نشيد الأناشيد

( مقتطفات ) من تفسير وتأملات الآباء الأولين

للقمص تادرس يعقوب ملطى

____________________________________________        

مقدمة

تسلمت الكنيسة المسيحية من يدى الكنيسة اليهودية هذا السفر ضمن أسفار العهد القديم ، وقد احتل هذا السفر مركزا خاصا بين الأسفار لما يحمله من أسلوب رمزى يعلن عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته ، أو بين الله والنفس البشرية كعضو فى الكنيسة .

ربما يتسآل البعض : لماذا استخدم الوحى هذا الأسلوب الرمزى الغزلى فى التعبير عن الحب المتبادل بين الله وكنيسته ؟

( 1 ) اعتاد الله أن يتحدث معنا خلال الوحى بذات الأسلوب الذى نتعامل به فى حياتنا البشرية ، فهو لا يحدثنا فقط باللغات البشرية بل ويستخدم أيضا تعبيراتنا ، حتى لا يكون الوحى غريبا عنا .

نذكر على سبيل المثال أن الوحى يتحدث عن الله بأنه حزن ، وغضب ، أو ندم ، .... مع أن الله كلى الحب لن يحزن لأنه لا يتألم ، ولا يغضب إذ هو محب ، ولا يندم لأن المستقبل حاضر أمامه وليس شىء مخفى عنه . لكنه متى تحدث الكتاب عن غضب الله إنما يود أن يعلن لنا أننا فى سقطاتنا نلقى بأنفسنا تحت عدل الله ، وما يعلنه الوحى كغضب إلهى إنما هو ثمر طبيعى لخطايانا ، نتيجة هروبنا من دائرة محبته .

وعندما يتحدث الكتاب المقدس عن كرسى الله أو عرشه ، فهل أقام الله له كرسيا أو عرشا محدودا يجلس عليه ؟ ألم تكتب هذه كلها لكى نتفهم ملكوت الله ومجده وبهاءه حسب لغتنا وتعبيراتنا البشرية ؟!

على نفس النمط يحدثنا الوحى عن أعمق ما فى حياتنا الروحية ، ألا وهو اتحادنا بالله خلال الحب الروحى السرى ، فيستعير ألفاظنا البشرية فى دلائل الحب بين العروسين ، لا لتفهم علاقتنا به على مستوى الحب الجسدانى ، وإنما كرموز تحمل فى أعماقها أسرار حب لا ينطق به .

( 2 ) هذا المفهوم للحب الإلهى كحب زوجى روحى يربط النفس بالله ليس غريبا عن الكتاب المقدس ، فقد استخدمه أنبياء العهد القديم كما استخدمه رجال العهد الجديد أيضا ، كما سنرى ذلك عند حديثنا عن " العرس السماوى " .

( 3 ) عبارات هذا السفر لا يمكن أن تنطبق على الحب الجسدانى ، ولا تتفق مع القائلين أنه نشيد تغنى به سليمان حين تزوج بأبنة فرعون أو ما يشبه ذلك ، نذكر على سبيل المثال : " ليقبلنى بقبلات فمه ، لأن حبك أطيب من الخمر " ( 1 : 1 ) ... هكذا تناجى العروس عريسها ، لكنها تطلب قبلات آخر " فمه " ..... مع أنها تعلن له " حبك " أطيب من الخمر ، كيف يمكن لعروس أن تطلب من عريسها أن يقبلها آخر بينما تستعذب حب العريس نفسه ؟ يستحيل أن ينطبق هذا على الحب الجسدانى ، لكنه هو مناجاة الكنيسة للسيد المسيح عريسها ، فتطلب قبلات فم الآب ، أى تدابيره الخلاصية . والتى تحققت خلال حب الأبن العملى ، كقول الكتاب : " الأبن الوحيد الذى فى حضن الآب هو خبر " ...

كاتب السفر :

كتب هذا السفر سليمان الحكيم ، الذى وضع أناشيد كثيرة ( 1 مل 4 : 32 ) .

وقد لقب " نشيد الأناشيد " ، وذلك لأن تكرار كلمة " نشيد " تشير إلى أفضليته على غيره من الأناشيد ، كالقول : " ملك الملوك " ، و " رب الأرباب " و " قدس الأقداس " .....

سمات السفر :

إن كان سليمان قد كتب سفر الجامعة مدركا حقيقة الحياة الأرضية أنها " باطل الأباطيل " فإنه إذ تلامس مع الحياة السماوية وجدها " نشيد الأناشيد " .

فى سفر الجامعة يعلن الحكيم أنه لا شبع للنفس خلال كثرة المعرفة ، أما فى سفر نشيد الأناشيد فتشبع النفس وتستريح تماما بالحب الإلهى ، ولا تكون بعد فى عوز .

فى سفر الجامعة يتحدث عن كل ما هو تحت الشمس وإذا ليس فيه جديد ، أما فى النشيد فإذ تدخل النفس إلى أحضان الله ترى كل شىء جديدا .

كان هذا السفر يقرأ فى اليوم الثامن من الأحتفال بعيد الفصح عند اليهود ، بكونه نشيد الحب الأبدى المقدم لله ، أو الذى يربط الله بالمؤمنين الذين ينعمون بالخلاص خلال الدم ، فاليوم الثامن يشير إلى ما بعد أيام الأسبوع ( 7 أيام ) ، أى يشير إلى الحياة الجديدة ، أو الحياة الأخرى التى تنعم بها خلال المسيح فصحنا الحقيقى ، وكأن النشيد يحمل نبوة عن الفصح الحقيقى الذى ينقذنا من الموت ويدخل بنا إلى حجاله " سماء السموات " ، عروسا عفيفة ، متحدة به اتحادا أبديا .

سفر نشيد الأناشيد فى الحقيقة هو سيمفونية رائعة ، تطرب بها النفس المنطلقة من عبودية هذا العالم ، متحررة من سلطان فرعون الحقيقى " الشيطان " ، متكئة على صدر ربها ، تدخل أورشليم السمائية فى حرية مجد أولاد الله ، لهذا لا يتحدث هذا السفر عن وصايا أو تعاليم ، بل عن سر الحب الأبدى والحياة مع العريس السماوى .... هو سيمفونية القلب المتحد مع مخلصه ! هو نشيد فريد من نوعه وفى معانيه ، يترنم به من تقدس بدم الحمل ، داخلا بدالة الحب إلى قدس الأقداس السمائى بغير كلفة أو روتين أو رسميات ... حتى يستقر فى حضن الآب ، مرتفعا فوق كل فكر مادى جسدانى إلى الفكر الروحى الحق ، كما يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص : " نشيد الأناشيد فى الحقيقة هو أغنية الحب الإلهى ، مسجلة برموز غزلية ، تحمل معان سماوية ، أكثر عمقا مما يحمله ظاهرها ، يترنم بها الناضجون روحيا ، الذين عبروا اهتمامات العالم والجسد وانطلقوا سالكين بالروح ، لذلك يسميه العلامة أوريجانوس " سفر البالغين " .

وأخطر ما نخشاه أن يجد الجسدانيون الأرضيون سبيلا إلى هذا السفر ! أنها مجازفة قاتلة للجسدانى الذى لا عهد له أن يسمع أو يتعامل بلغة الحب فى طهارة .... ونصيحتى لكل انسان مازال فى ظلمة الجسد وتتحكم فيه الطبائع البشرية أن يبتعد عن قراءة هذا السفر .

سفر العرس السماوى :  

سفر نشيد الأناشيد هو سفر العرس السماوى ، فيه تتحقق إرادة الله الأزلية نحو الأنسان ، ... هو نبوة لسر الزفاف الأسخاتولوجى ( الآخروى ) ، فيه تزف الكنيسة الواحدة ، الممتدة من آدم إلى آخر الدهور ، عروسا مقدسة .

هذا العرس تطلع إليه يوحنا المعمدان حين قال : " من له العروس فهو العريس " ( يو 3 : 19 ) ، وهو غاية كرازة الرسل ، إذ يقول الرسول " فإنى أغار عليكم غيرة الله ، لأنى خطبتكم لرجل واحد ، لأقدم عذراء عفيفة للمسيح " ( 2 كو 11 : 2 ) ، " هذا السر عظيم ، ولكننى أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة " .

المسيح فى سفر النشيد : 

يليق بنا فى دراستنا للكتاب المقدس بوجه عام ، ولهذا السفر بوجه خاص ألا نقف عند الحرف واللفظ ، بل ندخل إلى الأعماق ، لنلتقى مع الله الكلمة نفسه ، نرى يسوعنا واضحا ، حيا ، يريد الأتحاد بنا لنعيش به ومعه إلى الأبد .

يليق بنا فى دراسة الكتاب المقدس ألا نقف عند مادة الألوان ، بل ننظر شكل الملك الذى تعبر عنه مفاهيم الذهن الطاهرة خلال الكلمات ، فالألوان هنا هى الكلمات الحاملة لمعان غامضة مثل ( ما جاء فى هذا السفر من كلمات ) : " الفم ، القبلات ، المر ، الخمر ، ... وما أشبه ذلك " أما الشكل الذى عبرت عنه هذه الكلمات فهو : هالة الكمال والطوباوية ، الأتحاد مع الله ، عقال الشر ، المجازاة عما هو بحق صالح وجميل " .

شخصيات السفر : 

العريس : هو السيد المسيح الذى يخطب الكنيسة عروسا مقدسة له ( أف 5 : 27 ) .

العروس : وهى الكنيسة الجامعة ، أو المؤمن كعضو حى فيها ، وتسمى " شولميث " .

العذارى : فى رأى العلامة أوريجانوس هم المؤمنون الذين لم يبلغوا بعد العمق الروحى ، لكنهم أحرزوا بعض التقدم فى طريق الخلاص .

بنات أورشليم : ويمثلن الأمة اليهودية التى كان يليق بها أن تكرز بالمسيا المخلص .

أصدقاء العريس وهم الملائكة الذين بلغوا الأنسان الكامل ( أف 4 : 13 ) .

الأخت الصغيرة : وهى تمثل البشرية المحتاجة من يخدمها ويرعاها فى المسيح يسوع .

والآن هلموا نقترب من سفر الأسرار الكنسية ، سفر البتولية ، سفر الحب الروحى بين العريس وعروسه الكنيسة . 

الأصحاح الأول

ماذا رأت الكنيسة فى " المسيا " عريسها ؟ لقد رأته :

1-     المسيا المتألم

2-     المسيا الراعى

3-     المسيا الملك

4-     المسيا الحبيب

أولا : المسيا المتألم :

" ليقبلنى بقبلات فمه ، لأن حبك أطيب من الخمر ، لرائحة أدهانك الطيبة ، أسمك دهن مهراق ، لذلك أحبتك العذارى " ( نش 1 : 2 ، 3 ) .

أنه صوت الكنيسة الجامعة وقد رفعت أنظارها إلى الصليب ، فأشتمت رائحته الطيبة ، ورأت أسمه مهرقا من أجلها ، فوجدت لذة فى حبه ، لهذا أخذت تناجيه قائلة : " ليقبلنى بقبلات فمه " : انها تطلب قبلات الآب ، حقا لقد قبلها الله بقبلات كثيرة على مر العصور ، أعلن حبه لها فخلق العالم كله من أجلها . وأعطاها صورته ومثاله ، بعد السقوط لم يتركها بل وعدها بالخلاص ، ووهبها الناموس المكتوب عونا ، وأرسل لها الأنبياء يؤكدون خلاصها ... لكن هذا كله لم يشبع العروس ، اعتبرت كل ذلك هدايا مقبولة تسر بها ، ولكنها تطلبه هو !

فى العهد القديم تمتعت العروس بصحبة الملائكة والأباء والأنبياء ، كانت العروس فى طريق النمو ، تسير نحو النضوج لترى ( الكنيسة )  عريسها قادما إليها على جبال الناموس وتلال النبوات فألتهب قلبها بالحب نحوه ، قائلة : " ليأت وينزل إلى ويقبلنى بنفسه على الصليب  ، ليضمنى إليه بالحب العملى فأتحد معه " .

" لأن حبك أطيب من الخمر " ... كان الخمر يقدم للضيوف ، خاصة فى الأعياد ، علامة الفرح ، كما كان يقدم عند تقديم الذبائح ، ( خر 29 : 40 ، لا 23 : 13 ، عد 15 : 5 ) ، أما حب السيد المسيح ففريد ، يهب فرحا لا يستطيع العالم أن ينزعه !

أشعياء النبى رأى السيد المسيح – العريس المحب – عظيما فى القوة ، بهيا ، يجتاز المعصرة بثياب محمرة من أجل خلاص عروسه .... فتساءل قائلا : " من ذا الآتى من أدوم بثياب حمر من بصرة ؟ ! هذا البهى بملابسه ، المتعظم بكثرة قوته ؟ ! أنا المتكلم بالبر ، العظيم للخلاص . ما بال لباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة ( معصرة الخمر ) ! قد دست المعصرة وحدى ، ومن الشعوب لم يكن معى أحد ! ( أش 63 : 1 – 4 ) .

هذا هو الحب الفريد الأطيب من الخمر ... فقد اجتاز الرب المعصرة وحده ، لا ليقدم لنا خمرا أرضيا بل يقدم دمه المبذول عنا ، سر حياتنا وقوتنا وخلاصنا .

لا عجب أن يبدأ السيد خدمته فى عرس قانا الجليل ، محولا الماء إلى خمر ، لا ليسكروا ولكن أفاقهم من السكر ، وهبهم الخمر الجديد علامة حبه واهب الفرح والقوة . 

" لرائحة أدهانك الطيبة ، أسمك دهن مهراق ، لذلك أحبتك العذارى ، اجذبنى وراءك فنجرى ، أدخلنى الملك إلى حجاله ، نبتهج ونفرح بك ، نذكر حبك أكثر من الخمر " ( نش 1 : 2 – 4 ) على الصليب سكب الرب كمال حبه فأفاح برائحته الطيبة فى المسكونة كلها ، وظهر اسمه فى الأرض كلها .

فاحت رائحة طيبة ، فأدركت الكنيسة أنه بعينه الممسوح بالدهن من قبل الأب لخلاصنا ، الذى شهد له النبى : " أحببت الحق وأبغضت الأثم ، من أجل ذلك مسحك الله بدهن الأبتهاج أكثر من رفقائك " مز 44 .....

فى العهد القديم ، مسح يعقوب الحجر الذى كان تحت رأسه وأقامه ليكون عمودا فى بيت الرب ( تك 28 ) – كعلامة انفتاح السماء على الأرض ..

حين نتحدث عن " خدمة الرب " نقصد " خدمة الرب وسط شعبه " أو الدخول بالأنسان إلى حضرة الرب ، ... لهذا حين نتحدث عن العريس " كلمة الله " كممسوح نرى فيه تحقيق المسحة فى أكمل صورها ، إذ حملنا فيه ودخل بنا إلى الأتحاد مع الله ... هذا هو عمل المخلص ، إذ يقول " من أجلهم أقدس ذاتى " ( أى كرس عمله من أجلنا ) . لكى يكونوا هم أيضا مقدسين فى الحق .

على الصليب أهرق هذا الدهن الطيب ، ودخل به القبر حتى يتنسم الأموات رائحة الطيب عوض الفساد الذى لحق بهم ، وبقيامته قدم للعالم هذا الدهن المهرق الطيب . هذا هو ما يختبره المؤمن حيث يدفن مع المسيح فى المعمودية ويقوم فيشتم رائحة ثياب الرب ، ويتنسم اسمه المهرق على الصليب ، وينهل من رائحة القيامة .

إذ اشتمت البشرية رائحة اسمه المهرق انجذبت إليه بقلوب عذراوية لا تريد أن تنشغل بآخر غيره ، وأنسابت أفكارها نحوه فى عذراوية لا تريد أن تفكر فى اهتمامات الحياة أو اغراءاتها ، وانطلقت أحاسيسها وعواطفها وكل طاقاتها الداخلية نحوه ... قائلة : " لذلك أحبتك العذارى " .

فى جرينا نطلب العريس نجتذب معنا كثيرين يجرون إليه بفرح ، لهذا تاجيه النفس البشرية : " اجذبنى ورائك فنجرى ، ......... نبتهج ونفرح بك ، ....... " هذا هو سر الصليب وفاعليته ، أنه يحمل قوة الشهادة والجاذبية ، وسر البهجة والفرح .

انجذب زكا العشار وراء المسيح ، فجمع الخطاة والعشارين ليلتقوا بالرب ويفرحوا به ، وإذ جلست المرأة السامرية معه نادت أهل المدينة ليجالسوه وينعموا بحديثه الفعال .

طلبت النفس يد العريس السماوى قائلة : " اجذبنى " ، لكى يسنده ويمسك بها ويدخل بها إلى حجاله الروحى فى أبهج لقاء .

يرى بعض الآباء أن الحجال الإلهى هو " سر المعمودية " ، ففى جرن المعمودية يلتقى المؤمن بالسيد المسيح عريسا له ، يلبس الأنسان الجديد ، وينعم بالملكوت الإلهى ، تلبس النفس مسيحها كثوب أبيض للعرس الأبدى ، تلبسه كبر لها وسر قداستها ، يتجمل به ، وتحيا به إلى الأبد ، فى هذا يقول الرسول بولس : " قد لبستم المسيح " غل 3 : 27 .

" أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم كخيام قيدار كشقق سليمان ، لا تنظرن إلى لكونى سوداء لأن الشمس قد لوحتنى ، بنو أمى غضبوا على ، جعلونى ناطورة الكروم ، أما كرمى فلم أنطره "( نش 1 : 5 – 6 ) .

  إذ تلبس النفس مسيحها برا لها وتقديسا لحياتها تقارن ماضيها بحاضرها ، فتخاطب بنات أورشليم هكذا : " أنا سوداء وجميلة .......... " انها تعترف بضعفها الذاتى لكنها تعلن عن جمالها الذى أقتنته خلال اتحادها بالمسيح يسوع ربها ، جميلة كستائر سليمان .

يرى القديس أغسطينوس النفس البشرية قبل اتحادها بالمسيح كقطعة الفحم السوداء لكنها متى اتحدت به التهبت بناره المقدسة فيزول سوادها  وتصير جمر نار حارة فى الروح مملوءة جمالا ، شاول الطرسوسى كان قبلا مجدفا ومضطهدا وضارا ، كان فحما أسود غير متقد ، لكنه إذ نال رحمة ألتهب بنار من السماء ، صوت المسيح ألهبه نارا وأزال كل سواد فيه ، صار ملتهبا بحرارة الروح ، حتى ألهب آخرين بذات النار الملتهبة فيه " .

