب المذهب البلاغي وطريقة العرب. وقد اختار أبو

ــــــــــــــــ

( 1 ) هذه العوامل الجديدة بعثتها الترجمات اليونانية، ومدرسة يحيى الدمشقي، فنشأت عنها الحركة المعتزلة وعلم الكلام ودراسات البلاغة والإعجاز. قابل أثر القرآن ص81 .

( 2 ) راجع مقدمة كتاب قدامة (نقد النثر) لطه حسين حيث يظهر تأثر البلاغة العربية بالبلاغة اليونانية .

ـ 6 ـ

هلال العسكري لنفسه هذا المذهب الوسط في كتاب (كتاب الصناعتين) يجمع فيه بين محصول الأولين والآخرين ويحاول التوفيق.

وهكذا انتهت المرحلة الأولى بخروج الدارسات النقدية أو البيانية عن الأصل القرآني الأول إلى صورة أخرى هي دراسات (إعجاز القرآن) ودراسات (علوم البلاغة) من بيان وبديع. فقامت جهود العلماء في القرآن على جلاء المسائل التي تساعد على حل اللغز الذي حيّر الناس وهو الإعجاز. وأتت محاولات شتى للوصول إلى حلّ لـه والاهتداء إلى تعليل. عللوه أولاً بمسائل فلسفية كلامية لكنه لم يستقم وقامت حوله اعراضات ومطاعن. ثم اجتنبوا به ناحية بيانية فتوصلوا إلى نتائج خدمت الأدب والنقد القرآني معاً. وهكذا ظهرت كتب الإعجاز في القرآن الرابع فالخامس.

1 ـ (إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه) لمحمد بن يزيد الواسطي .. وهو أول كتاب مختص بالإعجاز. ولكنه فُقد مع شروحه.

2 ـ (النكت في إعجاز القرآن) لعلي بن عيسى الرماني. وقد نقل عنه السيوطي كثيراً في (اتقانه) وهو يبحث في إعجاز القرآن البلاغي. وتقسيم الرماني البلاغة إلى عشرة أقسام قريب من أقسام أرسطو في كتابي الخطابة والشعر. ويقول: ((وجوه إعجاز القرآن تظهر من سبع جهات: ترك المعارضة، توفر الدواعي وشدة الحاجة، والتحدّي للكافة، والصرفة، والبلاغة، والأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة، ونقض العادة)) . ثم وصف بلاغة القرآن بأنها معجزة لأنها بلغت أقصى ما يمكن أن يصله التعبير باللسان العربي: فبلاغة البلغاء مهما بلغت ممكنة، لكن بلاغة القرآن معجزة وليست في مقدور أحد.

والرماني في (إعجازه) يمثل رأي المعتزلة.

وقد تصدى للرماني ابن سنان الخفاجي، المتوفي 466 هـ: (( فهو ينكر على الرماني جعله القرآن متلائماً في الطبقة العليا، وغيره من كلام العرب في الطبقة الوسطى. فهو يرى أنه لا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام المختار من ناحية

ـ 7 ـ

الفصاحة. وأن في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه. ثم يعود فيشدّد النكير على الرماني لتعرّضه لبلاغة القرآن وجعلها حجة في إعجاز. لأن القرآن يتألف من ألفاظ نطقت بها العرب وجاءت في كلامهم. وجعل القرآن طبقات في الفصاحة قائلاً: ((ليت شعري أيّ فرق بين أن يخلق الله وجهين أحدهما أحسن وأصبح من الآخر، وبين أن يحدث كلامين أحدهما أبلغ وأفصح من الآخر 1 )) .

3 ـ (بيان إعجاز القرآن) لِحَمَد بن ابراهيم الخطابي.

وهو يمثل رأي أهل السنة والحديث. وقد جعل سر الإعجاز في نظم القرآن، بتأليفه المعجز بين فصاحة الألفاظ وبلاغة المعاني، قال: ((إن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ مضمناً أصح المعاني في أحسن نظوم التأليف. وليس للألفاظ وحدها ولا للمعاني أهمية النظم)) .

ـ وهذا التعريف لإعجاز القرآن قريب من فهم عبد القاهر الجرجاني في كتابيه: أسرار البلاغة وإعجاز القرآن.

ولا يهتم الخطابي بفنون القول وموضوع علوم البلاغة والبيان والبديع كثيراً في كتابه. بل يجعلها في المقام الثاني، ويجعل الصدارة للنظم، ليكشف عن سر الإعجاز. فيخالف في ذلك سابقيه. ونبَّهَ إلى وجه آخر من أسلوب القرآن ذلك أثره النفسي: (( قلتُ في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ ممن أجاد منهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس)) .

4 ـ (إعجاز القرآن)، لأبي بكر الباقلاني

وهو يمثل رأي الأشعرية، أهل المنزلة بين المنزلتين، ويحمل راية المذهب الوسط بين أصحاب طريقة العرب كالخطابي وأصحاب البلاغة الهلينية كالرماني.

فهو لم يقتصر في الإعجاز على دراسته من الوجهة الكلامية. بل تعرّض

ــــــــــــــــ

( 1 ) حفني محمد شرف: بديع القرآنلابن أبي الاصبع. تقديم 42 .

ـ 8 ـ

للناحية البيانية والأسلوبية. وخلاصة نظريته ((خروج نظم القرآن عن سائر كلام العرب ونظومهم 1 )) . والدلالة على صحة مفارقة القرآن لكلام العرب هو لب نظريته في الإعجاز.

وإعجاز القرآن، في نظمه وبيانه، منصب عنده على القرآن كله كوحدة بيانية، جملة لا تفصيلاً، كنص كامل له ميزاته وصفاته التي تميزه عن أقوال العرب وفنون كلامهم ولهذا نراه يعارض فكرة الإعجاز البلاغي الذي يتعرض للتحليل الجزئي للعبارة والبحث فيها عن ضروب البيان والبديع ومجاز القول. ثم لا يأخذ بالقول بفصاحة الألفاظ وحدها ويقول: ((ليس الإعجاز في نفس الحروف وإنما هو نظمها وأحكام وضعها)) . فيأخذ بفكرة الإعجاز بالنظم التي نادى بها الخطابي. أخيراً يشير إلى وجوه الإعجاز الاخرى كالأخبار بالغيوب وما جاء فيه من قصص الأولين مع أن النبي كان أميّاً 2 فإعجاز القرآن عنده، بنصه الكامل، لا بفصاحة ألفاظه وحدها أو بلاغة معانيه وحدها. ويخلص إلى القول بأن القرآن معجزة النبي لأنه حوى وجوه الإعجاز الثلاثة المذكورة.

فكان (( منهج الباقلاني محاولة جديدة لنقض المذهب البلاغي، والتقليل من شأنه في فهم إعجاز القرآن )).

الإعجاز النفساني

5 ـ وعبد القاهر الجرجاني المتوفي 471 هـ في (دلائل الإعجاز) نقل سرّ البلاغة من حيّز الألفاظ المتلائمة إلى المعاني المتناسبة، ووقع الكلام في النفس. والجرجاني في دراسته لبلاغة القرآن لا يرجع هذه البلاغة إلى معاني الكلمات مفردة، ولا إلى المقاطع والفواصل لأنها ليست بأصعب من الوزن والقافية في

ــــــــــــــــ

( 1 ) وفي هذا الخروج دليل آخر، غير شهادات القرآن، على انتساب القرآن ونبيه إلى أهل الكتاب ((و دراسته )) للأنبياء والزبور والإنجيل: فالقرآن (( آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)) عنكبوب 47 .

( 2 ) نعت القرآن محمداً بأنه ((أميّ)) لا يعني أمية العلم بل أميّة القومية على حد تعبير اليهود: الذي استعمله القرآن: ((هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم)) .

ـ 9 ـ

الشعر ويذكر أن العرب الذين في مقدورهم ذلك قادرون على المقاطع والفواصل. كما أنه لا يرجع بلاغة القرآن إلى اشتماله على أنواع للبديع لأنها لا توجد في كل الآيات. وإذا صح ذلك فتكون بعض الآيات الخالية من البديع غير بليغة ولا معجزة. ولا يرجع بلاغته إلى ألفاظه السهلة أو الغريبة. وإنما تقوم بلاغة القرآن على تلاؤم معانيه في الكلمات المفردة تلاؤماً يساعد على أداء المعنى العام المقصود في جمال وقوة 1)) .

6ـ وجاء عصر النقل والتلخيص، فلخَّص محمد بن عمر الرازي المتوفي 606 هـ في (نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز) عن كتب الجرجاني في (أسرار البلاغة) و (إعجاز القرآن). وهو يرى أن إعجاز القرآن وبلاغته راجعان إلى فصاحته التي يشتمل عليها نظمه. وهذا النظم معجز في أسلوبه ومعانيه وألفاظه وأنواع البديع فيه.

وجمع ابن أبي الاصبع المصري في (بديع القرآن) كل ما جاء في كتب المجاز من الأنواع وزاد عليها . وسنوجز كلامه في حينه.

7ـ وجاء عصر الجمع لجميع علوم القرآن فكان كتاب (البرهان في علوم القرآن) للزركشي، وكتاب (الإتقان في علوم القرآن) لجلال الدين السيوطي، خاتمة المحققين.

8 ـ ثم جاء عصر الانحطاط فجمدت العقول وخرست الأقلام. وفي عصر النهضة الحديثة رجع القوم إلى دراسة الإعجاز وتاريخ الإعجاز. فكتب مصطفى صادق الرافعي كتابه (إعجاز القرآن) ليقول بأن وجه الإعجاز في القرآن هو (( إعجازه المطلق، فهو معجز من كل الوجوه)) حتى في الوجوه التي رفضها الأولون: ((فالقرآن هو نفس الوحي وذلك تمام إعجازه)) . وألف، من بين

ــــــــــــــــ

( 1 ) حفني محمد شرف: تقديم بديع القرآن 53 – 54 .

ـ 10 ـ

كثيرين، محمد زغلول سلام كتابه (أثر القرآن في تطور النقد العربي) ليخلص إلى القول بأن هذا الأثر ((ظاهرة خاصة بالأدب العربي وحده لم تشاركه فيها أي من الآداب الأخرى لأنها لم تحوِ كتاباً مثل القرآن. وكان لهذا نتائجه التي لم تعرف في أدب غير الأدب العربي ولا في نقد إلاَّ في النقد العربي)) .

وعنهما نقلنا ما ورد في هذا التمهيد. فتبين لنا أن الأمة عارضت القول بوجود المجاز في القرآن. ((والواقع أن المعتزلة قد احتضنوا قضية إعجاز القرآن 1 )). فجاءت بتأثير الفلسفة اليونانية لإيجاد الدليل على النبوة. ثم اعتمد علماء الكلام إعجاز القرآن ليتخذوا منه دليلاً على معجزة القرآن. فكانت نظريةً استحدثوها بعد أجيال وصارت عقيدة عند المتأخرين. وقد عبر عن هذه العقيدة ابن حزم في كتابه (الفِصَل): ((لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز؛ لكن لمَّا قاله الله تعالى، وجعله كلاماً له، أصاره معجزاً ومنع من مماثلته ... وهذا برهان كافٍ لا يحتاج إلى غيره 2 )) . وهذه النظرية تثبت أيضاً للتوراة، والزبور، والحكمة، والإنجيل: لمَّا جعلها الله تعالى كلاماً له أصارها معجزة. قال الرافعي: ((وهل يراد من إثبات الإعجاز للقرآن ـ أو الكتاب ـ إلا إثبات أنه كلام الله تعالى 2 )) !

ــــــــــــــــ

( 1 ) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في النقد العربي 230 .

( 2 ) مصطفى صادق الرافعي: إعجاز القرآن 164 .

ـ 11 ـ

الفصل الثاني

 

 

الإعجاز البياني في سلّم الإعجاز المطلق

((الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً))

زمر23

أحسن الحديث فرع من فروع الفنون الأدبية ! وهذه فرع من الفنون الجميلة. وهذه بدورها صفة من صفات الوجود.

فالوجود له صفات جوهرية: الحقيقة والكمال والجمال.

والتعبير عـن الجمال في جميع نواحيه يسمى الفنون الجميلة. فالتعبير عـن الجمال بالصوت هو الموسيقى، والتعبير عن الجمال باللون يسمى التصوير. والتعبير عن الجمال بالخط يسمى النحت، والتعبير عـن الجمال بالكلام الجميل يسمَّى الأدب، والبيان بالمعنى الواسع، أو البلاغة.

فالإعجاز البياني ناحية مـن الفنون الأدبية، وهذه فرع من الفنون الجميلة. لذلك فالإعجاز البياني، مهما سما فهو ناحية محدودة من تصوير جمال الوجود.

*

والإعجاز البياني على ناحيتين: ناحية البيان وهو الإعجاز بالتخصيص، وناحية الأسلوب، وهو الإعجاز الأدبي على الإطلاق. وسواء أخذنا الإعجاز البياني في معناه الخاص أم العام، المقيَّد أم المطلق، فهو لا يشمل سائر الفنون الأدبية؛ وهو لا يشمل سائر الفنون الجميلة؛ وهو لا يشمل سائر صفات الوجود حتى يتصف بالإعجاز الإلهي.

ـ 12 ـ

يتكلمون إلى اليوم عن إعجاز القرآن البياني، ويحصرون إعجاز القرآن في فصاحة لغته وبلاغة نظمه 1 . ولا مراءَ في ذلك.

وبدا لقوم اليوم أن هذا الإعجاز البياني محدود في مبناه ومعناه فالتمسوا له الشمول من كل وجه. وحاولوا أن يجدوا إعجازاً إلهيّاً في العقيدة 2 ؛ وإعجازاً إلهيّاً في الشريعة 3 ؛ وإعجازاً إلهيّاً في الفلسفة القرآنية 4 ؛ وإعجازاً إلهياً في العلم الحديث 5 . ولكن فاتهم جميعاً أن تاريخ الإسلام يجهل مثل هذا التفكير ومثل هذه المحاولات المفرطة وهذا التعبير.

فقد أجمعوا قديماً على أن إعجاز القرآن في نظمه.

قال ناشر (بديع القرآن 6 ): ((البلاغة بابان: الأسلوب والفنون الأدبية.

وفي باب الأسلوب تدخل مباحث المعاني والبيان والبديع في بعض فصوله وأقسامه. في حين أن باب الفنون الأدبية جديد في جملته. ولعل من نتائج ذلك، العدول عن هذه الأسماء (المعاني والبيان والبديع) ووضع البلاغة وضعاً كاملاً يشبه وضعها في الآداب العالمية)) .

ندع درس الفنون الأدبية في القرآن إلى القسم الثاني. ونترك درس إعجاز القرآن في عقيدته وشريعته وصوفيته، إلى القسم الثالث من هذا الكتاب. ونكتفي بدرس أسلوب القرآن في فصاحة لغته وبلاغة نظمه، تمهيداً لدرس أطوار الدعوة القرآنية 7 .

ــــــــــــــــ

( 1 ) السيوطي: الإتقان 2 : 116 النوع الرابع والستون في إعجاز القرآن .

( 2 ) العقاد: حقائق الإسلام وأباطيل خصومه .

( 3 ) محمد ابو زهرة: مصادر الفقه الإسلامي .

( 4 ) العقاد: الفلسفة القرآنية .

( 5 ) عبد الرزاق نوفل: القرآن والعلم الحديث .

( 6 ) ابن أبي الاصبع، حققه ونشره حفني محمد شرف ـ المقدمة 22 ـ ويحيل على كتاب (الأسلوب) للأستاذ أحمد الشايب .

( 7 ) راجع كتابنا: القرآن والكتاب .

ـ 13 ـ

الفصل الثالث

 

 

كيفية الوحي القرآني: أباللفظ أم بالمعنى؟

في الإتقان 1 فصل في معنى نزول القرآن أكان بالمعاني وحدها أم بالألفاظ والمعاني معاً. (( قال الأصفهاني: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله منزل! واختلفوا في معنى الإنزال فمنهم من قال هو إظهار القراءة ومنهم من قال إن الله ألهم كلامه جبريل. وقال الطيبي لعل نزول القرآن على النبي ص. أن يتلقفه الملك من الله تعالى تلقّفاً روحانيّاً أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول فيلقيه عليه. وقال القطب الرازي: المراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفاً روحانياً أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها يلقيها عليهم)) ؛ وقال غيره: ((في المنزل على النبي ص. ثلاثة أقوال: أحدها إنه اللفظ والمعنى؛ والثاني إن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة وأنه ص عَلِمَ تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب؛ وتمسك قائل هذا بظاهر قوله تعالى: ((نزل به الروح الأمين على قلبك)): والثالث إن جبريل ألقي إليه المعنى، وأنه (أي جبريل) عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب )) .

وقال الجوّيني: ((كلام الله المنزل قسمان قسم قال الله لجبريل: قل للنبي الذي أنت مُرسَل إليه: الله يقول؛ ففهم جبريل ما قاله ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة. وقسم آخر قال الله لجبريل: ((اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) السيوطي: الإتفان 1: 44 .

ـ 14 ـ

اذن فالخلاف قائم بين المسلمين انفسهم في هل نزل القرآن بالمعاني وحدها، أو نزل بالمعاني والألفاظ معاً، ومن قال أن القرآن نزل بالمعاني وحدها، لا تثريب عليه فهو لم يزل من أهل السنة والجماعة. وهذا هو القول الفصل الذي يجمع بين التوراة والزَّبور والنبيين والحكمة والإنجيل والقرآن وإن اختلفت الألفاظ في التعبير عن ذلك التوحيد.

ومن قول بعض علماء الإسلام، بنزول القرآن بالمعاني، دون الألفاظ، ينتج أشكال ضخم: ((إذا كان جبريل، كما نقل السيوطي، إنما نزل بالمعاني خاصة وأن محمداً علم تلك المعاني وعبَّر عنها بلغة العرب، أو أن جبريل ألقي إليه المعنى، وأن جبريل عبر بالألفاظ عن المعنى بلغة العرب)) فألفاظ القرآن ليست من الله، بل هي من محمد أو من جبريل. وبما أن إعجاز القرآن في ألفاظه ونظم هذه الألفاظ وأساليب بيانها، فإعجاز القرآن ليس منزلاً، على حدّ قولهم. يؤيده الحديث المأثور: ((أعطيت جوامع الكلم)) .

لذلك فإعجاز نظمه ـ مع التعبد بلفظه ـ قائم على النبي الأمين، لا على الوحي المبين.

ـ 15 ـ

الفصل الرابع

 

 

لغة القرآن : لغة قريش؟

أم لغة الشعر الجاهلي العامة؟

قد تكون لغة القرآن من النبي أو من جبريل أو من الله: لهم في ذلك ثلاثة أقوال. على كل حال هذه اللغة لغة محمد، ولغة محمد هي لسان قريش. فالقرآن يشهد بأنه نزل ((بلسان قومه لينذر أمّ القرى وما حولها)) . والمصحف الحالي لمّا جمعه عثمان سنّ للّجان الثلاث: الثنائية فالرباعية فالاثنا عشرية أن يكتبوه بلغة قريش. من هنا ينتج أشكال آخر: هل القرآن كله بلغة قريش!

جاء في الإتقان (136:1) ((قال أبو بكر الواسطي في (الإرشاد): في القرآن من اللغات خمسون لغة: لغة قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس عيلان وجرهم واليمن وأزدشنؤة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضرموت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسَّان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبني حنيفة وتغلب وطيء وعامر بن صعصعة وأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلى وعذرة وهوازن والنمر واليمامة)) .

وقال السيوطي والواسطي أيضاً: ((في القرآن من غير العربية من لغة الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط)) . وقد جمعها السيوطي في كتابه ((المتوكلي)) أيضاً ((فتمَّت أكثر من مئة لفظة بغير لغة العرب)) .

ـ 16 ـ

وقد قارنوا بين أساليب لغة قريش في القرآن من جهة ولغة نجد وسائر العرب من الجهة الأخرى.

قال الشيخ جمال الدين بن مالك: أنزل الله القرآن بلغة الحجازين إلا قليلاً فإنه نزل بلغة التميميين كالإدغام في ((من يشاقّ الله)) وفي ((من يرتدّ منكم عن دينه)) فإن إدغام المجزوم لغة تميم، ولهذا قلَّ، والفكّ لغة الحجاز ولهذا كثر ((وليملِلْ ... يحببكم الله ... يمددكم ... واشددْ به أَزْرِي ... ومَن يحللْ عليه غضبي)) .

وقال: ((قد أجمع القراء على نصب إلاَّ اتّباع الظن)) لأن لغة الحجازين التزام النصب في المنقطع. كما أجمعوا على نصب ((ما هذا بشراً)) لأن لغتهم إهمال ((ما)) .

وجاء في الإتقان أيضاً (93:1) عن الفتح والإمالة: ((الإمالة أن ينحو بالفتحة نحو الكسرة وبالألف نحو الياء كثيراً. ويقال له الكسر والتلطيف. وهي قسمان شديدة ومتوسطة. أَما الفتح فهو فتح القارئ فاه بلفظ الحرف ويُقال له التفخيم. وهو شديد ومتوسط والشديد معدوم في لغة العرب. واختلفوا هل الإمالة فرع من الفتح؟ أو كلٌّ منهما أصل برأسه؟ ووجه الأول أن الإمالة لا تكون إلا لسبب، فإن فُقد لزم الفتح، وإن وُجد جاز الفتح والإمالة. ودلّ إطراد الفتح على إصالته وفرعيتها)) .

(( وقال الداني: الفتح والإمالة لغتان مشهورتان: فالفتح لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة عامة أهل نجد من تميم وأسد وقيس. ويؤيّده أبي عبيدة: أهل الحجاز يفخّمون الكلام إلا حرفاً (عِشرة) فإنهم يحزمونه؛ وأهل نجد يتركون التفخيم في الكلام إلا في هذا الحرف فإنهم يقولون ((عِشرة)) بالكسر.

وجاء في الإتقان أيضاً عن الهمز: ((واعلم أنَّ الهمز لمَّا كان أثقل الحروف نطقاً وأبعدها مخرجاً تنوّع العرب في تحقيقه بأنواع التخفيف. وكانت قريش وأهل الحجاز أكثرهم تخفيفاً. وعن ابن عمر قال: ما همز رسول الله ص. ولا

ـ 17 ـ

أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء. وإنما الهمز بدعة ابتدعوها بعدهم)) . وقال ابن عبد البرّ في (التمهيد): ((قول من قال: نزل بلغة قريش، معناه: على الأغلب، لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القراءات من تحقيق الهمزة ونحوها وقريش لا تهمز)) . من هذا الواقع القرآني تظهر شبهات لا سبيل إلى ردّها: الأولى منها: نزل القرآنُ بلغة قريش، وقريش لا تهمز! وما همز رسول الله ص. ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء! وإنما الهمز بدعة ابتدعوها بعدهم)) فمن أين جاء الهمز في القرآن، وتحقيق الهمز موجود في جميع القراءات؟؟

ثم جاء في الحديث عن ابن عباس وغيره: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم: فمن أين جاءت فيه الإمالة؟ ـ أجابوا: نزل بالفتح والتفخيم ثم رُخّص بالإمالة. ووجدوا لهذه الرخصة حديثاً مرفوعاً: اقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها! وفي حديث آخر جعلوا النبي ذاته يُميل، ((قيل للرسول: تميل؟ وليس هي لغة قريش! فقال: هي لغة الأخوال بني سعد!)). وقد احتج الكوفيون في الإمالة بأنهم وجدوا في المصحف الياءات في موضع الألفات فاتبعوا الخط وأمالوا ليقربوا من الياءات مثل تورية وصلوة وزكوة)) . وهكذا كُتب القرآن بالإمالة وقُرأ بالإمالة وليست الإمالة أصلاً فيه وليست من لغة قريش والنبي والقرآن؟ فمن أدخل إذن الإمالة على القرآن كتابةً وقراءةً؟ وإذا دخلت كتابةً عن طريق السريانية فكيف دخلت تلاوةً؟؟

وظاهرة أخرى غريبة: يقول القرآن دائماً ((الصراط المستقيم)) بلغة غير قرشية فيما جميع أسماء الطرق بلغة قريش مؤنثة، ولذلك يقول القرآن دائماً ((سبيلاً قويمة)) . فلماذا يذكّر الصراط ويؤنث السبيل؟ وكيف دخل تذكير الصراط على لغة القرآن القرشية؟ فلو كُتب القرآن بلغة قريش لقالوا: الصراط المستقيمة 1 .

ــــــــــــــــ

( 1 ) فهل أخذ محمد التعبير مذكراً عن أهل الكتاب كما وجده في سائر أنحاء الجزيرة وتغلّب معه على لغة قبيلته؟

ـ 18 ـ

وتفوح شبهة رابعة من وجود خمسين لغة من لغات العرب مع لغة قريش في القرآن: فمن أين جاءت؟ وكيف دخلتْ لغة قريش ثم لغة القرآن؟ هل أوجدتْ أسواقُ العرب الأدبية لغة عربية فصحى تعم العرب، قيل فيها الشعر الجاهلي، ونزل القرآن بها تمثُّلاً بهذا الشعر الجاهلي العام؟ إن صح ذلك ـ وهو الصحيح من مقارنة لغة القرآن بالشعر الجاهلي ـ فكيف يتصف القرآن على أنه نزل بلسان قريش؟

وتظهر شبهة خامسة كبيرة على وجود كلمات أجنبية في لغة القرآن: جاء في الإتقان: ((اختلف الأئمة في وقوع المعرب في القرآن. فالأكثرون على عدم وقوعه لقوله: ((قرآناً عربيّاً))؛ وما ظُنّ كذلك فهو من قبيل توارد اللغات في لفظ واحد. أو اقتباسات دخلت العربية حتى جرت مجرى العربي الفصيح وجرى بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن. وذهب آخرون إلى وقوعه، وأجابوا عن قوله ((قرآناً عربياً)) بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيَّاً)) .

ويجدون لكل شاردة في القرآن معجزة وإعجازاً فقالوا: إن حكمة وقوع الألفاظ الأعجمية في القرآن أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء: فلا بدَّ أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء. وللك أخرج ابن جرير: ((في القرآن من كل لسان! )) وقالوا أيضاً: من خصائص القرآن على سائر كتب الله المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، ولم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم؛ والقرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة والنبط والبربر والسريانية والعبرانية والقبطية شيء كثير! )) .

واستنتج السيوطي، عن ابن سلوم، بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية: قال: ((والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين معاً. وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها

ـ 19 ـ

وقعت للعرب فعرّبتها بألسنتها وحوّلتها عن ألفاظ المعجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن بها وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب. فمن قال أنها عربية فهو صادق. ومن قال أعجمية فهو صادق)) (141:1)

إنه تفسير صائب ولكنّه لا يرفع الشُبهة على صحة لغة القرآن العثماني، وبالتالي على إعجازه المنزل 1 !

وهذه الشبهات على لغة القرآن حملتْ بعض المستشرقين على القول بتحريف لغة القرآن القرشية، وتقويمها بلغة الشعر الجاهلي وما دخل هذه اللغة الفصحى العامة من التعابير الأعجمية والألفاظ التجارية والكلمات الرومية عن طريق السريانية لأدوات الكتابة التي دخلت الحجاز مع الخط (قلم قرطاس لوح كتاب كتب سطر) 2 .

ولغة نجد هي التي صارت مع الأيام لغة الشعر الجاهلي. لأن ملوك كندة في نجد الحجاز كانوا ملوك اللغة والشعر كما تشهد بذلك زعامة معلقة امرئ القيس ((قفا نبكِ)) على المعلقات والشعر والجاهلي. وقد قيل: الناس على دين ملوكهم، وآل كندة كانوا ملوك نجد، وبالتالي ملوك الحجاز من بعيد.

والقرآن نزل بلغة قريش لا بلغة نجد. والقرآن جُمع بلغة قريش لا بلغة نجد. ومع ذلك لم يصل إلينا إلا بلغة نجد، أي بلغة الشعر الجاهلي، من إجماعهم على القراءة بالهمز، وعلى الإمالة، وعلى بعض الاصطلاحات غير القرشية مثل ((الصراط المستقيم)) .

من هنا نتساءل: أنزل القرآن بلغة نجد، أم جُمع بلغة نجد، أم قُرِئ بلغة نجد على خلاف المتواتر؟

وإذا نزل بلغة قريش فكيف نقرأه بلغة نجد أو بلغة غير قرشية؟ أمن الأمانة كتابة القرآن بلغة لم ينزل بها؟

ــــــــــــــــ

( 1 ) قابل بلاشير: ترجمة القرآن: Introduction p. 160 sq.

( 2 ) قابل بلاشير: ترجمة القرآن: Introduction p.5.

ـ 20 ـ

أم آلف النبي، أو آلف الصحابة من بعده بين لغة القرآن ولغة الشعر الجاهلي التي كانت لغة الأدب والكلام الجميل؟

كلها أسئلة وشبهات يحار فيها المؤرّخ والأديب. وقد استنتج بعضهم من ذلك شبهة على صحة لغة القرآن وعلى صحة إعجازها.

وقد يكون ذلك من عمل القراء، حيث تغلب الذين ينتسبون إلى نجد، مثل قراء الكوفة على الذين ينتسبون إلى الحجاز مثل قراء البصرة؛ وعلى كل حال فلا يؤثر ذلك في صحة القرآن الجوهرية.

ـ 21 ـ

الفصل الخامس

 

 

تأليف القرآن في تنزيله

قال السيوطي 1 : ((نزل القرآن منجَّماً في عشرين سنة أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين على حسب الخلاف في مدة إقامته ص. بمكة بعد البعثة.

(( ونزول القرآن منجماً يعني أنه نزل مفرقاً، كل بضع آيات معاً .. وذلك إن الوحي كان ينزل بالقرآن مبيناً للحوادث الجارية التي تعاقبت على حياة النبي من بعثته إلى وفاته)) .

((وكان القرآن ينزل بحسب الحاجة: خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل. وقد صح نزول عشر آيات في قصة الإفك جملة (نور 11 - 21). وصح نزول عشر آيات من أول المؤمنين جملة (1 - 11) وصح نزول جملة ((غير أولي الضرر)) (النساء 95) وهي بضع آية؛ كذلك ((وإن خفتم عيلة)) (توبة 28). والحكمة في نزول الآيات قليلة العدد على هذا النحو هي في أن يتمكن النبي من حفظها ومن تعليمها للناس، ومن إملائها على كتابه ليدّونوها. ولنزول القرآن حسب الحوادث الجارية شواهد كثيرة جداً وهي كل القرآن تقريباً. تجد مصداق ذلك في كتبهم على (أسباب النزول)، خصوصاً في الآيات التشريعية التي كانت تنزل في الغالب جواباً لحوادث في المجتمع الإسلامي، وأحياناً كانت تنزل جواباً عن أسئلة يسألها بعض المؤمنين؛ وقليلاً ما كانت تنزل الأحكام مبتدئة. وقلما ترى حكماً لم يذكر له المفسرون حادثاً أنزل الحكم مرتباً عليه)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) نقلاً عن صبيح: القرآن 70- 75 .

ـ 22 ـ

قال أبو بكر الانباري: (( أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرَّق في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جواباً لمستخبر 1 )) . مثال ذلك ما نقله الواحدي: أنزل الله في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء وهي التي في أول النساء، والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها 2 ، فتكون سورة النساء موزّعة في النزول على سنة. ومثال ذلك أيضاً ما أخبروا عن سورة براءة: كان أول براءة قبل غزوة تبوك، وآخرها بعدها. فتكون سورة براءة موزعة في النزول على سنة أيضاً.

ولنا شهادة قرآنية من آخر العهد بالمدينة من تلقين الآيات: ((إذا ما أنزلت سورة فمنهم مَن يقول: أيكم زادته هذه إيماناً؟.. أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين؟.. وإذا ما أنزِلت سورة نظر بعضهم إلى بعض: هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا. صرف الله قلوبهم!)) (توبة 125 - 128) فالفتنة مرة أو مرتين في السنة، كانت تحدث بمناسبة تنزيل السورة أو السورتين في العام. ونعلم أيضاً أن تنزيل البقرة دام ثمانية عشر شهراً من الهجرة إلى بدر.

من ذلك نقدر أن نستنتج أن الكيفية الزمانية والوحدة التنظيمية في نظم القرآن كانت في المدينة في كل عام سورة طويلة أو سورتين من المئين والمثاني. وقد تطول إحدى السور مثل البقرة فتتجاوز العام. فكان كل ما ينزل في سنة يجمع سورة أو سورتين متوسطتين. وطول السورة المدنيّة وتعدّد مواضيعها وتنوّع أساليبها يوحي أيضاً بذلك.

ولكن في مكة تركوا السور مفصلة مقطّعة، ولم يجمعوها في وحدات زمانية تأليفية، كلَّ سنة في سورة أو سورتين حتى كثر في المكي المفصَّل فالمثاني فالمئين.

قال الدكتور صبحي الصالح: ((ولقد شاءت الحكمة الإلهية أن يظل الوحي

ــــــــــــــــ

( 1 ) اتقان 64:1 .

( 2 ) الإتقان: 22:1 .

ـ 23 ـ

متجاوباً مع الرسول ص. يعلمه كل يوم شيئاً جديداً ومتجاوباً مع الصحابة لا يفاجئهم بتعاليمه وتشريعاته. فكان مظهرُ هذا التجاوب نزوله منجّماً بحسب الحاجة: خمس آيات وعشر آيات وأكثر وأقل. وقد أخرج ابن عساكر عن علي ر. ((أنزل القرآن خمساً خمساً إلا سورة الانعام؛ ومَن حفظ خمساً خمساً لم ينسه 1 )) .

ولنا على ذلك خير مثال في قصائد الشعر الجاهلي. فالقصيدة عندهم من السبعة أبيات إلى العشرة. وإذا كانت مثل ((المعلقات)) فهي تشتمل على عدة مواضيع كل موضوع قائم بنفسه في نحو عشرة أبيات.

وكما جُمعت هذه الوحدات الشعرية، القصائد المتنوعة المواضيع، المؤتلفة في النظم والقافية كذلك جمعوا السور وحدات تأليفية تقابل وحدات زمنية.

كان القرآن ينزل منجّماً ويحفظ أيضاً منجّماً. قال أبو عبد الرحمن السلمي:

حدثنا الذين يقرؤون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ص. عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل. وقال أَنَس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدَّ في أعيننا (رواه أحمد في مسنده). وقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين. ((قال أبو العالية: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي ص. كان يأخذه من جبريل خمساً خمساً 2 )) .

وهذا التنجيم في نزول القرآن وتأليفه هو ما يضفي على القرآن ظاهرة التفكك في ربط أجزاء السورة، والآيات بعضها ببعض.

وليست ظاهرة التفكك خاصة بالقرآن وحده فقد نجدها في سور المزامير أو الزَّبور. وتلك فطرة قديمة في العقل الشرقي من البيئة العربية.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الدكتور صبحي الصالح: مباحث في علوم القرآن 38 .

( 2 ) الدكتور صبحي الصالح: مباحث 38 .

ـ 24 ـ

وقد لمس الأقدمون هذا التفكك الظاهر بين مقاطع السور وآياتها، فأوجدوا ((علم المناسبة)) الذي يضع قواعد للروابط التي تربط السور أو الآيات. وممّن أكثر من علم المناسبة الإمام فخر الدين فقال في تفسيره: ((أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط)).

وقد عقد السيوطي فصلاً في (اتقانه)1 يعدد فيه بعض الروابط. فقال إن ارتباط الآية بالآية, إما أن يكون ظاهراً لتعلق الكلم بعضه ببعض، أو لورود الثانية للأولى على وجه التأكيد أو التقيد أوالاعتراض أو البدل. وهذا القسم لا كلام فيه. وإما أن يكون باطناً، فلا يظهر الارتباط بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى. والمستقلة إما أن تكون معطوفة بحرف من حروف العطف فلا بد أن يكون بينهما جهة جامعة أو إمَّا أن تكون غير معطوفة فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام، وهذه هي الروابط حَصْراً، وهي قرائن معنوية تؤذن بالربط:

ـ رابط من عام إلى خاص أو بالعكس.

ـ رابط عقلي أو حسي أو خيالي.

ـ رابط التلازم الذهني كالسبب والمسبِّب، أو العلة والمعلول.

ـ رابط النظيرَين أو التنظير أي إلحاق النظير بالنظير ((كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)) .

ـ رباط الضدّين أو المضادة مثل الجمع بين حديث المؤمنين والكافرين في مطلع البقرة.

ـ رابط الاستطراد وهو ترك الكلام إلى آخر ثم العودة إلى الكلام السابق. مثال ذلك ((ولباس التقوى ذلك خير)) عقب وصف نعم الله على آدم، وأيضاً ((لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ـ ولا الملائكة المقربون)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 18:2 .

ـ 25 ـ

ـ رابط حسن التخلص: أي ترك الكلام بالتدريج إلى كلام آخر دون العودة إلى الأول على وجه سهل دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال.

ـ رابط الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطاً للسامع، مفصولاً بكلمة ((هذا)) أو غيرها ويختلف عن حسن التخلص بالمفاجئة. مثلاً (سورة ص55) ((هذا وإن للطاغين لشرّ مآب)) .

ـ رابط حسن المطلب : التحول من حديث إلى حديث يجمع بينهما قرينة معنوية .

ـ والقاعدة الأساسية، أو الرابط العام هو الغرض الذي سيقت له السورة مع المقدمات التي تهيّئُهُ، والنتائج التي تنتج منه مع النظر إلى مراتب تلك المقدمات أو النتائج في القرب والبعد من الغرض المطلوب. فهذا هو الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن والذي يبين وجه النظم مفصلاً بين كل آية وآية في كل سورة.

فهذه الروابط لمعرفة ترتيب الآي في السورة الواحدة ضرورية كضرورة معرفة الضوابط لترتيب السور بحسب أزمنتها.

ولكن على شرط تجنب الإفراط في خلق القرائن المعنوية لإيجاد الروابط البيانية مما ينافي طبائع العرب، ووقائع التاريخ 1 . وقد غمز من هذا العلم أبو العلاء ووجد فيه تكلفاً؛ قال: ((إن القرآن إنما ورد على الاقتضاب الذي هو طريقة العرب من الانتقال إلى غير ملائم. وقال الشيخ بن عبد السلام: المناسبة

ــــــــــــــــ

( 1 ) من هذا التكلف الفصل الذي عقده السيوطي بعد فصله على علم المناسبة في ((مناسبة فواتح السور وخواتمها)) (111:2): يذكرها بالنسبة إلى ترتيب السور في المصحف الحالي على نسق الطول والقصر لا على حسب الترتيب التاريخي وهو الأصل. ومن هذا التكلف المفرط كتاب عبد المتعال الصعيدي (النظم الفني في القرآن)

ـ 26 ـ

علم حسن لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلاَّ بربط ركيك يصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أَحسنه. فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة، في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة؛ وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض 1 )) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) هذا على العموم. وهناك آيات ((أشكلت مناسبتها مع ما قبلها)) ( 110:2 ) من ذلك قوله في سورة القيامة ((لا تحرك به لسانك لتعجل به)) ؛ وفي طه (( ولا تعجل بالقرآن من مثل أن تعطي إليك وحيه))؛ وفي البقرة (( واتخذوا من مقام ابراهيم مصلى)) ؛ وفي الشورى (( وأمرهم بينهم شورى)) ؛ ثم (( يسألونك عن الأهلة)) ؛ ثم (( ولله المشرق والمغرب)) ...

ـ 27 ـ

الفصل السادس

 

 

في بيان القرآن

أصل البيان والبديع والبلاغة المجاز.

وقد اختلف أهل السنة والحديث في صدر الإسلام مع المعتزلة على وقوع المجاز في القرآن، وعلى جوازه فيه.

فقال المعتزلة بوقوع المجاز في القرآن اسوة بأساليب العرب، والقرآن نزل بلسانهم. وفشت أيضا مقالة بعض المعتزلة بأن فصاحة القرآن غير معجزة.

وقد سلك المتكلمون مسلكاً وسطاً فقالوا بمجاز القرآن وإعجازه رداً على المشبّهة وعلى المعتزلة.

وهم سلكوا في ذلك الطريق الذي اختطه لهم يحيى الدمشقي ومدرسته. قال السيد سلام: ((وقد تعرّض يحيى الدمشقي لمسألة التشبيه والتجسيم فقال: إنه قد وردت في الكتاب المقدس كلمات كثيرة تحمل معنى التجسيم والتشبيه؛ وإن الناس اعتادوا أن يستعملوا العبارات المعروفة في كلامهم والصور المتشابهة المأخوذة من حياتهم المألوفة لديهم. فحيثما وجدنا مثل هذه العبارات والصور التي تتضمن معنى التجسيم والتي تشبّه الله بخلقه، سواءً في الكتاب المقدس أو غيره يجب أن نعتبرها مجازاً أو رموزاً وننظر إليها كأداة تعين الناس على معرفة الله تعالى ويجب أن نعمد إلى تأويلها. فإن فم الله تعالى هو إرادته لأننا باللسان نملي إرادتنا. وسمعه لا يعني إلا استعداده لقبول الدعاء. وعينه تعالى ليست سوى

ـ 28 ـ

قدرته على معرفة كل شيء ومراقبة كل شيء 1 )) وهذا صورة لآراء علماء اللاهوت المسيحي الذي ربما أثر في رأي المعتزلة في مسألتي التشبيه والتجسيم في القرآن 2 )) .

فكانت مدرسة الدمشقي الباعث والمثال للدراسات المقارنة في القرآن والبيان العربي والكتب المقدسة وبلاغة الأمم الأخرى. وكان مدار هذه البحوث الأولى مسألة التجسيم والتشبيه في الكتاب ثم في القرآن. ثم تطورت إلى درس المجاز والبيان والبديع والنظم والإعجاز في القرآن.

قيل: ((سحر القرآن في إعجاز بيانه)) . ونحن ندرس الآن بيان القرآن مع جلال الدين السيوطي في اتقانه.

*

بحث أول: وجوه الخطاب في القرآن 3 .

قال بعض الأقدمين أنزل القرآن على ثلاثين نحواً، كل نحو منه غير صاحبه؛ فمن عرف وجوهها، ثم تكلّم في الدين أصاب ووُفق؛ ومن لم يعرفها وتكلم في الدين كان الخطأ إليه أقرب. وهذه الوجوه العامة هي: المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ، المحكم والمتشابه، التقديم والتأخير، المقطوع والموصول، السبب والإضمار، الخاص والعام، الأمر والنهي، الوعد والوعيد، الحدود والأحكام، الخبر والاستفهام، الأبّهة والحروف المصرفة 4 ، الأعذار والإنذار، الحجة والاحتجاج، المواعظ، والأمثال، والقسم ...

والخطاب في القرآن على ثلاثين وجهاً ونيف.

ــــــــــــــــ

( 1 ) زهدي جار الله: المعتزلة ص29 .

( 2 ) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي ص 81-82 .

( 3 ) الإتقان 32:2 .

( 4 ) الحروف المصرفة هي الكلمات التي تحمل عدة معاني مثل الفتنة تطلق على الشرك والمعذرة والاختبار والأعذار .

ـ 29 ـ

 

(1): خطاب العام والمراد به العموم، كقوله: الله الذي خلقكم.

(2): خطاب الخاص والمراد به الخصوص، كقوله: يا أيها الرسول بلّغ.

(3): خطاب العام والمراد به الخصوص كقوله: يا أيها الناس اتقوا ربكم ـ لم يدخل فيه الأطفال والمجانين.

(4): خطاب الخاص والمراد به العموم كقوله: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء.

(5): خطاب الجنس، كقوله: يا أيها النبي.

(6): خطاب النوع نحو: يا بني إسرائيل.

(7): خطاب العين، نحو: يا آدم اسكن ... يا نوح اهبط ... ولم يقع بيا محمد تشريفاً له.

(8): خطاب المدح نحو: يا أيها الذين آمنوا.

(9): خطاب الذم نحو: ((يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم. قل يا أيها الكافرون)) . – لا ثالث لهما.

(10): خطاب الكرامة كقوله: يا أيها النبي! يا أيها الرسول.

(11): خطاب الإهانة، نحو: فإنك رجيم! اخسئوا فيها ولا تكلمون!

(12): خطاب التهكم نحو: ذقْ إنك أنت العزيز الكريم.

(13): خطاب الجمع بلفظ الواحد نحو: يا أيها الإنسان ما غرَّك بربك الكريم؟

(14): خطاب الواحد بلفظ الجمع نحو: (( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات)) فهو خطاب له.

(15): خطاب الواحد بلفظ الاثنين نحو: ألقيا في جهنم (لمالك خازن النار).

(16): خطاب الاثنين بلفظ الواحد كقوله: فمن ربكما يا موسى؟ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى!؟

ـ 30 ـ

(17): خطاب الاثنين بلفظ الجمع نحو: ان تبوّآ لقومكما بمصر بيوتا.

(18): خطاب الجمع بلفظ الاثنين: القيا في جهنم!

(19): خطاب الجمع بعد الواحد كقوله: وما تكون في شأن، وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون!

(20): خطاب الواحد بعد الجمع نحو: وأقيموا الصلاة، وبشّر المؤمنين.

(21): خطاب الاثنين بعد الواحد نحو: أجئتنا لتلفتنا عمَّا وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض!

(22): خطاب الواحد بعد الاثنين نحو: من ربكما يا موسى؟

(23): خطاب العين والمراد به الغير نحو: يا أيها النبي اتّقِِ الله ولا تطع الكافرِين 1 (المراد منه).

(24): خطاب الغير والمراد به العين نحو: لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم.

(25): الخطاب العام الذي لم يقصد به مخاطب معين نحو: ولو ترى إذ وقفوا على النار...

(26): خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره نحو: فإن لم يستجيبوا لكم، فاعلموا... (خوطب به النبي).

(27): خطاب التكوين وهو الالتفات..

(28): خطاب الجمادات خطابَ مَن يعقل نحو: فقال لها وللأرض أتينا طوعاً أو كرهاً.

(29): خطاب التهيج نحو: وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين.

(30): خطاب التحنن والاستعطاف نحو: يا عبادي الذين أسرفوا...

ــــــــــــــــ

( 1 ) يعطي الإتقان مثالاً آخر ((فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك)) حاشاه ص. من الشك وإنما المراد بالخطاب التعريض بالكفار. ـ ليس في المتن ما يحتمل هذا التأويل: !؟ فالنبي رسول بشر كان قابلاً للإثم فهو عرضة للشك أيضاً فالعصمة في التبليغ لا منهما.

ـ 31 ـ

(31): خطاب التحبب نحو: يا أبتِ لِمَ تعبد! يا ابن أمِّ لا تأخذ بلحيتي!

(32): خطاب التعجيز نحو: فأتوا بسورة!

(33): خطاب التشريف، وهو كل ما في القرآن مخاطبة لأمّته فإنه تشريف منه.

(34): خطاب المعدوم، ويصح ذلك تبعاً لموجود نحو: يا بني آدم (أهل ذلك الزمان وكل زمان).

وقال بعضهم، خطاب القرآن ثلاثة أقسام، قسم لا يصلح إلا للنبي، وقسم لا يصلح إلا لغيره، وقسم لهما.

*

بحث ثانٍ: المجاز في القرآن 3

((لا خلاف في وقوع الحقائق في القرآن، وهي كل لفظ بقي على موضوعه؛ وهذا أكثر الكلام. وأما المجاز فالجمهور أيضاً على وقوعه فيه. والمجاز أبلغ من الحقيقة. وهو قسمان.

1 ) المجاز في التركيب، ويسمّى مجاز الإسناد والمجاز العقلي. وعلاقته الملابسة: وذلك أن يسند الفعل أو شبهه إلى غير ما هو له أصالة لملابسته له، نحو ، ((ياهامان ابنِ لي)) (وهو فعل العملة). ولهذا القسم أربعة أنواع: أحدها: ما طرفاه حقيقيان نحو ((وأخرجت الأرض أثقالها)) . ثانيها: ما طرفاه مجازيان نحو ((فما ربحت تجارتهم)) . ثالثها ورابعها: ما أحد طرفيه حقيقي دون الآخر إمَّا الأول أو الثاني نحو ((أم أنزلنا عليهم سلطانا)) أي برهاناً؛ أو ((كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعو)) فإن الدعاء من النار مجاز.

2 ) المجاز في المفرد، ويسمّى المجاز اللغوي وهو استعمال اللفظ في ما وُضع لـه أولاً. وأنواعه كثيرة.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 36:2 .

ـ 32 ـ

(1): الحذف: وقد لا يكون فيه من أنواع المجاز.

(2): الزيادة: كذلك.

(3): إطلاق اسم الكل على الجزء نحو ((يجعلون أصابعهم في آذانهم)) أي أناملهم.

ونحو (( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم)) أي وجوههم؛ ونحو ((من شهد منكم الشهر فليصمه)) أي أول الشهر.

(4): عكسه أي إطلاق الجزء على الكل نحو ((ويبقى وجه ربك)) أي ذاته.

(5): إطلاق اسم الخاص على العام نحو ((إنا رسول رب العالمين)) أي رسله!

(6): عكسه أي إطلاق اسم العام على الخاص نحو ((ويستغفرون لمن في الأرض)) أي للمؤمنين!

(7): إطلاق اسم الملزوم على اللازم.

(8): عكسه أي إطلاق اسم اللازم على الملزوم نحو ((هل يستطيع ربك أن ينزّل علينا مائدة)).

أي هل يفعل؟ أطلق الاستطاعة على الفعل لأنها لازمة له.

(9): إطلاق المسبّب على السبب نحو ((ينزل لكم من السماء رزقاً )) أي مطراً يتسبب عنه الرزق.

(10): عكسه أي إطلاق السبب على المسبّب نحو ((ما كانوا يستطيعون السمع)) أي القبول والعمل.

(11): تسمية الشيء باسم ما كان عليه نحو ((وآتوا اليتامى أموالهم)) أي الذين كانوا يتامى.

(12): تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه ((إني أراني أعصر خمراً )) أي عنباً يؤول إلى الخمرية.

ـ 33 ـ

(13): إطلاق اسم الحالّ على المحل نحو ((ففي رحمة الله هم فيها خالدون)) أي في الجنة محل الرحمة.

(14): عكسه أي إطلاق اسم المحل على الحالّ نحو ((فليدع ناديه)) أي أهل ناديه. ومنه التعبير باليد عن القدرة، وبالقلب عن العقل، وبالأفواه عن الألسن.

(15): تسمية الشيء باسم آلته نحو ((واجعل لي لسان صدق)) أي ثناءً لأن اللسان آلته.

