صمـــوئيـــــل الأول

[ للقمص / تادرس يعقوب ملطي ]

وهب صموئيل لأمه التقية والعاقر حنة من قبل الرب ، إذ جاء ابنا لإيمانها وصلواتها ، تربى فى هيكل الرب ، ليكون سبب بركة للكثيرين .

 الأصحاح الأول

 ( 1 ) حنة التقية العاقر

كان لألقانة امرأتان : [ فننة ] وتعنى " مرجانة " أو " لؤلؤة " ، ......

[ وحنة ] وتعنى " حنان " أو " نعمة" .

( أ ) قيل عن ألقانة أنه أفرايمى ( 1 : 3 ) لأنه سكن فى جبل افرايم ، لكنه كان من سبط لاوى من عشيرة قيهات ( 1 أى 6 : 22 – 28 ) ، لكنه لم يمارس منصب اللاويين .

( ب ) اعتاد ألقانة أن يأخذ كل أفراد أسرته سنويا إلى شيلوه ليسجد ويذبح للرب ، أى يقدم ذبيحة سلامة ( لا 7 : 11 – 21 ) ، يرى البعض أنه كان يصعد لتقديم ذبيحة خاصة بعائلته ، بخلاف التزامه بالصعود فى الأعياد الثلاثة : عيد الفطير أو الفصح ، عيد الحصاد أو الخمسين ، عيد المظال ( خر 23 : 14 ) .

كانت شيلوه أو شيلو هى مركز العبادة ، اختارها يشوع مقرا للخيمة والتابوت ، وفيها قسم البلاد على الأسباط . سكنها عالى الكاهن وصموئيل النبى ، كما سكنها أخيا النبى ( 1 مل 14 : 2 ) .

( ج ) كان ألقانة يحب حنة العاقر ، ويعطيها نصيب أثنين الأمر الذى غالبا ما ألهب قلب ضرتها فننة ليزداد حسدا وغيرة ، .... على أى الأحوال حملت المرأتان رمزا لكنيستى العهدين القديم والجديد . فإن كانت فننة تعنى " لؤلؤة " وأنجبت أولادا ، فإن كنيسة العهد القديم قد تمتعت بكنوز الله إذ تسلمت الشريعة ونالت المواعيد وأنجبت رجال الله الآباء والأنبياء الخ ..... لكن هذه الأم الولود صارت عاقرا عندما رفضت الأيمان بيسوع المسيح ، وكما ترنمت حنة ، قائلة : " العاقر ولدت سبعة وكثيرة البنين ذبلت " 1 صم 2 : 5 . أما حنة فاسمها يعنى " حنانا " أو " نعمة " ، إذ تمتعت كنيسة العهد الجديد بحنان الله الفائق المعلن خلال ذبيحة الصليب ونعمة الروح القدس واهب البنوة لله والشركة معه ، إنها الكنيسة المحبوبة لديه ، جمعت من الأمم من كانوا عواقر لينجبوا بنين لله .

لقد سمح الله لحنة التقية أن تشبع نفسها من المرارة ، لقد تركها الرب وسط الآلام " سنة بعد سنة " 1 صم 1 : 7 ، لكنها إذ انتظرت إلى ملء زمانها قدم لها الرب أكثر مما سألت أو فكرت ، فنالت " صموئيل " العظيم بين الأنبياء .

( د ) نتأمل عتاب رجلها الذى كان يحبها ، واهبا إياها نفسه قبل أن يقدم لها نصيبا مضاعفا ، إذ يقول لها : " يا حنة ، لماذا تبكين ؟ ولماذا لا تأكلين ؟ ولماذا يكتئب قلبك ؟ أما أنا خير لك من عشرة بنين ؟ ! 1 صم 1 : 8 .... هكذا يعاتبنا رب المجد يسوع عريس نفوسنا : " لماذا نحزن على أمور زمنية ؟ أو بسبب ضيقات وقتية ؟ أما أستطيع أن أشبعك وأعزيك ؟ أما يكفيك أنى عريس نفسك الأبدى ؟ !

 ( 2 ) أبن الصلاة :

كانت حنة مرة النفس ( 1 صم 1 : 10 ) ، هذه المرارة لم تمنعها عن أن تشترك فى الأكل مما قدم للرب ، إذ لم يكن هذا الأكل للتنعم واللذة إنما علامة شركة المؤمنين معا فى الذبيحة ليكون الكل مصالحا معا فى الله .

اشتهت أن تنجب ليس كرغبة طبيعية فى الأنجاب وممارسة الأمومة ، وإنما لما هو أقوى ؛ فإن كل سيدة يهودية كانت تترقب أن يأتى المسيا من نسلها ، كما يظهر من تسبحة حنة نفسها عندما قدمت ابنها عارية للرب كل أيام حياته ( 1 صم 2 : 1 – 10 ) .

بعد الأكل قامت تصلى صلاة شخصية سرية أمام هيكل الرب ( دعيت الخيمة هيكل الرب ) – صارت تصلى وعالى رئيس الكهنة يراقبها لكنه لم يقدر أن يدرك سر قوة صلاتها ، بل حسب المرأة سكرى ( 1 صم 1 : 14 ) ، أما الرب فاستجاب لها .

صارت حنة مثلا حيا – عبر الأجيال – للصلاة الصامتة النابعة عن إيمان عميق داخلى ، وقد امتزجت صلاتها بإيمانها وأيضا بوداعتها .

+ دموعها سبقت لسانها ، بها ترجت أن يذعن الله لقبول طلبتها .

+ كانت دموعها تصرخ فى أكثر وضوح من أى بوق ، لذلك فتح الله رحمها ، وجعل الصخرة الصماء حقلا مثمرا .

( 3 ) ميلاد صمـــوئيــل :

رجوع حنة إلى أسرتها بوجه باش لتشاركهم الحياة الأسرية بلا تذمر يكشف عن إدراكها أن علاج المشاكل ليس فى يد إنسان ولا فى الظروف الخارجية إنما فى الدخول إلى أعماق النفس واكتشاف إمكانيات الله فينا .

لقد حان الوقت ليهب الله حنة ابنا ، دعته صموئيل ، وبقيت مع طفلها حتى تفطمه لتحقق نذرها بتقديمه عارية للرب ، يتراءى أمامه ويقيم فى بيته كل أيام حياته ( 1 صم 1 : 22 ) .

( 4 ) صموئيل عاريـــــة الرب :

( أ ) " ثم حين فطمته أصعدته معها " 1 : 24 ، ربما يتساءل البعض : كيف قدمته لبيت الرب بعد الفطام مباشرة ( بعد حوالى 9 شهور ) ؟ اعتادت الأمهات فى منطقة الشرق الأوسط ألا تفطم الولد تماما إلا فى الثالثة من عمره وفى بعض الحالات يترك حتى الخامسة ، ربما كنوع من التدليل .

( ب ) أما كلمة " أعرته " للرب ، فإنها وإن كانت لم تتراجع عن الوعد إذ سلمته للرب ليكون خادما له كل أيام حياته ، لكنها أرادت تأكيد ارتباطها به كأم لذا حسبته " عارية " . لقد وهبها الله إياه ، وهى تتمسك به كأبن لها وفى نفس الوقت تقدمه للرب كل أيام حياته ، إنها صورة حية للحب العائلى فى الرب .

لقد أعارت حنة ابنها صموئيل للرب كل أيام حياته ، فأقامه الرب نبيا عظيما ( 1 صم 3 : 20 ) ، أدرج اسمه فى العهد القديم مع موسى وهرون ( مز 99 : 6 ، إر 15 : 1 ) ، وأشير إليه فى العهد الجديد كأول الأنبياء ( أع 3 : 24 ) ، ويعتبر صموئيل مؤسس مدارس الأنبياء ( 1 صم 19 : 20 ) فى الرامة والتى تبعتها مدارس أخرى فى بيت إيل ( 2 مل 2 : 3 ) وأريحا ( 2 مل 2 : 5 ) والجلجال ( 2 مل 4 : 38 ) ، كما يعتبر مؤسس النظام الملكى بالرغم من استيائه أولا منه ، فمسح شاول الذى نجح إلى حين ، ثم داود الذى توارث نسله الملوكية ، عاش صموئيل ليمسح داود ملكا لكنه تنيح قبل أن يتوج داود .

إذ فطم صموئيل صعدت به أمه ( 1 صم 1 : 24 ) ، ولم يذكر الكتاب أن أباه هو الذى أصعده ، ليس لأن حنة اغتصبت رئاسة البيت ، وإنما لأجل إيمانها السامى سبقت رجلها وأرتفعت عليه فى عينى الرب ، فنسب إليها الصعود إلى بيته بالتقدمات المذكورة فى الأصحاح الأول .

 الأصحاح الثانى

بينما كسر الكاهنان أبنا عالى الشريعة والناموس وأفسدا شعب الله والمقدسات إذا بصموئيل النبى ابن حنة – امرأة إيمان وصلاة وتسبيح – ينشأ فى حياة مقدسة فى الرب ، بمعنى آخر بينما نشأ ابنا كاهن فى جو دينى لكنهما لم يتمتعا بالحياة الداخلية القدسية ، إذا بصموئيل يتلامس مع أعماق روحانية أسرته ليحمل ثمرا مباركا .

( 1 ) تسبحة حنة الخلاصية :

حقق الرب طلبة حنة فقامت تشكره وتسبحه ؛ كثيرون يلجأون إلى الرب وقت الضيق لكنهم ينسونه عند الفرج ، أما حنة فإنها لم تنسه بل ولم تشكره فقط على عطية صموئيل إنما بالأكثر دخلت إلى أعماق جديدة إذ رأت فيه رمزا لعمل الله الخلاصى ، فجاءت تسبحتها تقارب تسبحة القديسة العذراء مريم ( لو 1 : 46 – 55 ) ؛ حنة تسبح من أجل الرمز والقديسة مريم من أجل المسيا نفسه .

" ...... ....... ......    فرح قلبى بالرب ، ارتفع قرنى بالرب ، اتسع فمى على أعدائى لأنى قد ابتهجت بخلاصك ، ليس قدوس مثل الرب ، لأنه ليس غيرك ، وليس صخرة مثل إلهنا " .......  ( 1 صم 2 : 1 ، 2 ) .

بدأت حنة تسبحتها بإعلان فرحها لا لمجرد نوالها " صموئيل " كعطية إنما لتمتعها بواهب العطية نفسه ، هذا الفرح الداخلى يهب للنفس قوة فلا تخور تحت أى ظرف ، استخدام القرن ( قرن الثور ) ككناية عن " القوة " ، نالت قوة لا لإغاظة أعدائها أو مقاومتهم بل لكى يتسع فمها لتكرز لهم ببهجة الخلاص ، ليس شىء يقدر أن يحطم عداوة الأعداء مثل البهجة بخلاص الرب ، الذى يجتذب الأعداء للتمتع ببشارة الأنجيل المفرحة .

جاء كلمة الله المتجسد القدوس ليضمنا إليه ، إنه الصخرة التى قدمت ماء لشعب إسرائيل فى وسط القفر ليشربوا ويرتووا ( خر 17 : 6 ) ، إذ يقول الرسول بولس : " لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح " ( 1 كو 10 : 4 )

" قسى الجبابرة انحطمت ، والضعفاء تمنطقوا بالبأس ،

 الشباعى آجروا أنفسهم بالخبز والجياع كفوا ،

 حتى إن العاقر ولدت سبعة وكثيرة البنين ذبلت .

الرب يميت ويحيى ، يهبط إلى الهاوية ويصعد ، الرب يفقر ويغنى ، يضع ويرفع ،

يقيم المسكين من التراب ، يرفع الفقير من المزبلة للجلوس مع الشرفاء

ويملكهم كرسى المجد "    ( 1 صم 2 : 4 – 8 )

إذ اختبرت حنة نعمة الله الفائقة أدركت أن موازين الله ومقاييسه تختلف عن موازين البشر ومقاييسهم ، هكذا انكسرت فننة المتشامخة فتحطمت قسيها ، صاركمن يؤجر نفسه ليجد خبزا يأكله ، ذبلت بالرغم من إنجابها للبنين ، فقدت الحياة وصارت كمن هبط إلى الهاوية ؛ افتقرت وانحطت إلى التراب ، وعلى العكس بروح الأتضاع تقبلت حنة من يد الله قوة فتمنطقت بالبأس وشبعت بعد الجوع ، وانجبت الكثيرين بعد العقر .

+ إذ ولد صموئيل كان رمزا للمسيح ..... السبعة أبناء هم الكنائس السبع ، لذا كتب بولس أيضا لسبع كنائس ، وعرض سفر الرؤيا للكنائس السبع لكى يحفظ رقم 7 ... .

( 2 ) ابن ألقانة وأبنا عالى :

ما أبعد الفارق بين ابن ألقانة وحنة ، ابن الصلاة والأيمان ، وابنى عالى الكاهن ، الأول تربى فى خوف الله ، فكان سبب بركة لنفسه وعائلته وشعبه بل ولنا نحن إذ صار قدوة عبر الأجيال . وأما أبنا عالى الكاهن فقد استغلا مركز أبيهما لصالحهما الذاتى . تركا الرعية بين الذئاب ، بل صارا ذئبين يصنعان الشر ويعثران الشعب معهما ، وقد تهاون والدهما فى تأديبهما ، وحين أراد توبيخهما تكلم فى رخاوة ، فجلبا على نفسيهما وعلى والدهما وعائلتهما والشعب عارا ، وصارا عبرة لكل من يتهاون فى تربية أولاده .

يلقب الكتاب المقدس ابنى عالى " بنى بليعال " لأنهما أخنارا الشر طريقا لحياتهما ، ركزا غرضهما فى أن يخطئا .

قيل عن ابنى عالى انهما لم يعرفا الرب ( 1 صم 2 : 12 ) انهما ككاهنين عرفا الكثير عن الرب خلال التعليم والمعرفة النظرية ، لكنهما لم يعرفاه فى حياتهما العملية وسلوكهما .

إذ فسد قلبا ابنى عالى استهانا بالطقس ( 1 صم 2 : 13 – 16 ) ،

 كما استخفا بالحياة الطاهرة والقداسة فأفسدا نساء شعب الله

                                                           ( 1 صم 2 : 22 ) ،

 وأهانا الله نفسه ، فلم ينفذا طقس تقديم الذبائح كما أمر الرب

                                        ( لا 3 : 3 – 5 ) فأفسدا المقدسات .

( 3 ) مباركة الرب لألقانة وحنة :

بدأ صموئيل خدمته أمام الرب وهو صبى متمنطقا بلباس أفود من الكتان ( 1 صم 2 : 18 ) ، يلبسها كمعطف يشد من الوسط بمنطقة . وهى كلباس اللاويين لا الكهنة .

يؤكد الكتاب المقدس أن صموئيل بدأ خدمته وهو صبى ، بدأها فى جو كهنوتى فاسد للغاية ، لا يمكن إصلاحه أو مقاومته ... لكن الله الذى يخلص بالقليل كما بالكثير استخدم هذا الصبى للأصلاح .

( 4 ) تهاون عالى الكاهن مع أبنيه :

كان توبيخ عالى الكاهن لبنيه برخاوة فى غير حزم ، لقد عرف أنهم يفسدون النساء المجتمعات فى باب خيمة الأجتماع . فصار مقدس الله مكان نجاسة وفساد ، وتحول ميناء السلام إلى هلاك للنساء المتجندات لخدمة الخيمة . لم يقم بأى تأديب ضدهم ، لقد أعلن لهم :

" تجعلون شعب الرب يتعدون ، إذا أخطأ إنسان إلى إنسان يدينه الله فإن أخطأ إنسان إلى الرب فمن يصلى من أجله ؟ ! ( 1 صم 24 ، 25 ) .

وسط هذا الفساد أرسل الله أحد رجاله ( نبى ) لتحذير عالى ، كان هذا الأنذار فرصة جديدة أعطيت لعالى الكاهن من قبل الله ليضع الأمور فى نصابها ، لكنه خلال ضعف شخصيته لم يكرم الله بردع أبنيه وتأديبهما ، بل احتقره بتكريمه لأبنيه الشريرين أو بتهاونه فى تأديبهما حسب الشريعة ، يقول الرب : " حاشا لى ، فإنى أكرم الذين يكرموننى والذين يحتقروننى يصغرون "

                                               ( 1 صم 2 : 30 ) .

+ + يقارن القديس يوحنا الذهبى الفم بين عالى رئيس الكهنة الذى نال كرامات عظيمة فسقط تحت الدينونة القاسية بسبب تهاونه وبين صموئيل النبى الذى رفضه الشعب ( 1 صم 8 : 7 ) فكرمه الله نفسه ، فيقول عن الرعاة : ( الأهانة مكسب لهم والكرامة ثقل عليهم )  

اعلن رجل الله لعالى رئيس الكهنة تأديبات الرب له ولنسله :

+ انتقال الكهنوت من نسله ، إذ عزل أبياثار فى أيام سليمان وتعين صادوق من نسل أليعازر وتسلمه نسله حتى أيام السيد المسيح .

+ فقدان القوة من بيته إذ يموت نسله شبابا ( 1 صم 2 : 31 ) .

+ يرى ضيق المسكن ، حيث يأخذ الفلسطينيون التابوت ( 1 صم 4 : 11 )

+ يشتهى نسله الموت ولا يجدونه .

قدم له علامة مرة للتأديب الإلهى وهى موت أبنيه فى يوم واحد .

الأصحاح الثالث

دعـــــوة صموئيـــــل

فى وسط الظلام الخارجى الدامس ، " قبل أن ينطفىء سراج الله ... فى الهيكل " 1 صم 3 : 3 دعا الله صموئيل ، ليقيمه سراجا وسط شعبه ، يعلن إرادته الإلهية ويشهد للحق .

( 1 ) دعـــوة صموئيل :

 يبدو أن الله دعا صموئيل قبيل الفجر ، وسط الظلام الخارجى الحالك ، إذ قيل :

" وقبل أن ينطفىء سراج الله وصموئيل مضطجع فى هيكل الرب الذى فيه تابوت العهد " 3 : 3 جاء فى خر 27 : 21 – أن السراج ( المنارة ) يشعل من المساء حتى الصباح ، وكأن دعوة الرب جاءت قبل الصباح فى نهاية الليل .

بجانب الظلام الملموس وجد ظلام آخر ، إذ قيل : " وكانت كلمة الرب عزيزة فى تلك الأيام ؛ لم تكن رؤيا كثيرة " 1 صم 3 : 1 وسط هذا الظلام الحالك ، والمجاعة الروحية ، أعد الله صبيا صغيرا يخدم الهيكل ( خيمة الأجتماع ) بأمانة ، خلاله ينير الله وسط شعبه . هكذا فى كل جيل يقيم الله بقية أمينة تشهد له وتخدمه بالروح والحق ، فعندما سقط الشعب فى العبودية أرسل لهم موسى ، وعندما ثار أريوس ضد لاهوت المسيح أرسل الله أثناسيوس وهكذا يبقى الله ساهراعلى كنيسته حتى إن ظن الظلام أنه قد ساد ، بمعنى آخر ، بقوله : " قبل أن ينطفىء سراج الله " 1 صم 3 : 3 عنى أنه وسط الظلام كان صاحب البيت نفسه – يهوه – ساهرا ، قائما على بيته ، مهتما برعاية شعبه .

إذ قدم لنا الكتاب المقدس الظروف التى خلالها دعا الله صموئيل ، يقول :

" كان عالى مضطجعا فى مكانه وعيناه ابتدأتا تضعفان ، لم يقدر أن يبصر ... وصموئيل مضطجع فى هيكل الرب الذى فيه تابوت الله " 1 صم 3 : 2 ، 3 . لم يكن صموئيل مضطجعا فى ذات الخيمة ، القدس أو قدس الأقداس ، وإنما فى أحد الأبنية الملحقة به وكان عالى مضطجعا فى حجرة أخرى فى ذات المبنى ، ومع هذا قيل عن صموئيل إنه مضطجع فى مكانه ؛ لماذا ؟ من حيث الجسد كان كلاهما مضطجعين فى مبنى واحد ، لكن فى عينى الله حسب صموئيل أنه فى هيكل الرب أمام تابوت الله حتى فى لحظات نومه ، إذ يقول مع العروس : " أنا نائمة وقلبى مستيقظ " نش 5 : 20 بجسده ينام خارج الخيمة أما قلبه فكان ملاصقا لها ، فى داخلها . أما عالى رئيس الكهنة فكان نائما فى مكانه ، أى حيث يوجد جسده تبقى نفسه حبيسة المكان !

نادى الرب صموئيل ، وكان الصبى فى حوالى الثانية عشرة من عمره  ... سمع الصوت لأن أوتار قلبه تحمل حساسية لتسمع صوت الله وإن كان قد ظنه صوت عالى الكاهن .

إذ سمع الصوت ظن عالى يناديه لذلك " ركض إلى عالى وقال : هأنذا لأنك دعوتنى " 1 صم 3 : 4 . فى روح الحب والأتضاع " ركض " إلى عالى الكاهن ظنا أنه يطلب منه خدمة أو مساعدة ، والعجيب أن الأمر تكرر ثلاث مرات ، وفى كل مرة يسرع إلى الكاهن دون تذمر ...

+ طريق الطاعة هو أقصر المسالك وإن يكن أكثرها صعوبة .

نادى الرب صموئيل بأسمه شخصيا ، ومع هذا لم يكن ممكنا لهذا المبارك أن يتعرف عليه ويلتقى به دون إرشاد عالى الكاهن الذى اتسم بالتهاون فى حق الله مع أولاده ، هكذا يليق بنا ألا نستهين بالكاهن كمرشد وأب ، إذ يقودنا للقاء الشخصى مع الله أبينا والرب يسوع مخلصنا بواسطة روح الله القدوس .

" فجاء الرب ووقف ودعا كالمرات الأول : صموئيل صموئيل " 3 : 10 – هكذا يصور لقاء الله مع صموئيل كأنما قد ترك الرب عرشه الشاروبيمى ونزع الحجاب ليقف فى المسكن المقدس يدعو الصبى . يا له من تنازل إلهى عجيب ، ومحبة فائقة له نحو الأنسان ! الله يقف ليدعو صبيا إلى عمل فائق !

جاءت إجابة صموئيل : " فإن عبدك سامع " تعلن أن جوهر النبوة هو الأستماع والطاعة للصوت الإلهى . هكذا تدرب صموئيل النبى منذ طفولته على الطاعة ، مدركا أنها أفضل من ذبائح كثيرة ، الأمر الذى لم يختبره شاول الملك ( 1 صم 15 : 22 ) .

( 2 ) حديث صموئيل مع عالى :

تحدث الرب مع صموئيل عن أمور مستقبلة كأنها تتحقق فى الحاضر ( 1 صم 3 : 11) ، معلنا له أنه يحقق ما سبق أن تكلم به عن بيت عالى من أمور مخيفة قائلا له : " أقسمت لبيت عالى أنه لا يكفر عن شر بيت عالى بذبيحة أو بتقدمة إلى الأبد "   1 صم 3 : 14 .

 لم يذكر له تفاصيل العقوبة ، إذ لا حاجة لتكرارها ، إنما كانت كلمات الرب واضحة وصريحة وحازمة ، ربما ليعطى لعالى وأبنيه فرصة للتوبة .... خاصة أن هذا الحديث تم قبل تحقيق الأحداث بحوالى عشر سنوات ....

لقد خاف صموئيل أن يخبر عالى بالرؤيا ( 1 صم 3 : 15 ) ، ليس خوفا من أن يغضب عليه ، وإنما خشية جرح مشاعره وهو شيخ وقور وأب محبوب لديه جدا ، لم يرد أن يكدره ، لكن إذ طلب منه عالى تحدث فى صراحة ولم يخف عنه شيئا .

كانت إجابة عالى تكشف عن تقواه بالرغم من ضعف شخصيته أمام ابنيه ، إذ قال :

" هو الرب ، ما يحسن فى عينيه يعمل " 1 صم 3 : 18 .

( 3 ) الله يسند صموئيل :

إذ دعا صموئيل لعمل نبوى قيادى أعطاه امكانيات العمل ألا وهى :

+ المعية مع الله : " وكبر صموئيل وكان الرب معه " 3 : 19 .... الله نفسه هو سر قوة أولاده ، يرافقهم ليهبهم نفسه ويقدم إمكانياته الإلهية بين أيديهم فلا يعوزهم شىء ، هذه هى عطيته لمحبوبيه ، معيته لهم ، كما حدث مع ابراهيم ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، ويشوع ، وجدعون ، وداود .

+ أعطاه نعمة فى عينى شعبه إذ :

" لم يدع شيئا من جميع كلامه يسقط إلى الأرض ؛ وعرف جميع إسرائيل من دان إلى بير سبع أنه قد أؤتمن صموئيل نبيا للرب " 3 : 19 ، 20 . أى من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ، أى فى كل أرجاء البلاد .

+ بدأ الله يتراءى فى شيلوه معلنا ذاته لصموئيل بكلمته ليقطع فترة الظلمة حيث كانت كلمة الرب عزيزة ( 1 صم 3 : 1 ) .

الأصحــاح الرابع

فقـــــدان تابـــــوت العهـــد

إذ خرج إسرائيل لمحاربة الفلسطينيين ، دون تقديس لحياتهم أو استشارة الرب ، انهزموا ، عوض التوبة والرجوع إلى الله حملوا تابوت العهد إلى المعركة مع الكاهنين حفنى وفينحاس ، أخذ تابوت العهد منهم ومات حفنى وفينحاس وسقط من اسرائيل ثلاثون ألفا وانكسرت رقبة عالى الكاهن ومات

( 1 ) أخذ تابوت العهد

فى قض 13 : 1 قيل إن الرب دفع إسرائيل ليد الفلسطينيين أربعين سنة ، ربما الحوادث المذكورة هنا كانت خلال هذه الفترة ، لقد نزل الفلسطينيون إلى أفيق والأسرائيليون إلى حجر المعونة بالقرب منهم فى مواجهتهم .

" أفيق " : كلمة عبرية ربما تعنى " قوة " أو " حصن " ، وجدت خمس مدن تحمل ذات الأسم .

" حجر المعونة " : أخذت هذا الأسم بعد الحوادث المذكورة بحوالى 20 عاما ( 1 صم 7 : 12 ) ، وضع صموئيل حجرا تذكاريا بين المصفاة والسن ، فى جنوب شرقى أفيق .

دارت المعركة بين الطرفين فانهزم إسرائيل جزئيا فى الحقل حيث قتل منهم أربعة رجل ( 1 صم 3 : 2 ) ، فرجع الشعب إلى المحلة ، هنا نسمع عن الشعب وليس عن رجال حرب أو عن جيش ، فقد كان الشعب يحارب بغير استعداد وفى غير نظام ، بجانب فظاعة فساده الخلقى .

تساءل شيوخ إسرائيل : " لماذا كسرنا اليوم الرب أمام الفلسطينيين ؟ " 1 صم 3 : 3 كان يلزم أن تكون الأجابة : بسبب الفساد والأنحراف عن الله ، فيرجعوا إليه بالتوبة ويحل فى وسطهم كسر غلبتهم . لكن ما حدث هو تغطية على الفساد بحمل التابوت فى وسطهم ليخلصهم من أعدائهم ، وبالفعل جاءوا به من شيلوه مع الكاهنين الفاسدين حفنى وفينحاس .

لماذا سمح الله بذلك ؟

+ إحضارهم للتابوت لم يكن يحمل رجوعا قلبيا إلى الله بالتوبة وإنما اتكلوا على شكليات العبادة الظاهرة .

+ جاء حفنى وفينحاس إلى المعركة ومعهما التابوت ؛ لقد كانا فاسدين ومفسدين للشعب ، وقد ظنا أن الله يلتزم أن يحارب عن الشعب ليس من أجلهما ، إنما من أجل التابوت بكونه يمثل الحضرة الإلهية .

حقا لقد أعلن الله أنه قادر أن يحمى التابوت وأن يدافع عن مجده لكنه بعد تأديب الشعب مع الكهنة بسبب فسادهم .

+ عند دخول تابوت العهد إلى المحلة هتف جميع اسرائيل هتافا عظيما حتى ارتجت الأرض ، أمام هذا الهتاف خاف الفلسطينيون ، قائلين :

" قد جاء الله إلى المحلة " 1 صم 4 : 7 .

لقد هتفوا بألسنتهم وحناجرهم حتى ارتجت الأرض ، أما قلوبهم فكانت ساكنة لا تتحرك نحو الله بالتوبة ، ولا ارتجت أجسادهم التى تدنست ، لهذا حتى وإن خاف الفلسطينيون لكنهم عوض التراجع ازدادوا حماسا وتشددوا ليستعبدوا إسرائيل ، وصارت لهم الغلبة ولكن إلى حين .