كان يليق باليهود أن يسندوا الأمم ويكرزوا لهم بالصليب ، لكن عوض الكرازة وقفوا يعيرونهم بالسواد الذى لحق بهم بسبب الوثنية ، أما الأمم فأجابوا بأن سوادهم ليس طبيعيا ، جبلوا عليه ، إنما هى نتيجة ما عانوه إذ " نزلوا " تحت الشمس فلوحتهم ، ....

هكذا تعتذر " كنيسة الأمم " لبنات أورشليم عن سوادها ، قائلة : لا تحسبن يا بنات أورشليم أن السواد المرتسم على وجهى طبيعى ، لكن لتفهمن أنه قد حدث بسبب تجاهل شمس العدل لى ، فإن شمس العدل لم يصوب أشعته على مباشرة ، لأنه وجدنى غير مستقيمة ، ....

فى القديم كان الأمم مثقلين بشمس التجارب ، محرومين من شمس العدل ، فأعطيت الفرصة لإسرائيل أن يختاروا وينعم عليهم بالرحمة . أما الآن إذ رفض اليهود شمس العدل وسقطوا تحت شمس العصيان وعدم الأيمان ، تمتعت كنيسة الأمم بالسيد المسيح شمس العدل . لقد زال سوادها القديم بإشراق شمس العدل عليها ، ولم تعد شمس الخطية تقوى عليها ، كقول المرتل : " لا تحرقك الشمس بالنهار ولا القمر بالليل " ( مز 120 : 6 ) .

ماهو الكرم الذى تحرسه العروس وكرمها الذى لا تحفظه ؟

يقول العلامة أوريجانوس أن الملائكة هم " بنو أمها " فقد صار البشر والملائكة منتمين إلى أم واحدة ، صار الكل أعضاء فى كنيسة المسيح ، هؤلاء الملائكة يسندوننا ويحاربون عنا ومعنا ، إذ يرسلهم الرب لعوننا فى الحرب الداخلية ضد الخطية ، حتى تقدر النفس أن ترعى كرم الرب الذى هو " القلب " وتتخلى عن كرمها الذاتى ، أو أعمال انسانها القديم ، فلا تعود تحتفظ بها بل تتخلى عنها .

ثانيـــــا : المسيـــــــا الراعــــى :

إذ تحدثت الكنيسة " عن عريسها المتألم " فرأت فى آلامه  جاذبية حتى انسحبت كثيرات معها إليه ، هاج العدو عليها .... لهذا تستنجد الكنيسة بذات العريس بكونه : " الراعى الصالح " الذى يدخل إلى حياتها ويرعاها بنفسه ، أنها تناجيه ، قائلة :

" أخبرنى يامن تحبه نفسى أين ترعى أين تربض عند الظهيرة ؟

فى وسط مرارة قلبها بسبب شدة حرب العدو ضدها تشعر النفس البشرية بعذوبة عناية الله راعيها ، فتدعوه : " يا من تحبه نفسى " وكأنها تقول مع القديس غريغوريوس أسقف نيصص : هذا هو الأسم الذى أدعوك به ( يا من تحبه نفسى ) ، لأن اسمك فوق كل الأشياء ، وهو غير مدرك حتى بالنسبة لكل الخلائق العاقلة ، هذا الأسم يعلن عن صلاحك ، ويجذب نفسى إليك ، كيف أقدر ألا أحبك ، يا من أحببتنى هكذا وأنا سوداء ( نش 1 : 4 ) ، فبذلت حياتك من أجل القطيع الذى هو موضوع رعايتك ؟ ! .

حقا ما أحوجنا أن يمسك الراعى نفسه بأيدينا ويدخل بنا إلى كنيسته ، موضع راحته ، مرعى خلاصه ... هناك نلتقى بالسيد المسيح نفسه سر راحتنا وسلامنا .. فى بيته نلنا البنوة لله خلال المعمودية ، وقبلنا روحه القدوس ، ساكنا فينا خلال سر الميرون ، فى بيته نجد غفران الخطايا وننتعش بالذبيحة المقدسة المحيية من جسد ودم يسوع ..... فى بيته نجلس تحت ظلال صليبه ، سر مصالحتنا مع الله وسلامنا الداخلى ..

لماذا أختارت العروس أن تلتقى بعريسها الراعى فى وقت الظهيرة ، قائلة " أين تربض عند الظهيرة ؟ ! .... إن كنا نلتقى بالراعى الصالح فى كنيسته الواحدة الممتدة عبر العصور إنما ندخل إليه لنراه متجليا فيها كشمس الظهيرة ، .... فلا يعرف أعضاؤها الظلمة أو الظلال ، بل يعيشون على الدوام فى ذروة نور راعيهم ، يستنيرون به فيصيرون بدورهم نورا للعالم ، ...

يقول القديس غريغوريوس " انك تجعلنى أربض فى الظهيرة ... فى النور لا يعرف ظلا ، إذ لا يوجد ظل فى الظهيرة حيث تكون الشمس عمودية علينا " . لا يمكن لأحد أن يتأهل لراحة الظهيرة ما لم يكن أبن النهار والنور ...

يرى العلامة أوريجانوس فى الظهيرة رمزا لكمال بهاء الله ، فالعروس تريد أن تلتصق بالرب فى ملء عظمته ، ...

تريد الكنيسة أن تلتقى بعريسها وقت الظهيرة : حيث ظهر الرب لأبراهيم ومعه ملاكان ، وبشره هو وسارة امرأته أنه يقيم لهما نسلا ، يكون بركة لأمم كثيرة ( تك 18 ) .

فى وقت الظهيرة ألتقى يوسف بأخيه الأصغر بنيامين ، فحنت أحشاؤه إليه ، ولم يقدر إلا أن يدخل المخدع ويبكى ، هذه هى صورة اللقاء التى نشتهيها حيث يلتقى الراعى الحقيقى البكر يسوع المسيح بنا نحن أخوته الأصاغر ، يرانا فتحن أحشاؤه علينا ، ويدعونا " بنيامين " أى " أبناء اليمين " .

فى وقت الظهيرة أعلن الراعى الحقيقى يسوع المسيح ذاته لشاول الطرسوسى الذى كرس طاقاته لأبادة أسم يسوع ( أع 22 ) ، فأكتشف شاول حقيقة الراعى الحى الذى لا يموت ...

أخيرا ، فإن تعبير العروس " أين تربض وقت الظهيرة ؟ " يذكرنا بنبوة أبينا يعقوب ليهوذا قائلا : " يهوذا جرو أسد .... جثا وربض كأسد ... من ينهضه ؟ لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتى شيلون وله يكون خضوع شعوب ( تك 49 ) – تحققت هذه النبوة حين ربض الأسد الخارج من سبط يهوذا ونام على الصليب وقت الساعة السادسة لا ليستريح بل ليرعى بالحب البشرية ، مفدما دمه فدية وخلاصا .

تسأل الكنيسة راعيها : " أين ترعى ؟ أين تربض ؟ ... لئلا أكون خفيفة مقنعة عند قطعان أصحابك " ( نش 1 : 7 )

انها تشتاق أن تتعلم الطريق الذى يلزمها أن تسير فيه ، لئلا بسبب عدم معرفتها لمنحنياته تعرج إلى قطعان أصحابه ... فيراها كثيرون غيره . وكأنها تقول : أريد ألا يرانى أحد غيرك أنت وحدك ، أود أن أعرف الطريق الذى يحضرنى إليك ... ولا يدخل أحد بيننا " .

يجيب الراعى كنيسته هكذا :

" إن لم تعرفى ( نفسك ) أيتها الجميلة بين النساء ، فأخرجى على آثار الغنم ، وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة " ( نش 1 : 8 )

أوضح لها الراعى معالم الطريق فى نقاط ثلاث :

( 1 ) تتعرف أولا على نفسها ، أى تبدأ بالداخل ، لتدرك أن الله قد خلقها على صورته ومثاله ،  وتدرك الطبيعة الجديدة التى وهبت لها خلال رعايته .

( 2 ) تخرج عن الأنعزالية والذاتية ، فأنها لا تقدر أن تصير " جميلة بين النساء " إن لم تخرج مع راعيها خارج المحلة لتحمل عاره ،  متمثلة بالآباء القديسين .

( 3 ) تشهد للراعى أمام الجداء ، هكذا لا تعيش فى سلبية ،  لتدخل بهم إلى موضع رعايته . 

إذ تلتزم الكنيسة وهى تحت رعاية المسيا المخلص أن تحمل مسئولية الشهادة العملية لخلاصه فتدخل بالجداء إلى الحظيرة ليصيروا خراف المسيح يطلب منها أن تعمل بروح القوة التى لا تعرف الخوف قائلا لها :

" لقد شبهتك يا حبيبتى بفرسى فى مركبات فرعون ( الترجمة السبعينية ) نش 1 : 9

نلاحظ هنا دعوته لها " فرسى " بصيغة الجمع ، حتى تلتزم الكنيسة بالعمل بروح الوحدة مع بقية الخيل .. كما أن دعوته لها " فرسى " يعلن ملكية الكنيسة للسيد المسيح ، هذا هو سر قوتها ..

ومن اعتزاز الرب بكنيسته التى يقودها كفرس لقب بـ " الجالس على الفرس " رؤ 19 : 19 ، 21 ...

يمتاز الخيل بالقوة والقدرة على دخول المعارك بسرعة بغير خوف ، وتحدث زكريا النبى عن قوة بيت يهوذا هكذا : " أن رب الجنود قد تعهد قطيعه بيت يهوذا ، وجعلهم كفرس جلاله فى القتال " ( زك 10 ) .

يشير الخيل إلى قوة الله السماوية أو العلوية ...عندما رأى خادم أليشع النبى الجيش محيط بالمدينة أضطرب ، لكن أليشع طلب من الرب أن يفتح عينى الغلام ، " فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلا ومركبات نار حول أليشع " ( 2 ملوك 6 ) ...

أما قوله هنا " فى مركبات فرعون " ربما ليؤكد أنه وإن صار المؤمنون خيلا للرب يحملون السمة السماوية لكنهم " مركبات فرعون " أى يعيشون على الأرض ( فى مصر ) ، وقد عرفت مصر بجودة خيلها ( 1 مل 10 ) .

إذ تم لقاء الراعى مع كنيسته فأعلن لها حقيقة مركزها ، قائلا لها :

" ما أجمل خديك بسموط كحمامة ، وعنقك بقلائد ، نضع لك سلاسل من ذهب مع جامان من فضة ، ما دام الملك فى مجلسه ( على مائدته ) نش : 10 – 12

يمكننا أن نلخص ثمار الرعاية فى الآتى :

( 1 ) يصير لها خدى حمامة ، أى تحمل روح الأتضاع مع العفة ، إذ حملت فى داخلها الروح القدس الذى يملأ حياتها الداخلية . 

( 2 ) يتزين عنقها بروح الطاعة ، ومواهب الروح القدس -  وخدمة الآخرين .

( 3 ) تتمتع بشبه الذهب ومرصعات الفضة ، أى الناموس والشريعة ، حتى تتمتع بالذهب ذاته أى " انجيل النعمة " أو " الحياة السماوية " .

المسيا الملك

ص1 ( 12 – 16 ) .

أما وقد شبه العريس كنيسته بفرسه فى مركبات الخلاص ، يقودها بنفسه ، ويجتاز بها إلى ملكوته ، فإن الكنيسة أيضا تتطلع إليه كملك حارب عنها واتحد بها ليقيمها ملكة تجلس عن يمينه .

" مادام الملك متكئا على مائدته أفاح ناردينى رائحته " ( نش 1 : 12 ) .

إذ ملك ربنا يسوع المسيح بالصليب ، ساكبا حياته من أجلها ، تقدمت الملكة إليه ترد الحب بالحب ، فتقدم حياتها ناردينا خالصا ، تسكبه عليه ، فتفوح رائحته حيثما يكرز بالأنجيل .

على مائدة الرب أو مذبحه يلتقى الملك بالملكة ، فتقدم الملكة ذبيحة الملك نفسه ، رائحة زكية مقبولة لدى الآب ،

يقول القديس أغسطينوس :

" أنتم فوق المائدة ! أنتم داخل الكأس ! "

" ما دامت الكنيسة هى جسد ذاك الذى هو الرأس فإنها تتعلم أن تقدم نفسها ( تقدمة ) خلاله " .

هكذا ما دام الملك متكئا على مائدته ، تجتمع به الملكة ، فتظهر فيها رائحة معرفته ( 2 كو 2 : 15 ) ، تقدم ناردين حبها له ، وتبذل حياتها من أجله ، كما بذل حياته عنها ... فتدخل معه إلى المر ، قائلة :

" صرة المر حبيبى ( أبن اختى ) لى ، بين ثديى يبيت " ( نش 1 : 13 ) .

إن كان قد تألم لأجلها ومات لإغنها تتقدم إليه بالمر الذى يستخدم فى دهن المسحة وفى الأطياب ... تدخل معه إلى القبر تحمل المر لتكفين جسده .

فى دعوة الملكة للملك نلاحظ الآتى :

( 1 ) الملكة تحزم المر أثناء التقدمة وتغلق عليه " صرة المر " لتكون رائحته أقوى وأغلى ، عندئذ يقطن الملك فى قلبها حيث يجد راحته ، ويسكن فى حضنها .

( 2 ) استخدمت الملكة عبارة " صرة المر حبيبى لى " لأنه حسب الشريعة كل شىء غير مربوط أو مغلق يكون دنسا ( عد 19 : 15 ) ، والنفس التى تلمس ما هو دنس تتدنس ، أما يسوع فليس فيه عيب قط ، ... تتلامس معه النفس فتتقدس .

( 3 ) فى العهد القديم تعلق المرأة صورة مصغرة لزوجها الغائب علامة حبها وولائها له ، إذ تستقر الصورة على صدرها ، ومن هنا جاء هذا التعبير " بين ثديى يبيت " .

والثديان إشارة إلى العهدين القديم والجديد ، منهما تتغذى الكنيسة .

الطاقة الفاغية :  

" طاقة فاغية حبيبى ( ابن أختى ) لى فى كروم عين جدى " ( نش 1 : 14 )

الطاقة الفاغية هى حزمة زهر الحناء ، التى تطبق العروس يدها عليها طوال الليلة السابقة لزفافها حتى تصير فى الصباح حمراء ، ذات رائحة طيبة ، وبهذا تتهيأ لعريسها ، وقد امتازت عين جدى بالحناء الطيبة الرائحة .

إن كان الملك يمسك بصليبه كصولجان ملكه ، فإن الملكة تمسك بعريسها فى يدها وتطبق عليه فترتسم سماته وعلامة ملكه عليها ... أى تحمل اللون الأحمر . انها لن تكون ملكة ما لم تحمل علامات الصليب والبذل ، وتصير حمراء ، كعريسها ... هذا هو سر قوتها ، وسر عرسها وجمالها ..

لهذا يناجيها الملك قائلا :

" ها أنت جميلة يا حبيبتى ،

ها أنت جميلة ،

عيناك حمامتان " ( نش 1 : 15 ) .

للمرة الثانية يدخل العريس الملك فى حوار مع عروسه ، فى المرة الأولى كان يحثها أن تتعرف على ذاتها وتدرك أنها " الجميلة بين النساء " ( نش 1 : 8 ) – أما الآن فهو يناجيها مؤكدا لها : أن سر جمالها هو قربها منه ، بعد أن أقترب هو منها ونزل إليها ، ..

يرى السيد المسيح الملك فى الكنيسة جمالا لا يشيخ ، سره العينان الحمامتان ، فقد حل فيها الروح القدس ، الذى يظهر على شكل حمامة – ووهبها استنارة داخلية أو بصيرة روحية . لقد صارت الآن تفهم الكتب المقدسة حسب الروح وليس حسب الحرف ، صارت تدرك الأسرار الروحية فى الكتب المقدسة ، لأن الحمامة رمز للروح القدس .

إذ صارت للنفس عينى حمامة ، تدخل معه فى اتحاد أعمق .... إذ تناجيه ، قائلة :

" ها أنت جميل يا حبيبى وحلو ،

وسريرنا أخضر ،

جوائز ( عوارض ) بيتنا أرز ،

وروافدنا ( السقف المائل ) سرو ... ( نش 1 : 16 )

يبدو أن الكنيسة ( العروس ) قد رأت جمال عريسها بأكثر قرب ، وأدركت بعينيها اللتين دعيتا " حمامتين " جمال كلمة الله وعذوبته ، فإنه بالحق لا يستطيع أحد أن يدرك أو يتعرف على عظمة سمو الكلمة ما لم يتقبل أولا عينى حمامة ، أى ينعم بالأدراك الروحى .

" سريرنا أخضر "

 ما هو هذا السرير الذى ينسب للملك والملكة إلا الجسد الذى تستريح فيه النفس ، والذى يتقبل سكنى الرب فيه ؟ فجسدنا لم يعد بعد ثقلا على النفس ولا مقاوما لعمل الله ، لكنه تقدس وصار هيكلا للرب تستريح فيه نفوسنا ويفرح به الرب ، فيه يلتقى الله بالنفس البشرية ، وخلاله تنعم نفوسنا بالشركة مع الله ، ويكون لها ثمر الروح ... لذلك دعى أخضر ، أى مثمر ! .

" جوائز بيتنا أرز ، وروافدنا سرو " 

تعرف شجرة السرو بقوتها العظيمة ورائحتها الجميلة ،

والروافد أى الأسقف المائلة التى فوق المنزل لحمايته من الشمس والعواصف إنما أشارة إلى الأساقفة الذين يعملون بروح المسيح وإمكانياته للحفاظ على المؤمنين ، أما الجوائز ( العوارض ) التى خلالها يتماسك القصر كله فهم الكهنة الذين يخدمون لبنيان أولاد الله .

الأصحاح الثانى

المسيا الحبيب

إن كانت النفس قد تحدثت مع قريباتها عن السيد المسيح كعريس لها ، تمدح حبه وتسترسل فى وصفه ، ثم عادت فتلاقت مع خطيبها الراعى الصالح ، وتعرفت عليه كملك يقيمها ملكة تجلس معه ، الآن تنزل معه الحديقة بعيدا عن كل تكلف أو رسميات يتناجيان معا فى حديث عذب .

انه يقول لها : ان كان العالم قد جذبك بكل مغرياته ، فطلبتى ملذاته ومباهجه ، فإنى أنزل إليك فى العالم ، وأكون فى الأودية بين يديك لتتعرفين على :

" أنا نرجس شارون ، سوسنة الأودية " ( نش 2 : 1 ) .