(16): تسمية الشيء باسم ضده نحو ((فبشرهم بعذاب أليم)) والبشارة للخبر السار.

(17): إضافة الفعل إلى ما لا يصح منه، تشبيهاً نحو ((جداراً يريد أن ينقض)) .

(18): إطلاق الفعل والمراد مشارفته وإرادته ((وإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن)) أي قاربن البلوغ.

((إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا)) أي أردتم القيام؛ ((وإذا قرأت القرآن فاستعذْ)) أي أردت القراءة.

(19): القلب: وهو إمَّا قلب اسناد نحو ((ما إنَّ مفاتحه لتنؤ بالعصبة)) أي لتنوء العصبة بها. أو قلب عطف نحو و((ثم تولَّ عنهم فانظره)) أي فانظره ثم تولَّ.

ومثله ((ثم دنا فتدلّى)) أي تولّى فدنا. أو قلب تشبيه وسيأتي.

(20): إقامة صيغة مقام أخرى. وتحته أنواع كثيرة:

منها إطلاق المصدر على الفاعل نحو (( فإنهم عدو لي)) .

أو إطلاق المصدر على المفعول نحو ((ولا يحيطون بشيء من علم)) أي معلومه.

ومنها إطلاق المبشر على المبشر به، والهوى على المهوي، والقول على المقول.

ـ 34 ـ

ومنها إطلاق الفاعل والمفعول على المصدر نحو ((ليس لوقعتها كاذبة)) أي تكذيب.

ومنها إطلاق فاعل على مفعول نحو ((ماء دافق)) أي مدفوق؛ ((حجاباً مستورا)) أي ساتراً.

ومنها إطلاق فعيل بمعنى مفعول نحو ((وكان الكافر على ربه ظهيراً)).

ومنها إطلاق واحد من الفرد والمثنى والجمع على آخر نحو ((والله ورسوله أحق أن يُرضوه)) أي يرضوهما؛ ونحو ((إنَّ الإنسان لفي خسر)) أي الأناسي؛ ونحو ((القيا في جهنم)) أي القِ. ومنه كل فعل نُسب لشيئين وهو لأحدهما فقط نحو ((يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان)) أي من الملح دون العذب؛ ونحو ((جعل القمر فيهن نوراً)) أي في إحداهن. ومثال إطلاق الجمع على المفرد ((قال رب ارجعون)) أي ارجعني! ومثال اطلاقه على المثنى ((قالتا أتينا طائعين)) ! ((فقد صفت قلوبكما)) أي قلباكما! ((وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث ... وكنا لحكمهم شاهدين)) ‍‍‍!

ومنها إطلاق الماضي على المستقبل لتحقق وقوعه نحو ((أتى أمر الله)) أي الساعة. وعكسه لإفادة الدوام والاستمرار فكأنه وقع واستمر نحو ((أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)) ؛ ونحو ((فلِمَ تقتلون أنبياء الله)) أي قتلتم.

ومنها إطلاق الخبر على الطلب أمراً أو نهياً أو دعاء مبالغة في الحث عليه حتى كأنه وقع، نحو ((والوالدات يرضعن. والمطلقات يتربصن)) : الأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمّنه اللزوم.

ومنها وضع النداء موضع التعجّب نحو ((ياحسرة على العباد!)) أي فيا لها حسرة. ((وهذه من أصعب المسائل في القرآن لأن الحسرة لا تنادى وإنما يُنادى الأشخاص)) كما يقول السيوطي.

ـ 35 ـ

ومنها وضع جَمْع القلة موضع الكثرة نحو ((وهم في الغرفات آمنون)) ! وغرف الجنة لا تحصى؛ ونحو ((هم درجات عند الله)) ورتب الناس عند الله أكثر من العشرة!

ومنها تذكير المؤنث على تأويله بمذكر نحو ((فمن جاءَه موعظة من ربه)) أي وعظ ! ونحو ((وأحيينا به بلدةً ميتاً)) ! على تأويل المكان؛ ونحو ((فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي)) أي الشمس! ونحو ((إن رحمة الله قريب من المحسنين)) ذكر الرحمة على معنى الإحسان! ونحو ((ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم)) أي لتلك الرحمة!

ومنها تأنيث المذكر نحو ((الذين يرثون الفردوس هم فيها )) أنَّث الفردوس وهو مذكر حملاً على معنى الجنة. ونحو ((من جاء بالحسنة فله عُشْر أمثالها)) أي عشرة أمثالها وواحدها مذكر.

ومنها التغليب وهو إعطاء الشيء حكم غيره نحو ((وكان من القانتين)) والأصل القانتات؛ ونحو ((إلا امرأته كانت من الغابرين)) والأصل من الغابرات، فعدّت الأنثى من المذكر بحكم التغليب؛ ونحو ((بل أنت قوم تجهلون)) والقياس أن يُؤتى بياء الغيبة؛ ونحو ((قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم)) غلب في الضمير المخاطب وإن كان ((من تبعك)) يقتضي الغيبة؛ ونحو ((لله يسجد ما في السماوات وما في الأرض)) غلب غير العاقل أيضاً؛ ونحو ((ياليت بيني وبينك بعد المشرقين)) أي المشرق والمغرب! وغلب المشرق لأنه أشهر الجهتين! ونحو ((مرج البحرين)) أي الملح والعذب، والبحر خاص بالملح فغلب لكونه أعظم؛ ونحو و ((ولكلٍّ (من المؤمنين والكفار) درجات)) : فالدرجات للعلو، والدركات للسفل فاستعمل الدرجات تغليباً للإشراف. وإنما التغليب من باب المجاز لأن اللفظ لم يُستعمل في ما وُضع له.

ومنها استعمال صيغة إفعلْ لغير الوجوب، وصيغة لا تَفْعلْ لغير التحريم؛

ـ 36 ـ

وأدوات الاستفهام لغير طلب التصور والتصديق؛ وأدوات التمني والترجي والنداء لغيرها.

ومنها استعمال حروف الجر في غير معانيها الحقيقية.

ومنها التضمين وهو إعطاء الشيء معنى الشيء ويكون فـي الحروف والأفعال والأسماء نحو ((عينا يشرب بها عباد الله)) ويشرب يتعدّى بمن؛ ونحو ((يقبل التوبة عن عباده)) أي مِن عباده...

*

بحث ثالث: التشبيه في القرآن

وهو من أشرف أنواع البلاغة وأعلاه؛ فلو قال قائل هو أكثر كلام العرب لم يبعد. وهو إخراج الأغمض إلى الأظهر؛ والغرض من تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي. وأدواته حروف وأسماء وأفعال. وله أقسام:

ينقسم التشبيه باعتبار طرَفيْن إلى أربعة أقسام لأنهما إما حسيّان نحو ((كأنهم أعجاز نخل منقعر)) أو عقليان نحو ((ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة)) ؟ أو المشبَّه به حسي والمشبَّه عقلي أو عكسه نحو ((مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت بهم الريح)) والعكس لم يقع في القرآن.

وينقسم باعتبار وجهه إلى مفرد ومركّب والمركّب أن يُنتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض نحو ((إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء... )) فإن فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها؛ ونحو ((مثل نوره كمشكاة فيها مصباح )) مثل ضرب للمؤمن؛ ثم ضرب للكافر مثلين ((كسراب بقيعة)) والآخر ((كظلمات في بحر لجّي)) .

وينقسم باعتبار المحسوسات إلى أقسام: أحدها تشبيه ما تقع عليه الحاسة

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 42:2 .

ـ 37 ـ

بما لا تقع نحو ((طلعها كأنه رؤوس الشياطين))؛ والثاني عكسه نحو ((والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة)) ؛ الثالث إخراج ما لم تجرِ به العادة إلى ما جرت نحو ((وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظِلَّةٌ )) ؛ الرابع إخراج ما لا يُعلم بالبديهية إلى ما يعلم بها نحو ((وجنة عرضها كعرض السماء والأرض)) ؛ الخامس إخراج ما لا قـوة لـه في الصفة إلى ما لـه قوة فيها نحو ((وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام)) .

وينقسم باعتبار أداة التشبيه إلى مؤكد وهو ما حذفت فيه الأداة نحو ((وهي تمر مرَّ السحاب)) ؛ ومرسل وهو ما لم تحذف فيه. والمحذوف الأداة أبلغ.

والأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به؛ وقد تدخل علىالمشبّه إما لقصد المبالغة فتقلب التشبيه نحو ((قالوا إنما البيع مثل الربا)) والأصل إنما الربا كالبيع؛ ونحو ((أفمن يخلق كمن لا يخلق)) فإن الظاهر العكس. وأما لوضوح الحال نحو ((وليس الذكر كالأنثى)) فإن الأصل ((وليس الأنثى كالذكر)) وقد يكون لمراعاة الفواصل. وقد تدخل على غيرهما اعتماداً على فهم المخاطب نحو ((كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم)) والمراد كونوا أنصار الله كشأن مخاطبي عيسى فقلبه.

والقاعدة في المدح تشبيه الأدنى بالأعلى؛ وفي الذم تشبيه الأعلى بالأدنى . وقد عكس في قوله: ((مثل نوره كمشكاة)) فإنه شبّه الأعلى بالأدنى.

*

بحث رابع: الاستعارة في القرآن 1

((زوج المجاز بالتشبيه فتتولَّد بينهما الاستعارة؛ فهي مجاز علاقته المشابهة)) . والأصح إنها مجاز لقوي لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبَّه ولا الأعم منهما؛ وقيل مجاز عقلي بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوي. وحكمة الاستعارة إظهار الخفي نحو ((وإنه في أمّ الكتاب)) ؛ وإيضاح الظاهر الذي

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 43:2 .

ـ 38 ـ

ليس بجلي ليصير جلياً نحو ((واخفض لهما جناح الذل)) ؛ أو حصول المبالغة نحو ((وفجرنا الأرض عيوناً)) . وأركان الاستعارة ثلاثة: مستعار وهو لفظ المشبه به ومستعار منه وهو معنى اللفظ المشبه، ومستعار له وهو المعنى الجامع.

وتنقسم باعتبار الأركان الثلاثة إلى خمسة أقسام: استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس نحو ((اشتعل الرأس شيباً)) ؛ استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي نحو ((وآية لهم الليل نسلخ منه النهار)) ؛ استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي، وهي ألطف الاستعارات نحو ((مَن بعثنا مـن مرقدنا)) والمراد رقاد الموت؛ أو نحو ((ولما سكت عن موسى الغضب)) ؛ استعارة محسوس لمعقول بوجه عقلي أيضاً نحو ((مستهم البأساء والضرّاء)) ونحو ((ونقذف بالحق على الباطل فيدمغه)) ؛ ونحو ((ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلاَّ بحبل من الله وحبل من الناس)) أو نحو ((فاصدعْ بما تؤمر)) والصدع الكبير؛ واستعارة محسوس لمحسوس والجامع عقلي نحو ((لمّا طفا الماء)) ومثله ((تكاد تميز من الغيظ)) ومثله ((وجعلنا آية النهار مبصرة)) .

وتنقسم باعتبار اللفظ إلى أصلية وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس نحو ((بحبل من الله)) ونحو ((من الظلمات إلى النور)) ونحو ((في كل واد يهيمون)) وتبعيّة وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم جنس كالفعل والمشتقات، وكالحروف نحو ((والتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً)) .

وتنقسم باعتبار آخر إلى مرشحة وهي أبلغها وتقترن بما يُلائم المسـتعار منه نحـو ((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم)) ؛ وإلى مجرّدة وتقترن بما يلائم المستعار لـه نحو ((فأذاقها الله لباس الجوع والخوف)) وإلى مطلقة وهي التي لا تقترن بواحد منهما.

وتنقسم باعبتار آخر إلى تحقيقية وتخيلية أي تحقق معناها حساً أو عقلاً نحو ((فأذاقها الله ... وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)) ؛ وإلى مَكْنِيّة وتصريحيّة وهي أن يضمر التشبيه في النص فلا يصرّح بشيء من أركانه سوى المشبه، ويسمى ذلك

ـ 39 ـ

التشبيه المضمر استعارة بالكناية، ويقابله التصريحية، مثال ذلك ((الذين ينقضون عهد الله ... واشتعل الرأس شيباً)) .

وتقدم إن التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها، واتفق البلغاء على أن الاستعارة أبلغ منه، وأعلى مراتب الفصاحة. وكذا الكناية أبلغ من التصريح، والاستعارة أبلغ من الكتابة.

*

بحث خامس: الكناية والتعريض في القرآن 1

هما من أنواع البلاغة وأساليب الفصاحة.

1 ) والكناية أبلغ من التصريح، وهو ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع لـه، أو لفظ أريد به لازم معناه، أو ترك التصريح بالشيء إلى ما يساويه في اللزوم.

وللكناية أساليب: أحدها التنبيه على عظم القدرة نحو ((هو الذي خلقكم من نفس واحدة)) أي من آدم؛ ثانيها ترك اللفظ إلى ما هو أجمل نحو ((هذا أخي لـه تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة)) كناية عن المرأة، ولهذا لم يذكـر في القرآن امرأة باسمها (سوى أم المسيح)؛ ثالثها أن يكون التصريح مما يُستقبح ذكره كالكناية عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول والسر والغشيان والمراودة واللباس والحرث نحو ((لا تواعدوهنَّ سرّاً... فلما تغشاها ... وراودته التي هو في بيتها عن نفسه ... نساؤكم حرث لكم)) ؛ ورابعها قصد البلاغة والمبالغة نحو ((يداه مبسوطتان)) كناية عن سعة جوده؛ سادسها التنبيه على مصيره نحو ((تبّت يدا أبي لهب، وامرأته حمالة الحطب)) .

وهناك كناية بالمعنى تؤخذ من معنى الجملة لا من معنى الألفاظ حقيقة ومجازاً

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 47:2 .

ـ 40 ـ

نحو ((الرحمن على العرش استوى)) كناية عن الملك، ((والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه)) كناية عن عظمته وجلاله.

ومن أنواع البديع التي تشبه الكناية، الإرداف: وهو التعبير عن معنى لا بلفظه بل بمرادفه نحو ((وقضي الأمر ... واستوت على الجودي ... فيهن قاصرات الطرف)) أي عفيفات.

وهكذا إنما يُعدَل عن التصريح إلى الكناية لنكتة كالإيضاح أو بيان حال الموصوف أو مقدار حاله أو القصد إلى المدح أو الذم أو الاختصار أو الستر أو الصيانة أو التعمية والألغاز والتعبير عن الصعب بالسهل وعن المعنى القبيح باللفظ الحسن.

والتعريض أن تذكر شيئاً تدل به على شيء لم تذكره، فهو لفظ استعمل في معناه للتلويح بغيره، بل سيق لأجل موصوف غير مذكور، ومنه أن يخاطب واحد ويراد غيره. وذلك يُفعل إِما لتنويه جانب الموصوف نحو (( و رفع بعضهم درجات)) أي محمداً ، و إِمَّا للتلطّف به و الاحتراز عن المخاشنة نحو ((ومالي لا أعبد الذي فطرني)) فيه اسمع من يقصد خطابه الحق على وجه لمنع غضبه؛ وإِمَّا لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم نحو (( لئن اشركت ليحبطنّ عملك)) تعريض بأمته؛ وإما للذم نحو ((إنما يتذكر أولو الألباب)) ؛ وإما للإهانة والتوبيخ نحو ((وإذا المؤودة سُئلتْ)) وسؤالها لإهانة قاتلها.

*

بحث سادس: الحصر والاختصاص في القرآن 1

يفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر وليس كذلك؛ وإنما الاختصاص شيء والحصر شـيء آخـر. والفرق بينهما أن الحصر نفي غير المذكـور وإثبات المذكور؛ والاختصاص قصد الخاص من جهة خصوصه.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 49:2 .

ـ 41 ـ

1 ) والاختصاص افتعال من الخصوص، والخصوص مركب من شيئين أحدهما عام مشترك بين شيئين أو أشياء، والثاني معنى منضم إليه يفصله عن غيره، ويعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به وأنه هو الأرجح في غرض المتكلم نحو ((إياك نعبد)) للعلم بأن قائليه لا يعبدون غير الله.

2 ) والحصر ويقال له القصر، هو إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه .

وينقسم إلى قصر الموصوف على الصفة، وقصر الصفة على الموصوف؛ وكل منهما إما حقيقي وإما مجازي؛ وقصر الموصوف على الصفة حقيقياً لم يقع في التنزيل ومثال قصر الموصوف على الصفة مجازياً ((وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل)) أي أنه مقصور على الرسالة لا على التبري من الموت؛ ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقياً ((لا إله إلا الله)) ومجازياً ((قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة)).

وهو قصر أفراد لا إجمال فيه ((إنما الله إله واحد))، وقصر قلب في إثبات الحكم لغير ما اعتقد المخاطب نحو ((ربي الذي يحيي ويميت)) لا أنت يا نمرود، ونحو ((ألا إنّهم هم السفهاء)) أي المنافقون لا المؤمنون، وقصر تعيين يخاطب به من تساوى عنه الأمران.

وطرق الحصر كثيرة منها النفي بلا أو ما أو غيرهما أو الاستثناء بإلا نحو ((لا إله إلا الله)) ؛ ومنها الإثبات بإِنَّما نحو ((إنّما علمها عند ربي)) وهو أحسن ما يستعمل في مواقع التعريض، أو بأنما (بالفتح) نحو ((قل إنما يوحي إلي أنما إلهكم واحد)) فهو مقصور على استئثار الله بالوحدانية؛ ومنها العطف بلا أو بل؛ ومنها تقديم المعمول نحو ((إياك نعبد))؛ ومنها ضمير الفصل نحو ((فالله هو الولي.أولئك هم المفلحون. إن هذا لهو القصص الحق. إن شانئك لهو الأبتر)) ؛ ومنها تقديم المسند إليه نحو ((لاتعلمهم نحن نعلمهم)) أو تقديم المسند: فتقديم الخبر

ـ 42 ـ

على المبتدأ يفيد الاختصاص؛ ومنها ذكر المسند إليه صراحة نحو ((الله يبسط الرزق)) .

وطريقة الحصر على نوعين: الحصر بالحروف وهي: ما ـ إِلا ـ إِنَّما؛ والحصر الذي يقيده التقديم.

*

بحث سابع: الإيجاز والإطناب في القرآن 1

إنهما من أعظم أنواع البلاغة حتى قال أحدهم: ((البلاغة هي الإيجاز والإطناب)) وقال الزمخشري: على البليغ في مظانّ الإجمال أن يجمل ويوجز، وكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويُشبع.

وفسروا الإيجاز بأداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف، والإطناب أداؤه بأكثر منها لكون المقام خليقاً بالبسط. والإيجاز نوعان: إيجاز حذف وإيجاز قصر.

إيجاز القصر هو المعنى الكثير باللفظ القليل. وهو ثلاثة أقسام: إيجاز القصر (حصراً) وهو قصر اللفظ على معناه، مثاله كتاب سليمان إلى بلقيس؛ وإيجاز التقدير وهو أن يقدر معنى زائد على المنطوق نحو ((فمن جاءَه موعظة مـن ربه فانتهى فله ما سـلف))؛ والإيجاز الجامع وهو أن يحتوي اللفظ على معانٍ متعددة. وفيه الحديث ((أوتيتُ جوامع الكلم)) وهو ميزة القرآن الكبرى؛ وهو كثير نحو (( إن الله يأمر بالعدل والإحسان)) فما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه الآية؛ ونحو ((خذ العفو)) فإنها جامعة لمكارم الأخلاق! ونحو ((قل هو الله أحد)) فقد تضمنت الرد على أربعين فرقة! ونحو ((يا أرض ابلعي ماءك)) ونحو ((يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم)) التي جمعت أحد عشر جنساً؛ ((وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)) فيها أمران ونهيان وخبران وبشارتان؛ ونحو ((فاصدع

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 53:2 .

ـ 43 ـ

بما تؤمر)) ونحو ((وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين)) ونحو ((ولكم في القصاص حياة)) فإنها تنطوي على معانٍ كثيرة بألفاظ قليلة.

وإيجاز الحذف، ويشترط فيه أن لا يكون في الحذف ضرر معنوي أو صناعي وأن لا يكون المحذوف كالجزء وأن لا يكون الكلام مؤكداً لأن الحذف مناف للتأكيد، وأن يدل على الحذف دليل من قرينة لفظية أو معنوية.

وفوائد الحذف التنبيه إلى الأهم نحو ((ناقة الله، وسقياها)) ؛ والتفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام في أحوال التعجب والتهويل نحو ((وجاؤوها وفتحت أبوابها)) فحذف الجواب وتُرك لتقدير السامع، ومثله ((ولو ترى إذ وقفوا على النار... )) ؛ والتخفيف لكثرة دورانه في الكلام. ومنه حذف حرف النداء ((يوسفُ اعراض)) ، وحذف نون ((لم يكُ)) ونون جمع السالم نحو ((والمقيمي الصلاة)) وياء الفعل ((والليل إذا يسرِ)) وتاء التأنيث ((وما كانت أمك بغيّاً)) الأصل بغيّةً. ويحُذف أيضاً لشهرته نحو ((تساءَلون به والأرحام)) حيث حذف الجار؛ أو صيانته عن ذكره تشريفاً لـه نحو ((قال فرعون وما رب العالمين؟ـ رب السماوات)) حذف فيها المبدأ؛ أو صيانة اللسان عنه تحقيراً لـه نحو ((صمٌّ بكم عمي)) أي هم أو المنافقون. ومنها قصد العموم نحو ((وإياك نستعين)) على العبادة وعلى أمورنا كلها؛ ومنها رعاية الفاصلة نحو ((ما ودّعك ربك وما قلى)) أي وما قلاك.

والحذف، لِدليل عليه، يسمّى الاختصار، والحذف لغير دليل الاقتصار.

والحذف على أنواع: منها الاقتطاع وهو حذف بعض حروف الكلمة كالترخيم، ومنها الاكتفاء بشيء عن شـيئين نحو ((سـرابيل تقيكم الحر)) أي والبرد ونحو ((بيدك الخير)) أي والشر؛ ونحو ((وبه ما سكن في الليل والنهار)) أي دون تحرك. ومنها الاحتباك أي أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني، ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول، وهو كثير في القرآن: ((فلا تقربوهن حتى يطهرن (من الدم) فإذا تطهرن (بالماء) فآتوهنّ)) ، ونحو ((خلطوا عملاً صالحاً

ـ 44 ـ

وآخر سيئاً)) ونحو ((فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة)) أي تقاتل في سبيل الطاغوت؛ ومنها الاختزال بحذف كلمةٍ: اسم أو فعل أو حرف؛ أو أكثر من كلمة.

وأمثلة حذف الاسم: مثل حذف المضاف، وفي القرآن منه زهاء ألف موضع نحو ((الحج أشهر)) أي أشهر الحج، ((ولكن البِرَّ من آمن)) أي ذا البرّ أو برّ من؛ ((وفي الرقاب)) أي وفي تحرير الرقاب. ومثل حذف المضاف إليه، ويكثر في ياء المتكلم نحو ((ربّ اغفر لي)) وفي الغايات نحو ((لله الأمر من قبل ومن بعد)) أي من قبل القلب ومن بعده، وفي (كل وأي وبعض). ومثل حذف المبتدإِ،ويكثر في جواب الاستفهام نحو (( وما أدراك ما هي، نار حامية)) أي هي نار؛ وبعد فاء الجواب نحو ((من عمل صالحاً فلنفسه)) أي فعمله لنفسه؛ وبعد القول نحو ((وقالوا: أساطير الأولين)) ؛ وبعد ما لخبر صفة لـه مـن المعنى نحو ((التائبون العابدون)) ونحو ((صُمٌّ بكم عمي)) . ووجب في النعت المقطوع الرفع حذف الخبر نحو ((أكُلها دائم وظلها)) أي دائم، ونحو ((فتحرير رقبة)) أي عليه تحرير رقبة؛ أو حذف الموصوف نحو ((وعندهم قاصرات الطرف)) أي حور قاصرات، ونحو ((أيها المؤمنون)) أي أيها القوم المؤمنون ومثال حذف الصفة نحو ((يأخذ كل سفينة)) أي صالحة، ونحو ((فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً)) أي وزناً نافعاً. ومثال حذف المعطوف عليه نحو ((أن اضرب بعصاك البحر، فانفلق)) أي فضرب فانفلق. ومثال حذف المعطوف مع العاطف نحو ((لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح، وقاتل)) أي ومن أنفق بعد وقاتل؛ كذلك حذف المبدل منه، وحذف الفاعل وحذف المفعول، وحذف العائد في الصلة والصفة والخبر والحال، وحذف مخصوص نِعْمَ نحو ((فقدرنا فنعمَ القادرون)) أي نحن، وحذف الموصول نحو ((آمنَّا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم)) أي والذي.

ومن أمثلة حذف الفعل وهي عديدة: يطرد إذا كان مفسراً نحو ((وإن أحد مـن المشركين استجارك)) أي فأجره. ويكثر في جواب الاسـتفهام نحو ((وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربك؟ قالوا خيراً)) أي أنزل خيراً. وأكثر منه

ـ 45 ـ

حذف القول نحو ((وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيت واسماعيل ربنا)) أي يقولان ...

ومن أمثلة حذف الحرف وهو من باب اختصار المختصر. منه حذف همزة الاستفهام نحو ((سواء عليهم انذرتهم)) أي أأنذرتهم. وحذف الموصول الحرفي ولا يجوز إلاَّ في (أن) نحو ((ومن آياته يريكم البرق)) أي أن يريكم. وحذف الجار وهو يطرد مع (إن وأن) نحو ((اطمع أن يغفر لـي)) أي بأن؛ وجاء حذف الجار مع غيرهما نحو ((يخوّف أولياءه)) أي يخوفكم بأوليائه. وحذف العاطف نحو ((وجوه يومئذ خاشعة، وجوه يومئذ ناعمة)) أي ووجوه ناعمة. وحذف فاء الجواب نحو ((إن ترك خيراً الوصية)) أي فالوصية. وحذف حرف النداء وهو كثير. وحذف قد في الماضي إذا وقع حالاً نحو ((أوجاؤوكم حصرت صدورهم)) أي وقد حصرت. وحذف لا النافية، وهو يطرد في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعاً نحو ((تاللهِ تفتؤ)) أي لا تفتؤ؛ وقد ورد في غيره نحو ((وعلى الذين يطيقونه فدية)) أي وعلى الذين لا يطيقونه، ونحو ((والقى في الأرض رواسي أن تميد بكم)) أي لئلا تميد. وحذف لام التوطئة، ولام الأمر، ولام (لقد) ويحسن مع طـول الكلام، ونـون الجمع، والتنوين، وحذف حركة الاعراب والبناء ...

ومن أمثلة حذف أكثر من كلمة: حُذف مضافين نحو ((فإنها من تقوى القلوب)) أي فإن تغظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب؛ ونحو ((فقبضتُ قبضة من أثر الرسول)) أي من أثر حافر فرس الرسول؛ ونحو ((وتدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت)) أي كدوران عين الذي. و حذفُ ثلاثة مضافات نحو (( فكان قاب قوسين)) أي فكان مقدار مسافة قربه مثل قابي قوسي : فيه حذف ثلاثة من اسم كان ، وواحد من خبرها . وحذفُ مفعولي باب ظن نحو ((اين شركائي الذين كنتم تزعمون)) أي تزعمونهم شركائي. وحذف الجار مع المجرور نحو ((خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً)) أي صالحاً بسيء: وسيئاً بصالح. وحذف

ـ 46 ـ

العاطف مع المعطوف، وقد تقدم. وحذف حرف الشرط وفعله، وهو ويطرأ بعد الطلب نحو ((فاتبعوني يحببكم الله)) أي أن اتبعتموني. وحذف جواب الشرط نحو ((فإن استطعت أن تبتغي نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء ...)) أي فافعل، ونحو ((ولولا فضل الله عليكم ورحمته)) أي لعذبكم. وحذف جملة القسم نحو ((لأعذّبنّه عذاباً شديداً)) أي والله. وحذف جواب القسم نحو ((والنازعات غرقاً ...)) أي لتبعثنّ! ونحو ((ص والقرآن ذي الذكر)) أي أنه لمعجز! ونحو ((ق والقرآن المجيد ...)) أي ما الأمر كما زعموا: و حذف جملة مسببة عن المذكور نحو (( ليحق الحق و يبطل الباطل)) أي فعل ما فعل . وحذف جمل كبيرة نحو ((فارسلونْ يوسف أيها الصديق افتنا)) أي فارسلونْ إلى يوسف ليَسْتَعْبِر الرؤيا ففعلوا فأتاه فقال له: يايوسف!

وفي المحذوف تارة لا يقوم شيء مقام المحذوف كما تقدم، وتارة يقوم ما يدل عليه نحو ((وأن يكذبوك، فقد كذّبت رسل من قبلك)) أي فلا تحزن واصبر؛ ونحو ((وأن يعودوا، فقد مضت سُنة الأولين)) أي يصيبهم مثل ما أصابهم.

2 ـ الإطناب: وينقسم إلى بسط وزيادة.

فالإطناب بالبسط يكون بتكثير الجمل، كالآية 164 من البقرة لإثبات التوحيد في الآية 163. وكقوله (( يحملون العرش ومن حوله، يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون بـه)) فقوله ((ويؤمنون به)) إطناب لأن إيمان حملة العرش معلوم.

والإطناب بالزيادة على أنواع: منها (1) دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد وهي إن وأن ولام الابتداء والقسم، ولا الاستفتاحية، وامّا وها التنبيه، وأن وكأن في تأكيد التشبيه، ولكن في تأكيد الاستدراك، وليت في تأكيد التمني ، ولعلّ (وعسى) في تأكيد الترجي، وضمير الشأن، وضمير الفصل، وإما في تأكيد الشرط، وقد والسين وسوف والنونان في تأكيد الفعلية ولا التبرئة، ولن ولما في تأكيد النفي. وذلك نجو قوله عن رسل عيسى ((إنا إليكم

ـ 47 ـ

مرسلون)) ثم ((ربنا يعلم أنا إليكم لمرسلون)) ... (2) دخول الأحرف الزائدة، وباب الزيادة في الحروف وزيادة الأفعال قليل والأسماء أقل، نحو ((كيف نكلم من كان في المهد صبياً)) بزيادة كان، ونحو ((فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به)) أي بما ... (3) التأكيد الصناعي وهو أربعة أقسام: التوكيد المعنوي بكلمة (كل وأجمع) والتوكيد اللفظي بتكرار اللفظ الأول إِما بمرادفه نحو ((غرابيب سود)) وإما بلفظه نحو ((فمهل الكافرين أمهلهم)) وإن كان جملة نحو ((إن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً)). ثم تأكيد الفعل بمصدره أو بحضور فعل آخر أو اسم عين نيابة عن المصدر نحو ((كلم الموسى تكليماً)) . ثم الحال المؤكدة نحو ((يوم ابعث حيا. لاتعيثوا في الأرض مفسدين)) . (4) التكرير وهو أبلغ من التأكيد، ومن فوائده التقرير فالكلام إذا تكرر تقرّر؛ والتأكيد؛ وزيادة التنبيه، والتعظيم والتهويل نحو (( الحاقـة ما الحاقـة! القارعـة ما القارعة!)) ، والترديد أربع مرات كما في آية النور ((الله نور السماوات والأرض ...)) ... (5) زيادة الصفة للتخصيص نحو ((تحرير رقبة مؤمنة)) والتوضيح نحو ((ورسوله النبي الأمي)) والمدح والثناء نحو ((باسم الله الرحمان الرحيم)) أو الذم نحو ((الشيطان الرجيم))، ثم التأكيد لرفع الإبهام نحو ((لاتتخذوا إلهين اثنين)) . (6) البدل للإيضاح بعد الإبهام نحو ((اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم)). (7) عطف البيان وهو كالصفة في الإيضاح ويزيدها شرحاً نحو ((فيه آيات بينات، مقام ابراهيم)) أو مدحاً ((جعل الله الكعبة البيت الحرام)). (8) عطف أحد المترادفين على الآخر للتأكيد نحو ((لا يخاف ظلماً ولا هضماً)) ونحو ((لكل منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً)). (9) عطف الخاص على العام نحو ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)) فهي داخلة فيها. (10) الإيضاح بعد الإبهام للتشويق نحو ((رب اشرح لي ـ صدري)) وللتفصيل بعد الإجمال نحو ((وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر)) . (11) التفسير نحو (( إن الإنسان خلق خلوعا: إذا مسه الشر جذوعاً وإذا مسه الخير منوعا)) . (12) وضع الظاهر موضع المضمر للتقرير والتمكين نحو ((قل هو الله أحد)) أو للتعظيم نحو ((وقرآن

ـ 48 ـ

الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهوداً)) . أو للإهانة والتحقير نحو ((أولئك حزب الشيطان، إلا إن حزب الشيطان هم الخاسرون)) . ومنها إزالة اللبس أو قصد تربية المهابة أو قصد التوصل من الظاهر إلى الوصف، أو قصد العموم أو قصد الخصوص. وإعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه.

(13) الإيغال وهو الإمعان، وختم الكلام بما يفيد نكتة قد يتم المعنى بدونها نحو ((يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسئلكم أجراً ـ وهم مهتدون)) فقوله وهم مهتدون فيه إيغال وإمعان زيادة في الحث. (14) التذييل أي تأكيد الجملة بجملة نحو: ((وقل جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً! )). (15) الطرد والعكس فيه يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني أو بالعكس نحو ((لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون)) . (16) التكميل وهو الاحتراس لما في الأول من وهم نحو ((أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)) دفع بالثاني ما في الأول من وهم الضعف ونحو ((أشداء على الكفار، رحماء بينهم)) . (17) التتميم لنكتة تفيد المبالغة نحو ((ويطعمون الطعام على حبه)) أي مع حب الطعام واشتهائه. (18) الاستقصاء أي كلام يأتي مع أوصاف المذكور الذاتية بجميع عوارضه ولوازمه فلا يترك زيادة لمستزيد نحو ((أيود أحدكم أن تكون لـه جنة ـ من نخيل وأعناب ـ تجري من تحتها الأنهار ـ فيها من كل الثمرات)). والفرق بين التكميل والتتميم والاستقصاء أن التتميم يرد على المعنى الناقص ليتم، والتكميل يرد على المعنى التام بأوصافه، والاستقصاء يرد على المعنى التام الكامل فيستقصي لوازمه وعوارضه. (19) الاعتراض أو الالتفات وهو الإتيان بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة نحو ((ويجعلون لله البنات ـ سبحانه)) ونحو ((لتدخلن المسجد الحرام ـ إن شاء الله)) فالاستثناء اعتراض للتبرك. (20) التعليل وفائدته التقرير فإن النفوس أبعث على قبول الأحكام المعللة نحو ((حكمة بالغة)) ونحو ((جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء)) .

*

ـ 49 ـ

بحث ثامن: الخبر والإنشاء

الكلام إنشاء أم خبر، لا ثالث لهما. وكل الأنواع من نداء ومسئلة وأمر وتشفع وتعجب وقسم وشرط ووضع وشك واستفهام تعود إليهما.

1 ـ فالخبر هو الكلام الذي يحتمل التصديق والتكذيب. والإنشاء هـو الكلام الذي يقترن معناه بلفظه.

والقصد بالخبر إفادة المخاطب. وقد يرد بمعنى الأمر نحو ((والوالدات يرضعن))، وبمعنى النهي نحو ((لا يمسه إلا المطهّرون)) ، وبمعنى الدعاء نحو ((إياك نعبد وإياك نستعين)) أي أعِنّا، ونحو ((قاتلهم الله)) .

*

1 ـ أقسام الخبر

1 ـ التعجب أي تعظيم الأمر في قلوب السامعين، عن طريق الإبهام. وله صيغة من لفظه (ما أفعل! أفعل به!) ومن غير لفظه نحو ((كبرت كلمة تخرج من أفواههم)) ونحو ((كيف تكفرون بالله)) . وإذا ورد التعجب على لسان الله صُرف إلى المخاطب نحو ((فما أصبرهم على النار)) ونحو ((لعله يتذكر أو يخشى)) ونحو ((ويل للمطففين)) : فهو لسان حال المخاطبين.

2 ـ الوعد والوعيد نحو ((سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم)) .

3 ـ النفي أو الجحد والجحد ما دخله الكذب، فكل جحد نفي وليس كل نفي جحداً. مثال النفي ((ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)) . ومثال الجحد، نفي فرعون آيات موسى.

قالوا: المجاز يصح نفيه بخلاف الحقيقة, وأشكل على ذلك قوله ((وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)) . ونفي الاستطاعة قد يراد به نفي القدرة والإمكان،

ـ 50 ـ

وقد يراد نفي الامتناع، وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة. من أمثلتها ((فلا يستطيعون توصية ... هل يستطيع ربك ... إنك لن تستطيع معي صبراً)) .

وقالوا نفي العام يدل على نفي الخاص، وثبوت العام يدل على ثبوت الخاص. وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام، ونفي الخاص لا يدل على نفي العام. من أمثلة ذلك ((فلما أضاءَت ما حوله ذهب الله بنورهم)) لأن النور أعم من الضوء؛ ((هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً)) ففي الضوء دلالة على النور فهو أخص منه. وقد أشكل على هذا قوله ((وما ربك بظلام للعبيد)) وقوله ((وما كان ربك نسيّاً)) .

*

2 ـ الإنشاء

الإنشاء كلام يقترن معناه بلفظه، ولا يحتمل تصديقاً أو تكذيباً. وقد توسعت العرب فأخرجت الإنشاء عن حقيقته لمعان أو أشربته تلك المعاني. فجاء على أقسام. منها:

أ ـ ومن أقسام الإنشاء: الاستفهام ـ والاستفهام يأتي بمعنى:

1 ـ الإنكار والمعنى فيه على النفي وما بعده مَنْفي. نحو ((فهل يهلك إلا القوم الفاسقون)). ونحو و((أنؤمن ببشرين مثلنا؟)) أي لا نؤمن.

2 ـ التوبيخ أو التقريع نحو ((أفعصيت أمري؟)) ونحو ((أتدعون بعلاً وتذرون احسن الخالقين)) .

3 ـ التقرير وهو حمل المخاطب على الإقرار، ويستعمل فيه عادة الهمزة لا هل، نحو ((ألم نشرح لك صدرك)) ونحو ((ألم يجدك يتيماً فآوى)) .

4 ـ التعجب أو التعجيب نحو ((كيف تكفرون بالله)) ! ((وما لي لا أرى الهدهد)) !

ـ 51 ـ

5 ـ العتاب نحو ((ألم يئن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم)) .

6 ـ التذكير نحو ((ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض)) .

7 ـ الافتخار نحو ((أليس لي ملك مصر)) !

8 ـ التفخيم نحو ((ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة)) !

9 ـ التهويل والتخويف نحو ((الحاقة. مال الحاقة)) ؟

10 ـ عكسه وهو التسهيل والتخفيف نحو ((وماذا عليهم لو آمنوا)) ؟

11 ـ التهديد والوعيد نحو ((ألم نهلك الأولين)) ؟

12 ـ التكثير نحو ((وكم من قرية أهلكناها)) .

13 ـ التسوية نحو ((سوءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)) .

14 ـ الأمر نحو ((أأسلمتم)) أي أسلموا. ((فهل أنتم منتهون)) أي فانتهوا!

15 ـ التنبيه ـ وهو من أقسام الأمر ـ نحو ((ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل)) أي انظرْ.

16 ـ الترغيب نحو ((من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً)) ؟ ((هل أدلكم على تجارة تنجيكم)) ؟

17 ـ النهي نحو ((أتخشونهم؟ فالله أحق أن تخشوه)) .

18 ـ الدعاء ـ وهو كالنهي إلا إنه من الأدنى إلى الأعلى ـ نحو (( أتهلكنا بما فعل السفهاء)) أي لا تهلكنا.

19 ـ الاسترشاد نحو ((أتجعل فيها من يفسد فيها)) ؟

20 ـ التمني نحو (( فهل لنا من شفعاء)) ؟

21 ـ الاستبطاء نحو ((متى نصر الله)) ؟

22 ـ العرض نحو ((ألا تحبون أن يغفر الله لكم)) ؟

23 ـ التخصيص نحو ((ألا تقاتلون قوماً نكثوا)) ؟

ـ 52 ـ

24 ـ التجاهل نحو (( أَأُنزل عليه الذكر من بيننا)) ؟

25 ـ التعظيم نحو ((مَن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)) !

26 ـ التحقير نحو ((أهذا الذي يذكر آلهتكم! أهذا الذي بعث الله رسولاً!)) .

27 ـ الاكتفاء نحو ((أليس في جهنم مثوى للمتكبرين)) ؟

28 ـ الاستبعاد نحو ((أنّى لهم الذكرى)) ؟

29 ـ الإيناس نحو ((وما تلك بيمينك يا موسى)) ؟

30 ـ التهكم والاستهزاء نحو ((أصلواتك تأمرك؟ مالكم لا تنطقون؟)) .

31 ـ التأكيد نحو ((أفمن حق عليه كلمة العذاب ... أفأنت تنقذ مَن في النار)) !

32 ـ الإخبار نحو ((أفي قلوبهم مرض،أم ارتابوا؟)) . هل ((أتى على الإنسان حين من الدهر؟ )) وعلق السيوطي عليها بقوله: ((هل يقال إن معنى الاستفهام في هذه الأشياء موجود وانضم إليه معنى آخر، أو تجرّد عن الاستفهام بالكلية؟ ـ محل نظر، والذي يظهر الأول)) . ثم أضاف ((والقاعدة أن المنكر يجب أن يلي الهمزة، وأشكل عليها قوله (أفأصفاكم ربكم بالبنين) فإن الذي يليها هنا الإصغاء بالبنين وليس هو المنكر إنما المنكر قولهم أنه اتخذ من الملائكة إناثا. وأشكل منه (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)؟ ووجه الأشكال أنه لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر، ولا نسيان النفس فقط ولا مجموع الأمرين. ويجاب بأن فعل المعصية مع النهي عنها أفحش، ولكن كيف تضاعف الطاعة الصَرْفةُ المعصيةَ المقارنة لـها، فيه دقة)) .

*

ب ـ ومن أقسامه، طلب فعل غير الكَفّ وهو استعمال الإنشاء بمعنى الخبر.

ويرد حقيقة في الإيجاب نحو ((أقيموا الصلاة. وليصلّوا معك)) .

ويرد مجازاً لمعانٍ آخر. منها الندب نحو ((وإذا قُرِئ القرآن فاستمعوا له

ـ 53 ـ

وانصتوا))؛ والإباحة نحو ((إذا حللتم فاصطادوا))؛ والدعاء من السافل للعالي نحو ((رب اغفر لي)) ؛ والتهديد نحو ((اعملوا ما شـئتم)) ! والإهانـة نحو ((ذُقْ إنك أنت العزيز الكريم)) ؛ والتسخير أي التذليل نحو ((كونوا قردة)) ! فهو أخص من الإهانة؛ والتعجيز نحو ((فأتوا بسورة من مثله)) ؛ والامتنان نحو ((كلوا من ثمره إذا أثمر)) ! والعجب نحو ((انظر كيف ضربوا لك الأمثال)) ؛ والتسوية نحو ((فاصبروا أولا تصبروا)) ؛ والإرشاد نحو ((وأشهدوا إذا تبايعتم)) ؛ والاحتقار نحو ((ألقوا ما أنتم ملقون)) ؛ والإنذار نحو ((قل تمتعوا)) ؛ والإكرام نحو ((أدخلوها بسلام)) ؛ والتكوين وهو أعم من التسخير نحو ((كن فيكون)) ؛ والإنعام أي تذكير النعمة نحو ((كلوا مما رزقكم الله)) ؛ والتكذيب نحو ((قل فأتوا بالتوراة فاتلوها)) ؛ والمشورة نحو ((فانظرْ ما ترى)) ؛ والاعتبار نحو ((فانظروا إلى ثمره)) ؛ والتعجب نحو ((اسمع بهم وابصرْ!)) ...

*

ج ـ ومن أقسامه: التمني وهو طلب على سبيل المحبة.

ولا يشترط فيه إمكان المتمنّي بخلاف الترجي. ونوزع في تسمية تمنّي المحال طلباً...

وحرف التمنّي: (ليت) نحو ((يا ليتني كنت معهم فأفوزَ)) . وقد يُتمنّى (بهل) حيث يعلم فقده نحو ((فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا)) ؛ (وبلو) نحو ((فلو أنَّ لنا كرة فنكونَ)) ؛ (وبلعل) في البعيد، فتعطى حكم ليت في نصب الجواب نحو ((لعلي أبلغُ الأسباب، أسباب السماوات، فأطّلَعَ))...

*

د ـ ومن أقسامه: التّرجي

والفارق بين التّرجي والتّمني بأنـه فـي الممكن، والتمني في الممكن والمستحيل؛ والتّرجي في القريب بينما التمني في البعيد؛ والترجي في المتوقع، والتّمني في غيره.

ـ 54 ـ

وحرف التّرجي: لعل وعسى. وقد ترد مجازاً، لتوقع محذور نحو ((لعل الساعة قريب)) ويسمى الإشفاق.

*

هـ ـ ومن أقسامه: النداء وهو طلب بحرفٍ ناب مناب فعل (أدعو).

ويصحب في الأكثر الأمر والنهي. وله أحوال منها:

الغالب تقدمه نحو ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم)) ، وقد يتأخر نحو ((توبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون)) .

وقد يصحب الجملة الخبرية، فتعقبها جملة الأمر نحو ((يا أيها الناس ضرب المثل فاستمعوا له)) ، وقد لا يعقبها نحو ((يا عبادي لا خوف عليكم اليوم! )) .

وقد تصحبه الاستفهامية نحو ((يا أبتِ لِمَا تعبد ما لا يسمع ولا يبصر)) ؟

وقد ترد صورة النداء لغيره مجازاً: كالإغراء والتحذير نحو ((ناقة الله وسقياها))؛ والاختصاص ((رحمة الله وبركاته عليكم أهلَ البيت)) ؛ والتنبيه نحو ((ألا يسجدوا)). والتعجب نحو ((يا حسرة على العباد)) ؛ والتحسّر نحو (( يا ليتني كنت تراباً)) .

والأصل فيه أن يكون النداء للبعيد حقيقة أو حكماً؛ وقد ينادى بها القريب لنكتة.

قال الزمخشـري: كثر فـي القرآن النداء (بيا أيها) دون غيره لما فيها مـن التأكيد والمبالغة في خطاب الله عباده.

*

وـ ومن أقسامه: القسم وفائدته تأكيد الجملة الخبرية وتحقيقها عند السامع. وسيأتي بيان ذلك في أقسام القرآن.

زـ ومن أقسامه الشرط. ولا حاجة فيه إلى تفصيل.

*

ـ 55 ـ

وخاتمة البحث إن إعجاز القرآن في ((إعجازه البياني)) كما يقول ابن قتيبة في مقدمة كتابهِ (مشكل القرآن). ((وكلامه في هذه الناحية إثارة لقضية إعجاز القرآن من وجهة نظر أهل السنة في إعجازه بنظمه وسمو تأليفه عن سائر كلام العرب ونظومهم 1)) .

1 ـ والسؤال الأول الخطير الذي أثاره ظهور المعتزلة في صدر الإسلام: هل من مجاز في القرآن؟

قال السيد سلاَّم: (( ويختلف أصحاب السنة مع المعتزلة في المجاز ـ وهو أصل الصور البيانية ـ فقد أجازه المعتزلة وتوسعوا فيه ورأوا فيه ضرورة تعبيرية. ولم يشأ بعضهم التوسع فيه خشية الوقوع في الحرج، وكان يغلب على هؤلاء مذهبُ أهل السنة والحديث. والرأي عندهم أنه لا يصح التجوّز في كلام الله: فالمجاز من الضرورات التي لا يلجأ إليها القرآن إذا صحَّ وجودها أو اضطر إليها البشر من الشعراء والبلغاء في كلامهم وما ذلك ـ عندهم ـ إلا لقصر باعهم وضعف أداتهم، ولا يأتي الله به في كلامه وهو أعرف بموضع الكَلِم ومواقعه؛ وهؤلاء أيضاً يرون في المبالغة كذباً ولا يصح أن تقع في كلام الله؛ ومن آرائهم أيضاً عدم وجود الزيادة أو النقصان في القرآن 2 )).

وهكذا فقد أنكر أهل السنة والحديث وجود المجاز في القرآن، وهو أصل الصور البيانية والبديعية في القرآن.

ولكن رأي المعتزلة تغلب آخر الأمر، والمقتصدون من أهل السنة والحديث أدركوا أن المـجاز في القرآن واقع، وهو جائز لأنه فن من مستلزمات التعبير، وللعرب المجازات في قولها، والقرآن نزل بلسانها وتلاقى بعضهم مع المعتزلة في منتصف الطريق.

ــــــــــــــــ

( 1 ) أثر القرآن في تطور النقد العربي 105.

( 2 ) أثر القرآن في تطور النقد العربي 103.