هتف الشعب بألسنتهم ، ولم يدركوا أن الغلبة لا بهتاف اللسان إنما بنقاوة القلب والطاعة لله ، كما جاء فى سفر التثنية :

" وإن سمعت سمعا لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه التى أنا أوصيك بها اليوم يجعلك الرب إلهك مستعليا على جميع قبائل الأرض ..... يجعل الرب أعداءك القائمين عليك منهزمين أمامك ، فى طريق واحدة يخرجون عليك وفى سبع طرق يهربون أمامك " . تث 28 : 1 ، 7 . 

( 2 ) موت عالى الكاهن :

إذ حدثت الضربة العظيمة  [ انكسار الشعب ، وقتل 26000 شخص ، وموت الكاهنين ، وأخذ تابوت العهد ] ركض رجل بنيامينى إلى شيلوه ليبلغ الخبر ، وكانت على بعد حوالى 20 ميلا من حجر المعونة ، جاء أمام رئيس الكهنة وقد مزق ثيابه ووضع ترابا على رأسه ليجد عالى يراقب الطريق ..." لأن قلبه كان مضطربا لأجل تابوت الله " 1 صم 4 : 13 . واضح أن عالى لم يكن موافقا على حمل التابوت إلى الميدان ، لكنه خضع لإرادة الشعب .

سمع الرجل عن انكسار الشعب وموت الكثيرين وأيضا موت أبنيه أما خبر أخذ التابوت فلم يحتمله ، إذ سقط عن الكرسى إلى الوراء إلى جانب الباب فانكسرت رقبته ومات .

لقد قضى لإسرائيل أربعين عاما ( 1 صم 4 : 18 ) ، لكن تهاون أبنيه فى مقدسات الله أفقده كل ثمر ، وأنهى حياته بصورة مؤسفة .

( 3 ) ميلاد أيخابود بن فينحاس :

لقد دعت امرأة فينحاس طفلها " ايخابود " ( = ابن المجد ) ، قائلة : " زال المجد من اسرائيل لأن تابوت الله قد أخذ " 4 : 22 . لقد أخطأت الفهم ، فإن الواقع أن التابوت قد أخذ لأنه قد زال المجد من اسرائيل ! .

فقد إسرائيل مجده بانحرافه عن الله وزيغانه عنه لذلك أسلم الله التابوت للأعداء لتأديب الطرفين معا .

لقد كانت نكبتها فى أخذ التابوت أشد وقعا على نفسها من موت حميها ورجلها ، لقد أدركت أن خسارتها بموت حميها وموت رجلها وخسارة ابنها بموت أبيه قبل أن يولد أمر لا يذكر أمام خسارة الشعب بفقدان التابوت ، علامة ترك الله شعبه .

+ + +

الأصحاح الخامس

سقوط داجون أمام التابوت

سمح الله للفلسطينيين أن يأخذوا تابوت العهد لأجل تأديب إسرائيل ، ليدركوا أنهم بالأنحلال فقدوا حلول الله فى وسطهم ، وفى نفس الوقت أعلن الله مجده وقدرته إذ سقط داجون معبود الفلسطينيين وتحطم أمام التابوت وحلت بهم الأمراض لذا فكروا فى إعادته .

سقوط داجون أمام تابوت العهد :

يبقى الله أمينا بالرغم من عدم أمانتنا ( 2 تى 2 : 13 ) ، فإن كان بسبب انحلال شعبه سلم تابوت عهده للوثنيين لكنه أظهر قوته ومجده بسقوط داجون معبودهم ، كان يلزم لأهل أشدود أن يدركوا أنه لا شركة بين الله وداجون فى بيت واحد ، وأن يقبلوا الواحد دون الآخر . لكنهم تجاهلوا الأمر فجاءوا فى الصباح التالى ليجدوه أيضا ساقطا ورأسه ويداه مقطوعة على عتبة البيت ، لقد أكد لهم أن معبودهم بلا رأس ، عاجز عن القيادة والتدبير ؛ وأيضا بلا يدين عاجز عن العمل لحسابهم .

إن كنا قد أقمنا فى القلب أو الفكر معبودا كداجون ، مثل محبة المال أو شهوة الجسد أو حب انتقام أو محبة المجد الباطل .... فإن دخول رب المجد يسوع وقبوله فى أعماقنا يحطم داجون ، ينزل به إلى الأرض ويقطع رأسه ويديه على العتبة كى نطأها تحت أقدامنا .

داجون : يقال أن اسمه مشتق من الكلمة العبرية " داج " وتعنى سمكة . إله فلسطينى له رأس إنسان ويدا إنسان أما بدنه فعلى شكل سمكة .

جاء الفلسطينيون بتابوت العهد إلى بيت داجون ظانين أن داجون قد انتصر على إله اسرائيل ، لكن هذا الأفتخار لم يدم طويلا .

ضرب أهل أشدود بالبواسير :

" فثقلت يد الرب على الأشدوديين وأخرجهم وضربهم بالبواسير فى أشدود وتخومها " 5 : 6

وكأن تابوت العهد الذى هو سبب نصرة وبركة للمؤمنين إن عاشوا فى حياة قدسية بالرب ، يصير هو نفسه سبب شقاء لغير المؤمنين ، وكما يقول الرسول بولس :

 " فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهى قوة الله " 1 كو 1 : 18 .

جاء فى الترجمة السبعينية أن البلاد ضربت أيضا بالفئران على غير العادة وأكلت محصولاتهم .

إذ شعر أشدود أن يد الرب قست عليهم وعلى إلههم داجون أرسلوا إلى أقطاب الفلسطينيين يطلبون مشورتهم بخصوص " تابوت إله إسرائيل " . غالبا ما تشاور أقطاب المدن الخمس الرئيسية : أشدود وغزة وأشقلون وجت وعقرون وقرروا نقل التابوت إلى مدينة جت ، جاء قرارهم فى الغالب لظنهم أنه متى انتقل التابوت من بيت الصنم يرفع الله غضبه عنهم . لم يدركوا أنه لا يمكن أن يبقى التابوت فى وسطهم مادام داجون أو غيره محتلا قلوبهم الداخلية ، ربما أيضا ظنوا أن ما حدث فى بيت داجون كان عرضا ، لذا أرادوا نقل التابوت للتأكد من دور التابوت وقدرته .

ضرب أهل جت بالبواسير :

" جت " كلمة عبرية تعنى " معصرة " ، وهى إحدى مدن فلسطين الخمس العظمى ، إذ نقل تابوت العهد إلى جت كانت الضربة أشد حتى يدرك الفلسطينيون أن ما يحدث ليس اعتباطا إنما هو تأديب إلهى ، إذ قيل : " إن يد الرب كانت على المدينة باضطراب عظيم جدا ، وضرب أهل المدينة من الصغير إلى الكبير ونفرت لهم البواسير " 1 صم 5 : 9

ضرب أهل عقرون بالبواسير :

المدينة الشمالية من مدن الفلسطينيين الخمس العظمى ، تسمى الآن " عاقر " ، إذ نقل إليها تابوت العهد على غير رغبة شعبها كانت يد الله ثقيلة جدا هناك ، فصرخوا :

" فصعد صراخ المدينة إلى السماء " 1 صم 5 : 12 ..لقد طلبوا عودة التابوت إلى مكانه .

قرار جماعى بإعادة التابوت :

يعتبر هذا القرار شهادة لقداسة الله وقدرته ، وكأن الله استخدم حتى شرهم لأستنارتهم ؛ منذ البداية كانوا يعلمون أنه إله قوى خلص شعبه من مصر بعجائب ( 1 صم 4 : 7 ، 8 ) لكنهم تشددوا لمقاومته ، أما الآن فقد أيقنوا أنهم لن يستطيعوا مقاومته ، لقد حقق الله ما قيل فى إشعياء النبى : " أنا الرب هذا اسمى ، ومجدى لا أعطيه لآخر ، ولا تسبيحى للمنحوتات " إش 42 : 8 .

+  +  +

الأصحاح السادس

عودة تابوت العهد

لقد طالت مدة إقامة تابوت العهد فى وسط الوثنيين إلى سبعة أشهر ، ليتأكد الكل أن ما حل بالوثن ( الإله داجون ) وما حل بالناس ( مرض البواسير ) وأيضا بالأرض ( جرذان أو فئران كبيرة تأكل المحاصيل ) لم يكن محض صدفة إنما علامة غضب الله على الوثنيين ، وأيضا لكى يقدم المؤمنون توبة صادقة مشتاقين بالحق للتمتع بالحضرة الإلهية المعلنة بوجود التابوت فى وسطهم

عمل قربان إثم :

" وكان تابوت الله فى بلاد الفلسطينيين سبعة أشهر " 6 : 1 . لا نعرف ما هى مشاعر إسرائيل نحو الأحداث فى ذلك الوقت ، لقد دهشوا أن التابوت أخذ منهم كما فى خزى وضعف والكاهنين قتلا وكثيرين سقطوا وفقد الشعب كرامته .... لقد مرت الأيام والأسابيع وأيضا الشهور ولم يسمعوا شيئا عن التابوت ، لكن الله كان يعمل مؤكدا قدرته على الخلاص ، وشعر الوثنيون بالرهبة أمام الله ، فاستعدوا الكهنة والعرافين قائلين : " ماذا نعمل بتابوت الرب ؟ أخبرونا بماذا نرسله إلى مكانه ؟ " 6 : 2 .

لقد استخدم الله حتى كهنة الوثنيين والعرافيين للشهادة له ، وكما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم : [ شهد أعداء الله أنفسهم له ؛ نعم قدم معلموهم أصواتهم عنه ] .

طلب الكهنة والعرافون ألا يرسلوا التابوت فارغا بل يردوا له قربان إثم اعترافا منهم أنهم أخطأوا وأن ما حل بهم هو تأديب وثمرة لإثمهم فى حق الله ، وكنوع من التعويض الأدبى والمادى لما أصاب شعبه .

كانت العادة لدى الوثنيين تقديم تمثال الجزء المصاب بمرض للآلهة عند البرء من المرض ، ولذا طلب الكهنة والعرافون تقديم خمسة بواسير من ذهب وخمسة فئران من ذهب ، غير أن الشعب زادوا على هذا العدد وصنعوا فئران الذهب بعدد جميع المدن من المدينة المحصنة إلى قرية الصحراء لأن الضربة كانت عامة ( 1 صم 6 : 18 ) .

أدرك الوثنيون حقيقتين : أن الله لا يرشى بذهب أو فضة إنما ما يقدمونه من قربان إثم هو اعتراف وشهادة لمجده ، : " أعطوا إله اسرائيل مجدا لعله يخفف عنكم وعن آلهتكم وعن أرضكم " 1 صم 6 : 5

وكذلك أن مقاومته لن تجدى ، فقد أغلظ فرعون قلبه فهلك ( 1 صم 6 : 6 ) ، كأن ما حدث منذ حوالى 350 عاما فى مصر ( فى ذلك الوقت ) انتشرت معرفته فى كل البلدان فى منطقة الشرق الأوسط .

رد التابوت على عجلة جديدة :

لقد عمل الفلسطينيون عجلة جديدة تجرها بقرتان مرضعتان لم يعلهما نير ( 6 : 7 ) ، تحمل تابوت العهد وقربان الإثم ، بالفعل استقامت البقرتان فى الطريق ، وكانتا تسيران فى سكة واحدة ، وأقطاب الفلسطينيين يسيرون وراء تابوت الرب .

ما أروعه منظرا يشهد لحب الله لشعبه ! فمهما طالت إقامة التابوت فى أرض الأعداء ، لكن الله يشتاق أن يسكن وسط شعبه ويحل فيهم ، لقد ساق البقرتين رغم ميلهما الطبيعى لصغيريهما ، واستقامتا فى الطريق نحو شعب الله ، ما أعظم رحمة الله بنا ، فإنه يريد أن يتناسى أخطاءنا ويسكن فينا ويستريح فى أحشاءنا .

حجر شهادة فى حقل يهوشه :

إن كانت العجلة تمثل كنيسة العهد الجديد التى تضم شعبا من فريقين : من أصل يهودى ومن الأمم ، وقد صار الكل بروح الله " جديدا " فى الرب كمن لم يعلهما نير ، فإن العجلة انجذبت إلى حقل يهوشع البيتشمسى ( 6 : 18 ) ، لماذا ؟

" يهوشع " هو أسم مأخوذ عن " يسوع ( يشوع ) " ... لأنهما كانا مقادتين بقوة الأسم ، كما حدث قبلا مع الشعب الذى تبقى من الخارجين من مصر ، لقد قادهم إلى الأرض ذاك الذى حمل أسم يسوع ( يشوع ) والذى كان يدعى قبلا يهوشع .

بقى حجر الشهادة الذى وضع عليه تابوت العهد فى حقل يهوشع شاهدا لعمل الله مع شعبه ( 1 صم 6 : 18 ) ، تتطلع إليه الأجيال لتذكر رعاية الله واهتمامه بأولاده .

ضرب أهل بيتشمس :

( أ ) كنا نتوقع من الشعب أن يسقطوا على وجوههم عند معاينتهم للتابوت ، ويقدموا توبة للرب ، ويستدعوا الكهنة واللاويين لحمله والأحتفال به ، لكنهم فى تجاهل للشريعة التفوا حول التابوت ، ضرب من الشعب خمسون ألف رجل وسبعون رجلا ، لقد كرمه الفلسطينيون بالرغم من جهلهم أكثر من الشعب المعطى له وصايا صريحة بشأنه ، نحن أيضا كم مرة ندوس مقادس الله ونتقدم إلى الأسرار الإلهية فى تهاون ونستمع إلى كلمته بغير خشوع ؟ !

( ب ) يميز الكتاب بين الخمسين ألفا والسبعين المضروبين بسبب رؤية التابوت ، ربما لأن الخمسين ألفا من كل بنى إسرائيل الذين سمعوا من كل موضع وجاءوا يحتفلون برجوعه بينما السبعون هم وحدهم من بيتشمس ، يرى البعض أن النسخ العبرية القديمة لم تذكر سوى رقم 70 .

لم يرجع التابوت إلى شيلوه ، غالبا لأنها كانت قد دمرت بواسطة الفلسطينيين ؛ هذا واضح من الحفريات ومن إرميا 7 : 12 .

أصعد التابوت من بيتشمس إلى قرية يعاريم ، على تخم يهوذا وبنيامين ، كانت تابعة ليهوذا ( قض 18 : 2 ) . يرجح أنها قرية العنب التى تسمى أيضا أباغوش تبعد حوالى 9 أميال غرب أورشليم .

بقى بها تابوت العهد حتى نقله داود النبى إلى بيدركيدون وبيت عوبيد أدوم الجتى ( 1 أيام 13 – 5 – 13 ، 2 أيام 1 : 4 ) .

+  +  +

الأصحاح السابع

التوبة طريق النصرة

كان صموئيل النبى يهيىء الشعب للتوبة قرابة 20 عاما ، وأخيرا نادى بالتوبة الجماعية من كل القلب ، والعودة الكاملة لله ، ورفض كل عبادة غريبة ، وبعد الصلاة والصوم قدم عنهم ذبيحة ، وعندئذ إذ تقدم الفلسطينيون لمحاربتهم أرعدهم الرب نفسه وأزعجهم لينكسروا أمام الشعب .

لقد برز صموئيل النبى فى هذا الأصحاح كقاض وكممثل للحكم الإلهى مثل موسى ( إر 15 : 1 ) ومثل يشوع ( يش 24 ، 1 صم 12 ) ، وكأحد القضاة لكن على مستوى أعلى فى الشفاعة .

يعتبر هذا الأصحاح مقدمة للأصحاح التالى ، فيه أبرز فساد النظام الملكى المقام من أجل مظاهر بشرية .

تابوت الرب فى بيت أبيناداب :

أثار تابوت العهد رعبا ليس فقط فى مدن فلسطين العظمى وإنما أيضا فى بيتشمس ، أما أهل قرية يعازيم فقد أدركوا أنه يمثل حضرة الله ، هو نار آكلة بالنسبة للمرتدين عنه والمنحرفين أما بالنسبة لمحبيه فحافظ لهم وسر فرحهم وتعزيتهم . لهذا صعدوا بفرح وأتوا به فى احترام ووقار ، وجاءوا به إلى بيت أبيناداب ليبقى هناك قرابة مئة عام حتى نقله داود النبى ( 2 صم 6 : 1 – 4 ) .

كلمة " أبيناداب " تعنى " أبا الكرم أو النبل " ، وكأنه لا يمكن التمتع بالحضرة الإلهية ما لم تحمل النفس الداخلية نوعا من الكرم أو السخاء فى العطاء .

وضع التابوت فى بيت فى الأكمة أى على مكان عال ، وقدس أليعازر ( تعنى الله معين ) بن أبيناداب لأجل حراسة التابوت ، غالبا ما كان لاويا وليس كاهنا .

كان التابوت فى قرية يعازيم بينما أقيمت الخيمة فى نوب بلا تابوت مما عطل العبادة فيها أو جعلها عبادة غير كاملة ، وكان هذا إعلانا عن حالة الخمول الروحى والأنحطاط التى بلغ إليها الشعب .

سار صموئيل يجول بين الشعب ليعدهم لحياة التوبة والرجوع إلى الله .

( 2 ) الرجوع القلبى والعملى لله :

بعد موقعة أفيق التى مات فيها أبنا عالى الكاهن وعالى نفسه ، بدأ صموئيل النبى يمارس عمله القيادى الهادىء والبناء . اتخذ إقامته غالبا فى الرامة حيث التف حوله بعض الشباب وصاروا نواة لأول مدرسة للأنبياء ، فى هذه الفترة تزوج صموئيل وأنجب ابنين دعاهما :

يوئيل " يهوه هو الله " ، ......أبيا " الرب هو أبى " .

فى هذه الفترة عاد تابوت العهد إلى إسرائيل ووضع فى قرية يعازيم بينما نقلت الخيمة إلى نوب ، وتعطلت بعض الشعائر الدينية ، أما صموئيل فلم يكف عن العمل الهادىء البناء على المستوى الفردى والأهتمام بالشباب ، مع ممارسة حياة الصلاة . خلال هذا الأصلاح الهادىء انفتحت القلوب بالحب لله وبالتالى تجمعت القلوب معا بالحب الأخوى وروح الوحدة . بعد عشرين سنة من وجود تابوت العهد فى قرية يعازيم وجد صموئيل الفرصة سانحة للمناداة بالتوبة الجماعية والرجوع لله مع الكشف عن سر فشل الشعب وعن طريق النصرة ، إذ تحدث صموئيل مع كل بيت إسرائيل ( أى مع الجماعة كلها ) قائلا : " إن كنتم بكل قلوبكم راجعين إلى الرب فانزعوا الآلهة الغريبة والعشتاروت من وسطكم ، وأعدوا قلوبكم للرب وأعبدوه وحده فينقذكم " 1 صم 7 : 4 .

سر ضعف الأنسان التعريج بين الطريقتين وعدم رجوعه بكل القلب إلى الرب ، كأن يتمسك بشكليات العبادة الخارجية بينما يقيم فى أعماقه إلها خفيا  " كـ الأنا  " .

 ( 3 ) الصلاة والصوم والذبيحة : 

التوبة بما يلازمها من تغيير القلب الداخلى وعبادة هى أمر شخصى يمس حياة المؤمن وعلاقته الخفية مع الله ، لكنها فى نفس الوقت هى ممارسة جماعية ، إذ يقول صموئيل النبى : " اجمعوا كل إسرائيل إلى المصفاة " 7 : 5 توبة خاطىء واحد تفرح ملائكة السماء ( لو 15 : 10 ) ، وتسند الكثيرين على الأرض وتدفعهم للتوبة معه ، ومع كل سقوط واستهتار خفى نسيىء إلى الجماعة كلها .

جاءت التوبة القلبية تحمل أعمالا ظاهرة أيضا :

+ نزع الآلهة الغريبة ( 1 صم 7 : 4 ) .

+ التقاء جماعى فى المصفاة للعبادة بروح واحد ( 1 صم 7 : 4 )

+ صموئيل النبى يصلى إلى الرب لأجلهم ( 1 صم 7 : 5 )

+ استقاء ماء وسكبه أمام الرب ( 1 صم 7 : 6 )

+ صوم جماعى ( 1 صم 7 : 6 ) .

+ الأعتراف بالخطايا للرب أمام صموئيل النبى ( 1 صم 7 : 6 )

+ الحاجة إلى ذبيحة للمصالحة مع الله ( 1 صم 7 : 9 ) .

يبرز صموئيل النبى دور الله فى حياة شعبه ، فإنهم إذ يجتمعون للتوبة يحتاجون إلى يد الله الخفية تعمل فيهم لذلك يقول : " فأصلى لأجلكم إلى الرب " 1 صم 7 : 5 . هنا يبرز صموئيل النبى كراع روحى ، يعرف أنه لن يقدر أن يقود شعب الله بدون الصلاة .

" فاجتمعوا إلى المصفاة واستقوا ماء وسكبوه أمام الرب " 1 صم 7 : 6

يرى البعض أنه اشارة إلى سكب قلوبهم بالتوبة أمام الرب  ، أو علامة الأعتراف بالضعف ، أو تأكيد للقسم ،

فى ذلك الوقت كان صموئيل النبى يقضى بينهم كقاض ، لا خلال السلطة وإنما بعد تقديم صلوات طويلة مستمرة وإصلاح دائم بينهم وعمل روحى هادىء ثم توبة جماعية ورجوع إلى الله . 

( 4 ) الرب واهب النصرة : 

مع كل جهاد روحى هادف يثور عدو الخير لا لخطأ أرتكبه الأنسان أو ارتكبته الجماعة ، وإنما هى علامة رفض الظلمة للنور ، ومقاومة عدو الخير لمملكة الله .

لقد اجتمع أقطاب الفلسطينيين أيضا وصعدوا إلى إسرائيل ( 1 صم 7 : 7 ) ، فخافوا أن يتكرر معهم ما حدث فى موقعة أفيق ( 1 صم 4 ) ، لكنهم إذ كانوا تحت قيادة روحية سليمة يمارسون التوبة طلبوا من صموئيل النبى ألا يكف عن الصراخ من أجلهم إلى الرب ليخلصهم ... قدم صموئيل محرقة للرب علامة تسليم نفوس الشعب ليد الرب تماما ، واستجاب الرب خلال الطبيعة بواسطة رعد أو زلزال ، واهبا إياهم الغلبة والنصرة ، إذ ضربوا العدو إلى ما تحت بيت كار ( تعنى بيت الخرفان ) غرب المصفاة ، يظن أنها بيت كارم الحالية ، أو عين الكروم .

مع كل نمو روحى نواجه حربا جديدة ، تؤول إلى تزكيتنا وتكليلنا ما دمنا فى يد الله .

تحققت النصرة فى ذات الموقع الذى حدثت فيه الهزيمة قبلا وأخذ التابوت ( 1 صم 4 : 1 ) ، لذلك أخذ صموئيل حجرا ونصبه ، ودعاه :

" حجر المعونة " ........، لكى يكون شاهدا على عمل الله فى حياة شعبه الراجعين إليه . هذا التذكار يجدد روح الشعب باستمرار حتى لا ينحرفوا عن الله .

يقول رب المجد يسوع :

" إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ " لو 19 : 40 ....

إذ أقام صموئيل هذا الحجر لكى يبعث حياة الشركة فى كل من يتطلع إليه .

لعل هذه النصرة لإسرائيل أعطت مجالا للمصالحة بين إسرائيل والأموريين ( 1 صم 7 : 14 ) ليعيش الشعب إلى حد ما فى جو من السلام والطمأنينة .

( 5 ) قضاء صموئيل فى مواضع متعددة :

يعتبر صموئيل النبى هو المصلح الروحى الحقيقى فى تلك الآونة حتى كادت عبادة البعل تختفى تماما فى الفترة ما بين بدء النظام الملكى حتى أوائل عصر سليمان الحكيم .... يلاحظ أن صموئيل النبى أقام أكثر من مكان للعبادة مثل بيت إيل والجلجال والمصفاة ، لقد أراد صموئيل أن يؤكد أن سر القوة هو فى العلاقة الخفية فى القلب مع الله ، دون تجاهل العبادة الجماعية بروح الوحدة والحب .

لقد بقى الأمر كذلك حتى جاء سليمان الحكيم وأقيم هيكل الرب الواحد فى أورشليم بأمر إلهى ، ليجمع الكل معا بالروح الواحد حول هيكل واحد للرب

 +  +  +

الباب الثانى

الأصحاح الثامــــن

بـــــدء عصر الملـــوك

انشغل الشعب بمظاهر العظمة والأبهة التى لملوك الأمم المحيطين بهم ، وحسبوا ذلك مجدا وكرامة حرموا هم منها ، لذا استغلوا شيخوخة صموئيل النبى وعدم سلوك أبنيه فى طريق أبيهما ليطلبوا من صموئيل إقامة ملك يقضى لهم كسائر الأمم ( 8 : 5 ) .

( 1 ) طلب ملك :

ربما يتساءل البعض : لو لم يطلب الشعب ملكا ، هل كان الله قد أعد لهم إقامة مملكة ؟

( أ ) لا نجد للنظام الملكى موضعا حقيقيا فى الشريعة الموسوية إلا ما جاء فى تث 17 : 14 – 20 . ربما كان هذا نبوة عن إقامة نظام ملكى فى أرض الموعد ، وربما كانت نصائح تقدم للشعب إن اختار له ملكا وقواعد يلتزم بها الملك ليعيش كما يليق كعضو فى الجماعة المقدسة .

( ب ) كان الخطأ لا فى طلب إقامة ملك إنما فى تعجل الأحداث وفى إساءة فهم النظام الملكى ، فمن جهة الزمن كان الله يدبر لهم إقامة ملك قلبه مثل قلب الله ، فقد سمح بمجىء راعوث من بين الأمم ، تلك التى من نسلها يخرج داود النبى والملك لو أنتظروا قليلا لنالوا أفضل مما طلبوا ، ولما أقيم شاول الجميل الصورة الذى سبب لهم شقاء عظيما .

كان يمكنهم اختيار قائد للحرب دون الأرتباط بالنظام الملكى وتسليم القيادة فى أيدى نسله بالوراثة

لماذا لم يوبخ الله صموئيل على انحراف أبنيه كما فعل مع عالى ؟ ربما لأن عالى كان رئيس كهنة وقد ارتكب ابناه الكاهنان خطايا بشعة ورجاسات تستوجب لا العزل بل القتل حسب الشريعة ، وكان الأبنان يعملان مع أبيهما وتحت مئوليته كرئيس كهنة ، أما بالنسبة لأبنى صموئيل ، فيحتمل أن يكون انحرافهما – قبول الرشوة – جاء مؤخرا بعدما تسلما العمل بفترة ، فابتدأ الأثنان بالأستقامة لكن محبة المال أغوتهما ، هذا وكان الأثنان يعملان فى بئر سبع وليس مع أبيهما فى الرامة ، وربما جاء اختيارهما بناء على رغبة الشعب لأنهما لا يرثان المركز ( القاضى ) بالخلافة .

اعتراض شيوخ إسرائيل على انحراف ابنى صموئيل يكشف عن وجود ضمير حى فيهم ، على خلاف فترة حكم عالى الكاهن إذ لا نجد أحدا يعترض على تصرفات أبنيه البشعة .

يليق بكل قائد أن يحذر من محبة المال والرشوة فقد أفسد المال قلبى القاضيين وسبب متاعب لهما ولأبيهما كما للشعب .

( 2 ) صموئيل النبى يحسب ذلك إهانة له :

لقد حسب صموئيل النبى ذلك الطلب رفضا لعمله القضائى ، وحسب الرب ذلك رفضا له هو شخصيا كملك على شعبه ، إذ قال لصموئيل نبيه :

" إسمع لصوت الشعب فى كل ما يقولون لك ، لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياى رفضوا حتى لا أملك عليهم " 8 : 7 .

ما أعظم حكمة صموئيل ، فإنه كرجل صلاة لم يثر عليهم ولا وبخهم بل طلب أولا مشورة الله وإرشاده ، وقد وهبه الله راحة أن الشعب لم يرفض صموئيل بل رفض الرب نفسه ، والعجيب أن الله يطلب من صموئيل :

" اسمع لصوت الشعب فى كل ما يقولون لك " .

 إنه يقدس الحرية الأنسانية ، ويستجيب للطلبات الجماعية وإن كان يكشف لهم الحق منذرا إياهم بسبب سوء رغبتهم .

إنه لا يلزمهم ولا يقهرهم على نظام معين بل يطلب منهم أن يتفهموا الحق بكامل حريتهم .