شارون سهل فى اليهودية ، منطقة خصبة جدا والمياة فيها متوفرة ، لكنها لم تزرع إذ هى مكان ضيق كان يستخدم كطريق بين مصر وسوريا ، نرجس هذا السهل من نوع ممتاز ، يظهر دون أن يزرعه أحد من البشر أو يتعب فيه ، هكذا يظهر حبيبنا فى أرضنا ، جاء إلينا بنعمته ، وليس لبر فينا .

السيد المسيح هو زهرة الشعب اليهودى ، فقد قاد الناموس إلى المسيح ، وهو سوسنة الشعوب الأممية إذ قبلته مخلصا ... أنه مسيح العالم كله : اليهود والأمم .

ويرى القديس جيروم أن زهرة الحقل أو سوسنة البرية ( الأودية ) إنما هى شخص المسيا الذى نبت فى عصا هرون ، الزهرة التى نبتت فى القديسة مريم ، التى وإن كانت فى ذاتها لا تحمل حياة لكنها حملت " الحياة " ذاته .

هذا هو حبيبنا بالنسبة لنا نحن عروسه ، لقد حمل بآلامه الرائحة الذكية ، يشتمها الذين فى السهل أى اليهود والذين فى الوادى أى جماعة الأمم .... أما نحن فماذا بالنسبة له ؟

" كالسوسنة بين الشوك ، كذلك حبيبتى بين البنات " ( نش 2 : 2 ) 

يقول العلامة أوريجين : " إذ صار هو سوسنة الأودية إنما لكى تصير حبيبته أيضا سوسنة تتمثل به .... بمعنى أن كل نفس تقترب إليه وتتبع خطواته تتمثل به تصير سوسنة " .

المؤمن فى عينى الرب كالسوسنة " الزنبقة " ، بهية للغاية ، ولا سليمان فى كل مجده يلبس مثلها ، جميلة لا ببرها الذاتى ، بل بنعمة الدم الذى يجرى فيها ....

إن كانت النفس البشرية قد صارت كسوسنة بين الأشواك ، لكنها لا تنشغل بالأشواك المحيط بها ، انما بالعريس الذى يشبعها ويرويها ويهبها راحة .... إنها تراه قادما إليها ، مقتربا نحوها حتى تقترب إليه ، يرتفع على الصليب حتى تستريح بظل محبته الأبدية ، ويقدم لها ثمر الصليب حلاوة فى حلقها ، لهذا تناجيه ، قائلة :

" كالتفاح بين شجر الوعر ، كذلك حبيبى بين البنين ،

تحت ظله اشتهيت أن أجلس ،

وثمرته حلوة فى حلقى " ( نش 2 : 3 ) . 

إن كانت تعيش وسط الأشواك ولا تقدر أن ترتفع إليه ، فهو ينزل إليها ، يصير كشجرة التفاح ( رمز التجسد الألهى ) بين يديها ، لقد حل بيننا نحن الوعر الذى بلا ثمر ، وصار كواحد منا ، لكن ليس بلا ثمر مثلنا ، بل كشجرة التفاح : جميلة المنظر ، رائحتها منعشة ، يؤكل ثمرها ، ويشرب عصيره ... إنه شجرة الحياة التى نقتطفها عوض شجرة معرفة الخير والشر .

إذ تجلس النفس مع حبيبها عند الصليب ، وتتذوق حبه اللانهائى ، تطلب منه الدخول إلى أحشائه لترتوى من ينابيع حبه العميقة ، قائلة :

" أدخلنى إلى بيت الخمر ،

علمه فوقى محبة ،

أسندونى بأقراص الزبيب ،

أنعشونى بالتفاح ،

فإنى مجروحة حبا " ( نش 2 : 4 ، 5 ) .

سبق أن رأينا " بيت الخمر " هو بيت " الحياة الجديدة " التى صارت لنا خلال آلام السيد المسيح الخلاصية ، ( ويرمز بيت الخمر ) إلى " بيت الوليمة والحكمة " حيث تدخل النفس إلى السيد المسيح وتنال عصير تعاليم الحق ومزيجها فى إناء الحكمة الإلهية ، تنتعش به النفس جديدا كل يوم ....... إذ تتعرف على أسرار الله كأنها جديدة كل يوم .

إذ تدخل النفس بيت حبيبها تلتزم بقانون بيته ألا وهو " المحبة " لكنها إذ لا تقدر أن تطبقه بذاتها تسأله أن يقوم بنفسه بتدبير حياة الحب فيها أى تتسلم من الله " الحب الحقيقى " قانون محبته ، فتعرف كيف تحب الله والوالدين والأخوة ....

حقا فى " بيت الحب " ننال طبيعة الحب الواحدة من مصدرها " الله نفسه " لكننا نلتزم أن نتعرف أيضا على قانون الحب العملى ..

تعود النفس تصرخ معلنة حاجتها إلى " المحبة " ، قائلة :

" اسندونى بأقراص الزبيب ، أنعشونى بالتفاح ، فإنى مجروحة حبا " ( نش 2 : 5 ) .

إذ دخلت النفس " بيت المحبة الإلهية " وتسلمت من الله تدبير الحب ، تعلن أنها قد صارت مجروحة حبا يستحيل أن تكون هذه الجراحات خاصة بحب جسدانى ، ... أنها صرخات النفس داخل الكنيسة " بيت المحبة " إذ تطلب من خدام المسيح أن يسندوها بأقراص الزبيب أو الأطياب التى هى التعاليم الإلهية المعزية التى تسكب حب المسيح فى الداخل ، وتفيح رائحته الذكية ، إنها تطلب التفاح الذى هو رمز للجسد المقدس ، فهو سر انتعاشها الروحى .

" شماله تحت رأسى ويمينه تعانقنى " ( نش 2 : 6 )

بمعنى آخر ، بشماله يؤدب ، فتصغر أمامنا الحياة الزمنية وكل ملذات الجسد والعالم ، وبيمينه يترفق إذ يفتح القلب أمام السمويات فتشتهيها ، على أى الأحوال ، يضع الرب تأديباته تحت رؤوسنا ، إذ بدونها لا تكون رؤوسنا متزنة ، ويحوط رؤوسنا بيمينه حتى تمتلىء قلوبنا رجاءا فيه ! هذه هى جراحات الحب الإلهية .

" أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء "

 ( نش 2 : 7 ) .

إذ دخلت النفس إلى بيت المحبة الإلهية .. كأنها قد حملت مشاعر الرسول بطرس حين أنسحبت أعماقه بالكامل نحو السيد المسيح المتجلى أمامه ، فقال " يارب جيد أن نكون ههنا " مت 17

إنها صورة رائعة للكنيسة الأم التى تطلب من أبنائها " بنات أورشليم " أن يبقين فى الأحضان الإلهية ... ولا يزعجن الرب المستريح فى قلوبهم بارتكابهن شرا أو خطية ! أنه صوت الكنيسة الأم تجاه كل نفس مؤمنه تدعى " ابنة أورشليم " ، تتطلع إلى أورشليم السمائية كأم لها ، ...

ولعله أيضا صوت الكنيسة الموجه إلى جماعة اليهود " بنات أورشليم " التى رأت المسيا نائما على الصليب ، مدفونا فى القبر ألا تضطرب من هذا فتنكر الأيمان به ، فإنه وإن ظهر كما فى ضعف لكنه يقوم متى شاء ، فى اليوم الثالث ، لقد نام على الصليب بإرادته ، ويقوم أيضا بإرادته ، إذ يقول : " لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن آخذها " .. لكن بكل أسف رفض اليهود قبول السيد المسيح المصلوب منتظرين مسيحا حسب أهواء قلوبهم .

الخاطب يطلب خطيبته

" صوت حبيبى ( ابن اختى ) ، هوذا آت ظافرا على الجبال ، قافزا على التلال ،

حبيبى شبيه بالظبى أو بصغير الأيل ،

هوذا واقف وراء حائطنا ،

يتطلع من الكوى ،

يبرق خلال الشبابيك .. " ( نش 2 : 8 ، 9 ) .

تتحدث كنيسة الأمم مع الشعب اليهودى فى عتاب لطيف ، فتقول لهم : لقد تعرفت على " كلمة الله " أو صوت الحبيب ، الذى جاء متجسدا خلال اليهود ( أبن اختى ) ، عرفته خلال جبال الشريعة التى تسلمتموها وتلال النبوات التى بين أيديكم ، لقد جاءنى ظافرا بفرح وسرور خلال الشريعة والنبوات ، لكن فى ملء الزمان جاءنى بنفسه كالظبى حاملا طبيعتنا ، مختفيا وراءها – واقفا وراء حائطنا – يتحدث معنا مباشرة .

لقد تقبلت رسالة تجسده خلال كوى الشريعة وشبابيك الأنبياء .... لقد عرفت صوته وأمكننى أن أميزه ( يو 10 : 3 ، 4 ) .

إن كانت الكنيسة قد تعرفت على كلمة الله المتجسد خلال شريعة العهد القديم والنبوات ، فقد جاء الحديث هنا بمثابة دعوة موجهة لكل نفس لكى ترتفع بالروح القدس على جبال الكتاب المقدس لتلتقى هناك بالخطيب القادم يخطب مخطوبته .

لهذا يقول المرتل : " أساساته فى الجبال المقدسة " ، " رفعت عينى إلى الجبال من حيث يأتى عونى " مز ( 86 : 1)  ، (120  : 1 ) .

بماذا تشبه العروس خطيبها ؟

" حبيبى ( ابن اختى ) شبيه بالظبى أو صغير الأيل على جبال بيت ايل " ( نش 2 : 9 ) .

يشبه السيد المسيح بالظبى ( الغزال ) ، وكلمة " ظبى " فى العبرية تعنى " جمال " ، فقد جاء السيد المسيح يطلب يد البشرية التى أفسدتها الخطية وشوهت طبيعتها الداخلية وجمالها الروحى ، ليتحد بها فيسكب جماله عليها .

ما أروع حديث رب المجد فى حز 16 : 6 – 14 ..... نحو الكنيسة : " مررت بك ورأيتك وإذا مدوسة بدمك فقلت لك بدمك عيشى ..... ...... ....... ..... " .

الكنيسة التى ضمها إليه بعد أن مر عليها فوجدها ملقاة فى الطريق عارية ومدوسة بدمها ، فقدسها بالتمام .

إذ نزل المخلص إلينا يطلبنا عروسا له جاءنا من السماء ومزل حتى إلى حائطنا الذى أقمناه بعصياننا لله ، جاء إلى الحجاب الذى فصلنا عن قدس أقداس الله ووقف وراءه يعمل ويجاهد حتى الدم ، فحطمه ، وفتح لنا طريقا سماويا نسير فيه .

نحن أقمنا الحجاب ، فصرنا عاجزين عن الصعود إليه ، لهذا نزل هو إلينا ، وعلى الصليب انشق حجاب الهيكل ، لكى يشرق لنا بقيامته خلال الكوى والشبابيك التى صنعها بنفسه .

دعوة للقيامة :

نزل الخاطب إلى بيت مخطوبته وهو يعلم أن شباكا وفخاخا كثيرة قد نصبت لها تجعلها غير قادرة على الخروج من بيتها وحدها والأرتفاع إلى بيته .... نزل بنفسه ذاك الذى وحده لا تقدر فخاخ الخطية أن تمسك به ولا شباك الموت أن تقتنصه .

أنه يناديها بسلطان أن تقوم لتلتصق به وتصير حمامته الوديعة ، تحمل ثمار القيامة فى حياتها ، قائلا لها :

" قومى يا قريبتى ، يا جميلتى ، يا حمامتى وتعالى ،

 لأن الشتاء قد مضى ، والمطر مر وزال ،

الزهور ظهرت ، بلغ أوات القضب ،

وصوت اليمامة قد سمع فى أرضنا ،

التينة أخرجت فجها ( البراعم الصغيرة )  ،

قعال الكروم تفيح رائحتها " ( نش 2 : 10 – 13 ) .

انها دعوة للقيامة الأولى ، قيامة النفس البشرية فى المسيح يسوع من موت الخطية وانطلاقها فوق الأحاسيس الجسدية والشهوات الأرضية ، فتعيش حسب الروح لا الجسد .

ما كان لكلمة الله أن يلقبها قريبته ويتحد بها ويصير معها روحا واحدا ( 1 كو 6 : 17 ) ولا أن يدعوها جميلة ، لو لم يرى صورتها تتجدد كل يوم ( 2 كو 4 : 16 ) ، وما كان قد رآها قادرة على تقبل الروح القدس الذى نزل على يسوع فى الأردن على شكل حمامة ، ولا دعاها " حمامته " لو لم تكن قد أدركت حب كلمة الله وأشتهت الأنطلاق إليها مسرعة وهى تقول " ليت لى جناحا كالحمامة فأطير وأستريح " ( مز 55 : 6  ) .

فى هذا الربيع الذى صنعه الرب بقيامته ، يدعو الكلمة الإلهى عروسه أن تقوم ، قائلا لها : " قومى يا قريبتى ، يا جميلتى ، يا حمامتى وتعالى " ( نش 2 : 10 ) . هنا الدعوة موجهة للعروس أن تقوم وأن تتقدم فى طريق الكمال ، ذلك كما قال السيد المسيح للمفلوج : " قم أحمل سريرك وأمشى " متى 9 : 6

تكرار الدعوة للقيامة :

يكرر السيد الدعوة لخطيبته أن تقوم ، قائلا لها :

" قومى وتعالى ، يا قريبتى ، يا جميلتى ،

يا حمامتى فى محاجىء الصخر ، فى ستر المعاقل ،

أرينى وجهك ، اسمعينى صوتك ،

ان صوتك لطيف ، ووجهك جميل " ( نش 2 : 13 ، 14 )

لماذا يكرر الخاطب الدعوة لعروسه أن تقوم ؟

.. السيد المسيح يدعو العروس القائمة أن تقوم ثانية ، والتى اقتربت إليه أن تأتى إليه .. لأنها يليق بها أن تدخل من مجد إلى مجد ( 2 كو 3 : 18 ) .

فى المرة الأولى يدعوها أن تقوم وتأتى إليه : " قومى ....... وتعالى " ، أما الآن فهو يدعوها أن تخرج من بيتها ومن مدينتها وتنطلق إلى محاجىء الصخر إلى ستر المعاقل ، تنطلق ليس فقط عن شهوات الجسد الشريرة بل وعن العالم المنظور كله ... إنه يدعوها للقاء معه داخل الحصون

الأبدية غير المنظورة !

دعوة السيد المسيح للنفس بالقيامة إنما هى دعوة للدخول فى المسيح يسوع لتلتقى مع الله بوجه مكشوف ... " أرينى وجهك ، اسمعينى صوتك " !

هذا القول لا يعنى أن وجهها مخفى عنه أو صوتها مجهول بالنسبة له ، لكنه يريدها أن تدخل إلى الأتحاد معه ، فتظهر أمامه فى دالة الحب كعروس تظهر بغير قناع ، وتتحدث فى صراحة .

السيد المسيح يدعونا للأتحاد به " الصخرة الحقيقية " والدخول معه إلى حضن أبيه " ستر المعاقل " لنكون معه إلى الأبد ... هذه هى الحصون الأبدية التى تضفى على الكنيسة جمالا فيكون صوتها لطيفا ، ووجهها جميلا !

هكذا يدعو الخاطب خطيبته أن تطير من نطاق الفكر الجسدى إلى الفكر الروحى ، فلا تعود حمامة رعناء ( هو 7 : 11 ) ، بل يراها وديعة طاهرة يشتاق إلى صلواتها وألتصاقها به ، يرى

وجهها على الدوام ويسمع صوتها .

يحذرها من الواشين : 

إن كان " كلمة الله " قد نزل إلى الأنسان يمد له يده ، وقد قبله الأنسان ، فإنه يعود فيحذره من الواشين ، العاملين على تحطيم اتحاد الله مع الأنسان المؤمن ، قائلا :

" خذوا ( امسكوا ) لنا الثعالب الثعالب الصغار المفسدة الكروم ،

لأن كرومنا قد اقعلت ( أزهرت ) " نش 2 : 15 

فى تكراره كلمة " الثعالب " تحذير منها ، إذ هى تزحف بخفة وتدخل من الثقوب الصغيرة لتفسد الكروم فى بدء نموه ..... بهذا تفسد كميات ضخمة من الثمار المقبلة ، فمع صغرها تفسد نمو الأنسان ونضوجه .

ما هى هذه الثعالب الصغيرة ؟

( 1 ) إن أخذنا هذا التحذير موجها من السيد المسيح إلى المؤمن أو النفس التى ترتبط بمسيحها فإن هذه الثعالب الصغيرة قد تكون خطايا نحسبها هينة كالكذب الأبيض أو الهزل ... لهذا يليق بنا أن نحفظ كل أبوابنا الداخلية مغلقة تجاه أى ثعلب صغير ، ممتنعين عن كل شبه شر ( 1 تس 5 )

( 2 ) وإذا أخذنا هذا التحذير موجها من السيد المسيح إلى الكنيسة ، فإن هذه الكلمات تظهر موجهة إلى معلمى الكنيسة ، فتعطى لهم الأوامر باقتناص الثعالب المفسدة الكروم ، هنا تفهم الثعالب بكونها المعلمين الذين يروجون التعاليم الهرطوقية ، هؤلاء الذين يضللون قلوب البسطاء ويفسدون كرم الرب فلا يأتى بزهرة الأيمان الأرثوذكسى مستخدمين حججهم المنمقة .

إذ صار هيرودس مضللا دعاه الرب أيضا ثعلبا ( لو 13 : 31 ) .

لقد علمنا الكتاب المقدس أن نحذر الثعالب الصغيرة لكن لا نخافها ، فقد أعطينا سلطانا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو ( لو 10 : 19 ) .

وليمة العرس :

بالتجسد الإلهى نزل الخاطب إلى خطيبته يطلب يدها ، وبقيامته دعاها أن تقوم به ومعه فلا تخاف الموت ولا ترغب سلطان الخطية ، لكنه طالبها أن تحذر الثعالب المفسدة لكرم الأتحاد معه . استجابت العروس لدعوة الخاطب :

" حبيبى ( قريبى ) لى وأنا له ، الراعى بين السوسن ،

إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال ،

أرجع وأشبه يا حبيبى ( قريبى ) الظبى وصغير الأيل على

 الجبال المشعبة ( الضيقة ) " ( نش 2 : 16 ، 17 ) .