ـ 56 ـ

2 ـ وهكذا أيضاً فمن التاريخ الثابت أن المعتزلة احتضنوا قضية المجاز والإعجاز في القرآن للاحتجاج بها للقرآن وحلّ ما أغلق من مشكله ومتشابهه. وقد أخذ بهذا الرأي ابن قتيبة في (مشكل القرآن) لحلّ باب الاختلاف في القرآن، وباب المتناقض وباب المتشابه. قال: ((الاختلاف نوعان: اختلاف تغاير واختلاف تضاد. فاختلاف التضاد لا يجوز، ولست واجده بحمد الله في شيء من كتاب الله إلا في الأمر والنهي من الناسخ والمنسوخ. واختلاف التغاير جائز، وذلك مثل قوله: ((واذكر بعد أمه)) أي بعد حين أو بعد نسيان لـه: فأنزل الله المعنيين جميعاً ... والباب الثاني عن بعض المتناقض، ويدور حول مزاعم بعض الطاعنين من قولهم بوقوع التناقض في كتاب الله: وما زعموه متناقضاً يتعلق في غالب الأمر بآيات الخلق مثل قوله ((أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ... ثم استوى إلى السماء ...)) فدلت هذه الآية على أنه خلق الأرض قبل السماء؛ مع قوله: ((أم السماء بناها ... والأرض بعد ذلك دحاها)) فدلت هذه الآية على أنه خلق السماء قبل الأرض. ثم باليوم الآخر وما فيه من الحساب والسؤال والجزاء مثل قوله: ((فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان)) وقوله ((فوربك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون)). ويرد ابن قتيبة على هذا وأمثاله بحجج تتعلق أكثرها بالعقيدة مستعيناً بما جاء بالحديث والأثر عن هذه الأمور. وهناك أخطاء تتعلق باللغة والأسلوب وهي التي جاء القرآن على نهجها؛ وأخطاؤهم يغلب عليها عدم التفريق بين الحقيقة والمجاز ... ويتحدث في الباب الثالث عن المتشابه في القرآن فيقول: وأما قولهم ماذا أراد الله بإنزال المتشابه في القرآن من أراد بالقرآن لعباده الهدى والبيان؟ والجواب هو إن القرآن نزل بألفاظ العرب ومعانيها ومذاهبها في الإيجاز والاختصار والإطالة، والتوكيد والإشارة إلى الشيء وإغماض بعض المعاني حتى لا يظهر عليها إلاَّ اللَّقف، وإظهار بعضها وضرب الأمثال لما خفي ...)) ثم قال السيد سلاَّم:

3 ـ ((فرأيُه إذاً إن المتشابه يلفُّه بعض الغموض. وهذا الغموض نفسه

ـ 57 ـ

لون من ألوان البلاغة. وقضية الغموض في البيان قضية مشهورة طرقها كثير من النقاد قديماً وحديثاً 1 ... وكما جاءت بعض صور القرآن واضحة فإن بعض الصور كانت تغللها غلالات من الغموض أوقفت حيالها علماء المسلمين كثيراً في حيرة؛ ومن هذه الصور كثير من متشابه القرآن. وقد لاحظ ابن قتيبة كما لاحظ غيره أن هذا الغموض سرّ من أسرار الجمال في أسلوب القرآن. فقد أكّد نلدكه وغيره من المستشرقين أن الألفاظ التي جاءت في القرآن يحيطها الغموض تعطي تأثيراً مبهماً يدفع إلى نوع من الجلال والهيبة وهو الأثر الذي قصد إليه القرآن في النفوس؛ ومن تلك الألفاظ ما جاء مخترعاً ولم تكن تعني شيئاً عند العرب قبل القرآن مثل غسلين وسجّين وتسنيم وسلسبيل و ... الخ 2 )) .

4 ـ وفي (بيان إعجاز القرآن للخطَّابي) نظرية في تفاوت البلاغة في أسلوب القرآن. فهو يقسم الكلام إلى ثلاثة أقسام ويقول: ((فمنها البليغ الرصين، ومنها الفصيح الغريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل ... فالقسم الأول أعلى طبقات الكلام وأرفعه، والقسم الثاني أوسطه وأقصره؛ والقسم الثالث أدناه وأقربه. فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع بين صفتي الفخامة والعذوبة ... وميزة أسلوب القرآن كما يقول هي القدرة على إدماج تلك الألوان اللفظية في نظمه مع نبو كل واحد منهما عن الآخر 3 )) .

ويتبع الباقلاني الخطابي في تفاوت البيان في القرآن: ((إنه يعترف بتساوي السور على اختلاف موضوعاتها في النظم والروعة الفنية؛ ولكنه مع ذلك يعترف بتفاوت بعضها عن بعض في ظهور الإعجاز ووضوحه؛ ويقول: ((نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر وفي بعض أدق)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) أثر القرآن 112 - 118 و 368 .

( 2 ) نلدكه: القرآن 38 .

( 3 ) أثر القرآن 252 و 290 .

ـ 58 ـ

5 ـ وللباقلاني نظرية أخرى في إعجاز القرآن البلاغي. ((وخلاصة نظريته في الإعجاز التي عرضها في كتبه في صور مختلفة هي: ((خروج نظم القرآن عن سائر كلام العرب ونظومهم ثم يقول: ((إن عجز القوم عن معارضته دليل خروجه على نمط كلامهم)) كما جاء في كتاب (التمهيد1).

وفي كتاب (نكت الانتصار) يقول بأن إعجاز القرآن في نظمه وبيانه منصب على القرآن كله كوحدة، وجملةً لا تفصيلاً، كنص كامل لـه ميزاته وصفاته التي تميّزه عن أقوال العرب وفنون كلامهم. لذلك نراه يعارض فكرة الإعجاز البلاغي الذي يتعرض للتحليل الجزئي للعبارة والبحث فيـها عن ضروب البيان والبديع ومجاز القول. ثم لا يأخذ بالقول بفصاحة الألفاظ وحدها: ((ليس الإعجاز في نفس الحروف وإنما هو في نظمها وأحكام وضعها)). فيأخذ بفكرة النظم التي نادى بها الخطَّابي2 فيؤكد أن إعجاز القرآن بنصه الكامل، ويفند آراء من قالوا بإمكان معرفة إعجازه عن طريق تحليل آياته على ضوء علوم البلاغة أو بذكر فصاحة ألفاظه ـ ولبّ نظريته في الإعجاز ((صحة مفارقة القرآن لكلام العرب)) . ـ وبذلك يكون الإعجاز معجزة، إذ المعجزة خرق العادة.

وفي (إعجاز القرآن) يرى أن إعجاز القرآن في براعة نظمه وغريب أسلوبه الخارج على أساليب العرب، وفي الإخبار بالغيوب، وفي ما جاءَت به من قصص الأولين مع أن النبي كان أميَّا. ويرى أن إعجاز القرآن البياني أو البلاغي قائم في خصوصية لـه تميّزه عن سائر كلام الإنس والجن في عشرة معان تجمع بين منهج البلاغيين في الإعجاز ومنهج الخطابي في النظم، ويضيف هو سرّاً جديداً في الوحدة الفنية للسورة مهما كانت صغيرة. ((فردّد القول بأن قضية الإعجاز لا تتكشف عن طريق البديع والبلاغة وحدهما كما حاول الرماني وتبعه أبو هلال

ــــــــــــــــ

( 1 ) التمهيد 120 و 44 .

( 2 ) أثر القرآن 266 – 268 .

ـ 59 ـ

العسكري، وشك في قدرة البديع على هدايته إلى سر إعجاز القرآن قال ((إنه لا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي أدعوه في الشعر ووصفوه فيه)) (إعجاز 97). ووجد أن إعجازه منصب عليه جملة لا تفصيلاً. فالسورة ـ لا الآية ـ أصغر وحدة فنيّة موضوعية في القرآن يمكن الحكم عليها بإعجاز النظم أو البلاغة وروعة البيان: فالحديث التام لا تتصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة1 )).

6 ـ ويظهر لبعض المستشرقين أن بيان القرآن بيان حجازي لا عالمي. نقل السيد سلاَّم عن زعيم المستشرقين نلدكه: ((إن القرآن يستخدم عناصر الطبيعة للتذكير بعظمة الله وبرّه وعدله. ويرى أن كثيراً من هذه الصور مستمدة من البيئة فهي لا تعطي الأثر القوي عند رجل غربي: فصور السحاب الذي يسيّره الله تعالى فوق الأرض وفي السماء عبر الصحراء المقفرة، والمطر الذي ينزله على الصحراء الجرداء ليكسوها ويعيد إليها نضرتها وجناتها وثمارها فتبهج العربي بمنظر الخضرة لأنها عنده الحياة. هذه الصور قوية الأثر في نفوس الأعراب الذين تعودوا أن تمر بهم سنوات عجاف تجف فيها الأرض قبل أن يهطل الغيث ليكسو قسوة الصحراء التي خلفها الزمن خيراً عميماً ومراعي خضراء غنية2 )) .

والقرآن ذاته يشهد بأن بيانه بيان حجازي لا يتعدّى إعجازه لسان قومه. فقد نزل القرآن ((بلسان عربي مبين)) ؛ وعربي هنا تعني حجازياً لقوله ((وقد يسرناه بلسان قومك)) وقومه هنا أهل مكة ((لتنذر أمّ القرى وما حولها)). فتعجيز الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً لا يتخطّى، بحسب شهادة القرآن، حدود اللسان العربي والقوم والبيئة: ((أنه ذكر لك ولقومك)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) أثر القرآن 275 - 283 راجع إعجاز القرآن له ص 275 – 276.

( 2 ) أثر القرآن 363 قابل Noldeke S. E. H. p. 33

ـ 60 ـ

7 ـ وجعلوا من إعجاز القرآن البياني والبلاغي معجزة محمد والقرآن. والتمسوا لذلك مقارنات من تاريخ النبوة في عصر موسى وعيسى، ليست من التاريخ في شيء عن الإعجاز في السحر والطب والبلاغة. نقل الأستاذ دروزة الأسطورة وعلق عليها بقوله1 : ((ومن هذا الباب ما قيل حتى أصبح مستفيضاً، وحجة خطابية حاضرة، من أن الله، كما أرسل موسى في ظرف ارتقى فيه السحر وشاع، بمعجزة تشبه السحر وليست سحراً، فغلب الساحرين؛ وأرسل عيسى في ظرف ارتقى فيه الطب وشاع، بمعجزة تشبه الطب، فأتى بما يعجز الطب والأطباء؛ فإنه أرسل محمداً بالقرآن فائقا على بلاغة البلغاء في ظرف كانت سوق البلاغة فيه رائجة، وبلاغـة الكلام فيه قد وصلت إلى أعلى الـذرى نظماً ونثراً، فقصّر عنه البلغاء والفصحاء، وكان فيه معجزته. ـ فهذا القول مع ما في ارتقاء السحر وشيوعه، والطب إلى أعلى الذرى في عهدي موسى وعيسى من محل نظر وتوقف2 ـ يعني أن القرآن قد قصد به أن يكون معجزاً في فصاحته وبلاغته اللغوية والنظمية والفنية كأنما هو معلقة من معلقات الشعراء الخالدة، أو قُصد به أن يكون أعلى من مستوى إفهام الناس وبلاغة بلغائهم. وهذا لا يصح في اعتقادنا. والقرآن يقرر أن ((هذا بلاغ للناس، وليُنذروا به)) (إبراهيم 52) ... فإنه

ــــــــــــــــ

( 1 ) دروزة: القرآن المجيد 151 – 155.

( 2 ) نقول: ليست هذه النظرية ((محل نظر وتوقف)) بل ذاك التخريج في التاريخ تهريج! فأي تاريخ يقول بأن السحر كان في زمن موسى أبلغ منه في زمن عيسى أو محمد أو زمننا الحاضر؟ وأي تاريخ يقول بأن الطب كان في زمن عيسى أقدر منه في زمن محمد أو وقتنا الحاضر ؟ و أي تاريخ يقول بأن البلاغة كانت في زمن محمد وبيئته أبلغ منها في زمن عيسى عند الإغريق والرومان؟ لا بل تحدّي الآداب العالمية ببلاغة العصر الجاهلي وفنونها المحدودة ونتاجها الضيّق، تحدٍّ أعمى للآداب العالمية لا يقول به مَن لـه بعض الإلمام بها. أين آثار العصر الجاهلي والمخضرم من روائع الفنون التمثيلية، والفنون الملحمية، والفنون الخطابية، والفنون التاريخية، والفنون التشريعية، والفنون الترّسلية، وآثارها الخالدة على مرّ الزمن في مخلفات الإغريق والرومان مثلاً؟؟؟ نحن قوميون عرب ولكن لا تعمينا عروبتنا عن حقائق التاريخ العامة.

ـ 61 ـ

كان يفهمه مختلف أوساط العرب، حضرهم وبدورهم، بل والمستعربون المقيمون في الحجاز أو الوافدون على النبي من عرب ومستعربين أيضاً ... إن الذي نعنيه أن إعجاز القرآن وعلو طبقته وروعة أسلوبه لا تقتضي أن يكون أعلى من مستوى أفهام العرب الذين خوطبوا به ... هذا عدا أن يكون إعجاز القرآن فيما نعتقد ليس من ناحية نظمه وأسلوبه اللغويين فحسب، بل هو أيضاً من ناحية روحانيته النافذة الباهرة، ونعتقد أن لهذا، الاعتبار الأول في إعجازه)).

فالإعجاز بالمعاني الجديدة التي تجدّد وجه البشرية قبل أن يكون بالحروف التي تحد وتقيّد، فالمعاني أرواح والألفاظ أجساد لها والروح أسمى من الجسد؛ والحرف يقتل والروح يحيى كما يقول الكتاب.

ـ 62 ـ

الفصل السابع

 

 

البديع في القرآن

البديع علم وفن في محسنات الكلام اللفظية والمعنوية.

لذلك فهو يشترك في الكثيرمن أشكاله مع علم وفن البيان.

ولكنهم يقتصرون في البيان على أوجه التشبيه والمجاز والاستعارة ويتركون سائر الوجوه عادة للمحسنات اللفظية في البديع.

وكثيرون هم الذين تكلموا في (بديع القرآن1). وقد انفرد بينهم ابن أبي الاصبع2. فنوجز عنه أبواب بديع القرآن مستعينين بالسيوطي.

*

1 ـ الاستعارة

((زوج التشبيه بالمجاز تتولد الاستعارة)) . ومطلوباتها ثلاثة: المبالغة في التشبيه والظهور والإيجاز؛ والفارق بين الاستعارة والتشبيه أن من حق الاستعارة أن يُطوى معها ذكر المستعار، لزيادة المبالغة في التشبيه فيُنْسى. مثال ذلك ((وإنه في أمّ الكتاب)) (زخرف 4) أي في أصله، ((واشتعل الرأس شيباً))

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 83:2 في بدائع القرآن .

( 2 ) بديع القرآن لابن أبي الاصبع المصري (585 – 654 هـ) تقديم وتحقيق حفني محمد شرف ـ الطبعة الأولى 1377هـ 1957م .

ـ 63 ـ

(مريم 4) وأصله شيب الرأس؛ ((وفجرنا الأرض عيوناً)) (قمر 12) كان الأرض كلها صارت عيوناً.

وتنقسم الاستعارة إلى خمسة أقسام: استعارة المحسوس للمحسوس بسبب المشاركة في وصف محسوس، وهي الاستعارة الكثيفة نحو ((وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعض)) (كهف 99)؛ واستعارة المحسوس للمحسوس للاشتراك في أمر معقول، وهي الاستعارة المركبة من الكثيف واللطيف نحو ((إذ أرسـلنا عليهم الريح العقيم)) (ذاريات 41)؛ واستعارة المحسوس للمعقول نحو ((بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق)) (أنبياء 18) أو ((اصدعْ بما تؤمر))؛ واستعارة المعقول للمحسوس للاشتراك في أمر معقول نحو ((إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية)) (حاقة 11) واستعارة المعقول للمعقول للمشاركة في أمر معقول نحو ((ولما سكت عن موسى الغضب)) (أعراف 154)؛ وهذا النوع ألطف الاستعارات الخمس.

وهناك نوع استعارة التخييليّة نحو ((على العرش استوى)) أو ((ثم استوى على العرش)) (فرقان 60) ونحو ((بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء)) (مائدة 64) ونحو ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)) (اسراء 34).

*

2 ـ التجنيس أو الجناس

الجناس والتجنيس والمجانسة والتجانس كلها ألفاظ مشتقة من الجنس لمعنى واحد وهو تشابه الكلمتين في اللفظ واختلافهما في المعنى، مما يزيد في تشوق السامع إلى معرفة المقصود. ويشترط في اللفظين ألا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازاً بل يكونان حقيقتين. والجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية فقد يُترك عند قوة المعنى. وبما أن التجنيس تحسين فهو يستعلم في مقام الوعد والإحسان لا في مقام التهويل.

ـ 64 ـ

وللتجنيس أصلان وهما جناس المزاوجة نحو ((وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها)) (شورى 40) وجناس المناسبة نحو ((إني وجهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض)) (أنعام 79) يتفرع منهما عشرة فروع منها لفظي ومنها معنوي.

وفروع التجنيس كلها منقسمة إلى تجنيس تغاير (إحدى الكلمتين اسماً والأخرى فعلاً) وتجنيس تماثل (الكلمتان اسمان أو فعلان أو فعل وحرف).

فروع الجناس هي: التام بأن يتفق اللفظان في أنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها نحو ((يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ... إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)) .

والمصحّف أو جناس التصحيف، تختلف فيه الحروف بالنقط نحو ((وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً)) .

والمحرّف أو جناس التحريف، ويقع الاختلاف في الحركات ((ولقد أرسلنا فيهم منذرِين فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين)) .

الناقص بزيادة حرف على إحدى الكلمتين نحو ((والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذٍ المساق)) ونحو ((كلي من كل الثمرات)) . والمزيد بزيادة أكثر من حرف ((ولكنا كنا مرسلين)).

المضارع وهو أن يختلف اللفظان بحرف مقارب في المخرج نحو ((وهم ينهون عنه ويَنْؤن)) ؛ أو بحرف غير مقارِب ويسمى اللاحق نحو ((ويل لكل همزة لمزة)) ونحو ((وإنه على ذلك لشهيد وإنه لحب الخير لشديد)) ونحو ((ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير حق، وبما كنتم تمرحون)) .

المرفق وهو ما تركب من كلمة وبعض أخرى نحو ((جرف هار، فانهار)) .

اللفظي بأن يختلف اللفظان في مخارجهما نحو ((وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة)).

المقلوب، أو جناس القلب، وفيه يختلفان في ترتيب الحروف نحو ((فرقت بين بني إسرائيل)) .

ـ 65 ـ

المقتضب أو تجنيس الاشتقاق بأن يجتمعا في أصل الاشتقاق نحو ((فروح وريحان)) .

المطلق أو تجنيس الإطلاق أو التغاير بأن يجتمعا في المشابهة فقط نحو ((وجنى الجنتين دان)) أو نحو ((أثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا)) ونحو ((إذا أنعمنا على الإنسان أعرض ... فذو دعاء عريض)) .

3 ـ التورية

هي لفظ لـه معنيان (إما بالاشتراك أو التواطؤ أو الحقيقة والمجاز) أحدهما قريب والآخر بعيد، ويقصد البعيد ويورى عنه بالقريب. قال الزمخشري ((لا ترى باباً في البيان أدق ولا ألطف من التورية ولا أنفع على تأويل المتشبهات في كلام الله ورسوله)) .

والتورية نوعان: مجردة لا يذكر فيها شيء من لوازم المورى به ولا المورى عنه نحو ((والرحمان علىالعرش استوى)) فالاستواء هو الاستقرار في المكان وهو الظاهر، والاستيلاء وهو المقصود. ومرشحة يذكر فيها شيء من لوازم المورى به أو المورى عنه نحو ((والسماء بنيناها بأيدٍ)) ولفظ ((أيد)) يعني الجارحة وهو المورى به وقد رشح لـه (البنيان) والقوة وهو المعنى البعيد المقصود1 )) .

4 ـ الاستخدام

وهو قريب من التورية، وهو والتورية أشرف أنواع البديع، وقد فضله بعضهم عليها.

ولهم فيه عبارتان. إحداهما أن يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مراداً به أحد

ــــــــــــــــ

( 1 ) وقد شرحوا بالتورية قوله ((وما أرسلناك إلا كافة للناس)) فلفظ ((كافة)) قد تعني جميعاً وهو ظاهر القول، وقد تكون صفة مبالغة للفظ ((كافّ)) أي مَن يكفّ عن، والهاء للمبالغة، ودليل ذلك ورودها قبل الموصوف.

ـ 66 ـ

معانيه ثم يُؤتى بضميره مراداً به المعنى الآخر. قيل ولم يقع في القرآن. ومثّل لـه السيوطي ((ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ... ثم جعلناه نطفة في قرارٍ مكين)) فالمقصود بالاسم آدم وبالضمير ولده.

والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ثم بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ومن الآخر نحو ((لكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ...)) فالكتاب يحتمل الأمر المحتوم والكتاب المكتوب، فلفظ ((أجل)) يخدم الأول، ((ويمحو)) يخدم الثاني. ونحو ((لاتقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون إلاَّ عابري سبيل)) فالصلاة تعنى فعلها ومكانها، وقوله ((حتى تعلموا ما تقولون)) يخدم الأول، وقوله ((إلا عابري سبيل)) يخدم الثاني.

5 ـ الالتفات

هو نقل الكلام من أسلوب إلى آخر أعني من التكمل أو الخطاب أو الغيبة إلى آخر. وهو وعلى أنواع: الانتقال من التكلم إلى الخطاب نحو ((وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة)) ؛ والانتقال من التكلم إلى الغيْبة نحو ((إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله)) ونحو ((إنا أعطيناك الكوثر فصلّ لربك وانحر)) ؛ والانتقال من الخطاب إلى التكلم: (لم يقع في القرآن)؛ ومن الخطاب إلى الغيبة نحو ((حتى إذا كنتم بالفلك وجرين بهم)) والأصل بكم وعدل للشمول. ومن الغيبة إلى التكلم مثل آية الإسراء حيث يكثر فيها. ومن الغيبة إلى الخطاب نحو ((وقالوا اتخذ الرحمن ولداً: لقد جئتم شيئاً إِذاً )) ، ومثال ذلك سورة الفاتحة ((الحمد لله ... إياك نعبد؛ صراط الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم)) ، ((وذكر التنوخي وابن الأثير نوعاً غريباً من الالتفات وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله كقوله ((غير المغضوب عليهم)) بعد ((أنعمتَ عليهم)) فإن المعنى غير الذين غضبت عليهم1 )) . وقال ابن أبي الاصبع ((جاء في القرآن من الالتفات قسم غريب جداً لم أظفر في الشعر بمثله وهو أن يُقدِّم

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 86:2 التنبيه الثالث .

ـ 67 ـ

المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما وينصرف عن الإخبار عنه إلى الإخبارعن الثاني ثم يعد إلى الإخبارعن الأول كقوله (أن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد) فالضمير الأول يعود إلى الرب والثاني إلى الإنسان1 )) .

والقاعدة في الالتفات أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائداً في نفس الأمر إلى المنتقل عنه، وحاد عن القاعدة أسلوبه في ((نقل الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع لخطاب الآخر، وهو ستة أقسام: مثاله من الواحد إلى الإثنين ((قالوا أجئتنا لتفلتنا عما وجدنا عليه آباءَنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض)) ؛ ومن الواحد إلى الجمع ((يا أيها النبي إذا طلقتم النساء)) ؛ ومثاله من الاثنين إلى الواحد ((فمن ربكما يا موسى؟ فلا يخرجنكما مـن الجنة فتشقى!)) ؛ ومن الاثنين إلى الجمع ((وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تَبَوَّءا لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة)) ؛ ومثاله من الجمع إلى الواحد ((أقيموا الصلوة وبشّر المؤمنين)) ومن الجمع إلى الاثنين ((يا معشر الإنس والجن إن استطعتم ... تكذبان2 )) .

وشرط الالتفات أن يكون في جملتين منسجمتين لفظاً ومعنى وألا يلزم عليه أن يكون نوعاً غريباً. وجاءَ في القرآن ((الانتقال من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر. مثاله من الماضي إلى المضارع ((أرسل الرياح فتثيرُ. إن الذين كفروا ويصدون عـن سبيل الله))؛ ومن الماضي إلى الأمر ((مثل أمر ربي بالقسط، وأقيموا وجوهكم)) ؛ ومن المضارع إلى الماضي ((ويوم يُنفخ في الصور، فصعقَ)) . ((ويوم نسير الجبال وترى الأرض، وحشرناهم))؛ ومن المضارع إلى الأمر ((إني أشهدُ الله، واشهدوا أني بريء)) ؛ ومن الأمر إلى الماضي ((واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وعهدْنا)) ؛ ومن الأمر إلى المضارع ((وأن أقيموا الصلوة، واتقوه، وهو الذي إليه تحشرون3 )) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 86:2 التنبيه الرابع .

( 2 ) الإتقان 87:2 التنبيه الأول والخامس .

( 3 ) الإتقان 87:2 التنبيه الثاني والسادس .

ـ 68 ـ

والأصل في الالتفات أن يكون في الخطاب، لا في الضمائر ولا في صيغ الأفعال حيث ينقطع الانسجام.

6 ـ الانسجام

وهو أن يأتي الكلام بلا تعقيد، منحدراً كتحدّر الماء المنسجم، يكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة. قال ابن أبي الاصبع ((وأكثر آي القرآن من شواهد هذا الباب)).

وإذا قوي الانسجام جاءَ الكلام موزونا بغير قصد، وقد يجيء على أوزان الشعر كقوله من الطويل ((فمن شاءَ فليؤمنْ ومن شاء فليكفرْ )) ومن البسيط ((فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم)) ومن الوافر ((ويخزِهم وينصركمْ عليهم)) أو ((ويشفِ صدور قوم مؤمنينَ)) ومن الكامل ((والله يهدي من يشاءُ إلى صراط مستقيم)) ومن الرمل ((وجفانٍ كالجوابي وقدور راسيات)) ومن الخفيف ((لا يكادون يفقهون حديثاً)) .

والانسجام على ضربين ضرب يأتي مع البديع الذي لم يقصد، وضرب لا بديع فيه.

7 ـ الاضطراد

هو التسلسل التاريخي أو المنطقي فـي الترتيب، مثل أن يذكر المتكلم أسماء آباء الممدوح مرتبة على حكم ترتيبها في الولادة ومنه قول يوسف ((واتبعت ملة آبائي:ابراهيم وإسحاق ويعقوب)) (يوسف 38).

8 ـ الإدماج

هو أن يدمج المتكلم غرضاً في غرض أو بديعا في بديع. بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أو أحد البديعين كقوله ((وله الحمد في الأولى وفي الآخرة)) أدمجت المبالغة في المطابقة.

ـ 69 ـ

9 ـ الافتنان

هو الإتيان في الكلام بفنين متضادين كالغزل والحماسة أو كالمدح والذم كما في قوله: ((وإن منكم إلا واردها... ثم ننجّي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً)) (مريم 72)؛ أو مختلفين كالجمع بين الفخر والتعزية كما في قوله: ((كل من عليها فانٍ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام)) (رحمان 26)؛ أو متفقين كالهناء والعزاء.

10 ـ الاقتدار

هو أن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور اقتدار منه على نظم الكلام وصياغة قوالب المعاني والأغراض. فتارة يأتي به في لفظ الاستعارة، وتارة في صورة الأرداف وحينا في مخرج الإيجاز ومرة في قالب الحقيقة.

((وعلى هذا أتت جميع قصص القرآن فإنك ترى القصة الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صور مختلفة)) .

11 ـ الائتلاف

وهو نوعان: اللفظي وهو ائتلاف اللفظ مع اللفظ في الفخامة أو الجزالة أو الغرابة كقوله: ((تالله تفتأُ تذكر يوسف حتى تكون حَرَضاً)) فجاءَ بأغرب قَسَمٍ وبأغرب صيغ الأفعال وبأغرب ألفاظ الهلاك وهو الحرض.

والمعنوي وهو ائتلاف اللفظ مع المعنى كقوله ((ولاتركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار)) فالركون اقتضى أقل العذاب المس؛ وقوله ((لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)) فالاكتساب يُشعر بالكلفة؛ وقوله ((كبكبوا فيها)) فهو أبلغ من كبّوا أشارة للكب العنيف؛ وقوله ((أَخْذَ عزيز مقتدر)) فهو أبلغ من قادر للتمكن في القدرة.

12 ـ الاستدراك

هو كلام يأتي بعد كلام ويتضمن إيضاح ما عليه ظاهر الكلام من الأشكال.

ـ 70 ـ

وشرط كونه من البديع أن يتضمن ضربا من المحاسن زائداً على ما يدل عليه المعنى اللغوي. وأداته (لكن). وهو نوعان نوع يتقدمه تقرير نحو ((إذ يريكهم الله في منامك قليلاً ... ولكن الله سلّم)) (أنفال 43) ونوع يتقدمه نفي ((فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت، إذا رميت، ولكن الله رمى)) . وأجمل الاستدراكات في قصة بدر (أنفال 42).

13 ـ الاستثناء

مثل الاستدراك فـي تحديده وصناعته. وأداته (الاَّ). ويتضمن معنى زائداً على الاستدراك. كقوله ((فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس)) وقد رشح للاستثناء بالتعريف والتوكيد المزدوج. لتظهر شناعة عمل إبليس الذي انفرد بالعصيان. ونوع منه الاستثناء بعد التهويل نحو ((فلبث (نوح) فيهم ألف سنة إلا خمسين)) (عنكبوت14).

14 ـ الاقتصاص

هو كلام في سورة مقتص من كلام في سورة أخرى في تلك السورة ذاتها نحو ((وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين)) جواباُ على قوله ((ومن يأته مؤمنا فأولئك لهم الدرجات العلى)) . ومنها ((يوم يقوم الإشهاد)) مقتص من أربع آيات فيها الإشهاد والملائكة والأنبياء وأعضاء الإنسان، وأمة محمد شهداء على الناس.

15 ـ الإبدال أو ( العكس والتبديل)

هو نوعان لفظي ومعنوي.

قال السيوطي عن الإبدال اللفظي: ((هو إقامة بعض الحروف مقام بعض)) نحو ((فانفلق)) أي فانفرق، فاللام والراء متعاقبان. وعن الخليل في قوله ((فجاسوا خلال الديار)) أنه أريد ((فحاسوا)) فجاءت الجيم مقام الحاء وقُرأ بالحاء أيضاً.

ومنه القلب أو الطرد والعكس وهو أن تقرأ الكلمة والجملة من آخرها إلى

ـ 71 ـ

أولها كما من أولها إلى أخرها نحو ((كل في فلك)) ونحو ((وربك فكبّر)) ولا ثالث لهما في القرآن.

وقال ابن أبي الاصبع عن التبديل المعنوي: ((هو أن يُؤتى بكلام آخره عكس أوله كقوله: ((ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيء)) وهذا النوع هو العكس.

وقد يصل التبديل المعنوي إلى عكس المعاني كقوله: ((ومن يعمل من الصالحات، من ذكر أو أنثى، وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة)) ثم قال ((ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، وهومحسن)) (النساء 124 و 125). قال ابن أبي الاصبع ((فإن نظم الآية الأخيرة عكس نظم الآية الأولى لتقديم العمل في الأولى عن الإيمان، وتأخره في الثانية عن الإسلام: وهذا تبديل اللفظ في الوضع المستلزم تبديل المعنى1 )) .

16 ـ المدح في معرض الذم

وقد يسمى أيضاً التوجيه. وهو كلام ظاهره الذم ومعناه المدح بسبب صيغة الاستثناء فيه كقوله: ((قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله)) (مائدة 59) ومنه وما ((نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله)) ومنه ((الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله)) ومنه ((لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً، إلا قيلا: سلاماً! سلاماً!)) .

17 ـ التفويت

هو إتيان المتكلم بمعان شتى من الفنون من مدح ووصف وغيرها، كل فن في جملة منفصلة عن أختها مع تساوي الجمل في الزِنة، كقوله ((الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يُحيين)) . وقد ورد في الجمل الطويلة والمتوسطة من القرآن ولم يرد في القصيرة.

ــــــــــــــــ

( 1 ) بديع القرآن 111 .

ـ 72 ـ

18 ـ التلفيف

هو إخراج الكلام مخرج التعليم لحكم أو أدب لم يرد المتكلم ذكره وإنما قصد ذكر حكم خاص داخل في عموم الحكم المذكور الذي صرّح بتعليمه. تساءَلوا: أليس محمد أبا زيد بالتبني فقال: ((ما كان محمد أبا أحد من رجالكم)) (أحزاب 40).

19 ـ التدبيج

هو أن يذكر المتكلم ألواناً من الكلام يقصد الكناية بها والتورية بذكرها عن أشياء من وصف أو مدح وسواهما، أو لبيان فائدة الوصف بها كقوله ((ومن الجبال جُدَدٌ بيض وحمر، مختلف ألوانها، وغرابيب سود)) (فاطر 27) فالمراد بذلك الكناية عن المشتبه والواضح من الطرف، وكنى بقوله ((مختلف ألوانها)) عمَّا بينهما. ووارى بها عن مسالك الحياة.

20 ـ التنكيت

هو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكـر دون غيره فيما يسدّ مسده لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه من ذلك قوله ((وأنه هو رب الشّعْرَى)) (النجم 49) خص الشعرى بالذكر دون سائر النجوم لأن ابن أبي كبشة دعا العرب إلى عبادتها، فالله ربها مثل غيرها.

أما قوله ((تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم؛ ومن يعصي الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله ناراً خالدة فيها وله عذاب مهين)) (نساء 13 - 14) جمع في النعيم وأفرد في الجحيم لنكتة: مساكن الخلود متعددة، ومسكن أهل الخلود في النار واحد. ـ (وعدل الله يقضي أن يكون النعيم درجات، والجحيم دركات أيضاً).

21 ـ التجريد

هو أن يُنتزع من أمرٍ (صفة أو موصوف) ذي صفة، آخرُ مثله، مبالغةً في كمالها فيه، كقوله ((لهم فيها دار الخلد)) فكأنه جرَّد من الجنة دار الخلد،

ـ 73 ـ

وهي الجنة؛ وكقوله ((يرثني وارث من آل يعقوب)) عنى به ابنه الوارث نفسه فكأنه جرد منه وارثاً.

22 ـ الترتيب

هو إيراد أوصاف الموصوف على ترتيبها في الخلقة الطبيعية فلا يدخل فيها وصف زائد مثل قوله: ((هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلاً ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً)) .

23 ـ التعديد

هو إيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد، ويأتي في الصفات نحو ((هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر1 )) .

24 ـ حسن التضمين

على أنواع. منها الاقتباس وهو إدراج كلام الغير في أثناء الخطاب لتأكيد المعنى، وهذا هو النوع البديعي من التضمين نحو ((وكتبنا عليهم فيها: إن النفس بالنفس)) (مائدة 45).

ومنه التضمين في النسق، تعلق ما بعد الفاصلة بالآية السابقة وقد مرَّ. ومنه حكاية حال المخلوقين كقوله عن الملائكة ((أتجعل فيها من يفسد فيها)) . قالوا وكذلك ما أودع فيه من اللغات الأعجمية. وهذه الثلاثة ليست من البديع.

25 ـ الجمع وهو على أنواع

الجمع بين شيئين أو أشياء متعددة في حكم نحو ((المال والبنون زينة الحياة الدنيا)) ونحو ((الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان)) .

الجمع والتفريق وهو أن تدخل شيئين في معنى، وتفرّق بين جهتي الإدخال كقوله ((الله يتوفى الأنفس ـ الآية)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) قد تكون هذه الصفات أسماء آلهة فجمعها أوصافاً لله الذي لا إله إلا هو، كما فعل في البسملة.

ـ 74 ـ

الجمع والتقسيم وهو جمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه نحو ((ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)) .

الجمع مع التفريق والتقسيم كقوله ((يوم يأتي لا تكلّم نفس إلا بإِذنه ...)) نفس، في حال نكرة تعني التعدد فالجمع، والتفريق في قوله ((فمنهم شقي وسعيد)) ، والتقسيم ((فأما الذين شقوا وأما الذين سعدوا)) .

26 ـ المؤتلف والمختلف

هو إيراد التسوية في الوصف ثم ترجيح أحدهما بزيادة فضل لا يُنقص من وصف الآخر نحو ((و داوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث، إذ تفشت فيه غنم القوم، وكنا لحكمهم شاهدين. ففهمناها سليمان. وكلاً أتينا حكماً وعلماً)) (أنبياء 78 و 79) ساواهما في الحكم، وفضل سليمان بالفهم، وعاد فساواهما.

27 ـ حسن النسق

هو أن يأتي المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات متلاحمات تلاحما سليماً مستحسناً بحيث إذا أفـردت كل جملة قـامت بنفسها واسـتقلت بلفظها، وكمال الحسن مع الانفراد والافتراق، كقوله: ((يا أرض ابلعي ماءَك، وياسماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجوديّ، وقيل: بعداً للقوم الظالمين)) (هود 44).

28 ـ عتاب المرء نفسه

هو كلام يرد أثناء الخطاب لاستحضار الحال نحو ((ويوم يعض الظالم على يديه يقول: ياليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلاً)) (الفرقان 27 - 29).

29 ـ العنوان

وهو وصف الشيء دون ذكر اسمه، فيقوم الوصف أو القصة مقام العنوان نحو ((واتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين)) (أعراف 175).

ـ 75 ـ

ومنه ((عنوان العلوم)) بأن يصف علماً دون ذكر اسمه مثل (نور 43 ، مرسلات 30).

30 ـ الفرائد

الفريدة هي من العقد الجوهرة التي لا نظير لها. وهو الإتيان بكلمة لا يصلح لها سواها في الفصاحة نحو ((حصحص الحق ... فلما استيأسوا خلصوا نجيّا)) (يوسف 51 و 80) وهذا كثير في القرآن.

31 ـ القسم

القسم في البديع هو الحلف بما يكون فيه فخر للمتكلم، أو وتعظيم لشأنه أو تنويه بقدره أو ذم لغيره أو الحلف الذي يخرج مخرج الموعظة؛ نحو قوله ((فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنّكم تنطقون)) (ذاريات 23).

32 ـ اللف والنشر

وهو نوعان: إجمالي بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد ثم يذكر أشياء على عدد ذلك كل واحد يرجع إلى صاحبه المتقدم نحو ((وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)) لفَّ وأجمل في الفعل، وفصّل ونشر في الفاعل. وتفصيلي وهو أن يذكر شيئاً أو أشياء ما، تفصيلاً بالنص على كل واحد؛ وهو قسمان أحدهما أن يكون على ترتيب اللف نحو ((جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا مـن فضله)) فالسكون لليل والابتغاء للنهار، وثانيهما على عكس ترتيبه كقوله ((يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودّت وجوههم ...)).

33 ـ المشاكلة

هو ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعـه في صحبته تحقيقاً أو تقديراً. مثال التحقيقي ((ومكروا ومكر الله بهم والله خير الماكرين)) أو ((جزاء سيئة سيئة مثلها)). والتقديري نحو ((صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة)) جاء بالصبغة بدل التطهير بالإيمان مشاكلة مع صبغة النصارى بالعماد.

ـ 76 ـ

34 ـ المبالغة أو الإفراط في الصفة

وهي أن يذكر المتكلم وصفاً فيزيد فيه حتى يكون المعنى الذي قصده أبلغ وهي نوعان: معنوية بالوصف ذاته نحو ((يكاد زيتها يضيء لو لم تمسه)) أو ((لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سُمِ الخياط)) ولفظية بالصيغة أي بإحدى صيغ المبالغة وهي فعلان كالرحمان، فعيل كالرحيم، فعال كالثواب، وفعول كغفور أو ودود، وفعِل كأشِر أو حذِر، وفُعَال كعجاب، وفِعَل مثل كِبَر، وفعلى كالعليا والحسنى والشورى والسوأى.

ورد أشكال على المبالغة القرآنية في صفات الله التي على صيغ المبالغة: وُضعت للمبالغة ولا مبالغة في صفات الله. والمبالغة التي تثبت للشيء مما لـه وصفاته تعالى متناهية في الكمال والمبالغة تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان وصفات الله منزهة عن ذلك. فما معنى قوله: ((والله على كل شيء قدير)) وقدير من صيغ المبالغة فيستلزم الزيادة على معنى قادر وهو مستحيل في الله.

وورد أشكال على صفات البسملة ((باسم الله الرحمان الرحيم)) : أي صفة أبلغ؟

قال السيهلي ((الرحمان)) أبلغ لأنه ورد على صيغة التثنية؛ وقال ابن الانباري ((الرحيم)) أبلغ لأنه ورد بصيغة الجمع. وذهب قطرب إلى أنهما سواء. ولكن الأصل أن زيادة البناء تقتضي زيادة المعنى لذلك قيل ((الرحمان أبلغ من الرحيم))؛ وقيل أيضاً ((الرحمان أبلغ من الرحيم فإنه يشعر باللطف والرفق كما أن الرحمان يشعر بالفخامة والعظمة1)) وينتج من هذا إشكال آخر في البسملة: إذا كان الرحمان أبلغ فكيف ورد قبل الرحيم والأصل التدرج من البليغ إلى الأبلغ؟ ـ (لا جواب في أصول اللغة، بل الجواب في التاريخ: وجد الصفات ألقاباً إلهية في الوثنية، فجعلها صفات للتوحيد كما وردت).

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 88:2 و 94 .

ـ 77 ـ

35 ـ الطباق أو المطابقة

وهو الجمع بين متضادين في الجملة، نحو قوله ((هو أضحك وأبكى. أمات وأحيا)).

وهو قسمان: لفظي أي ما كان منه بألفاظ الحقيقة وهو الطباق. وما كان بألفاظ المجاز فهو ((التكافؤ)) نحو ((أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى)) ، فإن اشتراء الضلالة وبيع الهدى، مجاز.

ومتى زاد الجمع على ضدين سميت ((المقابلة)) لا تكون إلا من الأربعة إلى العشرة، وتأتي بالأضداد وبغيرها. وقد مر في البيان.

36 ـ التشبيه

هو إخراج الأغمض إلى الأظهر بالتشبيه مع حسن التأليف وقد يأتي بأداة وبغير أداة. ووقوع حسن البيان فيه على وجوه: منها إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه نحو ((والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءَه لم يجده شيئاً)) (نور 39). ومنها إخراج ما لم تجرِ به العادة إلى ما جرت به نحو ((وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظِلة)) (أعراف 171). ومنها إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم إخراج التشبيه مخرج الإنكار نحو ((أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر)) (توبة 19).

37 ـ الكناية

هي التعبير عن المعنى القبيح باللفظ الحسن، وعن النجس بالطاهر، وعن الفاحش بالعفيف كقوله ((كانا يأكلان الطعام)) (مائدة 75) كناية عن الحدث لأنـه ملازم أكل الطعام؛ ونحو ((أو جاءَ أحدكم من الغائط)) وهو المنخفض من الأرض الذي يقصد لقضاء الحاجة.

وقد يأتي للتعبير عـن الصعب بالسهل، أو للتعمية والألغاز، أو للسترة والصيانة نحو ((وقد أفضى بعضكم إلى بعض)) (نساء 21) كناية عن المباضعة والجماع.

ـ 78 ـ

38 ـ الإبداع

أن يشتمل الكلام على عدة أنواع من البديع. فالآية ((يا أرض ابلعي ماءَك ...)) سبع عشرة لفظة فيها عشرون نوعاً.

39 ـ المواربة

هو الاتيان بكلمة تتضمن عدة وجوه بحسب تحريفها وتصحيفها أو زيادة أو نقص عليها، كقول أكبر أولاد يعقوب عن يوسف ((إن ابنك سرق)) : سَرَقَ سُرِق؟

40 ـ المراجعة

هي مراجعة محاورة بأوجز عبارة، مثل حديث الله مع إبراهيم: ((إني جاعلك للناس إمامـاً! قال ومن ذريتي؟ قال لا ينالُ عهدي الظالمين)) فيها من الخبر والاستخبار، والأمر والنهي، والوعد والوعيد ...

41 ـ التصدير أو رد الأعجاز على الصدور

رد الأعجاز على الصدور، وهو عبارة عن كلام بين صدره وعجزه رابطة لفظية غالباً، أو معنوية نادراً بحصل بها الملاءمة بين قسمي الكلام نحو و ((وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)) (آل عمران 8).

42 ـ التسهيم

يقرب من التصدير. وهو أن يكون ما تقدم من الكلام دليلاً لفظياً مع ما يتأخر منه أو بالعكس نحو ((أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنت تزرعونه أم نحن الزارعون؟ لو نشاء لجعلناه حطاماً فَظللتم تَفكهون)) (واقعة 63).

43 ـ المذهب الكلامي

وهو احتجاج المتكلم بحجة تقطع المعاند له فيه نحو ((لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)) (أنبياء 22) ومنه نوع منطقي تستنتج فيه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة مثل مطللع سورة الحج 1 – 7 .

ـ 79 ـ

44 ـ التتميم

الاتيان في الكلام بكلمة إذا طرحت منه نقص معناه في ذاته أو صفاته، أو بقي لفظه تاماً نحو ((مَن عمل صالحاً، من ذكر أو أنثى (تتميم أول) وهو مؤمن (تتميم ثان) فلنحيينّهُ حياة طيبة)) (نحل 37).

45 ـ التكميل

التميم في معاني البديع. والتكميل في فنون الكلام. وهو إضافة صفة على أخرى لايضاحها نحو ((فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)) (مائدة 54) فالعجز دليل الصدر.

46 ـ الاستطراد

هو الخروج من معنى إلى معنى. قال ابن أبي الاصبع: لم أظفر منه في القرآن إلا في موضع واحد وهو: ((ألا بعداً لمدين! كما بَعدَت ثمود!)) (هود 95) ـ (ونحن نقول بأنه كثير في القرآن حيث ينتقل من قصة إلى قصة ومن موضوع إلى آخر ثم يعود إلى كلامه الأول، كما سترى ذلك.)

47 ـ تجاهل العارف

هو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذم. وهو موجب ومنفي. مثال ذلك ((أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله)) (مائدة 116)؛ ((ما هذا بشراً إن هذا ألا ملك كريم)) (يوسف 31).

48 ـ براعة الاستهلال

أو حسن المطلع أو حسن الافتتاح: المراد بها ابتداءات السور وفيه جميعها من البلاغة، والتفنن في أنواع الإشارة ما تقصر عنه العبارة.

49 ـ حسن البيان

هو إخراج المعنى في أحسن الصور وبأقرب الطرق، سواء فيه الإيجاز (وفيه قيل: خير القول ما قلّ ودلّ) والإطناب بحسب ما تقتضيه الحال كقوله: ((وقال من يحيي العظام وهي رميم! قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)) (يس 78).

ـ 80 ـ

50 ـ الإيضاح

يقرب من حسن البيان ويختلف بأن الإيضاح يرد على ما فيه أشكال، وقد يكون بالعبارة النازلة أو الفاضلة، وحسن البيان لا يكون إلا بالعبارة الفاضلة. كقوله ((كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ـ وأُوتوا به متشابهاً)) (بقرة 25).

ومنه قوله ((وان يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرفون)) (آل عمران 111). قال ابن أبي الاصبع ((فإن على ظاهر هذه الآية إشكالين، من جهة الإعراب عطف ما ليس بمجزوم، على المجزوم ومن جهة المعنى صدرُ الآية يغني عن فاصلتها لأن الفرار دليل الخذلان وعدم النصر)) ـ عدل إلى المضارع لإثبات النصر الدائم للمؤمنين.

51 ـ صحة الأقسام

عبارة عن استيفاء المتكلم جميع أقسام المعنى لا يغادر منه شيئاً نحو ((هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً)) (رعد 12) ونحو ((فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ـ وله الحمد في السماوات والأرض ـ وعشيَّا وحين تظهرون)) (روم 17 - 18) ـ لاحظ قطعة الحمد المكاني للحمد الزماني.

52 ـ صحة المقابلات

عبارة عن ترتيب الكلام بحيث يرد في عجزه ما يقابل ما في صدره من المخالف والموافق على الترتيب نحو ((ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله)) (قصص 73) فالسكون لليل وابتغاء الفضل حركة النهار للخير.

53 ـ صحة التفسير

عبارة عن تبيان ما جاء في أول الكلام من مجمل يحتاج إلى تفصيل أو موجه يفتقر إلى توجيه أو محتمل يحتاج إلى ترجيح نحو ((ثم أورثنا الكتاب الذين

ـ 81 ـ

اصطفينا من عبادنا: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات)) (فاطر 32).

54 ـ المساواة

وهي أن يكون اللفظ مساوياً للمعنى لا يزيد عليه ولا ينقص عنه. ومعظم آيات الكتاب موصوفة بذلك إلا ما جاء من باب الإيجاز وباب الإطناب. مثل قوله: ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان ـ وإيتاء ذي القربى. وينهي عن الفحشاء والمنكر والبَغْي. يعظكم لعلكم تذكَّرون)) (نحل 90).

55 ـ الإشارة

هي ائتلاف اللفظ مع المعنى بحيث يكون اللفظ القليل دالاً على المعنى الكثير حتى تكون دلالة اللفظ كالإشارة باليد نحو ((وغيضَ الماء)) (هود 44) إشارة إلى انقطاع المطر منذ زمن.

56 ـ الإرداف

هو التعبير عن المعنى لا بلفظه الموضوع لـه، ولا بلفظ الإشارة الدال على المعاني الكثيرة، بل بلفظ هو ردف المعنى الخاص وتابعه نحو ((وقُضي الأمر)) (هود 44) أي هلك من قضى الله هلاكه ونجا من قضى نجاته بقدرة آمر مطاع.

57 ـ التمثيل

وهو أن يريد المتكلم معنى فلا يعبر عنه بلفظه الخاص ولا بلفظي الإشارة ولا الإرداف بل بلفظ هو أبعد من لفظ الأرداف قليلا يصلح أن يكون مِثْلاً للفظ الخاص نحو ((واستوت على الجوديّ)) (هود 44) والاستواء جلوس متمكن لا اضطراب معه. والإشارة والأرداف والتمثيل أنواع متقاربة.

58 ـ ائتلاف الفاصلة مع الآية (التمكين)

عبارة عن التمهيد في الآية للفاصلة بحيث تأتي في مكانها بحيث لو طرحت من الآية لاختل معناه. والتمكين غير التصدير (يتقدم لفظها بعينه في أول صدر

ـ 82 ـ

الآية) وغير التوشيح (يتقدم معناها في أثناء الصدر) وغير الايغال (يتقدم معنى يدل عليها). وكل مقاطع القرآن لاتخلو من أن تكون أحد هذه الأقسام الأربعة. مثال التمكين: ((قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء: إنك لأنتَ الحكيم الرشيد)) (هود 87).

59 ـ التوشيح

وهو أن يتقدم معنى الفاصلة في صدر الآية نحو ((وآية لهم الليل، نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون)) (يس 37).

60 ـ الايغال

وهو أن يستكمل المتكلم معنى كلامه قبل أن يأتي بمقطعه فتأتي الفاصلة بمعنى زائد يكمله نحو ((ولا تُسمع الصمّ الدعاء ـ إذا ولّوا ـ مدبرين)) (نمل 80).

61 ـ الاحتراس

وهو الاتيان في الآية بكلام يحترز فيه مِمَّا يوجب نحو ((وقيل بُعْداً للقوم الظالمين)) (هود 44) في ختام خبر الهالكين في الطوفان.

62 ـ المواربة

وهي أن يقول المتكلّم قولا يتضمن، ببعض التصحيف، ما ينكر عليه بسببه كقوله: ((ارجعوا إلى أبيكم فقولوا: يا أبانا ان ابنك سَرَق)) (يوسف 81) أو سُرِق أو سُرِّق.