( 3 ) الله يقبل طلبتهم مع تحذيرهم :

استجاب الله لطلبتهم ، هذا لا يعنى رضاه عن ذلك ، إنما كما يقول المزمور : " يعطيك سؤل قلبك " مز 37 : 4 . فإن كان سؤل قلبنا سماويا ننعم بالسماويات كبركة لنا ، وإن كان سؤل قلبنا لغير صالحنا أو بنياننا يسمح بتحقيقه لأجل التأديب ، وكما يقول المرتل : " فأعطاهم سؤلهم وأرسل هزالا فى أنفسهم " مز 106 : 15 .

( 4 ) صموئيل يحذر الشعب :

تحدث صموئيل النبى مع الشعب فى صراحة ووضوح بجميع كلام الرب ، ليكشف لهم عن مساوىء طلبتهم لإقامة ملك ، والتى تتلخص فى الآتى :

( أ ) تسخير بنيهم للخدمة العسكرية لا لصالح الشعب إنما بالأكثر لصالحه الشخصى كعبيد له .

( ب ) يستغل بناتهم كعطارات وطباخات وخبازات لترفه عنه هو وعائلته ورجاله .

( ج ) يغتصب أجود حقولهم لحساب خصيانه ( كبار موظفيه ) وعبيده .

( د ) استغلال طاقاتهم فى زراعة أرضه الخاصة والعمل لحسابه .

( هـ ) إذ يحل بهم الظلم لا يجدون من يصرخون إليه ، فإن الله نفسه لا يسمع لهم لأنهم هم اختاروا ملكهم حسب هواهم الشخصى .

لم يسمع الشعب لنصيحته بل أصروا على إقامة ملك ( 1 صم 8 : 19 ) ، عندئذ فض صموئيل الأجتماع ليذهب كل واحد إلى مدينته ( 1 صم 8 : 22 ) ، وقد تأكد الجميع أن صموئيل يدبر لهم الأمر .

+  +  +

الأصحاح التاسع

لقاء شاول مع صموئيل

( 1 ) شاول وأتن أبيه الضالة :

إذ سأل الشعب صموئيل النبى أن يقيم لهم ملكا أختير " شاول " الذى يعنى " سؤال " ملكا . لقد أعطاهم ملكا حسب سؤل قلبهم ، إنسانا حسن الصورة طويل القامة ، أما قلبه فلم يكن مستقيما ، لم يتجاهل الكتاب المقدس الجوانب الطيبة التى اتسم بها شاول بل على العكس أبرزها ، لكن لم يحتمل شاول الغنى والكرامة إذ كشفا انعوجاج قلبه الداخلى واهتمامه بحب الكرامة الزمنية والمظاهر الخارجية لذا انتهت حياته برفض الله له وحرمان نسله من تولى الملك .

يروى لنا هذا الأصحاح الأحداث التى انتهت بمسح شاول ملكا ، أحداث قد يراها البعض عارضة ، أو محض صدفة ، تبدو أحداثا تافهة بلا قيمة ، لكن الوحى الإلهى يكشف لنا كيف أن الله ضابط الكل ، يحول الأحداث جميعها – مهما بدت تافهة – لتحقيق خطة إلهية من جهتنا ، وليس شىء ما يتم بالصدفة . هنا نجد أتن قيس تضل فيخرج شاول يبحث عنها لا ليجد الأتن وإنما لكى يدعى للملك ، خروج الغلام معه ، الذى يشير عليه أن يلتقيا بالرائى ، أيضا وجود نصف شاقل فضة لدى الغلام ، لقاء شاول والغلام مع الفتيات الخارجات ليستقين ، لقاؤهما مع الرائى ..... هذه جميعا بدت فى الظاهر كأنها كأنها أمور تمت بلا تدبير مسبق ، لكن الواقع أن الله كان وراء كل هذه الأمور يستخدمها لتحقيق خطته ، ليتنا نؤمن أن كل ما يمر بحياتنا – مهما بدأ تافها – يسير بتدبير الله العارف حتى بعدد رؤوسنا ( مت 10 – 30 ) والمعتنى بالعصافير .

 ( 2 ) الغلام يشير عليه باللقاء مع الرائى :

إذ أراد شاول العودة حتى لا ينشغل أبوه بأمره هو والغلام ، سأله الغلام أن يستشير رجل الله ليخبرهما عن طريقهما التى يسلكان فيها ( 1 صم 9 : 6 )

اعتاد اليهود أن يدعوا النبى " رجل الله " ، لأنه يعمل على التقدم بالشعب إلى الله خلال الصلاة والوصية الإلهية والأرشاد والنبوة ؛ كما يدعى " إنسان الروح " هو 9 : 7 ، بكونه مهتما بالروحيات ، يعمل بقيادة روح الله ، وأيضا يدعى " الرائى " إذ ينظر إلى بعض أمور المستقبل كما ببصيرة روحية مفتوحة .

تساءل شاول : " ماذا نقدم للرجل ، لأن الخبز قد نفذ من أوعيتنا وليس من هدية نقدمها لرجل الله ، ماذا معنا ؟ " 1 صم 9 : 7 .

إن كان شاول قد جهل اسم الرائى وموضع سكناه لكنه تربى منذ الطفولة ألا يدخل بيت الله بيد فارغة ، ولا يلتقى برجل الله بيد فارغة . وكانت العادة السائدة أن يقدم الأنسان من طعامه أو محصولاته كما من أمواله . هذه العادة عاشتها الكنيسة الأولى ، فقيل عن والد القديس تكلا هيماتوت الأثيوبى ، وهو كاهن ، أنه لم يكن يدخل الكنيسة بيد فارغة ، الكاهن الروحى محب للعطاء أكثر من الأخذ .... أينما وجد يشتاق أن يعطى ، أقول إن كل نفس تلتقى بالله المحبة يحمل طبيعة العطاء فى أعماقه ، يفرح ويشبع داخليا مع كل عطاء للغير .

كان مع الغلام ربع شاقل فضة ، وهو مبلغ زهيد للغاية ، لم يخجل هو وشاول من تقديمه ، فإن العبرة لا فى الكمية بل فى طبيعة العطاء ذاتها أو اتساع القلب بالحب .

كانت الرامة – مدينة صموئيل – قائمة على أكمتين ، لذا قيل " وفيما هما صاعدان فى مطلع المدينة " أى متجهان نحو باب المدينة ، ألتقيا بفتيات خارجات لأستقاء الماء ، قلن لهما : " هوذا هو أمامكما ، أسرعا الآن ، لأنه جاء اليوم إلى المدينة لأنه اليوم ذبيحة للشعب على المرتفعة " 1 صم 9 : 12

إن كانت الرامة القائمة على أكمتين تمثل كنيسة المسيح القائمة على العهدين ، القديم والجديد ، فإنه يليق بكل قلب أن يترك ما هو عند السفح ويصعد بروح الله خلال كلمة الله – العهدين – ليعيش فى الرامة كراء ينعم بالبصيرة المفتوحة المطلعة على أسرار الله وأمجاده السماوية ؛ ماذا قالت الفتيات لهما ؟ : " عند دخولكما المدينة للوقت تجدانه قبل صعوده إلى المرتفعة ليأكل ، لأن الشعب لا يأكل حتى يأتى لأنه يبارك الذبيحة ، بعد ذلك يأكل المدعوون " 1 صم 9 : 13 .

إذ ننعم بالصعود إلى كنيسة المسيح ، ماذا نرى ؟ نرى مسيحنا الذى تقدم ليأكل ، مقدما جسده المبذول ذبيحة حب مشبعة لشعبه ، يبارك الذبيحة بيديه الطاهرتين ليعطى مدعويه ليأكلوا ويشبعوا ويثبتوا فيه .

لما دخل الرجلان إلى وسط المدينة " إذا بصموئيل خارج للقائهما ليصعد إلى المرتفعة " 1 صم 9 : 14 . هكذا إذ ننعم بالعضوية الكنسية ، ندخل إلى كنيسته فيحملنا إلى جبل الجلجثة ( المرتفعة ) لنتمتع بسر الذبيحة واهبة المصالحة والمشبعة لأحتياجات النفس .

( 4 ) صموئيل يكشف لشاول رسالته :

لقد كشف الله أولا لصموئيل النبى بخصوص مسح شاول ملكا أو رئيسا لشعبه ، وذلك قبل اللقاء معه بيوم ( 1 صم 9 : 15 ) . ويلاحظ أن كلمة " رئيس " جاءت هنا فى العبرية تعنى " رئيسا " أو " أميرا " غير أن الحديث عنه هنا كملك ، كما أن المسحة ذاتها تعنى نواله الملوكية .

استضاف صموئيل النبى شاول ، وكشف له كل شىء ، إذ قال له : " وأما الأتن الضالة لك منذ ثلاثة أيام فلا تضع قلبك عليها ، لأنها قد وجدت ، ولمن كل شهى إسرائيل ؟ أليس لك ولكل بيت أبيك ؟! 1 صم 9 : 20

فى اتضاع أجاب شاول : " أما أنا بنيامينى من أصغر أسباط اسرائيل ، وعشيرتى أصغر كل عشائر أسباط بنيامين ؟! فلماذا تكلمنى بمثل هذا الكلام ؟ !  1 صم 9 : 21 .

هنا يليق بنا أن نقف قليلا لندرك عطايا الله للإنسان المرتفع إلى مدينة الرامة ، أى إلى الكنيسة ، والملتقى مع صموئيل رمز السيد المسيح .

( أ ) طلب صموئيل النبى من شاول ألا ينشغل بالأتن الضالة ، فإنها أمر تافه للغاية أمام ما سيناله من عطايا ، مقابل هذا أعلن له أنها قد وجدت ، وأنه ينال كل شهى إسرائيل ، ألم يسألنا السيد المسيح ألا نتهتم بشىء إلا بملكوت الله وهذه كلها تزاد لنا ؟ فإن الله فى محبته يهبنا فى هذا العالم مئة ضعف ( مت 19 : 29 ) . بجانب تمتعنا بملكوت الله .

لنترك عنا الرتباك بالأتن الضالة ، فيردها الرب إلينا ويعطينا مركبات وخيل ، اما ما هو أعظم فإنه يهبنا ملكوته السماوى ، كما بقيادة مركبته السماوية ، لنترك الأتن الوضيعة الأرضية فنتقبل مركبة الله السماوية !

( ب ) أخذه صموئيل هو وغلامه إلى المنسك ، أى إلى الغرفة بالمرتفعة عند المذبح المعدة للولائم الخاصة بالذبائح ، وجعلهما على رأس المدعوين وهم نحو ثلاثين رجلا ( 1 صم 9 : 22 ) ، ثم أوصى الطباخ أن يقدم له الساق وما عليها ( 1 صم 9 : 24 ) ، على أى الأحوال من يترك الأنشغال بالزمنيات يرتفع كما إلى الوليمة السماوية وينعم بالطعام السماوى وينال كرامة مضاعفة وشبعا .

( جـ ) تمتع شاول بحديث سرى مع صموئيل عند طلوع الفجر على السطح ( 1 صم 9 : 25 ، 26 ) ، هكذا إذ ننعم بالطعام السماوى ندخل إلى علاقة سرية مع مسيحنا ، نلتقى به مبكرا ، حيث نوجد كما على السطح ، مرتفعين نحو السماء لننظر أسراره الإلهية وننصت إلى كلماته الخاصة ، محدثا إيانا عن إقامتنا ملوكا روحيين ( رؤ 1 : 6 ؛ 5 : 10 ) .

الأصحاح العاشر

مسح شاول ملكا

مسح شاول ملكا ، وقدمت له كل الأمكانيات ليعيش فى مخافة الرب قائدا قويا يتمم الأرادة الإلهية ، دون أن يلتزم بالعمل حسب إرادة الله قسرا :

( 1 ) مسحه ملكا

" فأخذ صموئيل قنية الدهن وصب على رأسه ، وقبله ، وقال : أليس لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسا ؟ ! " 1 صم 10 : 1

تضايق صموئيل النبى عندما طلب الشعب إقامة ملك لهم كسائر الأمم ، لكن إذ قبل الرب طلبتهم خضع ، مسحه صموئيل بقنينة الدهن التى يمسح بها الكهنة والأنبياء والملوك ، فيحسبون مسحاء الرب ، بكونهم رمزا للسيد المسيح ، فهو وحده تجتمع فيه الثلاث وظائف معا ، لأنه فى العهد القديم كان الكهنة من سبط لاوى وحده والملوك من سبط يهوذا ( داود ونسله ) ، فلا يتمتع أحد بالوظيفتين معا .

ما أجمل عبارة صموئيل النبى للملك الممسوح حديثا : " لأن الرب قد مسحك على ميراثه رئيسا " . فإنه ما ناله شاول هو عطية إلهية نالها كنعمة مجانية وليس عن استحقاق أو بر ذاتى ، أقامه وكيلا على شعبه الذى دعاه ميراثه ، حقا إن الأرض كلها للرب ، لكن شعبه هو ميراثه ونصيبه الذى يعتز به وينشغل به كما ينشغل الأنسان بميراثه الخاص .

( 2 ) صموئيل ينبئه بما يتم معه 

إذ مسح شاول بالدهن المقدس ملكا أنبأه بما سيحدث معه :

( أ ) يذهب إلى قبر راحيل فى تخم بنيامين حيث يلتقى برجلين يخبرانه بأن الأتن قد وجدت وأن أباه مهتم بأمره هو والغلام ( 1 صم 10 : 2 ) ، كان له أن يفخر بهذا السبط ، وإن كان قد صار أصغر الأسباط بسبب المذبحة التى وردت فى قض 20 : 46 ، كان يليق به أن يدرك أن بنيامين الذى كان ابن حزن أمه راحيل قد صار ابنا لليمين بالنسبة لأبيه يعقوب ، وهو فى هذا يشير إلى السيد المسيح الذى هو ابن حزن أمه – جماعة اليهود – التى رفضته ، وقد جلس عن يمين الآب .

إن تأكيد مقابلة رجلين ينزع عن شاول الفكر أن ما يحدث هو محض صدفة ، إذ يليق به فى بداية مسحه ملكا أن يدرك يد الله الخفية العاملة حتى فى الأمور البسيطة .

( ب ) يلتقى بثلاثة رجال فى بلوطة تابور ( 1 صم 10 : 3 ) صاعدين إلى الله إلى بيت إيل يحملون 3 جداء و 3 أرغفة وزق خمر ، يسلمون عليه دون أن يعرفوا أمر مسحه ملكا ويقدمون له رغيفى خبز ، ماذا يعنى هذا ؟ إنهم لا يقمون له من الجداء لأنه ليس كاهنا ، بل يصعدون بالذبائح إلى بيت إيل إلى بيت الله خلال الكهنة ، ولا يقدمون خمرا لأنها تمثل نوعا من الترف ، إنما يقدمون له رغيفين أى الأحتياجات الضرورية له ولمن معه ( هو والغلام ) . كأنه يليق به كملك ألا يتدخل فى الأمور الكهنوتية ، ولا يطلب الكماليات إنما يعيش بروح الكفاف ليأكل خبزا هو ورجاله متفرغا للعمل لحساب شعب الله

( جـ ) يذهب إلى جبعة الله ، إلى أنصاب الفلسطينيين ، حيث يلتقى هناك بزمرة الأنبياء ، ويحل عليه روح الرب فيتنبأ معهم ( 1 صم 10 : 5 ، 6 ) . يعتبر صموئيل هو مؤسس مدرسة الأنبياء ، التى منها نشأ نظام المجمع اليهودى ليمدهم بالتعليم الحاخامى وبقيادات للمجمع ، يلتقى بالأنبياء نازلين من المرتفعة وأمامهم رباب ودف وناى وعود وهم يتنبأون ، أى يسبحون الرب بفرح وتهليل .

بعد أن قدم صموئيل هذه العلامات الثلاث التى حوت دستور الحياة الناجحة لملوك إسرائيل ، قال له : " فيحل عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر " 1 صم 10 : 6 . هذه هى عطية الله العظمى ، يهبنا روحه القدوس – واهب العطايا – يسكن فينا فنعبده ( نتنبأ ) وتتجدد طبيعتنا .

 ( 3 ) أشاول أيضا بين الأنبياء ؟ !

إذ مسح شاول تغير قلبه : " وكان عندما أدار كتفه لكى يذهب من عند صموئيل أن الله أعطاه قلبا آخر " 10 : 9 ، وإن كان قد فسد هذا القلب فيما بعد إذ اعتمد على الحكمة البشرية لا على العمل الإلهى .

تحققت كل كلمات صموئيل النبى ، وإذ جاء شاول إلى جبعة حيث أنصاب الفلسطينيين – أى آثار أو أعمدة لهم ( 1 صم 10 : 5 ) – التقى بزمرة الأنبياء وحل عليه روح الله فتنبأ فى وسطهم ( 1 صم 10 : 10 ) ، لم يتوقع أهل جبعة العارفون شاول منذ ولادته حق المعرفة بأنه غير متدين ، الآن – دون سابق تعلم فى مدرسة الأنبياء – أن يجتمع بالأنبياء ويسبح معهم كواحد منهم ، بروح لم يعتادوها فيه ، لذلك قيل : " أشاول أيضا بين الأنبياء ؟! " وصارت مثلا يكنى عن عمل الله الفائق فى حياة المؤمنين .

إذ انتهى شاول من التنبوء جاء إلى المرتفعة ( 1 صم 10 : 13 ) فى جبعة ليسجد لله

إذ نتقبل عمل روح الله القدوس فينا – الذى يجدد على الدوام حياتنا – يلهب قلبنا للعبادة ويفتح ألسنتنا للتسبيح ، لذا يقول العلامة أوريجانوس : [ لا نستطيع أن نقيم صلاة ما لم يلق الآب عليها ضوءا ، ويعلمها الأبن ، ويعمل الروح القدس فى داخلنا ] .

( 4 ) لقاؤه مع عمه

التقى شاول بعمه – ربما كان نير ( 1 صم 14 : 5 ) – فى المرتفعة أو ربما فى المنزل بعد عودة شاول . سأله عمه عن حديث صموئيل معه فأخبره بأن صموئيل أعلمه بوجود الأتن الضائعة ، وأخفى عنه ما قاله بخصوص المملكة ، ربما لأنه حسب ذلك حديثا سريا لا يجوز إعلانه قبل اختيار الشعب له وتجليسه ملكا أمام الجميع .

( 5 ) إعلان ملكه فى المصفاة

 " استدعى صموئيل الشعب إلى الرب " ( 1 صم 10 : 17 ، أى استدعى الذكور من سن عشرين فما فوق ليمثلوا فى حضرة الرب فى المصفاة ، حيث عاد فوبخهم على طلبهم ملك ، لكنه غالبا ما ألقى قرعة فأخذ سبط بنيامين ، ثم ألقيت القرعة على العشائر ، وأخيرا على الأشخاص فأخذ شاول بن قيس الذى كان مختبئا بين أمتعة القادمين من السفر .

لا نعرف لماذا أختبأ شاول ، هل لشعوره بعدم الأستحقاق أم هربا من المسئولية ؟ أم لأنه خاف بسبب رفض الشعب لله وطلبهم ملكا ؟

أعلن الرب عن موضعه ، وإذ جاءوا به إلى الشعب وجدوا فيه سؤل قلبهم – جماله وطول قامته – لذا هتفوا فرحين دون أن يقدموا الشكر لله .

احتقره بنو بليعال ، وحسبوه عاجزا عن أن يخلصهم ، لذا لم يقدموا له هدية ، ربما لأن سبطه أصغر الأسباط ولأن عشيرته هى الدنيا بين عشائر بنيامين ... على أى الأحوال التزم شاول الصمت فى حكمة " فكان كأصم " 1 صم 10 : 27 ، بهذا حفظ الشعب من قيام ثورة داخلية بسببه بين الأسباط ، لقد اعتبر صمته غلبة داخلية لحقها بعد شهر من الزمان نصرة خارجية حيث غلب ناحاش ورجال جيشه العمونيين .

الصمت المقترن بالحكمة يمثل نصرة داخلية للنفس ، لذا كثيرا ما أوصى به الآباء .

+ قال مار إسحق السريانى : " إن كنت تحب الحق ، أحبب الصمت ، هذا يجعلك تنير فى الرب مثل الشمس ويخلصك من خداع الجهل .

الصمت يوحدك مع الله نفسه .

+ + +

الأصحاح الحادى عشر

محاربة العمونيين

إذا اراد ناحاش العمونى أن يذل أهل يابيش جلعاد ، التجأ شيوخهم إلى جبعة شاول الذى حل عليه روح الله ، وجمع الشعب معا وغلب العمونيين .... إنها بداية طيبة فى بدء عهده فاستحق تجديد ملكه فى الجلجال دينيا وامتلأ الكل فرحا .

( 1 ) تهديد ناحاش العمونى

دعى ملك العمونيين " ناحاش " أى " حنش " أو " حية " ، ربما بسبب تأليبهم للحية .

لقد ظهر الضعف الشديد الذى عاش فيه إسرائيل من احتقار ناحاش لهم بصورة مخزية ، فمن جهة إذ قبل أهل يابيش أن يستعبدوا له على أن يقطع لهم عهدا لحمايتهم كعبيد له طلب منهم " تقوير كل عين يمنى " لهم ليكون ذلك عارا على جميع إسرائيل . ولما طلب شيوخهم مهلة سبعة أيام لأستشارة جميع تخوم إسرائيل لعله يوجد من بينهم من يخلصهم منه – فى استهانة بكل إسرائيل – أعطاهم المهلة للأستغاثة ، مدركا أنه لا يوجد فى كل الأسباط من يقدر أن يخلص أو يسند .... هكذا حل بهم الضعف حتى استهان بهم العدو وسخر منهم .

إن كان ناحاش يرمز للحية القديمة التى حملت عداوة ضد الأنسان منذ البداية ، فإن بنى إسرائيل يمثلون الطبيعة البشرية التى فسدت تماما ولم يكن لها قوة لمقاومة العدو .

يقول الكتاب عن ناحاش العمونى إنه " نزل على يابيش جلعاد " 1 صم 11 : 1 . وكأن يابيش قد انحط فنزل إلى تراب هذا العالم ، لذا " نزل " ناحاش إليه . لقد وجدت الحية " ناحاش " أهل يابيش فى وحل هذا العالم لذا زحفت إليهم مستهينة بهم ، مدركة أنه ليس من يستطيع أن يخلصهم من أحشائها .

( 2 )  غيرة شاول

جاء الرسل إلى جبعة شاول يتحدثون بتهديدات ناحاش ، فرفع كل الشعب أصواتهم وبكوا : " وإذا بشاول آت وراء البقر من الحقل ، فقال شاول : ما بال الشعب يبكون ؟ " 1 صم 11 : 5

سبق أن مسح شاول بالدهن المقدس فصار " مسيح الرب " ، ملك إسرائيل ، لكنه لم يمارس العمل الملوكى ربما خشية حدوث انقسام وسط الشعب بسبب رفض بنى بليعال له ، أو لشعوره بالعجز وعدم الخبرة فى ممارسة هذا المنصب منتظرا الفرصة التى يعدها الرب له .

قام شاول بتكوين جيش من 300000 رجل من إسرائيل و 30000 من يهوذا .... ، هذا العدد لم يتدرب على الحرب ، اجتمعوا فى بازق ، بين شكيم وبيت شان على بعد سبعة أميال من الأردن .

قام شاول بتوزيع الشعب وتنظيمه ليكون منه ثلاث فرق هاجمت العدو عند السحر من ثلاث جهات مختلفة فى وقت غير متوقع ، قام العدو من النوم فزعا ينازعهم النعاس والدهشة لما حدث فحلت بهم الهزيمة كاملة ، إذ أن بنى إسرائيل " ضربوا العمونيين حتى حمى النهار ، والذين بقوا تشتتوا حتى لم يبق منهم اثنان معا " 1 صم 11 : 11 .

( 3 ) رفض قتل بنى بليعال

 طلب الشعب من صموئيل النبى – الذى مسح شاول ملكا – أن يقتل بنو بليعال الذى الذين احتقروا شاول بكونهم عصاة ، لأن شاول حقق لإسرائيل نصرة عظيمة لم تكن متوقعة ، وجاءت الأجابة من شاول : " لا يقتل أحد فى هذا اليوم ، لأنه فى هذا اليوم صنع الرب خلاصا فى إسرائيل " 1 صم 11 : 13 .

هكذا ظهر شاول كملك أبى النفس يرفض قتل الناس فى يوم الخلاص ، حاسبا فرح الشعب أعظم من أى انتقام شخصى .

+ إن كان هذا يليق بالملك فكم بالأكثر يلزم على الكاهن أن يكون طويل الأناة حتى بالنسبة لمضايقيه .

( 4 ) تجديد الملك لشاول

مسح شاول ملكا فى المصفاة ( 1 صم 10 : 25 ) ووجد بنو بليعال المحتقرون له ، أما وقد غلب فتم تجديد مبايعته بالأجماع فى الجلجال أمام الرب حيث قدمت ذبائح سلامة ، وعم الفرح الجميع .

+  +  +

الأصحاح الثانى عشر

حديث صموئيل الوداعى

قدم صموئيل النبى حديثا وداعيا وصريحا ، أشهدهم فيه أمام الله ومسيحه على أمانته من نحوهم وعدم استغلاله لهم ، كما ذكرهم ببركات الرب وأعماله معهم ، ووبخهم على طلبهم ملكا ، فاتحا أمامهم باب الرجاء فى الرب المحب لشعبه .... وقد أراد بهذا كله تقديم درس للملك الجديد . 

( 1 ) صموئيل النبى يعلن أمانته

أوضح صموئيل النبى أمانته فى العمل الرعوى بإعلانه أنه كان يستجيب لطلبات شعب الله ، يسمع لصوتهم حتى أقام عليهم ملكا كطلبهم ، ولم يكن ذلك مقابل شىء ، إنما من أجل حبه لهم ، فى ثقة يقول : " ها أنذا فاشهدوا على قدام الرب وقدام مسيحه : ثور من أخذت ؟! وحمار من أخذت ؟! ومن ظلمت ؟! ومن سحقت ؟! ومن يد من أخذت فدية لأغضى عينى عنه فأرد لكم ؟!  1 صم 12 : 3 .

إنه يشهد الرب الذى يفحص القلوب ويعرف الأفكار الخفية أن ما صنعه مع شعب الله لم يكن مظهرا خارجيا بل نابعا من أعماق حب وأمانة داخلية .

( 2 ) معاملات الله معهم

بعد أن شهد الشعب ببراءته بدأ هو يحاكمهم مظهرا لهم معاملات الله معهم كيف اهتم بهم عبر الأجيال مرسلا لهم مخلصا متى لجأوا إليه بالصلاة ، ففى مصر إذ استعبدهم المصريون صرخوا إلى الله فأرسل إليهم خلاصا على أيدى موسى وهرون ، وعندما أذلهم سيسرا رئيس جيش حاصور وأيضا الفلسطينيين والموآبيون أرسل لهم قضاة وقام الرب نفسه بإنقاذهم من أيدى أعدائهم الذين حولهم ليسكنوا آمنين ( 1 صم 12 : 11 ) ، كأن الله لم يعوزهم شيئا إذ اهتم برعايتهم وسلامتهم ، أما الآن فإذ رأوا ناحاش آتيا لم يصرخوا إلى الرب ليرسل لهم خلاصا وإنما طلبوا ملكا يملك عليهم متجاهلين أن الرب نفسه ملكهم ( 1 صم 12 : 12 ) .

( 3 ) طلبهم ملكا

كثيرا ما يكرر صموئيل النبى الحديث عن إقامة ملك بكونه خطأ موجها ضد الله نفسه الذى يملك عليهم ويقودهم دون أن يعوزهم شيئا .

لقد أراد أن يوضح لهم أنه وإن كان الملك قد أقيم يلزمهم ألا يتكئوا على الذراع البشرى بل على ملكهم الحقيقى الذى فى يده التاريخ والطبيعة ، أكد ذلك بمثل عملى سريع إذ قال لهم : " أما هو حصاد الحنطة اليوم ؟‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍فإنى أدعو الرب فيعطى رعودا ومطرا ، فتعلمون وترون أنه عظيم شركم الذى عملتموه فى عينى الرب بطلبكم لأنفسكم ملكا " 12 : 17 . وإذ صار رعد ومطر " خاف جميع الشعب الرب وصموئيل جدا " 1 صم 12 : 18 . هكذا كان الشعب محتاجا إلى درس سريع وعملى ليدرك أن الله هو ملك الطبيعة وضابطها قادر أن يوجه التاريخ ويضبطه .

أبرز صموئيل النبى لطف الله نحو شعبه الذى رفض ملكه ، فإنه قبل طلبتهم كما أعطاهم حق الأختيار ، إذ قيل : " فالآن هوذا الملك الذى اخترتموه الذى طلبتموه ، وهوذا قد جعل الرب عليكم ملكا " 1 صم 12 : 13 .