اعتادت الكنيسة القبطية أن تسمى سر الزواج " عقد أملاك وزواج " ، ففى هذا السر يقدم كل منهما نفسه فى ملكية الآخر ، هذا السر تراه النفس البشرية أو الكنيسة فى أكمل صورة على الصليب ، حيث يقدم الرب دمه مهرا لها ليدخل كل منهما فى ملكية الآخر ... لتقول العروس " حبيبى لى وأنا له " .

رأته على الصليب معلقا ، فأدركت بحق مفهوم العرس السماوى ، فقد اشتراها بكمال حبه ، قدم حياته فدية لحياتها ، لهذا هى أيضا تلتزم أن تقدم حياتها له بفرح وسرور ، حتى فى الحياة الأبدية تتغنى هكذا : " لأنك ذبحت وأشتريتنا لله بدمك من كل قبيلة ولسان شعب وأمة " رؤ 5 : 9

الكنيسة تود أن تفرح قلب العريس فتدعوه : " الراعى بين السوسن " وكأنها تقول له ، أيها السوسنة المتألمة ، لقد أثمرت شجرة صليبك اتحادا ، فجعلت منا نحن أيضا " سوسن " على مثالك . لتفرح وتسر ....

وليمة القيامة أو الوليمة الأبدية

إذ دخلت النفس وليمة العرس الإلهى وتذوقت قيامة الرب فى حياتها ، أى اختبرت القيامة الأولى ، قيامة النفس من موت الخطية ، اشتهت القيامة الثانية أو قيامة الجسد فى مجىء الرب الأخير ، فصارت تستعطف العريس قائلة : " ارجع يا حبيبى " .... نعم تعال أيها الرب يسوع فإنى ألقاك لأعيش معك إلى الأبد . ... الآن قد عرفتك أنت كالظبى أو كصغير الأيل ، صارت لى خبرة معك .......

الأصحاح الثالث

التعرف على القائم من الأموات

بعد أن ترنمت العروس تمتدح فاعلية الصليب فى حياتها معلنة أن وليمة القيامة هى وليمة العرس  خلالها تنعم بالأتحاد مع العريس وتنطلق أعماقها الداخلية نحو مجيئه الأخير ، استعرضت فى صورة رمزية لأحداث القيامة بالنسبة لها ، فقالت :

" فى الليل على فراشى طلبت من تحبه نفسى ،

طلبته فما وجدته ، دعوته فما سمع لى ،

أنى أقوم وأطوف فى المدينة ، فى الأسواق وفى الشوارع ، أطلب من تحبه نفسى ، طلبته فما وجدته ، وجدنى الحرس الطائف فى المدينة فقلت : أرأيتم من تحبه نفسى ؟

فما جاوزتهم إلا قليلا حتى وجدت من تحبه نفسى ،

فأمسكته ولم أرخه حتى أدخلته بيت أمى وحجرة من حبلت بى ،

أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبايائل ( قوى ) الحقل

 ألا تيقظن الحبيب حتى يشاء " ( نش 3 : 1 – 5 ) .

يمكننا تفسير هذا الحديث ، كحديث الكنيسة الجامعة لعريسها المسيح.

حديث الكنيسة الجامعة

حمل هذا الحديث الرمزى صورة حية لأحداث القيامة بالنسبة للكنيسة منذ أرتفع عريسها على الصليب فقد طلبته ثلاث مرات ولم تجده إلا فى المرة الأخيرة .

ففى المرة الأولى طلبته " فى الليل " ، ولعل ذلك إشارة إلى الظلمة التى غطت الأرض فى لحظات الصليب ، إذ يقول الكتاب : " ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة ، ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم ...... وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى أثنين من فوق إلى أسفل ، والأرض تزلزلت ، والصخور تشققت ، والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين " (متى 27 : 45 – 52 ).

صار النهار ليلا ، وكانت ظلمة على كل الأرض ، ولم يستطع حتى التلاميذ أن يدركوا سر الخلاص فى ذلك الحين ...... إذ لم يكونوا بعد قد تمتعوا بالأستنارة . طلبوه وهم على فراشهم فما وجدوه ودعوه فلم يسمع لهم ، طلبوه وهم فى ظلمة الفكر الجسدانى البشرى ، وهم على فراشهم غير قادرين على الجهاد معه أو ادراك أسرار الروح ، فلم يجدوه لعلهم كانوا يتساءلون فى داخل أفكارهم : هل هذا هو المسيا المخلص ؟ ! أو على حد تعبير تلميذى عمواس فيما بعد : " كنا نرجو أنه المزمع أن يفدى اسرائيل " مر 24 : 20 .

وفى المرة الثانية طلبته العروس ليلا ، هنا اشارة إلى حال التلاميذ بعدما دفن الرب ودخلوا العلية وتحول وقتهم كله إلى ليل ، إذ طلبوا الرب وهم خائفين والأبواب مغلقة . لقد كان الوقت سبتا ، انتهى لكنهم لم يذوقوا طعم الراحة ، ولا قدروا أن يستكينوا انما تحولت عليتهم إلى مدينة وتحولت أفكارهم وربما أحاديثهم معا إلى أسواق وشوارع ، يتساءلون كل فى داخله أو مع زملائه : وما نهاية الأمر ؟ ! بحثوا عنه فيما بينهم وهاجوا وماجوا فى أعماقهم ولا سلام ! .

أما فى المرة الثالثة فقد تم البحث عنه فقد تم البحث عنه عند القبر الفارغ ، فقد خرجت مريم فجر الأحد والظلام باق لم تبال أن تسير فى الشوارع والأسواق حتى اجتازت إلى القبر ، لقد خرجت نيابة عن الكنيسة حزينة القلب وسألت الملاك بدموع عمن تحبه نفسها ، وما جاوزته قليلا حتى رأت الرب وألتصقت به ... لقد أمسكت به أولا لكنها إذ أرادت أن تبقى هكذا سألها أن تسرع وتخبر التلاميذ أن يلتقوا به فى الجليل .... وكأن القديسة مريم قد دخلت به إلى الكنيسة بيت أمها وحجرة من حبلت بها .

أما حديث الكنيسة : " احلفن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن الحبيب حتى يشاء " فهو حديث عتاب مملوء حبا موجه من الكنيسة المسيحية إلى جماعة اليهود . لقد سخروا بالعريس على الصليب قائلين : " إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب " مت 27 : 40 ، وكأن الكنيسة بعد أن دخلت إلى قيامته عادت تقول لبنات أورشليم : لماذا كنتن تستعجلن العريس أن يقوم ، أسألكن بحق الأنبياء " الظباء وأيائل الحقل " أن تتركن أياه ليقوم فى اليوم الثالث حيث شاء هكذا ! إن كان قد رقد على الصليب فراجعن النبوات واذكرن أنه يقوم متى شاء ! لقد عرفت الآن سر موته ودفنه ، انه مات عن قوة ، وقام ليقيمنا معه ! . 

العروس المقامة :    

انتهى الحلم المزعج وتبددت الظلمة بقيامة الرب ، فتعرفنا عليه وتمتعنا بالأتحاد به ، وصار لنا سمة " قيامته " ، لهذا وقفت الملائكة كأصدقاء العريس القائم من الأموات تترنم ممتدحة العروس القائمة مع عريسها ، قائلين :

" من هذه الصاعدة من البرية ،

كأعمدة من دخان ،

معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر " ( نش 3 : 6 ) .  

إنه حديث روحى رائع فإن العروس وقد التقت بعريسها القائم من الأموات الصاعد إلى سمواته قد أدخلته إلى قلبها ... وكانت الثمرة الطبيعية لهذا العمل أن صعدت به ومعه إلى سمواته ، كقول الرسول بولس : " أقامنا معه وأجلسنا معه فى السموات " . دخوله إلى أعماقها رفعها عن برية هذه الحياة ، فصارت تناجيه : " لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل " فى 1 : 23

لعل هذه الكلمات " من هذه الصاعدة ... ؟ " تصدر عن العريس نفسه الذى يسندها ويشجعها مؤكدا لها أنه يراها صاعدة إلى السموات بالرغم من وجودها الآن على الأرض . إنها وهى بعد فى الجسد صارت كالدخان الحامل رائحة الصلاة الذكية ، فيه نسمات العريس نفسه ، ولعلها كلمات السمائيين الذين تطلعوا إلى البشريين الترابيين وقد انفتح أمامهم باب الفردوس وانطلقوا بالسيد المسيح الساكن فيهم مرتفعين من يوم إلى يوم نحو السمويات ولعلها أيضا كلمات بنات أورشليم هؤلاء اللواتى كن قبلا يعيرون الكنيسة بسوادها كما سبق فرأينا بسبب عدم انتسابها للآباء والأنبياء .... إذ هى من الأمم ، لكنها تظهر الآن خلال اتحادها بالمسيا المخلص جميلة وبهية ، تصعد من مجد إلى مجد ! .

أما مواد عطارة العروس فهى :

المر : لأنها دفنت مع المسيح يسوع الذى كفن بالمر والأطايب ، فإنه إن لم تدفن معه لا تقدر أن تنعم بالحياة الجديدة المقامة والمرتفعة نحو السموات .........

اللبان : فإن رائحة بخور صلواتها تصعد نحو الرب ...... بل تردد مع المرتل : " أما أنا فصلاة .

كل أذرة التاجر : وهى أدوات التجميل التى تشتريها النفس من المسيح نفسه " التاجر " الذى وحده يقدر أن يزين النفس ويجملها عروسا له .

زمان وليمة العرس :  

" هوذا سرير سليمان حوله ستون جبارا من جبابرة اسرائيل ،

كلهم قابضون سيوفا ومتعلمون الحرب ،

كل رجل سيفه على فخذه من هول الليل ،

الملك سليمان عمل لنفسه تختا من خشب لبنان ،

على أعمدته فضة وروافده ذهبا ومقعده أرجوانا ، 

ووسطه مرصوفا محبة من بنات أورشليم " ( نش 3 : 7 – 10 ) .

إن كان صليب الرب وقيامته هما سر وليمة العرس ، إذ يتقدم العريس القائم من الأموات ويقيم عروسه التى دخلت معه دائرة آلامه وصلبه ، يسكن فى قلبها فترتفع به صاعدة إلى السماء معطرة ومزينة بكل جمال روحى ، فإننا نتساءل :

متى يكون هذا ؟ أو ما هو زمان الوليمة ؟

يظهر العريس فى موكبين أحدهما فى الليل حيث يقيم على السرير فى وسط أولاده المجاهدين ، والآخر فى النهار جالسا على تخته الأبدى ...

الموكب الزمنى : فى هذا الموكب يظهر العريس حوله ستون جبارا ، كلهم رجال حرب ، حاملين سيوفهم على فخذهم ، يجاهدون وسط أهوال ليل هذه الحياة ، أنه الموكب الذى تعيشه الكنيسة المجاهدة حول المسيح عريسها .

هنا يظهر العريس وقد أقام " سريرا " فى وسط الكنيسة ، إنه سرير فريد عليه " ربض الأسد الخارج من سبط يهوذا " ( تك 49 : 9 ) ، هو صليب الرب الذى حقق سلاما للكنيسة إذ به تصالحت السماء مع الأرض ، وأعطى الغلبة والنصرة للكنيسة على قوات الشر الروحية .

أما الستون جبارا من جبابرة اسرائيل المحيطون به ، هم أبناء الملكوت ، كل مؤمن يحمل على فخذه سيفه الذى هو كلمة الله لكى يغلب .

الموكب الأبدى : فى الموكب الزمنى ظهر العريس على سريره ليعطى لشعبه طمأنينة بكونه سر راحتهم وسلامهم وسط جهادهم فى هذا العالم أو فى هذه الحياة الزمنية ، أما فى الموكب الأبدى فلا حرب ولا جهاد ، لذا يظهر ملكا محمولا على تخت أو محفة تحمل على الأذرع ... يظهر على عرشه الأبدى الذى تحمله الكائنات الحية الأربعة ( رؤ 4 ) .

دعوة للوليمة :    

" اخرجن يا بنات صهيون وأنظرن الملك سليمان بالتاج الذى توجته به أمه ، فى يوم عرسه وفى يوم فرح قلبه " نش 3 : 11                   

هذه هى الدعوة التى توجهها الكنيسة للعالم للتمتع بوليمة الصليب ، أنها تطلب من البشرية أن تخرج من ذاتها ، عن الأنا ....... " أخرجن " ، حتى يستطعن التمتع برؤية الملك الحقيقى " سليمان الجديد " وقد توجته أمة اليهود بأكليل الشوك .

خلال البصيرة الروحية يرى المؤمنون التاج السرى للمصلوب ألا وهو " غفران خطايانا وازالة اللعنة " .... هذا هو يوم عرسه ويوم فرح قلبه ، إذ قدم دمه مهرا لعروسه ! .

الأصحاح الرابع

العروس المقامة

إن كان بالتجسد الإلهى نزل كلمة الله إلينا يخطبنا عروسا له ، وبصلبه أقام حفل العرس ، فإنه بقيامته قد بررنا ، فصرنا العروس المقامة التى بلا عيب ، لهذا يمتدحها العريس ، ناظرا فيها كل جمال ، قائلا لها :

" ها أنت جميلة يا حبيبتى ، ها أنت جميلة " نش 4 : 1 

خلال القيامة وهب للكنيسة كل جمال روحى وقوة ، الذى يتحدث عنه القديس بطرس الرسول قائلا : " كما أن قدرته قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذى دعانا بالمجد والفضيلة اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة ، لكى تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة " 1 بط 1 : 4 . أما علامات هذا الجمال فهى :

" عيناك حمامتان من تحت نقابك ( صمتك ) " نش 4 : 1

العينان جميلتان كعينى حمامة لأنها فى شبه حمامة الروح القدس التى نزلت من السماء ، أما كونهما تحت النقاب ، فذلك لأن أسرار الروح التى تعاينها عينى الكنيسة لا يستطيع العالم أن يفهمها أو يدركها ، فتيقى بالنسبة له كأنها تحت نقاب ! .

ولعله وصف العينين أنهما تحت النقاب لأن المؤمنين مهما تمتعوا ببصيرة روحية فى هذا العالم ، لكنها تعتبر كما لو أنها تحت النقاب متى قورنت بالرؤيا فى الحياة الأبدية .

" شعرك كقطيع معز رابض على جبل جلعاد " نش 4 : 2    

إن كان السيد المسيح هو رأس الكنيسة ، فإن الكنيسة هى الشعر المحيط بالرأس الذى يعيش عليه ، بدون الرأس لا تساوى شيئا ، ولا يكون لها وجود .

هذا هو شعب المسيح ، انه كقطيع ماعز يرعى على جبل جلعاد العالى ، جبل كلمة الله المرتفعة التى تنطلق بقلوب أولاد الله نحو السماء .

أما وصف القطيع أنه رابض على الجبل أى جالس يستريح فى كلمة الله بغير عجلة ، والمستقر تحت رعاية الله فى طمأنينة .

ولماذا جبل جلعاد ؟

على جبل جلعاد ترآى الله للابان وحذره قائلا : " احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر " تك 31 : 24 .... هكذا يشعر المؤمن بالطمأنينة ، لا يقدر أحد أن يمسه .

امتازت منحدرات جبل جلعاد بوفرة العشب ، فصار مثلا لحياة الشبع .

وقديما كان البلسان ينبت فى جلعاد ، يعرف برائحته العطرة التى طالما أطنب الشعراء والمؤرخون القدماء فى مدحه ، واستخدمه الأطباء فى شفاء الجروح والأمراض ، .. وكأنه على جبل جلعاد يعصب الطبيب الحقيقى – يسوع المسيح – جراحات شعبه ويشفى أمراضهم ببلسان دمه المبذول على الصليب .

" أسنانك كقطيع الجزائر ( المجزوزة ) الصادرة من الغسل " نش 4 : 2    

لاق بالكنيسة أن يكون لها أسنان ، فقد نمت ونضجت ولم يعد يكفيها لبن التعليم ، انما تطلب دسمه ، تمضغه وتهضمه فى حياتها .

بهذه الأسنان طلب الرب من بطرس الرسول أن يأكل الحيوانات بعد ذبحها ، ولا يقول عن شىء ما أنه نجس أو دنس . فالكنيسة تعمل على الدوام – خلال خدامها – لتقدم كلمة الخلاص للجميع ، تذبح نجاسات الشر وتمضغ الأمم الوثنيين وتمزق شرهم وأخطائهم حتى يصيروا أعضاء فى جسدها .

" اللواتى كل واحدة متئم وليس فيهن عقيم " نش 4 : 2

كان الله يرسل تلاميذه – أسنان الكنيسة – أثنين أثنين للكرازة ، لعله كى ينطق الواحد بكلمة الكرازة بينما يصلى له الآخر حتى تخرج الكلمة ممسوحة بالنعمة الإلهية .

يمكننا القول بأن من تمتع بكلمة الخلاص عن طريق أسنان الكنيسة النقية ، أى خدامها الحقيقيين ، يلزمه ألا يبقى عقيما بل يلد أكثر من واحد ، أى يكون له ثمر مضاعف . يمتثل بالسامرية التى إذ سمعت صوت الرب وتلاقت معه داخليا نادت مدينة السامرة لكى يلتقوا به مثلها ، ولاوى أيضا الذى جمع زملاءه للتمتع بالمخلص .

" شفتاك كسلكة من القرمز وفمك حلو " نش 4 : 3

إن كان أعضاء الكنيسة جميعا ملتزمين بالثمر المضاعف فإن سر هذا " الشفتين اللتين كسلكة من القرمز والفم الحلو ، أى أن المؤمن ملتزم بالشهادة للمخلص خلال شفتيه وفمه ...

" خدك كفلقة رمانة تحت نقابك " نش 4 : 3

كان ثوب رئيس الكهنة وأفوره تزين برمان مطرز ( خر 28 ) ، كما زين الهيكل فى مواضع مختلفة بمنحوتات على شكل الرمان ، هكذا يشير الرمان للزينة ، تتجمل به الكنيسة بكونها ثوب السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم ، والهيكل الذى يقطنه روحه القدوس .

وقد خص الخد بالرمان ، لأن الخد يشير إلى ملامح الأنسان ، عليه تظهر علامات الفرح أو الحزن ، السلام أو الضيق ، فملامح الكنيسة جميلة ، مفرحة ومملوءة سلاما .

قال " كفلقة رمانة " لكى يظهر ما بباطنها ، إذ هى مكتزة بالعصير الحلو الأحمر ، دائمة النضرة ، لا تعرف الضمور .

أختار الرمانة لأنها مملوءة احمرارا ، سر جمالها هو دم السيد المسيح الذى يقدسها ، فلا يكون للدنس أثرا فى داخلها .