63 ـ الموازنة

وهي مقارنة المعاني بالمعاني ليُعرف الراجح من المرجوح، نحو لا ((يُسْأل عمَّا يفعل وهم يُسألون)) (أنبياء 23).

64 ـ الترديد

وهو إعادة اللفظ بمعنى آخر نحو ((ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ظاهراً من حياة الدنيا)) (روم 6 ـ 7).

ـ 83 ـ

65 ـ التعطّف

وهو كالترديد في إعادة اللفظة بعينها في الآية، والفرق بينهما قرب الكلمتين في الترديد وهما في التعطف مفترقتان، نحو ((قلْ هل تربّصون بنا إلا إحدى الحسينَيْن ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا؛ فتربصوا أنَّا معكم أ

متربصون)) (توبة 52).

66 ـ التفويف

هو تجميع المعاني الشتى بحروف عطف حسب ملائمتها للمعنى، بالواو أو بالفاء أو بثم نحو: ((الذي خلقني فهو يهديينِ، والذي يطعمنى ويسقينِ، وإذا مرضتُ فهو يشفينِ والذي يميتني ثم يحيينِ والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين)) (شعراء 78ـ83).

67 ـ التسميط

هو تقسيم الكلام مقاطع على روي واحد يختلف عن روي الفاصلة نحو ((وربك أعلم بمن في السماوات والأرض، ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض، وآتينا داوود زبوراً)) (إسراء 55).

68 ـ الترشيح

هو الاتيان بلفظ أو معنى يصلح أن يكون فيه معنى آخر مـن تورية أو استعارة أو مطابقة. وكثير من أبواب البديع يدخله الترشيح. نحو قوله ((اذكرني عند ربك (الملك) فأنساه الشيطان ذكر ربه)) (يوسف 42) وكلمة ربه تصلح لمعنى الله أو الملك؛ وفي الكلام تورية.

69 ـ التغاير

هو جعل الفاضل مفضولاً والمفضول فاضلاً كجعل المدح ذماً والذم مدحاً كقوله: ((قال الملأ الذين استَكبَروا من قومه للذين استضْعفوا لمن آمن منهم: أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه؟ قالوا: أنا بما أرسل به مؤمنون. قال الذين استكبروا: إنا بالذي آمنتم به كافرون)) (أعراف 75).

ـ 84 ـ

 

70 ـ المماثلة. وهي لفظية أو معنوية.

هي تماثل ألفاظ الكلام، كلها أو بعضها، في الزِّنَة دون التقفية نحو ((والسماء والطارق، وما أدراك ما الطارق، النجم الثاقب)) (الطارق 1 – 4).

وقيل هي تماثل الألفاظ في المعنى مع اختلاف اللفظ نحو ((إنما أشكو بَثّي وحزني إلى الله)) (يوسف 86).

71 ـ التسجيع

هو تسجيع أقسام الآية في غير الفاصلة نحو ((الرحمان علم القرآن. خلق الإنسان علم البيان. الشمس والقمر بحسبان. والنجم والشجر يسجدان)) (الرحمن 1 ـ 6).

72 ـ التعليل

هو ذكر عِلّةٍ واقع قبل ذكره نحو ((لولا كتاب من الله سبق، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)) (أنفال 68).

73 ـ الطاعة والعصيان

التسمية للمعري. وهي تكميل الكلام بغير لفظه بعد تمام المعنى المراد إذا عصته المساواة إما لضرورة أو لاعتراض ما هو أهم منها، مثل الآية 266 من البقرة ((أيودّ أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار)) .

74 ـ السلب والإيجاب

هو نفي الشيء من جهة وإيجابه من جهة أخرى. أو أمر بشيء من جهة ونهي عنه من غير تلك الجهة. مثال الثاني ((فلا تخشوا الناس واخشونِ)) (مائدة 45). ومثال الأول ((لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون)) (تحريم 6 1 ).

ــــــــــــــــ

( 1 ) ((قيل على ظاهر هذه الآية إشكال من جهة التداخل والتكرار فإن معنى عجزها داخل في معنى صدرها)) .

ـ 85 ـ

75 ـ التوهيم

هو كلام يوهم ظاهره أنه خارج عن قواعد العربية كقوله: ((وان يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون)) (آل عمران 111) فهذه الآية خولف فيها طريق الإعراب في الظاهر من جهة عطف ما ليس بمجزوم على المجزوم؛ ولفظة ثم بدلامن الواو تعني الحال والاستقبال. أو كقوله ((قل تعالوا أتلُ عليكم ما حرَّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً)) (أنعام 151) فظاهر الكلام يدل على تحريم نفي الشرك وملزومه تحليل الشرك، فحمل النفي فيها على ما بعده. ومثله قوله ((وما منعك ألا تسجد إذ أمرتك)) (أعراف 12) فإن الظاهر ما منعك من الامتناع من السجود، والتأويل يختلف فيه.

وهو أيضاً كلام يوهم ظاهره أن الكلام قُلِبَ فيه على وجهه لغير فائدة مثل قوله: ((ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمَع إلا دعاءً ونداءً)) (بقرة 171) ولو جاءَ الكلام على وجهه لقيل: ومثل الذي يدعو الذين كفروا كمثل الذي ينعق: فما الفائدة في قلب هذا الكلام عن وجهه؟ ـ الفائدة أدب الرسول في دعوتهم والتحرز من تشبيههم بالضأن وهي شر مال.

وهو أيضاً كلام يوهم ظاهره أن نظم الكلام جاء على غير طريق البلاغة لكون لفظه غير مؤتلف بمعناه لعدم ملاءَمتهما مثل قوله: ((مثل الفريقين: كالأعمى والأصم، والبصير والسميع، هل يستويان؟)) (هود 24) والأصل: كالأعمى و البصير ، و الأصم و السميع؛ فعدل عن الأصل للاحتراز من جعل الفريقين أربعة. ومثل قولـه: ((إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى ، و أنك لا تظمأ فيها و لا تضحى)) ( طه 118 ) و الأصل : لا تجوع و لا تظمأ ، و لا تضحى و لا تعرى ؛ فعدل للاحتراز من فساد النظم.

76 ـ المناسبة

قد تكون في المعاني أو في الألفاظ. والمناسبة تكون بين الجمل المركّبة، والملاءَمة في مفردات الألفاظ. فالمناسبة المعنوية هي تتميم الكلام بما يناسبه

ـ 86 ـ

معنى دون لفظ مثل قوله: ((لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير)) (أنعام 103) فهو تمثيل للّطف وترشيح للفاصلة. ومثله الآية 71 من القصص، والآية 26 من السجدة، و 25 من الأحزاب، و 37 من المائدة.

وأما المناسبة اللفظية فهي عبارة عن الاتيان بلفظات متزنات مقفَّاتٍ (المناسبة التامة) أو متزنات غير مقفات (ناقصة). مَثَلُ الناقصة قوله: ((قَ والقرآن المجيد، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب)) (ق1 ـ2). مَثَل التامة: ((ن والقلمِ وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وأن لك لأجراً غير ممنون)) (ن 1 ـ 3).

77 ـ التكرار

هو إعادة المفردات أو الجمل للمدح أو للوعيد أو للاستبعاد مثل قوله ((إذا ما اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وآمنوا)) (مائدة 93) وقوله ((الحاقة! ما الحاقة!)) وقوله ((وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين)) (انفطار 17).

78 ـ نفي الشيء بإيجابه

((هو إثبات شيء في ظاهر الكلام مع نفي ما هو من سببه مجازاً، فالمنفي حقيقة في باطن الكلام هو الذي أثبته لا الذي نفاه كقوله: ((ألهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها )) (أعراف 95) لأن العرب متى أرادت المبالغة التامة في شيء قلبت الكلام فيه عن وجهه ليتنبّه السامع.

ومن مشكل هذا الباب قوله: ((ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم؛ ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)) (أنفال 23) فظاهر اللفظ يقتضي أنهم ما تولوا ولا أعرضوا والواقع منهم خلافه.

79 ـ التذييل

هو زيادة على الكلام بعد تمام معناه إما لتوكيد المعنى الأول أو لإخراج الكلام مخرج المثل السائر. والفرق بين التذييل والتكميل أن التكميل يرد على

ـ 87 ـ

المعنى المفتقر بعد التمام إلى تكميل ولا كذلك التذييل، وهذا أيضاً أعمّ. مثال ذلك قوله: ((ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون ـ وعداً عليه حقاً (تذييل توكيد) في التوراة والإنجيل والقرآن: ومَن أوفى بعهده من الله)) (مثل) (توبة 111) ومثله قوله: ((وما جعلنا لبشر مـن قبلك الخلد: أفإن مِتَّ فهم الخالدون؟ (تجاهل العارف) كل نفس ذائقة الموت (مثل) أنبياء 34.

80 ـ التهذيب

هو إعادة النظر في كلام سابق ـ لا للنظر فيه والتنقيح ـ بل للترتيب في النظم إما بالارتقاء من الأدنى إلى الأعلى1 كقوله ((فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة)) (مائدة 89)؛ أو بتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يجب تأخيره بالعدول عن الترتيب إلى حسن الجوار، كقوله: ((لئن بسّطت إلي يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك)) (مائدة 29) عدل في عجز الآية عن ترتيب الصدر لاتقاء التقاء الحروف المتقاربة المخارج: الطاء والتاء والياء.

وقد أشكل عليه قوله ((ومنهم من يستمعون إليك: أفأنت تسمع الصم ـ ولو كانوا لا يعقلون. ومنهم من ينظر إليك: أفأنت تهدي العمي ـ ولو كانوا لايبصرون)) (يونس 41 – 4): فما فائدة الفاصلتين وقد أغنى عنهما ما قبلهما؟ فيُقال: في الكلام تقديم وتأخير. (ويُرَدٌّ على ذلك: فما الداعي إلى التقديم والتأخير الذي هو أحد أسباب التعقيد؟ قلتُ مماثلة الفواصل.)

81 ـ براعة التخلّص

هي معرفة الوصل من الفصل بين الآيات والمقاطع التي تجدها منافرة في الظاهر لما قبلها. من ذلك مطلع سورة الإسراء حيث يذكر إسراء محمد إلى

ــــــــــــــــ

( 1 ) أشكل عليه قوله: ((عالم الغيب والشهادة)) (رعد) فعلم الغيب أبلغ من علم الشهادة ـ تقول هذا في المخلوق لا في الخالق. ويُردّ على قولنا: هل على الله أو عند الله من غيب عليه؟ فالوصف متشابه من جهة الخالق، ومتشابه من جهة المخلوق بالنسبة للخالق.

ـ 88 ـ

المسجد الأقصى في بيت المقدس. ويتبعه بذكر موسى (إسراء 1 – 3). فقد وَطّأ بذكر إسراء محمد إلى إسراء موسى وقصته. كما وَطّأ لقصة يوسف بقوله ((نحن نقص عليك أحسن القصص)) . وكما وطَّأ بذكر الآباء إلى ذكر آل عمران ليخلص إلى خبر المسيح (آل عمران 33).

82 ـ التعليق

هو تعليق معنى على معنى آخر تعليقاً متلاحماً إما في المعنى، وإما في اللفظ والمعنى معاً، بحيث يتعذر فصلهما. وهذا ما يميزه عـن التكميل حيث الوصفان مفترقان في اللفظ والمعنى. مثال التعليق المعنوي قوله: ((فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلّة على المؤمنين، أعزّة على الكافرين)) (مائدة 54) فيه تعلق التواضع بالشجاعة. ومثال التعليق اللفظي قوله: ((يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا، وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزَّىً: لو كانـوا عندنـا ما ماتوا وما قتلوا)) (آل عمران 156) علق وصفهم بالكفر بوصفهم بالجبن.

83 ـ الاتساع

هو الاتيان بكلام يتسع فيه التأويل على مقدار العقول بحسب ما تحتمله الألفاظ. من ذلك فواتح السور، فقد اتسعوا في تأويلها إلى أقوال عديدة1 .

ومثاله في غير الفواتح قوله: ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع! فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)) (نساء 3). وظاهر هذه الآية يتوجه عليه إشكالات: منها لِمَ عدل عن العدد الصحيح إلى المعدول؟ ولِمَ عُطفت جملها بالواو والمقتضية للجمع حتى التبس الأمر فيها فجاء ظاهرها يدل على إباحة الجمع بين تسع نسوة؟ ولِمَ نزل عن الأربع لمن يخاف ألا يعدل إلى الواحدة؟ ـ الجواب عن الأول أن ذلك للإيجاز، وعن الثاني أن الخطاب للجميع فجاء بواو الجمع (؟) وعن الثالث للاختصار.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 112:2 .

ـ 89 ـ

84 ـ الإيجاز

الايجاز والإطناب هما شُقّا البلاغة. وقد مر ذكرهما في أبواب البيان.

والإيجاز هو اختصار بعض الألفاظ ليأتي الكلام وجيزاً من غير حذف لبعض الاسم أو لبعض الجملة بالعدول عن لفظ المعنى1. ويختلف عن المساواة التي لا تكون إلا في المعنى المفرد، والإيجاز يكون في ذكر القصص والاخبار متضمنة معاني شتى. ثم المساواة تكون مع الإطناب كما تكون مع الإيجاز. مثال ذلك قوله ((إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي: يعظكم لعلكم تذكّرون)) (نحل 90) فقد أمر بكل معروف ونهى عن كل منكر.

وهو على أضرب: منها حذف المفعولات، ومنها حذف المبتدأ ـ وعليه قال ابن أبي الاصبع ((والمشكل العظيم في هذا الباب قراءَة من قرأ: وقالت اليهود عزيزُ بنُ الله (توبة 30) بإسقاط التنوين صورة ومعنى، وقد يضمرون المبتدأ إشارة وتارة يضمرون الخبر. فإذا أخبرت عن مبتدأ موصوف بخير فالتكذيب إنما ينصرف إلى الخبر ... ومن المشكلات أيضاً قوله: ((ولا تقولوا: ثلاثة، انتهوا، خيراً لكم)) ذهبوا في رفع ((ثلاثة)) إلى أنها خبرُ مبتدأ محذوف، وهو أيضاً باطل لانصراف التكذيب إلى الخبر)) .

85 ـ سلامة الاختراع من الاتباع

هو استنباط معنى لم يُسبق إليه ولم يتبع فيه نحو (( إنّ الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا لـه؛ وإنْ يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه: ضعف الطالب والمطلوب)) (حج 73) ولم يسمع مثل هذا التمثيل قبل القرآن.

ــــــــــــــــ

( 1 ) قيل: خير القول ما قلَّ ودلَّ!

ـ 90 ـ

86 ـ حسن الاتباع

القرآن متَّبع لكنه مائل أسلوبهم بإسناد أفعال من يعقل إلى ما لا يعقل، كما في قوله:((يوم نقول لجهنم: هل امتلأتِ؟ وتقول: هل من مزيد)) (ق30) ((تكاذ تميّز من الغيظ)) (الملاك 8 فرقان 12). وكما في قوله: ((فوجدوا فيها جداراً يريد أن ينقض)) (كهف 78).

87 ـ التوليد

تزويج ضرب من البديع لضرب آخر فيه فيتولد بينهما ضرب ثالث غيرهما. وهو توليد الفنون من البديع كقوله: ((قل ربِّ احكم بالحق)) (نوح 26) أي بالعدل. اشكل على ظاهرها زيادة ((بالحق)) لأنه تعلى لا يحكم إلا باحق، فلِمَ عدل عن الأوجز الموفي بالمعنى المراد مع سلامة الظاهر من الأشكال إلى الأطول الموجب للأشكال؟ ـ الجواب أنه ارداف لقوله: ((قل رب اهلك الظالمين)) فعلم كيف يدعو على من خالفه دعاءً غير منفر عنه. فإن فنّي الأدب والهجاء امتزجا بمعنى الارداف والتتميم.

88 ـ النوادر

هو باب الاغراب في التشبيه والطُرْفة فيه، في ظاهر لفظه أو في معناه أو في تأويله. ومنه قوله ((حبطتْ أعمالهم فأصبحوا خاسرين)) (مائدة 53). قالوا: أصبحوا، حشو. والجواب أنه لا يتم المعنى إلا بها لأن صباح يوم القيامة المذكور لا مساء لـه، وهو يعني دوام الخسارة إلى ساعة الحساب صباح القيامة.

89 ـ الالجاء

هو ادخال كلام على السياق يضطر المعترض إلى الاعتراف بصحبه كقوله: ((ولقد نعلم إنما يقولون: إنها يعلمه بشر! ـ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين)) (نحل 103) عجمة المعلم تعني إعجاز قرآن النبي.

ـ 91 ـ

90 ـ لزوم ما لا يلزم (أو الالتزام)

هو التزام حرف أو حرفين قبل الروي، أمثال ذلك: ((والطور وكتاب مسطور)) (طور1) فلا أقسم بالخنّس، الجوارِ الكنّس (تكوير 15) والليل وما وسق والقمرِ إذا اتسق (انشقاق 15) فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر)) (الضحى 9) كذلك إسراء 16 قلم 3 أعراف 201 قيامة 26 أعراف 88.

91 ـ تشابه الأطراف

هو ترديد أطراف الكَلِم في مطالع ما بعده مثل قوله: ((نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة كأنها كوكب درّي)) (النور 35). ـ هذا الباب في الألفاظ وما قبله بالحروف.

92 ـ التوأم أو التشريع

هو الإتيان بفاصلتين إذا اقتصر الكلام على الأولى كان تاماً، وإذا اكتمل إلى الثانية زاد لفظاً ومعنى وقد جاء من هذا الباب معظم سورة الرحمن.

93 ـ التخيير1

هو اختيار الفاصلة المناسـبة من فواصل عدة قابلة للتقفية نحو ((إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين. وفي خلقكم، وما يبثُّ من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار ... آيات لقوم يعقلون)) (جاثية 3 - 5) فاقتضت البلاغة أن تكون كل آية في مكانها.

94 ـ التنظير

وهو أن ينظر الإنسان بين كلامين إما متفقي المعاني، أو مختلفي المعاني ليُظهر الأفضل منهما. وأي كلام أفضل من كلام القرآن لفظاً ومعنى؟

95 ـ التمزيج

وهو أن يمزج المتكلم معاني البديع بفنون الكلام في الآية الواحدة نحو ((قلْ رب احكمْ بالحق)) فقد امتزج فيها فنَّا الأدب والهجاء بمعنى الإرداف والتتميم.

ــــــــــــــــ

( 1 ) من هنا يبدأ ما استنبطه ابن أبي الاصبع ص 233 .

ـ 92 ـ

96 ـ الاستقصاء

هو أن يستقصي المتكلم المعنى بجميع عوارضه ولوازمه بعد أوصافه الذاتية كقوله في وصف جنة ((أيودُّ أحدكم أن تكون لـه جنة: من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، لـه فيها من كل الثمرات، وأصابه الكِبَر، وله ذرية ضعفاء. فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت)) (266) استكمل جميع الأوصاف التي تجعل خسارتها بالغة.

97 ـ البَسْط

وهو ضد الإيجاز، وغير الإطناب. وهو دلالة على المعنى الواحد باللفظ الكثير لاستيعاب أكثر معاني البديع، كقوله في استفظاع الكفر بالخالق الأوحد: ((قل أئنّكم لتكفرون بالذي خلق ... )) (فصلت 9 - 12).

98 ـ الإيضاح

هو إظهار الكلام فيه إشكال، في الحديث الواحد، كقوله:

((كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل ـ وأُتُوا به متشابهاً)) (بقرة 25). ومن الإيضاح نوع آخر لأشكال في كلام آخر، والآيتان متضمنتان معنى واحد قد اختلفت العبارة فيها، كقوله ((ولا تقتلوا أولادكم من املاق نحن نرزقكم وإياهم)) (انعام 151) ((ولا تقتلوا أولادكم، خشية املاق، نرزقكم وإياهم)) (اسراء) قصد بالأولى الفقراء وبالثانية الأغنياء.

وأشكل فيه قوله ((وإنْ يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا يتصرفون)) (آل عمران 111) عطف غير المجزوم على المجزوم، وصدر الآية قد يغني عن الفاصلة ـ فيه إيضاح بأن الخذلان دائم.

وأشكل فيه قوله ((يخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي)) (أنعام 95) حيث عطف اسم الفاعل علىالفعل بخلاف قوله في آل عمران 27 ويونس 31 وروم 19 حيث يأتي بفعلين ـ حسن الجوار في الإنعام اقتضى اسم الفاعل، وفي غيرها اقتضى الفعل.

ـ 93 ـ

وأشكل عليه الآية 61 من سورة النور: ما الفائدة من رفع الحرج عمّن أكل من بيته؟ ولِمَ لم يذكر بيوت الأولاد؟ ما الفائدة في قوله ((أو ما ملكتم مفاتحه)) وهو داخل في ((بيوتكم))؟ وكيف وقعت التسوية بين الصديق والقريب في موآكلة أهله؟ ـ كلها إيضاح.

وأشكل عليه زيادات في الآية 195 من آل عمران ((منكم ـ من ذكر أو أنثى ـ ثواباً من عند الله ـ نُزُلاً)). أتت إيضاحاً لرفع الإشكالات المحتملة.

99 ـ التشكيك

هو وجود لفظة في الآية تشكك المخاطب هل هي حشو أو أصلية لا غنى عنها كقوله: ((يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمّى فاكتبوه)) (بقرة 282) ـ لِمَ زاد ((بدين))؟ إنما هي أصلية لرفع المجاز المحتمل في فعل ((تداينتم)) .

100 ـ الحيدة والانتقال (الاستطراد)

هو أن يجيب المسؤول بجواب لا يصلح أن يكون جواباً عما سُئِل عنه. أو أن ينتقل المستدل إلى استدلال آخر غير الذي كان آخذاً فيه. قابل حوار الخليل مع نمرود (بقرة 258).

101 ـ الشماتة

معناها في لفظها كقوله لفرعون: ((الآن وقد عصيتَ قبلُ وكنت من المفسدين)) (يونس 91) وكقوله: ((وقيل لهم ذوقوا عذاب النار)) (سجدة 20) ((هذا ما كنزتم لأنفسكم: فذوقوا ما كنتم تكنزون)) (توبة 35).

102 ـ التهكم

هو الإتيان بلفظ البشارة في موضع النذارة، والوعد في مكان الوعيد كقوله: ((بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليما)) (نساء 138).

103 ـ التندير

هو غير التهكم، والهزل الذي يراد به الجد. فهو الاتيان بنادرة حلوة، أو

ـ 94 ـ

نكتة مستطرفة، ويقع في الجد والهزل. كوصفه للخوف ((كالذي يغشى عليه ـ من الموت)) (أحزاب 19).

104 ـ الاسجال

هو الكلام الذي يشترط غرضاً ثم يفترض وقوعه، وإن لم يقع بعد، فيطلبه نحو ((ربّنا وآتِنا ما وعدتنا على رسلك)) (آل عمران 191) أو ((ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم)) (غافر 8). فقد طلبوا ما هو مشروط كأنه وقع.

105 ـ الابهام

هو كلام يحتمل معنيين متغايرين لا يتميز أحدهما عن الآخر. والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يقع إلا في لفظة مفردة لها مفهومان لا يعلم أيهما أراد المتكلم؛ والابهام لا يكون إلا في الجمل المؤتلفة المفيدة: منها قوله ((عليها تسعة عشر)) (مدثر 30): قيل ((ما الحكمة في جعل ملائكة العذاب على هذه العدة))؟

106 ـ النزاهة

هي العفة في الذم والهجاء كقوله لمن رفض تحكيم النبي: ((أفي قلوبهم مرض، أم ارتابوا، أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ بل أولئك هم الظالمون)) (نور 48 – 50) وكقوله ((بل هم قوم خصمون)) (زخرف 58).

107 ـ التسليم

وهو أن يفرض المتكلم فرضاً محالاً ثم يسلم بوقوعه تسليماً جدلياً للوصول إلى مطلبه كقوله: (( ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله: إذاً لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض)) (مؤمنون 91).

108 ـ الاثبات في معرض النفي

هو كلام ظاهره نفي صفة على العموم، وباطنه إثباتها على الخصوص كقوله: ((وما رميتَ، ولكن الله رمى)) (أنفال 17).

ـ 95 ـ

109 ـ الزيادة

زيادة حرف على الكلمة تزيدها فصاحة وبلاغة كقوله: ((فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم)) (آل عمران 159) بزيادة ((ما)) ؛ ((لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)) (بقرة 286) زيادة ((تاء)) على الفعل؛ ((لو نشاء لجعلناه حطاماً)) (بزيادة لام التوكيد).

110 ـ القول بالموجب

هو رد كلام المتكلم وعكس معناه، كما ردّد القرآن قول المنافقين ((يقولون: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرِجَنّ الاعزُّ منها الأذل ... لله العزة ولرسوله وللمؤمنين، ولكن المنافقون لا يعلمون)) (منافقون 8).

111 ـ حصر الجزئي وإلحاقه بالكلّي

وهو أن يأتي المتكلم إلى نوع ما فيجعله بالتعظيم لـه جنساً، بعد حصر الأنواع منه والأجناس كقوله: ((وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو. ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في جنبات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين)) (أنعام 59). بهذا التعداد أكد أنه يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات، فلا إشكال.

112 ـ المقارنة

وهو أن يقترن بديعان في كلمة من الكلام، وهو دون الابداع الذي يأتي بأكثر من بديعين. مثاله، ((وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، ألا ساء ما يزرون)) (أنعام 31) فيه تنكيت وتجنيس مزاوجة.

113 ـ الرمز والإيماء

هو غير الألغاز الذي فيه ما يدل على المخفي، وغير الوحي والإشارة الذي ليس فيه ما يدل عليه؛ والرمز وسط بين الاثنين: وهو كلام يخفي معنى فيُرْمَز لـه في ضمنه رمزاً يهدي إليه كقوله ((أم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف))

ـ 96 ـ

(بقرة 243) جاء بألـوف، وهي جمع كثرة، لا بآلف وهي جمع قلة، دلالة على الجماعة المقصودة.

114 ـ المناقضة

هو تعليق الشرط على نقيضين ممكن ومستحيل ومراد المتكلم المستحيل دون الممكن كقوله: ((إنَّا كاشفو العذاب قليلاً: انكم عائدون)) (دخان 15) وصف كشف العذاب بالقلة لعودهم إلى ما يستوجبه كاملاً.

115 ـ الانفصال

هو كلام فيه دَخَلٌ يظهرهُ باقي الكلام ذاته. والفرق بين الانفصال والإيضاح أن الإيضاح يكون أشكاله في بعض الكلام الواحد وإيضاحه في بقيته، والانفصال وأشكاله في موضع واحد من الكلام وربما جاء الدَخَل والانفصال في كلمة واحدة، وغالب مجيئه في جملة واحدة. مثاله: ((وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمَمٌ أمثالكم)) (أنعام 38) فما الفائدة من قوله ((يطير بجناحيه)) إذ المعروف إن كل طائر يطير بجناحيه؟ ـ ليس ذلك حشواً بل انفصال يوضح المعنى المقصود بالطائر.

أشكل قوله ((ولقد نعلم أنهم يقولون: إنما يعلمه بشراً ! ـ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ...)) (نحل 103) فلا يليق أن يكون جواباً صحيحاً في الظاهر لما يُردّ عليه! ـ بلى لأنه لم يتحدَّ العرب بمعرفة الأخبار الماضية والقصص المتقدمة، فإنه يشاركه في ذلك أهل الكتاب، وإنما تحداهم بنظم القرآن لهذه الاخبار.

وأشكل أيضاً قوله: ((ما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم، ولا خمسة ألا وهو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم)) (مجادلة 7) فلِمَ ألغى الاثنين، وأهمل الأربعة ولم يتجاوز الخمسة؟ ولِمَ لم يستغن بقوله ((ولا أدنى من ذلك ولا أكثر)) عن قوله ((ولا خمسة ألا وهو سادسهم)) فعدل عن الأوجز إلى الأطول؟ ـ

ـ 97 ـ

وأشكل أيضاً قوله في خلق يحيى ((الله يفعل ما يشاء)) (آل عمران 40) وفي خلق عيسى ((الله يخلق ما يشاء)) (آل عمران 47) فما الفارق؟ ـ قيل خلقُ عيسى أغرب فجاء بما يؤكد الخلق.

واشكل أيضاً قوله معدداً على عيسى في استجوابه يوم الدين نعمة عليه (مائدة 110 ـ 111) فقدم لكل نعمة بلفظ ((إذ)) ما خلا نعمته عليه بإبراء الأكمه والأبرص؟ تلك كانت مقيدة بزمن فقيدها به وهذه غير مقيدة بزمن فلم يقيدها. ولقائل أن يقول: لِمَ قيّد إخراج الموتى بإذ وهو عمل تعدّد كما يظهر من صيغة الجمع؟؟ ...

116 ـ حسن الختام

يجب ختم الكلام بأحسن خاتمة لأنها آخر ما يبقى في الاسماع، وربما حفظت من دون سائر الكلام في غالب الأحوال. فيجب أن يجتهد في رشاقتها ونضجها وحلاوتها وجزالتها. وخواتم القرآن جميعها في غاية الحسن ونهاية الكمال.

*

تلك لمح من بديع القرآن تظهر فصاحته في كل جمالها، كما يُظهر بيان القرآن بلاغته في كل كمالها.

1 ـ ولكن ألا يخيّل للمرء، لاهتمامهم البالغ في مجاز القرآن وبديعه، أن إعجاز القرآن في صـناعته أكثر منه في روحانيته؟ وأنت تراهم يتكلمون كثيراً عن الأولى دون الثانية. ونسوا أن الألفاظ في فصاحتها وبلاغتها ونظمها وأسلوبها أجساد، والمعاني أرواح كما قال أحد بلغاء العرب. والروح أسمى من الجسد؛ والجسد عَرَض، والروح جوهر. وقال الإنجيل الكريم: ((الروح هو ا لذي يحيي1 )) .

2 ـ وقد عاب الباقلاني تحكيم البديع في بيان القرآن2 . والنقاد قد برموا

ــــــــــــــــ

( 1 ) إنجيل يوحنا 36:6 .

( 2 ) السيوطي: الإتقان 124:2 .

ـ 98 ـ

بالبديع وثاروا ضده، فهو التزام للاستعارة الطباق و التجنيس وما إليها وكلها محسنات تستر المعنى وتوقع في الغموض ... ونبههم إلى ذلك علماء الإعجاز من أمثال الباقلاني قائلين: إن ليست فنون البديع في أسلوب القرآن هي كل شيء في روعته وإعجازه. وإنما تختفي وراءها المعاني، والروح التي تعقد بين تلك الفنون وتسلكها في نظم متّسق1 .

قال الباقلاني: ((إن القرآن يجمع كل فنون البديع في أرفع درجاتها. ولكن لا يكفي هذا البديع وحده للكشف عن حقيقة إعجاز القرآن، وعجائب نظمه، فيقول: إنه لاسبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من البديع الذي ادعوه في الشعر ووصفوه فيه2 )) . ويثور الباقلاني ثورة متواصلة على مذهب البديع والبلاغة في كتبه. وفي (إعجاز القرآن) بدأ فقلّل من أهمية بلاغة العبارة أو الآية وهي التي تقوم عليها دراسات البلاغة؛ وقد شكك في مقدرتها على كشف جمال المعاني وروعة الإعجاز وأسرار النظم. وقلل من شأن ما ابتدعوا من مقاييس في أبواب البديع وفنون البلاغة التي راجت في عصره ومقاييس الجمال الفني في العبارة. ونقل أقسام الرمّأني العشرة للبلاغة وأعلن عدم لياقتها وقصورها في تحقيق الإعجاز. يقول: ((قد حكينا أن من الناس من يريد أن يأخذ إعجاز القرآن من وجوه البلاغة التي ذكرنا أنها تسمى البديع ... وما حكينا عن صاحب الكلام من المبالغة في اللفظة فليس ذلك بطريق الإعجاز لأن الوجوه التي ذكرها قد تتفق في كلام غيره وليس ذلك بمعجزة بل قد يصح في المعنى والصيغة وجوه من اللفظ تثمر الإعجاز. وتضمين المعاني أيضاً قد يتعلق به الإعجاز وليس ذلك بمعجز)) .

وقد علق السيد سلاَّم بقوله: ((وقد خرج الباقلاني عـن منهج السابقين وآرائهم ودراساتهم إذ اعتبروا الآية أو العبارة أو بيت الشعر أو شطره أساساً لبحوثهم

ــــــــــــــــ

( 1 ) سلاّم: أثر النقد 332 – 333 .

( 2 ) سلاَّم: أثر النقد 280 قابل إعجاز القرآن للباقلاني 97.

ـ 99 ـ

النقدية والبلاغية. ومن ثم لأحكامهم في بيان القرآن. ممّا خرج بتلك البحوث عن دائرة النقد الشامل العام إلى نقد موضعي جزئي وأوقعهم في أسماء ومسميات تتعدى العبارة إلى ما وراءَها. وكان طبيعيّاً على من حصروا أنفسهم في تلك الحدود الضيقة أن يجدوا لأنفسهم متنفساً وسلوى يشغلون بها أذهانهم ويملأون كتبهم، فلم يجدوا غير اختراع الأسماء وتفريغ الفنون حتى باتت تربو وتتضخم إلى أن أربت على المائة وبكثير. بل على العكس جفّف ماءَه وذهب بروائه. وقد أدرك الباقلاني خطأ القدماء فردّد القول بأن قضية الإعجاز لا تنكشف عن طريق البديع والبلاغة وحدهما كما حاول الرماني وتبعه أبو هلال العسكري. بل سر إعجاز القرآن في الوحدة الفنية للسورة بكاملها وللقرآن بكامله1 )) .

وعبد القادر الجرجاني أيضاً في كتابه (دلائل الإعجاز) لا يرجع بلاغة القرآن إلى اشتماله على أنواع البديع لأنها لا توجد في كل الآيات. وإذا صح ذلك فتكون بعض الآيات الخالية من البديع غير بليغة ولا معجزة. ولا يرجع بلاغته إلى ألفاظه السهلة أو الغريبة ولا إلى المقاطع والفواصل لأنها ليست بأصعب من الوزن والقافية في الشعر ويذكر أن العرب الذين في مقدورهم ذلك قادرون على المقاطع والفواصل. والناس يتفاوتون في تقدير الجمال بتفاوت الأزمنة والأمكنة: فما يعد بليغاً في زمن لا يعد كذلك في زمن آخر، وما يعدّ بليغاً في البدو لا يعد كذلك في الحضر2 . فهو يرد الإعجاز إلى المعاني وأثرها في النفس.

3 ـ و نقل السيوطي عن القاضي عيَّاض تساؤله: ((هل تقولون إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل؟ ـ قلنا ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف ـ وإن كان معجزاً كالقرآن في ما يتضمن من الإخبار

ــــــــــــــــ

( 1 ) سلام: أثر القرآن 282 و 292.

( 2 ) دلائل الإعجاز 64 و و296 و 304 .

ـ 100 ـ

بالغيوب ـ وإنما لم يكن معجزاً لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن، ولم يقع التحدي فيه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حدّ الإعجاز1 )) .

قد يقبلون بإعجاز التوراة والإنجيل بالإخبار بالغيوب عن المبدإِ والمعاد ولكنهم يتنكرون للإعجاز البياني فيهما لأسباب:

منها أن اللسان العبري واليوناني لا يتأتى فيهما من وجوه الفصاحة إلى حدّ الإعجاز. ـ فنحيلهم على ما يقوله العالم أجمع عن آداب الكتاب المقدس، وآداب اليونان التي صارت جميعها أساس آداب الحضارات الحديثة كلها.

ومنها ((أنه لم يكن معجزاً لأن الله لم يصفه بما وصف به القرآن)) . والقرآن شاهد عدل على بطلان هذا الكلام وأمثاله؛ فقد وصف القرآن الكتاب والإنجيل بما وصف به نفسه تشبّهاً بهما: كلاهما تنزيل الحي القيوم مثله (آل عمران 3 غافر 2) وكلاهما وحي الله (نساء 163) وكلاهما الحق (بقرة 91 و 94 و 176) وكلاهما هدى ورحمة (نحل 64 مريم 21) وكلاهما نور وهدى (بقرة 97 مائدة 64). لا بل القرآن والإنجيل والتوراة جميعها هي الكتاب (بقرة 213 مريم 30) وجميعها هي الذكر الحكيم (أنبياء 7 و 23 نحل 43 و و44) وجميعها هي الفرقان (آل عمران 3) الذي يحوي وعد الله لمختاريه بالجنة ((وعداً عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن (توبة 111) )).

ومنها أنه ((لم يقع التحدي في الكتاب والإنجيل كما وقع في القرآن)) . ـ وقع التحدي في القرآن وانتهى في سورة البقرة، فجاءَ جواب الشعب في سورة الأنفال بعدها: ((وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين)) (30). بينما التحدي بالقول والعمل ظل في الإنجيل حتى النهاية، ولمَّا حكم محفل اليهود على المسيح بالقتل وأرسل الشرط أول مرة للقبض عليه، ورجعوا فارغين عاجزين قال أرباب السلطة للشرطة: ((لِمَ لم

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 124:2.

ـ 101 ـ

تأتوا به؟ فأجاب الشرط: ما تكلم إنسان قط مثل هذا الإنسان!)) (يوحنا 45:7).

ثم لقد وقع التحدي مدةً في القرآن بإعجاز صناعته البيانية. ولكن وقع التحدي في الإنجيل بروحانيته قبل كل شيء. قال المسيح عن تنزيله عندما جحد به بعض تلاميذه: ((الروح هو الذي يحيي، وأما الجسد فلا يفيد شيئاً: الكلام الذي قلته لكم هو روح وهو حياة. غير أن فيكم من لا يؤمنون ... ومنذئذٍ ارتدَّ عنه كثيرون من تلاميذه. فقال يسوع للاثني عشر (الحواريين): وأنتم أفلا تريدون أن تذهبوا؟ ـ فأجاب سمعان بطرس: وإلى مَن نذهب، يا معلم؟ إن عندك كلام الحياة الأبدية! فنحن قد آمنَّا! ونعلم أنك أنت قدوس الله)) (يوحنا 63:6 ـ70).

كلام المسيح في الإنجيل ((روح وحياة)) وهذا هو التحدّي الذي لا تحدّي بعده بإقرار الحواريين والشعب المؤمن وغير المؤمن.

وهذا هو الإعجاز الحق الذي لا يضيع في الترجمة من لسان إلى لسان آخر1 . والوحي ليس لأمة دون أمة أو لسان دون لسان، بل لجميع الأمم والألسنة. ومن الإلجاء الذي لا تقره الطبيعة والوحي إرغام البشرية جمعاء على تعلم لسان لتذوّق إعجاز الوحي في بيانه العربي، لأن كل إعجاز بياني وبلاغي يذوب في الترجمة. بينما الإعجاز الروحي ينسجم مع كل لسان، ويتذوقه كل مؤمن من كل أمة.

فالحرف يقتل، والروح هو الذي يحيي؛ وبيان الإنجيل روح وحياة (انجيل يوحنا 63:6). والبيان والبديع، والصناعة اللفظية، والمحسنات البديعية كلها حرف وجسد لا تفيد كبير أمرٍ بالنسبة للروح الذي هو حياة العقول والقلوب والدين والإيمان. فالأصل في الإعجاز روحانيته، لا بيانه وبديعه.

ــــــــــــــــ

( 1 ) ظهر مؤخرا عن مشيخة الأزهر الشريف فتوى بمنع الترجمة الحرفية للقرآن إلى اللغات الأجنبية لعجز الترجمات عن أداء إعجاز القرآن البياني والبلاغي الذي فيه معجزة القرآن. وكان هذا رأي ابن قتيبة بأن ترجمة القرآن ((تزيل إعجازه)) (قابل أثر القرآن ص 111).

ـ 102 ـ

الفصل الثامن

 

 

من الإعجاز في نظم القرآن

أجمل وصف لنظم القرآن ما قاله عميد الأدب العربي المعاصر الدكتور طه حسين: كلام العرب شعر ونثر وقرآن. فالقرآن ليس بالشعر وليس بالنثر: إنه نثر وشعر معاً: إنه قرآن! ((وما علمناه الشعر! وما ينبغي له! إن هو إلا ذكر وقرآن مبين)) !

قال الجاحظ: ((سمى الله كتابه اسـماً مخالفاً لما سـمى العرب كلامهم على الجملة والتفصيل. سمى جملته قرآناً كما سموا ديواناً، وبعضه سورة كقصيدة. وبعضها آية كالبيت، وآخرها فاصلة كقافية1)) .

وفاتهم إن هذه الأسماء الجديدة التي تصف القرآن جملة وتفصيلاً منقولة عن العبرية بطريق السريانية2. ولكنها أوصاف تميز القرآن عن سائر كلام العرب.

ندع الكلام في معاني القرآن وأساليبه المختلفة من أقسام وقصص وأمثال وجدل إلى الفصول الآتية. ونكتفي الآن بنقل بعض وجوه الإعجاز فيه.

وأفضل من كتب في إعجاز القرآن الباقلاني. قال في وجوه إعجاز القرآن: ((الوجه الأول في الإخبارعن الغيوب والصدق والإصابة في ذلك كله ـ (وهذا سبقه إليه الكتاب) وأما الوجه الثاني ما ذكرناه من إخباره عن قصص الأولين وسير المتقدمين ـ (وهذا أيضاً سبقه إليه الكتاب). فأما الكلام في الوجه

ــــــــــــــــ

( 1 ) اتقان 51:1 .

( 2 ) فكلمة قرآن من ((قِرا)) سورة من ((شورا)) وآية من ((يوت)) والعبرية والسريانية والعربية تشترك كلغات سامية في أصول الكَلِم .

ـ 103 ـ

الثالث وهو الذي بيناه من الإعجاز الواقع في النظم والتأليف والوصف ـ وهذا هو الإعجاز حصراً ـ فقد ذكرنا من هذا الوجه وجوهاً منها أنّا قلنا إنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلامهم، ومباين لأساليب خطابهم. ومن ادعى ذلك لم يكن لـه بد من أن يصح أنه ليس من قبيل الشعر، ولا السجع، ولا الكلام الموزون غير المقفى. لأن قوماً من كفار قريش ادعوا أنه شعر. ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعراً. ومن أهل الملة من يقول إنه كلام موزون فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب)). ثم يعقد فصلاً في نفي الشعر من القرآن، وآخر في نفي السجع من القرآن. فالإعجاز في نظمه.

وفي (الإتقان) فصول تبين مدى الإعجاز البياني في القرآن نلخصها ونحيل إليها.

*

بحث أول: في مقدمة ومؤخّره1

قال السيوطي: أسباب التقديم وأسراره فيها حكمة إجمالية: الحكمة الشائعة الذائعة في ذلك هي الاهتمام؛ قال سيبويه: يقدّمون الذي بيانه أهم، وهم ببيانه أَعنى.

وهذا الباب على نوعين منها ما أشكل معناه بحسب الباطن. ومنه ما أشكل معناه بحسب الظاهر. وقد تعرّض السلف لذلك في آيات:

فأخرج ابن أبي قتادة في قوله تعالى: ((فلا تعجبْك أموالهم ولا أولادهم، في الحياة الدنيا)) . قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.

وأخرج عنه أيضاً في قوله تعالى: ((ولولا كلمة سبقتْ من ربك لكان لزاماً، وأجلٌ مسمى)) قال: هذا من تقاديم الكلام، يقول: لولا كلمةٌ وأجلٌ مسمى لكان لزاماً.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 13:2.

ـ 104 ـ

وأخرج عن مجاهد في قوله تعالى: ((أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً قيّماً)). قال: هذا من التقديم والتأخير: أنزل على عبده الكتاب قيّماً، ولم يجعل له عوجاً.

وأخرج عن قتادة في قوله تعالى: ((إني متوفيك ورافعك)). قال: هذا من المقدم والمؤخر: أي رافعك إليّ ومتوفيك.

وأخرج عن عكرمة في قوله تعالى: ((لهم عذاب شديد بما نسوا، يوم الحساب)) قال: هذا من التقديم والتأخير، يقول: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا.

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله تعالى: ((ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلا قليلاً)). قال: هذه الآية مقدمة ومؤخرة، إنما هي: أذعوا به إلا قليلاً منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينجُ قليل ولا كثير.

وأخرج عن ابن عباس في قوله تعالى: ((فقالوا: أرنا الله جهرة)). قال إنهم إذا أرادوا الله فقد رأوه؛ إنما ((قالوا جهرة: أرنا الله)). قال هو مقدم ومؤخر. قال ابن جرير: ((يعني إن سؤالهم كان جهرة)).

ومنه: ((أفرأيتَ من اتّخذ إلهه هواه)) والأصل هواه إلهه، لأن من اتّخذ إلهه هواه غير مذموم؛ فقدم المفعول الثاني للعناية به.

وقوله: ((أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى)) على تفسير أحوى بالأخضر وجعله نعتاً للمرعى أي: أخرجه أحوى فجعله غثاءً، وأُخِرَ رعايةَ للفاصلة.

وقوله: ((غرابيب سود)) الأصل سود غرابيب لأن الغربيب: الشديد السواد.

وقوله: ((فضحكت، فبشرناها)) أي ((فبشرناها فضحكت)) .

وقوله: ((ولقد همت به وهمّ بها، لولا أن رأى برهان ربه)) أي ((ولقد همت به، ولولا أن رآى برهان ربه لهم بها)) وعلى هذا فالهم منفي عنه.

ـ 105 ـ

وليس التقديم والتأخير في بعض الآيات فقط، بل يأتي أيضاَ في مقاطع القصة الواحدة:

من ذلك قوله ((وإذ قتلتم نفساَ فادّارأتم فيها)) ، قال البغوي: هذه أول القصة، وإن كان مؤخراً في التلاوة. وقال الواحدي كان الاختلاف في القاتل قبل ذبح البقرة وإنما أخّر في الكلام لأنه تعالى لمَّا قال: ((إن الله يأمركم ـ الآية)) علم المخاطبون أن البقرة لا تُذبح إلا للدلالة على قاتل خفيتْ عينُه عليهم، فلمَّا استقر هذا في نفوسهم اتبع بقوله: ((وإذ قتلتم نفساً فادّرأتم فيها فسألتم موسى فقال: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)).

وهذا الباب كثير على جميع أنواعه في القرآن.

*

بحث ثانٍ: في عامّه وخاصه1

1 ـ قال السيوطي: العام لفظ يستغرق الصالح لـه من غير حصر. وصيَغُه: ((كل)) مبتدئة أو تابعةً؛ ((والذي والتي)) ، وتثنيتُهما وجمعهما، ((وأي وما ومن)) شرطاً واستفهاماً وموصولاً؛ والجمع ا لمضاف؛ والمعرّف بأل؛ واسم الجنس المضاف؛ والمعرّف بأل؛ والنكرة في سياق النفي والنهي، وفي سياق الشرط، وفي سياق الامتنان.

((والعام على ثلاثة أقسام: الأول الباقي على عمومه؛ قال جلال الدين البلقيني: ومثاله عزيز إذ ما من عام إلا ويتخيّل فيه التخصيص. وذكر الزركشي في (البرهان) أنه كثير في القرآن. هذا في الأحكام العامة، وذاك في الأحكام الفرعية سوى قوله ((حرمت عليكم أمهاتكم)) فإنه لا خصوص فيها. الثاني العام المراد به الخصوص؛ والثالث العام المخصوص. وللناس بينهما فروق: الأول لم يرد شموله لجميع الأفراد لا من جهة تناول اللفظ ولا من جهة الحكم، بل هو ذو

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 16:2.

ـ 106 ـ

أفراد استعمل في فرد منها. والثاني أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد من جهة تناول اللفظ لها، لا من جهة الحكم. ومنها أن الأول مجاز قطعاً لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي بخلاف الثاني فإن فيه مذاهب، أصحها أنه حقيقة. ومنها أن قرينة الأول عقلية والثاني لفظية. ومنها أن قرينة الأول لا تنفك عنه وقرينة الثاني قد تنفك عنه. و منها أن قرينة الأول يصح أن يرد به واحد اتفاقاً ، و في الثاني خلاف .

ومن أمثلة الثاني المراد به الخصوص قوله: ((إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)) والقائل واحد لقوله ((إنما ذلكم الشيطان)) فوقعت الإشارة بقوله ((ذلكم)) إلى واحد. ومنها قوله: ((أم يحسدون الناس)) أي رسول الله. ومنها قوله: ((ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)) المقصود إبراهيم. ومنها قوله: ((فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب)) أي جبريل.

2 ـ أما المخصوص فأمثلته في القرآن كثيرة جداً، وهي أكثر من المنسوخ إذ ما من عام إلا وقد خُصّ. ثم المخصَّص لـه إما متصل وإما منفصل. فالمتصل خمسة وقعت في القرآن، أحدها الاستثناء نحو ((والشعراء يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا))؛ الثاني الوصف نحو ((وربائبكم اللاتي في حجوركم)) ؛ الثالث الشرط نحو ((كتب عليكم ـ إذا حضر أحدكم الموت، أن ترك خيراً، الوصية)) ؛ الرابع الغاية نحو ((ولا تقربوهنّ حتى يطهرن)) ؛ الخامس بدل البعض من الكل نحو ((ولله على الناس الحجّ، من استطاع إليه سبيلاً)). والمنفصل: آية أخرى في محلّ آخر أو حديث أو إجماع أو قياس.

فمن أمثلة ما خص (في القرآن): ((والمطلقات بتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)) خص بقوله ((إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة))؛ وبقوله ((وأُولاتُ الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهنّ)) . و ((حرمت عليكم الميتة والدم)) خص من الميتة السمك بقوله ((أُحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة)) ؛ ومن الدم: الجامد، بقوله ((أو دماً

ـ 107 ـ

مسفوحاً)). و ((آتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)) خص بقوله ((فلا جناح عليهما فيما افتدت به)) . و ((الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة)) خص بقوله ((فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)) . وقوله ((فانكحوا ما طاب لكم من النساء)) خص بقوله ((حُرّمت عليكم أمهاتكم)).

ـ فهذا التخصيص يأتي في التشريع، في محل آخر من القرآن، هل هو من الإعجاز؟

ومن أمثلة ما خص (في الحديث) قوله ((وأحل البيع)) خصّ منه البيوع الفاسدة وهي كثيرة، بالسنّة. وحرم الربا، خصّ منها العرايا بالسنّة. وآيات المواريث منها القاتل والمخالف في الدين، بالسنّة. وأية تحريم الميتة خص منها الجراد بالسنّة. وآية ((ثلاثة قروء)) خص منها ((الأمة)) بالسنّة. وقوله ((ماءً طهوراً)) خص منه المتغير، بالسنّة. وقوله ((السارق والسارقة فاقطعوا)) خص منه من سرق دون ربع دينار، بالسنّة …

ـ فهذا التخصيص بالسنّة على تشريع القرآن هل هو من الإعجاز؟

ومن أمثلة ما خص بالإجماع آية المواريث: خص منها الرقيق فلا يرث بالإجماع، ذكره مكّي.