( 4 ) يفتح باب الرجاء أمامهم

كشف لهم فى حزم عن الخطأ الذى أرتكبوه بطلب ملك لأنفسهم ، لكنه كأب يفتح باب الرجاء فى مراحم الله العظيمة قائلا : " لا تخافوا ، إن كنتم قد فعلتم كل هذا الشر ، ولكن لا تحيدوا عن الرب .... لأنه لا يترك الرب شعبه من أجل أسمه العظيم ، لأنه قد شاء الرب أن يجعلكم له شعبا " 12 : 20 – 22 .

الله- فى صلاحه – يحول حتى أخطائنا لمجد اسمه القدوس ولبنياننا إن رجعنا إليه بالتوبة ، كما فعل مع أخطاء إخوة يوسف ، إذ حولها لمجد الله ولتكريم يوسف ولشبع يعقوب وبنيه ، ولإقامة أمة لهم فى مصر .

الله غيور على شعبه لا من أجل برهم الذاتى ، وإنما من أجل حبه ، ومن أجل اسمه القدوس ، هذا ما يكرره الرب ، ويؤكد لنا :

" خلصهم من أجل اسمه ليعرف جبروته " مز 106 : 8 .

إن كان – من جانب الله – يرسل لهم خلاصا فى كل جيل ، فمن جانب صموئيل يحمل كل حب لهم ، لذا يقول : " وأما أنا فحاشا لى أن أخطىء إلى الرب فأكف عن الصلاة من أجلكم بل أعلمكم الطريق الصالح المستقيم " 1 صم 12 : 23 . هكذا لا يكف عن الصلاة ولا يتوقف عن تعليمهم الحق وإرشادهم . 

+  +  +

الأصحاح الثالث عشر

شاول يغتصب العمل الكهنوتى

استخدم شاول الحكمة البشرية فى حماقة ( 13 : 13 ) باغتصابه العمل الكهنوتى وإصعاد محرقة للرب ، لأن الشعب قد تفرق عنه وصموئيل قد تأخر بينما اجتمع الفلسطينيون لمحاربته ، صدر الأمر الإلهى على فم صموئيل النبى : " أما الآن فمملكتك لا تقوم " 13 : 14

( 1 ) ارتعاد الشعب

يفتتح هذا الأصحاح فى الأصل العبرى : " كان شاول أبن سنة فى ملكه ، وملك سنتين على إسرائيل " 1 صم 13 : 1

واضح أنه لم يكن أبن سنة حين ملك ولا ملك سنتين ، لذا يظن البعض أن الناسخ فقد كلمة " أربعين " قبل كلمة " سنة " ، أى " كان شاول أبن أربعين سنة حين ملك " ، وأن كلمة " ثلاثين " فقدت بعد كلمة سنتين ، أى ملك " سنتين وثلاثين " ، يمكن القول بأن مملكة شاول بقيت لمدة أربعين سنة ( أع 13 : 21 ) .

فى 1 صم 9 : 2 نرى شاول شابا حين ملك ، وهنا نرى أبنه يوناثان جنديا محاربا ، فلابد أن تكون هناك فترة تزيد عن العشرين سنة بين ما ورد هنا وما ورد فى الأصحاح السابق ، خلال هذه المدة نظم شاول جيشا صغيرا ، يضم 3 آلاف محارب ، ألفين معه فى مخماس ، وألفا مع يوناثان ابنه البكر فى جبعة بنيامين .

ضرب يوناثان نصب الفلسطينيين الذى فى جبع ، ضرب شاول بالبوق ليجمع إسرائيل للحرب ، فاجتمعوا فى الجلجال . أما الفلسطينيون فحسبوا هذا مهانة لهم أن يضرب يوناثان نصبهم فاجتمع 30000 مركبة و 6000 فارس وشعب بلا عدد كرمل البحر صعدوا ثم نزلوا فى مخماس شرقى بيت آون ( بيت الصنم ) ، ربما جاءوا ليسدوا طريق الجلجال فلا يصعد شاول لنجدة يوناثان .

+ لم يفكر شاول أو يوناثان فى الألتجاء إلى الله لخلاصهم ، لذا حل بهم الخوف والرعب حتى أن الشعب هرب ولم يتبقى مع شاول سوى ستمائة رجل ( 1 صم 13 : 15 ) . 

( 2 ) شاول يقدم محرقة

رأى شاول الشعب قد تشتت ، وهجر كثيرون الموقع ، وقد أوشكت الهزيمة أن تحل بالشعب ، وصموئيل لم يحضر بعد ، فقال : " قدموا إلى المحرقة وذبائح السلامة " ، فأصعد المحرقة . لقد ظن أن المحرقة أشبه بأحجية أو حجاب يؤدى إلى النصرة ، ولا يدرى أنه رمز للذبيحة الحقيقية ، وأنه لا يجوز تقديمها إلا بحسب الشريعة لتحقيق المصالحة مع الله .

يرى البعض أن شاول بتصرفه هذا أراد أن يغتصب وظيفة الكهنوت الدينية مستغلا تأخر وصول صموئيل النبى .

لقد صار مثلا سيئا فى عدم فهمه للعبادة ، فإن الله يطلب الطاعة لا الذبائح الحيوانية والمحرقات .

+ لو أن شاول انتظر الدقائق الأخيرة لجاء صموئيل وقدم محرقة مقبولة لدى الله عوض محرقة شاول التى حملت رائحة عصيان وصايا الرب .

( 3 ) رفض شاول

إذ تعدى شاول حدوده عاصيا الوصية الإلهية بتقديم ذبائح هى من عمل الكاهن لا الملك ، جاءه صموئيل النبى يوبخه قائلا له : " ماذا فعلت ؟ " 1 صم 13 : 11 . عوض أن يراجع نفسه ويعترف بخطئه ألقى باللوم على صموئيل قائلا : " لأنى رأيت أن الشعب قد تفرق عنى وأنت لم تأت فى أيام الميعاد والفلسطينيون مجتمعون فى مخماس ، فقلت الآن ينزل الفلسطينيون إلى .. إلى الجلجال ولم أتضرع إلى وجه الرب فتجلدت وأصعدت المحرقة " 1 صم 13 : 11 ، 12 .

ثمرة عصيان شاول مع تبريره لخطئه وإلقاء اللوم على الغير أنه فقد هو ونسله المملكة ، إذ قال صموئيل النبى : " قد انحمقت ؛ لم تحفظ وصية الرب إلهك التى أمرك بها ، لأنه الآن كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد . وأما الآن فمملكتك لا تقوم . قد انتخب الرب لنفسه رجلا حسب قلبه وأمره الرب أن يترأس شعبه " 1صم 13 : 13، 14

يوضح القديس أغسطينوس أن كلمات النبى صموئيل جاءت فى بداية ملك شاول ؛ ومع ذلك بقى شاول ملكا لمدة 40 عاما وهى ذات المدة التى ملكها داود على إسرائيل ، لكن امتد الملك فى نسل داود دون شاول ، وجاء السيد المسيح من نسل داود ليملك إلى الأبد .هنا أول إشارة إلى داود وملكه على إسرائيل ؛ مع مقارنة بينه وبين شاول ، داود له خطاياه لكنه يخطىء خلال الضعف البشرى ، هو رجل إيمان وطاعة ومملوء حبا وحنينا نحو الله ، متى أخطأ أسرع بدموعه يعترف دون تبرير لنفسه . بل وحينما تعرض الشعب للعقاب بسبب خطاياه تذلل أمام الله طالبا أن تكون العقوبة حالة به وببيت أبيه وليس بالشعب . حب عجيب وبذل من أجل الشعب ! أما شاول فكان خطأه تمردا وعصيانا وعند المواجهة يبرر ذاته وتصرفاته .

( 4 ) ضعف حال إسرائيل

لقد دخل الفلسطينيون إلى ممرات عجلون وبيت حورةن واستولوا على جزء من الحافة فى الوسط وامتدوا إلى الشرق حتى مخماس ، بهذا صار يفصلهم عن شاول واد ضيق وعميق ؛ إذ عزلوا بنيامين عن الشمال والوسط ، وكأن فرق الفلسطينيين امتدت إلى الشمال والشرق والغرب وتركوا شاول معزولا فى الجنوب كمن بلا سلطان على إسرائيل .

كان الله مترفقا بشعبه بالرغم من سماحه للفلسطينيين بالتخريب ، لقد أذل الفلسطينيون إسرائيل إذ لم يسمحوا بوجود صانع بينهم حتى لا يعملوا سيفا أو رمحا ، فكل من أراد أن يحدد سكينه أو منجله أو فأسه أو معوله ينزل إلى الفلسطينيين ... إنها صورة مؤلمة لعمل الخطية فى حياة الأنسان ، فإنها تحطم طاقاته وإمكانياته وتحدره إلى الذل والمهانة . 

+  +  +

الأصحاح الرابع عشر

نصرة يوناثان

لم يحتمل يوناثان فقدان شعبه كرامته ، وإذ آمن أنه " ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل " 1 صم 14 : 6 عبر مع حامل سلاحه وحدهما الوادى الضيق العميق ووهبه الله نعمة لتحقيق النصرة . بسبب تسرع أبيه شاول سقط يوناثان تحت اللعنة لأنه ذاق عسلا وسط النهار بينما أقسم أبوه ألا يأكل أحد حتى المساء  

( 1 ) عبور يوناثان إلى الفلسطينيين

وقف الجيشان قبالة بعضهما البعض ؛ الفلسطينيون عند سن الصخرة التى فى الشمال " بوصيص " ؛ وشاول ورجاله فى الجنوب عند سن الصخرة " سنة " عند جبع بينهما ممر ضيق لكنه شديد الأنحدار لا يستطيع أن يعبره إلا الماعز الجبلى ، أو من يحبو على يديه ورجليه . كل جيش يترقب الآخر ، بينما كان الفلسطينيون يخربون أرض بنيامين .

غار يوناثان بن شاول على شعبه ، وكان على خلاف أبيه إنسانا مستقيما محبا للحق مهما كلفه الثمن ، أمينا فى علاقته بالغير ، مملوءا إيمانا . فى إيمانه تحرك للعمل دون أن يخبر أباه حتى لا يمنعه ، إذ كان شاول مرتبكا والشعب فى رعب وقد هرب الكثيرون ولم يبق مع الملك سوى الستمائة رجل لا يعرفون ماذا يفعلون .

قال يوناثان لحامل سلاحه : " تعال نعبر إلى صف هؤلاء الغلف لعل الله يعمل معنا ، لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل " 1 صم 14 : 6

لقد أدرك يوناثان ضعفه لكنه سلم هذا الضعف فى يدى الله ليتمم مقاصده ، واثقا فى الله الذى يعمل بقوة فى حياة المؤمنين . يقول الرسول بولس :

" بالأيمان قهروا ممالك ، صنعوا برا ، نالوا مواعيد ، سدوا أفواه أسود ، أطفأوا قوة النار ، نجوا من حد السيف ، تقووا من ضعف ، صاروا أشداء فى الحرب ، هزموا جيوش غرباء " عب 11 : 33 – 34

صعد يوناثان يحبو على يديه ورجليه متكئا على الله ، ظن الفلسطينيين أن وراءهما جيشا عظيما فهربوا ، قتل منهم نحو عشرين رجلا فى منطقة تبلغ مساحتها نصف فدان ، بينما سقط الكثيرون من الأنحدار الشديد حيث كان المكان ضيقا . وكأن العدو ضرب نفسه بنفسه .

( 2 ) نزول شاول إلى الحرب

كان شاول ورجاله فى طرف جبعة ( 1 صم 14 : 2 ) فنظروا جيش العدو هاربين ومرتبكين . تعجب شاول لما يحدث ، وإذ سأل أن يبحثوا عمن هو غائب عنهم أدرك أن يوناثان وحامل سلاحه غائبان ، طلب من الكاهن أخيا أن يسأل الرب خلال الأفود ، لكن ضجيج العدو كان يتزايد فلم يحتمل شاول الأنتظار ، بل قال للكاهن : " كف يدك " 1 صم 14 : 19 .

هذا التصرف يكشف عن قلب شاول ، فإن كانت له أعمال كثيرة صالحة لكنه كان قليل الصبر يعتمد على أفكاره الخاصة .... يسأل الرب ، وقبل بلوغ الأجابة يسرع بالقرار ، كان غير مستقيم القلب ، لقد أراد أن يسرع فيلحق بالعدو ويحقق نصرة كاملة ، لكن فى تسرعه أخذ قرارا أسقط ابنه فى التعدى ، إذ حلف الشعب قائلا : " ملعون الرجل الذى يأكل خبزا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائى " 1 صم 14 : 24 .

أخطأ شاول فى هذا التصرف إذ حسب النصرة هى ثمرة العمل المستمر غير ميال بالجانب الأيمانى ، على خلاف ابنه يوناثان الذى لم يتوقف عن العمل بل ألقى بنفسه فى الخطر لكن خلال الأيمان بالله واهب النصرة . أما الخطأ الثانى فإنه لم يعط اعتبارا لأحتياجات رجاله ، فإنهم لا يقدرون على الجهاد وهم خائرون بسبب الجوع . أما عدم استقامة قلبه فتظهر من قولـه " أنتقم من أعدائى " ، فحسبهم أعداءه هو ... كبرياء قلب وتشامخ !

( 3 ) يوناثان يكسر قسم أبيه

كاد حلف شاول أن يؤدى إلى قتل ابنه يوناثان المؤمن الذى أنقذ الشعب ، كما سبب إعياء للشعب مع أن الله قد أعد لهم فى البرية عسلا للأكل .

لقد مد يوناثان طرف النشابة ( السهم ) وغمسه فى قطر العسل ليذوق فى عجلة ، فاستنارت عيناه وتجددت قوته بعد الجوع والأرهاق ، وإذ أخبره واحد من الشعب بقسم أبيه ، قال : " قد كدر أبى الأرض ، انظروا كيف استنارت عيناى لأنى ذقت قليلا من العسل ، فكيف بالحرى لو أكل اليوم الشعب من غنيمة أعدائهم التى وجدوا ، أما كانت الآن ضربة أعظم على الفلسطينيين ؟! " 1 صم 14 : 29 ، 30 .

( 4 ) الشعب يأكل على الدم

من ثمار قرار شاول المتسرع أن خارت قوى الشعب ، لذا " ثاروا على الغنيمة فأخذوا غنما وبقرا وعجولا وذبحوا على الأرض وأكلوا على الدم " 1 صم 14 : 32

حسب شاول هذا غدرا إذ نكثوا العهد مع الله ، وطلب أن يدحرجوا حجرا كبيرا ، ليذبحوا عليه الحيوانات فتكون الذبائح مرتفعة عن الأرض فيخرج الدم كله قبلما يأكلون منه ، وبالفعل أطاعه الشعب .

( 5 ) الشعب يفدى يوناثان

بنى شاول مذبحا للرب ، لكن الله لم يجبه ، فأدرك شاول وجود خطية وسط الشعب ، فى عجلة أقسم شاول : " لأنه حى هو الرب مخلص إسرائيل ولو كانت فى يوناثان ابنى فإنه يموت موتا " 1 صم 14 : 39 . لم يستطع الشعب أن يقبل موت يوناثان الذى بإيمانه وشجاعته عرض نفسه للموت ليخلصهم من العدو ، أمام اصرار الشعب تراجع شاول .

( 6 ) نصرات مستمرة

إذ غلب شاول قيل " أخذ شاول الملك على إسرائيل " 1 صم 14 : 47

وكأنه بالغلبة صار بالحقيقة ملكا واتحد كل الشعب معه ، قام بحروب كثيرة " وحيثما توجه غلب " 1 صم 14 : 48 فصار ملكا مهوبا .

يقول الكتاب : " وكانت حرب شديدة على الفلسطينيين كل أيام شاول ، وإذا راى شاول رجلا جبارا أو ذا بأس ضمه إلى نفسه " 1 صم 14 : 52 .

كان شاول غير مستقيم القلب ومتسرعا فى قراراته ، لكنه اتسم بالغيرة والشجاعة ؛ لم يتوقف عن الجهاد ، يضم كل جبار إلى جيشه !

هذه صورة حية للقيادة الروحية التى لا تتوقف عن الجهاد ، تضم كل نفس للعمل لحساب ملكوت الله ، القائد الناجح هو ذاك الذى يوجه الطاقات للعمل ، فلا يمركز الخدمة فيه وإنما يعرف كيف يشجع كل نفس ويسند كل يد للجهاد الروحى . 

+  +  +

الأصحاح الخامس عشر

رفض شاول

أمر الله صموئيل أن يخبر شاول ليحارب عماليق ، لأن الرب وهبه الأنتصار عليهم ، على أن يحرم كل إنسان وحيوان ... لكن شاول لم يقتل أجاج الملك بل جاء به حيا ، ولم يحرم الغنم والبقر الجيد ، بل حرم ما هو ضعيف فقط ، مقدما أعذارا بشرية لعصيانه ، جاء الأمر الإلهى برفض شاول وانتزاع المملكة منه ، وناح صموئيل على شاول .

( 1 ) أمر إلهى بمحاربة عماليق

مضت سنوات طويلة بين ما حدث فى الأصحاح السابق وما يتم الآن فى هذا الأصحاح ، فبعد أن كان قوام جيش شاول ستمائة رجل صار الآن له جيش عظيم تحت قيادة ابنير بن نير عمه ، قوامه 200000 رجل من إسرائيل و 10000 رجل من يهوذا ، وقد تمتع بنصرات متوالية على موآب وبنى عمون فى الشرق ، وآدوم فى الجنوب ، وملوك صوبة فى الشمال ..... الخ .

الآن يقدم الله فرصة لشاول للنصرة على عماليق على أن يحرم كل إنسان وحيوان .

" قال صموئيل لشاول : إياى أرسل الرب لمسحك ملكا على شعبه إسرائيل ، والآن فاسمع صوت كلام الرب " 1 صم 15 : 1 . كأن صموئيل النبى يؤكد له أنه هو الذى مسحه بأمر إلهى ، لذا وجب أن يقبل نصيحته ويطيع صوت كلام الرب ولا يعيش فى العصيان ... كان هذا فى الواقع إنذارا له .

لقد طلب منه أن يحارب عماليق ويحرم كل ماله ، لأن النصرة التى ينالها ليست من ذاته بل هى هبة من الله الذى سبق فأعلنها منذ حوالى 400 عام : " للرب الحرب مع عماليق من دور إلى دور " خر 17 : 8 – 16 . إنه لن ينسى وعوده ، إنما يحققها فى الوقت المناسب . منح الله شاول هذه النصرة ، طالبا منه تحريم كل ما لعماليق ... قد يبدو أن فى التحريم نوعا من القسوة على الأنسان وتبديدا للممتلكات والموارد ، لكن عماليق كان قد فسد تماما ، إذ كانوا جماعة لصوص متوحشين ، يرتكبون الجرائم ويمارسون الرجاسات .

كثيرا ما يثار التساؤل : لماذا سمح الله بقتل الوثنيين فى العهد القديم وإبادة الحيوانات أحيانا ؟ إذا أدركنا مفهوم المجد الأبدى والميراث الذى أعده الله لمؤمنيه مع فهم مدى بشاعة الخطية لكان الأولى بهم أن يحزنوا على تصرفات البشرية واندفاعها نحو الرجاسات التى تدفعهم إلى هلاك أبدى ، سيموت كل البشر وسينحل العالم كله ، عندئذ ندرك أن موت الجسد وإبادة الممتلكات والموارد أمور وقتية ليست بذات قيمة بجوار خلود الأنسان وتمتعه بشركة الأمجاد السماوية .

( 2 ) غلبة شاول وعصيانه

دخل شاول امتحانا رهيبا كفرصة نهائية لتحديد موقفه ، لعله يرجه عن انحراف طبعه ويطيع الرب بلا تحفظ .

طلب شاول من القينيين – وهم شعب مسالم محب من المديانيين – أن يبتعدوا عن العمالقة ، لقد صنع القينيون معروفا مع إسرائيل ( خر 18 ؛ عد 10 : 29 ) رافقوهم إلى أريحا ( قض 1 : 16 ) ، ثم سكنوا أرض العمالقة جنوب يهوذا . من القينيين يثرون حمو موسى ( قض 1 : 16 ) ، وياعيل التى قتلت سيسرا ( قض 4 : 17 ) ، والركابيون ( 1 أى 2 : 55 ) ، لما كانت كلمة " قينيين " تعنى " حدادين " لذا يرى البعض أنهم جماعة من الحدادين الرحل فى منطقة المعادن بوادى العربة ومهروا فى الحدادة .

إذ رحل القينيون ضرب شاول عماليق من حويلة إلى شور التى فى مقابل مصر ، أى فى الجهة الشرقية منها ( 1 صم 15 : 7 ) .

انتصر شاول على عماليق لكنه عاد مهزوما من " الأنا " ، فلم يسمع لصوت الرب . لقد قتل كل من وقع فى يديه من الشعب لكنه أبقى أجاج [ غالبا لقب ملوك عماليق كما يقال " فرعون " عن ملوك مصر ] ، وقتل الغنم الضعيف واستبقى الجيد منها ، لعله أبقى أجاج ليشبع غرور نفسه أو لأنه أشفق عليه بكونه ملكا مع أنه كان ملكا على جماعة من اللصوص ، أثكل سيفه النساء ( 1 صم 15 : 33 ) ، وأبقى خيار الغنم بحجة تقديم ذبائح للرب مع أن الدافع هو النفع الشخصى .

( 3 ) صموئيل ينتهر شاول

لقد كشف الرب لصموئيل كيف رفض شاول : " ندمت على أنى قد جعلت شاول ملكا ، لأنه رجع من ورائى ولم يقم كلامى " 1 صم 15 : 10 .

لقد رفض الرب شاول لأن شاول رفضه ، ورجع من ورائه ليسلك حسب هواه ، لم يقبل الله كقائد له يكون الأول فى حياته ...

تضايق صموئيل لأن شاول لم يستفد من الفرصة الإلهية المقدمة له ، وإذ قرر أن ينتهره " صرخ إلى الرب الليل كله " 15 : 11 . ما أنقى قلب صموئيل الذى يقضى الليل فى الصلاة حتى لا ينتهر شاول من ذاته ، لقد ناح أيضا على شاول ( 15 : 35 ) ، واستمر فى البكاء فقال له الرب : " حتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل ؟! " 16 : 1

برز صموئيل كقائد روحى حى ؛ نراه حازما لكن فى حنو ...

+ ما أحوج الكنيسة إلى الحزم مع الحب فى حياة الراعى .

هكذا كان صموئيل النبى قائدا حقيقيا يعمل بروح الرب ، وعلى العكس كان شاول لا يصلح للقيادة إذ اهتم بذاته ؛ ذهب إلى الكرمل ونصب تذكارا فى الجلجال لأنتصاره على عماليق ( 1 صم 15 : 12 ) ، وعندما جاءه صموئيل النبى مبكرا أراد أن يهنىء نفسه بطريق غير مباشر ، إذ قال لصموئيل : " مبارك أنت للرب ؛ قد أقمت كلام الرب " 1 صم 15 : 13 . لقد غطى على عصيانه بكلمات معسولة لم ينخدع بها صموئيل النبى ، الذى كشف الرب له عن عصيان الملك .

لقد سأله صموئيل :

 " وما هو صوت الغنم هذا فى أذنى وصوت البقر الذى أنا سامع " 1 صم 15 : 14 .

قدم شاول عذرا لعصيانه : " لأن الشعب قد عفا عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للرب إلهك ، وأما الباقى فقد حرمناه " 15 : 15 . عوض اعترافه بالخطأ ألقى باللوم على الشعب بأنه هو الذى عفا عن خيار الغنم والبقر ( 15 : 12 ) .

ينسب شاول العصيان للشعب : " أخذ الشعب من الغنيمة " 15 : 21 ، بينما يحسب نفسه ضمن الذين أطاعوا : " أما الباقى فقد حرمناه " 15 : 15

تأمل أسلوبه فى الحديث مع صموئيل النبى ، إذ برر العفو عن خيار الغنم والبقر :

 " لأجل الذبح للرب إلهك " 15 : 15 . لم يقل " الرب إلهنا " ، وكأنه يقول إن ما أتينا به ليس لأنفسنا بل لإلهك أنت !

جاءت إجابة صموئيل : " هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب ؟! هوذا الأستماع أفضل من الذبيحة ، والإصغاء أفضل من شحم الكباش ، لأن التمرد كخطية العرافة ، والعناد كالوثن والترافيم " 15 : 22 ، 23 .

( 4 ) رجوع صموئيل مع شاول

قال شاول " أخطأت " 15 : 24 وفى نفس الوقت يلقى باللوم على الشعب : " لأنى خفت من الشعب ، وسمعت لصوتهم " . لم تكن توبته صادقة ، إذ لم يخف غضب الرب إنما لكى يستميل صموئيل النبى كى يرجع معه ويكرمه أمام شيوخ الشعب ، إذ يقول : " قد أخطأت والآن فأكرمنى أمام شيوخ شعبى وأمام إسرائيل وأرجع معى " 15 : 30 فى كبرياء ينسب الشعب إليه : " شعبى " لا إلى الله !

( 5 )  اعتزال صموئيل شاول

طلب صموئيل تقديم أجاج ملك عماليق ، وإذ عرف صموئيل بلطفه ورقته ، " ذهب إليه أجاج فرحا ، وقال أجاج : " حقا قد زالت مرارة الموت " 15 : 22 . قال صموئيل : " كما أثكل سيفك النساء كذلك تثكل أمك بين النساء " 15 : 23

أجاج يمثل الخطية العنيفة التى قتلاها أقوياء ، لذا كان قتله يشير إلى نزع كل خطية وفساد ؛ كل تهاون معه يحمل رمزا للتهاون مع الخطية نفسها .

ختم السفر بالقول : " والرب ندم لأنه ملك شاول على إسرائيل " 1 صم 15 : 35 . هكذا ينسب لله " الندم " ليس لأن الله قد غير رأيه ، وإنما يحدثنا باللغة التى نفهمها ... حين عصى شاول سقط تحت العدل الإلهى فصار مرفوضا ، لذا حرم من العطية التى سبق أن وهبه الله إياها .

+  +  +

[ الباب الثالث ]    

 داود الملك  

الأصحاح السادس عشر

مسح داود ملكــا

تحتل سيرة داود الملك والنبى جزءا كبيرا من الكتاب المقدس أكثر من سيرة أى نبى أو ملك آخر ، امتازت حياته بالنمو المستمر ، أمانة فى صباه ، وفى بيت شاول ، وفى المملكة ، وحين سقط عرف كيف يقوم بالتوبة .

( 1 ) مسح داود وسط إخوته .

 إذ عكف صموئيل ينوح على شاول ، حزينا على ما حل به من روح عصيان يجنى هو والشعب ثمرتها ، قال له الرب : " حتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل ؟! املأ قرنك دهنا ، وتعال أرسلك إلى يسى البيتلحمى ، لأنى قد رأيت لى فى بنيه ملكا " 1 صم 16 : 1 .

بأمر إلهى توقف صموئيل عن النوح ليمتلىء قلبه بالتعزيات الإلهية ، إذ حول الله شر شاول إلى خير ، فطلب منه أن يملأ قرنه دهنا ليمسح ابن يسى البيتلحمى ، حين يظلم العالم فى أعين الناس ، فى الهزيع الأخير من الليل ، يتجلى الله وسط تلاميذه واهبا لهم ما لم يكن فى حسبانهم . هكذا بينما فقد بنو إسرائيل رجاءهم وانكب صموئيل على البكاء والنوح إذ يقول الرب له : " قد رأيت لى فى بنيه ( بنى يسى ) ملكا " 1 صم 10 : 1 . رأى الله ما لم يره الناس ، رأى فى أبناء يسى أبنا مباركا يكرسه لنفسه ويقيمه ملكا على شعبه ، قادرا على العمل وسط الظلمة التى سادت فى ذلك الحين ، هكذا ليتنا ندرك أن لله أشخاصا يختارهم بنفسه للعمل لحساب ملكوته ، يعضدهم بنفسه .

خاف صموئيل إذ يعرف حماقة شاول وبطشه ، لكن الرب دبر له الأمر ، أن يأخذ معه عجلة من البقر ليقدم ذبيحة للرب وفى نفس الوقت يمسح داود ملكا ... يبرز العمل الأول أمام الجميع ويتمم الآخر سرا ، بهذا لا يكذب صموئيل عندما يسأل عن سبب مجيئه إلى بيت لحم ، إنما يخفى جزءا من الحقيقة .

لماذا قدمت الذبيحة فى بيت لحم علانية بينما مسح داود سرا وسط إخوته ( 1 صم 16 : 13 ) ؟

( أ ) حتى لا يبطش شاول الملك بصموئيل النبى كما قلنا .

( ب ) لأنه لم يكن الوقت قد حان لإعلان ملك داود ، إذ لم يستلم العرش إلا بعد موت شاول ، إنما أعطيت المسحة كنعمة تعده وتسنده للعمل حتى يتولى الملك .