وتحت نقابها لأن مجدها من الداخل ، من أسرارها وعذاباتها ....

" عنقك كبرج داود المبنى للأسلحة ،

ألف مجن ( درع ) علق عليه ،

كلها أتراس جبابرة " نش 4 : 4

غالبا ما يربط الرب جمال الكنيسة بجهادها حتى يفهم المؤمنون أن جمالهم فى المسيح يسوع سره أيضا جهادهم الروحى القانونى فلا يبقى خد الكنيسة جميلا كفلقة رمانة بدون العنق المنتصب كبرج داود المبنى للأسلحة ، أى بدون الأيمان الحى المستقيم غير المنحرف المرتبط بالجهاد .

خلال هذا العنق ، الذى هو الأيمان ، يرتفع وجه الكنيسة إلى السماء فيشرق الرب عليه بنوره ، يجعلها تعيش مستقيمة ، ليست كالمرأة المنحنية نحو الأرض ( لو 13 : 11 – 16 ) ، بل منتصبة ترى فى الله سر قوتها وجهادها ، تسمعه يقول لها " أنا ترس لك " تك 15 : 1 ، خلاله تحتمى من كل سهام العدو الملتهبة نارا ( أف 6 : 16 ) .

" ثدياك كخشفتى ظبية توأمان ، يرعيان بين السوسن ، إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلام أذهب إلى جبل المر وتل اللبان " نش 4 : 5 ، 6

إن كان السيد المسيح يظهر للكنيسة متمنطقا عند ثدييه بمنطقة من ذهب ( رو 1 : 13 ) إذ يقدم العهدين القديم والجديد كثديين ترضعهما الكنيسة وتتقوت بهما ، فإن الكنيسة أيضا وهى كنيسة المسيح صار لها هذان العهدان كثديين يتقوت بهما أولادها .

أمام هذا المديح الذى صار للعروس من جهة بصيرتها الداخلية واحتشامها وجهادها فى وحدة الروح وعملها الكرازى وخصوبتها ودقتها وإيمانها وتمسكها بكلمة الله ... تعلن العروس لعريسها أن سر هذا كله هو صليب العريس وقيامته ، لهذا تتعهد أمامه أن تذهب معه إلى جبل المر تدخل معه حياة الألم ، وتدفن معه فى القبر كما تذهب معه إلى تل اللبان لتحيا كل أيام غربتها فى صلاة دائمة حتى يفيح نهار الأبدية وتنهزم ظلال الزمن .

وتكون اجابة العريس المتوقعة :

" كللك جميل يا حبيبتى ، ليس فيك عيبة " نش 4 : 7

كأنه يختم حديثه بالقول : أنه يطول الحديث عن وصف جمال من خرجت معه إلى شركة آلامه ودخلت معى فى حياة الصلاة والشركة ، أنى ألمس فيك كل جمال ، لأن حبى لك يخفى كل ضعفاتك ، ودمى يستر كل خطاياك ، مبررا كل جمال أزينك به ، فلا أرى فيك عيبا قط .

دعــــوة للعمل والجهاد :

" هلمى معى من لبنان يا عروسى ،

من لبنان ، هلمى ،

أنظرى من رأس الأيمان ، من رأس شنير وحرمون ،

من خدور الأسود ، من جبال النمور " نش 4 : 8

إن كان فى بدء اللقاء مع العريس تشعر النفس بتعزيات كثيرة وراحة ، لكنها لتعلم أنها مدعوة أن تنطلق مع عريسها فى صحبتها لحياة الجهاد الروحى القانونى ، ويلاحظ فى هذه الدعوة التى يكررها الرب أنها دعوة للخروج مع العريس ، فإن الحرب الروحية هى للرب ، لحسابه وبأسمه ، فإن خرجت النفس محتمية فيه غلبت وانتصرت ، بدونه لا تعرف إلا الهزيمة .

إن كانت الدعوة موجهة للخروج معه من لبنان ، وهى بلد سياحى ، عرف بحياة الترف ، فإن العريس السماوى يدعو النفس البشرية أن تصحبه ، تخرج من الحياة السهلة ، حياة الراحة الجسدية ، وتواجه الصراع مع قوات الظلمة ، وهى فى صحبة عريسها قاهر الأسود والنمور .

" قد سبيت قلبى يا أختى العروس ، قد سبيت قلبى ،

بإحدى عينيك ، بقلادة واحدة من عنقك " نش 4 : 9

فى جهاد العروس ( الكنيسة ) المر تئن فى داخلها ويبكى قلبها ، أما هو فلا يقدر أن يحتمل أنينها ودموعها .... فينجذب قلبه إليها ، ويأسره تنهدها الداخلى .

لاحظ القديس غريغوريوس النيصى أن العريس هنا يقول " بأحدى عينيك " ، لأن الأنسان له بصيرتان ، البصيرة الخارجية التى يرى بها الأمور المنظورة ، والبصيرة الداخلية التى يعاين بها الله .. التى هى القلب ، هنا ما يأسر قلب الله هى دموع البصيرة الداخلية السرية .

وقد علمتنا الكنيسة أن نتحدث مع الرب بهذه اللغة – لغة الدموع – فى غروب كل يوم ، قائلين :

" إليك رفعت عينى يا ساكن السماء ،

فها هما مثل عينى العبيد إلى أيدى مواليهم ،

ومثل عينى الأمة إلى يدى سيدتها ،

كذلك أعيننا نحو الرب إلهنا ، حتى يترآف علينا ،

إرحمنا يارب إرحمنا ،

فإننا كثيرا ما أمتلأنا هوانا ،

كثيرا ما شبعت أنفسنا من هزء المستريحين ، وإهانة المستكبرين ،

العار أردده على المخصبين ، والهوان على المتعظمين ، هللويا ( مز 122 )

وتكون اجابة الرب : إننى لا أحتمل انكساركم وهوانكم ، لقد سبيتم قلبى وكل حبى ، فلا أدعوكم عبيدا بل أحياء ، أنتم أخوتى ، أنتم عروسى .

الآن ماذا فعلت آلام الجهـــــاد بنا ؟      

إن كنا وسط الآلام نشعر بضعفنا فنرفع أعيننا الداخلية بتذلل نحو إلهنا الذى فى أعماقنا فنجتذب قلبه ونسبى حبه بانسحاقنا ، إذا به يعلن حقيقة مركزنا ، أننا فى موقف القوة لا الضعف ، والمجد لا الهوان ، إن كنا نئن خلال شعورنا بالضعف لكنه يؤكد لنا الحقيقة المخفية عن أعيننا : أن جهادنا – رغم كل ما يبدو فيه من ضعف – يعلن حلاوة حبنا وتفوح منه رائحة أدهان فريدة فى أطيابها ، إذ يقول :

" ما أطيب حبك ( ثدياك ) يا أختى العروس ؟ !

كم محبتك أطيب من الخمر ؟ !

كم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطايب ؟ ! نش 4 : 10

عجيب هو الرب فى نظرته إلينا وفى مدحه إيانا ، مع أن ما نحمله من حب إنما هو إنعكاس لحبه فينا ، وما نحمله من رائحة أطياب إنما هى ثمر أطيابه العاملة فينا ! يا للعجب يعطينا ماله ثم يعود فينسبه لنا ويمتدحنا من أجله ويكافئنا عليه !!

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص سمو كنيسة العهد الجديد خلال الرائحة التى تفوح منها ، إذ هى " أطيب من كل الأطايب " ، فاقت رائحة كل عبادة قدمت سابقا ، .... الآن لم تعد لنا الذبائح الحيوانية ، بل الذبيحة الفريدة التى يشتمها الآب رائحة رضا ... خلال هذه الذبيحة يشتم الله كل عبادتنا وكل جهادنا الروحى كرائحة طيبة " أفضل من كل الأطايب " ..

لهذا ففى وسط مرارتنا بسبب شعورنا بالضعف ، يمتدحنا الرب بغير مداهنة ولا رياء ، بل يعود ويتكلم عن بركة شركة الآلام معه أو الجهاد من أجله وبأسمه فى أكثر تفصيل ، قائلا :

" شفتاك يا عروسى تقطران شهدا ،

لسانك عسل ولبن ،

ورائحة ثيابك كرائحة لبان " نش 4 : 11

يرى الرب فى عروسه المجاهدة المتألمة أنها كالنحلة التى تقطر عسلا ! إذ قيل عنها " النحلة ضئيلة بين الطير وشهدها أعذب ما يستساغ من الطعام " ابن سيراخ 3 : 11

ماذا يرى الرب أيضا فى عروسه المجاهدة المتألمة ؟ أنه يراها الأرض المقدسة التى تفيض عسلا ولبنا ( خر 3 : 8 ، 17 ) .

ماذا يكون هذا العسل المخفى إلا " كلمة الله " الحى الذى دعى بالمن السماوى ...

على أى الأحوال حينما يتحدث الرب عن رعايته لشعبه يؤكد لهم أنه قدم لهم عسلا إشارة إلى عذوبة عطيته ، أو حلاوة كلمته فى فمهم ....

أخيرا فإن الأنسان غالبا ما يتطلع إلى نفسه فى وقت الضيق فيظن كأنه فى قفر بلا ساكن ، عقيما بلا ثمر ، أما الرب فيرى عكس هذا إذ يقول :

" أختى العروس جنة مغلقة ،

عين مقفلة ،

ينبوع مختوم " نش 4 : 12

كأنه يقول لها : اذكرى الأمكانيات الكامنة فى داخلك ، أنت جنة وعين وينبوع ، إمكانيات الروح القدس الساكن فيك ، هذه التى لا تعلن فيك إلا إذا قبلتى الآلام وانحنى ظهرك للصليب .

إنها جنة مغلقة من كل جانب بسور الوصايا حتى لا يتسلل إلى مدخلها لص أو وحش مفترس ..

كما يوصينا الوحى الإلهى ألا نبدد مياة ينابيعنا فى الخارج ، فى الشوارع ، مع الغرباء ، .... حينما تنحرف أفكارنا الداخلية نحو الخطية نكون قد أضعنا مياة ينابيعنا وقدمناها للغرباء ، لهذا يجب أن نكون : " عين مقفلة ، وينبوع مختوم " ....

إذن الجنة المغلقة أو العين المقفلة أو الينبوع المختوم تشير إلى الحياة التى لا يدخلها إلا الرب وحده الذى له مفتاح داود " يفتح ولا أحد يغلق ، ويغلق ولا أحد يفتح " رو 3 : 7 . هذه الحياة تحمل ثمار الروح القدس الثمينة السمائية ، إذ يقول :

" اغرسك فردوس رمان مع أثمار نفيسة فاغية وناردين ،

ناردين وكركم ،

قصب الذريرة وقرفة مع كل عود اللبان ،

مر وعود مع كل أنفس الأطياب ،

ينبوع جنات بئر مياة حية وسيول من لبنان " نش 4 : 13 – 15 .

ماذا يجد الرب فينا ؟ أنه يجد أصنافا متنوعة من ثمار للأكل كالرمان وروائح طيبة وأطياب وبخور ( لبان ) ومواد تستخدم كأدهان طبية ومياة حية للشرب ...

هكذا تظهر عروس المسيح غنية فى كل شىء : لديها طعاما يشبع ، وشرابا يروى ، وأطيابا ثمينة للتجميل ، وأدوية للعلاج .... يفرح بها عريسها وأصدقاؤها .

العروس تشارك عريسها :  

" استيقظى يا ريح الشمال ، وتعالى يا ريح الجنوب ،

هبى على جنتى ، فتقطر أطيابها .

لينزل حبيبى إلى جنته ، ويأكل ثمره النفيس " نش 4 : 16

فى حفل العرس مدح العريس عروسه ، ودعاها لتخرج معه خارج المحلة ، تشارك آلامه وصلبه ، وتتطيب بالمر فتدفن معه ، لكى تقوم معه حاملة أغراس كثيرة ومتنوعة ، هى من عمل قيامته فيها . والآن تخاطبه العروس وتطلب أن تهب على جنتها ريح الشمال المملوؤة بردا وريح الجنوب الحار ... حتى تقطر أطيابها فينزل إليها عريسها وينعم بثماره فيها ... فماذا تعنى العروس بريح الشمال وريح الجنوب ؟

كلمة ريح فى اليونانية هى بذاتها كلمة " روح " ... لعل العروس هنا تطلب من عريسها أن يبعث إليها بروحه القدوس الذى يلاحقها من كل جانب ، فيعطيها الثمر المتكاثر الذى يفرح به العريس .

تشير الريح أيضا إلى التجارب ، فإن هبت على النفس تجارب شمالية أى هاجت الخطية ضدها ، أو تجارب يمينية كأن يثور البر الذاتى فيها .... ففى هذا كله يسندها الرب لا ليحفظها من التجارب فحسب بل يخرج منها ثمارا يفرح بها العريس ! إنه كشمشون الذى أخرج من الأكل أكلا ، ووجد فى الجافى حلاوة ! .

الأصحاح الخامس

بدء الحيـــــــاة الزوجيـــــــــة

ما أن دعت الكنيسة عريسها للنزول إليها ليأكل من جنته التى فى داخلها ، المملوءة من أغراس روحه القدوس ، والمرتوية من ينبوع المعمودية المقدس ، حتى استجاب لدعوتها فورا بغير تردد ، قائلا :

" قد نزلت إلى جنتى يا أختى العروس ،

قطفت مرى مع أطايبى ،

أكلت شهدى ( خبزى ) مع عسلى ،

شربت خمرى مع لبنى ،

كلوا أيها الأصحاب ، أشربوا ، واسكروا أيها الأحباء " نش 5 : 1

لقد أسرع بالنزول إلى جنته بغير تردد ، لأن الدعوة هنا جاءت مطابقة لمشيئته ، فوجدت استجابة سريعة فى عينى الله ، لقد دعته للنزول إلى جنته ، التى يشتهى أن ينزل إليها على الدوام ، فإن كان الرب منذ الأزل قد أعد أحداث الخلاص حتى صارت موضوع لذته وسروره بالرغم مما حملته من خزى وآلام وموت كقول الرسول بولس " من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزى " عب 12 : 3 ، فإن عروسه تدعوه أن ينزل إلى نفس البستان الذى دخله ليلة آلامه ، وإلى ذاك الذى فيه وضع جسده فى القبر ، تدعوه أن يراها وهى تكمل نقائص شدائده فى جسمها ( كو 1 : 24 ) ، أى تشاركه آلامه وصلبه ودفنه ، لهذا لا يتردد الرب فى قوله " قطفت مرى مع أطايبى " .... وكأن أحداث الخلاص صارت حية وممتدة فى حياة أولاده !

ويرى الأب روفينوس أن الجنة هنا ليست إلا الموضع الذى صلب فيه الرب ، حيث يعلن الحكيم أن العريس يشرب الخمر ممتزجا بالمر ، الذى قدم للرب فى لحظات صلبه .

فى داخلنا يأكل شهده وعسله ، وكأنه قد دخل أرض الموعد التى تفيض لبنا وعسلا ، يأكل ذات النوعين من الطعام : " الشهد والعسل " اللذين أكل منهما مع تلاميذه بعد قيامته مبرهنا بطرق كثيرة أنه حى قائم من الأموات يبقى عاملا وسط كنيسته .

يجد كل ما فى قلبنا حلو وشهى كالشهد والعسل .

يشرب أيضا خمره أى حبه الذى سكبه فينا بروحه القدوس ، مع لبنه غير الغاش أى النقاوة والطهارة .

ولكن من هم الأصحاب والأحباء ؟ إنهم السمائيون الذين يفرحون بخاطىء واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين بارا لا يحتاجون إلى توبة ( لو 15 : 7 ) ، هؤلاء يدخلون مع الرب القلب لا ليملكوا بل كجند للملك السماوى ، أصدقاء للعريس ، قائلين مع القديس يوحنا المعمدان : " من له العروس فهو العريس ، وأما صديق العريس الذى يقف ويسمعه فيفرح فرحا من أجل صوت العريس " يو 3 : 29

+ القلب هو قصر المسيح ، فيه يدخل الملك لكى يستريح ، ومعه الملائكة وأرواح القديسين ، هناك يقطن ويتمشى فى داخله ويقيم مملكته !

إذن افتحوا أبوابكم للمسيح كى يدخل فيكم ،

افتحوا أبواب الطهارة ، أبواب الشجاعة ، أبواب الحكمة ،

صدقوا رسالة الملائكة : أرفعوا أبوابكم الدهرية ليدخل ملك المجد ، رب الصباؤوت ( الجنود ) .

ظلال فى الحياة الزوجية :

" أنا نائمة وقلبى مستيقظ ، صوت حبيبى قارعا ،

افتحى ، افتحى لى يا أختى يا خليلتى يا حمامتى يا كاملتى ،

لأن رأسى امتلأ من الطل ، وقصصى من ندى الليل ،

قد خلعت ثوبى فكيف ألبسه ؟

قد غسلت رجلى فكيف أوسخهما ؟   نش 5 : 2 ، 3

يا لها  من صورة دقيقة للمعاملات المتبادلة بين الله والأنسان ، فقد عاش الأنسان زمانا طويلا وهو مسترخى ومهملا خلاصه بالرغم من كل الأمكانيات التى قدمها له الله ليكون متيقظا ، لقد أراد الله أن يجعله أبنا للنور والنهار ، لكن الأنسان أصر أن يحول زمان غربته كله ليلا يقضيه نائما حتى وإن كان قلبه متيقظا . 

لقد أعطى الله للبشرية الناموس الطبيعى  ييقظ قلوبهم حتى أنهم بلا عذر ،

وأعطاهم الناموس المكتوب ، لكنهم إذ أخطأوا فى الناموس فبالناموس سقطوا تحت الدينونة ... ،

وأرسل الله أنبياءه ، لكن ماذا فعلت البشرية بهم ؟ يقول الرب نفسه : " يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها ، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا ! ؟ ( مت 23 : 37 ) .

وأخيرا " صوت حبيبى قارعا " .... نزل " كلمة الله " نفسه إلى الأنسان يقرع باب قلبه ... يقف أمام النفس يرجوها أن تفتح له ، نزل شمس البر ودخل زماننا الذى جعلناه ليلا ، لكى يضىء علينا نحن الجالسين فى الظلمة وظلال الموت ، فنقوم من غفلتنا ! .

لعل الحديث هنا خاص بالنفس التى دعت المسيا عريسها لها ، لكنها عادت فاسترخت فى حبه ...

صوت الحبيب هنا يعاتب فى رقة ، فلا يجرح مشاعر القلب ، بل يشجع عروسه فيدعوها أخته وخليلته وحمامته وكاملته ...