ومن أمثلة ماخص بالقياس آية الزنا ((فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة)) خصّ منها العبد، بالقياس على الأمَة المنصوصة في قوله ((فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب)) المخصّص لعموم الآية، ذكره مكي أيضاً.

ـ فهل هذا التخصيص بالإجماع أو بالقياس على تشريع القرآن من الإعجاز في التشريع؟

ثم يورد السيوطي فروعاً منثورة تتعلق بالعموم والخصوص:

((الأول إذا سيق العام للمدح أو الذم فهل هو باق على عمومه؟ ـ فيه خلاف ومذاهب.

ـ 108 ـ

((والثاني اختلف في الخطاب الخاص به ص. نحو ((يا أيها النبي! يا أيها الرسول)) هل يشمل الأمة؟ فقيل نعم لأن أمر القدوة أمر لأتباعه معه عرفاً. والأصح في الأصول المنع لاختصاص الصيغة به.

((والثالث اختلف في الخطاب ((يا أيها الناس)) هل يشمل الرسول؟ على مذاهب، أصحها وعليه الأكثرون: نعم، لعموم الصيغة له، والثاني: لا! لأنه ورد على لسانه لتبليغ غيره ولِما له من الخصائص. والثالث أن اقترن (( بِقُلْ )) لم يشمله لظهوره في التبليغ وذلك قرينة عدم شموله، وإلا فيشمله.

((والرابع الأصح في الأصول أن الخطاب ((يا أيها الناس)) يشمل الكافر والعبد لعموم اللفظ؛ وقيل لا يعم الكافر بناءً على عدم تكليفه بالفروع، ولا العبد لصرف منافعه إلى سيده شرعاً.

((والخامس اختلف في ((مَن)) هل يتناول الأنثى؟ فالأصح نعم، خلافاً للحنفية لقوله ((ومَن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى)) فالتفسير بهما دال على تناول ((من)) لهما. واختلف في جمع المذكر السالم هل يتناولهما؟ فالأصح لا، وإنما يدخلن بقرينة. أمّا المكسّر، فلا خلاف في دخولهن فيه.

((والسادس اختلف في الخطاب ((يا أهل الكتاب)) هل يشمل المؤمنين؟ فالأصح لا، لأن اللفظ قاصر على مَن ذكر. وقيل أن شاركوهم في المعنى شملهم وإلا فلا. واختلف في الخطاب ((يا أيها الذين آمنوا)) هل يشمل أهل الكتاب؟ فقيل لا، بناءً على أنهم غير مخاطبين بالفروع؛ وقيل نعم لأنه خطاب تشريف لا تخصيص)) .

ـ فهل كل هذه الاختلافات في فهم القرآن من معجز البيان؟

*

بحث ثالث: في مجمَلِه ومبيّنه1

قال السيوطي: 1ـ المجمل هو ما لم تنضح دلالته. وهو واقع في القرآن.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 18:2.

ـ 109 ـ

وفي جوار بقائه مجملاً أقوال، أصحها: لا يبقى المكلّف بالعمل به بخلاف غيره. وللإجمال أسباب:

منها الاشتراك نحو ((ثلاثة قروء)) فإن القروء موضوع للحيض والطهر؛ ((أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح)) يحتمل الزوج والولي فإن كلا منهما بيده عقدة النكاح.

ومنها الحذف نحو ((وترغبون أن تنكحوهنَّ)) يحتمل : في وعن.

ومنها اختلاف مرجع الضمير نحو ((إليه يصعد الكَلم الطيب، والعمل الصالح يرفعه)) يحتمل عود ضمير الفاعل في (يرفعه) إلى ما عاد عليه ضمير (إليه) وهو الله؛ ويحتمل عوده إلى العمل: والمعنى إن العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب؛ ويحتمل عوده إلى (الكلم الطيب) أي إن الكلم الطيب، وهو التوحيد، يرفع العمل الصالح لأنه لا يصح العمل إلا مع الإيمان.

ومنها احتمال العطف والاستئناف كما في قوله ((إلا الله والراسخون في العلم يقولون)) (آل عمران 7).

منها غرابة اللفظ نحو(( فلا تفضلوهنّ)).

ومنها عـدم كثرة الاستعمال نحو ((يلقون السمع)) أي يسمعون؛ ((ثاني عطفه)) أي متكبر؛ ((فأصبح يقلب كفيه)) أي نادماً.

ومنها التقديم والتأخير، كما مر بك.

ومنها قلب المنقول نحو ((طور سنين)) أي سيناء، ((سلام على آل ياسين)) أي على الياس.

ومنها التكرير القاطع لوصل الكلام في الظاهر نحو (( للذين استضعفوا)) أي لمن آمن منهم.

ـ فهل هذا الإجمال الذي يحتاج إلى بيان هو من معجز البيان؟

ـ 110 ـ

والتبيين قد يقع بالقرآن وقد يقع بالسنّة.

فالتبيين بالقرآن ((قد يقع متصلاً نحو ((من الفجر)) بعد قوله ((الخيط الأبيض من الخيط الأسود)) ؛ ومنفصلاً، في آية أخرى، نحو قوله ((فإن طلّقها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره)) بعد قوله ((الطلاق مرتان)) . ونحو قوله ((وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرةً)) دال على جواز الرؤية. وقوله ((احلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يُتلى عليكم)) فسّره قوله ((حرّمت عليكم الميتة)). وقوله ((مالك يوم الدين)) فسره قوله ((وما أدراك ما يوم الدين)). وقوله ((فتلقى آدم من ربه كلمات)) فسّره قوله ((قالا: ربنا؛ ظلمنا أنفسنا)) . وقوله ((وإذا بُشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلاً)) فسّره قوله ((بالأنثى)) في آية النحل. وقوله ((أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم))، قال العلماء بيان هذا العهد قوله ((لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي)) فهذا عهده؛ وعهدهم ((لأكفّرنَّ عنكم سيئاتكم)) . وقوله ((صراط الذين أنعمت عليهم)) بيّنه قوله ((فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين)) .

((وقد يقع التبيين بالسنّة مثل ((وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)) ومثل ((ولله على الناس حج البيت)) وقد بينت السنّة أفعال الصلاة والحج، ومقادير نسب الزكاوات في أنواعها)) .

ـ فهل الكلام الذي يبيّنه كلام آخر من زمن هو من معجز البيان؟

وزاد السيوطي تنبيهاً: ((اختلف في آيات هي من قبيل المجمل أم لا؟

منها آية السرقة: قيل إنها مجملة في اليد وفي القطع؛ وقيل لا إجمال فيها)) .

ومنها ((وامسحوا برؤوسكم)): قيل إنها مجملة لتردد بين مسح الكل والبعض، ومسح الشارع الناصية مبين لذلك؛ وقيل لا وإنما هي لمطلق المسح الصادق بأقل ما ينطبق عليه الاسم وبغيره.

ومنها ((حرّمت عليكم أمهاتكم)): قيل مجملة لأن إسناده التحريم إلى العين لا يصح لأنه إنما يتعلق بالفعل فلا بدّ من تقريره وهو مرجح لأمور لا حاجة إلى

ـ 111 ـ

جميعها، ولا مرجح لبعضها؛ وقيل لا لوجود المرجح وهو العرف فإنه يقضي بأن تحريم الاستمتاع بالوطء ونحوه.

ومنها ((وأحل الله البيع وحرّم الربا)): قيل مجملة وما من بيع إلا وفيه زيادة فافتقر إلى بيان ما يحل وما يحرم؛ وقيل لا لأن البيع مقبول شرعاً فحمل على عمومه ما لم يقم دليل التخصيص ... ثم قال هل هي مجملة بنفسها أم بعارض ما نهى عنه من البيوع؟ ـ وجهان؛ وهل الإجمال في المعنى المراد دون لفظها؟ لأن لفظ البيع اسم لغوي معناه معقول، لكن لمّا قام بإزائه من السنة ما يعارضه تدافع العمومان ولم يتعين المراد إلا بالسنة فصار مجملاً لذلك؛ وفي اللفظ أيضاً لأنه لما لم يكن المراد منه ما وقع عليه الاسم، وكانت لـه شرائط غير معقولة في اللغة، كان مشكلاً أيضاً ...

ومنها الآيات التي فيها الأسماء الشرعية نحو ((أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. فمن شهد منكم الشهر فليَصُمْه. ولله على الناس حج البيت)) : قيل إنها مجملة لاحتمال الصلاة لكل دعاء، والصيام لكل إمساك، والحج لكل قصد؛ والمراد بها لا تدلّ عليه اللغة وافتقر إلى البيان؛ وقيل لا، بل يحمل على كل ما ذكر إلا ما خُصّ بدليل)) .

فهل التشريع الذي يفتقر إلى مثل هذا البيان هو من معجز البيان1 ؟

*

بحث رابع: في مشكله وموهم الاختلاف والتناقض2

قال السيوطي: ((والمراد به ما يوهم التعارض بين الآيات، وكلامه تعالى منزّه عن ذلك كما قال: ((ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)). وقد تكلم في ذلك ابن عباس وحُكي عنه التوقف في بعضها.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 27:2.

( 2 ) طلع علينا أدباء العصر بإعجاز جديد في القرآن: الإعجاز التشريعي. وقد رأيت فيما سبق دلائل عليه .

ـ 112 ـ

منها قوله ((ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين)) وقد قال ((ولا يكتمون الله حديثاً)) .

ومنها قوله ((فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)) ، وقد قال ((وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون)) .

وفيها قوله ((أئنكم لتفكرون بالذي خلق الأرض في يومين ...)) فإن الأرض قبل السماء. وقد قال في الآية الأخرى: ((أم السماء بناها. والأرض بعد ذلك دحاها)) .

ومنها قوله ((وكان الله عزيزاً حكيماً)) : فما شأنه يقول: ((وكان)) ؟ وقد أخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أن يهودياً قال له: (( إنكم تزعمون أن الله كان عزيزاً حكيماً فكيف هو اليوم؟ فقال إنه كان في نفسه عزيزاً حكيماً)) .

وينقل السيوطي أجوبة ابن عباس والسدي والضحاك وأبي هريرة على هذه المتشابهات. ثم يقول:

((موضع آخر توقف عليه ابن عباس: سأله رجل عن ((يوم كان مقداره ألف سنة)) وعن ((يوم كان مقداره خمسين ألف سنة))؟ فقال ابن عباس هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه، الله أعلم بهما؛ وزاد: ما أدري ما هي، وإكراه أن أقول فيهما ما لا أعلم. قال ابن أبي مليكة: فضربتُ البعير حتى دخلتُ على سعيد ابن المسيّب، فسئلَ عن ذلك، فلم يدرِ ما يقول؛ فقلت له: ألا أخبرك بما حضرتُ من ابن عباس: فأخبرته. فقال ابن المسيّب للسائل: هذا ابن عباس قد أتّقى أن يقول فيهما وهو أعلم مني)) .

وقال الزركشي في (البرهان) للاختلاف أسباب:

أحدهما وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى، كقوله في خلق آدم من تراب: مرة من حمإٍ مسنون، ومرة من طين لازب، ومرة من صلصال كالفخار. فهذه ألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة لأن الصلصال غير الحمإِ والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب ومن التراب درجت هذه الأحوال.

ـ 113 ـ

وكقوله عن عصا موسى: ((فإذا هي ثعبان)) وفي موضع ((تهتزّ كأنها جان)) والجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها وذلك لأن خَلْقها خلقُ الثعبان الكبير وخفّتها كاهتزاز الجان.

الثاني لاختلاف الموضع. كقوله ((وقفوهم إنهم مسؤولون)) ، وقوله ((فلنسألن الذين أرسل إليهم، ولنسألن المرسلين)) مع قوله ((فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه أنس ولا جان)) فسره الحليمي باختلاف السؤال؛ وحمله غيره على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة.

وكقوله ((اتقوا الله حق تقاته)) مع قوله ((فاتقوا الله ما استطعتم)) : حمل الشيخ الشاذلي الأولى على التوحيد والثانية على الأعمال. وقيل الثانية ناسخة للأولى.

وكقوله ((فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)) مع قوله ((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)) ؛ فالأولى تفهم إمكان العدل والثانية تنفيه. والجواب أن الأولى في توفية الحقوق والثانية في الميل القلبي وليست في قدرة الإنسان.

وكقوله: ((إن الله لا يأمر بالفحشاء)) مع قوله ((أمرنا مترفيها ففسقوا فيها)) : فسروا الأولى في الأمر الشرعي، والثانية في الأمر الكوني بمعنى القضاء والقدر.

الثالث لاختلافهما في جهتي الفعل كقوله: ((فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)) : أُضيف القتل إليهم والرمي إلى النبي على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم وعنه باعتبار التأثير.

الرابع لاختلافهما في الحقيقة والمجاز: ((وترى الناس سكارى وما هم بسكارى)) أي سكارى من الأهوال مجازاً، من الشراب حقيقة.

الخامس بوجهين واعتبارين كقوله ((فبصرك اليوم حديد)) مع قوله ((خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي)) : قال قطرب فبصرك أي علمك، وليس المراد رؤية العين.

ـ 114 ـ

وكقوله: ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكل الله)) مع قوله ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)) فقد يُظن أن الوجل خلاف الطمأنينة. وجوابه أن الطمأنينة تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، والوجل يكون عند خوف الزيغ عنه، وقد جمع بينهما في قوله: ((تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله)) .

وانتهى السيوطي بإخراج ثلاثة مبادئ تعين على تفسير ما تشابه من مشكله وموهم الاختلاف والتناقض فيه. قال أَحدهم ((إذا تعارضت الآي وتعذّر فيها الترتيب والجمع طُلب التاريخ وتُرك المتقدم بالمتأخر ويكون ذلك نسخاً؛ وإن لم يُعلم وكان الإجماع على العمل بإحدى الآيتين عُلم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل به. قال ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تخلوان عن هذين الوصفين)) .

ـ وهل يقوم النسخ المذكور والإجماع مقام مُحكم التنزيل المعجز؟

وقال غيره ((في جماع الاختلاف والتناقض: إن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض؛ إنما التناقض في اللفظ ما ضادّه من كل جهة؛ ولا يوجد في الكتاب والسنّة شيء من ذلك أبداً، إنما يوجد فيه النسخ في وقتين)) .

ـ وهل يليق بأحكام الله ائتلافها فقط ((على وجه من الوجوه)) في مُحكم التنزيل المعجز؟

وقال القاضي أبو بكر: ((لا يجوز تعارض أي القرآن والآثار وما يوجبه العقل، فلذلك لم يجعل قوله ((الله خالق كل شيء)) معارضاً لقوله عن عيسى ((وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير)) لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله فتعيّن تأويل ما عارضه فيُؤوَّل)) .

ـ وهل يجوز أن نجعل العقل حَكَماً على محكم التنزيل المعجز؟

ـ 115 ـ

فالتفسير بأي وجه من الوجوه، والتأويل بقيام الدليل العقلي، واللجوء إلى النسخ بالقرآن أو بالحديث أو بالإجماع لا يليق بكلام الله المحكم المعجز الذي بيانه إعجازه، وإعجازه بيانه.

*

بحث خامس: في الآيات المتشابهات1

قال السيوطي: ((القصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة. بل تأتي في موضع واحد مقدماً وفي آخر مؤخراً كقوله في البقرة ((وادخلوا الباب سُجَّداً وقولوا: ((حطَّة)) وفي الأعراف ((وقولوا: حطة، وادخلوا الباب سُجّداً)) وفي البقرة ((ما أهّل به لغير الله))، وسائر القرآن ((ما أهل لغير الله به)). أو في موضع بزيادة وفي آخر بدونها نحو ((ويكون الدين لله)) في يس والبقرة؛ وفي الأنفال ((يكون الدين كله لله)) . أوفي موضع معرّفاً وفي آخر منكَّراً؛ وفي موضع مفرداً وفي آخر جمعاً. أو بحرف وفي آخر بحرف آخر. أو مدغماً وفي آخر مفكوكاً. وهذه أمثلة منه:

في البقرة ((هدىً للمتقين)) ؛ وفي لقمان ((هدىً ورحمة للمحسنين)) .

في البقرة ((وقلنا: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكُلا)) ؛ وفي الأعراف ((فكلا)) بالفاء.

في البقرة ((واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً، ولا تنفعها شفاعة ولا يُقبل منها عدل)) وقال بعد ذلك ((... ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة)): ففيه تقديم العدل وتأخيره؛ وقال في الأولى ((لا تقبل منها شفاعة)) وفي الثانية ((ولا تنفعها شفاعة)).

في البقرة ((وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون)) وفي إبراهيم ((ولا يذبحون)) وفي الأعراف ((يقتلون)).

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 114:2 .

ـ 116 ـ

في البقرة ((فانفجرت)) وفي الأعراف ((انبجست)) لأن الانفجار أبلغ في كثرة الماء.

في البقرة ((ولن تمسنا النار إلا أياماً معدودة)) وفي آل عمران ((معدودات)) .

في البقرة ((إن هدى الله هو الهدى)) وفي آل عمران ((إن الهدى هدى الله )).

في البقرة ((ربِ اجعل هذا بلداً آمناً)) وفي إبراهيم ((اجعل هذا البلد آمناً)).

في البقرة ((قولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا)) وفي آل عمران ((آمنا بالله وما أنزل علينا)).

في البقرة ((تلك حدود الله فلا تقربوها)) وقال بعد ذلك ((فلا تعتدوها)) .

قوله في آل عمران ((نزَّل عليك الكتاب)) ثم قال ((وأنزل التوراة والإنجيل)) لأن الكتاب أُنزل منجماً فناسب الاتيان ((بنزّل)) الدال على التكرير، بخلافهما فإنهما أنزلا دفعةً1.

قوله ((ولا تقتلوا أولادكم من إملاق)) وفي الإسراء ((خشية إملاق)) .

في الأعراف ((فاستعذ بالله إنه سميع عليم)) وفي فصلت ((إنه السميع العليم)) .

ـ قال أبو عبد الله الرازي: إن هذا كله من باب التفنن وتنويع الألفاظ. ولكن هذا التفنن يجعل في الإعجاز درجات، وفي البيان تفاوتاً: فأين فيها معجز البيان؟

ــــــــــــــــ

( 1 ) تخريج السيوطي لا يقوم لأنه في الآية السابعة. يقول ((هو الذي أنزل عليك الكتاب)) .

ـ 117 ـ

الفصل التاسع

المُحْكَم والمتشابه من القرآن1

وصف القرآن نفسه، من حيث بيانُه وإعجازُ نظمه، بثلاث صفات متعارضة.

((حكى النيسابوري: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن القرآن كله محكم لقوله تعالى ((كتاب أحكمت آياتُه)) (هود 1)، الثاني، كله متشابه، لقوله تعالى ((كتاباً متشابهاً)) (زمر 23)؛ الثالث ـ وهو الصحيح ـ انقسامه إلى محكم ومتشابه لقوله تعالى ((هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأُخَر متشابهات)) (آل عمران 7) فالواقع القرآني الصحيح أن فيه آيات محكمات وأخرى متشابهات.

فما معنى المحكم والمتشابه؟

((قيل المحكم ما عُرف المراد منه إما بالظهور وإمَّا بالتأويل؛ والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في اوائل السور. وقيل المحكم ما وضح معناه والمتشابه نقيضه. وقيل المحكم مالا يحتمل من التأويل إلا وجهاً واحداً والمتشابه ما احتمل أوجهاً. وقال الماوردي: المحكم ما كان معقول المعنى والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان. وقيل المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه مالا يدرك إلا بالتأويل)) . وهذا الأخير أصحها؛ قال الطيبي: ((المراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه بخلافه)). فوجود المتشابه في القرآن، وهو أكثره، مشكل ضخم يحار فيه المؤمن وغير المؤمن.

*

ــــــــــــــــ

( 1 ) الاقتباسات في هذا البحث من الإتقان 2:2.

ـ 118 ـ

وكيف يتم تعيين المحكم والمتشابه؟

أخرج ابن أبي حاتم عـن ابن عباس قال: ((المحكمات: ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، أي ما يؤمن به ويعمل به؛ والمتشابهات: منسوخُهُ، ومقدمه ومؤخّره، وأمثاله وأقسامه، أي ما يؤمن به ولا يعمل به)).

وقيل المحكم: الفرائض، والوعد والوعيد؛ والمتشابه: القصص والأمثال.

وأخرج الفريابي عن مجاهد قال: ((المحكمات ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك منه متشابه يصدّق بعضه بعضاً)).

وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: ((المحكمات هي أوامره الزاجرة )).

وهكذا فالمحكم في القرآن يعود بالدرجة الأولى إلى أوامره الزاجرة أي نواهيه، وبصورة عامة إلى ((ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه)). فالمحكم هو أحكام القرآن وفرائضه، والمتشابه ما سوى ذلك من الأقسام والقصص والأمثال، أي أكثر القرآن. لأن أحكام القرآن في الحلال والحرام، أي فرائضه، تنحصر في آيات الأحكام؛ ((قال الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسمائة أية؛ وقال بعضهم: مائة وخمسون. قيل ولعلَّ مرادهم: المصرّح به، فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يُستنبط منه كثير من الأحكام1 )). فإذا قارنت آيات الأحكام الخمسمائة بعدد آيات القرآن كله وهي ((ستة آلاف أية وستمائة أية وست عشرة آية2 )) ظهر لك البون الشاسع بين محكم القرآن القليل، ومتشابه القرآن الكثير، وفي ذلك ما فيه!

ونقل السيوطي في أنواع المتشابه ما قاله الراغب في (مفردات القرآن): ((الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 130:2.

( 2 ) الإتقان 69:2 وفيه أيضاً ((أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك، ومنهم من لم يزد. وتعديد الآي من معضلات القرآن)) .

ـ 119 ـ

 

((فالمتشابه بالجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى فقط، ومن جهتهما معاً. فالأول (من جهة اللفظ) ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة إما من جهة الغرابة نحو ((الاب)) و ((يزفون)) أو والاشتراك كيد الله ويمينه؛ وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركّب وذلك ثلاثة أضرب، ضرب لاختصار الكلام نحو ((وإن خفتم ألاَّ تعدلوا في النساء، فانكحوا ما طاب لكم))؛ وضرب، لبسطه نحو ((ليس كمثله شيء)) لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع؛ وضرب لنظم الكلام نحو ((أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل لـه عوجاً قيماً)) وتقديره: أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً.

((والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف لله تعالى، وأوصاف القيامة)). فإن تلك الأوصاف لا تتصوّر لنا، إذ كان لا يحصل لنا صورة ما لم نحسبه أو ليس من جنسه.

والمتشابه من جهتهما معاً خمسة أضرب: الأول من جهة الكمّية كالعموم والخصوص نحو ((واقتلوا المشركين)). والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب نحو ((وانكحوا ما طاب لكم من النساء)) . والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو ((اتقوا الله حق تقاته)). والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها نحو ((وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ... إنما النسيء زيادة في الكفر)) فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه الآية. الخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد، كشروط الصلاة والنكاح ...

قال وهذه الجملة إذا تُصورت عُلم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم. ثم جمع المتشابه على ثلاثة أضرب: ((ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة ونحو ذلك؛ وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام القلقة؛ وضرب متردّد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم)) .

ـ 120 ـ

ـ تلك حال أكثر القرآن، بإجماع الائمة؛ فكيف ينسجم المتشابه مع إعجاز نظمه؟

*

وقد فصّل السيوطي بعض متشابه القرآن في قوله:

أولاً: من المتشابه آيات الصفات الإلهية

من ذلك صفة الاستواء: ((الرحمن على العرش استوى)) ، ولها سبعة أجوبة تحاول رفع ما يُشعر فيها بالتجسيم.

ومن ذلك النفس في قوله ((تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك)) أولها العلماء بتأويلات منها أنها الذات أو الغيب والسرّ.

ومن ذلك الوجه ((كل شيء هالك إلا وجهه، ويبقى وجه ربك، يريدون وجهه، إنما نطعمكم لوجه الله ...)) قد يعني الذات، أو النية، أو الجهة.

ومن ذلك العين ((ولتضعْ على عيني ... واصبر لحكم ربك: فإنك بأعيننا)) وهي مؤولة بالبصر أو الإدراك، وقال آخر المراد في الآيات كلاءَته تعالى أي حفظه.

ومن ذلك اليد في قوله ((لِما خلقتُ بيدي ... يد الله فوق أيديهم ... إن الفضل بيد الله)) وهي مؤولة بالقدرة إلا إنها أخص والقدرة أعمّ كالمحبة مع الإرادة. وهي في الأصل كالبصر عبارة عن صفة الموصوف. فإن قلت فما حقيقة اليدين في خلق آدم؟ قلت لله أعلم بما أراد.

ومن ذلك صفة الفوقية ((وهو القاهر فوق عباده)) وصفة المجيء ((وجار ربك، ويأتي ربك)) ، وصفة عند ((عند ربك، ومن عنده)) ، وصفة مع ((وهو معكم أينما كنتم)) .

ومن ذلك صفة الحب ((يحبهم ويحبونه، فاتبعوني يحببكم الله)) ، وصفة الغضب ((غضب الله عليها)) ، وصفة الرضى ((رضي الله عنهم)) ، وصفة العجب ((بل عجبتُ)) ، وصفة الرحمة في آيات كثيرة.

ـ 121 ـ

وقد قال العلماء ((كل صفة يستحيل حقيقتها على الله تفسّر بلازمها. وقد اتفق الفقهاء كلهم من المشرِق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه. وجمهور أهل السنة ومنهم السلف وأهل الحديث على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى، ولا نفسّرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها)) .

*

ثانيا: ومن المتشابه بعض فواتح السور بالحروف المتقطعة

إن سبعا وعشرين سورة من السور المكية المتنوعة تبتدئ بحروف متقطعة وهي القلم (نَ)، وق (قَ) والاحقاف (حم)، والجاثية (حم)، والدخان (حم)، والزخرف (حم)، والشورى (حم)، وفصلت (حم)، وغافر (حم)، وص (ص)، ويس (يسن)، والسجدة (الم)، ولقمان (الم)، والروم (الم)، والعنكبوت (الم)،والقصص (طسم)، والنمل (طس)، والشعراء (طسم)، وطه (طه)، ومريم (كهيعص)، والحجر (الر)، وإبراهيم (الر)، والرعد (الر)، ويوسف (الر)، وهود (الر)، ويونس (الر)، والأعراف (المص)؛ ويلحق بها البقرة (الم)، وآل عمران (الم)؛ وأنت ترى أنها مجموعات مُعْلمة بحروف منها الحواميم السبع والطواسين الأربع ...

ولعل هذه المجموعات المُعْلَمَة بهذه الحروف تدل على حَملَتِها حسبما أخرج أحمد في صحيحه وأبو داوود في سننه: ((سألنا أصحاب الرسول كيف تحزبون القرآن؟ قالوا نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة سورة وثلاث عشرة سورة1)).

قال السيوطي: ((والمختار فيها أيضاً أنها من الأسرار التي لا يعلمها إلا الله تعالى. ومن الباطل علم الحروف المتقطعة في أوائل السور. وقد قالوا فيها نحو عشرين قولاً. ولا أحد يحكم عليها بعلم أو يصل إليها بفهم2)).

ــــــــــــــــ

( 1 ) دروزة القرآن المجيد 69 و 102 . ((كه يعص)) بالعبرية تعني ((كذا أمَرَ)) : فهل تكون مصطلحات من كتبة القرآن اليهود يتنصلون بها من كتابة ما يكتبون؟

( 2 ) الإتقان 8:2 .

ـ 122 ـ

وللأستاذ دروزة نظرية طريفة في فهم المحكم والمتشابه، قال1 :

((القرآن أسس ووسائل. الجوهري فيه هو الأسس لأنها هي التي انطوت فيها أهداف التنزيل القرآني والرسالة النبوية من مبادئ وقواعد وشرائع وأحكام وتلقينات مثل وحدة الله وتنزُّهه عن كل شائبة وشريك وولد أو اتصافه بجميع صفات الكمال ومطلق التصرف في الكون، واستحقاقه وحده العبادة والخضوع. أما عدا ذلك مما احتواه القرآن من مواضيع مثل القصص والأمثال والوعد والوعيد، والترهيب والترغيب، والتنديد والجدل والحجاج والأخذ والرد، والتذكير والبرهنة والإِلزام، ولفت النظر إلى نواميس الكون ومشاهد عظمة الله وقدرته، ومخلوقاته الخفية والعلنية، فهو وسائل تدعيمية وتأييدية إلى تلك الأسس والأهداف وبسبيلها.

((ومن مميزات الأسلوب القرآني وخصوصياته بالنسبة لسائر الكتب المنزلة أن هذه الأسس والأهداف تظل محكمة ثابتة مع ما هـو طبيعي مـن اختلاف مواقف النبي وتنوعها بالنسبة إلى فئات الناس والعقول والظروف، في حين أن ما هو من باب الوسائل والتدعيمات يتنوع ويختلف أسلوباً ومدى وتعبيراً مع اختلاف تلك المواقف وتنوعها.

((وهذا التقسيم مستلهم بوجه خاص من بعض نصوص صريحة في القرآن (بقرة 17 - 26 أعراف 57 - 58 ، كهف 54 - 59 ، طه 113 ، عنكبوت 40 - 49 ، روم 20 - 28 ، زمر 9 - 29 ، الحاقة 4 - 52 ، المعارج 11 - 44 ، المدثر 30 - 47 الخ). وقد يكون أقواها مدى وأوضحها دلالة آية آل عمران السابعة ((منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات)) بحيث يصح أن يستلهم منها بقوة أن القرآن قسمان متميزان: أحدهما محكم أساسي ثابت لا يتحمل تأويلاً ولا تنوعاً ولا وجوهاً افتراضية وتقريبية؛ وثانيهما متشابه بسبيل التقريب والتمثيل والإلزام والبرهنة ويحتمل التأويل والتنوع والوجوه الافتراضية.))

ــــــــــــــــ

( 1 ) محمد عزة دروزة: القرآن المجيد 159 – 165.

ـ 123 ـ

 

ويسترسل الأستاذ دروزة في تفصيل بعض متشابهات القرآن فيقول:

1) إن القصص القرآنية ((لم ترد للقصة بذاتها وإنما وردت للعظة والتمثيل والتذكير والإلزام والافحام والتنديد والوعيد. وفي أسلوب القصص القرآنية الذي لم يكن سرداً تاريخياً ـ كما هي الحال في قصص التوراة ـ والذي تخلله والوعظ والإرشاد والتبشير والإنذار، بل والذي جاءَ سبكه وعظاً وإرشاداً وتبشيراً وإنذاراً ثم في سياق إيراد القصص عقب التذكير وحكاية مواقف الكفار أو بين يدي ذلك، وتكرارها لتنوع المواقف النبوية سنين طويلة وتجاه فئات مختلفة تأييد لهذه النقطة (ص 167).

2) ((وإن ما ورد من أخبار الملائكة والجن لم يكن هو الآخر غريباً عن السامعين جزئياً أو كلياً، وأنه من وسائل التدعيم للدعوة وأهدافها وليس مقصوداً بذاته)) (ص 185) ((ولعل المتمعّن في الآيات التي جاءَ فيها ذكر الملائكة والجن وابليس والشياطين وأعمالهم، وتنوعها من جهة؛ وما هنالك من آيات وجمل قرآنية عديدة فيها تقريرات حاسمة عن إحاطة الله بكل شيء في كل آن ... يلهم الناظر في القرآن أيضاً أن تلك الآيات مع اتصالها بما في أذهان السامعين من صور، قد جاءَت بسبيل التقريب والتمثيل للناس الذين اعتادوا أن يروا الوسائل والوسائط في متنوع الأعمال ووجوه الحياة، ويعتبروها مظهراً من مظاهر العظمة والإحاطة، ولا يدركوا المجردات إدراكاً صحيحاً)) (188).

3) وإن مـا ورد في القرآن من مشاهد الكون ونواميسه ... قد اسـتهدف العظة والإرشاد والتنبيه والتلقين والتدعيم والتأييد، دون أن ينطوي على قصد تقرير ماهيات الكون وأطوار الخلق والتكوين، ونواميس الوجود من الناحية العلمية والفنية (ص 190).

4) (( وإن ما ورد في القرآن عن الحياة الآخروية وأعلامها ومشاهدها وصورها وأهوالها وعذابها ونعيمها قد ورد بأسلوب منسجم مع مفهومات السامعين ومألوفاتهم، ومتناول إدراكهم وحسهم، وخاصة العرب الذين كانوا أول

ـ 124 ـ

المخاطبين به؛ وأنه ورد بالأسلوب الذي، ورد على سبيل التقريب ... وهذا الأسلوب وسيلة من وسائل تأييد القصد وتدعيمه ... ومع تقريره أن الإيمان باليوم الآخر وحسابه ونعيمه وعذابه واجب، وأنه ركن من أركان العقيدة الإسلامية، فإن ملاحظة ما قدمناه جوهرية مثل سابقاتها لأن من شأنها أن تجعل الناظر في القرآن يتجنب الاستغراق في الجدل حول مشاهد الحياة الآخـروية وصورها، والتورط والتكلف والتزيّد في صدد ما يقوم في سـبيل الماهيات والحقائق لذاتها؛ ويذكر أن هدف القرآن في ما جاء من التعابير والأوصاف ـ التي شغلت حيزاً كبيراً في القرآن حتى لا تكاد سورة من سورة تخلو من ذكرها ـ هو العظة والتنبيه وإيقاظ الضمائر. وإن حكمة الله اقتضت وصفها بهذه الأوصاف على سبيل التقريب والتشبيه)) (196).

5) ((وإن ما ورد في مما يتصل بذات الله السامية من تعابير اليد والقبضة واليمين والشمال والوجه والاستواء والنزول والمجيء وفوق وتحت وأمام، وطي وقبض ونفخ، إنما جاء بالأسلوب والتعابير والتسميات التي جاءَت به من قبيل التقريب لأذهان السامعين ... وفي القرآن ضوابط من تعابيره1 تشمل كل ما ورد في صدد الذات السامية من أسماء وأفعال وصفات أخرى قد توهم مماثلة لأسماء وأفعال وصفات البشر، حيث يصح أن يقال إن ورودها في القرآن إنما جاء كذلك على سبيل التقريب والتشبيه)). (197 - 198).

وسنفصل في الفصول اللاحقة ما أوجزناه هنا على أنواع متشابه القرآن.

ثم نختم هذا البحث بخاتمة السيوطي لبحثه: ((أورد بعضهم سؤالاً: هل للمحكم ميزة على المتشابه أولا؟ فإن قلتم بالثاني (أي لا) فهو خلاف الإجماع؛ أو بالأول فقد نقضتم أصلكم في أن جميع كلامه سبحانه وتعالى سواء، وأَنه نزل بالحكمة! ـ الجواب أن المحكم كالمتشابه من وجه، ويخالفه من وجه: فالمحكم أصل والعلم بالأصل أسبق.

((وقال بعضهم: ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى؟ ـ قلنا إن كان مما يمكن علمه فله فوائد منها الحث للعلماء على النظر

ــــــــــــــــ

( 1 ) ((مثل ليس كمثله شيء ... لا تدركه الأبصار ... ولا يحيطون بشيء من علمه)) .

ـ 125 ـ

 

الموجب للعلم؛ وإن كان ممّا لا يمكن علمـه فله فـوائد منها ابتلاء العباد بالوقوف عنده، والتوقف فيه والتفويض والتسليم، ثم التعبيد بالاشتغال به من جهة التلاوة، كالمنسوخ1)).

أجل إن تنزيل المتشابه في القرآن ((ابتلاء للعباد)) لواقعه المدهش المؤلم؛ إنه ابتلاء عظيم لأن أكثر القرآن منه: أيكون فيه فقط خمسمائة آية محكمة، في الأحكام والفرائض، من أصل ستة آلاف ونيف جلها متشابه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم.

إنه ابتلاء عظيم لأنا إذا رفعنا من القرآن المتشابه فيه ـ كما رُفع أكثر المنسوخ في العرضة الأخيرة ـ فماذا يبقى من القرآن؟؟

إنه ابتلاء عظيم لأنه، إذا كان أكثر القرآن من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، فكيف ينسجم هذا الواقع المذهل مع عقيدة إعجاز القرآن؟؟

إنه ابتلاء عظيم لأن علم المتشابه للخاصة، ((والراسخون في العلم يقولون: آمنَّا، كلٌّ من عند ربنا)) ! بينما القرآن لعامة الناس من العرب والعجم: فكيف يخاطب الله عامة عباده خطاباً متشابهاً ((لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم)) ؟؟

متشابه القرآن واقع قرآني مرير، ومثار شبهات مؤلمة للمؤمن وغير المؤمن.

أجل متشابه القرآن ابتلاء دائم للعباد2 . ومثله المنسوخ، وهو يقع في المحكم من القرآن.

ــــــــــــــــ

( 1 ) السيوطي: الإتقان 12:2.

( 2 ) وهذا الابتلاء بمتشابه القرآن وحيرة المسلمين به عاصر الإسلام منذ نشأته: روى السيوطي أيضاً ((أخرج الدرامي في مسنده أن رجلاً يقال لـه صبيغ قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر ـ وقد أعدّ له عراجين النخل ـ فقال: مَن أنت! قال أنا عبد الله بن صبيغ. فأخذ عمر عرجوناً فضربه به حتى أدمى رأسه (وفي رواية عنده فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة). ثم تركه حتى برَأ: ثم عاد ثم تركه حتى برأ. فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلي، فاقتلني قتلاً جميلاً. فأذن لـه إلى أرضه. وكتب إلى أبي موسى الأشعري ((لا يجالسه أحد من المسلمين)) . (الإتقان 4:2)

ـ 126 ـ

الفصل العاشر

 

 

الناسخ و المنسوخ في القرآن1

قال السيوطي في إتقانه: ((إن النسخ مما خصّ الله به هذه الأمة لحِكم منها التيسير)) .

ونرى هذه الظاهرة الفريدة في القرآن والسنة وإجماع الأمة.

فما معنى النسخ المقصود؟

يرد النسخ بمعنى الإزالة ومنها قوله ((فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يُحكم الله آياته)) (حج 52). فأحكام الآيات يأتي في القرآن أحياناً لتقويم المتشابه أو لإبانة تنزيل منسوخ. ويرد بمعنى التبديل ((وإذا بدلا آية مكان آية، والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفترٍ! )) (نحل 101) فهذا التبديل في آي القرآن كان عندهم مثار شبهات. ويرد بمعنى التحويل كتناسخ المواريث بمعنى تحويل الميراث من واحد إلى واحد، وهذا يدل على تطور في التشريع المنزل في القرآن: ((قال مكي: الناسخ أقسام: فرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كنسخ الحبس للزواني بالحد؛ وفرض نسخ فرضاً، ويجوز العمل بالأول كآية المصاهرة؛ وفرض نسخ ندباً، كالقتال كان ندباً ثم صار فرضاً؛ وندب نسخ فرضاً كقيام الليل نُسخ بالقراءة في قوله ((فاقرأوا ما تيسر من القرآن2)) .

*

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 20:2

( 2 ) وهذه الأنواع لناسخ القرآن مثار شبهات: كيف يصح العمل بفرض منسوخ؟ وكيف يصح نسخ فرض بندب؟ في زمن واحد، وكتاب واحد على يد نبي واحد؟

ـ 127 ـ

وللنسخ في القرآن تاريخ مذهل، انفرد به دون سائر الكتب المنزلة. فقد تم تطور الناسخ للمنسوخ وتصفية المنسوخ بالناسخ حتى بقي منه القليل في القرآن العثماني الحالي على ثلاثة مراحل: في زمن النبي، وفي زمن جمع القرآن، وفي القرآن العثماني الحجّاجي الحالي:

كان النبي يبدّل مع جبريل في آي القرآن في مكة والمدينة. وقد أشـارت آيـة النحل (101) هذا الواقع المتواصل في العهدين، وإلى ما كان لـه من شبهات ومآخذ عند المشركين والكتابيين والمسلمين. وكانت الغاية من هذا التبديل أن ((يُحكم الله آياته)) التي كانت قبلاً غير محكمة. وجاءت آية البقرة ((ما ننسخ من آية ـ أو نُنْسِها ـ نأتِ بخير منها أو مثلها)) (106) فجعلت من الواقع مبدأ وقاعدة مضطردة. ونوّهت أن التبديل والنسخ قد يكونان ((بالنسيان1 )) بدون بدل أو ناسخ. أخرج الطبراني عن ابن عمر أن النبي أقرأ رجلين سورة، فكانا يقرآن بها؛ فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله فذكرا له ذلك فقال (( إنها ممَّا نسخ ـ أي رفع ـ فالهوا عنها)) . ويتخذ النسخ شكلاً رابعاً جذرياً برفع القرآن المنزل من أصله بدون نسيان أو نسخ أو تبديل ((مثل حديث مروي عن أبي موسى الأشعري جاء فيه ((نزلت سورة نحو براءَة ثم رفعت؛ ومثل حديث رواه البخاري، عن أنس أنه نزل في قصة أصحاب بئر معونة قرآن قرأناه ثم رُفع2 )) .

وكان النسخ يقع على آيات أو مقاطع من سور أو على سور بكاملها كما نقلته الأخبار. وكان في آخر العهد النبوي يقع بالجملة كما ذكروا عما جرى في العرضة الأخيرة للقرآن قبل موت النبي: ((روى البخاري حديثاً عن فاطمة أن النبي أسر إليها بأن جبريل يعارضه بالقرآن كل سنة. وأنه عارضه في العام الذي توفي

ــــــــــــــــ

( 1 ) روى الأرجاني في (فضائل القرآن) أن النبي كان يصلي: ((اللهم ارحمني بالقرآن، اللهم ذكّرني منه ما نسيت وعلمني وجهلتُ)) (دروزة: القرآن المجيد 71).

( 2 ) دروزة: القرآن المجيد 90، قابل الإتقان 25:2.

ـ 128 ـ

فيه مرتين وقال ولا أراه إلا حضر أجلي. وروى البخاري حديثاً آخر جاء فيه: كان القرآن يُعرض على النبي كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قُبض فيه1 )). وما الغاية من هذا العرض في كل عام؟ ـ إحكام القرآن : ((قال البغوي في شرح السنة: إنَّ زيداً بن ثابت شهد العرضة الأخيرة التي بيّن فيها ما نُسخَ وما بقي، وكتبها لرسول الله وقرأها عليه. وكان يُقرِئ الناس بها حتى مات. ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه وولاه عثمان كتابة المصاحف1)).

وبعد أن أسقط النبي من القرآن في العرضة الأخيرة قبل موته ما نُسخ، فقد بقي منسوخ كثير تداوله القراء حتى تولى أمره عثمان بن عفان الخليفة الثالث. وكان علي بن أبي طالب قد جمع مصحفه حالاً بعد موت النبي: (( أخرج ابن سيرين حديثاً جاء فيه أن عليَّاً لما مات النبي قال آليتُ أن لا آخذ عليّ ردائي حتى أجمع القرآن. فجمعه. وأنه كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ2 )) . فجاء عثمان وحذف عند جمع القرآن كل ما استطاع إسقاطه من المنسوخ فلم يبقَ إلا ما أفلت من رقابته. قال أبو بكر الباقلاني: ((والذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزل الله وأمر بإثباته ورسمه، ولم ينسخه ولم يرفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان3 )) . وهذا الذي نُسخ أو رفعت تلاوته أو أسقطه عثمان، ما هو؟ ـ ((رُوي عن ابن عمر: لا يقولنَّ أحدكم أخذتُ القرآن كله، وما يدريه ما كله: فقد ذهب منه قرآن كثير. ولكن ليقل قد أخذتُ منه ما ظهر ... وروى المسوّر بن محزمة أن عبد الرحمن بن عوف قال: ألم نجد في ما أنزل علينا ((جاهدوا كما جاهدتم أول مرة)) فإنا لا نجدها. قال: أسقطت في ما أسقط من القرآن4 )) . وعن حميدة بنت أبي يونس قالت ((قرأ علي أبي وهو

ــــــــــــــــ

( 1 ) دروزة: القرآن المجيد 69.

( 2 ) دروزة: القرآن المجيد 55 .

( 3 ) دروزة: القرآن المجيد 73 .

( 4 ) دروزة: القرآن المجيد 59، قابل الإتقان 25:2 .

ـ 129 ـ

ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ـ وعلى الذين في الصفوف الأولى) قالت وهذه كانت قبل أن يغيّر عثمان المصاحف1 )) . وينقل السيوطي أمثالاً على ما أسقطه عثمان: منها حديث عن عائشة قالت: ((كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي ص. مائتي آية ـ وإن كانت لتعدل سورة البقرة، وفيها آية الرجم ـ فلمّا كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا ما هو الآن2 )). ومنها حديث عن أبي موسى الأشعري قال: ((نزلت سورةٌ نحو براءة ثم رفعت2!)) ومنها عنه أيضاً، قال: ((كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات نسيناها2)) وفي المستدرك عـن حذيفة قال: ((ما تقرأون ربعها ـ يعني براءَة2)) .

وهكذا فقد أسقط عثمان من المصحف ((قرآناً كثيراً)) ؛ ومنه المنسوخ الذي كان قد جمعه علي في مصحفه على ما نقلوا بالتواتر.

والقليل الباقي من المنسوخ ـ على وفرته ـ هو ما اجتهد فيه المؤلفون ((وقد أفرده بالتصنيف خلائق لا يحصون)) .

*

ولكن هل يصح النسخ في كتاب الله المنزل؟ ـ ((وقد أجمع المسلمون على جوازه. وأنكره اليهود ظناً منهم أنه بداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو لـه. وهو باطل لأنه بيان الحكم، وذلك لا يكون بداءً فكذا الأمر والنهي3 )) ـ لكل أجل كتاب: تلك سنة الله في خلقه؛ ويراعي الله الحكيم تطور البشرية في تنزيله ومن المعقول أن ينسخ في تشريعه من كتاب إلى كتاب. أما أن يقع النسخ في كتاب واحد، مع النبي ذاته، فهل يصح ذلك؟ ولكن هذا هو الواقع القرآني المدني في مدى عشر سنوات. وقد قال مكي ((لم يقع في المكي ناسخ4 )).

ــــــــــــــــ

( 1 ) اتقان 25:2 .

( 2 ) اتقان 25:2 .

( 3 ) قال السيوطي ((لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي، ولو بلفظ الخبر؛ أما الخبر الذي ليس بمعنى الطلب فلا يدخله النسخ ومنه الوعد والوعيد)) (اتقان 21:2).

( 4 ) الإتقان 24:2 .

ـ 130 ـ

وهناك مشكل آخر: ((اختلف العلماء فقيل: لا ينسخ القرآن إلا بقرآن كقوله تعالى: ((ما ننسخ من آية أو نُنسها، نأتِ بخير منها أو مثلها))؛ قالوا لا يكون مثل القرآن وخيراً منه إلا قرآن. وقيل بل يُنسخ القرآن بالسنة1 !)). وقد أجازوا ذلك وعملوا به. فهل يصح أن تنسخ سنةُ رسول كلام الله؟ وفاتهم أنَّ نسخ شريعة القرآن بسنة الرسول ـ أو بإجماع الجماعة ـ خيانة لكلام الله وجناية عليه، وفيه إشعار بتقصير التنزيل أو بتقصير الأمة في حقه.

*

ولهم في أنواع النسخ نظرية غريبة تحاول تفسير واقع مرير قالوا:

((النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب: أحدها ما نُسخ تلاوته وحكمه معا. قالت عائشة كان في ما أنزل عِشر رضعات معلومات فنسخت بخمس معلومات فتوفي رسول الله ص. وهنّ مما يقرأ من القرآن. رواه الشيخان. وقال الأشعري: نزلت ثم رُفعت. وقال مكي: هذا المثال فيه المنسوخ غير متلو والناسخ أيضاً غير متلو، ولا أعلم لـه نظيراً)) ـ فما الحكمة الإلهية في إنزاله ورفعه في مدة عشر سنوات؟؟

((والثاني ما نُسخ تلاوته دون حكمه مثل قوله: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)) ! فآية الرجم رفعت تلاوتها وبقي حكمها وسببه التخفيف على الأمّة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف وإن كان حكمها باقياً لأنه أثقل الأحكام وأغلظ الحدود وكانوا يتسافدون تسافد الحمر2 )). وقد أورد بعضهم سؤالاً وهو: ((ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلاّ أُبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ ـ أجابوا على ذلك أجوبة مختلفة والأصح أن ذلك كان للتخفيف)) والتستير2 !

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 26:2 – 27.

( 2 ) الإتقان 24:2 .

ـ 131 ـ

((والثالث ما نسخ حكمه دون تلاوته. وهذا الضرب هو الذي فيه الكتب المؤلفة في الناسخ والمنسوخ. وهو على الحقيقة قليل جداً وإن أكثر الناس من تعديد الآيات فيه1 )). ـ أمسى قليلاً بعد الذي أسقطه النبي والذي أسقطه عثمان. ـ ((وما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ الجواب من وجهين: أحدهما أن القرآن كما يُتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة؛ والثاني أن النسخ غالباً يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيراً للنعمة ورفع المشقة1 )).

((وأما ما ورد في القرآن ناسخاً لما كان عليه في الجاهلية أو كان في شرع من قبلنا أو في أول الإسلام فهو أيضاً قليل العدد كنسخ استقبال بيت المقدس بآية القبلة، وصوم عاشوراء بصوم رمضان، وفي أشياء أخر2 )).

ولهم نوع من النسخ يسمى ((المنسوخ بالاستثناء)). وهو ليس بمنسوخ حصراً بل استثناءً، ألحقوه في المنسوخ. وقد ذكر النحاس منه في كتابه (الناسخ والمنسوخ) ثلاثة وعشرين موضعاً3 .

ومن غريب الناسخ أن يرد أحياناً قبل المنسوخ. مثال ذلك في البقرة الآية 234 ((والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً: يتربّصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً)) ناسخة للآية 240 الواردة بعدها ((والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً: وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراجٍ)). ومثال ذلك في الأحزاب الآية 50 ((يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجا .. وما ملكت يمينك … وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك،

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 22:2 - 23 .