( جـ ) لأن الذبيحة تشير إلى الصليب ( ذبيحة السيد المسيح ) بينما الملك وإن كان قد بدأ بالصليب – إذ ملك الرب على خشبة – لكن تم ذلك بقيامته وصعوده إلى السموات ليملك ويهبنا أن نملك معه بروحه القدوس .

جاء صموئيل النبى إلى " بيت لحم " التى تعنى " بيت الخبز " ، تبعد حوالى ستة أميال جنوب أورشليم ، فى أرض يهوذا . فى هذه المدينة ارتعب الشيوخ إذ رأوا صموئيل قادما ظانين أنهم أخطأوا فى شىء ما ، بينما كان صموئيل فى أعماقه متهللا من أجل سيامة ملك هو للرب . فى هذه المدينة ولد السيد المسيح – ملك الملوك – من نسل داود ، أرعب هيرودس ورجاله بينما تهللت السماء وفرحت مع المؤمنين من أجل مجيئه لخلاص العالم ، ما يرعب البعض يكون سر تهليل للغير .

لماذا أختير داود النبى الأصغر بين أخوته ؟

( أ ) يقول الرب لصموئيل النبى عندما أراد مسح الأبن الأكبر آلياب : " لا تنظر إلى منظره وطول قامته ، لأنى قد رفضته ؛ لأنه ليس كما ينظر الأنسان ، لأن الأنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب " 1 صم 16 : 7 .

( ب ) اتسم داود بالأمانة فى القليل لذلك أقامه الله على الكثير ، لقد كان الأصغر بين أبناء يسى حتى أهمله والده ( 16 : 11 ) ، واحتقره أخوته ، لكن الله رأى فيه القلب الأمين الذى تأهل لأستلام قيادة شعبه ، نذكر على سبيل المثال أنه تعلم من رعاية الغنم أن يحب كل خروف من غنم أبيه ، فيهاجم الوحوش المفترسة ( الأسد والدب 1 صم 17 : 34 ) ، لينقذ الغنم فى شجاعة . خلال رعاية الغنم تعلم الموسيقى والعزف على القيثارة فاستخدم الله هذه الوزنة للدخول به إلى الملك شاول . كذلك تمتع خلال الرعاية بالطبيعة ليسبح الله بمزامير روحية ، تعلم الضرب بالمقلاع ليعينه على قتل جليات الجبار .

( جـ) كان داود الثامن والأخير بين أخوته ، أما كونه الثامن فيرمز إلى الحياة السماوية ( لأن رقم 7 يشير إلى الزمن = سبعة أيام الأسبوع ، ورقم 8 إلى ما هو فوق حدود الزمن ) ، وكأنه يرمز للسيد المسيح الملك السماوى والذى صار الأخير ، إذ أخلى ذاته من أجلنا ( فى 2 : 7 ) واحتل آخر الصفوف لكى يضم الجميع فيه ويرتفع بهم بروحه القدوس إلى حضن الآب السماوى .

( 2 ) داود يطيب نفس شاول

بينما نسمع عن داود : " وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدا " 1 صم 16 : 13 ، إذا بنا نقرأ عن شاول : " وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح ردىء من قبل الرب " 1 صم 16 : 14 .

حل روح الرب على داود كما رف قبلا على وجه المياة ( تك 1 : 2 ) ليخلق من الأرض الخربة الخاوية عالما جميلا مملوءا حياة . هكذا تمتع داود بروح الرب الذى وهبه نعمة الملوكية – القيادة الحكيمة لشعب الله – فلا يعمل بذاته بل بما للرب .

وفى العهد الجديد أرسل الأبن الوحيد روحه القدوس الذى يهبنا البنوة للآب ويجدد طبيعتنا مقدسا إياها لنصير على شكل الأبن ونتشبه به .

+ يمكن للشخص أن يشترك فى الطبيعة الإلهية فقط خلال الروح .  

يقدم القديس باسيليوس الكبير شاول مثلا للأنسان الرافض قبول روح الله فيه ، إذ يقول الكتاب : " وذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح ردىء من قبل الرب " 1 صم 16 : 14

يقول القديس جيروم : " ........ فإن هذا لا يعنى أن الروح الردىء مصدره الرب ، أو أن ما حل بشاول كان من عند الرب ، إذ يقول يعقوب الرسول : " الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحدا " يع 1 : 13 . إنما شاول رفض روح الرب فهيأ نفسه مسكنا مزينا للروح الردىء دون مقاومة ، فتركه الرب لذاته ... أعطاه سؤل قلبه الداخلى .

حينما يصر الناس على رفض الله والأستسلام للشر يتركهم الله أى يسلمهم لشهوة قلبهم . هذا التسليم بسماح إلهى لأجل تأديبهم .

أشار عبيد شاول على سيدهم أن يأتوا برجل يضرب على عود لكى تطيب نفسه ، وبالفعل جاءوا بداود بن يسى البيتلحمى يحسن ضرب العود " وهو جبار بأس ورجل حرب وفصيح ورجل جميل والرب معه " 1 صم 16 : 18 .

ما هذا العود ( أو هذه القيثارة ) التى تطرد الروح الشرير لتهب الأنسان راحة إلا كلمة الله فى العهدين الجديد والقديم ، إذ تحوى أوتار الشريعة والنبوات والتسابيح والأناجيل والكتابات الرسولية .... الخ .

ظهر داود كجبار بأس وذلك من رعايته للغنم إذ حارب وحوشا بلا سلاح ؛ وكرجل حرب مع أنه لم يمارس هذه الحياة لكن سماته وقدراته تؤهله لذلك ؛ وكان فصيحا فى كلماته عذبا فى مزاميره ، جميلا فى طلعته ؛ أما أعظم ما فيه هو أن :

" الـــــرب مـعــــــه "

 هذا هو سر قوته . ......... .

+  +  +

الأصحاح السابع عشر

داود وجليات

اشتاق الشعب إلى ملك طويل القامة قوى البنية جميل المظهر كسائر ملوك الأمم ، والآن يقف هذا الملك مع رجاله فى خوف ورعدة أمام جليات الجبار ، ليتمجد الله بداود القصير القامة الذى لا يعرف كيف يستخدم العدة الحربية بل مقلاع الكلاب .... لقد غلب لا بسيف ورمح وإنما باسم رب الجنود ....

( 1 ) جليات يرعب شاول

وقف الفلسطينيون على جبل للحرب ، بينما وقف شاول ورجاله على جبل آخر للحرب يفصل بينهم وادى البطم ( 1 صم 17 : 1 – 3 ) . وكان جليات الجبار يخرج كمبارز يعير شاول ورجاله طالبا واحدا منهم يبارزه .

وقف الفريقان على جبال ( أشبه بتلال ) بينهما واد فيه مزروعات وأشجار السنط ، حيث كان جليات البالغ طولـه 6 أذرع ( الذراع العبرى نحو قدم ونصف ) ، يلبس على رأسه خوذة من نحاس ، وكان يرتدى درعا حرشفيا أى قميصا عليه قطعا نحاسية كحراشيف السمك ، وزنه حوالى 33 رطلا ؛ وجرموقا ( درعين لحماية الساقين ) من النحاس . وكان معه مزراق نحاس ( رمح قصير ) بين كتفيه .... اعتاد أن يقف مطالبا من يبارزه قائلا :

 " اختاروا لأنفسكم رجلا ولينزل إلى . فإن قدر أن يحاربنى ويقتلنى نصير لكم عبيدا ، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيدا وتخدموننا "  كما كان يهزأ بهم قائلا :

" أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم ؛ أعطونى رجلا فنتحارب معا " ... وكان ذلك مصدر رعب شديد وخوف بالنسبة لشاول ورجاله .

بقى الحال هكذا لمدة أربعين يوما يمارس جليات هذا التصرف صباحا ومساء حتى جاء داود بن يسى يفتقد إخوته الثلاثة الكبار اليآت وأبيناداب وشمه الذين تبعوا شاول ليحاربوا معه .

( 2 ) داود يفتقد إخوته

قدم لنا قيصريوس أسقف Arles    تفسيرا رمزيا لقصة داود وجليات عن القديس أغسطينوس ، جاء فيه :

[ عندما أرسل ( يسى ) ابنه داود لينظر إخوته ، يبدو أنه كان رمزا لله الآب ، أرسل يسى داود يبحث عن أخوته ، وأرسل الله ابنه الوحيد الذى قيل عنه : " أخبر بأسمك إخوتى " مز 22 : 23 . بالحقيقة جاء المسيح يبحث عن أخوته ، إذ قال : " لم أرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة " مت 15 : 24

" فقال يسى لداود ابنه : خذ لأخوتك إيفة من هذا الفريك وهذه العشر الخبزات واركض إلى المحلة إلى أخوتك " 17 : 17 . الإيفة يا إخوة هى ثلاث كيلات ؛ فى هذه الكيلات الثلاث نفهم سر الثالوث ، لقد عرف ابراهيم هذا السر جيدا عندما تأهل لأدراك سر الثالوث فى الثلاثة أشخاص تحت شجرة البطمة بممرا فأمر أن يعجن ثلاث كيلات دقيق ( تك 18 : 6 ) . إنها ثلاث كيلات ، لذلك أعطى يسى ذات الكمية لأبنه . وفى العشر قطع من الجبن ندرك الوصايا العشر للعهد القديم ، هكذا جاء داود ومعه الثلاث كيلات والعشر قطع من الجبن ليفتقد إخوته الذين كانوا فى المعركة ، إذ كان المسيح قادما بوصايا الناموس العشر وسر الثالوث ليحرر الجنس البشرى من الشيطان ] .

( 3 ) داود يقتل جليات

جاء داود يفتقد إخوته من أبيه وأمه بالفريك والخبز والجبن ، لكنه إذ رأى إخوته – شعب الله – فى مأزق يعيرهم رجل أغلف بدأ يتساءل : " ماذا يفعل للرجل الذى يقتل ذلك الفلسطينى ويزيل العار عن إسرائيل ؟! لأنه من هو هذا الفلسطينى الأغلف حتى يعير صفوف الله الحى ؟! 17 : 26 . وإذ سمع أخوه الأكبر اليآب حمى غضبه عليه قائلا له : " لماذا نزلت ؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة فى البرية ؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك ، لأنك إنما نزلت لكى ترى الحرب " 17 : 28 . وجاءت إجابة داود بسيطة ومملوءة حنكة : " ماذا عملت ؟ أما هو كلام ؟! " لم يدخل معه فى جدال ، لأنه رجل إيمان لا يحب كثرة الجدال بل العمل ، إنه وقت العمل !

يقول القديس أغسطينوس :

وبخ هذا الأخ الأكبر داود رمز ربنا ، متمثلا بالشعب اليهودى الذى افترى على المسيح الرب ، مع أنه جاء لخلاص الجنس البشرى ، إذ أهانوه باتهامات كثيرة ....

جاء داود ووجد الشعب يحارب ضد الفلسطينيين ، لم يوجد من يجسر أن يدخل إلى المعركة بمفرده ، ذهب رمز المسيح ( داود ) إلى المعركة يحمل عصا فى يده ضد جليات . بهذا أشار بالتأكيد إلى ما قد تحقق فى ربنا يسوع المسيح – داود الحقيقى – إذ جاء وحمل صليبه ليحارب جليات الروحى ، أى الشيطان .

لاحظوا يا إخوة أين ضرب داود الطوباوى جليات : فى جبهته ( 17 : 49 ) حيث لم توجد عليها علامة الصليب . كما أن العصا رمزت إلى الصليب هكذا الحجر الذى ضرب به جليات يرمز إلى ربنا يسوع ، لأنه هو الحجر الحى كتب عنه :

 " الحجر الذى رفضه البناؤون هذا صار رأسا للزاوية " مز 117 : 22 .

سر هزيمة جليات أنه لم يدرك أن به نقطة ضعف لم يكن ممكنا لـه أن يتلافاها ، وهى أن جبهته مكشوفة ، وكأن كل إمكانية بشرية مهما أحكم تدبيرها تجد فيها ثغرة تؤدى إلى فشلها .

لم يعرف جليات أن لكبريائه نهاية ، فقد وقف 40 يوما يعير رب الجنود ، لكن الله أعد فتى صغيرا ينهى كبرياء هذا الجبار ويذله ، هذا ما يتكرر عبر الأجيال ، كل متشامخ ظن أنه قادر أن يحطم الكنيسة ويمحوها من الوجود تحطم هو وزال وتبقى الكنيسة حية قوية .

أما سر قوة داود فهو اختفائه فى رب الجنود ، فلا يكون طرفا فى المعركة بل مجرد أداة فى يد الله . المعركة هى بين الله والشيطان ، لذا فالنصرة تصدر عن الله نفسه ، إذ يقول : " أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتى إليك باسم رب الجنود ؛ إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم ... وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب ، لأن الحرب للرب ، وهو يدفعكم لنا " 1 صم 17 : 45 – 47 .

( 4 ) شاول يتعرف على داود

لم يعرفه شاول مع أنه كان يضرب له بالعود فى صباه ( 1 صم 16 : 22 ، 23 ) ، فقد نسيه خاصة أن شاول مصاب بمرض نفسى يفقده الذاكرة ويجعله متغير المزاج . هذا وربما تغير شكل داود عندما بلغ سن الرشد .

يظن البعض أن شاول تظاهر بعدم معرفته لأنه حسده وأراد مراقبته .

+  +  +   

الأصحاح الثامن عشر

شاول يخاف داود

شاول الذى أحب داود جدا وجعله حامل سلاحه ( 16 : 21 ) دب الحسد فى قلبه ، إذ رآه ينجح فى كل عمل تمتد إليه يداه ( 18 : 5 ) ، وصار يتمجد أكثر منه ( 18 : 7 ) ، " لأن الرب كان معه وقد فارق شاول " 18 : 12 .... الآن باطلا يستخدم كل وسيلة للخلاص منه .

( 1 ) عهد بين يوناثان وداود

لقد وعد شاول أن يعطى أبنته لمن يقتل جليات ويخلصه من هذا العار ، وإذ حقق له داود طلبته لم يف بالوعد إذ أعطى أبنته الكبرى ميرب لعدريئيل المحولى ، وعوض تكريمه بدأ يحسده ويطلب الخلاص منه بطريقة أو بأخرى ، لقد حرمه من المكأفأة التى وعده بها لكن الله لم ينس داود بل أعطاه بفيض أكثر مما وعد شاول ، إذ وهبه :

( أ ) حب يوناثان بن شاول وتعلقه العجيب به ( 1 صم 18 : 1 – 4 ) .

( ب ) نال نجاحا فى كل عمل تمتد إليه يداه فأعجب به جميع الشعب ورجال شاول ( 1 صم 18 : 5 ) .

( جـ ) غنت النساء له وأعطينه كرامة أكثر من شاول ( 1 صم 18 : 6 ، 7 ) .

( د ) سقط شاول تحت سيطرة روح ردىء فاحتاج إلى موسيقى داود واهبة الراحة ( 1 صم 18 : 10 – 12 ) .

( ه ) حرمه شاول من الزواج بأبنته ميرب فأحبته ميكال وصارت له زوجة تحميه من أبيها ( 1 صم 18 : 20 – 30 ) .

بمعنى آخر يقاوم العالم أولاد الله ويحسبون أنه فى سلطانهم حرمانهم من ثمرة برهم وجهادهم وأنهم قادرون على إذلالهم ، لكن الله لا يترك عصا الأشرار تستقر على نصيب الصديقين لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الأثم ( مز 125 : 3 ) ، يقوم هو بنفسه بتقديم المكافأة أضعافا مضاعفة ، إن أول هبة قدمها الله لداود عوض نكض شاول بوعده ، ألا وهى صداقة ابنه يوناثان لـه بصورة عجيبة لم نسمع بما يماثلها فى التاريخ ولا حتى فى الروايات والقصص ، كان يوناثان شجاعا ومقداما رجل حرب وذا كرامة لدى الشعب ( 1 صم 14 : 1 – 15 ) ، وكان ولى العهد ، ومع ذلك أحب داود الذى نال كرامة وسط الشعب ورجال البلاط الملكى أكثر من والده ، وقد حذره والده منه وأنه سيسحب منه كرسى المملكة ، صداقته لداود فى الرب كانت فى عينيه أثمن من طاعته لأبيه خارج الرب ! لقد قيل :

" إن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه " 1 صم 18 : 1 .

( 2 ) تمجيد داود أكثر من شاول

بعد قتل جليات وكثير من الفلسطينيين استقبلت النساء شاول وداود ، بعضهم يغنين لهما والأخريات يضربن بالدف ، والمثلثات ويرددن القرار : " ضرب شاول ألوفه وداود ربواته " 1 صم 18 : 7 . لقد حسبن قتل جليات وحده يمثل قتل ربوات ( عشرات الألوف ) ، عوض الفرح بنجاح داود بدأ شاول يحقد على داود مترقبا إياه .

( 3 ) شاول يحاول قتل داود

إذ غضب شاول جدا ( 1 صم 18 : 8 ) ملأ الحسد قلبه ، فأراد الخلاص من داود الذى خلصه من أعدائه . أراد قتل داود فصار مثلا سيئا للغضب والحسد .

بالحسد فقد شاول سلامه الداخلى ، وبه حاول قتل داود بكل وسيلة حتى بعدما سقط شاول فى يدى داود ولم يؤذه داود ، وبسبب الحسد حاول قتل أبنه يوناثان لأنه دافع عنه ( 20 : 22 ) كما قتل الكهنة ( 1 صم 22 ) وضرب نوب مدينة الكهنة بحد السيف ( 22 : 19 ) .

لم يكن لدى داود سلطان ولا سلاح ولا حاول مقاومة شاول ، ومع ذلك كان شاول يخافه ، شعر أنه يصغر جدا أمام داود ، ويهتز كرسيه ليحتله هذا الشاب التقى ، هكذا يضر الحسد الحاسد لا المحسود ؛ يفقده ما فى داخله وما بالخارج من نعم وبركات وإمكانيات .

ما أجمل العبارة : " وكان جميع إسرائيل ويهوذا يحبون داود لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم " 1 صم 18 : 16 . فالشعب يشتاق أن يرى قائده غير قابع فى برج من العاج تحوطه هالة من الأمجاد الزمنية والكرامات الباطلة ويحف حولـه المداهنون والمتملقون ، وإنما أن يخرج ويدخل أمامهم . يشاركهم الحياة بأتعابها وآلامها وتجاربها ، يخاطر بحياته من أجلهم .

( 4 ) داود يصاهر شاول

حسب وعد شاول كان من حق داود أن يتزوج أبنته الكبرى ميرب . فطلب شاول منه أن يحارب حروب الرب ، أى الحروب التى أمر بها الرب ، ظانا أنه بهذا يضع له شركا فيقتله الأعداء عوض أن يقتله بنفسه ( 1 صم 18 : 17 ، 18 ) .

فى اتضاع قال داود لشاول : " من أنا وما هى حياتى وعشيرة أبى فى إسرائيل حتى أكون صهر الملك ؟! " ، لقد أراد أن يطفىء من قلب شاول نيران الحسد ، مع أنه كان يمكن لداود الذى مسحه صموئيل ملكا سرا بين إخوته أن يفتخر على شاول بقتله جليات وإنقاذ شعب الله من العدو .

اتضع داود أمام شاول ، ونكث شاول بوعده فلم يعطه ميرب زوجة لـه ، احبت ميكال أبنة شاول داود ( 1 صم 18 : 20 ) لكن ليست كمحبة يوناثان له . نراها بعد أن تزوجت بداود أعطاها شاول لفلطى أو فلطئيل ( 1 صم 25 : 44 ) ، وبعدما ملك داود استرجعها ( 2 صم 3 : 12 – 16 ) . لم تحتمل أن ترى رجلها داود الملك يرقص أمام تابوت العهد أما هو فلم يخجل بل وبخها على هذه المشاعر التى لا تحمل غيرة نحو الرب ( 2 صم 6 : 16 – 23 ) .

بمكر طلب شاول من عبيده أن يفاتحوا داود فى أمر زواجه بميكال أبنته ، وإذ شعر داود بعجزه عن تقديم مهر لائق بها كأبنة ملك جاءته الأجابة إن الملك لا يسر بمهر بل بالغلبة على الأعداء طالبا مئة غلفة مححدا زمنا معينا ، هادفا بهذا قتله لكن داود ورجاله قتلوا مئتى رجل قبل الميعاد المحدد وتزوج ميكال التى كانت تحبه ، أما شاول فعاد يخاف داود الذى تزايد فى النجاح ، وصار شاول عدوا له .

+  +  +

الأصحاح التاسع عشر

ميكال تنقذ داود

الآن بدأ شاول ينهار ، إذ كلم أبنه يوناثان وجميع عبيده أن يقتلوه ( 19 : 1 ) ، وإذ تشفع فيه يوناثان وأقنعه أن يعد عن قتله أقسم بالرب ألا يقتل ، لكن نصرة داود على الأعداء أثارت شاول من جديد ليضربه بالرمح ، وإذ فشل أرسل يتعقبه فى بيته فأنقذته ميكال أبنة شاول ، وأخيرا ألتجأ داود إلى صموئيل فى الرامة ليذهبا معا إلى نايوت وهناك يأتى شاول ورجاله فيتنبأون .

يمكننا القول إن الله استخدم كل وسيلة ليوقف جنون أنانية شاول فلم يرتدع ، إذ حدثه على لسان ابنه الوارث لملكه يوناثان ، وعلى لسان ابنته زوجة داود ، وأخيرا خلال الأنبياء .

( 1 ) يوناثان يشفع فى داود

كان داود ناجحا فى كل عمل تمتد إليه يداه ، لأن الرب كان معه ، لذا أحبه جميع الشعب ورجال البلاط ويوناثان بن شاول وأخته ميكال زوجة داود ، أما شاول فكان يمتلىء حسدا وبغضة وقد صمم على قتله بطريقة أو أخرى .

ظن شاول كملك صاحب سلطان أنه قادر على الخلاص من داود ، لكن الله أوجد لداود منقذا ، إذ فتح قلب يوناثان بن داود بالحب الشديد لداود ، هذا أفشى سر المملكة وتجاهل بنوته الجسدية لشاول فأخبر داود بأن أباه يريد قتله وأنه يلزم الحذر ليلا لئلا يدبر شاول مؤامرة لقتله ، وأن ينتظر حتى يعرف ما فى قلب أبيه ، وهل يمكن أن يصالحهما معا .

يوناثان ولد ليملك ، أما داود فدعى ليملك ، كان كلاهما بطلين عظيمين ورئيسين فى الجيش ، ومع ذلك فكانت نظرة كل منهما للآخر نظرة إعجاب وتقدير ، مع حب صادق حتى الموت .

كان يمكن ليوناثان من البداية أن يطلب من داود أن يهرب من وجه أبيه ، لكن يوناثان حسب هروبه خسارة عظيمة على المملكة وأيضا بالنسبة له فقد أحبه كنفسه .

( 2 ) شاول يبعث رسلا لقتل داود

أراد شاول أن يقتل داود بالرمح فهرب من أمامه ونجا ، أرسل شاول رسلا إلى بيت داود ليراقبوه ويقتلوه فى الصباح ( 1 صم19 : 11 ) .

هنا أنشد داود النبى المزمور التاسع والخمسين ( 58 فى الترجمة السبعينية ) ، إذ يقول :

" أنقذنى من أعدائى يا إلهى ، من مقاومى أحمنى ،

نجنى من فاعلى الأثم ومن رجال الدماء خلصنى ،

لأنهم يكمنون لنفسى ،

الأقوياء يجتمعون على ..... استيقظ إلى لقائى وانظر .

يعودون عند المساء يهرون مثل الكلب ويدورون فى المدينة ......" 

( 3 ) ميكال تنقذ داود

لعل ميكال سمعت من بيت أبيها عن أمر الرسل ، وإذ كانت تحب رجلها دبرت أمر هروبه ، إذ أنزلته من الكوة ، ربما كان بيتها فى حائط السور ؛ لذا نزل داود إلى خارج المدينة ليبدأ حلقة جديدة من حياته حملت خبرات ثمينة ، دخل إلى الآلام ، يعيش وسط المظلومين والمطرودين ليس لـه موضع يستقر فيه ، وكأن الله قد هيأ ه بهذه الآلام لممارسة الحياة الملوكية لا كسلطة وعجرفة إنما كخدمة ورعاية خاصة للمطرودين والمظلومين ، لقد دخل إلى تجربة الطرد لكى يعين المطرودين والمجربين . كان داود فى هذا رمزا للسيد المسيح الذى أنزلته محبته من السماء كما من بيته ، وجال فى برية هذا العالم ليس له أين يضع رأسه ؛ عاش طريدا ، مجربا يقدر أن يعين المجربين .

استخدمت ميكال الخداع والكذب لأنقاذ داود ، فمن جهة أخذت الترافيم ووضعته فى الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب ( 1 صم 19 : 13 ) ، ومن جهة أخرى كذبت ميكال فقالت عن داود إنه مريض ، وعندما عاتبها والدها منتهرا إياها : " لماذا خدعتنى فأطلقت عدوى حتى نجا ؟! " كذبت إذ قالت : " هو قال لى : أطلقينى ، لماذا أقتلك ؟! 1 صم 19 : 17

( 4 ) الأنبياء يبطلون خطة شاول

إذ هرب داود ذهب إلى الرامة حيث أقام مع صموئيل النبى فى نايوت [ تعنى مسكنا ] ، وهو غالبا مبنى لسكن الملتحقين بمدرسة الأنبياء ، وربما اسم الحى الذى فيه السكن . على أى الأحوال ترك صموئيل مسكنه الخاص وأقام مع داود ربما ليحميه من شاول لا بسيف أو رمح وإنما بعمل الله وسلطانه الروحى ، بكونه رئيس مدرسة الأنبياء ومؤسسها ، وبكونه ماسح الملكين شاول وداود .

ظن داود أن شاول ربما يهاب هذا المكان ورئيسه ، لكن شاول الذى امتلأ قلبه حقدا لم يراجع نفسه ولا ذهب بنفسه ليطلب مشورة صموئيل النبى إنما بعث بإرساليات لأخذ داود كى يقتله ، وفى كل مرة كانت هذه الأرساليات تتأثر بالجو الروحى وتتنبأ .... وفى هذا كله لم يرجع شاول إلى نفسه ولا أتعظ .

قرر شاول أن يذهب بنفسه ، فجاء إلى الرامة إلى البئر العظيمة التى عند سيخو ؛ وإذ أراد الله أن يتمجد حل عليه هو أيضا روح الله ، فذهب إلى نايوت فى الرامة وصار يتنبأ . ومن شدة تأثره بالمسبحين بموسيقى رائعة خلع رداءه وجبته وعدته الحربية وبقى بلباسه الأبيض منطرحا النهار والليل يسبح ويرنم . دهش كل من رآه فقالوا :

" أشاول أيضا بين الأنبياء ؟! " صم 19 : 24

لقد أراد الله أن يؤكد أنه إله المستحيلات ، قادر أن يحول قلب شاول المملوء حقدا إلى قلب ملتهب بالشوق نحو العبادة خاصة التسبيح ، خالعا كل ثياب المجد والكرامة ، لكنه لا يلزمه بذلك بل تركه لإرادته الحرة ، لذلك سرعان ما أرتد شاول إلى شره .

ترك هذا المنظر أثرا طيبا فى قلب داود لذا مدحه – مع ابنه يوناثان – قائلا : " شاول ويوناثان المحبوبان الحلوان ........ " 2 صم 1 : 23 .

هذا ما تبقى فى قلب داود من جهة شاول ؛ فقد نسى حسده وحقده ومقاومته له ومؤمراته لقتله ، ليراه الأنسان المحبوب الحلو الذى يسبح الله بين الأنبياء .

+  +  +

الأصحاح العشرون

يوناثان ينقذ داود

تصرفات شاول تكشف عن اهتزاز نفسيته جدا ، فقد أدرك أن كرسيه بدأ يتزعزع وأبنه الوارث الشرعى يسند داود – مغتصب الملك – وابنته ميكال تخلصه ، والأنبياء يقفون بجواره ... والآن يلتقى داود بيوناثان الذى يمثل كبير حجاب قصر شاول يعاتبه على تصرفات أبيه .. بأمانة كاملة كشف يوناثان عما فى قلب أبيه وطلب من داود الهروب بعد أن تعانقا باكيين متعاهدين أمام الرب .