أما تكراره السؤال " افتحى ، افتحى لى .... " فربما يوضح الدعوة المتكررة للبشرية فى العهدين ، القديم والجديد ، فإن الله لم يتغير ، ولا دعوته قد تغيرت ، إذ يطلب أن ينفتح له القلب ويقبله .

وفى تكراره الدعوة أيضا اعلان عن كمال حرية النفس ، فهو الخالق والسيد والملك لكنه لا يقتحم النفس اقتحاما ، إنما يتوسل إليها أن تفتح له .....

أخيرا يتوسل إليها بكونه " حامل الآلام والأحزان " من أجلها ، إذ يقول لها :

" لأن رأسى امتلأ من الطل ، وقصصى من ندى الليل " ( نش 5 : 2 ) 

إن كنت قد جعلتى زمانك ليلا بلا نهار ، فصارت حياتك نوما ، فإنى بالحب أقتحم الزمن وأدخل إلى هذا الليل لا لأنام بل لأحمل أهوال الليل عنك ، بالفعل دخل السيد البستان ليلا ، ونام تلاميذه ولم يقدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة ( متى 26 : 40 ) ، أما هو فكان يدخل إلى العمق يتسلم كأس الألم حتى يشربه عن البشرية كلها ... فى البستان كان " يحزن ويكتئب " ( متى 26 : 37 ) . كان يصرخ : نفسى حزينة جدا حتى الموت " ، وكانت قطرات العرق تتصبب كالدم !!

إنه يناجيها ويطلب أن تفتح له من أجل ما أحتمله بسببها فى تللك الليلة العاصفة الممطرة ، أما هى فقدمت اعتذارات بشرية غير لائقة ، وتحدثت بغير اكتراث ، فلم تدعوه ربها أو سيدها ، ولا حتى نادته بأسمه ، ولا ذكرت أحد ألقابه ، بل قالت :

" قد خلعت ثوبى فكيف ألبسه ؟ !

قد غسلت رجلى فكيف أوسخها ؟ ! نش 5 : 3

يا لها من حجج واهية ، تقدمها النفس فى فتورها الروحى ... اعتذار لعدم فتح القلب لذاك الذى تعلم عنه تماما أنه يحبها ، أنها صورة للأنسان وقد ضن على نفسه أن يتحمل يسيرا من التعب لأجل تحقيق اللقاء مع السيد المسيح بالرغم من الكثير الذى دفعه السيد !!

إن كانت قد خلعت ثوبها ، فالسيد المسيح نفسه هو الثوب الأبدى الذى يسترنا ، كقول الرسول بولس " قد لبستم المسيح " غل 3 : 27 . .... السيد المسيح يعطيها روحه لكى تلبسه ، كسر حياة فيها ، .... إن كانت قد غسلت رجليها ، فلتعلم أن القارع على الباب هو سيدها الذى يتمنطق ويغسل أقدام عروسه ، .... هى غسلتهما بمياة برها الذاتى لكى يستريح ضميرها إلى حين ، لكن إذ تمتد يدى الرب لغسل قدميها يصير لها راحة فى ملكوته الأبدى ، لهذا قال الرب لبطرس الرسول : " إن كنت لا أغسلك فليس لك معى نصيب " ( يو 13 : 8 ) .... إذن فلنقم من سرير " الأنا " أو " الذات البشرية " ونتقدم لعريسنا الذى يسترنا بدمه ويلبسنا روحه القدوس ، كما يغسل حياتنا حياتنا الداخلية فنحيا مقدسين له .

بالصليب يعود الحب الزوجى  

إن كانت النفس لا تقدر أن تنصت إلى صوت من أحبها الذى أعلن بطرق متنوعة ، فقد بقى أن يمد يده المجروحة على الصليب إلى داخل ذهنها فترى آثار جراحات الحب التى احتملها من أجله ، فتئن أحشاؤها عليه ، قائلة :

" حبيبى مد يده من الكوة ، فأنت عليه أحشائى ،

قمت لأفتح لحبيبى ، ويداى تقطران مرا ،

وأصابعى مر قاطر على مقبض القفل " ( نش 5 : 4 )

إذ ضاقت الدنيا فى وجه التلاميذ بسبب الخوف أغلقوا الأبواب وأقاموا المتاريس ولم يعلموا أن الأبواب المغلقة لن تمنع الرب المجروح عنهم أن يدخل إليهم ليريهم يديه وجنبه فيفرحون ( يو 20 : 20 ) ، لقد فتح كوة داخلية فى قلوبهم ليتلامسوا مع جراحات محبته ، وهكذا يمد الرب يده المجروحة خلال الكوة ليكتشف مؤمنوه سر محبته فتئن أحشاؤهم عليه ، أقول أن هذه الكوة ليست إلا جنب الرب وجراحاته ، من خلالها يمد الرب يد محبته فنكشف أحشاءه الداخلية الملتهبة حبا ، فتئن أحشاؤنا نحن أيضا ... أحبنا أولا لذا نحن أيضا نحبه .

لقد تمتعت العروس بيد الرب التى حلت فى وسطها ، فأدركت سر صليبه ، فتحطم قساوة قلبها الحجرى ، وقامت لتفتح لحبيبها ، لقد صرخت مع الأبن الأصغر " أقوم وأذهب إلى أبى " لو 15 ، أعلنت شوقها لمن أحبها بالرجوع إليه خلال التوبة الصادقة والدموع المرة والتنهدات الخاصة ، لذا قالت : " يداى تقطران مرا وأصابعى مر قاطر على مقبض القفل " .

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن المر يشير إلى " الموت الذى ماته المسيح عنا " ، فقد تلامسنا معه بالتوبة وقبلنا أن نموت معه ، لكى تفتح أمامنا الأبواب الدهرية .

" فتحته لحبيبى ، لكن حبيبى تحول وعبر ،

نفسى خرجت عندما أدبر ، طلبته فما وجدته ،

دعوته فما أجابنى : وجدنى الحرس الطائف فى المدينة ،

ضربونى ، جرحونى ، حفظة الأسوار رفعوا أزرارى عنى ،

أحلفكن يا بنات أورشليم ، إن وجدتن حبيبى أن تخبرنه إنى مجروحة حبا ،

ما حبيبك من حبيب ، أيتها الجميلة بين النساء !!

ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا " نش 5 : 6 – 9  

لقد قامت تفتح لعريسها بعد طول رقاد ، لكن عريسها كان قد تركها وعبر ، لماذا فعل هكذا ؟ أنه يؤدب الأنسان لتأخره فى الأستجابة ، وفى تأديبه يبدو كما لو أنه قد تركنا  إلى حين .... هذا الترك فى ذاته يعتبر علامة اهتمام الله بنا  : أنه يتركنا فترة قصيرة لكى نتنبه إلى ضعف قلوبنا ، عندئذ ندرك أنه ما كان لنا من نقاوة قلب قبلا إنما هو عطية مجانية من قبل الأفتقاد الألهى .

عندما يتركنا ينكشف فى داخلنا هدفنا القلبى ونشاطنا فى الصلاة باحثين عن الروح القدس ، أى يكون بمثابة امتحان لنا فى المثابرة والرسوخ العقلى والغيرة الحقيقية .

من هم الحرس الطائف فى المدينة سوى جماعة اليهود وقادتها ، المسئولين عن حفظ كلمة الله ، كان يليق بهم أن يكونوا خداما للكلمة وكارزين بالمسيا المخلص ، لكنهم صاروا يمسكون الكنيسة ويضربونها ويجرحونها ، أمام هذه الأهانات ، لا ينحرف المؤمن عن نظره نحو عريسه ، بل بالعكس يؤكد للمضايقين أنه مجروح بمحبة هذا العريس السماوى ، قائلا : " احلفكن يا بنات أورشليم .... أن وجدتن حبيبى أن تخبرنه بأنى مجروحة حبا " .

عندما ينزع الفتور عن النفس البشرية ، ليس فقط تدرك عودتها إلى الأحضان الأبوية فى المسيح يسوع ، لكنها تشهد لقوة هذا العمل حتى أمام غير المؤمنين ، الذين يتساءلون ، قائلين :

" ما حبيبك من حبيب ، أيتها الجميلة بين النساء !

ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا ! "

إنك جميلة ، ولا ينقصك شىء ، فمن هو هذا الحبيب الذى تنشغلين به ؟

لعل فى هذا السؤال نبوة عن قبول اليهود للسيد المسيح فى أواخر الأيام ، فإنه يأتى يوم يدرك فيه اليهود أنهم يخطئون إذ يطلبون مملكة أرضية ومطامع زمنية ، لكن الحاجة إلى خلاص أبدى وتذوق لمحبة الله السماوية ! .

العروس تمدح عريسها   

إذ يكتشف العالم فى العروس حبها لعريسها ويدركون فاعلية هذا الحب فى حياتها الداخلية وانعكاساته على ملامحها ومشاعرها وتصرفاتها ، يتسائل عن هذا العريس الفريد ، وهنا تشهد العروس لعريسها لا بالكلام بل بالحياة التى تعيشها ، فإنها تعرفه تماما وتلمسه متحدة به ، يدخل بها إلى معرفة الأب غير المنظور ....

" حبيبى ( خليلى ) أبيض وأحمر " ( نش 5 : 10 )

ما أعذب هذا المخلص العريس ففيه اجتمع اللونان : الأبيض والأحمر ، كل منهما يوضح الآخر ويكمله ، فهو أبيض ، لكنه ليس بالأبيض الشاحب الذى بلا حياة كحنانيا رئيس الكهنة الذى قال عنه الرسول بولس : " سيضربك الله أيها الحائط المبيض ، أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس وأنت تأمر بضربى مخالفا للناموس " ( أع 23 : 3 ) ، فبمخالفته للوصية والناموس صار فى حكم الموت بلا حياة ، فقد دمه علامة الحياة ، وصار شاحبا كالأموات ، أما مخلص الكنيسة ففى بياضه يحمل احمرار دائما علامة كمال القوة والحياة والحيوية ، كذلك لا يحمل المخلص احمرار احمرار منفردا عن البياض وإلا كان فى ذلك إشارة إلى القتل وسفك الدم كما جاء فى سفر الرؤيا ( رؤ 6 : 4 ) ، وكما وصفت الخطية أنها كالقرمز وحمراء كالدودى ( أش 1 : 18 ) ، ولكنه هو " الآتى من آدم بثياب حمر من بصرة هذا البهى بملابسه ... المتكلم بالبر العظيم للخلاص " ( أش 63 : 1 ) .

لقد جاءت كلمة " أبيض " هنا بمعنى " بهى " ، إذ هو شمس البر الذى أضاء علينا نحن الجالسين فى الظلمة ، ليدخل بنا بواسطة روحه القدوس إلى كمال نور معرفة الآب .. حملنا فيه خلال بهائه فى استحقاقات دمه ( الأحمر ) لنكون فى حضن الآب نتعرف على كمال أسراره ، هكذا يمتزج بهاؤه بعمله الخلاصى ، أى بياضه بأحمراره ، حتى نحمل انعكاسات بهائه فينا بدخولنا إلى أبيه .

لقد تحدث الكتاب المقدس عن ظهورات كثيرة للملائكة لكنه لم يتعرض لوصف ثيابهم ، أما فى أحداث القيامة والصعود فقد أكد لنا الكتاب أن الملائكة قد ظهرت بثياب بيضاء ، من أجلنا ظهرت ، لكى نعرف أننا خلال قيامة الرب وصعوده نغتسل فنبيض أكثر من الثلج ( مز 50 ) ، إن كانت خطايانا كالقرمز – فقد دفنت فى القبر – وأقامنا الرب كالثلج ( أش 1 : 18 ) ، لهذا يقول دانيال النبى " تتطهرون فتبيضون " ( 11 : 35 ) .

هكذا ترى الكنيسة عريسها فتفرح ببهائه وتبتهج بدمه .... أما العدو الشيطان فيرتعب أمام بهاء المخلص ويخاف من دم صليبه ، لهذا تقول الكنيسة :

" علم بين ربوة " نش 5 : 10

صار معروفا للناس وللشياطين ، تعرفه الكنيسة بكونه " قائم راية للشعوب " ( أش 11 : 10 ) أرتفع على الصليب فجذب البشرية إليه ليسكب بهاءه عليها ويقدسها بالدم ، وتعرفه الشياطين فتصرخ " أنزل من على الصليب " لأنه حطم مملكتهم وأشهرهم جهارا ، ظافرا بهم ( كو 2 : 15 ) ...

" رأسه ذهب أبريز ، قصبة مسترسلة ، حالكة كالغراب " ( نش 5 : 11 ) .

إن كان الذهب يشير إلى الحياة السماوية فإن " الذهب الخالص " يشير إلى لاهوته ، إذ فيه " يحل ملء اللاهوت جسديا " ( كو 2 : 9 ) ، لقد أقامه الأب رأسا للكنيسة " الذى منه كل الجسد بمفاصل وربط " ( كو 2 : 19 ) ، إذ هو وحده كأبن الله وكلمته يقدر أن يدخل بالجسد كله إلى السماء ، إن كان الرأس سماويا ، فالجسد لا يقدر أن يعيش إلا على مستوى سماوى ما دام متحدا بالرأس ، هذا هو سر حبها لعريسها ، أنه يدخل بها إلى السموات أى إلى أحضان أبيه ، خلال اتحادها به .

أما شعره المحيط بالكنيسة المسترسل إنما هم جماعة القديسين الذين بمثابة شعر الرب لا تسقط منه واحدة بدون إذن أبيه .. هم يعيشون به . لهذا لا تظهر فيه شعرة بيضاء بل كله " أسود حالك كالغراب " ، لا يشيخ مؤمن بل يتجدد كالنسر شبابه .

هذا هو عمل الروح القدس ، الذى يهب الشركة بين الأعضاء وارأس ، فتبقى الأعضاء فى كمال قوتها خلال الرأس الذى لا يضعف مطلقا .

" عيناه كالحمام على مجارى المياة ، مغسولتان باللبن جالستان فى دقبيهما ( على المجارى ) " نش 5 : 12

مع أنه الملك المرهب الذى يخيف الأعداء ، عيناه كلهيب نار ( رؤ 1 : 14 ) فاحصة لدقائق الأمور وخفياتها ، لكنه إذ يظهر لمؤمنيه يرون عينيه كالحمام البسيط الوديع المملوء يراءة عيناه كعينى الحمامة " أطهر من أن تنظرا الشر " ( حب 1 : 13 ) .

إن المياة تشير إلى الشعوب الكثيرة المتعددة التى جاءت إلى الله خلال المعمودية ، بهذا فإن الحديث عن عينيه كالحمام على مجارى المياة إنما يشير إلى تجسد الرب وإعلان بدء جيل جديد مقدس خلال عماده .

أما جلوسهما فى وقبيهما أى استقرارهما فى موضعهما إنما يشير إلى رعاية الله لكنيسته وأولاده ، يركز نظره الإلهى على كل عضو ، ولا يحول عنه عينيه حتى يدخل به شركة الأمجاد .

" خداه كخميلة ( سلطانية ) الطيب وأقلام ( تفيض ) رياحين زكية " ( نش 5 : 13 ) .  

خدا السيد المسيح اللذان يشيران إلى طلعته قد تعرضا للهزء والأحتقار كما جاء على لسان أشعياء النبى : " بذلت ظهرى للضاربين وخدى للناتفين ، وجهى لم أستر عن العار والخزى " ( أش 50 : 6 ) ..... هذا الوجه الذى لم يحوله الرب عن بصاق الأشرار ( مت 27 : 3 ) ، تراه الكنيسة يحمل دلائل الحب الباذل فتشبهه بخميلة طيب أى مجموعة من الشجيرات المتشابكة التى تفيح رائحتها طيبا ، وباقات رياحين زكية ، تشتمها النفس رائحة حياة .

" شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا " ( نش 5 : 13 )

يشير السوسن إلى المجد الملوكى ، إذ يتحدث عنه الرب قائلا : " ولا سليمان فى كل مجده كان يلبس كواحدة منها " ( مت 6 : 29 ) ، فشفتا السيد المسيح تعلنان تعاليم مجيدة ، أو بمعنى آخر تقدم كلمة الحياة القادرة أن تدخل بالمؤمن إلى الحياة المجيدة الأبدية ، لهذا يقول عنه المرتل : " انسكبت النعمة على شفتيه " ( مز 45 : 2 ) .

هاتان الشفتان تحملان رائحة طيب عطرة تقطر كالمر ، وقد وصف الأنجيليون الكلمات الخارجة منهما هكذا : " لم يتكلم إنسان مثل هذا قط " ( يو 7 : 47 ) ، " كان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه ويقولون " أليس هذا أبن يوسف ؟ " لو 4 : 22

أما وصفهما بأنهما يقطران مرا ممتزجا بالميعة إنما يعنى أن كلماته ممتزجة بالدخول إلى مرارة آلامه والدفن معه إذ كفن بالميعة ..... كل من يسمعه يشتهى الدخول معه فى شركة آلامه والموت معه ، يفيض المر من جسده ، ويملأ نفوس من قبلوه ، وهذا رمز واضح عن إماتة الجسد .

" يداه حلقتان من ذهب مرصعتان بالزبرجد " ( نش 5 : 14 )

تشير " الحلقة " أو " الدائرة " إلى الأبدية ، لأن ليس لها نقطة بداية ولا نقطة نهاية ، يداه أبديتان ، تشبعان النفس والجسد معا إلى الأبد ، أما كونهما من ذهب فإشارة إلى سمتهما السماوية ... فهو يمسك بعروسه ويدخل يدها فى يده السماوية ليسكب عمله فيها فتحمل قوته وامكانياته السماوية ، لتعبر معه إلى السماء .

" بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق ،

 ساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من أبريز ( ذهب ) ،

 طلعته كلبنان ، فتى كالأرز " نش 5 : 15 

تشير البطن أو الأحشاء إلى مشاعر الله العميقة المملوءة حبا وحنانا ، هذا الحنان كالعاج الأبيض ، ذلك لأن العاج يأتى كثمر للألم إذ ينزع من الفيل خلال آلامه حتى الموت ، وأما كون أحشاؤه مغلقة بالياقوت الأزرق وهو لون سماوى ، إنما ليعلن أن حبه ليس أرضيا مؤقتا بل سماوى أبدى ، وتشير الساقان إلى القدرة على السير بثبات ، وأما الذهب أو الأبريز فيشير إلى الطبيعة السماوية ، وكأن من يتحد بالعريس إنما يقدر أن يسير به فى حركة مستمرة نحو السماء ...