( 2 ) الإتقان 34:2 .

( 3 ) النحاس: الناسخ والمنسوخ 268 ذكر منها 4 في البقرة، و 3 في آل عمران و 3 في النساء وواحداً في المائدة والنحل ومريم والتوبة والنصر و 3 في الفرقان والشعراء .

ـ 132 ـ

وامرأة مؤمنة ...)) ناسخة للآية 53 التي بعدها ((لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبَدّل بهم من أزواج ولو أعجبك حسنهن)). فتأمل!

وقد اختلفوا في عدد الآيات المنسوخة. فاقتصر السيوطي ((على عشرين آية لا مزيد لها)) (الإتقان 22:2 - 23) وبلغت عند النحاس وابن حزم مئتين ونيفاً. وسنذكرها بالتفصيل في فذلكات السور إن شاء الله.

والمنسوخ في القرآن، مثل المتشابه، مشكل في تاريخه وواقعه يحار فيه المؤمن، وغير المؤمن. وهو أيضاً بلاء من الله عظيم، خصوصاً في انسجام واقع النسخ مع صحة التنزيل من اللوح المحفوظ حيث الناسخ والمنسوخ معاً حقيقة إلهية واحدة.

ـ 133 ـ

الفصل الحادي عشر

 

 

في ((غريب القرآن1 ))

في إعجاز القرآن باب هو أقرب إلى الغرابة منه إلى الإعجاز، يسمى (غريب القرآن).

والمراد بغريب القرآن مفردات من القرآن، وتعابير، وتراكيب، ((غرائب)) لها فيه معنى، اصطلح هو عليه، وجاءَ في غير المعنى اللغوي الذي تفيده اللفظة من وضعها الأصلي، فكانت كما يقول الرافعي ((مستغربة في التأويل)) وكما يقول السيوطي ((توقف العرب فيها فلم يعرفوا معناها)).

وغريب القرآن يقع عادة في مفرداته الغرائب، وهو (غريب القرآن) حصراً. وقد يقع في (أفراده) وفي استعماله للضمائر، وفي الوجوه والنظائر. وقد يقع في تراكيبه.

*

بحث أول: غريب القرآن في مفرداته

هذا النوع الأول من غريب القرآن يقع في ألفاظه الغريبة، وفي ألفاظه من غير لغة قريش، وفي ألفاظه من غير لغات العرب.

أولاً: غرائب ألفاظه

هذه الغرائب في القرآن جاءت فيه على اصطلاح لم توضع في لغة العرب قبله. قال الرافعي: ((وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب.

ــــــــــــــــ

( 1 ) راجع: السيوطي: الإتقان 115:1 - 200 والرافعي: إعجاز القرآن 74 - 76 .

ـ 134 ـ

وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة فإن القرآن منزه عن هذا جميعه. وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة، مستغربة في التأويل بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس. وجملة ما عدوه من ذلك في القرآن كله سبعمائة لفظة أو تزيد قليلاً)).

وقد رواها بسند صحيح عن ابن عباس، السيوطي في اتقانه (115:1) نقلاً عن الطبري والبخاري وغيرهما. من أمثال ذلك:

((مطهّرة: من القذر والأذى. وفي ذلكم بلاء: نعمة وقوامها الحنطة. إلا أماني: أحاديث. ما ننسخ من آية أو ننسها: نبدّل أو نتركها. حنيفاً: حاجّا. فلا جناح عليه: فلا حرج. ابن السبيل: الضيف. متوفيك: مميتك. كلالة: مَن لم يترك والداً ولا ولداً. المحصنات من النساء: كل ذات فروج. الرجال قوامون على النساء: أمراء. قانتات: مطيعات. الجبت: الشرك. أُولي الضرر: العذر. خلق الله: دين الله. الأزلام: القداح. الجوارح: الكلاب والفهود وسواها. لك نبإٍ مستقرّ: حقيقة. قنوات: دانية، أي قصار النخل. دراستهم (للتوراة والإنجيل): تلاوتهم. رجس: سخط. الصراط: الطريق. إن هي إلا فتنتُك: عذابك. إقلعي: اسكني. صنوان: مجتمع. له معقبات: ملائكة. طوبى: فرح وقرة عين. ييأس: يعلم. الفحشاء: الزنا. الرقيم: الكتاب. زبر الحديد: قطع الحديد. بشراً سويّاً: من غير خرس. حنانا: رحمة. لننسفنّه في اليم: لنذريه في البحر. خشعت الأصوات: سكنت. حصب جهنم: شجر جهنم. كطي السجل على الكتاب: كطي الصحيفة. تستأنسوا: تستأذنوا. هباءً منثوراً: ماءً مهراقاً. بورك: قُدِّس. المبارك: المقدس. صائركم: مصائبكم. غلبت الروم في أدنى الأرض: في طَرف الشام. دابة الأرض: الأرضة. منسأَته: عصاه. قطمير: الجلد على ظهر النواة. سعراء الجحيم: وسط الجحيم. بالعراء: بالساحل. عجّلْ لنا قِطَّنا: عذابنا. غسَّاق: الزمهرير. ماء غير آسن: غير متغيّر. ذو مِرَّة: ذو منظر حسن. من مارج من نار: خالص النار. برزخ: حاجز. نحاس: دخان النار. غسلين: حديد أهل النار. ضريع: شجر من نار. تعالى

ـ 135 ـ

جدُّ ربنا: فعله، أمره، قدرته، عظمته. فإذا قرأناه فاتبعْ قرآنه: فإذا بيّنّاه فاعملْ به. قمطريراً: طويلاً. الروح: ملاك من أعظم الملائكة خلقاً. روح القدس: الاسم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. سَفَرة: كتبة. عِلّيين: الجنة. غشاءً أحوى: هشيماً متغيّراً. القمَّل: الجراد الذي ليس لـه أجنحة. إصرَهم: عهدهم. ذات قرار ومعين: ذات خصب وماء ظاهر. المهيمن: الشاهد … الخ.

قال الرافعي: ((ومنشأ الغرابة أن يكون ذلك من لغات متفرقة، أو تكون مستعملة على وجه من وجوه الوضع يُخرجها مخرج الغريب: كالظلم، والكفر، والإيمان. ونحوها ممّا نُقِل عن مدلوله في لغة العرب إلى المعاني الإسلامية المحدثة. أو يكون سياق الألفاظ قد دلّ بالقرينة على معنى معين غير الذي يفهم من ذات اللفظ كقوله تعالى: ((فإذا قرأناه فاتبع قراءته)) أي فإذا بيّنَّاه فاعمل به. وكان الصحابة يسمّون فهم هذا الغريب (إعرابه1) لأنهم يستبينون معانيه ويخلصونها. وقد روى أبو هريرة في ذلك حديثاً: ((أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه)).

وفي (غريب القرآن) هذا، مشكل في مصادره، وفي مدى إعجازه.

قد نزل القرآن بلغة قريش، بلسان قومه ((لينذر أمَّ القرى وما حولها)): فمن أين جاءَه؟ هل من مصادره في البيئة التي جاءَ فيها، من اللغات الدينية العبرية والسريانية والحبشية التي كانت قائمة بين ظهرانيهم للصلاة وقراءة الكتاب المقدس؟ أم هل من سائر اللغات العربية غير الحجازية التي انتشر فيها القرآن بسبعة أحرف؟ قد يكون هذا وذاك. وقد يكون أسلوباً منه لتعجيزهم (بغريب القرآن).

هل في هذا التعجيز إعجاز؟ هل إعجازهم بغريب اللغة ((المستغربة في التأويل)) إعجاز في الفصاحة، وفي البيان والتبيين؟ حتى كان ابن عباس، ترجمان القرآن، ذلك المعجم اللغوي الحي الذي كانوا يرجعون إليه بعد النبي، يقول: ((كل القرآن

ــــــــــــــــ

( 1 ) وهو غير الإعراب النحوي الذي أفرد له السيوطي فصلاً آخر من إتقانه 180:1 .

ـ 136 ـ

أعلمه إلاَّ أربعا: غسلين، وحنانا، وأوّاه، والرقيم)). وحتى يُسأل أبو بكر الصديق عن معنى قوله: ((وفاكهة وأَبا)) فيقول: ((أيُّ سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إن أنا قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم!)) وحتى يقرأ عمر بن الخطاب على المنبر تلك الكلمة ((وفاكهة وأبا)) فيقول: ((هذه الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟)) ثم يرجع إلى نفسه فيقول: ((إن هذا لهو الكلف ياعمر1 ))!

إذا كان في القرآن سبعماية لفظة خرجت عن وضعها الأصلي في لغة العرب فكانت عند أَئْمّة الصحابة ((مستغربة في التأويل)) وإذا كان ((اللسان العربي المبين)) لا يستبينه أهله، والمقرّبون إلى النبي، فكيف يكون فصيحاً في لسانه، بليغاً في بيانه؟ (غريب القرآن) هذا، غرابة في الإعجاز البياني: أتعجيز هو أم إعجاز؟

*

ثانياً: ما وقع فيه بغير لغة الحجاز1

من (غريب القرآن) أيضاً ـ وهو الذي نزل بلسان قريش لينذر أم القرى وما حولها ـ ما وقع فيه بغير لغة الحجاز. وقد أفرد له السيوطي فصلاً في الإتقان، قال:

جاءَ في القرآن بلغة اليمن: ((وعن الحسن كنا لا ندري ما الأرائك حتى لقينا رجلاً من أهل اليمن فأخبرنا أن الأريكة عندهم الحجلة فيها السرير. كذلك (ولو ألقى معاذيره) أي ستوره بلغة أَهل اليمن. (لا وزر): لا حيلة بلغة أهل اليمن. (وزوجناهم بحور عين): لغة يمانية. (لو أردنا أن نتّخذ لهواً): اللهو بلسان اليمن المرأة. (أعصر خمراً): أي عنباً بلغة أهل عُمان فهم يسمون العنب خمراً. (أتدعون بعلاً) أي ربَّاً بلغة اليمن. (وفيها بوراً) هلكى بلغة

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 115:1 .

( 2 ) الإتقان 134:1 .

ـ 137 ـ

 

عمان. (فنقبوا) هربوا بلغة اليمن. (في الكتاب مسطوراً) أي مكتوباً وهي لغة حميرية يسمون الكتاب أُسطوراً.

وقال أبو القاسم في الكتاب الذي أَلفه، في هذا النوع، في القرآن بلغة كنانة: ((السفهاء: الجهال. خاسئين: صاغرين. شطره: تلقاءه. لا خلاف لهم:لا نصيب. وجعلكم ملوكاً: أحراراً. قبيلاً: عياناً. معجزين: سابقين. يغرب: يغيب. تركنوا: تميلوا. فجوة: ناحية.موئلاً: ملجأ. مبسون: آبون. دحوراً: طرداً. الخراصون: الكذابون. أسفاراً. كتباً. أقتّتْ: جُمعتْ. كنود: كفور للنعم ...

((وبلغة هزيل: الرجز: العذاب. شروا: باعوا. عزموا الطلاق: حقّقوا. صلداً: نقيّا. أناء الليل: ساعاته. فورهم: وجههم. مدراراً: متتابعاً. فرقانا: مخرجاً. حَرَّض: حضّ. عيلة: فاقة. وليجة: بطانة. انفروا: اغزوا. السائحون: الصائمون. العنت: الإثم. ببدنك: بدرعك. غمّة: شبهة. دلوك الشمس: زوالها. شاكلته: ناحيته. رجماً بالغيب: ظناً. ملتحداً: ملجئاً. يرجو: يخاف. هضماً: نقصاً. مدة: مغبرة. واقصدْ في مشيك: أسرعْ. الأجداث: القبور. ثاقب: مضيء. بالهم:حالهم. يهجعون: ينامون. ذنوباً: عذاباً. دسر: المسامير. تفاوت: عيب. أرجائها: نواحيها. أطواراً: ألواناً. بُرْداً: نـوماً. واجفة: خائفة. مسغبة: مجاعة. المبذّر: المسرف.

((وبلغة حمير: تفشلا: تجبنا. عثر: اطلع. سفاهة: جنون. زيلنا: ميزنا. مرجواً: حقيراً. السقاية: الإناء. حمإٍ مسنون: منتن. إمام: كتاب. ينغصون: يحركون. حسباناً: برداً. من الكبر عتياً: تحولا. مأرب: حاجات. خرَجَا: جَعَلا.غرامـاً: بلاءً. الصرح: البيت. أنكرُ الأصوات: أقبحها. يتركم: ينقصكم. مدينين: محاسبين. رابية شديدة: وبيلاً شديداً.

((وبلغة جرهم: جبَّار، مسلط. مرض: زنا. القطر: النحاس. محشورة: مجموعة. معكوفاً: محبوسا. فباؤوا: استوجبوا. شقاق: ضلال. خيراً: مالا.

ـ 138 ـ

كدأب: كأشباه. تعولوا: تميلوا. يغنوا: يتمتعوا. شرّدَ بهم: نكَّل. أراذلنا: سفلتنا. عصيب: شديد. لفيفاً: جميعاً. محسوراً: منقطعاً. حدب: جانب. الخلال: السحاب. الودق: المطر. شرذمة: عصابة. ريع: طريق. ينسلون: يخرجون. شوباً: مزجاً. الحبك: الطرائق. سور: الحائط.

(( وبلغة أزد شنوءَة: لا شِية: لا وَضَح. العضل: الحبس. أمة: سنين. الرس: البِئر. كاظمين: مكروبين. غسلين: الحار الذي تناهى حرُّه. لوّاحة: حَرَّاقة.

(( وبلغة مذحج: رفث. جماع. مقيتاً: مقتدراً. بظاهر من القول: بكذب. الوحيد: الغناء. حقبا: دهراً. الخرطوم: الأنف.

(( وبلغة خثعم: تسيمون: ترعون. مريج: منتشر. صَفَتْ: مالت. هلوعاً: ضجوراً. شططا: كذباً.

(( وبلغة قيس عيلان: نحلة: فريضة. حرج: ضيق. خاسرون: مضيعون. تفندون: تستهزئون. صياصيهم: حصونهم. تجرون: تنعمون. رجيم: ملعون.

(( وبلغة كندة: فجاجاً: طرقاً. بسَّت: فتتت. تبتئس: تحزن.

(( وبلغة حضرموت: ربيون: رجال. دمّرنا: أهلكنا. لغوب: اعياء. منسأته: عصاه.

(( وبلغة غسَّان: طفقاً: عمداَ. بئيس: شديد. سيءَ بهم: كرَّههم.

(( وبلغة لخم: إملاق: جوع. ولتعلُنّ: تقهرُنّ.

(( وبلغة جذام: فجاسوا خلال الديار: تخللوا الأزقة.

(( وبلغة اليمامة: حصرت: ضاقت.

(( وبلغة بني حنيفة: العقود: العهود. الجناح: اليد. الرهب: الفزع.

(( وبلغة طيء: ينعق: يصيح. رغداً: خصباً. سَفِه نفسه: خسرها. يسن: يا إنسان.

ـ 139 ـ

 

(( وبلغة خزاعة: أفيضوا: انفروا. الافضاء: الجماع.

(( وبلغة تميم: أمد: نسيان. بغيا: حسداً.

(( وبلغة أنمار: طائره: عمله. أغطشَ: أظلم.

(( وبلغة الأشعريين: لأحتنكنّ: لأستأصلن. تارة: مرة. اشمأزت: مالت ونفرت.

(( وبلغة الأوس: لينة: النخل.

(( وبلغة الخزرج: ينفضوا: يذهبوا.

(( وبلغة مدين: فافرق: فاقض.

(( وبلغة ثقيف: العدل: الميل طائف من الشيطان: نخسة.

(( وبلغة ثعلب: الأحقاف: الرمال.

(( وبلغة همذان: الريحان: الرزق. العينا: البيضاء. العبقري: الطنافس ...)) .

قال أبو بكر الواسطي: ((في القرآن من اللغات خمسون لغة)) .

هذا في الألفاظ. وفي تركيب الكَلِم قال ابن عبد البِرّ في (التمهيد): قول من قال نزل بلغة قريش، معناه عندي الأغلب لأن غير لغة قريش موجودة في جميع القراءات، من تحقيق الهمزة ونحوها وقريش لا تهمز. قال ابن مالك: أنزل الله القرآن بلغة الحجازين إلا قليلاً فإنه نزل بلغة التميميين كالإدغام (من يشاق الله. مَن يرتدّ منكم عن دينه) فإن إدغام المجزوم لغة تميم ولهذا قلَّ، والفك لغة الحجاز ولهذا كثر. وهذا غير ما جاء فيه من أساليب لغة نجد.

والمشكل الذي يستعصي حله: نزل القرآن بلسان قريش، فمن أين جاء فيه خمسون لغة من لغات العرب؟ وكذلك من أين دخله أساليب عِدّة من أساليبهم في تركيب الكَلِم مدموجة في أساليب لغة قريش؟ ـ وهل من تمازج اللغات في لغة الشعر الجاهلي الذي تبعها القرآن؟ أم من رواسب الأحرف السبعة التي تفرّقت في القبائل؟ فأين بعدها إعجاز اللسان القرشي المبين؟

ـ 140 ـ

قال الواسطي: ((كلام قريش سهل لين واضح، وكلام العرب وحشي غريب)). فكيف ينسجم هذا الوحشي الغريب من خمسين لغة في القرآن، مع لسان قريش السهل اللين الواضح الذي نزل به القرآن لينذر أمَّ القرى وما حولها؟

*

ثالثاً: ما وقع فيه بغير لغة العرب1

ومن أغرب ما في (غريب القرآن) ما وقع فيه بغير لغة العرب.

قال الرافعي: ((عدَّ العلماء في القرآن من غير لغات العرب أكثر من مئة لفظة ترجع إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعِبْران والقبط. وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها، فصارت بذلك عربية. وإنما وردت في القرآن لأنه لا يسدُّ مسدها إلا أن توضع لمعانيها ألفاظ جديدة على طريقة الوضع الأول)).

وهذه بعضها عن السيوطي: ((أباريق: من إبريق، فارسي ومعناه طريق الماء أو صب الماء على هينة. أب: هو الحشيش بلغة أهل الغرب. ابلعي ماءَكِ: بالحبشة ازدرديه، أو اشربي بلغة الهند. أخلد: ركن إلى الأرض بالعبرية. الأرائك: السرر بالحبشية واليمنية. الأسباط: بالعبريـة قبائل. استبرق: الديباج الغليظ بلغة العجم. أسـفار: هي الكتب بالسريانية وقيل بالنبطية؛ (وعندنا إنها عبرية انتقلت إلى اللغات المجاورة). أكواب: الأكواز بالنبطية، أو جرار ليس عري. آل: اسم الله بالنبطيّة. أليم: موجع بالعبرانية وقيل بالزنجية أيضاً. إناه: نضجه بلغة أهل الغرب، البربر. من عين آنية: حارة بلغة البربر. الاوّاه: الموقن بالحبشية، أو الرحيم، وهو الدعاء بالعبرية. الأوّاب، أوّبي: المسبّح، سبحي بلسان الحبشة. الجاهلية الأولى أي الآخرة، والملّة الآخرة أي الأولى

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 136:1.

ـ 141 ـ

بالقبطية، والقبط يسمون الآخرة الأولى، والأولى الآخرة. (نقول: إذا كان الأمر كذلك، فهل يصح وجه من وجوه الفصاحة لاستعارة هذه الألفاظ القبطية، والعربية بغني عنها، وفصاحتها في حياة منها؟). بطائنها من استبرق: ظواهرها بالقبطية. كيل بعير أي كيل حمار، والبعير كل ما يحمل عليه بالعبرية. بيعة، وكنيسة قيل من الفارسـية؛ (والأصح عندنا من العبرية فالسريانية). فناداها من تحتها أي من بطنها بالنبطية. اضبت: اسم الشيطان بالحبشية. حصب جهنم: حطب بالزنجية. وقولوا، حطة: صواباً بالعبرية. درست: قارأت بلغة اليهود. درّي: مضيء بالحبشية. ربَّانيّون: العرب لا تعرف معناها، وإنما هي عبرانية أو سريانية. الرحمان: ذهب المبرد وثعلب إلى أنه عبراني وأصله بالخاء المعجمة. الرقيم: اللوح بالرومية وقيل الدواة فيها. رمزاً: تحريك الشفتين بالعبرية. زنجبيل: فارسي. السجل: الرجل بالحبشية، والكتاب بالفارسية. سجّيل: فارسية: طين كالحجر. سجّين: غير عربي(؟). سرداق: ستر الدار بالفارسية. سريّ: نهر بالرومية أو السريانية أو النبطية. سفرة: القراء بالنبطية. ادخلوا الباب سُجّداً: مقنّعي الرؤوس بالسريانية. سكراً: هو الخل بالحبشية (نقول لا بل هو المسكر بالعبرية واصله شكر، وقد ورد كثيراً في الأنبياء). سندس: رقيق الديباج بالفارسية. وألفى سيّدَها لدى الباب: زوجها بلسان القبط، قال أبو عمرو: ولا أعرفها بلغة العرب. سينين، سيناء: هو الحسن بالنبطية. شطر المسجد الحرام: تلقاءَه بلسان الحبش. الصراط: الطريق بلغ الروم. صلوات: قال الجواليقي هي بالعبرية كنائس اليهود وأصلها ((صلوتا)) (وفي السريانية أيضاً). طه: يا رجل بالنبطية، وقيل بالحبشية. الطاغوت: الكاهن بالحبشية. طوبى: اسم الجنة بالحبشية، وقيل بالهندية. الطور: الجبل بالسريانية وقيل بالنبطية. جنات عـدن: جنات الكروم والأعناب بالسريانية، وقيل بالرومية. سيل العرم: المسنات بالحبشية، يُجمع فيها الماء.غساق: البارد المنتن بلسان الترك (أقول: متى وجدوا؟ وكيف وصل إلى الحجاز والقرآن؟). فردوس: بستان، بالرومية. فوم: الحنطة بالعبرية. قسط: عدل بالرومية.

ـ 142 ـ

القسطاس: الميزان بلغة الروم. قسورة: الأسد بالحبشية. قملّ: قال أبو عمرو لا أعرفه في لغة أحد مـن العرب. القيوم: الذي لا ينام بالسريانية. كفّر عنَّا سيئاتنا: معناه امـحُ بالنبطية، وقيل بالعبرانية. كفلين: ضعفين بالحبشية. لينة: قال الكلبي هي النخلة ولا أعلمها إلا بلسان يهود يثرب (نقول: هل اقتضى الاعجاز إنزالها بدل لفظة نخلة العربية؟). المشكاة: الكوّة بلغة الحبشة. مقاليد: مفاتيح بالفارسية. مزجاة: قليلة بلسان العجم. ملكوت: هو الملك بكلام النبطية ((ملكوتاً)). مِنسأَة: العصا بلسان الحبشة. ناشئة الليل: قيام الليل بالحبشية. مهل عكر الزيت بلغة البربر. (نقول وهذه الألفاظ: مهل، ناشئة، منسأة، مزجاة، مقاليد، مشكاة، ألا تفي مرادفاتها العربية بسحر بيانها؟). يمشون على الأرض هونا: حكماء بالسريانية وقيل بالعبرية. هيت لك: هلمَّ لك بالقبطية وقيل بالسريانية وقيل بالعبرية وأصله: هَيْتَـلجْ أي تعالَ. وراء: معناه أمام النبطية. ظن أنه لن يحور: لن يرجع بلغة الحبشة. يسن: يا إنسان، يا رجل بالحبشية (مثل طه): يصدّون: يضجون: بالحبشية. يصهر: ينضج بلسان أهل المغرب. اليم: البحر بالعبرانية أو السريانية أو القبطية. وقال السيوطي. هذا ما وقفت عليه من الألفاظ المعربة في القرآن بعد الفحص الشديد سنين ولم تجتمع قبل في كتاب قبل هذا)).

وعليه نقول: لقد قام جدل طويل بين أهل العربية والفقهاء على جواز وقوع الكَلم المعرَّب من اللغات الأعجمية في القرآن. وقد حُكي القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية. ومصدر الخلاف مبدأ وواقع. جاءَ في القرآن إنه نزل بلسان عربي مبين، وذلك لأنه ((ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)) ولو أنزل أعجمياً لاحتجّت العرب: ((ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا، لولا فصلت آياته! أعجمي وعربي؟)) . والواقع يشهد كما رأينا أن فيه نحو مئة لفظة أصولها غير عربية.فاضطرهم هذا الواقع إلى تأويل معنى آيات ((اللسان العربي المبين)).

فقد شدد الشافعي ومن لفّ لفه النكير على من قال بأن فيه ألفاظاً

ـ 143 ـ

أعجمية. ونسب القول إلى جهل قائليه بالعربية قائلاً في (الرسالة): لا يحيط باللغة إلا نبيّ! ـ كأن معرفة اللغة من أصول النبوّة !! ـ وزاد عليه أبو عبيدة: إنما نزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول. وأكد ابن أوس: لو كان فيه من لغة غير العرب شيء لتوهم متوهّم أن العرب إنما عجزت عن الاتيان بمثله لأنه أتى بلغات لا يعرفونها.

أجاب الفقهاء وقالوا بالوقوع، تجاه الأمر الواقع، وأفادوا بإن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن كونه ((بلسان عربي مبين)). ويميل السيوطي إلى هذا الرأي: ((حكي القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية. والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعاً. وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحوّلتها من ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية. ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب: فمن قال إنها عربية فهو صادق ومن قال عجمية فهو صادق)).

فهي إذن دخيلة على العربية وليست أصيلةً فيها ـ والبليغ لا يستعمل الدخيل إذا كان في لغته غنىً عنه. لذلك نقول: ألم يكن في العربية الفصحى مفردات تقوم مقام هذه الألفاظ الدخيلة على لغة القرآن والعربية؟ هل لغتها أفصح من مثيلاتها العربية؟ وهل هذا الكَلِم الدخيل أبلغ من مثيله العربي في البيان والتبيين؟ وهل اقتضى إعجاز القرآن استعمالها لأنه لا يمكن أن ينزل منزلتها من العربية لفظ؟ ـ عدْ إلى الألفاظ وقابلها بأمثالها العربية تجد الجواب الحق من سليقتك: فتجد أنها جاءت من باب التعجيز لا من باب الإعجاز.

ومن الغرابة أيضاً أنهم وجدوا في (غريب القرآن) الدخيل ظاهرة أخرى من إعجاز القرآن. قال السيوطي: ((وأقوى ما رأيته للوقوع ـ وهو اختياري ـ ما أخرجه ابن جرير الطبري بسند صحيح من أبي ميسرة التابعي الجليل قال: ((في القرآن من كل لسان))! وحكمته أنه حوى، كما قال غيره،

ـ 144 ـ

علوم الأولين والآخرين، ونبأ كل شيء: فلا بد أن تقع الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاطته بكل شيء. وصرّح ابن النقيب بذلك فقال: من خصائص القرآن على كل سائر كتب الله المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزِلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم. والقرآن احتوى على جميع لغات العرب وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير)).

وهذا المنطق أغرب من غريب القرآن الدخيل. كيف يُعجز أهلَ اللسان العربي المبين، كَلِمٌ دخيل من كل لسان لا يعرفونه، وإذا عرفوا معناه لا يتذوقونه لأنه ليس من أصول لغتهم البيانية. ومن الجهل بالتوراة والنبيين قول من قال إنه ليس فيها من كلام غير قومها شيء. فالاقتباسات اللغوية والبيانية والتشريعية من المصريين والبابليين فيها قائمة. وإذا كان لنبي من معجزة في نزول نبوية بلسان غيره مع لسان قومه فهذه الميزة خاصة بالانجيل لأن المسيح نطق به بالآرامية، ونزل على كتبته باليونانية، والأصل المنزل الوحيد يوناني كله. وليس من ميزة بنزول الوحي في لغة وليس من إعجاز في أقحام الدخيل على هذه اللغة.

*

البحث الثاني: غريب القرآن في ((الأفراد)) والضمائر والنظائر

ويلحق بغريب القرآن استعماله الغريب للضمائر والأفراد، والوجوه والنظائر.

أولاً: (الضمائر) في القرآن

في استعمال القرآن للضمائر إعجاز وتعجيز.

قال السيوطي: ((أصل وضع الضمير للاختصار. ولهذا قام قوله ((اعدَّ الله لـه مغفرة وأجراً عظيماً)) مقام خمس وعشرين كلمة لو أتى بها مظهرة. وكذا قوله ((وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ)): قال مكي ليس في كتاب الله آية اشتملت على ضمائر أكثر منها فإن فيها خمسة وعشرين ضميراً)).

ـ 145 ـ

ويذكر (الإتقان) لاستعمال الضمائر قواعد:

(قاعدة) الأصل عود الضمير على أقرب مذكور. واختلف في قوله ((أوْ لَحْمَ خنزير فإنه رجس)) فمنهم مًن أعاده إلى المضاف ومنهم من أعاده إلى المضاف إليه.

(قاعدة) والأصل توافق الضمائر في المرجع حذراً من التشتيت؛ ولهذا لما جوّز بعضهم في ((أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليمّ)) أن الضمير في الثاني للتابوت وفي الأول لموسى؛ عابه الزمخشري وجعله تنافراً مخرجاً للقرآن عن إعجازه فقال: والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة، لِما يؤدي إليه من تنافر النظم الذي هو أُمّ اعجاز القرآن. وقال ((ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروه ويوقروه ويسبحوه)) . الضمائر لله تعالى، والرسول؛ وقد يخرج عن هذا الأصل أيضاً قوله: ((ولا تستفتِ فيهم منهم أحداً)) فإن ضمير (فيهم) لأصحاب الكهف (ومنهم) لليهود، قاله ثعلب والمبرد. ومثله: ((ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم، و ضاق ذرعاًب)) ، قال ابن عباس: ساء ظنّاً بقومه وضاق ذرعا بأضيافه. وقوله ((ألا تنصروه ـ الآية)) فيها اثنا عشر ضميراً لها للنبي ص. ألا ضمير (عليه) فلصاحبه، كما نقله السهيلي عن الأكثرين.

(قاعدة) وجمع العاقلات لا يعود عليه الضمير غالباً الا بصيغة الجمع سواءً كان للقلة أو للكثرة نحو ((والوالدات يرضعن والمطلقات يتربصن)) ؛ وورد الأفراد في قوله: ((والزوابع مطهّرة)) ولم يقل مطهرات.

(قاعدة) إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللفظ والمعنى بُدئ باللفظ ثم بالمعنى. هذا هو الجادة في القرآن ... ولم يُبح في القرآن البداءة بالحمل على المعنى إلا في موضع واحد ((وقالوا: ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرَّمعلى أزواجنا)) فأتت ((خالصة)) حملاً على معنى (ما) ثم راعى اللفظ فقال ((محرم)) .

*

ثانياً: (الأفراد) في القرآن:

الأفراد في القرآن ألفاظ جاءَت مضطردة بمعنى مألوف في كل المواضع، إلا في موضع خالف العرف والعادة، وشذَ عنهما، وبهذا الشذوذ صار غريباً.

ـ 146 ـ

وقد أفرد السيوطي لها فصلاً في الإتقان (1: ) نقلاً عن ابن فارس في كتابه (الأفراد) قال: ((كل ما في القرآن من ذكر الأسف فمعناه الحزن إلاّ ((فلما آسفونا)) فمعناه أغضبونا. وكل ما فيه من ذكر البروج فهي الكواكب إلا ((ولو كنتم في بروج مشيدة)) فهي القصور الطوال الحصينة. وكل ما فيه من ذكر البرّ والبحر فالمراد بالبحر الماء وبالبر التراب اليابس إلا ((ظهر الفساد في البر والبحر)) المراد به البريّة والعمران. وكل ما فيه بخس فهو النقص إلا ((بثمن بخس)) أي حرام. وكل ما فيه من البعل فهو الزوج إلا ((أتدعون بعلاً)) فهو الصنم. وكل مافيه من البكم فهو الخرس عـن الكلام بالأيمان إلا ((عميا بكماً وصماً)) في (الاسراء) و((أحدهما أبكم)) في (النحل) فالمراد به عدم القدرة على الكلام مطلقاً. وكل ما فيه جثيا فمعناه جميعاً الا ((وترى كل امة جاثية)) فمعناه تجثو على ركبها. وكل ما فيه من حسبان فهو العدد إلا ((حسبان من السماء)) في (الكهف) فهو العذاب. وكل ما فيه حسرة فالندامة الا ((ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم)) فمعناه الحزن. وكل ما فيه من الدحض فالباطل الا ((فكان من المدحضين)) فمعناه من المقروعين. وكل ما فيه من رجز فالعذاب الا ((والرجز فاهجره)) فالمراد به الصنم. وكل ما فيه من ريب فالشك الا ((ريب لامنون)) يعني حوادث الدهر. وكل ما فيه من الرجم فهو القتل الا ((لأرجمنَّك)) فمعناه لأشتمنّك، ((ورجماً بالغيب)) أي ظناً. وكل ما فيه من الزور فالكذب مع الشرك إلا ((منكراً من القول وزوراً)) فإنه كذب غير الشرك. وكل مافيه من زكاة فهو المال الا ((وحنانا من لدنا وزكاة)) أي طهرة. وكل ما فيه من الزيغ فالميل الا ((وإذا زاغت الأبصار)) أي شخصت. وكل ما فيه من سخر فالاستهزاء الا ((سخريّاً)) في (الزخرف) فهو من التسخير والاستخدام. وكل سكينة فيه طمأنينة الا التي في قصة طالوت ((التابوت فيه سكينة من ربكم)) فهو شيء كرأس الهرّة له جناحان1 . وكل سعير فيه فهو النار والوقود إلا ((في ضلال وسعر)) فهو العناء. وكل شيطان فيه فابليس وجنود الا ((وإذا خلوا إلى

ــــــــــــــــ

( 1 ) السكينة في التابوت كلمة عبرية هي الشخينة أي سكنى الله في التابوت: فتأمل؟

ـ 147 ـ

شياطينهم)). وكل شهيد فيه غير القتلى فهو مَن يشهد في أمور الناس الا ((وادعوا شهداءكم)) فهو شركاؤكم. وكل ما فيه من أصحاب النار فأهلها الا ((وما جعلنا أصحاب النار الا ملائكة)) فالمراد خزنتها. وكل صلاة فيه عبادة ورحمة الا ((وصلوات ومساجد)) فهي الأماكن1 . وكل صمم فيه ففي سماع الايمان والقرآن خاصة الا الذي في (الاسراء). وكل عذاب فيه فللتعذيب الا ((وليشهد عذابهما)) فهو الضرب وكل قنوت فيه طاعة الا ((كل لـه قانتون)) معناه مقرّون. وكل كنز فيه مال الا الذي في (الكهف) فهو صحيفة علم. وكل مصباح فيه كوكب الا الذي في (النور) فالسراج. وكل نكاح فيه تزوج الا ((حتى إذا بلغوا النكاح)) فهو الحلم. وكل نبإٍ فيه خبر الا ((فعميت عليهم الأنباء)) فهي الحجج. وكل ما ورد فيه فهو دخول الا ((ولما ورد ماء مدين)). يعني هجم عليه ولم يدخله. وكل ما فيه ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)) فالمراد منه العمل الا التي في (الطلاق) فالمراد منه النفقة. وكل يأس فيه قنوط الا التي في الرعد فمن العلم. وكل صبر محمود الا ((لولا أن صبرنا عليها. واصبروا على آلهتكم2 )). هذا آخر ما ذكره ابن فارس.

ولاحظ بعضهم كيف تتغيّر مفاهيم الكلِم بين العربية والقرآن فقال: في صحيح البخاري قال سفيان بن عينية: ما سمى الله المطر في القرآن الا عذاباً وتسميه العرب الغيث، سوى قوله ((ان كان بكم أذى من مطر)) فإن المراد به الغيث قطعاً. ولاحظ بعضهم اختلاف التعبير من موضعٍ إلى موضع: قيل كل شيء ذكره الله بقوله ((وما أدراك)) فسرّه، وكل شيء ذكره بقوله ((وما يدريك)) تركه ولم يخبر به، وقد ذكر ((ما أدراك ما سجين؟ وما أدراك ما علّيون)) وما فسّر الكتاب ولا السجين ولا العليون ...

ــــــــــــــــ

( 1 ) صلوات: نقل القرآن فيها الكملة السريانية ((صلوتا)) لفظاً ومعنى، أي مكان الصلاة والعبادة.

( 2 ) قال أحدهم: كل ما في القرآن من صوم فهو العبادة الا ((نذرتُ للرحمن صوماً)) أي صمتاً.

ـ 148 ـ

ففي هذه (الافراد) الذي شذّ بها القرآن على ما تواتر فيه من معناها، ما وجه الفصاحة والبلاغة في ذاك الشذود؟ وقد تدل على المعنى قرينة لفظية أو معنوية، ولكن هل ذلك من وضع اللفظ الأصلح للمعنى الأصلح في المحل الأصلح كما يقضي الاعجاز اللغوي والبياني؟ خصوصاً والشواذ ظاهر لتواتر معانيها الأصلية في القرآن كله بخلاف هذه المواضع المفردة، ولذلك سُميت (أفراداً).

*

ثالثاً: في معرفة الوجوه و النظائر1

قال السيوطي ((فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معانٍ كلفظ الأمة، والنظائر كالألفاظ المتواطئة. وقيل: النظائر في اللفظ، والوجوه في المعاني. وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجها وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر)) . ووجدوا لهذا النوع من الاعجاز حديثاً: ((لن تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً)). من أمثال ذلك ((الهدى)) ، يأتي على سبعة عشر وجهاً: بمعنى الثبات والبيان والدين والايمان والدعاء؛ وبمعنى النبي والقرآن والتوراة، والاسترجاع والحجة والتوحيد والسنّة والاصلاح والالهام والتوبة والارشاد. ومن ذلك ((الرحمة)) فقد وردت على أوجه: الإسلام والايمان والجنة والمطر والنعمة، والنبوة والقرآن والنصر والمودّة والسعة والمغفرة والعصمة.

ومن ذلك ((السوء)) يأتي على أوجه: الشدّة، والعقر، والزنا، والبرص، والعذاب، والشرك، والشتم، والذنب، وبمعنى بئس، والضر، والقتل والهزيمة.

ومن ذلك ((الصلاة)) تأتي على أوجه أيضاً منها الصلاة، والجنازة، والدعاء، والدين والقراءَة، والرحمة والاستغفار، ومواضع الصلاة.

ــــــــــــــــ

( 1 ) السيوطي: الإتقان 142:1.

ـ 149 ـ

 

ومن ذلك ((الفتنة)) وردت على أوجه: منها الشرك، والاضلال، والقتل، والصد، والضلالة، والمعذرة، والقضاء، والإثم، والمرض، والعبرة، والعقوبة، والاختيار، والعذاب، والإحراق، والجنون.

ومن ذلك ((الروح)) جاء بمعنى: الأمر، والوحي نحو ((ينزل الملائكة بالروح من أمر ربهم))، والقرآن نحو ((أوحينا إليك روحاً من أمرنا)) والرحمة، والحياة، وجبريل ((فأرسلنا إليها روحنا)) وملاك عظيم ((يوم يقوم الروح)) ، وجيش من الملائكة ((تنزل الملائكة والروح فيها)) وروح البدن.

ومن ذلك ((القضاء)) جاء بمعنى: الفراغ، والأمر، والأجل، والفضل، والمضي، والهلاك، والوجوب، والابرام، والإعلام، والوصية، والموت، والنزول، والخلق، والفعل، والعهد.

ومن ذلك ((الذكر)) ورد على أوجه: ذكر اللسان، وذكر القلب، والحفظ، والطاعة والجزاء، والصلوات الخمس ((فإذا آمنتم فاذكروا الله))، والعظة، والبيان، والحديث، والقرآن، والتوراة، والخبر، والشرف، والعيب، واللوح المحفوظ، والثناء، والوحي، والرسول، والصلاة، وصلاة الجمعة، وصلاة العصر.

ومن ذلك ((الدعاء)) جاء بمعنى: العبادة والاستعانة، والسؤال، والقول والنداء، والتسمية ((لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعائكم بعضكم بعضاً)) .

ومن ذلك ((الاحصان)) ورد على أوجه: العفة ((الذين يرمون المحصنات))، والتزوّج ((فإذا أحصنَّ)) والحرية ((نصف ما على المحصنات من العذاب)) .

راجع أمثلتها من القرآن في الإتقان (145:1).

نقول وهذا نوع آخر من (غريب القرآن) تأتي فيه اللفظة الواحدة بمعانٍ متعدّدة، متقاربة حيناً. وحيناً متباعدة، وحيناً متعاكسة متعارضة. وقد تدل عليها قرينة لفظية أو معنوية. ولكن هل هذا التشعّب والتعدد والتنوّع والتعارض في معاني لفظ واحد هو حقاً من الاعجاز. ألا يذكرنا قول أحدهم على

ـ 150 ـ

تعدد معنى الروح في القرآن: ((مضى الرسول ولمَّا يدرِ ما الروح)) إن كثرة الوجوه والنظائر على اللفظ الواحد أقرب إلى التعجيز منه إلى الاعجاز؟

قال السيوطي: ((وقد جعل بعضهم ذلك النوع من الاعجاز من أنواع معجزات القرآن حيث كانت الكلمة الواحدة تنصرف إلى عشرين وجهاً، وأكثر وأقل، ولا يوجد ذلك في كلام البشر)). لا بل ألا يعني تعارض هذه الوجوه في اللفظة الواحدة، مثل الاحصان الذي يرد بمعنى العفة والتزوّج، على أن هذا النوع الآخر من ((غريب القرآن)) هو أقرب إلى الغرابة منه إلى الاعجاز المعجز؟ وتعداد المعاني في اللفظ الواحد يولد الغموض: ومتى كان الغموض من الفصاحة والبلاغة في البيان والتبيين ؟!

*

البحث الثالث: (غريب القرآن) في بعض تراكيبه وتعابيره

وقد يمتد (غريب القرآن) إلى بعض تراكيبه وتعابيره. كل لغة لها في صرفها ونحوها وفقه لغتها وأساليب بيانها قواعد، متى تجاوزها الكلام عُدَّ غريباً.

من (غريب القرآن) في التذكير والتأنيث:

قال السيوطي: (قاعدة) في التذكير والتأنيث: التأنيث ضربان حقيقي وغيره. فالحقيقي لا تحذف تاء التأنيث من فعله غالباً؛ إلا إن وقع فعل، وكلما كثر الفعل حسن الحذف؛ والاثبات مع الحقيقي أولى ما لم يكن جمعاً. واما غير الحقيقي فالحذف فيه مع الفعل أحسن نحو ((فمن جاءَه موعظة من ربه. قد كان لكم آية)). وترى الحذف والاثبات في قوله: ((وأخذ الذين ظلموا الصيحة. وأخذت الذين ظلموا الصيحة)) وقد جمع بينهما في سورة هود. وإذا وقع ضميراً أو إشارة بين مبتدإٍ وخبر جاز في الضمير والإشارة التذكير والتأنيث كقوله: ((قال هذا رحمة من ربي)) فذكر المبتدأ والخبر مؤنث لتقدم المبتدإِ؛ وقوله ((فذانك برهانان من ربك)) ذكر المبتدأ والمشار إليه اليد والعصا وهما مؤنثان لتذكير الخبر. وكل أسماء الأجناس يجوز فيها التذكير حملاً على الجنس والتأنيث

ـ 151 ـ

حملاً على الجماعة كقوله مرة ((أعجاز نخل خاوية)) ومرة ((أعجاز نخل منقعر)) . وورد أيضاً ((والسماء منفطر به)) وفي موضع ((إذا السماء انفطرت)). قال ((جاءَتها ريح عاصف)) ثم قال ((ولسليمان الريح عاصفة)). وقد أشكل قوله ((منهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة)) وقوله: ((فريقاً هدى، وفريقاً حق عليهم الضلالة)) .

ومن (غريب القرآن) في التعريف والتنكير:

قال السيوطي: (قاعدة) اعلم إن لكل منهما مكاناً لا يليق بالآخر.

أما التنكير فله أسباب: إرادة الوحدة أو النوع، والتعظيم أو التحقير، والتكثير أو التقليل، مثال قوله: ((سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً)) : الليل كله أم جزء منه؟

وأما التعريف فله أسباب: إرادة الإضمار أو العلمية، أو لتعظيم أو إهانة، والتعريض أو التعظيم بالبعد نحو ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) ، أو إرادة الخصوص أو العموم، وللاستغراق حقيقة أو مجازاً ـ وقد أشكل قوله: ((قل هو الله أحد، الله الصمد)) : ما الحكمة في تنكير أحد، وتعريف الصمد؟ ـ في ذلك أقوال. وقد ينتج عن ذلك غموض أيضاً مثل قوله: ((الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة، ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة)) فإن المراد بالضعف الأول النطفة وبالثاني الطفولية وبالثالث الشيخوخة.

(القاعدة) إنه إذا ذكر الاسم مرتين، وكان في كلتيهما معرفة فالثاني هو الأول غالباً نحو ((اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين)). وشذ عنها قوله: ((هل جزاء الاحسان إلا الاحسان)) فإنهما معرفتان والثاني (بمعنى الثواب) غير الأول (بمعنى العمل)؛ وقوله ((النفس بالنفس)) إلى آخر الآية، فالثانية غير الأولى: القاتلة بالمقتولة؛ وقوله: ((هل أتى على الإنسان (آدم) حين من الدهر ... إنا خلقنا الإنسان (أولاد آدم) من نطفة أمشاج)) والثاني غير الأول؛ وقوله: ((وكذلك أنزلنا إليك الكتاب (القرآن) فالذين آتيناهم الكتاب)) والثاني غير الأول.

ـ 152 ـ

(والقاعدة) أيضاً إن كان الاسمان نكرتين فالثاني غير الأول غالباً، وشذ عنها قوله: ((وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله)) وقوله ((يسألونك عن الشهر الحرام: قتال فيه. ((قل قتال فيه كبير)): فإن الثاني فيهما غير الأول وهما نكرتان. (والقاعدة) إن كان الأول نكرة والثاني معرفة فالثاني معرفة حملاً على العهد نحو ((أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول)) . وشذ عنها أقواله: ((إن يصالحا بينهما صلحاً. والصلحُ خير. ويؤت كل ذي فضل فضله. ويزدكم قوة إلى قوتكم. ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم. زدناهم عذاباً فوق العذاب. وما يتبع أكثرهم إلا ظنّاً إن الظن ...)) فإن الثاني فيها غير الأول.

ولهم في تفسير هذا الغريب أوجه وأقوال، واللسان العربي المبين لا يحتاج إلى تفسير أوجه، وتعدد أقوال فيه.

ومن (غريب القرآن) في الإفراد والجمع:

قال السيوطي: (قاعدة) والحاصل إنه حيث أريد العدد أتى بصيغة الجمع الدالة على الكثرة أو العظمة وحيث أريد الجهة أتى بصيغة الافراد. ولذلك قيل: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء فيه من الريح فهو عذاب. وشذ قوله ((وجرين بريح طيبة)) ولذلك نعتها بطيبة؛ وقوله ((جاءتها ريح عاصف))، وقوله ((جاءَتها ريح عاصف)) ، وقوله ((إن يشأ يسكن الريح فيظلن رواكد)) . وأشكل قوله في إفراد النور وجمع الظلمات، وإفراد النار وجمع الجنات، وإفراد السمع وجمع البصر، وإفراد الصديق وجمع الشافعين نحو ((فمالنا من شافعين ولا صديق حميم)) . ولهم في ذلك أقوال. ومن ذلك مجيء المشرق والمغرب بالإفراد والتثنية والجمع. وقد ورد فيه ((البار)) مجموعاً على أبرار في صفة الآدميين وعلى بررة في صفة الملائكة؛ قيل في حكمة ذلك بأن الثاني أبلغ لأنه جمع بار، وهو أبلغ من بَرّ مفرد الأول. وقد جمع لفظ ((اخ)) على أخوة في النسبة وعلى إخوان في الصداقة، وشذ عن قوله في الصداقة ((إنما المؤمنون إخْوة)) وفي النسب ((أو أخواتهن، أو بني أخواتهن، أو بيوت أخواتكم)).

ـ 153 ـ

ومن (غريب القرآن) في السؤال والجواب:

قال السيوطي (قاعدة): الأصل في الجواب المطابقة للسؤال؛ والخروج عن الأصل يحتاج إلى دليل. وقد يعدل في الجواب عمّا يقتضيه السؤال تنبيهاً على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك. وقد يجيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال. وقد يجيء الجواب أنقص لاقتضاء الحال. مثال ما عدل عنه في الجواب قوله: ((يسألونك عن الأهلّة؟ قل هي مواقيت للناس والحج)) واختلفوا في معنى سؤالهم: هل كان عن أحوال الهلال أم عن التوقيت به. ومثال الزيادة في الجواب قالوا ((مَن ينجيكم من ظلمات البر والبحر؟ ـ الله ينجيكم منها ومن كل كرب)) ؛ وسؤال ((ما التي بيمينك ياموسى؟ قال: هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى)): ففي هذه الزيادة في الجواب بلاغة إفحام ليست في السؤال على الأهلة، وليست في السؤال عن الروح: ((ويسألونك عن الروح؟ قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)) ؛ وقد يكون عدل في الجواب عن السؤال لتعنتهم وتعجيزهم له ـ ومن أصول الجواب أن يعاد فيه نفس السؤال ليكون وفقه نحو ((أئنك لأنت يوسف؟ قال أنا يوسف))؛ وشذ عنه قوله: ((هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قل: الله يبدأ الخلق ثم يعيده)): فإنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد. والأصل أيضاً في الجواب أن يكون مشاكلاً للسؤال: فإن كان جملة إسمية، أو فعلية، فينبغي أن يكون الجواب كذلك نحو قوله ((مَن يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحييها الذي أنشأها)) ؛ وأشكل عليه ((بل فعله كبيرهم)) في جواب ((أأنت فعلت هذا)) فإن السؤال وقع عن الفاعل لا عن الفعل، فإنهم لم يستفهموه عن الكسر بل عن الكاسر، ومع ذلك صدر الجواب بالفعل.

ومن (غريب القرآن) في الخطاب بالاسم والخطاب بالفعل:

قال السيوطي: (قاعدة) الأصل إن الاسم يدل على الثبوت والاستمرار،

ـ 154 ـ

والفعل يدل على التجدد والحدوث ولا يحسن وضع أحدهما موضع الآخر نحو ((هل من خالق غير الله يرزقكم؟)) لو قيل رازقكم لفات ما أفاده الفعل من تجدد الرزق شيئاً بعد شيء وهو المسمى: حكاية الحال. لذلك قال ((الذين ينفقون)) ولم يقل المنفقون، كما قيل المؤمنون، لأن النفقة تتجدد، والإيمان قائم يدوم؛ وشذ عن قوله ((ثم أنكم بعد ذلك لميتون، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون)) وقوله ((الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون)) .