( 1 ) داود يعاتب يوناثان

أدرك داود أن شاول يصر على قتله فقد بعث ثلاث إرساليات ، وأخيرا جاء بنفسه إلى الرامة لا لهدف آخر غير الخلاص منه ، لكن الرب أنقذه . هرب داود من نايوت فى الرامة وجاء إلى صديقه الحميم يوناثان للتشاور معه فى أمر أبيه . وقد جاءت أحداث هذا الأصحاح تكشف لنا عن شخصية يوناثان الفريدة فى الأخلاص والحب . لقد أدرك أن داود يستلم عرش أبيه لا محالة ( 1 صم 20 : 14 – 17 ) ، فأظهر قبولـه إرادة الله بفرح دون أى امتعاض من جهة داود بل : صار يحبه كنفسه ( 1 صم 20 : 17 ) ، كان يسنده للخلاص من يد أبيه ، باذلا كل الجهد لحساب صديقه الذى يرث أبيه . تكشف الأحداث بالأكثر عن شخصية شاول المتهورة إذ دفعه الحقد على داود أن يحاول قتل يوناثان لأنه يسنده .

فى صراحة قال داود : " ماذا عملت ؟ وما هو إثمى ؟ وما هى خطيتى أمام أبيك حتى يطلب نفسى ؟! 1 صم 20 : 1 . هكذا استطاع داود أن يتكلم بصراحة مبررا نفسه ، طالبا من يوناثان أن يقتله بنفسه إن كان قد وجد فيه ظلما أو خيانة ، إذ يفضل أن يموت بيد صديقه يوناثان عن عدل ؛ عن أن يموت بيد شاول أو أحد عبيده عن ظلم ( 1 صم 20 : 8 – 10 ) .

اتسم داود بالأمانة مع الكل ومع هذا تعرض لمتاعب كثيرة ومطاردات عبر عنها فى المزمور السابع :

" خلصنى من كل الذين يطردوننى ونجنى ؛ لئلا يفترس كأسد نفسى هاشما إياها ولا منقذ " .

يرى بعض الآباء فى كلمات داود النبى مع يوناثان وأيضا ما ورد فى المزمور السابع حيث يبرر داود نفسه قائلا : " ماذا عملت ؟ وما هو إثمى ؟  ، يرمز للسيد المسيح الذى وحده بلا خطية وقد ثار العدو – إبليس – كأسد ليفترسه على الصليب ، لكن تحطم العدو وقام المسيح ليقيم مؤمنيه معه .

تحدث داود بصراحة معلنا شدة تخوفه من شاول إذ يقول : " ولكنى حى هو الرب وحية هى نفسك إنه كخطوة بينى وبين الموت " ، أى أن الموت قد صار قريبا جدا منه يحل عليه فى أية ساعة ، وكانت إجابة يوناثان : " مهما تقل نفسك أفعله لك " 1 صم 20 : 4 ، بمعنى أنه سيقدم له كل ما يريده داود ، ما يشير به عليه بفعله ، هكذا يفعل الحب ، لأن :

" المحبة لا تطلب ما لنفسها بل ما هو للآخرين " .

قدم داود مشورة ليوناثان للكشف عما فى قلب أبيه ، قدمها بروح الوداعة والأتضاع فى غير استغلال لحب يوناثان لـه . إذ يقول له " أرسلنى " 1 صم 20 : 5 ، فإنه فى غياب شاول يأتمر داود بأمر يوناثان ويخضع لـه ، وقبل مفارقته سجد لـه ثلاث مرات ( 1 صم 20 : 41 ) علامة الأحترام اللائق به كأبن ملك وعلامة الشكر والأمتنان .

أما المشورة فبأختصار أنه يتغيب لمدة ثلاثة أيام عن حضور الوليمة مع الملك فى أول الشهر بحجة أن أخاه اليآب سأله أن يحضر إلى بيت لحم ليشترك فى الذبيحة السنوية التى لعشيرته ، وأن يوناثان أعطاه إذنا بالذهاب " ليرى ماذا تكون إجابة شاول ؛ فإن استحسن الأمر يكون ذلك إشارة إلى ارتياح قلب الملك من نحوه ، أما إذا اغتاظ فيكون قد أعد له الشر .

( 2 ) يوناثان يتمم خطة داود

كانت العادة أن يقسم الأنسان فى صيغة صلاة أحيانا ؛ هكذا فعل يوناثان إذ قال : " يارب إله إسرائيل متى اختبرت أبى مثل الآن غدا أو بعد غد فإن كان خير لداود ولم أرسل حينئذ فأخبره فهكذا يفعل الرب ليوناثان وهكذا يزيد ... " 1 صم 20 : 12 – 15 .

هكذا أقسم فى صيغة صلاة ليعطى للقسم قدسيته ، مؤكدا أنه إن كان أبوه ينطق بخير سيبعث إليه رسولا يطمئنه ليعود إلى عمله فى البلاط ، أما إذا نطق بشر فإنه يقوم بنفسه بإخباره ولا يأتمن رسولا على ذلك حتى لا تتعرض حياة داود لخطر ، طالبا له أن يكون الرب فى رفقته أثناء هروبه حتى يتسلم الحكم ، وعندئذ يطلب من داود أن يصنع به وبنسله معروفا ، لأنه كانت عادة الملوك حين يستلمون الحكم يقتلون الملك السابق وكل نسله حتى يطمئن أنه لا توجد فرصة لثورة ضده تحت قيادة شخص من نسل ملوكى ، بالفعل حفظ داود العهد ونفذ الوصية ( 2 صم 21 : 7 ) .

( 3 ) يوناثان يكشف قلب أبيه

اكتشف يوناثان ما فى قلب أبيه فى اليوم الثانى من الوليمة ؛ عندما حمى غضب شاول على يوناثان وقال له : " يا ابن المتعوجة المتمردة ، أما علمت أنك قد اخترت أبن يسى لخزيك وخزى عورة أمك .

لأنه مادام أبن يسى حيا على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك ، والآن أرسل وأت به إلى لأنه أبن الموت هو " 1 صم 20 : 30 ، 31 .

ولما حاول يوناثان الدفاع عنه صوب شاول الرمح نحوه ليطعنه ، عندئذ علم يوناثان أن أباه قد عزم على قتل داود .

( 4 ) يوناثان ينقذ داود

انطلق يوناثان إلى الحقل ومعه سلاحه وأيضا غلام صغير حتى لا يشك أحد فى أمره بل يحسبونه ذاهبا للتمرن على رمى السهام كعادته ، طلب من الغلام أن يلتقط السهام التى يرميها ( 1 صم 20 : 36 ) . بينما كان الغلام راكضا رمى السهم حتى جاوزه ، وناداه : " أليس السهم دونك فصاعدا ... أعجل ، أسرع . لا تقف " كان ذلك إشارة إلى داود المختبىء فى الحقل بأن الخطر يلاحقه وأن يسرع بالهروب ، أعطى يوناثان السلاح للغلام ليدخل به إلى المدينة ، وقام داود من جنوب حجر الأفتراق وسقط على وجهه إلى الأرض وسجد ثلاث مرات علامة تقديره وشكره ليوناثان الذى يهتم بحياته .

افترق الأثنان ( يوناثان وداود ) بالجسد أما قلباهما فازداد التحاما وحبا .

يقول الرسول بولس : " المحبة لا تسقط أبدا ؛ وأما النبوات فستبطل والألسنة فستنتهى والعلم فسيبطل " 1 كو 13 : 8 . 

+  +  +

الأصحاح الحادى والعشرون

داود الطريد

صورة مؤلمة لداود إذ صار طريدا ، ترك كل شىء فجأة وخرج وحده ولم يكن معه سيف ولا خبز ، ولا وضع خطة أمامه ، ولم يستشر الرب فى شىء فصار يتخبط ، دخل نوب مدينة الكهنة وبسببه قتل الكهنة وهلكت المدينة ، انطلق إلى جت فحسبوه جاسوسا طائشا واضطر إلى التظاهر بالجنون لينقذ حياته . إنها لحظات ضعف عاشها رجل الأيمان الجبار داود .

( 1 ) داود فى نوب

عجبا إن الذى أرتعب أمامه الوثنيون ، وغنت لـه النساء " ضرب شاول ألوفه وداود ربواته " 18 : 7 ، والذى حاز حب واعجاب الملك وابنه وابنته والقواد وجميع الشعب ... يهرب أمام الملك المرفوض . لقد جاءت ساعة التجربة المرة التى لابد لكل مؤمن أن يجتازها ، حين يشعر أنه وحيد ليس من يسنده ولا من يشاركه مشاعره .

جاء داود النبى إلى نوب ، شمال أورشليم ، هناك التقى بأخيمالك الكاهن ، ربما هو أخيا بن اخيطوب ( 1 صم 14 : 3 ) أو أخوه وخلفه فى الكهنوت ، كان رجلا صالحا وهو ابن حفيد عالى الكاهن الذى صدر الحكم الإلهى بخراب بيته ( 1 صم 3 : 13 – 14 ) .

إذ رأى أخيمالك داود وحده ، لأن أتباعه وقفوا خارجا فى البداية ثم تقدموا ، وربما حسب أخيمالك داود وحده لأنه كان يتوقع موكبا من الأشراف يرافقونه بحكم مركزه فى البلاط الملكى ، وحسب من معه أنهم لا يحسبون . هذا المنظر أربك أخيمالك ربما لأنه سمع أن شاول يريد قتل داود ، وأن داود جاء هاربا من وجه الملك فيحل على أخيمالك غضب الملك إن استضافه .

لقد خارت قوى داود فاستخدم الخداع والمواربة ونوعا من الكذب ليبرر موقفه أمام أخيمالك ، كان داود رجلا حسب قلب الله ، لكنه فى ضعفه كان يخطىء ؛ وقد أدى ضعفه هذا وكذبه إلى عواقب وخيمة ( 1 صم 22 : 18 ، 19 ) .

طلب داود من أخيمالك خبز الوجوه ، الخبز المقدس ( لا 24 : 5 – 9 ) ، الذى كان الكهنة يضعونه جديدا كل سبت ويأكلون القديم ، ولا يحل تقديمه لغير الكهنة ، ومع ذلك فقد قبل أخيمالك أن يقدمه لداود ورجاله إن كانوا طاهرين حتى من العلاقات الزوجية ، ذلك لأنهم جاعوا ولم يكن يوجد خبز آخر ، استخدم السيد المسيح هذه الحادثة ليوضح لليهود كيف أنه يحل للتلاميذ أن يقطفوا السنابل ويفركونها بأيديهم ويأكلوا منها يوم السبت ( مر 2 : 25 ؛ مت 12 : 3 ؛ لو 6 : 3 – 5 ) .

لم يفعل داودالنبى ذلك عن تهاون بالوصية أو تراخ ، لكن لم يكن أمامه طريق آخر ، لذا لم يحسب أكله هو ومن معه من هذا الخبز كسرا للوصية ، وقد حمل تصرفه هذا رمزا إذ تمتعت الأمم لا بخبز التقدمة وإنما بجسد السيد المسيح ، الخبز النازل من السماء ، كمصدر شبع حقيقى للنفس .

سأل داود عن وجود أى سلاح لدى الكاهن فى الخيمة ، فأعطاه سيف جليات الذى قتله داود فى وادى البطم ، قال داود للكاهن :

" لا يوجد مثله أعطنى " 1 صم 21 : 9 .

كان فى نوب أحد عبيد شاول يدعى دواغ الأدومى ، أبلغ شاول بما حدث وأثاره لقتل لا أخيمالك وحده بل وجميع الكهنة مع نسائهم وأولادهم مع ماشيتهم .

( 2 ) داود فى جت

هرب داود إلى جت مدينة جليات الجبار الذى قتله ، وها هو قادم يحمل سيف بطلهم ، فثاروا ليقتلوه ، لقد وجد أرامل وأيتاما ترملن وتيتموا بسبب داود ولم يكن ممكنا أن يستضيفوا داود كطريد شاول ، إنما حسبوه جاسوسا خبيثا ومتهورا ، قدم لأخيش ( أحد ألقاب الملوك الفلسطينيين ) فلم يجد وسيلة للخلاص إلا بالتظاهر بالجنون ، فقد تمتع المجانين ببعض الأمتيازات ، منها عدم معاقبتهم على تصرفاتهم ، كما حسب البعض أن بهم روحا يخافونه ويرهبونه .

يا لـه من منظر يمثل منتهى البؤس ! إذ نرى داود الجبار ، رجل الله التقى ، المتكل على الله ، يخور فى إيمانه ليتظاهر بالجنون ، فيخربش أى يكتب كتابة غير واضحة على الباب ، وبحسب الترجمة السبعينية كان يطبل على الباب ، وكان ريقه يسيل على لحيته ( 1 صم 21 : 13 ) ، وهذه كانت تعتبر بعض علامات الجنون فى الشرق ، لا سيما ما للحية من إكرام ، لقد استخدم رجل الأيمان وسيلة بشرية لخلاصه !!

حسب داود نفسه فى جت كحمامة بكماء بين الغرباء ، ضاقت نفسه جدا ، لم يجد ما يتكلم به لينقذه ، ولا قوة للخلاص ، غير أن قلبه ارتفع نحو الله كما أعلن فى مزموره السادس والخمسين . جاء فى مقدمة المزمور [ ارحمنى يا الله لأن الأنسان يطأنى ...... ] .

إذ انقذ الله داود من أبيمالك – بعدما تظاهر بالجنون – انطلق مسبحا ذاك الذى أنقذه قائلا :

" أبارك الرب فى كل حين ....

بالرب تفتخر نفسى ، يسمع الودعاء فيفرحون ...

طلبت إلى الرب فاستجاب لى ومن كل مخاوفى انقذنى ... " مز 34

+  +  +

الأصحاح الثانى والعشرون

فى مغارة عدلام

إذ ترك النبى جت ذهب إلى مغارة عدلام ، وجد كل رجل متضايق أو من كان عليه دين وكل رجل مر النفس بسبب انحدار حكم شاول وفساده فى داود ملجأ ، إذ جاءوا إليه ليكون رئيسا عليهم ؛ هؤلاء الذين كانوا فى نظر شاول خطيرين وشاردين التصقوا بداود ليصيروا فيما بعد أناسا جبابرة يعملون لحساب المملكة الجديدة .

التصاق هؤلاء الرجال بداود أثار حقد شاول لكى يقتل جميع كهنة مدينة نوب – ما عدا أبياثار الذى أفلت من يده – ذلك لأن أخيمالك قدم لداود خبزا وسيفا دون علمه بما كان بين شاول وداود .

( 1 ) داود فى مغارة عدلام

كان من الصعب على داود الذى خلص شعبه من الأعداء أن يبقى خارج وطنه كمن هو خارج عن القانون ، خاصة أن الله سمح أن يثور أهل جت عليه ليقتلوه ، لذا بدأ يتجه نحو يهوذا لكن فى شىء من التخوف ، لقد جاء إلى مغارة بالقرب من مدينة عدلام الكنعانية القديمة ، واختبأ فيها حتى أتاه والداه وإخوته كما اجتمع إليه كثير من المتضايقين ليجدوا فيه رجاء .

" عدلام " كلمة عبرية تعنى " ملجأ " ، سكنها الكنعانيون فى أيام يعقوب ( تك 38 : 1 – 2 ) ، وهى إحدى المدن التى كانت من نصيب سبط يهوذا ، يشار إليها بين بلدتى يرموت وسوكوه ( يش 15 : 35 ) ، يرى البعض أنها عين الماء الحديثة ، كانت تدعى " عيد الماء " ، تقع على بعد حوالى 12 ميلا جنوب غربى بيت لحم ، فى وادى إيلة ، لا تزال هناك نحو 15 مغارة هائلة تسمى مغائر عيد الماء ، من بينها مغارة وادى قريطون بجوار بيت لحم ، وهى المغارة التى سكنها داود ورجاله ، إذ يبلغ طولها حوالى 160 مترا .

يرى البعض أن موقف داود فى المغارة وبعد ذلك فى وعر حارث ( 1 صم 22 : 5 ) يرمز لموقف رب المجد حين جاء إلى مغارة هذا العالم متجسدا .

إذ هرب داود من شاول إلى مغارة عدلام وضع مذهبة ( مز 57 ) ، جاء فيها :

" ارحمنى يا الله ارحمنى لأنه بك احتمت نفسى ،

 وبظل جناحيك أحتمى إلى أن تعبر المصائب ،

اصرخ إلى الله العلى ، الله المحامى عنى ...

يرسل من السماء ويخلصنى ...

عير الذى يتهمننى ( يطأ على ) ... سلاه ... "

ليتنا نحن أيضا إذ تمررت نفوسنا خلال حكم شاول ، أى سقوطنا تحت سلطان عدو الخير إبليس ، نلجأ إلى ابن داود المختبىء فى المغارة ، نلجأ إليه فقد جاء إلى عالمنا لينيره بمجد لاهوته الخفى ، واهبا إيانا الأستنارة الداخلية عوض الظلمة ، مقدما لنا الحياة الجديدة عوض الموت الذى ملك علينا .

لنلجأ إلى مسيحنا فقد دخل مغارة طبيعتنا كى لا نرتعب منه ، بل نجده قريبا منا ، حالا فى وسطنا بل فى داخلنا ليجدد طبيعتنا فيه ويقدسها ويمجدها ببهاء مجده .

+ كان عدد الرجال الذين تجمعوا حول داود ليكون رئيسا عليهم نحو أربعمائة رجلا .

( 2 ) ذهابه إلى أرض يهوذا

" فقال جاد النبى لداود لا تقم فى الحصن ؛ اذهب وادخل أرض يهوذا ، فذهب داود وجاء إلى وعر حارث " 1 صم 22 : 5 .

لم نسمع عن جاد النبى إلا فى هذا الموضع وحتى آخر حياة داود حين أحصى الشعب ( 2 صم 24 : 11 – 15 ) . ساعد فى ترتيب الخدمة الموسيقية فى بيت الرب ( 2 أى 29 : 25 ) ، وكان أحد المؤرخين الذين كتبوا حوادث ملك داود ( 1 أى 29 : 29 ) .

يبدو أن جاد هذا كان أحد تلاميذ صموئيل النبى فى مدرسة الأنبياء ، وأن صموئيل نصح داود أن يكون جاد النبى أو الرائى مرافقا له ؛ وها هو ينصح داود ألا يقيم فى الحصن الذى فى موآب بل يذهب إلى أرض يهوذا حيث يواجه المتاعب من أجل شعب الله ، وقد كان ذلك لخيره ولبنيان الشعب ؛ حيث خلص أهل قعيلة من الفلسطينيين ( 1 صم 23 : 1 ، 2 ) كما دافع عن مدن يهوذا ( 1 صم 27 : 8 – 11 ) فاشتهر ونال ثقة يهوذا ؛ وعندما قتل شاول كان حاضرا ليخلفه .

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم :

" الألم هو معلمنا ...

إننا لا نجلب الألم على أنفسنا ، إنما نحتمله بشجاعة متى تعرضنا له ، لأنه دائما مصدر خيرات كثيرة ... " .

" لا تشته حياة خالية من كل ضيقة ، فإن هذا ليس فيه خيرك ... " .

( 3 ) شاول يقتل الكهنة

إذ رجع داود ورجاله إلى اليهودية بدأت الأخبار تنتشر وأحبهم الكثيرون الأمر الذى أثار غيرة شاول من جديد ، حتى ضاقت نفسه جدا فى داخله ، شعر كأن لا عمل لداود إلا تحطيم مملكته ولا هم لمن حولـه إلا خيانته من أجل المكافأة حتى ابنه وارث عرشه يقف ضده .

إذ كان شاول مقيما تحت شجرة فى مدينة جبعة فى الرامة ، وقف أمامه عبيده وقد امسك بالرمح كصولجان فى يده ، وصار يوبخهم قائلا :

 " اسمعوا يا بنيامينيون . هل يعطيكم جميعكم أبن يسى حقولا وكروما ؟! وهل يجعلكم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ؟! 1 صم 22 : 7 .

هذه صورة مؤلمة تكشف عن قيادة مملوؤة أنانية تهتم بما لنفسها وليس بما للجميع ، ما أبعد الفارق بين شاول وموسى النبى ، فإن الأخير اختار يشوع بن نون تلميذا له يتسلم القيادة من بعده وليس أحدا من أولاده .

تسلطت الظنون على شاول فحسب كل عبيده يقاومونه ، إذ يتهمهم قائلا :

 " حتى فتنتم كلكم على وليس من يخبرنى بعهد ابنى مع أبن يسى ؟!وليس من يحزن على أو يخبرنى بأن ابنى قد أقام عبدى على كمينا كهذا اليوم ؟! 1 صم 22 : 8 .

حين يفقد الأنسان علاقته مع الله مصدر السلام يرى الجميع حولـه أعداء ، يهرب إلى سبعة طرق وليس عدو خلفه ... أما من ينعم بسلام مع الله فيحمل سلاما فى قلبه وسلاما مع الناس ولا يخاف حتى مقاوميه .

أراد دواغ الأدومى أن يبرر نفسه وزملاءه ، فألقى بالمسئولية على رئيس الكهنة قائلا :

" قد رأيت ابن يسى آتيا إلى نوب إلى أخيمالك بن أخيطوب ، فسأل له من الرب وأعطاه زادا وسيف جليات الفلسطينى أعطاه إياه " 1 صم 22 : 9 ، 10

كان دواغ صادقا فيما قاله لكنه بتر الحقيقة وشوهها ، إذ لم يعرض الحوار الذى دار بين أخيمالك وداود ليبرر نية أخيمالك ؛ على العكس صور أخيمالك كخائن لشاول يتعمد مساندة عدوه داود .  

فند أخيمالك الأتهام هكذا :

( أ ) لم ينكر أنه أعطاه خبزا وسيفا وسأل له من الله ، لكنه فعل هذا من أجل أمانة داود له ، وقرابته كصهر الملك ، ومركزه وكرامته فى البلاط ، إذ قال : " من من جميع عبيدك مثل داود أمين وصهر الملك وصاحب سرك ومكرم فى بيتك ؟! " سؤال فيه دفاع عن نفسه ويتضمن أيضا تةبيخا لشاول الذى اتسم بعدم الأستقرار يصاحب ويخاصم بلا تعقل .

( ب ) إنه لم يكن على علم بما حدث بينه وبين داود لا فى الأمور الصغيرة ولا الكبيرة .

كعادة شاول أسرع باصدار الحكم بموت أخيمالك ، رفض السعاة أن ينفذوا فلم يقبلوا أن يمدوا أيديهم إلى كهنة الرب ، ليكونوا شهودا على الظلم والعنف وإهانة خدام الرب . أما دواغ الأدومى الذى قدم الأتهام فقام بتنفيذ الأمر وقتل فى ذلك اليوم خمسة وثمانين كاهنا ، ثم ذهب إلى مدينتهم – نوب – ليقتل الرجال والنساء والأطفال والرضعان حتى الحيوانات بحد السيف ، صورة بشعة لوثت تاريخ شاول واقشعرت لها كل الأسباط .

لم يخرب شاول مدينة للأعداء بل إحدى مدن شعبه ... هذا ما تفعله الخطية فى حياة الأنسان ، إذ تحطم حياته الداخلية وتفسد طاقاته ومواهبه ، يصير عدوا ومقاوما حتى لنفسه .

على أى الأحوال تحققت كلمات الرب بخصوص بيت عالى الكاهن ( 2 : 31 ) إذ قتل أخيمالك والكهنة الذين من نسل عالى .

( 4 ) نجاة ابيأثار الكاهن

يبدو أن أبيأثار بن أخيمالك لم يذهب مع أبيه وأقربائه إلى شاول إذ بقى لحراسة الخيمة ، وإذ سمع بما حل بأهله هرب إلى داود قبل مجىء دواغ الأدومى ( 1 صم 22 : 20 ) ، أخبر أبيأثار داود بما حدث ، وكانت إجابة داود النبى : " أنا سببت لجميع أنفس بيت أبيك ؛ أقم معى ؛ لا تخف ؛ لأن الذى يطلب نفسى يطلب نفسك ولكنك عندى محظوظ " 1 صم 22 : 23 .

أحد سمات داود التقوية اعترافه بخطئه وإلقاء اللوم على نفسه لا على الآخرين ؛ فكان يمكنه القول بأنه لم يكن يعرف أن دواغ الأدومى هناك عندما ذهب إلى أخيمالك ، ... ما أعذب أن يعترف الأنسان فى أعماق قلبه كما بلسانه : " أخطأت " ...

دان داود نفسه ، وحاول علاج الخطأ باحتضان أبيأثار وحمايته ، فصار معه واحد من الأنبياء ( جاد ) ، ومعه أحد الكهنة ( أبيأثار ) .

+  +  +

الأصحاح الثالث والعشرين

شاول يطارد داود

هاجم الأعداء قعيلة فتطلع الشعب إلى داود ورجاله القلائل ( نحو ستمائة رجل ) كملجأ لهم بينما تجاهلوا شاول الملك الرسمى بكل جيشه إذ فقدوا الثقة فيه وخاب أملهم من جهته ، لقد أدرك الكثيرون أن داود الطريد يعمل من أجل بناء الجماعة المقدسة بينما شاول الملك لا هم له إلا مقاومة داود ومطاردته بلا سبب ، فإن الأشرار لا يطيقون أولاد الله ، وكما يقول العلامة ترتليان : إن العالم لا يطيق الكنيسة فيضطهدها بينما تحب الكنيسة العالم وتخدمه !

( 1 ) داود ينقذ قعيلة

سمع داود عن مهاجمة الأعداء لمدينة " قعيلة " ، وهى مدينة فى سهل يهوذا بالقرب من تخم الفلسطينيين ( يش 15 : 44 ) فوق وادى البطم ( السنط ) ، تبعد حوالى ثلاثة أميال من مغارة عدلام ، وثمانية أميال ونصف شمال غرب حبرون ، تدعى حاليا خربة كيلا .

كلمة " قعيلة " عبرية معناها " قلعة " أو " محاط بسور " .

لم يتحرك شاول ربما لعجزه عن حراسة مملكته من الأعداء ، إذ ضاعت كل طاقاته الفكرية والنفسية والعسكرية فى التخطيط لقتل داود بسبب الغضب الذى يعكر العينين ، إذ يرى الأنسان أصدقاءه والمعينين له أعداء يلزم مقاومتهم والخلاص منهم ، بينما يتغاضى عن العدو الحقيقى المحطم لحياته .

تحرك داود ورجاله ليخلصوا قعيلة ويغلبوا الأعداء ويتمتعوا بغنيمة عظيمة .

الآن أدرك داود ورجاله لماذا طلب الرب منهم مغادرة الحصن والذهاب إلى أرض يهوذا ، إذ استخدمهم الرب لخلاص أولاده مهيئا بذلك الطريق لكى يملك داود .

فقد شاول كل تمييز وحكمة ، ظن أن الله قد رفض داود ، إذ قال : " قد نبذه الله إلى يدى لأنه قد أغلق عليه بالدخول إلى مدينة لها أبواب وعوارض " 1 صم 23 : 7 .

إنه لأمر خطير أن يفقد الأنسان روح الحكمة ، فيرى الأمور بمنظار مقلوب ، مضاد للحقيقة ، فماذا يكون الحال إن فقد القائد الروحى هذه الروح ، ليدفع بنفسه كما بقطيع المسيح إلى الهلاك عوض الأمان .

ظن شاول أن داود لن يفلت من يده فقد أغلق الرب عليه ، إما أن تسقط المدينة عند المحاصرة أو يسلمه أهلها ، ولم يدرك أن الله الذى أعطاه الغلبة على جليات قادر أيضا أن يخلصه ، لقد دعا شاول جميع الشعب ، أى رجال الحرب ، بينما ألتجأ داود إلى الرب ، إذ طلب من أبيأثار أن يقدم الأفود التى تستخدم عند دخول الكاهن إلى القدس أمام الرب ( خر 28 : 29 ) وعند سؤال الرب فى أمر ما ( خر 28 : 30 ) . بعد سؤال الرب عرف داود أنه يمكن لشاول أن ينزل قعيلة وأن أهلها يمكنهم أن يسلموه له . عجيبة هى عناية الله بنا ورعايته الفائقة ، لقد أعطى النصرة لداود ضد الأعداء ليخلص مدينة قعيلة ، لكنه طلب منه الهروب منها حتى لا يقتله شاول وهو أضعف من الأعداء ؛ لماذا ؟

+ لكى يدرك داود أن النصرة من عند الرب ... وكأن الله أراد لداود أن يعيش فى اتضاعه على الدوام .

+ ولكى لا يدخل فى حرب مع شاول وجيشه فيكون مقاوما لشعبه ، ويحسب هذا عارا عليه .

الله فى عنايته أحيانا يهبنا الغلبة والنصرة ، وبذات العناية يفتح لنا بابا للهروب فى مرة أخرى .

( 2 ) داود فى برية زيف

غادر الراعى الأمين من وجه الأجير الذى يهتم بنفعه الخاص ولو على حساب غنم رعيته ، وكان الزيفيون أيضا مستعدين لتسليم داود ، وإذ أرشدوا عن موضعه فى برية معون وكان شاول ورجاله يطاردونه سمح الله بهجوم الوثنيين على المملكة حتى يرجع شاول عن مطاردة داود .