أما طلعته كلبنان ، فإن وجه يسوع بما يحمله من بشاشة وحنان يفرح النفس التى تريد أن تعيش فى الحياة الزوجية الروحية مع الكلمة الإلهى ، إنه أبرع جمالا من بنى البشر .... أما سر جماله فيكمن فى كونه " فتى كالأرز " ، المعروف بطوله الشامخ مع استقامته ورائحته الذكية .... هكذا يظهر السيد المسيح للنفس كالفتى الذى لا يشيخ قط .

" حلقه حلاوة وكله مشتهيات ، هذا حبيبى وهذا خليلى يا بنات أورشليم " نش 5 : 16

سر حلاوة كلماته أنها تحمل قوة وسلطانا ، فلا يعطى مجرد مجرد وصايا أو نصائح وإرشادات أو تحذيرات ، لكنه يعطى مع الكلمة قوة التنفيذ ، فترتفع الوصية بالأنسان ليدخل إلى معرفة أسرار السموات ، وتنطلق النفس من مجد إلى مجد ، تحمل باستمرار سر قوة جديدة لا تنتهى ،،،

أخيرا إذ تشعر العروس بعجز اللغة عن وصف عريسها تقول : " كله مشتهيات : هذا هو حبيبها الصديق الذى تطلبه وتسعى إليه ...... إنه مشبع لها ، فيه تجد كل حبها وإليه كل اشتياقها " ! .

الأصحاح السادس

حوار فى الحديقة

إذ شهدت النفس لعريسها بدأ غير المؤمنين يتساءلون :

" أين ذهب حبيبك أيتها الجميلة بين النساء ؟

أين توجه حبيبك فنطلبه معك ؟ "  ( نش 6 : 1 )

إذ حملت شهادة النفس عن العريس انعكاسات مجده على حياتها وتصرفاتها لقبولها " الجميلة بين النساء " ، حتى منظرها فى جماله الروحى ولد فيهم جاذبية خاصة لا ليتعلقوا بها فى ذاتها ، بل للبحث عن عريسها ، الذى هو سر جمالها .

لقد صرن فى شوق شديد نحوه مع حيرة فتساءلن : " أين ذهب حبيبك ؟ أين توجه ؟ أين أختفى ؟ إننا نريد أن نعرفه معك ، فندخل إليه ليس بدونك " . لقد أدرك غير المؤمنين أنهم لا يقدرون أن يتعرفوا على هذا العريس خارج الكنيسة ، بل معها وخلالها ، أنه عريس الكنيسة ، لذا يليق بهم لكى يدخلوا إليه أن يقبلوا العضوية فى الكنيسة ..... بهذا يصير هو رأسا لهم ، فبدون الكنيسة لا يعرف العالم المسيح ، وخارج المسيح لا توجد كنيسة .

أما اجابة الكنيسة فهى :

" حبيبى نزل إلى جنته ، إلى خمائل الطيب ،

ليرعى فى الجنات ، ويجمع السوسن ،

أنا لحبيبى وحبيبى لى ،

الراعى بين السوسن " ( نش 6 : 2 ، 3 )

ليس بالأمر العجيب أن يحوى هذا السفر تأكيدات مستمرة لوجود العريس داخل الكنيسة ، ووجوده داخل النفس التى اقتناها بدمه ، فإنه يدخل إلى القلب الحجرى المقفر ويجعل منه جنة له ( نش 4 : 12 ، 16 ) ، بل جنات داخلية يرعى فيها ، هناك يجمع السوسن الحامل سمات العريس نفسه والذى دعى أيضا بالسوسن ( نش 2 : 1 ) .

حديث العريس مع عروسه فى الحديقة   

" أنت جميلة يا حبيبتى كترصة ،

حسنة كأورشليم ،

مرهبة كجيش بألوية " ( نش 6 : 4 ) .

إذ تدخل العروس فى علاقة اتحاد مع عريسها يناجى كل منهما الآخر ، والآن إذ أعلنت العروس لغير المؤمنين وشهدت أنه بداخلها فى جنته ، وتطلب منهم ألا يبحثوا عنه فى الخارج يمتدحها العريس مستخدما بعض العبارات السابقة ( نش 4 ) مع الكشف عن جمال أعمق ، سره دخولها فى اتحاد معه أعمق .

هنا يراها " جميلة كترصة " ، وكلمة ترصة فى العبرية تعنى انشراح أو بهجة . وترصة هى أصغر البنات الخمس لصفحار بن حافر ( عد 26 : 33 ) ، هؤلاء البنات مات أبوهن وليس لهن أخ ، فوقفن أمام موسى وألعازار الكاهن وأمام الرؤساء وكل الجماعة لدى باب خيمة الأجتماع وطلبن أن يرثن أبوهن مع أخوة أبيهن ، فأعطاهن الرب هذا الحق وصار ذلك فريضة قضاء ( عدد 27 : 1 – 11 ) ، ونلن أيضا نصيبهن عند تقسيم الأرض على يد يشوع بن نون ( يش 17 : 3 ) ، ولعله فى سفر النشيد يشبه العروس بترصة كأصغر البنات اللواتى طالبن بحقهن أمام موسى النبى ويشوع ، وصدر الأمر من قبل الرب أن ينلن ميراثا ونصيبا ، هذا هو جمال النفس المتحدة بالمسيح يسوع ، إنها فى دالة بغير خوف تطلب ميراثها ونصيبها أى حقها لتعيش كعضوة حية فى الجماعة المقدسة . وما هو هذا الميراث أو هذا النصيب الذى للمؤمن إلا الرب نفسه الذى تقبله النفس فى داخلها .

أيضا يرى الرب الكنيسة أنها " حسنة كأورشليم " مدينة الملك ، إنه جمال أمتزج بالقوة ، بمعنى أن المسيحى يحمل مع الجمال قوة ، فهو جميل بوداعته ورقته كما أنه قوى بشجاعته وحزمه ، أما سر قوته ونصرته فهى " الدموع " التى يسكبها بقلب منكسر أمام الله فتأسر المحبة الإلهية ، إذ يقول له الرب :

" حولى عنى عينيك فأنهما قد غلبتانى " ( نش 6 : 5 ) . 

أنها من أجمل العبارات المؤثرة فى الأنجيل ، التى توضح مدى رقة وحب الله للبشرية ، لقد غلبت مراحم الله بدموع المرأة الخاطئة وتنهدات اللص اليمين ، فإن الله لا يحتمل أن يرى دموع الأنسان وانسحاقه ، ولعل أعظم مثل لهذا أخاب الملك الشرير الذى قتل وورث ( 1 مل 21 : 19 ) ، والذى شهد عنه الكتاب : " لم يكن كأخاب الذى باع نفسه لعمل الشر فى عينى الرب الذى أغوته أمرأته ، ورجس جدا بذهابه وراء الأصنام ... " ( 1 مل 21 : 25 ) ، إذ سمع كلام الرب ضده على لسان إيليا النبى شق ثيابه وجعل مسحا على جسده واضطجع بالمسح ومشى بالسكوت ، لم يحتمل الرب هذا المنظر بل قال لأيليا النبى : " هل رأيت كيف أتضع أخاب أمامى ؟ فمن أجل أنه قد اتضع أمامى لا أجلب الشر فى أيامه " ( 1 مل 21 : 29 ) .
" شعرك كقطيع معز رابض فى جلعاد ، أسنانك كقطيع نعاج صادرة من الغسل ،

اللواتى كل واحدة متئم وليس فيهن عقيم ، شفتاك كسلكة من القرمز ، كلامك حلو ،

خدك كفلقة رمانة ( ترى من ) تحت نقابك " نش 6 : 5 – 7 )

" هن ستون ملكة وثمانون سرية وعذارى بلا عدد ،

واحدة هى حمامتى كاملتى ،

الوحيدة لأنها هى ، عقيلة ( المختارة ) والدتها هى ،

رأتها البنات فطوبنها ، الملكات والسرارى فمدحنها " ( نش 6 : 8 ، 9 ) .

إنه يمدحها خلال لغة الأرقام ... فماذا يعنى بالستين ملكة ؟ والثماثين سرية ؟ والأبكار بلا عدد ؟ وحمامته الكاملة الواحدة ؟ !

أولا : ربما قارنها بالخليقة السماوية المحبة له ، فرأى فى السمائيين طغمات كثيرة شبههم بالستين ملكة والثمانين سرية والأبكار بلا عدد ..... هؤلاء على درجات متفاوتة من جهة القامة ، أما كنيسته التى أقتناها العريس بدمه وقدسها بروحه القدوس ، فقد صارت العروس الواحدة الحمامة الكاملة ، هذا هو سر جمالها وكمالها وقوتها : لقد صارت جسد الرب الواحد ، مع أنها تضم أعضاء كثيرين ، إذ " يجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد " ( يو 11 : 52 ) ، يجتمعون فيه ( أف 1 : 10 ) .

أما سر وحدتها فلا يقوم على مجرد اجتماع الأعضاء معا فى مكان واحد ، أو اتحادهم فى لغة واحدة أو ثقافة واحدة .... إنما يقوم على العوامل الإلهية التالية :

( أ ) إنها حمامته ... لقد وهب كنيسته الروح القدس الإلهى لينطلق بالمؤمنين كحمامة واحدة ، تنال حياة الشركة مع الله .

( ب ) أنها كاملته : إذ تلبس الكنيسة السيد المسيح الكامل ، تصير به كاملة ، فتقوم وحدتها على أساس الدخول فى " الحياة الجديدة الكاملة " التى لنا فى المسيح يسوع ، هذا يظهر بوضوح فى صلاة الرب الوداعية ، ليلة آلامه ، إذ يقول :

" أيها الأب القدوس ، أحفظهم فى اسمك ، الذين أعطيتنى ليكونوا واحد كما نحن ، ليكون الجميع واحدا ، كما أنك أنت أيها الآب فى وأنا فيك ، ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد ، أنا فيهم وأنت فى ليكونوا مكملين إلى واحد " ( يو 17 ) .

( ج ) وحيدة أمها ومختارة والدتها : من هى هذه الأم أو من هذه الوالدة التى تتطلع إلى الكنيسة كوحيدتها والمختارة ؟ ! إنها أورشليم السماوية ، التى لا عمل لها إلا انتظار هذه العروس الواحدة التى خطبها الرب يسوع لتبقى شريكة فى المجد إلى الأبد ، كأن سر الوحدة ينبع من دخول المؤمنين إلى الأبدية .... أو انطلاقهم من دائرة الزمن .

ثانيا : يمكن أن نفهم من لغة الأرقام الرمزية اعلانات عن سر جمال الكنيسة وكمالها وقوتها :

( أ ) ستون ملكة : تشبه الكنيسة بستين ملكة ، لأنه إن كان رقم 12 يمثل ملكوت الله على الأرض كما سبق فرأينا ، إذ يملك الثالوث القدوس على أربعة جهات المسكونة ( 3 × 4 ) . فإنه إذ يملك الله على حواس المؤمنين الخمس ( 12 × 5 ) يكون رقم ستون رمزا لملكية الله على حياة المؤمنين ، أو على حياة الكنيسة الممتدة فى كل جهات المسكونة .

( ب ) ثمانون سرية : .... هنا تظهر الكنيسة كسرية ، أى تعيش فى حياة خفية روحية مع العريس . أما رقم ثمانون فيشير إلى اتساع الكنيسة بالطبع الأخروى وهى بعد على الأرض ، فإن رقم 10 يشير إلى حياتنا الزمنية ، أما رقم 8 ( 10 × 8 ) فيشير إلى الحياة الأخرى كما سبق فرأينا ، لأنه تعدى رقم 7 الذى يشير لأسبوع حياتنا . لهذا جاء الختان فى اليوم الثامن ، وقام الرب فى اليوم الأول من الأسبوع الجديد أو الثامن من الأسبوع السابق ، وخلص فى فلك نوح ثمانى أنفس ... هذه كلها تشير للحياة الجديدة العلوية أو السماوية ، فالكنيسة وهى تعيش على الأرض ( 10 ) تحيا بالحياة الجديدة السماوية .

( ج ) عذارى بلا عدد : هنا الرقم غير المحدود يشير إلى عذراوية الحياة كلها للرب ، فيقدم المؤمن قلبا عذراويا لا يقبل عريسا غير الرب ، وفكرا عذراويا ، وأحاسيس عذراوية ... لهذا شبه ملكوت الله بالعذارى خرجن لأستقبال العريس .

( د ) الواحدة : وحدانية الكنيسة سمة رئيسية فى حياة الكنيسة ، إذ يعلن المؤمن " نؤمن بكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية " ، سر الوحدانية بنوتها لله الأب الواحد باتحادها مع السيد المسيح بواسطة الروح القدس فى المعمودية .

يمكن أن تفهم " واحدة هى حمامتى كاملتى " أنها القديسة مريم العذراء ، وقد انطبق عليها ما ورد فى سفر النشيد بعد ذلك :

 " من هى المشرقة مثل الصباح ، جميلة كالقمر ،

 طاهرة مختارة كالشمس ، مرهبة كجيش بألوية " ( نش 6 : 10 ) 

اهتمام العروس بالعمل : 

" نزلت إلى جنة الجوز لأنظر إلى ثمر الوادى ،

لأنظر هل أزهر الكرم ؟

هل نور الرمان ؟ هناك أعطيك ثدييى ،

فلم أشعر ألا وقد جعلتنى نفسى كمركبات عميناداب ،

أرجعى أرجعى يا شولميث ، أرجعى أرجعى فننظر إليك ،

ماذا ترون فى شولميث ؟ مثل انتظام صفوف فى معسكر " ( نش 6 : 11 – 13 ) .

إن كان الرب قد مدح عروسه هكذا ، فإن العروس أمام هذا الحب العظيم لم تقف لتنصت للمديح لكنها نزلت إلى واديها الداخلى للعمل ، نزلت إلى جنة الجوز وأعطت اهتماما بالكرم وشجر الرمان .

نزلت العروس إلى جنة الجوز لتكشف أن الجوز قد طرح ثماره بطريقة كهنوتية ، فإن هرون الكاهن الأعظم قد أفرخت عصاه وقدمت ثمر الجوز ( عدد 17 : 8 ) .

العجيب أن مديح الرب للنفس الأمينة لا يدفعها للكبرياء بل ينخسها للعمل فتنزل لترى كرم الرب الذى فى داخلها والأشجار التى غرستها يمينه : هل أزهر الكرم ؟ هل نور الرمان ؟

إذ تدخل جنة الرب التى فى داخلها ، وتتلمس عمله فيها ، تفرح بالثمر ولو أنه لا يزال فى البداية ، فتناجى عريسها : " هناك أعطيك ثدييى .... " أى أرد حبك بالحب ، كما قدمت لى ثدييك اللذين هما العهد القديم والعهد الجديد ، وها كلمتك قد أثمرت فى داخلى ، فأرد لك ما هو ملكك ، أقدم لك ذات العهدين ، لأن كتابك صار كتابى ... تشهد لكلمة الله عمليا أمام الآخرين وتقدم الكلمة لأخوتها ...

فى هذا الجو المملوء جهادا مع فرح وتسبيح ينادى العريس عروسه قائلا : " أرجعى أرجعى يا شولميث .... " لقد دعاها " شولميث " وهو مؤنث " شالم أو سالم أو سليمان " ، وكأن السيد المسيح نفسه هو سليمان الحقيقى ، يناديها بلقبه هو . أما سر سلامها فهو رجوعها المستمر إليه ... يعتز السيد المسيح بكنيسته أو بالنفس التى هى عضو فى كنيسته ، إذ يراها وهى تحمل فى داخلها السلام قد صارت كصفوف جنود منتظمة للحرب الروحية .

الأصحاح السابع

وصفه للعروس شولميث

" ما أجمل خطواتك بالنعلين يا بنت الأمير " نش 7 : 1

يلقبها " بنت الأمير " ، إذ هى منتسبة لله ، ولدت من الماء والروح كأبنة للملك السماوى ، لهذا دعيت فى المزمور ( 45 : 13 ) " أبنة الملك " ، فإن كانت فى أصلها ( بعد السقوط ) حقيرة ومزدرى بها ، لكن بانتسابها لله حملت أصلا ملوكيا .

أما حديثه عن " النعلين " إنما يشير إلى الكنيسة – كجماعة أو كأعضاء – وقد احتذت بانجيل السلام ( أف 6 : 15 ) ، وكأن العريس قد ركز فى بدء وصفها بخطواتها الأنجيلية ... تسلك طريق العريس ذاته . كقول الرسول بولس : " ما أجمل أقدام المبشرين بالسلام ، المبشرين بالخيرات " رو 10 : 15 . ( راجع أشعيا 52 : 7 ) ، ( ناحوم : 1 : 15 ) .

" مفاصل فخذيك مثل الحلى ( السلاسل ) ، صنعة يدى صانع " نش 7 : 1

الفخذان يحملان الجسد ويعينانه على الحركة ، لهذا فإن مفاصل الفخذين إنما تشير إلى وحدة الكنيسة المقدسة فى المسيح يسوع خلال المحبة ، ( راجع أف 4 : 16 ) ، ( كو 2 : 19 ) .

هذه الوحدة كالسلاسل تربط البشرية معا مع اختلافها فى اللغة والجنس والثقافات ، كما تربط الأجيال معا ، فتحمل الكنيسة الروح الجامعية على المستوى المكانى ( فى كل العالم ) والمستوى الزمانى ( عبر الأجيال ) .... وهى من صنع يدى صانع ماهر ، ألا وهو الروح القدس واهب الشركة .

" وسرتك كأس مدورة ، لا يعوزها شراب ممزوج " نش 7 : 2

ترشم السرة بدهن الميرون فى سر التثبيت ، لأن الروح القدس يقدس الأعضاء الظاهرة كما يقدس الأحشاء الداخلية ، ليكون الأنسان بكليته للرب .

هكذا يرى السيد المسيح فى كنيسته قد دخلت معه فى الحياة الزوجية على مستوى سماوى ، وقد قطعت سرتها فصارت كأسا مدورة أى حملت الطبيعة السماوية ( الدائرة التى بلا بداية ولا نهاية ) ، لا يعوزها شراب ممزوج ، إذ لم تعد فى أحشاء العالم تطلب أفراحه الخارجية ....

" بطنك صرة ( كومة ) حنطة مسيجة بالسوسن " نش 7 : 3 .

تحوى الكنيسة فى داخلها مخازن غذاء روحى ( حنطة ) مشبع للنفس يسكن فى داخلها السيد المسيح ، الخبز الحى النازل من السماء ، الذى من يأكل منه يحيا إلى الأبد ( يو 6 : 51 ) ، هذه الخيرات محاطة بسياج من السوسن الذكى الرائحة ، وكأن ثمار الكنيسة مشبعة وجميلة تجتذب النفوس .