ومن (غريب القرآن) في تعابيره، أحوال العطف:

قال السيوطي: (قاعدة) في العطف على اللفظ وهو الأصل، شرطه إمكان ظهور ذلك المحل في الصحيح. وأشكل عليه قوله: ((إن الذين آمنوا والذين هادوا والصائبون))؛ وقوله: ((لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدّقْ واكنْ)) وقوله ((حفظاً من كل شيطان)) وقوله ((ودوا لو تدهن فيدهنون)) وقوله ((ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات، وليُذيقكم)). وقد صوبوها بأنها عطف على المعنى.

وقد اختلفوا في جواز عطف الخبر على الإنشاء، وفي جواز عطف الاسمية على الفعلية، وعكسه، وفي جواز العطف على معمولَيْ عاملين، وفي جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. وفي القرآن على كل ذلك أمثلة متشابهة، كقوله: ((ولا تأكلوا مما لم يذكر عليه اسم الله، وأنه لفسقٌ)) وقوله: (( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين؛ وفي خلقكم وما يبث من دابة آياتٌ لقوم يوقنون؛ واختلاف الليل والنهار، وما أنزل من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون)): فلمَ نصب الآيات الأخيرة.

*

تلك أنواع ثلاثة من (غريب القرآن) في مفرداته، وفي معاني ألفاظه، وفي تعابيره وتراكيبه. وقد أحسنوا في تسميتها ((غرائب القرآن)) لأنها غريبة في أصول اللغة وفقهها، وبيانها.

ـ 155 ـ

وقد اختلفوا أيما اختلاف في تصويبها وفهمها، وهذا الاختلاف دليل على غرابتها. ودليلٌ على غرابتهم أنهم جعلوا من (غريب القرآن) إعجازاً، ومن ((غرائبه)) معجزات في الإعجاز. فحق القول: ((إن غرائبه لا تنتهي !)) .

وفاتهم جميعاً إن الاعجاز الحق هو توحيده الخاص، لا التعبير البشري عن هذا التوحيد. ومهما كان التعبيرعن التوحيد الخالص المنزل معجزاً، فمن الغريب أن يتخذه الله معجزة لدينه الحق، لأن الدين للعامة من العرب والعجم، والإعجاز اللغوي البياني لخاصة الخاصة من العرب: فكيف يهتدي عامة العرب، وسائر العجم، وجميع البشر بما هو فوق طاقتهم؟ لا يهتدي الإنسان بنور لا يراه.

ـ 156 ـ

الفصل الثاني عشر

أساليب نظم القرآن وفنونه

إن نظم القرآن ولا سيما في المفصل ـ وأكثره من العهد الأول بمكة ـ لفريدٌ حقاً: فهو نثر وليس كالنثر؛ وهو شعر وليس كالشعر؛ وهو موزون وليس كأوزانهم، ومقفّى وليس كمثل قوافيهم؛ انه هو! انه قرآن!

لذلك أجمعوا على أن ما يُسمى ((بإعجاز القرآن)) هو في نظمه العجيب

فهو مسجوع وليس كسجعهم؛ وهو موزون وليس كأوزانهم. فالأصل في المسجوع وحدة القافية دون التزام التوازن، والأصل في الموزون هو التوازن دون التزام وحدة القافية. وقد يكون المسجوع موزوناً. وفي القرآن نماذج لكل ذلك. وهناك سور حوت فصولاً متنوعة في الوزن والقافية.

إن السور المكية المسجعة أو الموزونة أو المقفاة خمس وستون سورة. منها أربع وخمسون قصيرة هي: الفاتحة والناس والفلق والأخلاص وتبت والكافرون والكوثر والماعون وقريش والفيل والهمزة والعصر والتكاثر والقارعة والزلزلة والعاديات والقدر والعلق والتين والانشراح والضحى والليل والشمس والبلد والفجر والغاشية والأعلى والطارق والبروج والانشقاق والمطففون والانفطار والتكوير وعبس والنازعات والنبأ والمرسلات والإنسان والقيامة والمدثر والمزمّل والجن ونوح والمعارج والحاقة والقلم والملك والواقعة والرحمن والقمر والنجم والطور والذاريات وقَ.

ومن السور المتوسطة المسجعة أو الموزونة: ص والصافات ويس وفاطر والشعراء والفرقان وطه ومريم والكهف والإسراء والحجر.

ـ 157 ـ

والسور المكية غير الموزونة وغير المسجعة ست وعشرون، وهي: الأحقاف والجاثية والدخان والزخرف والشورى وفصلت وغافر والزمر وسبأ والسجدة ولقمان والروم والعنكبوت والقصص والنمل والمؤمنون والحج (في المكي منها) والأنبياء والنحل وإبراهيم والرعد (في المكي منها) ويوسف وهود ويونس والأعراف (متبعّضة) والانعام (متبعّضة). من هذه السور، تسع ضاربة إلى القصر أكثر منها إلى التوسط وهي: الأحقاف والجاثية والدخان والزحرف والشورى وفصلت وسبأ والسجدة ولقمان. وباقيها متوسط، وقريب من الطويل، وطويل. ومع أنها غير مسجعة وغير موزونة الآيات، كما قلنا، فإن خواتم آياتها مركزة، لا تخلو من رنة موزونة في أواخر آياتها بقطع النظر عن التقفية والوزن والروي. وهذا ما يسمى في فنون الأدب ((المرسل)) الذي لا يتقيد بقافية ولا وزن؛ وأكثر آيات القرآن من هذا النوع، وهو أسلوب أكثر السور الطويلة والمتوسطة. ويتضاءل الوزن في النظم في السور المكية الأخيرة.

وهناك بعض سور مسجعة مقاطع أوسلاسل، ذات قواف متعدّدة. وهناك سور فيها سلاسل مسجعة بقواف واحدة أو متعددة: وسلاسل موزونة الآيات بغير قافية واحدة. بل هناك موالاة بين هذا وذاك في سلسلة واحدة أيضاً؛ وهذا التنوع في التسلسل قد يؤلف وحدة بيانية؛ وقد يكون دليلاً على تعدد السور في السورة الواحدة، أو بقايا سور سقطت وبقيت منها هذه المقاطع.

وهذا النوع من حلقات السجيع يسميه الأجانب: strophe . يذكرون من ذلك سبع عشرة سورة مها المدثر والمرسلات والفجر، وخصوصاً الواقعة والشعراء والنبأ. ولاحظ المستشرق (نلدكه) قلة مطابقتها للسلاسل الموزونة، المتوازية بعدد أجزائها، حتى تكون من ذلك النوع تماماً.

وهناك بعض السور التي تمتاز بآية تتردد في آخر كل سلسلة، مما يضفي عليها روعة كبرى وتأثيراً عميقاً يزيدان في وحدة نظمها، مثل قوله في سورة الشعراء

ـ 158 ـ

((إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم بمؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم))(8 ، 68 ، 103)، كذلك القمر والرحمن.

وهكذا فقد بدأ القرآن بالسجع الموزون المقفّى وانتهى بالكلام المرسل. وتنقل الأخبار في صدد السجع أنه كان في الغالب كلام الكهَّان والعرَّافين والهواتف في الأحلام. ولكن الصورة الصادقة الصحيحة للسجع ومقاطعه وفنونه فإنما هي في القرآن. ولذلك اتهم المشركون محمداً بأنه ((كاهن)) (طور 29، الحاقة 42) بسبب ما كان يتلوه من الآيات والسور المسجعة مثل القمر والرحمن والإنسان.

واتهموه أيضاً بالجنون ((وقالوا: يا أيها الذي نُزّل عليه الذكر إنك لمجنون)) (حجر 6) لاعتقادهم بوجود صلة بين الشاعر من جهة، والجنّ الذين يوحون إليه الشعر من الجهة الأخرى، وهو أعلى أنواع الكلام عندهم، وقد لا يتأتى للشاعر من دون وحي: ((وقالوا: أئنَّا تاركو آلهتنا لشاعر مجنون! )) (صافات 26).

ولكن هل في القرآن شعر حتى يتهمونه بالشعر؟ ((بل هو شاعر)) (أنبياء 5) ((أم يقولون: شاعر نتربص به ريب المنون (طور 30) ـ كلاَّ ليس القرآن شعراً منظوماً يتّفق مع أنماط الشعر العربي الموزون المقفى الذي أساسه البيت المؤلف من شطرين متوازيين. ولكن إذا نفذنا من الظواهر إلى البواطن، أليس في أوصاف القرآن للطبيعة وأهوال اليوم الآخر، وأحوال النعيم والجحيم، أروع الشعر؟ ((فإنه إذا لم يكن في القرآن كلام موزون ومقفّى يصح أن يُطلق عليه اسم الشعر كما عرفه علماء العروض، ففيه كثير من الآيات بل السور ما جاء بأسلوب مسجع أو أسلوب مقفّى بل فيه ما يكاد يكون موزوناً ومقفّى بعض الشيء. وفيه ما يشبه الرجز1 )) .

وإنما ثار القرآن على وصفه بالشعر ليس لنظمه الشعري، بل لما في وصفهم

ــــــــــــــــ

( 1 ) دروزة: عصر النبي 247 .

ـ 159 ـ

من صلة بوحي الجن أو الشياطين (صافات 36). ولذلك كان يجيب: ((وماهو بقول شاعر!)) (الحاقة 41) ((وما علمناه الشعر، وما ينبغي له! إنْ هو إلا ذكر وقرآن مبين)) (يس 69)؛ ولِمَا كان للشعراء من أثر سيّئ في ((أيام)) الجاهلية، فوصمهم بقوله ((والشعراء يتبعهم الغاوون! ألم تر أنهم في كل واد يهيمون؟ )) (الشعراء 224).

فالقرآن أكثره مرسل. ولكن فيه سجع وفيه شعر من الرائع البديع. وإنما يرفض القرآن هذين الوصفين ليحفظ لـه وحيه الإلهي: ((إنه لقول رسول كريم! وما هو بقول شاعر! قليلاً ما تؤمنون. ولا بقول كاهن! قليلاً ما تذكرون. تنزيل من رب العالمين)) (الحاقة 40 ـ43).

ولا نذكر فيه فنون القصة، والأمثال، والجدل، والأقسام لأننا سنفرد لها بحوثاً في مواضعها.

*

والظاهرة الكبرى في القرآن هي فواصله المُميزة لنظمه1 .

والفاصلة كلمة آخر الآية كقافية الشعر وقرينة السجع. وقد أخذوا تسمية ((الفاصلة)) من قوله ((كتاب فصلت آياته)) .

1 ـ والأصل في الفاصلة، والقرينة المتجردة في الآية والسجعة: المساواة. ((وأنت ترى فواصل القرآن متفاوتة: بعضها متداني المقاطع، وبعضها يمتد حتى يتضاعف طوله عليه. وترد الفاصلة في ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير؛ وهذا في السجع غير مرضي ولا محمود ... فبان بذلك أن الحروف الواقعة في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الأسجاع، لاتخرجها عن حدها، ولا تدخلها في باب السجع. وإنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء. فكان بعض مصاريعه كلمتين، وبعضها أربع كلمات، ولا يرون ذلك فصاحة بل يرونه عجزاً.

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 96:2 - 105.

ـ 160 ـ

وقال الخفاجي في (سر الفصاحة): ((وأظن الذي دعاهم إلى تسمية جل ما في القرآن فواصل، ولم يسمّوا ما تماثلت حروفه سجعاً، رغبتُهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروي عن الكهنة وغيرهم. فإن قيل إذا كان عندكم إن السجع محمود فهلاّ ورد القرآن كله مسجوعاً؟ وما الوجه في ورود بعضه مسجوعاً وبعضه غير مسجوع؟ ـ قال وكيف يُعاب السجع على الإطلاق؟ وإنما نزل القرآن على أساليب الفصيح من كلام العرب: فوردت الفواصل فيه بإزاء ورود الأسجاع في كلامهم. وإنما لم يجئ على أسلوب واحد لأنه لا يحسن في الكلام جميعاً أن يكون مستمراً على نمط واحد لما فيه من التكلف ولما في الطبع من الملل، ولأن الافتنان في ضروب الفصاحة أعلى من الاستمرار على ضرب واحد: فلهذا وردت بعض آي القرآن متماثلة المقاطع، وغيرها غير متماثلة)).

ونتج من ذلك مشكل في تعديد آي القرآن. قال السيوطي في موضع آخر1: ((تعديد الآي من معضلات القرآن. وفي آياته طويل وقصير؛ ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام. ومنه ما يكون في أثنائه ...)) ؛ وقال الموصلي: ((سور القرآن على ثلاثة أقسام: قسم لم يُختلف فيه لا في إجمال ولا في تفصيل وهو أربعون سورة؛ وقسم أُختلف فيه تفصيلاً لا إجمالاً وهو أربع سور؛ وقسم اختلف فيه إجمالاً وتفصيلاً وهو سبعون سورة)).

2ـ قسم البديعون السجع، ومثله الفواصل، إلى أقسام: المرصّع والمتماثل والمتوازي والمتطرف. فالمرصّع أن يتفقا وزناً وتقفية، ويكون في الأولى مقابلاً لما في الثانية نحو ((إنّ إلينا إيابهم ثم أن علينا حسابهم)) ، ((وإن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم)). والمتماثل أن يتساويا في الوزن دون التقفية وتكون أفراد الأولى مقابلة لما في الثانية، فهو بالنسبة إلى المرصع كالمتوازن بالنسبة إلى المتوازي نحو ((وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 68:1 - 69 .

ـ 161 ـ

المستقيم)) يتوازنان نظما ويختلفان في الحرف الأخير. والمتوازي أن يتفقا وزنا وتقفية، ولا يكون ما في الأولى مقابلاً لما في الثانية في الوزن والتقفية نحو ((سررٌ مرفوعةٌ، وأكواب موضوعة)) . والمتوازن أن يتفقا في الوزن دون التقفية نحو ((ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة)) . والمتطرّف أن تختلف الفاصلتان في الوزن وتتفقا في حروف السجع نحو ((ما لكم لا ترجون لله وقاراً وقد خلقكم أطواراً1 )) .

ويلحق بها نوعان بديعان متعلقان بالفواصل: التشريع وتكون الآية فيه مبنية على سجعتين أو فاصلتين فلو اقتصر على الأولى كان الكلام تاماً مفيداً وإن أُلحقت الثانية زادته مبنى ومعنى، مثال ذلك في سورة الرحمن وآيات كثيرة غيرها. والاستلزام، أو لزوم ما لا يلزم، ويلتزم في الفاصلة حرفاً أو حرفين أو ثلاثة قبل الروي نحو ((فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر)) بالتزام الهاء قبل الراء؛ ونحو ((والطور وكتاب مسطور)) بالتزام الطاء والواو؛ ونحو ((تذكروا فإذا هم يبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون)) بالتزام الصاد والراء والواو قبل روي النون.

وإذا قارنا فواصل القرآن بقرائن السجع ظهر لنا أن أحسنها ما تساوت فواصله وقرائنه، ويليه ما طالت قرينته الثانية أو الثالثة؛ وقال ابن الأثير الأحسن في الثانية المساواة وإلا فأطول قليلاً، وفي الثالثة أن تكون أطول! وما شذ عن ذلك فليس بالحسن. وأَن أحسنها ما كان قصيراً لدلالته على قوة المنشئ وأَقله كلمتان نحو ((يا أيها المدثر قم فانذر ... والمرسلات عرفاً ... والذاريات ذرواً ... والعاديات ضبحا)) ، والطويل ما زاد على العشر كغالب الآيات، وما بينهما متوسط مثل سورة القمر. ولا تحسن المحافظة على الفواصل إلاَّ بالمحافظة على المعاني، فأمَّا أن تهمل المعاني في سبيل تحسين اللفظ فليس من قبيل البلاغة. ورعاية التشابه في الفواصل لازمة، وحروف الفواصل إمَّا متماثلة

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 104:2 - 105.

ـ 162 ـ

وإمَّا متقاربة وفواصل القرآن لا تخرج عن هذين القسمين بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة.

ولاحظوا في فواصل القرآن أنها مبنية على الوقف ولهذا سوّغوا فيها مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس كما في سورة القمر. وسوّغوا زيادة حروف على الكَلم مراعاة للفاصلة وقد كثر في القرآن ختم الفواصل بحروف المد واللين، وإلحاق النون للتطريب كما قال سيبويه ((إنهم إذا ترنموا يلحقون الألف والياء والنون لأنهم أرادوا مد الصوت، ويتركون ذلك إذا لم يترنموا. ولاحظوا كذلك أنه كثر في فواصل القرآن التضمين أي أن يكون ما بعد الفاصلة متعلقاً بها كقوله ((وإنكم لتمرّون عليهم مصبحين ـ وبالليل)) ، والايطاء وهو تكرر الفاصلة بلفظه كقوله في ختام آيتي الاسراء ((هل كنت إلا بشراً رسولاً)) ؛ وهما ليسا بعيبين في النثر وإن كان معيبين في النظم.

3 ـ وللفاصلة أنواع من البديع: قال ابن أبي الاصبع ((لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء: التمكين والتصدير والتوشيح والايغال)) . فالتمكين، أو ائتلاف القافية، أن يمهد لها في الكلام تمهيداً بحيث لو سُكِتَ عنها كملها السامع بطبعه. مثال ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال ((أملى علي رسول الله ص. (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) الخ وسكت فقال معاذ بن جبلة (فتبارك الله أحسن الخالقين) فقال رسول الله ضاحكاً: بها ختمت. ولذلك أيضاً حكى أن إعرابياً سمع قارئاً يقرأ (فإن زللتم من بعد ما جاءَتكم البينات، فاعلموا أن الله غفور رحيم) ولم يكن يقرأ القرآن فقال: إن كان هذا كلام الله، فلا يقول كذا؛ فالحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه1 )). والتصدير أن تكون تلك اللفظة بعينها تقدمت في أول الآية، وتسمى أيضاً رد العجز على الصدر وذلك أن توافق آخر الفاصلة آخر كلمة في الصدر، أو أول كلمة منه أو بعض كلماته نحو ((انزله بعلمه، والملائكة

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 101:2.

ـ 163 ـ

يشهدون، وكفى بالله شهيداً)). والتوشيح أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية نحو ((وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مُظلمون)) أي داخلون في الظلمة، ومن انسلخ عن النهار دخل في ظلام الليل فدل أول الكلام على آخره. والإيغال وهو نوع من الإطناب وهو الإمعان في الكلام وختمه بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها نحو ((يا قوم اتبعوا المرسلين! اتبعوا من لا يسألكم أجراً ـ وهم مهتدون)) فالكلمة الأخيرة إيغال في الكلام يتم بدونها.

4 ـ ومن ((إعجاز)) القرآن في فواصله مراعاته للمناسبة في أمور مخالفة للأصول امتاز بها.

ونحن ننقل ما أوجزه السيوطي عن كتاب (إحكام الرأي في أحكام الآي1 ) قال: ((اعلم إن المناسبة أمر مطلوب في اللغة العربية يُرتكب لها أمور من مخالفة الأصول. وقد تتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرتُ منها على نيف عن الأربعين حكماً:

1) تقديم المعمول إما على العامل نحو ((أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون)) ، قيل: ومنه ((إياك نستعين))؛ أو على معمول آخر أصله التقديم نحو ((لنريك من آياتنا الكبرى)) ومنه تقديم خبر كان نحو ((لم يكن له كفواً أحد)) .

2) تقديم ما هو متأخر في الزمان نحو ((فلله الآخرة والأولى)) ولولا مراعاة الفواصل لقدم الأولى كقوله ((له الحمد في الأولى والآخرة)).

3) تقديم الفاضل على الأفضل نحو ((برب هارون وموسى)) مراعاة للفاصلة.

4) تقديم الضمير على ما يفسره نحو ((فأوجس في نفسه خيفةً موسى)) والأصل تقديم الفاعل موسى.

5) تقديم الصفة الجملة على الصفة المفردة نحو ((ونخرج لـه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 99:2 .

ـ 164 ـ

6) حذف ياء المنقوص المعرّف مراعاة للفاصلة نحو ((الكبير المتعال ... يوم التناد)).

7) حذف ياء الفعل غير المجزوم مراعاة للفاصلة نحو ((والليل إذا يَسرِ)).

8) حذف ياء الإضافة نحو ((فكيف كان عذابي ونذرِ ... فكيف كان عقابِ)).

9) زيادة حرف المد نحو ((الظنونا ... الرسولا ... السبيلا))؛ ومنه إبقاؤه مع الجازم نحو ((لا تخاف دركاً ولا تخشى سنقرِئك فلا تنسى))!

10) صرف مالا ينصرف نحو ((قواريرا قواريرا)).

11) إيثار تذكير اسم الجنس كقوله ((أعجاز نخل منقعر)).

12) إيثار تأنيثه نحو ((أعجاز نخل خاوية)) . ونظير هذين قوله في القمر ((وكل صغير وكبير مستطر)) وفي الكهف ((لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها)) .

13) الاقتصار على أحد الوجهين الجائزين اللذين قرأ بهما في السبع، في غير ذلك كقوله ((فأولئك تحروا رَشَداً)) ولم يجيء ((رشَداً)) في السبع! وكذا ((وهيئ لنا من أمرنا رشدا)) لأن الفواصل في السورتين بحركة الوسط. ونظير ذلك ((تبّت يدا أبي لهب)) بفتح الهاء وسكونها ولم يقرأ بالفتح إلا لمراعاة الفاصلة.

14) إيراد الجملة التي ردّ بها ما قبلها على غير وجه المطابقة في الاسمية والفعلية كقوله: ((ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين)) والأصل ولم يؤمنوا أو ما آمنوا.

15) إيراد أحد القسمين غير مطابق للآخر كذلك نحو ((وليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين)) ولم يقل الذين كذبوا، مراعاة للفاصلة.

16) إيراد أحد جزئي الجملتين على غير الوجه الذي أورد نظيرها من الجملة الأخرى نحو ((أولئك الذين صدقوا، وأولئك هم المتقون)) والأصل ((وأولئك الذين اتقوا)).

ـ 165 ـ

17) إيثار أغرب اللفظين نحو ((قسمة ضيزى)) بدل جائزة، ونحو ((لينبذنَّ في الحطمة)) أي جهنم أو النار. وقال في المدثر ((سأصليه سقر)) وفي سأل ((إنها لظى)) وفي القارعة ((فأمه هاوية)) لمراعاة الفاصلة.

18) اختصاص كلٍ من المشركين بموضع نحو ((وليذكر أولو الألباب)) وفي طه ((إن في ذلك لآيات لأولي النهى)) مراعاة للفواصل.

19) حذف المفعول نحو ((فأما من أعطى واتقى)) أو ((ما ودّعك ربك وما قلى)) لمراعاة الفواصل. ومنه حذف متعلق أفعل التفضيل نحو ((يعلم السر وأخفى)) أو ((والآخرة خير وأبقى)) .

20) الاستغناء بالافراد عن التثنية نحو ((فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)) لمراعاة الفاصلة.

21) الاستغناء بالافراد عن الجمع نحو ((واجعلنا للمتقين إماما)) كما قال ((وجعلناهم أئمة يهدون)) ونحو ((إن المتقين في جنات ونهر)) أي أنهار، وقد أفردها مراعاة للفاصلة.

22) الاستغناء بالتثنية عن الافراد نحو ((ولمن خاف مقام ربه جنتان))، قال الفراء: أراد جنة كقوله ((فإن الجنة هي المأوى)) فثنى لأجل الفاصلة.

23) الاستغناء بالتثنية عن الجمع: في المثل السابق أراد ((جنات)) فأطلق الاثنين على الجمع لأجل الفاصلة، ثم عاد الضمير بعد ذلك بصيغة التثنية مراعاة للفظ.

24) الاستغناء بالجمع عن الأفراد نحو((لا بيع فيه ولا خلال)) أي ((ولا خلة)) كما في الآية الأخرى وجُمع مراعاة للفاصلة.

25) إجراء غير العاقل مجرى العاقل نحو ((رأيتهم لي ساجدين)) أو ((كل في فلك يسبحون)) مراعاة للفاصلة.

26) إمالة ما لا يمال كآي طه والنجم، مراعاة للفاصلة أيضاً.

ـ 166 ـ

27) الاتيان بصيغة المبالغة مراعاة للفاصلة مثل ((قدير وعليم)) مع ترك ذلك في غيرها.

28) إيثار بعض أوصاف المبالغة على بعض نحو ((إن هذا شيء عجاب)) أوثر على عجيب مراعاة للفاصلة.

29) الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه مراعاة للفاصلة نحو ((ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً، وأجل مسمى)) .

30) إيقاع الظاهر موقع المضمر نحو ((والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة: إنا لا نضيع أجر المصلحين)) .

31) وقوع مفعول موقع فاعل كقوله ((حجاباً مستوراً)) أي ساتراً؛ ((كان وعده مأتياً)) أي آتياً، وذلك مراعاة للفاصلة.

32) وقوع فاعل موقع مفعول نحو ((عيشة راضية)) بدل مرضية، ونحو ((ماء دافق)) بدل مدفوق مراعاة للفاصلة.

33) الفصل بين الموصوف والصفة نحو ((أخرج المرعى، فجعله غثاء، أحوى)) أحوى صفة حال من المرعى.

34) إيقاع حرف مكان غيره مراعاة للفاصلة نحو ((بأن ربك أوحى لها)) والأصل إليها.

35) تأخير الوصف غير الأبلغ عن الأبلغ، ومنه ((الرحمان الرحيم)) أو ((رؤوف رحيم)) لأن الرأفة أبلغ من الرحمة.

36) حذف الفاعل ونيابة المفعول نحو ((وما لأحد عنده من نعمة تجزى)) والأصل ((يجزى عليها)) .

37) إثبات هاء السكت مراعاة للفاصلة نحو ((فأمه هاوية، وما أدراك ماهِيَهْ، نار حامية)) (قارعة 10): أثبت إنها في الضمير (هي).

38) الجمع بين المجرورات نحو ((ثم لا تجد لك به علينا تبيعاً)) فإن الأحسن الفصل بينها، إلا أن مراعاة الفاصلة اقتضت العكس وتأخير (تبيعا).

ـ 167 ـ

39) العدول عن صيغة الماضي إلى صيغة الاستقبال نحو ((فريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون)) والأصل قتلتم فعدل عن الأصل مراعاة للفاصلة.

40) تغيير بنية الكلمة مراعاة للفاصلة نحو ((طور سنين)) والأصل سيناء، ((وسلام على الياسين)) والأصل الياس1 .

وختم جامعها بقوله: ((لا يمتنع في توجيه الخروج عن الأصل في الآيات المذكورة أمور أخرى مع وجه المناسبة، فإن القرآن العظيم، كما جاء في الأثر، لا تنقضي عجائبه)).

*

ومن ((أحسن الحديث)) براعة الاستهلال.

وقد نقل السيوطي2 فصلا (في أسرار فواتح القرآن) عن ابن أبي الاصبع نوجزه معه.

((اعلم إن الله تعالى افتتح سور القرآن بعشرة أنواع من الكلام لا يخرج شيء من السور عنها.

1) الثناء عليه تعالى. والثناء قسمان: إثبات صفات المدح، وتنزيهه من صفات النقص. فالأولى التحميد في خمس سور (الفاتحة، الإنعام، سبأ، الكهف، فاطر) وتبارك في سورتين (الملك، الفرقان) والثاني التسبيح في سبع سور في جميع الصيغ: من مصدر (إسراء) وماضٍ (الحديد، الحشر) ومضارع (الجمعة، التغابن) وأمر (الأعلى).

2) حروف التهجي بأسرارها المبهمة في تسع وعشرين سورة. وقد مضى الكلام عليها.

ــــــــــــــــ

( 1 ) وعلق على ذلك بقوله: ((من مشكلات الفواصل قوله تعالى: ((إن تعذبهم فإنهم عبادك، وأن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)) فإن قوله (وإن تغفر لهم) يقتضي أن تكون الفاصلة (الغفور الرحيم) وكذا نقلت عن مصحف أبيّ وبها قرأ ابن شنبوذ. (اتقان 103:2).

( 2 ) الإتقان 105:2.

ـ 168 ـ

3) النداء في عشر سور: في خمس بنداء الرسول (الأحزاب، الطلاق، التحريم، المزمل، المدثر) وفي خمس بنداء الأمة (النساء، المائدة، الحج، الحجرات، الممتحنة).

4) الجمل الخبريّة في ثلاث وعشرين سورة: يسألونك عن الانفال، براءَة من الله، أتى أمر الله، اقترب للناس حسابهم، قد أفلح المؤمنون، سورة أنزلناها، تنزيل الكتاب، إن الذين كفروا، إنَّا فتحنا، اقتربت الساعة، الرحمان أنزل القرآن، قد سمع الله، الحاقة، سأل سائل، إنَّا أرسلنا نوحاً، لا أقسم (في موضعين) عَبَسَ، إنا أنزلناه، لم يكن، القارعة، أَلهاكم، إنا أعطيناك.

5) القَسم في خمس عشرة سورة: أقسم فيها بالملائكة (والصافات) والأفلاك (والبروج والطارق) ولوازمـها (والنجم، والفجر، والشمسِ، والليلِ، والضحى، والعصـر) والهواء (والذاريات، والمرسلات) والتربة (والطور) والنبات (والتين) والحيوان الناطق (والنازعات) والبهيم (والعاديات).

6) الشرط للتنبيه أو التذكير في سبع سور: الواقعة، المنافقون، التكوير، الانفطار، الانشقاق، الزلزلة، النصر.

7) الأمر في ست سور: قل أوحي، إِقرأ، قل يا أيها الكافرون، قل هو الله أحد، قل أعوذ برب الفلق، قل أعوذ برب الناس.

8) الاستفهام في ست سور: هل أتى، عمَّ يتساءلون، هل أتاك، ألم نشرح، ألم تر، أرأيت؟

9) الدعاء في ثلاث سور: ويل للمطففين! ويل لكل همزة! تبّت يدا أبي لهب!

10) التعليل في سورة: لإيلاف قريش.

*

ونلحظ أيضاً من فواتح السور المكية التطوّر المتواصل في أساليب النظم

ـ 169 ـ

القرآني وفي أطوار الدعوة النبوية. وفيها يعلن منذ مطالع السور صلة القرآن بالكتاب: بدأ فجعل القرآن قراءةً للكتاب بالعربية إلى العرب (الأعلى 18 طه 135 الشعراء 192 زخرف 2) ثم يصير القرآن نسخة عن الكتاب للعرب: ((تلك آياتُ الكتاب وقرآن مبين)) (نمل، حجر). وهذه النسخة العربية للكتاب تصدّق الكتاب الإمام وتفصّله للعرب (يونس 37 أحقاف 12هود 17). أخيراً في فترة تردّد تمتزج فيها الأساليب والطرائق، يتطور فيصير تنزيلاً مستقلاً في وحـدة جوهرية مع أهل الكتاب، فهو ((آيات بيّنات في صدور الذين أوتـوا العلم)) (عنكبوت 46 - 47).

أولاً) طريقة الأقسام القومية

1

ـ العلق

: اقرأ ! باسم ربك الذي خلق!

2

ـ نَ و القلم

: نَ ! و القلم و ما يسطرون!

3

ـ المزمل

: يا أيّها المزّمل قم الليل إلاَّ قليلاً!

4

ـ المدثر

: يا أيها المدَّثر ، قم فأنذرْ!

5

ـ الفاتحة

: الحمد للّه رب ا لعالمين.

6

ـ المسد

: تبتْ يدا أبي لهب!

7

ـ التكوير

: إذا الشمس كورت ... فلا! أقسم بالخنّس الجوار الكنّس.

8

ـ الأعلى

: سبّح اسم ربك الأعلى ... إن هذا لفي الصحف الأولى.

9

ـ الليل

: و الليل إذا يغشى ، و النهارِ إذا تجلّى .

10

ـ الفجر

: و الفجر! و ليالٍ عشر! و الشفْعِ و الوَترِ! و الليلِ إذ يَسرِ!

11

ـ الضحى

: و الضحى ، و الليل إذا سجى!

12

ـ الشرح

: ألم نشرَح لكَ صدرك... فإذا فرغت فانصبْ

ـ 170 ـ

13

ـ العصر

: و العصر: إن الإنسان لفي خسر!

14

ـ العاديات

: و العاديات ضَبْحاً!

15

ـ الكوثر

: إنّا أعطيناك الكوثر!

16

ـ التكاثر

: ألهاكم... كلاَّ... ثم كلاّ!

17

ـ الماعون

: أرأيت الذي يكذّب بالدين... فويل للمصلين!

18

ـ الكافرون

: قلْ يا أيها الكافرون!

19

ـ الفيل

: ألمْ تَرَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل!

20

ـ الفلق

: قلْ أعوذ بربِ الفلق!

21

ـ الناس

: قلْ أعوذُ بربِ الناس!

22

ـ الإخلاص

: قلْ هو الله أَحَد.

23

ـ النجم

: و النجمِ إذا هوى!

24

ـ عبس

: عَبَسَ و تولى إنْ جاءَه الأعمى.

25

ـ القدر

: إنا أنزلناه في ليلة القدْر.

26

ـ الشمس

: و الشمس و ضحاها!

27

ـ البروج

: و السماء ذات البروج، و اليوم الموعود و شاهد و مشهود.

28

ـ التين

: و التينِ و الزيتون و طور سنين و هذا البلد الأمين.

29

ـ قريش

: لإيلاف قريش: فليعبدو رب هذا البيت.

30

ـ القارعة

: القارعة؟ ما القارعة

31

ـ القيامة

: لا! أقسم بيوم القيامة؛ و لا أقسم بالنفس اللوامة!

32

ـ الهمزة

: ويل لكل همزة لمَزَة!

33

ـ المرسلات

: و المرسلات عرْفاً!

ثانياً) يستفتح بذكر القرآن ويقسم به:

34

ـ ق و القرآن

: و القرآن المجيد... ( من خشي الرحمان 33 ).

ـ 171 ـ

35

ـ البلد

: لا! أقسم بهذا البلد! ووالدٍ وما ولد!

36

ـ الطارق

: و السماء و الطارق!.. و السماء ذات الرجع!

37

ـ القمر

: اقتربت الساعة و انشق القمر!

38

ـ صَ( داود )

: صَ و القرآن ذي الذكر!

39

ـ الأعراف

: كتاب أنزِل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه.

40

ـ الجن

: قلْ أوحيّ إليّ إنه استمع نفر من الجن.

41

ـ يس

: و القرآن الحكيم!

42

ـ الفرقان

: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده.

43

ـ فاطر

: (الملائكة) الحمد لله فاطر السماوات و الأرض.

44

ـ كهيعص مريم

: ذكر رحمت ربك عبده زكريا... واذكر في الكتابِ...

45

ـ طه

: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى.

46

ـ الواقعة

: إذا وقعتِ الواقعة.

ثالثاً) يؤكد صلة القرآن بالكتاب ويقسم بهما:

47

ـ الشعراء

: تلك آيات الكتاب المبين.

48

ـ النمل

: تلك آيات الكتاب و قرآن مبين.

49

ـ القصص

: تلك آيات الكتاب المبين.

50

ـ الإسراء

: سبحان الذي أسرى بعبده.

51

ـ يونس

: تلك آياتُ الكتاب الحكيم.

52

ـ هود

: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن خبير حكيم.

53

ـ يوسف

: تلك آياتُ الكتاب المبين: إنّّا أنزلناه قرآناً عربياً.

54

ـ الحجر

: تلك آياتُ الكتاب و قرآن مبين.

55

ـ الأنعام

: الحمد لله الذي خلق السماوات و الأرض.

ـ 172 ـ

56

ـ الصافات

: و الصافات صفاً!

57

ـ لقمان

: تلك آيات الكتاب الحكيم.

رابعاً) يستفتح بذكر تنزيل الكتاب على محمد:

58

ـ سبأ

: الحمد لله الذي له ما في السماوات... لا تأتينا الساعة...

59

ـ الزمر

: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم.

60

ـ المؤمن

: (غافر) تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم.

61

ـ فصلت

: تنزيل من الرحمان الرحيم: كتاب فصلت آياته قرآناً عربياً.

62

ـ الشورى

: كذلك يوحي إليك ـ و إلى الذين من قبلك ـ الله العزيز الحكيم.

63

ـ الزخرف

: والكتاب المبين: إنّا جعلناه قرآناً عربياً!

64

ـ الدخان

: و الكتاب المبين: إنّا أنزلناه في ليلة مباركة!

65

ـ الجاثية

: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم.

66

ـ الأحقاف

: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم.

خامساً) متفرقات من جميع الأساليب والطرق:

67

ـ الذاريات

: و الذاريات ذرواً!

68

ـ الغاشية

: هل أتاك حديثُ الغاشية؟

69

ـ الكهف

: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب.

70

ـ النحل

: أتى أمر الله فلا تستعجلوه.

71

ـ نوح

: إنَّا أرسلنا نوحاً إلى قومه.

72

ـ إبراهيم

: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات

73

ـ الأنبياء

: اقترب للناس حسابهم و هم في غفلة.

74

ـ مؤمنون

: قد أفلح المؤمنون.

ـ 173 ـ

75

ـ السجدة

: تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين.

76

ـ الطور

: و الطورِ و كتاب مسطور !

77

ـ المُلْك

: تبارك الذي بيده الملْك!

78

ـ الحاقة

: الحاقة! ما الحاقة؟

79

ـ المعارج

: سأل سائل

80

ـ النبأ

: عمَّ يتساءَلون؟ عن النبإِ العظيم!

81

ـ النازعات

: و النازعات غرقاً!

82

ـ الانفطار

: إذا السماء انفطرتْ!

83

ـ الانشقاق

: إذا السماء انشقت!

84

ـ الروم

: غلبتِ الروم في أدنى الأرض.

85

ـ العنكبوت

: أحسب الناس أن يتركوا...

86

ـ المطففين

: ويل للمطففين!

87

ـ الإنسان

: هل أتى على الإنسان حين من الدهر؟

88

ـ الرحمان

: الرحمن علَّمَ القرآن.

89

ـ الزلزلة

: إذا زلزلت الأرض زلزالها!

90

ـ الرعد

: تلك آيات الكتاب

فهذا الجدول في فواتح السور يظهر لنا تطور أساليب القرآن المكي إلى خمس طرائق، يسيطر عليها ثلاث ظواهر من النظم: في الفترة الأولى الاستفتاح بالأقسام القومية الغريبة1 ؛ وفي الثانية القصص القرآني، الكتابي التلمودي؛ وفي الثالثة الأمثال القرآنية.يضاف إلى هذه الظواهر الثلاث، حادثتان: الهجرة الجُماعية إلى الحبشة ثم الهجرة الشخصية إلى الطائف. وهما تقسمان القرآن المكي إلى ثلاثة عهود، تتطور فيها الدعوة القرآنية إلى ثلاثة

ــــــــــــــــ

( 1 ) وهي أقسام دارجة في البيئة الحجازية، من بقايا الوثنية العربية الفلكية، ضاع معناها الديني، وبقي مبناها في التخاطب والبلاغة.

ـ 174 ـ

مواضيع: في العهد الأول الدعوة للإيمان باليوم الآخر؛ وفي الثاني الدعوة للتوحيد الخالص، وفي الثالث الدعوة لله واليوم الآخر معاً.

وهذه الأساليب الثلاثة التي تميّز العهود المكية الثلاثة: طريقة الأقسام، وطريقة القصص، وطريقة الأمثال، وجدها محمد قبله في بيئته، في سجع الكهان، وفي قصص السمر وأيام العرب وفي أمثال الحكماء العرب1 ، ولذلك لما سمعوها قالوا: ((سحر يؤثر))، ((أساطير الأولين)).

ليس الجديد في تلك الأساليب، بل الجديد في روح القرآن، تلك الروح الدينية العارمة؛ وفي صوفية القرآن القائمة على الصراع الروحي بين الايمان والكفر؛ وفي دعوة القرآن إلى الايمان بالله واليوم الآخر، ذاك الموضوع الذي يشبعه القرآن تحليلاً وتمثيلاً، مما لم يكن يخطر على بال من سجّعوا قبله وقصّوا ومثّلوا.

أجل وجد القرآن أساليبه الثلاثة المميزة عند العرب قبله؛ ولكنه نفحها بروح التوحيد الكتابي.

فالسور من 1 - 32 هي مِنَ العهد المكي الأول؛ تُضاف إليها 33 - 44 وهي فترة انتقال ينتهي العهد معها بسورة مريم: ذروة التأثير المسيحي في القرآن المكي. فالدعوة لليوم الآخر ليست توراتية أو نبوية كتابيّة، إنما هي دعوة إنجيلية مسيحية رهبانية. لذلك نسمّي هذا العهد الأول ((العهد القرآني المسيحي)) وسوره كلها من المفصل، سوى الأعراف وهي مجموعة متفرقات: اكتفى المشركون فيها بالطعن بالدعوة وصاحبها.

والسور من 45 – 56 ثم من 57 – 66 هي من العهد الثاني المكي، والدعوة فيه إلى التوحيد الخالص. ويغلب عليه التأثير الإسرائيلي كما يدل عليه الانتساب إلى كتاب موسى الإمام (أحقاف 12) والاستشهاد المتواصل بعلماء

ــــــــــــــــ

( 1 ) وقد حفظ لنا القالي في كتاب الإمالي، والجاحظ في كتاب الحيوان أمثلة من ذلك عن الأقدمين. cf.Encl.de I'Islam I : 410 n.2

ـ 175 ـ

بني إسرائيل ((الذين فضلهم الله على العالمين1 )). لذلك نسميه ((العهد القرآني الإسرائيلي)). تتدرج فيه السور من القصر إلى الطول في ((المئين والمثاني)). وهدفها ترغيب وترهيب بالقصص القرآني الكتابي، مع دفع شبهات المشركين، والرد المتواصل على طلبهم من النبي معجزة مثل الأنبياء الأولين: يرد أولاً ودائماً بشهادة أهل الكتاب لـه، وأخيراً بالتحدّي بالقرآن (إسراء، يونس، هود).

والسور من 67 - 90 من العهد الثالث المكي، مجموعة من كل الأساليب، في سبيل الدعوة للايمان بالله واليوم الآخر معاً. ونلاحظ أن بعض سور المفصّل فيها، ما هي إلا مجموعات مختلفة نظماً و رويّاً وليست سوى بقايا من العهد الأول جُمعت في وحدات اصطناعية لآيات فيها من العهد الأخير. وكلها توحي بأن العهد الأخير بمكة، ما بين الهجرة إلى الطائف حيث رده يهودها رداً غير جميل، والهجرة الكبرى إلى المدينة بعد بيعه العقبة الأولى ومعاهدة العقبة الثانية على ((قطع الحبال مع اليهود)) وعلى ((حرب الأحمر والأسود من الناس))، كان عهد تردّد واستطلاع إلى الاستقلال عن أهل الكتاب، إلى أن استقر في المدينة فوجد طريقته المستقلة في التنزيل والدين2 .

ذاك هو نظم القرآن ((العجيب)) ، وتلك لمح من ((إعجازه)). وقد اتفقوا على القول بالاعجاز، ولم يتفقوا على ناحية الاعجاز فيه3 ، فقالوا ((إن عجائبه لا تنتهي)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) تفضيل بني إسرائيل على العالمين فكرة توراتية ينص عليها مراراً سفر تثنية الاشتراع.

( 2 ) راجع ص 160 تفصيل عهود الدعوة وتطور أساليبها.

( 3 ) الإتقان: 2 إعجازه 118.

ـ 176 ـ

الفصل الثالث عشر

ما هو إعجاز القرآن؟

بحث أول: واقع الاعجاز البياني في القرآن

يقول القرآن عن نفسه: ((قل: لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) (إسراء 88).

إنه التحدي للثقلين بإعجاز القرآن: ((فقامت جهود العلماء في دراسات القرآن على جلاء تلك المسائل الفنية لحلّ اللغز الذي حيّر الناس وهو الإعجاز وكانت محاولات شتى للوصول إلى حلّ لـه والاهتداء إلى تعليل عللوه أولاً بمسائل فلسفية كلامية لكنه لم يستقم وقامت حوله اعتراضات ومطاعن . واجتنبوا به ناحية بيانـية فتوصلوا إلى نتائج خدمت النقد والأدب جميعاً1 )).

والقول الفصل في هذا الفصل ما نقله السيوطي ((في إعجاز القرآن)) قال: المعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي سالم عن المعارضة. وهي إما حسية وإما عقلية. وأكثر معجزات بني إسرائيل كانت حسية لبلادتهم وقلة بصيرتهم. وأكثر معجزات هذه الأمة عقلية لفرط ذكائهم وكما أفهامهم. ولأن هذه الشريعة، لمّا كانت باقية على صفحات الدهر إلى يوم القيامة، خصت بالمعجزة العقلية ليراها ذوو البصائر2 )) .

ـ والقرآن يشهد بأن محمداً عرض على قومه معجزته العقلية بعد أن أعجزوه

ــــــــــــــــ

( 1 ) محمد زغلول سلام: أثر القرآن في تطور النقد العربي 307 .

( 2 ) الإتقان 116:2 – 115 .

ـ 177 ـ

بمعجزة حسية يلمسها سواد الشعب لا البلغاء فقط. فلما تلى محمد القرآن على العرب طلبوا منه معجزة تؤيد نبوته ورسالته، وإلاَّ رشقوه بشتى التهم: ((وأسرّوا النجوى الذين ظلموا (أي المشركون): هل هذا إلا بشر مثلكم؟ أفتأتون السحر وأنتم تبصرون؟ ـ قال: ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم ... بل قالوا: أضغاث أحلام! بل افتراه! بل هو شاعر! فليأتنا بآية (معجزة) كما أرسل الأولون! ـ لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون؟ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون)). ثم يردّ تعدّد الآلهة أولا من العقل: ((أم اتخذوا من دونه آلهة من الأرض هم ينشرون! لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا! فسبحان الله رب العرش عما يصفون. لا يُسأل عما يفعل وهم يُسْألون !)). ثم من النقل: ((أم اتخذوا من دونه آلهة؟ ـ قل هاتوا برهانكم! هذا ذكر من معي وذكر من قبلي! بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون. وما أرسلنا من قبلك من رسول ألا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)) (أنبياء 1 - 26) فهذه الصفحة توجز موقف المشركين من القرآن في العهد الأول والثاني من مكة: يطلبون معجزة تؤيد نبوته ورسالته، مثل الأنبياء الأولين، فيعجز؛ فيتهمونه بشتى التهم: ((بل قالوا أضغاث أحلام! بل افتراه! بل هو شاعر! فليأتنا بآية كما أرسل الأولون)) (أنبياء 5) ثم يرد على شركهم بدليلي من العقل: تعدّد الآلهة يفسد الخليقة؛ ودليل من النقل: شهادة الكتاب الأول، والأنبياء الأولين على صحة التوحيد: ((هذا ذكر من معي وذكر من قبلي! وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي إليه أنه لا إله إلاّ أنا فاعبدون)). تلك براهين القرآن على فساد الشرك.

ولذلك ظلوا يلاحقونه باجتراح معجزة تشهد له: ((وقالوا: لو أُنزِل عليه آية من ربه؟ ـ قل إنما الآيات عند الله، وإنما أنا نذير مبين! أولم يكفهم أنَّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم؟)) ـ إقرار رائع بسيط: ليس عنده معجزة: ((إنما الآيات عند الله))؛ ويكفيه برهاناً انه يتلو عليهم الكتاب الذي نزل من قبل، فهو ((ذكر من معي وذكر مَن قبلي)) (24).

ـ 178 ـ

أما المعجزة الإلهية على صحة رسالته ونبوّته فلم تأتِ إلا في العهد الثالث حين الهجرة الشخصية إلى الطائف في سور الإسراء ويونس وهود: إعجاز القرآن البياني، فقد تحدّاهم على أن يأتوا بمثله: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن،لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً! ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً)) (إسراء 88 – 89). لم يقبلوا منه هذا التحدي وأعرضوا ((عن كل مثل في هذا القرآن)) طالبين منه معجزة حسية مثل المعجزات التي يُعدُّونها لـه: ((وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجّر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيلٍ و عنب فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً ، أو تسقط السماء كما زعمتَ علينا كسفاً، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيتٌ من زخرف، أو ترقى في السماء؛ ولن نؤمن لرُقيّك1 حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه! ـ قل سبحان ربي هل كنت إلاَّ بشراًً رسولاً!)) (إسراء 89 - 92) إنه إقرار رائع صادق بالعجز عن معجزة حسيّة كالأنبياء الأولين. وسورة الإسراء ترينا أن ذاك العجز ليس أمراً واقعاً فحسب، بل أنه قضية مبدإٍ إلهي: إن المعجزات قد منعت عن محمد: ((وما منعنا أن نُرسِل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون ... وما نُرسل بالآيات إلا تخويفاً)) (إسراء 58) فمهما كانت الأسباب، فالأمر بمنع المعجزات عن محمد أمر إلهي واقع.

طلبوا من النبي معجزة حسية مثل الأنبياء الأولين، فجاءَهم بمعجزة عقلية، قوامها إعجاز القرآن البياني، فرفضوها وأصرّوا على طلبهم وتعجيزهم له.

ــــــــــــــــ

( 1 ) كل من هذه المعجزات قد نسبت إلى أحد الأنبياء الأولين. وقولهم ((لن نؤمن لرقيك حتى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه)) تفسّر مع الآية 59 ((وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)) معنى آية الإسراء في مطلع السورة: إنه رؤيا لا أمر واقع. والإسراء إلى جبل مقدس مثل موسى غير المعراج إلى السماء كما وقع للمسيح وللقديس بولس الرسول، والقرآن لا يذكر المعراج. وآية الإسراء: ((ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه)) (92) تنفي قصة المعراج إلى السماء.