إذ جاء الزيفيون إلى شاول يقولون له : " أليس داود مختبئا عندنا ؟! " نطق بالمزمور 54 :

" اللهم بأسمك خلصنى ، وبقوتك احكم لى ، ...

اسمع يا الله صلاتى ، اصغ إلى كلام فمى ، ...

لأن الغرباء قد قاموا على ، وعتاة طلبوا نفسى ، ..

لم يجعلوا الله أمامهم ، ... سلاه ... " مز 54

لقد ظن الزيفيون أنهم ازدهروا بخيانتهم داود لكن خطتهم فشلت وهلكوا بينما خرج داود من الضيقات غالبا ومنتصرا .

+ لم تكن خيانتهم لصالحهم ، ولا هى أضرت داود .

+ كان داود فى البداية مختبئا وأما أعداؤه فكانوا مزدهرين .

( 3 ) عهد مع يوناثان

تم اللقاء الأخير بين داود النبى ويوناثان فى وسط المحنة ( 1 صم 23 : 15 – 18 ) ، وقد ظل الأخير صادقا فى حبه وإخلاصه لصديقه داود ، إذ خاطر بحياته ليلتقى به فى وقت بلغت كراهية شاول لداود أشدها .

لم يكن ممكنا ليوناثان أن يقدم شيئا لصديقه ، فقد جاء خفية بمفرده ، إنما قدم له حبه الذى لا يقدر بثمن ، وأعلن له أن سلاحه الوحيد هو معية الله ومواعيده ، طالبا أن يكون هو الثانى بعده ، مقدما داود أمامه بفرح وسرور ، إذ قيل : " شدد يده بالله ، وقال له : لا تخف لأن يد شاول أبى لا تجدك وأنت تملك على إسرائيل وأنا أكون لك ثانيا ، وشاول أبى أيضا يعلم ذلك " .

جددا العهد معا أمام الرب ليفترقا إلى غير لقاء فى هذا العالم .

لقد مات يوناثان قبل أن يتبوأ داود العرش ، إذ كان صعبا لا على يوناثان بل على داود نفسه أن ينتزع الملك من صديق مخلص يضحى بحياته لأجله .

( 4 ) شاول يطارد داود

لا نعرف لماذا غدر الزيفيون بداود فأبلغوا عنه لدى شاول لتسليمه إياه ، هل خوفا من شاول ؟ كان يمكن أن يطلبوا من داود أن يترك منطقتهم كى لا يحرجوا مع الملك ؛ أم تراهم فعلوا هذا كراهية وبغضة نحو داود ؟!

لقد أخبروا شاول أن داود مختبىء فى حصون الغاب فى تل حخيلة ، ....

سر شاول بتصرفهم هذا ، وحسبه تصرفا من قبل الله الذى ينصفه من ظلم داود إذ قال لهم : " مباركون أنتم من الرب لأنكم قد أشفقتم على " 1صم 23 : 21 . هكذا فسدت بصيرته فحسب نفسه مظلوما وداود ظالما ومفتريا ، وأنه هو عبد الرب وداود الأنسان المنبوذ من الرب ، لذا فهم مباركون إذ أشفقوا على المظلوم عبد الرب !

ذهب شاول إلى جانب الجبل وداود على الجانب الآخر ، أرسل شاول فريقا من جانب وفريقا آخر من جانب آخر حتى لا يفلت داود من أيديهم ، فيحاط من كل ناحية ، لكن الله أوجد لداود منفذا ؛ إذ جاء رسول إلى شاول يقول : " أسرع وانزل لأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض " 1 صم 23 : 27 . يقال أنهم اقتحموا أرضه الخاصة ، لولا ذلك لما تحرك .

دعى الموضع " صخرة الزلقات " ، إذ فيه زلق شاول أى تعثر فلم يمسك داود .

صعد داود من هناك وأقام فى حصون عين جدى . 

+  +  +

الأصحاح الرابع والعشرون

رقة داود تجاه شاول

بينما كان شاول ينهار أمام نفسه وأمام الآخرين بلا سبب كان داود يتمجد ؛ ولعل قوته قد تجلت فى أعظم صورها عندما وقع شاول بين يديه وهو يطارده ، وحسب رجال داود أن الوقت قد حان لكى يموت شاول ويملك داود على الشعب ( 1 صم 24 : 4 ) ، أما هو فوجدها فرصة فريدة لتحقيق وصية الله مكتفيا بقطع طرف جبة شاول ، وقد ضربه قلبه على هذا العمل أيضا " ( 1 صم 24 : 5 ) . وقف داود فى اتضاع مع حزم يوبخ شاول على مطاردته له ، وأحس شاول أن داود لابد وأن يستلم المملكة

( 1 ) داود فى كهف عين جدى

هرب داود إلى حصون عين جدى ، تبعد عين جدى عن البحر الميت حوالى 200 مترا ، الوصول إليها لا يخلو من خطر جسيم ، وهى مأوى للجداء ( المعزى ) السورية ، ومنها اشتق الأسم " عين جدى " .

انتهى شاول من مطاردة الفلسطينيين ، فاتجه لمطاردة داود ...

دخل شاول كهفا كبيرا ليغطى رجليه ، وهو تعبير مهذب للقول " يتبرز " ، حيث كان داود ورجاله جلوسا فى مغابن الكهف ( 1 صم 24 : 3 ) ، إذ كان الكهف مظلما لم ير شيئا ، أما داود ورجاله فكانوا فى داخله وقد اعتادوا الظلام فرأوا شاول عند دخوله وعرفوه ، كان رجال داود يشيرون عليه أن ينتقم من شاول وهو فى الكهف بمفرده ليأخذ المملكة بالقوة ، قالوا له : " هوذا اليوم الذى قال لك عنه الرب هاأنذا أدفع عدوك ليدك فتفعل به ما يحسن فى عينيك " 1 صم 24 : 7 . رفض داود هذه المشورة فإن الله لم يطلب منه أن يتعامل معه كعدو ، واضح أن الله لم يدعو داود ليفعل بشاول ما يريد كعدو له ، بل اختاره ملكا عوضا عنه من أجل نقاوة قلبه وأنه أفضل من شاول ، يعامله كصاحبه .

يبدو أن داود ورجاله انتظروا حتى يأخذ شاول ركنا فى المغارة ليستريح وينام ، عندئذ مد داود يده ليقطع طرف جبة شاول ، لكنه لم يحتنل هذا التصرف إذ خشى أن يكون بهذا قد أساء إلى مسيح الرب ، فصارت نبضات قلبه تتزايد .

انتظر داود حتى يخرج شاول من الكهف ليخرج من بعده وفى اتضاع نادى وراءه قائلا : " ياسيدى الملك " ! .... ولما التفت إليه : " خر داود على وجهه إلى الأرض وسجد " !..... يا للعجب !! كان شاول شريرا ترك كل أعمال المملكة ليكرس طاقاته لقتل داود ، أما داود فينقذ حياته ، ويكرمه ويسجد له وهو غير مستحق للإكرام .

ارتفع داود فى عينى الله والناس باتضاعه ، إذ يقول لشاول :

 " وراء من خرج ملك إسرائيل ؟! وراء من أنت مطارد ؟ وراء كلب ميت ! وراء برغوت واحد ! " 1 صم 24 : 14 .

فى صراحة وشجاعة أظهر داود نفسه أمام شاول خارج المغارة ، كشف له كذب مشيريه الذين يحرضونه ضده مدعين أنه يطلب قتله ، كما أعلن له أنه لا يخافه ولا يمد يده إليه .

فى قوة وصراحة يقول :

" لماذا تسمع كلام الناس القائلين هوذا داود يطلب أذيتك ؟!

" يقضى الرب بينى وبينك .......ولكن يدى لا تكون عليك !!

( 2 ) شاول يتصاغر فى عينى نفسه

لم يحتمل شاول المملوء حسدا وبغضة ، قاتل الكهنة بلا سبب ، أن يسمع صوت داود المملوء اتضاعا ، وأن يواجه سماحته العجيبة ، لذا تصاغر شاول جدا فى عينى نفسه ، إذ نراه :

( أ ) يدعو داود ابنه ، قائلا : " أهذا صوتك يا أبنى داود " 1 صم 24 : 16 ، لقد دعاه داود " سيدى الملك " ، أمام هذا الأتضاع المملوء وداعة ولطفا دعاه شاول :

" ابنى داود " ، مع انه كان فى أغلب الأوقات لا يقدر أن ينطق اسمه بل يدعوه :

" ابن يسى " 1 صم 22 : 7 ، 8 ، 13 ، .....

( ب ) شاول الجبار القادم ومعه 3000 رجل حرب يرفع صوته ويبكى ! شعر بالضعف الشديد والحقارة فتفجرت دموعه وعلت صرخاته ؛ شعر بأنه وضع نفسه فى فخ وليس من ينقذه !

( جـ ) شعر شاول بشره ، هذا الذى سبق أن تحدث مع أهل زيف كمن هو مظلوم أمام داود ( 1 صم 23 : 21 ) ، وإذ قارن نفسه بداود قال : " أنت أبر منى ، لأنك جازيتنى خيرا لأن الرب قد دفعنى بيدك ولم تقتلنى " 1 صم 24 : 18 .

( د ) أدرك شاول بأن الملك لابد أن يخرج من يديه ليتسلمه داود الذى ينجح فى طريقه :

" والآن فإنى علمت أنك تكون ملكا وتثبت بيدك مملكة إسرائيل ، فاحلف لى الآن بالرب أنك لا تقطع نسلى من بعدى ولا تبيد اسمى من بيت أبى " 1 صم 24 : 20 ، 21 .

لقد تأكد أن ما سمعه من صموئيل النبى سيتحقق ( 1 صم 15 : 28 ) . 

+  +  +

الأصحاح الخامس والعشرون

داود وأبيجايل

فى الأصحاح السابق سقط شاول العنيف بين يدى داود الوديع المتضع فأبت نفسه أن تصنع به سوءا ، والآن إذ رفض نابال فى حماقة أن يقدم عطية لغلمان داود الذين حرسوا غنمه ، سابا إياهم ، صمم داود أن ينتقم منه ( ضعف بشرى ! ) ، فأرسل الله له إمرأة حكيمة ترده عن الأنتقام لنفسه ، وقد استجاب النبى لمشورتها " وداعة ! " .

( 1 ) موت صموئيل النبى

بعد فترة جهاد طويلة – إذ دعى صموئيل وهو فى الثانية عشرة من عمره ، وبقى يخدم الرب وشعبه بكل أمانة حتى بلغ التسعين من عمره – مات ، فاجتمع جميع إسرائيل وندبوه كما ندبوا موسى النبى ( تث 34 : 8 ) ، ودفنوه فى الرامة على مرتفعات بنيامين ، غالبا فى فناء بيته أو البستان الملحق به ، إذ لم يكن ممكنا دفنه داخل مبنى البيت لأن ذلك يحسب نجاسة ( عد 19 : 16 ) .

ترى هل ألتقى داود بشاول ويوناثان ، لأنه غالبا ما ينادى بعفو شامل فى مثل هذه المناسبات ، وقد جاء داود ليشترك فى توديع معلمه وأبيه الروحى وصديقه الق والسند ؛ الوداع الأخير ، غالبا لم يقدر أن يقترب من شاول إلا فى حدود مراسم وواجبات الجنازة .  

( 2 ) حماقة نابال

إذ انتهت مراسيم الجنازة نزل داود إلى برية فاران ( 1 صم 25 : 1 ) ، وهى برية متسعة تكاد تكون مقفرة من السكان ، جنوب اليهودية ، يحدها شرقا أرض أدوم وجنوبا برية سيناء وغربا برية شور .

كان داود ورجاله أشبه بسور يحمى المراعى هناك خاصة مراعى نابال الذى كان غنيا جدا ، من هجمات العمالقة والفلسطينيين ، كان له ثلاثة آلاف من الغنم وألف من الماعز ، وقد عبر رعاته عن دينهم لداود ورجاله بحمايتهم لهم ، إذ قال أحدهم : " الرجال محسنون إلينا جدا فلم نؤذ ولا فقد منا شىء ، كل أيام ترددنا معهم ونحن فى الحقل ، كانوا سورا لنا ليلا ونهارا كل الأيام التى كنا فيها معهم نرعى الغنم " 1 صم 25 : 15 ، 16 .

أما اسم " نابال " فعبرى معناه " جاهل " مز 14 : 1 – وكما قالت زوجته أبيجابل عنه لداود كى تصرف عنه غضبه : " لأن كأسمه هذا هو ؛ نابال اسمه والحماقة عنده " 1 صم 25 .

اضطرت الزوجة أن تعترف بحماقة زوجها لتنقذه وتنقذ حياتها وأيضا تخلص داود من غضبه ورغبته للأنتقام لنفسه ، ليتنا نحن أيضا إذ قبلنا الجهالة قرينا لنا نعترف بذلك أمام ابن داود مخلص نفوسنا " الحكمة " ذاته ليحل فى قلوبنا نازعا ظلمة الجهل من أعماقنا .

للأسف كان هذا الرجل الأحمق من نسل كالب أى جاء عن أصل شريف ، لكن الأصل لا يشفع فيه ، إذ قيل عنه : " وأما الرجل فكان قاسيا وردىء الأعمال " 1 صم 25 : 3 .

سمع داود أن نابال يجز غنمه ( 1 صم 25 : 4 ) ، وكان هذا الوقت يحسب وقت فرح وأكل وشرب وعطاء بسخاء ، لذا أرسل إليه داود يقول له :

 " حييت وأنت سالم وبيتك سالم وكل مالك سالم ، والآن قد سمعت أن عندك جزازين ، حين كان رعاتك معنا لم نؤذهم ولم يفقد لهم شىء كل الأيام التى كانوا فيها فى الكرمل ، أسأل غلمانك فيخبرونك – فليجد الغلمان نعمة فى عينيك لأننا قد جئنا فى يوم طيب ، فأعط ما وجدته يدك لعبيدك ولأبنك داود " .

قابل نابال هذا اللطف بغلاظة قلب وإساءة إذ تجاهل السبب الذى لأجله يعيش داود طريدا ، حاسبا إياه إنسانا متمردا على سيده الملك ، فلا يستحق خيرا لأنه خارج عن القانون ( 1 صم 25 : 10 ، 11 ) .

ثار داود وغضب ، وطلب من رجاله أن يتقلد كل واحد سيفه وتقلد هو أيضا سيفه وخرج معه حوالى 400 رجل وترك مائتين مع الأمتعة .

داود الذى اتسم بضبط النفس والأتضاع ، الآن فى لحظات ضعفه كاد أن يقترف جريمة لو تمت لأحزنت قلبه كل بقية أيام حياته ، ولصارت عثرة لشعبه عندما يتولى الحكم .

( 3 ) حكمة أبيجابل

إن كانت حماقة نابال كادت تؤدى إلى هلاكه ، فإن حكمة أبيجابل هدأت قلب داود كى لا ينتقم لنفسه ، وأزالت الهلاك المدبر لها ولرجلها بواسطة رجال داود ، وأهلتها لتصير زوجة داود الملك والنبى .

قيل عنها : " وكانت المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة " 1 صم 25 : 3 ، كانت مملوءة حكمة فأنعكست هذه الحكمة على ملامح وجهها فكانت جميلة الصورة .

هذه الحكمة التى تميزت بها أبيجابل – ومن يتميز بها من نساء البشر – هى هبة إلهية .

يحدثنا الكتاب المقدس عن الحكمة ليس فقط كعطية إلهية وإنما بالحرى هى أقنوم إلهى يتعامل معنا ونحن معه فى علاقات شخصية متبادلة .

لقد عرف الغلمان أن أبيجابل اتسمت بالحكمة على خلاف رجلها نابال الأحمق ، لذا جاء أحدهم إليها يخبرها بما حدث قائلا :

" هوذا داود أرسل رسلا من البرية ليباركوا سيدنا فثار عليهم ، والرجال محسنون إلينا جدا فلم نؤذ ولا فقد منا شىء كل أيام ترددنا معهم ونحن فى الحقل . كانوا سورا لنا ليلا ونهارا .

والآن اعلمى وانظرى ماذا تعملين لأن الشر قد أعد على سيدنا وعلى أهل بيته وهو ابن لئيم لا يمكن الكلام معه " 1 صم 25 : 14 – 17 .

هذا الحديث الصريح الذى فيه يتحدث الغلام بأدب واحتشام لكن فى صراحة يصف رجلها كأبن لئيم يكشف عن ثقة الكل فى أبيجابل ، وفى حسن تدبيرها وتقديرها لكل إنسان .

لقد أدرك داود النبى أن الله سوره وملجأ لـه ، لذا لا يكف عن أن يكون هو سورا للآخرين ، يرد حب الله لخليقته المحبوبة لديه أى بنى البشر .

أخذت أبيجابل من الخيرات مئتى رغيف خبز وزقى خمر وخمسة خرفان مهيأة وخمس كيلات من الفريك ومئة عنقود من الزبيب ، ومئتى قرص من التين ووضعتها على الحمير وطلبن من غلمانها أن يعبروا قدامها ، ولم تخبر نابال رجلها بما فعلت .

كان داود فى ثورته يتحدث مع رجاله ، وقد أقسم : " هكذا يصنع الله لأعداء داود وهكذا يزيد إن أبقيت من كل ماله إلى ضوء الصباح بائلا بحائط " 1 صم 26 : 22 ، أما هى فبحكمتها قدمت أمامها هدية مادية من الخيرات ، وقدمت اتضاعا إذ نزلت عن الحمار وسقطت أمامه على وجهها وسجدت إلى الأرض عند رجليه ، كما قدمت جوابا لينا يصرف الغضب ، إذ قالت :

" على أنا يا سيدى هذا الذنب ودع أمتك تتكلم فى أذنيك واسمع كلام أمتك ، ............. " . 1 صم 25 : 24 – 31 .

ما أحكم هذه السيدة وما أعذب كلامها ، فقد كشفت عن روحها الداخلية التى اتسمت بالأتضاع إذ بدأت تعترف بخطئها أو ذنبها الذى لم ترتكبه بإرادتها إنما بكونها شريكة حياة رجل أحمق يخطىء فيسيىء إلى البيت كله . اعتذرت فى رقة أنها لم تر غلمان داود لتعطيهم من خيرات الله لها ، كما اتسمت بالأيمان فحسبت شاول مرفوضا إذ دعته " رجلا " وليس " ملكا " بينما نظرت إلى داود كرئيس وملك فى طريقه لأستلام العرش .

( 4 ) داود يمتدح أبيجابل

 شعر داود النبى أن ما قامت به أبيجابل هو رسالة إلهية مملوءة حكمة ، فقال لها : " مبارك الرب إله إسرائيل الذى أرسلك هذا اليوم لأستقبالى ....... لقد سمعت لصوتك ورفعت وجهك " 1 صم 25 : 32 – 35 .

( 5 ) داود يتزوج أبيجابل

انتهت القصة بموت نابال بعد عشرة أيام بسكتة قلبية ، ربما بسبب الضيق الداخلى والكآبة ثم تزوج داود أبيجابل .

إذ عرف داود بموت نابال أدرك أن يد الله قد امتدت لتعمل وتضرب من أساء إليه دون أن يخطىء هو إليه ، طلب أبيجابل زوجة ، فقبلت فى الحال بغير حوار وفى اتضاع ، إذ قامت وسجدت على وجهها إلى الأرض أمام رسل داود ، وقالت : " هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدى " .

* قبلته وهو وسط الضيق لترافقه أيام مجده *

جاء زواج داود بأبيجابل بعد موت صموئيل النبى وأيضا رجلها الأحمق نابال ... هذا الزواج يمثل اتحاد السيد المسيح بكنيسته أبيجابل الحقيقية ، صارت فيه مصدر الفرح الداخلى ، فإنه ما كان يمكن لأبيجابل أن تتحد بعريسها السماوى إلا بعد موت صموئيل النبى ، أى بعد إكمال الناموس ونبوات العهد القديم لتحيا لا تحت الناموس بل فى حرية النعمة . اتحدت بعريسها الجديد بعد أن مات رجلها القديم الأحمق أى العبادة الوثنية ، إذ جاءت الكنيسة من بين الأمم الوثنية  .

+  +  +

الأصحاح السادس والعشرون

داود يرفض قتل شاول

لم يكف شاول عن مطاردة داود ، بالرغم من سقوطه تحت يده وقد عفا عنه ودخل معه فى عهد ( 1 صم 24 ) ، وداود لا يكف عن الصفح تاركا قضيته فى يد الله ، لقد تمجد داود أكثر وأكثر إذ منع أبيشاى عن أن يمد يده ضد شاول ؛ كما وبخ أبنير رئيس الجيش لعدم سهره على حياة سيده ، وطلب أن يعيد الرمح لشاول ، وأخيرا فى اتضاع يقول لشاول : " ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوت واحد " 1 صم 26 : 20 .

( 1 ) داود يرفض قتل شاول

للمرة الثانية جاء الزيفيون إلى شاول للغدر بداود إذ كان مختفيا فى تل حخيلة مقابل القفر .

للمرة الثانية يغدر الزيفيون بداود ، وقد قام شاول ونزل إلى برية زيف ناسيا ما قدمه له داود من لطف حين كان بين يديه فى الكهف ولم يصنع به شرا ، نسى شاول كيف تصاغر فى عينى نفسه أمام كرم داود واتضاعه وأدبه حتى صرخ وبكى طالبا من داود أن يقطع معه عهدا ، الآن قد سحبه قلبه الشرير إلى الغدر كعادته ، الأمر الذى لم يصدقه داود بسبب العهد الذى قطعاه معا فى ذات برية زيف ، لم يهرب داود من البرية بل أرسل جواسيس للتأكيد إن كان شاول بالفعل قد جاء ( 1 صم 26 : 4 ) .

عندما تأكد داود أن شاول كسر العهد وجاء برجاله ليقتلوه ، لم يخف بل فى شجاعة نادرة أخذ معه أبيشاى بن صروبة وأخيمالك الحثى . رأى شاول وحراسه نائمون عند المتراس ( وهو حاجز من الحجارة أو التراب كخندق ) ... قال أبيشاى لخاله داود : " قد حبس الله اليوم عدوك فى يدك ؛ فدعنى الآن اضربه بالرمح إلى الأرض دفعة لا أثنى عليه " 1 صم 26 : 8 . لقد حسب أبيشاى أن النعاس الذى حل بشاول ورجاله ليس مصادفة ولا عن حاجة جسدية طبيعية وإنما هو بسماح إلهى لكى يحبس الرب شاول فى يده ليقتله . أما داود فأبى أن يمد يده على مسيح الرب الكاسر العهد المملوء حسدا وبغضا الطالب سفك دمه . لقد منع أبيشاى من أن يمد يده أيضا عليه قائلا له :

" حى هو الرب ، إن الرب سوف يضربه أو يأتى يومه

 فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك .

حاشا لى من قبل الرب أن أمد يدى إلى مسيح الرب .

والآن فخذ الرمح الذى عند رأسه وكوز الماء وهلم " 1 صم 26 : 11 .

نجح داود النبى فى مقابلة عداوة شاول المتكررة باللطف ، وقد مات شاول قتيلا بيد غير يد داود ، وتمتع داود بالنفس المتسعة بالحب ليكون مثالا حيا للحب .

انفتح قلب داود واتسع ليحتمل عداوة شاول بطول أناة فكان الرب يسنده ، إذ قيل :

" فأخذ داود الرمح وكوز الماء من عند رأس شاول وذهبا ولم ير ولا علم ولا أنتبه لأنهم جميعا كانوا نياما لأن سبات الرب وقع عليهم " 1 صم 26 : 12 .

( 2 ) داود يوبخ أبنير

عبر داود إلى العبر ووقف على تل حخيلة فى مكان مرتفع بالنسبة لموضع شاول ، من هناك نادى أبنير رئيس الجيش والحارس لشاول ؛ وبخه فى أدب قائلا له : " أما تجيب يا أبنير ؟! " 1 صم 26 : 24 . سأله أبنير : " من أنت الذى ينادى الملك ؟ " 1 صم 26 : 24 .

لم يكن ينتظر داود أن يكون أبنير نائما فى وقت كهذا دون تدبير حراسة للملك ، لهذا تحدث معه داود باستخفاف كمن هو ليس برجل ولا يستحق الحياة ، هذا ما عناه داود بقوله :

" أما أنا رجل ، ومن مثلك فى إسرائيل ؛

فلماذا لم تحرس سيدك الملك ؟!

لأنه قد جاء واحد من الشعب لكى يهلك الملك سيدك .

ليس حسنا هذا الأمر الذى عملت .

حى هو الرب إنكم أبناء موت أنتم ، لأنكم لم تحافظوا على سيدكم على مسيح الرب .

فانظر الآن أين هو رمح الملك وكوز الماء الذى كان عند رأسه ؟! 1 صم 26 : 15 ، 16 .

( 3 ) داود يعاتب شاول

 تأثر شاول جدا بتصرف داود ولكن كعادته يتأثر إلى حين ، لذلك عندما قال له شاول : " ارجع يا ابنى داود لأنى لا أسىء إليك بعد من أجل أن نفسى كانت كريمة فى عينيك اليوم " 1 صم 26 : 21 ،

 لم يقبل داود بل " ذهب داود فى طريقه ورجع شاول إلى مكانه " 1 صم 26 : 25 .

تأثر شاول قائلا : " أهذا صوتك يا ابنى داود ؟! 1 صم 26 : 17 .

فى أدب وبخه داود قائلا :

" إنه صوتى يا سيدى الملك ...

لماذا سيدى يسعى وراء عبده ؟ لأنى ماذا عملت ؟ وأى شر بيدى ؟

والآن فليسمع سيدى الملك كلام عبده .

فإن كان الرب قد أهاجك ضدى فليشتم تقدمة ،

وإن كان بنو الناس فليكونوا ملعونين أمام الرب لأنهم قد طردونى اليوم من الأنضمام إلى نصيب الرب ، قائلين : اذهب أعبد آلهة أخرى .

والآن لا يسقط دمى إلى الأرض أمام وجه الرب .

لأن ملك إسرائيل قد خرج ليفتش على برغوث واحد ،

كما يتبع الحجل فى الجبال " 1 صم 26 : 17 – 20 .

تكشف هذه الأجابة عن أعماق قلب داود النقى من جهات كثيرة .  

( 4 ) شاول ينهار أمام داود

انهار شاول أمام داود ، إذ قال : " قد أخطأت ؛ ارجع يا ابنى داود لأنى لا أسىء إليك بعد من أجل أن نفسى كانت كريمة فى عينيك اليوم ، هوذا قد حمقت وضللت كثيرا جدا " 1 صم 26 : 21 .

تصاغر شاول جدا فى عينى نفسه ، فقد أعطى ابنته ميكال زوجة داود لآخر ، وصار يتعقبه ليقتله بينما يرد داود هذا الشر بالخير ، مما أخجل شاول جدا ، فصار يكرر تعبير : " يا ابنى داود " مدركا أنه ينال بتصرفاته نعمة ونجاحا . " مبارك أنت يا ابنى داود فإنك تفعل وتقدر " .

أرجع داود لشاول رمح الملك الذى يمثل الصولجان وتقبله شاول بروح الخنوع والمذلة

 

+  +  +

الأصحاح السابع والعشرون

داود يلتجىء إلى صقلغ

تكرار هجوم شاول الملك على داود حتى بعد إقامة عهد بينهما أفقد داود كل ثقة فى شاول ، فبدأ يفكر جديا فى الألتجاء إلى بلاد غريبة خاصة أنه صار ملتزما بأمرأتيه اليزرعيلية وأبيجابل امرأة نابال الكرملية ( 1 صم 27 : 3 ) وربما صار له أولاد ، كما ارتبط رجاله الستمائة بأسرهم فصارت إمكانية تركهم واختفائهم فى المغاير والكهوف أصعب مما كانوا قبلا .

الآن - ربما فى ضعف بشرى ودون استشارة الرب – اضطر إلى الألتجاء إلى أخيش ملك جت ليسمح له مع رجاله أن يعيشوا فى قرية صقلغ ، حتى ييأس شاول من التفتيش عنه ( 1 صم 27 : 1 ) .

( 1 ) هروب داود إلى جت

إن كان داود يحسب أحد أبطال الأيمان العظماء لكنه فى هذا الأصحاح يظهر فى لحظات ضعف إيمان جلبت عليه متاعب كثيرة . كثيرا ما يقدم لنا الكتاب المقدس داود لنقتدى به فى عظم إيمانه ، أما هنا فيعلمنا أن لكل إنسان لحظات ضعف فيها يسقط لا ليستسلم فى يأس وإنما ليقوم بالرغم مما ترتب على سقوطه من متاعب داخلية وخارجية .

لقد فكر داود فى أعماقه أن يفلت مع أسرته ورجاله إلى أرض الفلسطينيين فييأس شاول منه ولا يفتش عليه ، فينجو ، وأخذ قراره بالذهاب إلى أخيش فى جت ( 1 صم 27 : 3 ) .

من حق داود ألا يثق فى وعد شاول بأنه لا يسىء إليه ( 1 صم 26 : 21 ) ، لكن لم يكن من اللائق أن يخاف ويهرب فى ضعف إيمان وقد عاين بنفسه واختبر معاملات الله له ، هذا الذى وعده بالملك ، خاصة أن يوناثان وأباه شاول تأكدا أنه يرث الملك وأخبراه بهذا .

نسى داود وصية جاد النبى : " لا تقم فى الحصن ، اذهب وادخل أرض يهوذا " 1 صم 22 : 5 ، حتى لا يعتمد على ذراع بشرى وحصون أرضية بل يدخل إلى الشعب يشاركهم تعبهم من شاول ومذلتهم ، الآن يترك حدود يهوذا وينطلق إلى حصون بشرية فى ضعف إيمان .

( 2 ) سكناه فى صقلغ

رحب أخيش بداود إذ تأكد أن شاول يطارد داود بلا هوادة ، فقد اطمأن إلى أن الأخير لن يثق بعد فى شاول ولن يتحالف معه ، قبوله داود يكسر شوكة شاول الملك ، كما ينتفع من إمكانيات داود ورجاله ، أما داود فلم يستحسن أن يسكن فى جت مع أخيش ، ذلك لأن رجاله وعائلاتهم كثيرون تضيق بهم المدينة من جهة المسكن والطعام ، ومن جهة أخرى لم يكن داود يقصد خدمة أخيش إذ هو مرتبط قلبيا يشعبه ولذلك قال لأخيش : " إن كنت قد وجدت نعمة فى عينيك فليعطونى مكانا فى إحدى قرى الحقل فأسكن هناك " 1 صم 27 : 5 ، بهذا يكون له شىء من الحرية خاصة فى العبادة .

كما أن ببعده عن جت لا يحتك هو ورجاله بالأحتفالات الشعبية الخاصة بالعبادة الوثنية ، إذ كانت جت أحد المراكز العظمى لعبادة آلهة الفلسطينيين .

فى اتضاع وانسحاق قدم داود طلبه هذا قائلا : " ولماذا يسكن عبدك فى مدينة المملكة معك ( يضايقك ويزحم مدينتك ) ؟

استجاب الملك لطلبه وأعطاه صقلغ ليسكن فيها مع رجاله .

( 3 ) غزوه للجشوريين وغيرهم

إقامة داود ورجاله بعائلاتهم بعيدا عن جت أعطى الفرصة لداود أن يقودهم فى شىء من الحرية ويقوم بتنظيمهم ، لذا بدأ يمارس بعض حملات غزو ضد الوثنيين من جشوريين وجرزيين وعمالقة ، عرفوا بالحياة العنيفة واللصوصية بجانب الفساد والرجاسات ، كانت فرصة لتطهير الأرض حتى لا يتسلل الفساد فى أبشع صوره إلى الشعب المقدس ويفسدوا الخميرة النقية .

كان شاول قد كسر الوصية وجاء بأجاج ملك العمالقة حيا كما ترك جياد الغنم والبقر ( 1 صم 15 ) ، أما داود فحقق كلمات صموئيل لشاول : " وضرب داود الأرض ولم يستبق رجلا ولا امرأة " ( 1 صم 27 : 9 ، وإذ لم تكن الوصية موجهة إليه لذلك أخذ الغنيمة ليعيش بجزء منها ويعطى ملك أخيش الجزء الآخر كنوع من الجزية مقابل سكناه فى بلاده واستغلاله لصقلغ على حدود الفلسطينيين .

كان من ثمرة التجاء داود إلى الغرباء عوض بقائه فى أرض يهوذا ليس فقط التزامه بتقديم جزء من الغنيمة كجزية لأخيش ملك جت وإنما أيضا التجاؤه إلى المواربة وإخفاء الحقيقة . عندما قال له أخيش : " إذا لم تغزو اليوم " 1 صم 27 : 11 ، يقصد التساؤل : هل غزوتم اليوم ؟ ومن غزوتم ؟ لم يقل له الحقيقة بل قال : " بلى . على جنوبى يهوذا وجنوبى اليرحمئيليين وجنوبى القينيين " . لقد تظاهر أنه غزا جنوب يهوذا ، لذلك قال أخيش عن داود : " قد صار مكروها لدى شعبه إسرائيل فيكون لى عبدا إلى الأبد " 1 صم 27 : 12 .  

+  +  + 

الأصحاح الثامن والعشرون

التجاء شاول إلى الجان

التجاء داود إلى أخيش جعله فى مركز حرج عندما ثار الفلسطينيون ضد إسرائيل ... أما شاول فإذ حل به الخطر لم يجبه الرب بسبب شروره المستمرة ، فالتجأ إلى صاحبة جان ، مع أنه حرم أصحاب الجان والتوابع ، لقد تخفى وطلب منها أن تستدعى روح صموئيل ليطلب مشورته ، فجاء الشيطان فى شكل صموئيل يتحدث معه .... لأنه ليس ممكنا له أن يستحضر أرواح المنتقلين .  

( 1 ) حرب بين إسرائيل والفلسطينيين 

كان أخيش متيقنا من ولاء داود وإخلاصه له ، وجاءت إجابة داود هادئة يشوبها اللبس ، لكنه بلا شك كان مر النفس بالنسبة لشعبه ، لا نعرف ماذا كان يعمل لو أنه اشترك فى الحرب ؟!

قال أخيش لداود : " أعلم يقينا أنك ستخرج معى فى الجيش أنت ورجالك " 1 صم 28 : 1 . لقد حسب أخيش هذا الأمر لا يحتاج إلى نقاش ، كما حسبه كرامة له أن يحارب داود ورجاله ضد بلادهم وشعبهم .

لم يعط داود وعدا صريحا وإنما قال فى لبس :

" أنت ستعلم ما يفعل عبدك " ؛ وإذ فهم أخيش من الأجابة أن طلبه أمر لا يحتاج إلى نقاش سر بداود جدا مظهرا ثقته فى إخلاصه وفى قدرته فى الحرب فوعده بتعيينه قائدا لحرسه الخاص :

 " حارسا لرأسى كل الأيام " 1 صم 28 : 2 .  

( 2 ) التجاء شاول إلى صاحبة جان

الآن ما هو موقف شاول تجاه جيش الأعداء الذى يجتمع لمحاربته بينما فارق روح الرب شاول ، ومات صموئيل النبى ، وهرب منه داود بسبب مضايقاته له ؟

يكرر السفر حادثة موت صموئيل هنا فى إيجاز لا للحديث عنها ولكن لأيضاح تصرفات شاول القادمة . " ومات صموئيل وندبه كل إسرائيل ودفنوه فى الرامة فى مدينته ؛ وكان شاول قد نفى أصحاب الجان والتوابع من الأرض " 1 صم 28 : 3 .

من الأعمال الحسنة التى قام بها شاول – غالبا بإرشاد صموئيل النبى – مقاومته لأعمال السحر والشعوذة لذا نفى أصحاب الجان ، لقد حرمت الشريعة السحر والشعوذة بكل أنواعها لأنها تعنى التجاء اإنسان إلى الشر كمرشد له وسند يعينه عوض الألتجاء إلى الله والأتكال عليه .

" اجتمع الفلسطينيون وجاءوا ونزلوا فى شونم وجمع شاول جميع إسرائيل ونزل فى جلبوع " 1 صم 28 : 4

لما " رأى شاول جيش الفلسطينيين خاف واضطرب قلبه جدا " 1 صم 28 : 5 ، أما سر خوفه الحقيقى فهو تخلى الله عنه لأنه عصاه وأصر على العصيان ؛ على خلاف داود النبى الذى لم يخش جيشا ما إذ يقول :

" الرب نورى وخلاصى ممن أخاف ؛ إن نزل على جيش لا يخاف قلبى " مز 27 : 1 .

بسبب شره فقد شاول كل إمكانية للنصرة ، فقد أعلن الرب أنه رفضه ، ومات صموئيل غاضبا على تصرفاته ، وفارقه داود تاركا له البلاد ، وقتل كهنة نوب ... الخ لهذا عندما سأل الرب بخصوص الحرب لم يجبه لا بالأحلام ( عد 12 : 6 ) ولا بالأوريم ولا بالأنبياء .

نحن نعلم أن أبيأثار الكاهن سبق أن هرب من نوب والتجأ إلى داود وبيده الأفود ( 1 صم 23 : 6 ) ، لذلك يبدو أن شاول أقام كاهنا آخر وعمل أفودا أخرى ...

أسودت الحياة فى وجه شاول وبدأ يفكر فى إمرأة صاحبة جان ؛ فأهان الله إذ أقام هذه المرأة الكاذبة الجاهلة موضع الله .

عجبا ! ملك إسرائيل يطلب من عبيده أن يبحثوا له عن إمرأة صاحبة جان لتكون له مشيرة فى أمر مصيرى يمس حياته وحياة الشعب كله ! أية غباوة هذه !

لقد أخبروه عن وجود صاحبة جان فى عين دور ، تبعد حوالى 10 أميال من جلبوع على الجانب الشمالى من جبل دوحى .

شاول الذى قطع أصحاب الجان والتوابع من الأرض ( 1 صم 28 : 9 ) تنكر وذهب إلى صاحبة جان لتصعد له صموئيل يستشيره بعد أن أقسم لها أنه لن يلحقها إثم فى هذا الأمر ، هكذا انحرف شاول من ضعف إلى آخر حتى ارتكب هذا الشر الخطير ، لهذا يحذرنا الآباء من فتح الباب للخطايا التى تبدو تافهة والتى تقودنا تدريجيا إلى ما كنا نظن أننا لن نرتكبه .  

ما هو رأى الآباء فى الروح الذى ظهر لشاول ؟

+ يرى القديس هيبوليتس أن شاول لم ير صموئيل ، إنما كان ذلك خداعا ، أما ما أنبأ به الشيطان فهو نتيجة طبيعية ( هزيمة شاول ) لغضب الله عليه ، وكأنه بشخص ليست له معرفة بعلم الطب رأى المريض فى حالة خطيرة فأنبأه بموته . هكذا عرف الشيطان غضب الله على شاول من تصرفات شاول نفسه مقدما له المشورة خلال الجان ، مخبرا إياه بهزيمته وموته ، لكنه أخطأ فى تحديد يوم موته .

+ العلامة ترتليان يقول : استشار شاول الميت بعد فقدانه الله الحى ، حاشا لنا أن نظن أن نفس أى قديس – بالأكثر نفس نبى – تستدعى من مكان الأنتظار بواسطة شيطان ! إننا نعلم أن الشيطان نفسه يغير شكله إلى ملاك نور " 2 كو 11 : 14 ، فبالأكثر إلى رجل نور ، بل وسيظهر نفسه فى النهاية أنه هو الله ( 2 تس 2 : 4 ) ويعطى آيات وعجائب " حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضا " مت 24 : 24 .

لقد ظهر ضعف شاول الشديد وانهياره إذ :

( أ ) خاف واضطرب قلبه عندما رأى جيش الفلسطينيين .

( ب ) انهار أمام عبيده الذين يعلمون أنه سبق أن نفى أصحاب الجان ...

( جـ ) خاف لئلا تخشاه المرأة فتنكر ولبس ثيابا أخرى ( 1 صم 28 : 8 ) ؛ صورة مخزية .

( د ) غالبا ما عرفته المرأة بسبب طول قامته عن كل الشعب ، فتظاهرت بعدم ممارستها هذه الأمور ، أما هو فبجهل حلف بالرب أنه لن يؤذيها .

( ذ ) ظهر الشيطان فى شكل صموئيل النبى مغطى بجبة فصرخت المرأة توبخ شاول : " لماذا خدعتنى وأنت شاول " 1 صم 28 : 12 . أما هو فلم يرتدع بل كمل هذا الطريق الشرير ؛ دخل فى حوار مع الروح الظاهر له والمتحدث بأسم صموئيل ، فخر شاول على وجهه إلى الأرض وسجد ، وبعد الحوار سقط على الأرض بطوله وخاف جدا ... إنها سلسلة من الأنهيارات والمتاعب عاشها شاول فى آخر حياته .

( ز ) أشفقت عليه المرأة صاحبة الجان بسبب انهياره الشديد وهو ملكها وقدمت له أفضل ما عندها طعاما بعد إلحاحها هى وعبديه .

ما أبعد الفارق بين مواجهة شاول الملك للموت إذ ختم حياته بصورة مخزية بعصيانه الرب حتى آخر أيام حياته ، ومواجهة بولس الرسول له ، إذ يقول : " وقت انحلالى قد حضر ، قد جاهدت الجهاد الحسن ، أكملت السعى ، حفظت الأيمان ، وأخيرا قد وضع لى إكليل البر " 2 تى 4 : 6 – 8 .

الإنسان الفاسد داخليا يجمع لنفسه مرارة من يوم إلى يوم حتى اللحظات الأخيرة من حياته ، أما الروحى فيخزن فى أعماقه أمجادا متلاحقة تملأ أعماقه فرحا حتى نهاية حياته على الأرض ، ومع هذا فإن الله لا يغلق الباب أمام الأول طالبا توبته ولو فى النفس الأخير كما حدث مع اللص اليمين ، ولا يليق بالآخر أن يتهاون لئلا يسقط .

+  +  +

الأصحاح التاسع والعشرون

عدم اشتراك داود فى الحرب

كان داود بلا شك فى مأزق ، تظاهر بالخروج مع الأعداء الساكن فى وسطهم لمحاربة شعبه ، أما قلبه فكان محطما ، أعلن أقطاب الفلسطينيين لأخيش عدم ثقتهم فى داود ، وكانت هذه الأهانة ملجأ داخليا لداود ، إذ قال : " انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين ، الفخ انكسر ونحن انفلتنا " مز 124 : 7

( 1 ) رفض اشتراك داود

تحرك جيش الفلسطينيين من شونم نحو الجنوب إلى أفيق بالقرب من معسكر الأسرائيليين الذين كانوا قد انتقلوا إلى يزرعيل بالقرب من جبل جلبوع ، عند عين هناك ، التى نزل إليها جدعون ( قض 7 : 1 ) .

وجاء داود ورجاله مع أخيش فى مؤخرة جيش الفلسطينيين ، أما قلب داود فكان يحترق من جهة موقفه الحرج ، فهو لا يستطيع أن يهرب برجاله عندما تدور المعركة فيحسبه أخيش خائنا ، إذ استضافه فى بلاده وأعطاه كل إمكانية للعمل بحرية ، وإن دخل المعركة مع الفلسطينيين يشعر بخيانته لوطنه وشعبه . ماذا يحدث لو قتل شاول ؟ أما ينظر الشعب إلى أن داود المتحالف مع الأعداء هو القاتل ؟

كانت التجربة قاسية للغاية ، لكن كما قيل : " الله أمين لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضا المنفذ " ( 1 كو 10 : 13 ) 

( 2 ) أخيش يعتذر لداود

عبر أقطاب الفلسطينيين ، أى عظماء المدن الكبرى إلى أخيش يطالبونه برجوع داود إلى موضعه فى صقلغ وألا ينزل معهم إلى الحرب لئلا ينقلب عليهم أثناء المعركة ، قائلين له :

" ارجع الرجل فيرجع إلى موضعه الذى عينت له ، ولا ينزل معنا إلى الحرب ، ولا يكون لنا عدوا فى الحرب .

فبماذا يرضى هذا سيده ؟ أليس برؤوس أولئك الرجال ؟ !

أليس هذا هو داود الذى غنين له بالرقص قائلات : ضرب شاول ألوفه وداود ربواته ؟ 1صم 29 : 4 ، 5 .

كان أخيش يحب داود جدا ويثق به فدافع عنه أمام الأقطاب لكنه كان واحدا بين الخمسة لذا خضع لهم ، لذا خضع لهم ، لذا اعتذر لداود طالبا منه أن يرجع بعد أن أقسم بالرب أنه يعلم باستقامته  وأنه يشتاق أن يشترك معه فى الحرب ، وأنه يتطلع إليه كملاك الله .

حقا ، ما أعظم شهادة الخارجين عن نقاوة قلب الأنسان وصلاحه ! فإن الحياة الصالحة لا يمكن أن تختفى أو تنكر !

لقد طلب أخيش من داود أن يرجع مع رجاله بسرعة حتى تبدأ المعركة : " بكر صباحا مع عبيد سيدك " دعاهم عبيد شاول ، لأن داود ورجاله لم يغيروا جنسيتهم .

لقد وجد داود الحل للمأزق الذى عاش فيه ورجع إلى صقلغ ، لكن نفسه مرة من أجل شعبه . 

+  +  +

الأصحاح الثلاثون

حرق صقلغ

استغل عماليق خروج داود ورجاله من صقلغ للأشتراك فى الحرب وبسرعة فائقة غزوا منطقة الجنوب وضربوا صقلغ للأشتراك فى الحرب وبسرعة فائقة غزوا منطقة الجنوب وضربوا صقلغ وأحرقوها بالنار وسبوا النساء اللواتى فيها ، من بينهن أخينوعم اليزرعيلية وأبيجايل ، إذ رجع داود استشار الرب ، وعوض اليأس ، انطلق برجاله ليرد النساء وغنائم كثيرة ، قدم منها إلى شيوخ يهوذا أصحابه . 

( 1 ) حرق صقلغ

إذ فارق داود ورجاله جيش الفلسطينيين عادوا إلى صقلغ فى اليوم الثالث ليجدوا العمالقة قد غزوا الجنوب أى ما بين جبال يهوذا والقفر كما غزوا صقلغ التى أحرقوها بالنار بعد أن سبوا النساء ، والأطفال كعبيد . رفع داود ورجاله أصواتهم وبكوا بمرارة حتى لم تبق لهم قوة للبكاء .

تضايق داود جدا فقد سبيت أمرأتان أخينوعم اليزرعيلية وأبيجابل امرأة نابال الكرملى ، كما سبيت كل نساء رجاله مع الأطفال ، هذا وقد فكر الرجال فى رجمه لأنه أخذهم جميعا ولم يترك أحدا لحراسة المدينة .

( 2 ) نصرة داود

لم يستسلم داود للبكاء ولا تحطم باليأس إنما تشدد بالرب إلهه ( 1 صم 30 : 6 ) ، إذ يقول فى مزاميره :

" أحبك يارب يا قوتى ،

الرب صخرتى ،  وحصنى ، ومنقذى ،

إلهى صخرتى به أحتمى ،

أكتنفتنى حبال الموت ، وسيول الهلاك أفزعتنى .

حبال الهاوية حاقت بى ، أشراك الموت أنتشبت بى .

فى ضيقتى دعوت الرب وإلى إلهى صرخت ،

فسمع من هيكله صوتى وصراخى قدام أذنيه ،

............... " مز 18 : 1 – 21 .

" انتظر الرب ، ليتشدد الرب ، ليتشدد وليتشجع قلبك وانتظر الرب "

 مز 27 : 14 .

" عليك يارب توكلت ، لا تدعنى أخزى مدى الدهر ، بعدلك نجنى "

 مز 31 : 1 .

استشار داود النبى الله ، فجاءت الأجابة الإلهية بالأيجاب أخذ ستمائة رجل وجاءوا إلى وادى البسور ، جنوب صقلغ وأرض يهوذا ، ربما هو وادى الشريعة .

بالرغم من كون الستمائة رجل أقوياء وجبابرة حرب لكن مائتين منهم أعيوا فلم يقدروا أن يعبروا النهر بل انتظروا مع الأمتعة ، وعبر داود مع الأربعمائة رجل .

ويبدو أن داود أمرهم بعدم العبور بسبب إعيائهم ، ولم يتوقفوا عن خوف أو عصيان ، إذ قيل " أرجعوهم فى وادى البسور " 1 صم 30 : 21 .

التقوا مع رجل مصرى فى حالة إعياء شديد من الجوع والعطش ، تركه سيده العماليقى ، طلب داود من المصرى أن ينزل به إلى الغزاة فوافق بعد أن طلب حماية حياته ، نزل المصرى بداود ورجاله إلى العمالقة فوجدهم منشرين على كل وجه الأرض يأكلون ويشربون ويرقصون بسبب الغنيمة العظيمة التى جمعوها من أرض الفلسطينيين ومن أرض يهوذا ، كانوا فى حالة لهو وعدم اكتراث إذ يعلمون أن الطرفين [ الفلسطينيون وإسرائيل ] فى حالة حرب لن يلحقوا بهم هكذا بهذه السرعة .

كانت ضربة داود للعمالقة قوية لم ينج منهم سوى أربعمائة غلام ركبوا الجمال وهربوا ، أما داود فأنقذ امرأتيه وكل النساء والأطفال واسترد الغنيمة دون أن يفقد رجلا واحدا فى القتال ، عاد الكل فرحا ، يسوقون غنيمة ضخمة دعوها غنيمة داود ( 1 صم 30 : 20 ) .  

( 3 ) اقتسام الغنيمة مع المتخلفين

ما أرق قلب داود ، فقد غلب برجاله القليلين العمالقة بجبروتهم وكثرة عددهم ، هذه النصرة لم تشغله عن السؤال عن الرجال الذين أوقفهم بسبب الأعياء ، إذ " تقدم داود إلى القوم وسأل عن سلامتهم " 1 صم 30 : 21 .

كثيرا ما تشلنا النصرة عن إخواننا خاصة الضعفاء أو المحتاجين أو المتضايقين ، أما داود فقائد روحى حق ، ينشغل بكل أحد ، ويهتم بالكل .

طلب بعض الأشرار من المحاربين ألا يشترك المائتان رجل فى الغنيمة ، يكفيهم أن يستلموا نساءهم وبنيهم ، أما داود فأصر أن يشترك من بقى مع الأمتعة مع المحاربين فى الغنيمة ، كما تقضى الشريعة ( عد 31 : 25 – 27 ) . تحدث حتى مع القساة الأشرار بالوداعة ورقة مع حكمة حتى لا يسبب انقساما . لم يستخدم أسلوب الأمر كقائد ناجح بل أسلوب الحب كأخ ، إذ يقول : " لا تفعلوا هكذا يا أخوتى ، لأن الرب قد أعطانا وحفظنا ودفع ليدنا الغزاة الذين جاءوا علينا ، ومن يسمع لكم فى هذا الأمر ؟! لأنه كنصيب النازل إلى الحرب نصيب الذى يقيم عند الأمتعة ، فإنهم يقتسمون بالسوية " 1 صم 30 : 23 ، 24 .

وأظهر محبة لجميع رجاله ، كما نسب النجاح لله الذى قدم لهم هبة مجانية لهذا لاق بهم أن يقدموا لإخوتهم أيضا من ذات الهبة التى لا فضل لهم فيها .

اشتراك الذين بقوا مع الغنيمة مع الذين عبروا النهر مع داود لمحاربة عماليق إنما هو اشتراك لرجال العهد القديم الذين أعيوا تحت ثقل الناموس مع رجال العهد الجديد الذين عبروا بالمعمودية – نهر الأردن – إلى معركة الصليب ونالوا كل نصرة بأبن داود الغالب .  

( 4 ) إرسال غنيمة إلى شيوخ يهوذا

 اتسم داود بسعة الصدر والقلب والكرم ، لذا فكر فى إخوته وأصدقائه شيوخ يهوذا ليشاركوه فى الغنيمة ، قائلا لهم :

" هذه لكم بركة من غنيمة أعداء الرب " 1 صم 30 : 26 .

أرسل إلى شيوخ مدن كثيرة بلا حصر مما يكشف عن وفرة الغنيمة جدا ، أرسلها كبركة أى هدية ليس من قبله بل قبل الرب واهب الغلبة والنصرة والمعطى الجميع بسخاء ، وكأن داود قد حارب لا لحساب نفسه ورجاله ، إنما حارب حروب الرب لحساب كل الشعب .

+  +  +

 الأصحاح الحادى والثلاثون

موت شاول وبنيه

باطلا حاول شاول أن يقتل داود ، وإذ ترك داود الأمر لله ، سقط شاول وبنوه وحامل سلاحه فى يوم واحد دون أن تمتد يد داود إليه بالأساءة ، ولا حمل قلبه ضغينة أو تشفيا بل كل حب ( 2 صم 1 ) ، إذ حزن عليه جدا ورثى داود شاول ويوناثان بمرارة يمدحهما ويمجدهما . 

( 1 ) قتل أبناء شاول

بعدما تحدث الوحى عن نجاح داود فى الهجوم على العمالقة ورد المسبيين مع غنائم كثيرة قام بتوزيعها على كثيرين عاد إلى الحرب القائمة بين إسرائيل والفلسطينيين فى جبل جلبوع ويزرعيل .

ضرب الفلسطينيون أبناء شاول الثلاثة : يوناثان وأبيناداب وملكيشوع ( 1 صم 31 : 2 ) .

لقد خابت كل حسابات شاول البشرية وتحققت حسابات داود اإيمانية ، بحسب حسابات شاول كان لا بد لداود أن يقتل حتى لا يغتصب المملكة بعد موته من ابنه يوناثان ( 1 صم 20 : 31 ) ، وها هو يوناثان الجبار وأخواه يموتان أمام عينى شاول بينما حفظ داود بعيدا ليستلم الملك ، طرد شاول داود من وطنه خلال حسده الشرير ولم يدرك أنه بهذا حفظه بعيدا حتى يموت هو وبنوه لينال داود الملك من بعده

أما حسابات داود الأيمانية فهى أنه لا يمد يده على مسيح الرب ، وإنما كما قال :

" الرب سوف يضربه أو يأتى يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك " 1 صم 26 : 10 . وقد جاء اليوم الذى ضربه الرب ضربة قاضية ، جاء يوم ليموت وقد نزل إلى الحرب وهلك بيد أعدائه الذين ضربوه بالرمح كما قتل نفسه إذ أمسك بسيفه وألقى بنفسه ... ليتنا نترك أمورنا فى يد الله مؤمنين بعمله معنا !

( 2 ) إصابة شاول وموته

ركز الفلسطينيون ضرباتهم على الملك شاول ( 1 صم 31 : 3 ) حتى متى سقط يسقط الجيش كله ( 1 مل 22 : 31 ) . ضربه الرماة بالرماح فانجرح ، وإذ شعر بالخطر طلب من حامل سلاحه أن يقتله بالسيف حتى لا يطعنه الغلف ويقبحونه

 [ ربما خشى أن يهزأوا به كما فعلوا بشمشون إذ قلعوا عينيه وأوثقوه بسلاسل ...... قض 16 : 21 ، 25 ] . إذ خاف حامل السلاح جدا واختشى من سيده ، أخذ شاول السيف وسقط عليه ، ولما رأى حامل السلاح ذلك سقط هو أيضا على سلاحه  ومات . بحسب التقليد اليهودى حامل السلاح هو دواغ الذى قتل كهنة نوب ( 1 صم 22 : 18 ، 19 ) .

مات شاول وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله ( 1 صم 31 : 6 ) أى حرسه الخاص ، أما ابنه اشبوشت العاجز عن العمل ورئيس جيشه أبنير فلم يموتا .... الأمر الذى سبب هزيمة مرة لإسرائيل ، فترك الإسرائيليون الذين فى عبر الوادى [ شمال وادى يزرعيل أى أسباط نفتالى وزبولون ويساكر ] وفى عبر الأردن [ أى شرقى الأردن ] المدن ، فجاء الفلسطينيون وسكنوها .

( 3 ) سكان يابيش يأخذون أجساد شاول وبنيه

جاء الفلسطينيون إلى أرض المعركة لسلب الثياب الثمينة والأسلحة ، فوجدوا شاول وبنيه ساقطين فى جبل جلبوع ، فقطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وبعثوا رسلا إلى كل بلادهم يبشرون بموته ، ناسبين النصرة لأصنامهم ، لذا وضعوا سلاحه فى بيت عشتاروت .

سمر الفلسطينيون جسد شاول وبنيه على سور بيت شأن ، رد أهل يايبش جلعاد الجميل لشاول الذى أنقذهم من يد ناحاش العمونى حين طلب منهم ناحاش أن يقطع لهم عهدا ويستعبدهم بشرط تقوير كل عين يمنى لهم ليكون ذلك عارا لهم ( 11 : 1 ، 2 ) . لم يتركوا جسده وأجساد بنيه معلقة على سور بيت شأن فى مهانة ، إنما قام كل ذى بأس وساروا الليل كله حتى جاءوا بالأجساد ودفنوها فى يابيش تحت الأثلة ، وصاموا سبعة أيام .

عودة الى الرئيسية