ـ 179 ـ

تجاه عجزه عن معجزة حسية وإصرارهم عليها يتهمونه بافتراء فيضيق بهم صدر الرسول: ((فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك، وضائق به صدرك أن يقولوا: لولا أُنزِل عليه كنز! أو جاء معه ملك! ـ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل. أم يقولون أفتراه! ـ قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، وادعوا مَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. فإلَّم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله! وأن لا إله إلا هو! فهل أنتم مسلمون؟... أفمن كان على بيّنةٍ من ربه، ويتلوه شاهد منه، ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة، أولئك يؤمنون به ... فلا تكُ في مرية منه: إنه الحق من ربك، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) (هود 12 – 17). هنا يقابل القرآن بين المعجزة الحسية التي يطلبون، والمعجزة العقلية التي يتحداهم بها: يعجز الرسـول عن المعجزة الحسية فيتهمونـه بالافتراء. فيتحداهم ((بعشر سور مثله مفتريات)) فيعجزون فيصرّح ظافراً ((فاعلموا إنما أنزل بعلم الله)) . ثم يعدّد لهم شهوده: الرسول ذاته الذي هو على بيّنة من ربه، والشاهد الذي يتلو عليه الكتاب، كما في قوله ((وقال الذين كفروا: لست مرسلاً! ـ قل كفى بالله شهيداً ومَن عنده علم الكتاب)) (رعد 45)، وكتاب موسى، إمام القرآن. فالقرآن ذاته لا يكتفي بالتحدي بالقرآن معجزة له، بل يعرض عليهم شهوده من الكتاب الإمام ومن أهل الكتاب الذين يتلونه وعندهم علمه؛ فالقرآن يتحدّى المشركين بإعجازه ردّاً على تهمة الافتراء، ولكن لا يعطي هذا التحدي معجزة تشهد لـه بل شهوده الكتاب الإمام وأهله.

ويتمادون معه في تهمة افتراء القرآن على الله، فيتمادى هو معهم بالتحدي بسورة مثله: ((وما كان هذا القرآن ان يُفترى من دون الله؛ ولكن تصديق الذي بين يديه (قبله) وتفصيل الكتاب، لا ريب فيه، من رب العالمين. أم يقولون: افتراه! ـ قل فأتوا بسورة مثله وادعوا مَن استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين! بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمَّا يأتِهم تأويله!)) (يونس

ـ 180 ـ

37 - 40). هنا بلغ القرآن مداه بتحديهم رداً على تهمة الافتراء، بسورة مثله! ولكنه تحدٍّ لا يأخذ صفة معجزة. ويظهر أن التحدي بمعنى القرآن وتعليمه، لا بنظمه: فهو تصديق الكتاب الإمام! وهو تفصيل الكتاب الإمام! وهم ((كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، من القرآن، ولمَّا يأتِهم تأويله)) . تلك أربع جمل، اثنتان قبل التحدي، واثنتان بعد التحدي، وكلها تفسّر معنى التحدي: إنه تحدٍّ بتعليم القرآن الذي هو تفصيل الكتاب وتصديقه وأن لم يفهموه ولم يعلموا تأويله، لا بنظمه أو إعجاز بيانه. ولا يتخذ هذا التحدي صفة المعجزة الإلهية المطلوبة على صحة نبوّته ورسالته؛ بل يرد تهمة افتراء هذا القرآن، فيقول: لا يكون مفترى ما هو تفصيل الكتاب الإمام وتصديقه، والدليل على صحة هذا التفصيل وهذا التصديق ((فاتوا بسورة مثله!)) ثم كررها في قوله: ((وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين. فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا، فاتقوا النار)) (بقرة 23).

قال السيوطي: ((فلما عجزوا عن معارضة الاتيان بسورة تشبهه على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء، نادى عليهم بإظهار العجز وإعجاز القرآن، قال: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) (اسراء 88).

التحدي بالقرآن لم يتجاوز سورة البقرة في مطلع العهد بالمدينة. واختفى هذا التحدي بإعجاز القرآن، في السور المدنية عندما انتقل الجدال في القرآن من المشركين إلى الكتابيين. فكان التحدي بالاعجاز البياني من فترة وجيزة عابرة من آخر العهد بمكة إلى مطلع العهد بالمدينة، وكان التحدي بالقرآن للمشركين لا للكتابيين.

يظهر ذلك من سورة الأنفال التي نزلت بعد نصر بدر! ((وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاء لقلنا مثل هذا! إنْ هذا إلا أساطير الأولين! ..

ـ 181 ـ

وإذا قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فامطرْ علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم! ـ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون!)) (أنفال 32 – 33).

إن جواب المشركين على تحدّي النبي لهم مزدوج: أجابوا على التحدي بإعجاز نظم القرآن: ((قد سمعنا: لو نشاءُ لقلنا مثل هذا!)) فليس فيه من جديد: ((إن هذا إلا أساطير الأولين!)) فإن كانت هي ((الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء!)) وهذا يعني أن معجزته العقلية لم تقنعهم، لا معنى ولا مبنى، بل ظلوا مصرين على إعطائهم معجزة حسية مثل الأنبياء الأولين.

ذاك كان جدال القرآن في مطلع العهد مع المشركين. ويتغير الموقف مع الكتابيين في سورة آل عمران، وفيها يأتي الجواب النهائي على إعجاز القرآن معنىً ومبنى، وبعدها يسدل القرآن الستار على الموضوع محتكماً إلى آية السيف التي ظهر إعجازها الفعَّال في معركة بدر.

قال: ((آلم. الله ـ لا إله إلا هو ـ الحي القيّوم نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه؛ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس؛ وأنزل الفرقان)) (آل عمران 1 - 3) فالقرآن ينتسب معنى ومبنى للكتاب: فهو تصديق التوراة والإنجيل؛ والذي نزّل الكتاب في التوراة والإنجيل والقرآن هو الحيّ القيّوم ـ اسم الله الكتابي باللغة السريانية1 ـ وبتنزيل الثلاثة أنزل ((الفرقان)) كله. ولا يطعن في تنزيل القرآن ما تشابه منه: ((هو الذي أنزل عليك الكتاب: منه آيات محكمات ـ هن أمّ الكتاب ـ وأُخر متشابهات. فأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون ما تشابه منه، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله. وما يعلم تأويله إلا الله. والراسخون في العلم يقولون: آمنَّا، كلٌّ من عند ربنا. وما يذكّر إلا أولو الألباب ... قد كان لكم آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في

ــــــــــــــــ

( 1 ) الإتقان 140:1.

ـ 182 ـ

سبيل الله وأخرى كافرة، يرونهم مثلَيْهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء: إن في ذلك لعبرة لأولي الابصار)) (آل عمران 7 و 13).

في الآية السابعة من آل عمران تصريح القرآن الأخير على إعجازه: فيه شهادات خمس: 1ً على وجود المتشاب في القرآن 2ً ذاك المتشابه الذي يتبعه أهل الفتنة 3ً لا يعلم تأويله إلا الله؛ 4ً والراسخون في العلم يقولون: آمنا به أيضاً، إنه من عند ربنا مثل المحكم؛ 5ً وما يذكّر إلاَّ أولو الألباب. فهذه الشهادات الخمس فيها القول الفصل على معنى ومدى إعجاز القرآن البياني: أيكون معجزاً للناس كلام لا يعلم تأويله إلا الله ؟؟؟ أيكون معجزاً للناس كلام لا يعلم تأويله إلا الراسخون في العلم أنفسُهم بل يفوّضون علمه الله ؟؟؟ فبحسب هذه الآية، إذا كان متشابه القرآن، وهو القسم الأكبر منه، لا يطعن في تنزيل القرآن، فهو لا ينسجم مع الإعجاز المطلوب؛ قال السيوطي1 : ((إن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به)). ولذلك منذ مطلع هذه السورة عدل القرآن نهائياً عن التحدّي بإعجازه لما ثبت فيها نهائيّاً إن ((فيه آيات متشابهات)) كثيرة لا يعلم تأويلها إلا الله. واحتكم إلى معجزة الله الجديدة، آية الحديد الذي فيه بأس شديد (سورة محمد 25) قال باعتزازٍ: ((قد كان لكم آية في فئتين التقتا (في بدر...) والله يؤيد بنصره من يشاء. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار)) (آل عمران 13).

*

بحث ثان: اختلافهم على وجه الإعجاز في القرآن

ترك القرآن التحدي بإعجازه إلى التحدي بآية الحديد ((إنا أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)) (محمد 25) تلك الآية التي ظهر بأسها للمشركين ومنافعها للمسلمين في بدر (آل عمران 13). مع ذلك ظل القوم متمسكين بها

ــــــــــــــــ

( 1 ) اتقان 117:2 .

ـ 183 ـ

إلى اليوم؛ وجعلوها معجزة القرآن الكبرى التي تفضل معجزات الأنبياء الأولين جميعها: فهذه حسية واعجاز القرآن معجزة عقلية ((كاف في الدلالة قائم مقام معجزات غيره، وآيات من سواه من الأنبياء1 )).

اتفقوا على القول بإعجازه، معجزة إلهية لا نظير لها؛ ولكنهم اختلفوا في وجوه هذا الإعجاز. قال السيوطي: ((لما ثبت كون القرآن معجزة نبيّنا ص. وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإعجاز وقد خاض الناس في ذلك كثيراً فبين محسن ومسيء)).

((فزعم قوم أن التحدّي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات (في الله) وأن العرب كُلِّفت في ذلك ما لا يطاق به فوقع عجزها. ـ وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصور التحدي به. والصواب ما قاله الجمهور إنه وقع بالدالّ على القديم وهو الألفاظ.

((ثم زعم النظام أن الإعجاز كان بالصرفة، أي إن الله صرف العرب عن معارضته، وسلب عقولهم؛ وكان مقدوراً لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات.

ـ في هذا القول، المعجز هو الله الذي صرفهم لا القرآن، والاجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن.

قال وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم: إن الكل قادرون على الاتيان بمثله وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيبه؛ لو علموه لوصلوا إليه به.

ولا بأعجب من قول آخرين: إن العجز وقع منهم. واما مَن بعده ففي قدرته الاتيان بمثله.

3 ـ ((وقال قوم: وجه إعجازه ما فيه من الأخبار عن الغيوب المستقبلة، ولم يكن ذلك من شأن العرب.

ــــــــــــــــ

( 1 ) اتقان 118:2.

ـ 184 ـ

4 ـ ((وقال آخرون: وجه إعجازه ما تضمنه من الأخبار عن قصص الأولين حكاية من شهدها وحضرها.

5 ـ ((وقال آخرون: وجه إعجازه ما تضمنه من الأخبار عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل؛ كقوله ((إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا ويقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله...)).

6 ـ وقال القاضي أبو بكر الباقلاني (ولم يصنّف مثل كتابه، إعجاز القرآن): ((وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف. وإنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم: ولهذا لم يمكنهم معارضته. ثم قال: ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر، وفي بعضه أدق وأغمض)) .

7 ـ ((وقال الإمام فخر الدين الرازي: وجه الإعجاز الفصاحة، وغرابة الإسلوب، والسلامة من جميع العيوب.

8 ـ ((وقال الزملكاني: وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به: يقع كل فنّ فيه في مرتبتِه العليا في اللفظ والمعنى.

9 ـ ((وقال ابن عطية: الصحيح، والذي عليه الجمهور في وجه إعجازه: إنه بنظمه، وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه، مما يعجز عنه بشر. ثم قال: ونحن تبين لنا البراعة في أكثره ويخفى علينا وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة؛ وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة1 .

ــــــــــــــــ

( 1 ) مثل هذه الأحكام التي تشمل آداب العالم، من الجهل والغباوة بمقدار كبير: هل كان العرب أفصح من الإغريق والرومان الذين سبقوهم؟ وأفصح من غيرهم الذين لحقوهم ؟... لذلك قوله ((وقامت الحجة على العالم بالعرب)) مردود فكل قوم بل كل شخص له الحق أن يذوق إعجازه حتى يدرك معجزته.

ـ 185 ـ

10 ـ ((وقال حازم: وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها، في جميعه، استمراراً لا يوجد له فترة، ولا يقدر عليه أحد من البشر.

11 ـ وقال المراكشي: وجه إعجازه في بيانه، وهو حسن الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال.

12 ـ وقال الأصبهاني: إعجاز القرآن من وجهين: أحدهما إعجاز متعلق بنفسه، والثاني بصرف الناس عن معارضته. والإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المخصوص به وهو جامع لمحاسن جميع أنواع الكلام من رسالة أو خطابة أو شعر أو سجع، على نظم غير نظم شيء منها.

13 ـ وقال السكاكي: إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن أو كالملاحة تدرك ولا يمكن وصفها.

14 ـ وقال أبو حيَّان التوحيدي: موضع الإعجاز في القرآن مسألة فيها حيف على المعنى. وليس في طاقة البشر الاحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه؛ لذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده.

15 ـ ((وقال الخطابي: ذهب الأكثرون من علماء النظر إلى أن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة؛ ولكن صعب عليهم تفصيلها، وصفوا فيه إلى حكم الذوق. والقرآن إنما صار معجزاً لأنه جاءَ بأفصح الألفاظ، في أحسن نظام، والتأليف مضمناً أصح المعاني من التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وله وجه ذهب عنه الناس وهو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس.

16 ـ ((وقال ابن سراقة: اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن فذكروا في ذلك وجوهاً كثيرة كلها حكمة وصواب وما بلغوا في وجه إعجازه جزءاً واحداً من عشر معاشره.

17 ـ ((وقال الزركشي أهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق

ـ 186 ـ

من الأقوال لا بكل واحد على انفراده فإنه جمع ذلك كله. وزاد الروعة التي في قلوب السامعين، وجمعه بين الجزالة والعذوبة، وجعله آخر الكتب المنزلة غنيّاً عن غيره، بينما هي قد تحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه.

18 ـ ((وقال الرماني: وجوه إعجاز القرآن تظهر من جهات: ترك المعارضة مع التحدي للكافة، والصرفة، والبلاغة، والإخبار عن الأمور المستقبلة ونقض العادة في أنواع كلامهم، وقياسه بكل معجزة للأنبياء الأولين.

19 ـ ((وقال القاضي عياض في (الشفاء): إن القرآن منطوٍ على وجوه من الإعجاز كثيرة. وتحصيلها في ضبط أنواعها أربعة وجوه: حسن تأليفه، وصورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب، وما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات، وما أنبأ به من أخبار القرون السالفة)).

نقول، والخلاصة ((اختلف أهل العلم في وجه إعجاز القرآن)) وأقوالهم المتعددة المختلفة دليل ذلك. وتقسم هذه الأقوال إلى ثلاثة أنواع: منهم من حصر إعجازه في وجه. ومنهم من جمعها في كل الوجوه الممكنة. ومنهم من صرّح بالعجز عن وصف إعجازه. وكلهم يذهبون من هذا المبدإ: القرآن كلام الله: وكلام الله معجز من ذاته كما قال أحدهم: ((ليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه)) وقال ابن حزم: ((لم يقل أحد إن كلام غير الله تعالى معجز، لكن لما قاله الله تعالى وجعله كلاماً لـه أصاره معجزاً ومنع من مماثلته: وهذا برهان كاف لا يحتاج إلى غيره)). قال الرافعي ((وهل يراد إثبات الإعجاز للقرآن إلا إثبات أنه كلام الله1 )). وهذا من حيث أصول المنطق، دائرة مفرغة: كلام الله معجز لأنه كلام الله، وإعجازه أنه كلام الله! ... فالإعجاز إذن في مصدره لا في ذاته.

*

ــــــــــــــــ

( 1 ) إعجاز القرآن 164.

ـ 187 ـ

بحث ثالث: مسائل في الاعجاز القرآني

وينقل السيوطي بعض (التنبيهات).

منها، هل في القرآن تفاوت في مراتب الفصاحة؟ ـ ((اُختلف في تفاوت القرآن في مراتب الفصاحة، بعد اتفاقهم على أنه في أعلى مراتب البلاغة. فاختار القاضي المَنْع (أي لا تفاوت فيه). واختار القشيري وغيره التفاوت، فقال: لا ندّعي أن كلَّ ما في القرآن على أرفع الدرجات في الفصاحة؛ وكذا قال غيره: في القرآن الفصيح والأفصح، والمليح والأملح.

ومنها هل الإعجاز متعلق بجميع القرآن أو ببعضه؟ ـ ((واختلف في قدر المعجز في القرآن: فذهب بعض المعتزلة إلى أنه متعلق بجميع القرآن (أي في جملته لا في تفصيله)؛ وقال آخرون يتعلق بقليل القرآن وكثيره لقوله ((فليأتوا بحديث مثله))؛ وقال قوم لا يحصل الإعجاز بآية بل يشترط الآيات الكثيرة؛ وقال القاضي: يتعلق الإعجاز بسورة، طويلة كانت أو قصيرة تشبثاً بظاهر قوله ((بسورة)) أي بسورة أو قدرها مـن الكلام، لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة: فإذا كانت آية بقدر حروف سورة، وإن كان كسورة الكوثر، فذلك معجز؛ ثم قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر)) .

وقد رأينا رأي الباقلاني في أن الإعجاز القرآني قائم في جملته لا في تفصيله أي في السورة الكاملة كوحدة فنيّة. وهو رأي يعتدُّ به.

ومنها هل يُعلم إعجاز القرآن ضرورةً؟ ـ وهذا العلم ضروري للإيمان لأن الإعجاز معجزة القرآن ـ (( واختلف في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة؟ قال القاضي عن الأشعري: النبي يعلمه ضرورة، وغيره يعلم كونه معجزاً بالاستدلال. ثم قال والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكن أن يعلم إعجازه وكذلك مَن ليس ببليغ! ..)) الفصاحة والإعجاز للخاصة من العرب، والدين للعامة من

ـ 188 ـ

العرب والعجم؛ وبما أن إعجاز القرآن معجزته الإلهية للإيمان به، فهذه المعجزة لا تهدي عامة العرب وعامة العجم إلى الدين والايمان لأنهم لا يفهمونها. وليس من عدل الله ولطفه بعباده أن يُلجِئهم إلى الإيمان بواسطة معجزة لا يقدرون أن يفقهوهها: فالرحمان الرحيم لا يفرض على عباده المستحيل. لذلك (( بما أن الأعجمي لا يمكن أن يعلم إعجاز القرآن، وكذلك من ليس ببليغ)) فلا يمكن أن يجعل الله إعجاز القرآن البياني معجزة لـه، وإن فعل فقد جاءَ عَبَثَاً، سبحانه وتعالى، وفرض المستحيل.

ومنها أخيراً ((قال القاضي: فإن قيل هل تقولون إن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والانجيل؟ قلنا: ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف، وإن كان معجزاً كالقرآن فما يتضمن من الإخبار بالغيوب. وإنما لم يكن معجزاً لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولم يقع التحدي إليه كما وقع في القرآن، ولأن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حدّ الإعجاز)) .

فالقاضي وأمثاله يقرّون للتوراة والإنجيل بالإعجاز فيما يتضمنان مـن الإخبار بالغيوب، وينكرون على التوراة والإنجيل الإعجاز البياني لأسباب ثلاثة كما ترى. فهل عرف القاضي وأمثاله العبرية واليونانية، وهما معلّمتا الناس أجمعين في آداب الدين والدنيا وبيانها وبديعها وبلاغتها، حتى يقرر بغباوة أن ((ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل إلى حد الإعجاز))؟ وقد نسي أن علوم البيان والبديع والبلاغة ما نشأت وصارت موازين للجمال الفني في القرآن إلا في ظل ترجمات كتب أرسطو في الشعر والخطابة والتطبيقات التي عملتها مدرسة يحيى الدمشقي على التوراة والإنجيل1 . وهل قرأ القاضي عيَّاض وأمثاله التوراة والزبور والحكمة والأنبياء والإنجيل، وقارن بين بيانها وبيان القرآن حتى يقرّر بجهالة مفضوحة ((إن الله لم يصفها بما وصف القرآن))؟ فالإعجاز عندهم

ــــــــــــــــ

( 1 ) السيد سلاّم: أثر القرآن في تطور النقد العربي ص 111 و و228 – 229 .

ـ 189 ـ

قضية مبدإ لا مسألة أمر واقع؛ والقرآن يشهد بأن إعجاز الكتاب والإنجيل مبدأ مقرر فيه وأمر واقع فيهما. ونرى أن التحدي واقع فيها كما وقع في القرآن، بإعجازه البياني، وتحدّي الإنجيل بالقول المعجز والعمل المعجز معاً؛ لذلك فمن الجهل والغباوة قولهم ((ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف في التوراة والانجيل)) ، وهما ((الفرقان)) مثل القرآن (آل عمران 2 و 3) وهما الكتاب الإمام (أحقاف 12) الذي يحبب أن يقتدي به النبي العربي (انعام 90) ولم يرد في الإنجيل شهادة كالتي في القرآن عن القرآن أن ((منه آيات محكمات وأخر متشابهات)) وأن في أحكامه منسوخاً وناسخاً: فكيف ينسجم بيان القرآن وبلاغته وهما مشحونان بالمتشابه مع إعجاز القرآن البياني والتشريعي؟ مع ذلك فليذكروا جميعاً إنه لم يتم تنزيل ((الفرقان)) على حدّ قول القرآن إلا بتنزيل التوراة والإنجيل والقرآن (آل عمران 2 و 3).

وختم السيد سلام يقول: ((ونحب أن نعدّد في هذا المقام بعض ما قاله الباحثون الغربيون ... يقول نلدكه إن القرآن يستخدم عناصر الطبيعة للتذكير بعظمة الله وسره وعدله، ويرى أن كثيراً من هذه الصور مستمدة من البيئة فهي لا تعطي الأثر القوي عند رجل غربي. فصور السحاب الذي يسيّره الله تعالى فوق الأرض وفي السماء، عبر الصحراء المقفرة، والمطر الذي ينزله على الصحراء الجرداء ليكسوها ويعيد إليها نضرتها وجنَّاتها وثمارها، فيبتهج العربي بمنظر الخضرة لأنها عنده الحياة. هذه الصوزة قوية الأثر في نفوس الأعراب الذين تعوّدوا أن تمر بهم سنوات عجاف تجف فيها الأرض قبل أن يهطل الغيث ليكسو قسوة الصحراء التي خلقها الزمن خيراً عميماً ومراعي خضراء غنية1 . ويتكلم كليمنت هوارت عن دور الطبعية في أقسام القرآن؛ ثم عن صور اليوم الآخر وما فيه من الجزاء البرّاق للمؤمنين وهو جنان الفردوس؛ ويذكر ما يصبّه القرآن على الكفار

ــــــــــــــــ

( 1 ) Noldeke S. E. H. p. 33

ـ 190 ـ

من جام اللعنات في صور مخيفة تبرز فيها قسوة الصحراء ودواهيها. ويذكر صاحب مقال (معلمة الاسلام1 ) مثل ما قاله نلدكه وهوارت: فيبيّن دور الطبيعة في القرآن في الدلالة على الخالق، ثم في القصص القرآني)). بحسب هؤلاء الباحثين الغربيين فالبيان القرآني بيان حجازي لا عالمي ((لأن كثيراً من صوره مستمدة من البيئة فهي لا تعطي الأثر القوي عند رجل غربي)) وفي القرآن القول الفصل في ذلك: فقد ((نزل بلسان عربي مبين))؛ والعربي هنا هو الحجازي القرشي أي ((بلسان قومك)) فهو ((ذكر لك ولقومك)) غايته ((لتنذر أمّ القرى وماحولها)): فالتحدي بإعجازه يقصده وحدَهم.

ــــــــــــــــ

(1) Enc. Of. Islam p. 1074 (vol. II )

ـ 191 ـ

خاتمة الكتاب

الإعجاز ما بين الإنجيل والقرآن :

(( الفرقان)) كله معجز

(( نزّل عليك الكتاب مصدقاً لما بين يديه ، و أنزل التوارة و الإنجيل من قبل هدى للناس: وأنزل الفرقان )) ( آل عمران ، 2 و 3 )

بحسب شهادة القرآن، إن التوراة والإنجيل والقرآن هي الفرقان؛ والفرقان كله معجز لأنه تنزيل الحي القيوم.

فالإعجاز قائم مابين الكتاب والقرآن، وما بين الانجيل والقرآن.

أجل ((لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله))! وقد أنزل الله التوراة على جبل سيناء فتصدّع فعلاً من خشية الله: ((وطور سيناء مدخّن كله لأن الله هبط عليه بالنار، فسطع دخانه كدخان الأتون، وارتجف الجبل جداً. وكان صوت البوق آخذاً في الاشتداد جداً. وموسى يتكلم والله يجيبه بالصوت)) (خروج 18:17).

أجل ((الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم)). وعند سماع اليهود كلام المسيح ((دخل المجمع وأخذ يعلّم فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم كمن لـه سلطان لا كالكتبة)). وعند مشاهدتهم معجزاته ((ذذَهل الجميع حتى سأل بعضهم بعضاً قائلين: ما هذا؟ تعليم جديد! وبسلطان!

ـ 192 ـ

إنه يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه)) (مرقس 21:1 - 28) فالسيد المسيح يكلم الثقلين، ويعجز الثقلين قولاً وعملاً: يأمر الأرواح الشريرة فتطيعه، وكانت الملائكة تحضر وتخدمه (مرقس 13:1). فإذا كان القرآن تقشعر منه جلود الأتقياء الذين يخشون ربهم، فالإنجيل تقشعر منه جلود الأتقياء والأشرار من الناس، والملائكة والشياطين (مرقس 24:1).

أجل تحدّى القرآن الثقلين بقوله: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً)) (إسراء 88) والمسيح في الإنجيل تحدّى لا الثقلين فقط بل الجمادات أيضاً: فيوم دخل بيت المقدس دخول النبي الأعظم والملك الأكبر، ابن داود المصطفى ((فرش جماعات من الشعب أرديتهم في الطريق، وقطع آخرون أغصاناً من الشجر، وجعلوا ينثرونها في الطريق، وكان الجموع الذين قدامه والذين وراءه يهتفون: هوشعنا لابن داوود! مبارك الآتي باسم الرب! هوشعنا في الأعالي ... فقال لـه بعض الفريسيين من بين الجمع: يا معلّم ازجر تلاميذك. فأجابهم قائلاً: أقول إن سكت هؤلاء نطقت الحجارة!)) (متى 21 كله لوقا 40:19). وذات يوم ((كان رسله في سفينة في البحر وهو وحده في البر فلما رآهم مكدودين في قذفهم لمقاومة الريح لهم وافاهم ماشياً على البحر؛ فلما رأوه ماشياً على البحر؛ ظنوه خيالاً. فصرخوا لأنهم رأوه كلهم واضطربوا؛ وللوقت كلمهم وقال لهم: ثقوا، أنا هو، لا تخافوا. ثم قام وانتهر الريح وهيجان الماء فسكنا، وحدث هدوء. فجاء الذين كانوا في السفينة وسجدوا لـه قائلين: ((بالحقيقة أنت ابن الله)) (متى 15:14 - 34 مرقس 47:6 لوقا 22:8) بمثل هذا الإعجاز المطلق أَعجز الإنجيل الملائكة والبشر والشياطين وعناصر الطبيعة والحيوان والجماد: إعجاز بالقول وإعجاز بالعمل.

*

لقد وقع التحدي بالإعجاز في الإنجيل والقرآن. ولكن العبرة في صدى تأثير هذا التحدي، ومدى رد الفعل عليه عند الشعب.

ـ 193 ـ

كان جواب الشعب على القرآن، في مكة: ((إنْ هذا إلا سحر يؤثر! إن هذا إلا قول البشر)) (المدثر 24). ويتمادى في الدعوة فيعرضون ويقولون: ((سحر مستمر)) (قمر 2). يقصص القصص فيقولون: ((أساطير الأولين )). وفي المدينة يجدّد التحدّي بإعجاز القرآن البياني (بقرة 23) فيجيبونه: ((وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا: قد سمعنا! لو نشاءُ لقلنا مثل هذا! إن هذا إلا أساطير الأولين)) (أنفال 32). ولمَّا تحوّل الجدل من المشركين إلى الكتابيين اضطر إلى التصريح: ((فيه آيات محكمات، وأخر متشابهات)) (آل عمران 7). ولم تخرسهم إلا أية الحديد: ((إنا أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)) (سورة الحديد 26).

أما المسيح ((فقد رجع بقدرة الروح إلى الجليل، وذاع خبره في تلك الناحية كلها، وكان يعلّم في المجامع والجميع يشيدون بمجده... وكانوا جميعاً يشهدون لـه ويعجبون بالكلام المعجز الخارج من فيه، وكانوا يقولون: أوليس هذا ابن يوسف))؟ (لوقا 14:4 – 22). ثم ((دخل المجمع وأخذ يعلّم: فبهتوا من تعليمه لأنه كان يعلم كمن لـه سلطان لا كالكتبة)) (مرقس 21:1). منذ اللحظة الأولى يدرك الشعب البون الشاسع بين تعليم المسيح ذي السلطان، وتعليم الربانيين العادي لأن السيد المسيح لم يبدأ تعليمه سراً وإفرادياً مثل غيره، بل بدأه في مجامع اليهود أيام السبوت، وأمام الجماهير على الجبال وعلى شواطئ البحيرات.

وذات يوم لما تفاقم الخلاف بينه وبين السلطات الدينية اليهودية، أرسل محفل اليهود الشرط للقبض على يسوع، في المؤامرة الأولى، فعادوا دون أن يعملوا شيئاً ((فقال لهم هؤلاء: لِمَ لم تأتوا به؟ فأجاب الشرط: ما تكلم إنسان قط مثل هذا الإنسان! )) (يوحنا 47:7) فكأنهم يقولون: ما هذا بسحر يؤثر، وما هذا بقول بشر!

والإنجيل يعطينا أمثالاً عديدة على إعجاز بيان المسيح الذي كان يخطف الجماهير العديدة المتنوعة إلى سماع شرائعه أياماً على الجبل (متى 5 - 8)

ـ 194 ـ

وأمثالِهِ أياماً على شاطئ بحيرة الجليل (متى 13) وسرّ ملكوت الله أياماً ثلاثة متوالية في البريّة: خمسةُ آلاف رجل سوى النساء والصبيان يتبعون المسيح من كل المدن إلى البريّة يستمعون إليه، ناسين بيوتهم وأعمالهم، وليس معهم ما يأكلون، فلما أضناهم الجوع، بارك على خمسة أرغفة شعير وأشبع منها خمسة آلاف رجل سوى النساء والصبيان: فأضاف معجزة العمل إلى معجزة القول، وتخطّى حدود الإعجاز المطلق، ((فلما عاين الناس الآية التي عملها يسوع قالوا: هذا في الحقيقة النبي الآتي إلى العالم (الذي تنبأ عنه موسى)؛ وإذ علم يسوع أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ويقيموه ملكاً، انصرف عنهم إلى الجبل وحده)) (يوحنا 6 مرقس 30:6 لوقا 10:9 متى 13:14). غيره يسعى إلى الملك عن طريق النبوة، والمسيح ينفر من الملك في سبيل النبوة ودعوة الحق.

لذلك مثَّل الإنجيل لإعجازه البياني والتشريعي والعقائدي، بالقول والعمل، بمثل تاجر الجواهر الذي وجد الجوهرة اليتيمة الفريدة: ((يشبه ملكوت الله أيضاً إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة، فلما وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كل ما كان له واشتراها)) (متى 24:13).

وكان تلاميذه البعيدون، ليلة صلبه وموته، وقد انهارت أحلامهم لهذه الآخرة المفجعة، يقولون قبل أن يروا قيامته ومجدَها وسلطانها: ((إن يسوع الناصري كان نبيّا مقتدراً في الفعل والقول، أمام الله وأمام الشعب كله)) (لوقا 19:24).

*

فالاعجاز البياني والبلاغي سواء في التوراة والإنجيل والقرآن لأنها جميعاً ((الفرقان)) على حدّ قول القرآن (آل عمران 2 – 3).

ولكن ما بين إعجاز القرآن وإعجاز الاإنجيل فارق جوهري. لقد أجمع القوم على أن إعجاز القرآن في القول الجميل. وإعجاز الإنجيل قائم معاً في سحر البيان وسرّ المعجزات الشاملة.

ـ 195 ـ

فالقرآن ذاته يشهد بأن إعجازه كله في بيانه، في فصاحته وبلاغته، أي في القول الجميل، لأن تعليمه،على حدّ قوله، في الكتاب الإمام من قبله: ((وإنه لفي زُبر الأولين)) أي كتب الأولين كالتوراة والإنجيل (الجلالان: شعراء 196)؛ والكتاب إمامه في الهدى (أحقاف 12) وبهدى الكتاب يجب على نبي القرآن أن يقتدي (انعام 60)؛ فما القرآن سوى تصديق الكتاب بين العرب، وتفصيله لهم (يونس 37).

والإنجيل يشهد بأن إعجازه كان في القول المعجز والعمل المعجز معاً: ((فكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى يعلّم في مجامعهم ويكرز بإنجيل ملكوت الله ويشفي كل مرض وكل ضعف)) (متى 36:9). فالسلطات الإسرائيلية والشعب اليهودي شهدوا للسيد المسيح ((بأنه ماتكلم إنسان قط مثل هذا الإنسان)) (يوحنا45:7). والمسيح ذاته كان يقول لهم عن ذاته بأنه أعظم من الشريعة المنزلة التي يعدّ لها بسلطانه الذاتي (متى 5) وأعظم من السبت والهيكل وموسى الذي يشكوهم عند الله لقلة ايمانهم بالمسيح ((لأن موسى كتب عني)) (يوحنا 46:5) وأعظم من إبراهيم جدّ التوحيد، وأبي الأنبياء: ((الحق الحق أقول لكم قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن)) (يوحنا 58:8)؛ وهو وحده دون سائر الأنبياء والمرسلين يعرف الله حق معرفته ((ليس أحد يعرف الآب إلا الابن، وليس أحد يعرف الابن إلا الآب ومن يريد الابن أن يكشف لـه)) (يوحنا 27:11) فسر الله في ذاته مشترك بين الله والمسيح لأنه كلمة الله وروح الله كما يقول القرآن (نساء 70) أو كما يقول عن نفسه في الإنجيل: ((أنا والآب واحد)) ( (يوحنا 30:10). وإعجاز القرآن البياني موجز في صلاة الفاتحة، أمّ القرآن: ((اهدنا الصراط المستقيم)) وإعجاز الإنجيل في مثل قول المسيح، كلمة الله، عن ذاته: ((أنا الصراط و الحقيقة و الحياة)) ( يوحنا 14: 6 ) ، وهذا الصراط في المسيح هو الحقيقة، وهذه الحقيقة في المسيح هي الحياة. فهل بعد هذا البيان والبلاغ من إعجاز بياني أو بلاغي؟

ـ 196 ـ

وقد دعم الإنجيل إعجازه البياني بإعجازه في اجتراح المعجزات. وكان المسيح يقدّم لهم دائماً معجزاته برهاناً على بنوته ورسالته وشخصيته حتى أعجزهم بأقواله وأعماله. شفى مخلّعاً منذ ثمانٍ وثلاثين سنة يوم السبت، فأعترض عليه اليهود لعمل المعجزة يوم السبت فأجابهم بأنه هو رب السبت والمعجزة معاً: ((إن أبي يعمل بلا انقطاع وأنا أيضاً أعمل يوم السبت. فما يفعله الآب يفعله الابن كذلك: لأن الآب يجب الابن ويريه جميع ما يفعل، وسيريه أعمالاً أعظم من هذه فتأخذكم الدهشة: فكما أن الآب ينهض الموتى ويحييهم، كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء. وإن الأعمال التي خولني الآب أن أعملها، هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها، هي تشهد لي بأن الآب قد أرسلني)) (يوحنا 17:5 و 19 – 21 و 36).

وقد شهد للمسيح والإنجيل بالاعجاز في القول والعمل علماء اليهود الذين شهدوا في ما بعد لمحمد على صحة توحيده: جاءَه أحد أعضاء السنهدرين، محفلهم الأكبر والسلطة العليا عندهم في الدين والدولة، وقال ليسوع ((رابيّ نحن نعلم أنك جئت من قبل الله معلمّا: إذ ما من أحد يقدر أن يصنع المعجزات التي تصنعها إذا لم يكن الله معه)) (يوحنا 2:3).

وشهد لـه الشعب كله ((فلما أتى إلى الجليل قبله الجليليون لأنهم عاينوا كل صنعه في أورشليم في العيد)) (يوحنا 5:4) وشهد له الرومان الحاكمون في فلسطين، مثل القائد العسكري في كفر ناحوم الذي دعاه لشفاء ابنه المنازع، ((فقال له يسوع: إن لم تعاينوا الآيات والمعجزات لا تؤمنون! فقال لـه القائد: يا رب انزل قبل أن يموت ولدي. فقال لـه يسوع: امضِ فإن ابنك حي! فآمن القائد بالكلمة التي قالها يسوع له ومضى)). وشفي ابنه للحال، (يوحنا 45:4 – 54).

وقبل أن يستشهد يحيى المعمدان بن زكريا، أرسل إلى المسيح سفارة من تلاميذه كي يدلهم على المسيح ويجعلهم يتبعوه. فسألوا يسوع المسيح: ((هل أنت النبي الأعظم المنتظر؟ أم ننتظر آخر غيرك؟ وفي تلك الساعة شفى كثيرين من

ـ 197 ـ

أمراض وأوجاع وأرواح شريرة، ووهب البصر لعميان كثيرين. ثم أجاب وقال لهم: انطلقوا واعلموا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون! والعرج يمشون! والبرص يطهرون! والصم يسمعون! والموتى يقومون! والمساكين يُبَشّرون! وطوبى لمن لا يشك فيَّ)) . (لوقا 18:7 – 23 متى 2:11 – 6). في سؤال يحيى إشارة إلى نبوة موسى عن خاتمة الأنبياء المصطفى، وفي جواب يسوع إشارة إلى تتمة نبوءة موسى وسائر الأنبياء عن أعمال المسيح، النبي الأعظم المنتظر، نفّذها أمام تلاميذ يحيى وأمام الشعب، مستشهداً بتلك النبوآت المتواترة عنه، وبهذه المعجزات الخارقة التي فاقت بكثرتها وعظمتها سائر أعمال الأنبياء الأولين على أنه هو المصطفى، خاتمة الأنبياء. فبلغ الإعجاز الإلهي مداه بالبيان، والخوارق، وتتميم النبوآت المتواترة عنه جيلا بعد جيل. وهذا هو الإعجاز الكامل المطلق الذي لا إعجاز بعده.

*

وللأستاذ العقاد في (حياة المسيح) أقوالٌ عن إعجاز المسيح والإنجيل نقتطف منها ما يلي للمقارنة.

((إننا نفهم من أثر كلامه أنه كان مأنوس الطلعة يتكلم فيوحي الثقة إلى مستمعيه، وذلك الذي قيل عنه غير مـرة أنهم أخذتم كلماته لأنه ((يتكلم بسلطان، وليس كما يتكلم الكتبة والكهان)).

وقد كان ولا ريب فصيح اللسان سريع الخاطر، يجمع إلى قوة العارضة سرعة الاستشهاد بالحجج الكتابية التي يستند إليها في حديث الساعة كلما فوجئ باعتراض أو مكابرة. وكانت له قدرة على وزن العبارة المرتجلة لأن وصاياه مصوغة في قوالب من الكلام الذي لا يُنظم كنظم الشعر، ولا يرسل إرسالاً على غير نسق. ويغلب عليه إيقاع الفواصل، وترديد اللوازم ورعاية الجرس في المقابلة بين السطور.

((وذوق الجمال بادٍ في شعوره كما هو بادٍ في تعبيره وتفكيره. والتفاته الدائم

ـ 198 ـ

إلى الأزهار والكروم والحدائق التي يكثر من التشبيه بها في أمثاله، عنوانٌ لما طبع عليه من ذوق الجمال والإعجاب بمحاسن الطبيعة. وكثيراً ما كان يرتـاد المروج والحدائق بتلاميذه ويتخذ من السفينة على البحيرة ـ بحيرة طبرية ـ منبراً يخطب منه المستمعين على شاطئها المعشوشب كأنما يوقع كلامه على هزّات السفينة وصفقات الموج وخفقات النسيم. ولم يؤثر عنه أنه ألف المدينة والحاضرة كما يألف الخلاء الطلق حيث يقضي سويعات الضحى والأصيل أو سهرات الربيع في مناجاة العوالم الأبدية على قمم الجبال وتحت القبة الزرقاء1 .

((وقد كانت هذه القدرة موفورة في معلم المسيحية، وبحق سمي ((المعلّم)) ونودي به في مختلف المجامع والمحافل ... ولم تكن لواحد (من علماء اليهود) كفاية ((المعلم)) الذي يبث الحياة الروحانية في النفوس وينفث في الخواطر تلك الراحة التي تشبه راحة السريرة، حين تتناسق فيها الأنغام التي كانت متنافرة قبل أن تجمع وتصاغ.

((لقد كانت اللغة التي حملت بشائر الدعوة الأولى لغة صاحبها بغير مشابهة ولا مناظرة في القوة والنفاذ. كانت لغة فذة في تركيب كلماتها ومفرداتها، فذة في بلاغتها وتصريف معانيها، فذة في طابعها الذي لا يشبهه طابع آخر في الكلام المسموع أو المكتوب. ولولا ذلك لما أُخذ السامعون بها ذلك المأخذ المحبوب مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب. كانت في نمطها، بين النثر المرسل والشعر المنظوم، فكانت فناً خاصاً ملائماً لدروس التعليم والتشويق وحفز الذاكرة والخيال. هو نمط من النظم لا يشبه نظم الأعاريض و التفعيلات التي نعرفها في اللغة العربية لأن هذا النمط غير معروف في اللغة الأرامية ولا في اللغة العبرية. ولكنه أشبه ما يكون بأسلوب الفواصل المتقابلة والتصريعات المردّدة التي ينتظرها السامع انتظاره للقافية، وإن كانت لا تتكرر بلفظها المعاد. وكان أسلوبه في إيقاع الكلام أسلوباً يكثر فيه الترديد والتقرير ...

ــــــــــــــــ

عباس محمود العقاد: حياة المسيح 109 – 110 (طبعة دار الهلال الخاصة)

ـ 199 ـ

((أما أسلوب المعنى فقد اشتهر منه نمط الأمثال في كل قالب من قوالب الأمثال: ومنه القالب الذي يعوِّل على الرمز، والقالب الذي يعوّل على الحكمة، والقالب الذي يعوّل على القياس والقالب الذي يعوّل على التشبيهات. وكلها تتسم بطابع واحد هو طابعه الذي انفرد به بين أنبياء الكتب الدينية بغير نظير، وان كانوا قد اعتمدوا مثله على ضروب شتى من الأمثال.

((وقد أثر عن السيد المسيح في جميع الأمثال حب المقابلة بين الأضداد لجلاء المعاني وتوضيح الفوارق من وراء هذه المقابلة ... ومعظم هذه الأمثلة تأتي في مناسباتها عفو الخاطر، جواباً على سؤال أو تعقيباً على حادث عارض أو تقريعاً لمكابر. فيندر أن يسترسل فيها المعلّم البصير إلى غير المناسبة التي توحيها.

((وإذا كانت طائفة من عظات السيد المسيح قد جاشت بنفسه في أوقات مناجاتها فانتظمت فيها كما تنتظم المعاني المنسوقة في البديهة الملهمة، فقد كانت سرعة البديهة تسعفه في غير هذه الأحوال، فتجري كلماته في مجراها المألوف على نسق سهل قد يظن به التحضير لأنه منتظم غير مرسل؛ ولكنه في الواقع لم يكن محضراً قبل ساعته ... والواقع أيضاً أن الناس حين يستمعون إليه يرونه غريباً وقريباً في وقت واحد: غريباً لأنه كان يساورهم ولا يدركونه وقريباً لأنهم تمثلوه بفضل بلاغة القائل بعد استعصائه على الإدراك ... فلم يكن المسيح مبدعاً للأمثال ولا لقوالبها التي تعول على الرموز أو الحكم أو التشبيهات أو منطق القياس. ولكن الأمر المحقق أن سامعي ذلك العصر لم يعرفوا قط أريحية كتلك الأريحية التي كانت تشيع في أطوائهم وهم يصغون بأسماعهم وقلوبهم إلى ذلك المعلم المحبوب الذي كان يناجيهم بالغرائب والغيبيات، مأنوسةً حية، يحسبون أنها حاضرة في أعماقهم لم تفارقهم ساعة أو بعض ساعة، لفرط ما كان يغمرهم من حضوره المشرق، ويستولى عليهم من عطفه الطيب وحنانه الطهور.

((وفي وسعنا أن نتخيل من ثم فضل الرسول في الرسالة. فلا رسالة في الحق بغير رسول. ولا سبيل إلى قيام المسيحية بغير مسيح. فإن مصدر الرسالة

ـ 200 ـ

الروحية هو زبدتها وجوهرها، وهو الأصل الأصيل في قوتها ونفاذها، وكل ما عداه فروع وزيادات: لقد كان لب الرسالة المسيحية في لب رسولها المسيح1 .

((وبعد فمن الحق أن نقول إن معجزة المسيح الكبرى هي هذه المعجزة التاريخية التي بقيت على الزمن ولم تنقض بانقضاء أيامها في عصر الميلاد: رجل ينشأ في بيت نجار، في قرية خاملة، بين شعب مقهور، يفتح بالكلمة دولاً تضيع في أطوائها دولة الرومان، ولا ينقضي عليه من الزمن في إنجاز هذه الفتوح ما قضاها الجبابرة في ضم اقليم واحد قد يخضع إلى حين ثم يتمرّد ويخلع النير، ولا يخضع كما خضع الناس للكلمة بالقلوب والأجسام2 )).

وهكذا ليس في تعليم المسيح وإعجاز انجيله تطور من عهد إلى عهد. وليس فيه كَلِم غريب في لغته أو دخيل عليها. وليس فيه منسوخ، قد يتناولُهُ ناسخُهُ جملةً وتفصيلاً. وليس فيه محكم ومتشابه يربو على المحكم. إنه بيان متسلسل وإعجاز منسجم في القول يسمو مع المعجز في العمل.

*

وهكذا فإعجاز الإنجيل في القول الإلهي المعجز والعمل الإلهي المعجز، لا في الإعجاز البياني والبلاغي وحده.

والقرآن يستشهد بأن إعجازه في الوحي والتعليم والهدى من الكتاب الإمام ((ومن قبله كتاب موسى إماماً)) (احقاف 12) وعليه أن يقتدي بهداه (إنعام 90). وحسب ((المقتدي)) أن يكون مثل ((الكتاب الإمام)).

والقول الفصل عن إعجاز القرآن البياني والبلاغي في قوله عن نفسه:

((هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات)) .

ــــــــــــــــ

( 1 ) عباس محمود العقاد: حياة المسيح 170 – 177.

( 2 ) عباس محمود العقاد: حياة المسيح 197 .

ـ 201 ـ

((فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله)).

((وما يعلم تأويله إلا الله! والراسخون في العلم يقولون: آمنا به))!

((كل من عند ربنا ! وما يذكر إلا أولو الألباب)) (آل عمران 7).

وليس في الإنجيل شهادة مثل هذه عن الغريب والمتشابه والمنسوخ في بيانه.

وبعد فالإعجاز في التنزيل، بياناً وهدىً، ميزة ((الفرقان)) كله أي التوراة والإنجيل والقرآن بحسب شهادة القرآن النهئاية: ((آلم. الله لا إله إلا هو: الحي القيوم، نزّل عليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس: وأنزل الفرقان)) (آل عمران 1 – 3). فليس الإعجاز ميزة القرآن وحده، بل ميزة التوراة والإنجيل ((من قبل))، وما جاء القرآن إل ا((مصدّقاً لما بين يديه)) أي قبله، والحي القيوم، كما أنزل القرآن، أنزل التوراة والإنجيل.

و((الفرقان)) بحسب تلك الآية، هو التوراة والإنجيل والقرآن: فلما ((أنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن)) أنزل الفرقان كله، ليفرق بين الحق والباطل .

فالإعجاز البياني ميزة ((الفرقان)) كله.

ـ 202 ـ

المؤلف والمجموعة

مجموعة الأستاذ الحداد القرآنية والإنجيلية

أولا: المؤلف

الأب يوسف درّة الحدّاد (1913 – 1979)، المعروف يضاً بـ ((الأستاذ الحدّاد)) من يبرود (القلمون) مولداً، ومن خرّيجي إكليريكية القديسة حنّة (الصلاحيّة) في القدس ثقافة.

خدم النفوس بعد سيامته الكهنوتية (1939) في أبرشيّتي حمص وبعلبك، ثم انقطع زهاء عشرين سنة للبحث والكتابة في حقل استهواه منذ أيام التلمذة، حقل الشؤون القرآنية على وجه عام، والمعضلات الإسلامية المسيحية، والدراسات الإنجيلية والكتابيّة على وجه خاص.

فأكبّ بجلَد على العمل، قلّ أن يضاهى بمثله، وبقدرة على الاستساغة والتأليف تثير الإعجاب، فأنتج نتاجاً ضخماً جداً، بعضه نشر وبعضه لا يزال مخطوطاً أو قيد الطبع.

ثانياً: المجموعة

مجموعة الأستاذ الحدّاد من أبرز المجموعات الدراسية التي ظهرت في الآونة الأخيرة، ومن أوسعها موضوعاً، وأعمقها تحليلاً، وأنزهها هدفاً. وأسلمها أسلوباً. وهي تتألف من ثلاث

ـ 205 ـ

سلاسل: سلسلة الدروس القرآنية، وسلسلة الحوار الإسلامي المسيحي، وسلسلة الدراسات الإنجيلية.

وفي كل سلسلة طائفة من البحوث القيّمة قلّما عرض لها مفكّر مثلما عرض لها الأستاذ الحدّاد، وقلّما تعمّق في حقائقها عالِم كما تعمّق وكشف عن أسرارها وخفاياها الأستاذ الحدّاد، وذلك كله بفكر ثاقب لا يكاد يخطئ هدفاً، وعلم واسع لا يعرف إلا الدقة والتدقيق أسلوباً، وقلم صريح لا يخشى إلا خيانة الحقيقة والتقصير في خدمتها، وجلَد لا مثيل لـه يتتبع أوثق المصادر والمراجع القديمة والحديثة، فيجول في عالمها جولة قدير، ويقارن ما بين نصوصها مقارنة ناقد حاذق، لا تلهيه القشور، ولا تغشي بصره الميول. إنه رسول حقيقة، في عالم من الاضطراب والمفارقات.

وهكذا كانت مجموعة الحدّاد، على ما فيها من بعض الشوائب التقنيّة، موسوعة ضخمة، لا عهد لنا بفرد طوى في ميدانها بقدر ما طوى هو وبمثل ما طوى. ولهذا كانت مرجع الباحث الذي يطلب العلم، ومنهل الوارد الذي يطمح إلى المعرفة.

(الأب جورج فاخوري البولسي)

ـ 206 ـ