" ثدياك كخشفتين توأمى ظبية " نش 7 : 3

( راجع نش 4 : 5 ) .

" عنقك كبرج من عاج " نش 7 : 4

( راجع نش 4 : 4 ) ، ... الآن يصفها " كبرج من عاج " والعاج يشير إلى قبول الألم حتى الموت ، فإن كان إيمان الكنيسة عاليا كالبرج ، مرتفعا نحو السماء ، فقد قبلت كل صنوف الألم حتى الموت ، لتبقى أمينة فى إيمانها ، لا تنحرف وراء كل ريح تعليم غريب ولا تتلوث بالبدع والهرطقات لقد كلفها إيمانها الرسولى الأصيل الثمن الكثير !

" عيناك كالبرك فى حشبون عند باب بث ربيم " نش 7 : 4

إن كان قبلا قد وصف عينيها بعينى الحمامة ، حيث تتجلى فيهما صورة الروح القدس الذى يقدس سيرتها الداخلية بتطلعها المستمر إليه بغير إنحراف ، فإنه الآن يصفهما  ببرك السمك فى حشبون ، هذا المنظر يكشف عن إتساع بصيرتها ، فهى كالبرك المنفتحة على السماء لا يحجبها عنها شىء ، هذا الأنفتاح نحو السماء يولد فيها انفتاحا نحو البشر أيضا ، لذا دعاها " برك السمك " ، كل من ينظر إليها يجدها تحوى الأسماك داخلها .. لا تهتم بما لنفسها بل بما هو للأخرين ( الأسماك تشير إلى جماعة المؤمنين ) ، إنه لا يصفها بالينابيع لئلا تحمل فقاعات هواء ( تشير إلى الحياة الجوفاء ) ، ولا بالبحر إذ ليس فيها اضطرابات أو قلق ، بل فى بساطة الأيمان تعيش بنظرة روحية هادئة .

" أنفك كبرج لبنان الناظر تجاه دمشق " نش 7 : 4

هذا التعبير يشير إلى شهامة الكنيسة وشجاعتها المقدسة فى الحق ، وعدم خوفها من الباطل ، فإن كانت وديعة متواضعة لكنها فى نفس الوقت قوية وجبارة .

والأنف يشير إلى حاسة الشم للتمييز بين رائحة المسيح الذكية وأطايب العالم الزائلة ..

" رأسك عليك مثل الكرمل ، وشعر رأسك كالقرمز ،

الملك قد حجز فى الشرفات " نش 7 : 5

رأس الكنيسة مرتفع كالكرمل ، الجبل الذى يرتفع إلى أقل من 2000 قدم ، ليس فى تشامخ بشرى وأعتداد مملوء عجرفة ، بل فى قوة النصرة على محبة العالم وكل عواصفة .

والكرمل يعنى " أرض الحديقة " ، أمتاز بالخضرة الكثيفة والثمار الكثيرة والغابات ، هكذا لا يظهر رأس الكنيسة فارغا بل مثمرا ، لا تلهو فيها أية أفكار باطلة ، إنما تحمل أعمالا مجيدة وتقدم ثمارا تشبع الكثيرين .

على رأس الكرمل سجد إيليا النبى وخر على الأرض طالبا من الله أن يعطى مطرا للأرض ( 1 مل 18 : 42 – 46 ) ، وفى الكنيسة يتعبد المؤمنون بانسحاق أمام الله لكى يمطر على القلوب الجافة بمياة نعمته حتى تلين بالتوبة وتأتى بالثمر المطلوب ....

أما الشعر فقد رأيناه قبلا يشير إلى جماعة المؤمنين ، أنه كالقرمز ، وهو لباس الملوك كما يحمل رمز دم المسيح باتحادنا مع العريس الملك ، صارت كل الأعضاء تحمل سمة الملوكية خلال تقديسها بالدم الكريم .

أمام هذا المنظر الجميل يقول العريس " الملك قد حجز فى الشرفات " وكأنه لا يريد أن يتركها ، هذا ما أكده المرتل بقوله " الرب قد أختار صهيون ، ..... ( مز 132 : 13 ، 14 ) .

" ما أجملك وما أحلاك يا حبيبى !

هذه هى عظمتك فى لذاتك : قامتك هى شبيهة بالنخلة وثدياك بالعناقيد ،

قلت أنى أصعد إلى النخلة وأمسك بسعفها العال ، وتكون ثدياك كعناقيد الكرم ،

 ورائحة أنفك كالتفاح ، وحلقك كأجود الخمر ،

تسوغ بلذة لحبيبى وتسيل على شفتى وأسنانى " ( نش 7 : 6 – 9 ) .

فى ختام وصفه لها يناجيها : ما أجملك ؟ ! ما أحلاك ؟ !

هوذا قد ظهرت قامة الكنيسة ، إنها كالنخلة تمتاز بطولها واستقامتها ... لقد ارتفعت لتبلغ ملء قامة المسيح ( أف 4 : 13 ) ، وكما يقول المرتل : " الصديق كالنخلة يزهو ، كالأرز فى لبنان ينمو " ( مز 92 : 12 ) ، لهذا رمز للسبعين رسولا بسبعين نخلة ( خر 15 : 27 ، عد 33 : 9 ) ، كما زين بيت الله بالنخيل ( 1 مل 6 : 29 ) ، النخلة بجذورها الخفية العميقة تلتقى بينابيع المياة الحية ، وهى تقدم ثمرها ظافرا ونافعا لكثيرين خاصة فى المناطق المقفرة ...

يفرح العريس بعروسه المثمرة ، فيصعد إلى النخلة ليجنى ثمارها ، أما أنواع الثمر فهى :

-         يرى ثدييها كعناقيد الكرم .... إنهما العهدان القديم والجديد ، ....

-         يرى أنفها كالتفاح ... وقد رأينا فى التفاح رمزا للتجسد الإلهى ، وكأنها تشتم على الدوام رائحة الإله المتجسد .

-         حلقها كالخمر الجيد ، يشير بكلمات الفرح المستمر ، المستساغة اللذيذة الطعم التى تجعل العريس نفسه أيضا يفرح لفرحها ، فتظهر علامات الفرح على شفتيه وأسنانه .

إذ سمعت العروس وصف العريس ومديحه لها أجابته : أن كل ما قد وصفتنى به إنما هو منك ولك يا حبيبى .

" أنا لحبيبى ، وإلى اشتياقه " نش 7 : 10

هنا ارتفعت العروس إلى الأبدية لا لتقدم حياتها له استجابة لحبه وإنما لتكشف على مستوى العلانية واللانهائية مدى شوقه إليها " أنا لحبيبى وإلى اشتياقه " كأنها تقول له ... لقد عرفت سر مديحك لى ، إنك تطلبنى أكون معك ولك ، أكون موضع شوقك إلى الأبد !

صارت العروس تناديه :

" تعال يا حبيبى لنخرج إلى الحقل ،

ولنبت فى القرى ، لنبكرن إلى الكروم ،

لننظر هل أزهر الكرم ؟ ! هل تفتح القعال ؟ هل نور الرمان ؟

هناك أعطيك حبى ( ثدييى ) " ( نش 7 : 11 ، 12 ) .

أى حقل هذا ، لعله حقل العمل الإلهى المتسع على مستوى البشرية كلها ، هذا الذى قال عنه الرب نفسه : " ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد أبيضت للحصاد " ( يو 4 : 35 ) ... إن كان ربنا نفسه يدعونا للعمل ، لكننا لن نخرج بدونه ، بل معه وبه لأنه هو صاحب الكرم وهو الذى يهبه النمو ....

ما هى هذه القرى ؟ لعلها تقصد حياتها الداخلية بجوانبها المتعددة ، وهنا أيضا دعوة لخدمة القرى ، فالكنيسة ملتزمة بالكرازة والرعاية داخل القرى حيث البسطاء أيضا .

أخيرا تقول العروس : " هناك أعطيك حبى .... " هناك فى مجال الخدمة ، فى حقل الرب ، فى القرى ، فى الكروم حين تقدم للبشرية اتحادها مع المسيح عريسها إنما تقدم للرب حبها أو تقدم العهدين ، تقدم كلمة الله بكونه الغذاء المشبع للنفوس .

+ أخيرا تقول له :

" اللقاح يفوح رائحته ، وعند أبوابنا كل نفائس ( الثمار ) من جديدة وقديمة ،

ذخرتها لك يا حبيبى " ( نش 7 : 13 ) .

اللفاح من أجمل الزهور التى تشير إلى الوحدة الزوجية بين الرجل وامرأته ، ... العروس تختم حديثها بقولها لقد فاحت رائحة الحب الوحدوى أو الزوجى بين العريس السماوى وعروسه ، وحان وقت كمال هذه الوحدة .

هذه الوحدة التى ظهرت رائحتها تحمل ثمارا نفيسة جاءت جديدة فى كل يوم وقديمة أى أصيلة وعميقة ... هى ثمار كلمة الله العاملة فى نفوس المؤمنين .

هذا ما تقدمه العروس الأم للمسيح العريس الأبدى ... تقدم ثمار أعضائها بالروح القدس ! .

الأصحاح الثامن

العروس العاملة

فى بدء النشيد بدأت العروس بالألحاح فى الدخول إلى حياة الشركة معه ، تود أن تختلى به أكثر فأكثر فى البرية ، وأخرى فى الحديقة ، وثالثة فى الحقل والقرى ، ورابعة فى بيت أمها لتسقيه من خمر حبها كما أرواها هو بحبه الأبدى ، لهذا تناجيه قائلة :
 " ليتك كأخ لى الراضع ثدييى أمى ،

فأجدك فى الخارج ، وأقبلك ، ولا يخزوننى ،

وأقودك وأدخل بك بيت أمى ، وحجرة من حبلت بى ،

وأنت تعلمنى ،

فأسقيك من الخمر الممزوجة من سلاف رمانى " ( نش 8 : 1 ، 2 )

إن كان هذا الأصحاح فى جوهره حديث عن الخدمة ، فإن أساس الخدمة وأساسها تمتع الخادم أولا بعريس الكنيسة ، حتى متى ألتقى بأخوته يشتمون فيه رائحة " الحياة " يتقبلون العضوية فى الكنيسة جسد المسيح الحى .

لعل سر دعوتها له برجاء " ليتك كأخ لى ... " إنما تعلن عن شهوة كنيسة العهد القديم التى كانت تنظر إلى الله كمن هو فى الخارج ، إذ تقول " أجدك فى الخارج " ، تطلب إليه أن ينزل إلى جنس البشر ولا يبقى منعزلا ، بل يصير أخا بكرا باشتراكه معنا فى طبيعتنا وحلوله فى وسطنا ، فنستطيع أن نتعرف عليه ، ونقبله بقبلات العبادة العلنية ، وندخل به إلى حياتنا الداخلية .

الخادم الحقيقى يبقى على الدوام فى الكنيسة – بيت أمه – عند قدمى المخلص يطلب أن يتعلم ، حتى إن دعى " معلما " أو " أبا " لكثيرين .

تعود وتؤكد العروس اتحادها بعريسها وتعلقها به فتردد ما سبق أن قالته قبلا :

" شماله تحت رأسى ، ويمينه تعانقنى ، أحلفكن يا بنات أورشليم بأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء " ( نش 8 : 3 ،4 ) .

إنها ذات الكلمات التى نطقت بها حين أعلنت أنها " مجروحة حبا " ، لعلها أرادت هنا أن تؤكد أنها وإن قدمت حياتها للخدمة ، لكنها فى هذا لا توقف شركتها معه وانشغالها به .... بل تؤكد إنه لن تسمح بشىء أو أحد أن يعوق اتحادها به ، فالخدمة الحية لا تلهى الخادم عن مسيحه بل بالحق تدخل به إلى أعماق أكثر فى الحياة معه .

شهادة العالم له     

إذ يتطلع العالم إلى الكنيسة التى هى جسد المسيح والشاهدة له أمامه ، يقول لها :

" من هذه الطالعة من البرية ، كلها بيضاء ، مستندة على حبيبها " ( نش 8 : 5 ) .

إنها لم تكن بيضاء فى البداية ، إنما صارت بيضاء فيما بعد ، لأنه : " إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج " ( أش 1 : 18 ) – لقد كانت قبلا سوداء ( كخيام قيدار ) ، فكيف صارت بيضاء إلا بالمعمودية ؟

هذه الدهشة أصابت السمائيين أيضا عندما يرون ما يصل إليه الأنسان البشرى خلال اتحاده بالسيد المسيح فى جرن المعمودية ، كما يردد السمائيون القول التالى :

" تحت شجرة التفاح شوقتك ( رفعتك ) ، هناك ولدتك أمك ،

 هناك وضعتك والدتك " ( نش 8 : 5 ) .  

هذا هو سر صعودها من البرية كلها بيضاء مستندة على حبيبها ، أنها قد وضعتها أمها وأنجبتها والدتها تحت شجرة التفاح .

هنا ربط بين التجسد الإلهى وولادتنا الروحية ، فالسيد ولد جسديا لكى نولد نحن روحيا ، وهذا هو سر الأحتفال بعيدى الميلاد والغطاس فى يوم واحد فى الكنيسة الأولى ... إذ يرتبط العيدان معا فى ذهن الكنيسة .

عدم الأنشغال بالخدمة على حساب العريس :

تؤكد العروس العاملة التصاقها بعريسها وسط انشغالها بخدمة القريب قائلة :

" أجعلنى كخاتم ( ختم ) على قلبك ، كخاتم على ساعدك ،

لأن المحبة قوية كالموت ، الغيرة قاسية كالجحيم ،

لهيبها لهيب نار ، لظى الرب ، مياة كثيرة لا تستطيع أن تطفىء المحبة ،

والأنهار لا تغمرها ، إن أعطى الأنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقارا "  نش 8 : 6

إن كانت النفس قد تمتعت خلال المعمودية بالميلاد الجديد تحت شجرة التفاح ، وفى سر الميرون ختمت بختم الروح القدس ، فصارت فى ملكية العريس ، تحمل ختمه وسماته ، فإنها تعتز بهذا الختم الذى صار لها فى كل جوانب حياتها ، هذه الحياة تشعل لهيب حبها نحوه فتسأله لا أن يقبلها بين ذراعيه أو يأخذها فى احضانه الأبدية ، بل تشتهى أن تلتصق به كالختم على قلبه وساعديه ، لا يفصلها حتى الموت عنه ! إنها تطلب أن تكون ختما على قلب العريس ، فهى لا تطلب أن يكون لها مجرد موضع فى قلبه بل تحتل القلب كله ، وكأن الله لا ينشغل إلا بها ، تريد لا أن يكون اسمها منقوشا على قلبه ، بل هى بكل حياتها مختومة عليه ، فلا يقدر أحد أن يقترب أو يمحو أسمها من أمام وجه الله .

فى سفر أشعيا النبى يقول الرب " هوذا على كفى نقشتك " " 49 : 16 أما هنا فالعروس تطلب أن تكون خاتما على ساعده ....

بهذا تستقر العروس فى قلب الله " مركز العاطفة والحب " فى ساعده " مركز العمل " تستريح إلى الأبد على عرش محبته وعلى كرسى قدرته ! هذه هى دالة الكنيسة لدى عريسها !

أما سر هذه الدالة القوية فهو الحب الذى سكبه الرب فى قلبنا من نحوه لهذا تقول " المحبة قوية كالموت ، الغيرة قاسية كالقبر ... "

خلال الحب مات كثيرون عن العالم ليحيوا لله .

عندما قدمت حبها كله للرب اتسع قلبها لأخوتها فقامت تطلب عنهم ، قائلة :

" لنا أخت صغيرة ليس لها ثديان ، فماذا نصنع لأختنا فى يوم تخطب ؟ !

أن تكن سورا فنبنى عليها برج فضة ، وأن تكن بابا فنحصرها بألواح أرز ،

أنا سور وثديى كبرجين ،

حينئذ كنت فى أعينهم كواجدة سلامة " نش 8 : 8 – 10   

هذه العبارات البسيطة تحمل دستورا لحياة الخدمة تتلخص بنوده فى النقاط التالية :

( 1 ) ادراك مركز غير المؤمنين بالنسبة للكنيسة ، انهم يمثلون الأخت الصغيرة ، هى أخت للعريس كما للعروس ، .... قد تخطىء الأخت الصغرى فى حق الكبرى ، فلتحتملها الثانية لأنها الكبرى .

( 2 ) عمل الكبرى تقديم العهدين ( الثديين ) أى كلمة الله للأخت الصغرى ، هذا هو عمل الكنيسة الأنجيلى ، تقديم كلمة الله الحية لكل انسان .

( 3 ) ماذا تفعل الكنيسة للأخت الصغرى وقد طلبها العريس كخاطب وها هى بلا ثديين ؟ ! لتعاملها بكل عطف وحب ، فلا تعيرها وتجرح مشاعرها وإنما تترفق بها وتقدم لها كل امكانية ، فإن كانت الصغرى سورا تبنى عليها برجا فضيا ، وإن تكن بابا تحصرها بألواح الأرز ، أنها تسندها بالعمل الأيجابى .

تقدم الأخت الكبرى نفسها وحياتها للصغرى ، فتقول لها ان كنتى فى حاجة إلى سور يحوط حولك وبرجين يرتفعان بك .. فأنا فى خدمتك " أنا سور وثدييى كبرجين " إقبلى السيد المسيح الذى فى داخلى سورا لك وكتابى المقدس ثديين يشبعانك .

" كان لسليمان كرم فى بعل هامون ، دفع الكرم إلى نواطير ( حراس ) ،

كل واحد يؤدى عن ثمره ألفا من الفضة ، كرمى الذى لى هو أمامى ،

الألف لك يا سليمان ومئتان لنواطير الثمر ، أيتها الجالسة فى الجنات ،

الأصحاب يسمعون صوتك ، فاسمعينى ،

أهرب يا حبيبى وكن كالظبى أو كغفر ( صغير ) الأيائل على جبل الأطياب " نش 8 : 11 – 14

إذ تدخل الكنيسة بالعالم إلى عريسها السيد المسيح ... تدعو الكل أن يتمتع به ، وهنا توضح الكنيسة مبدأ هاما فى الخدمة : إن الكرم إنما هو كرم المسيح ، وهو الذى يعمل فيه خلال الكرامين ، لذلك تقول " كان لسليمان كرم فى بعل هامون " . إن الكرم ليس كرمها ، بل هو كرم " سليمان الحقيقى " ....

الله يقوم بفلاحتنا نحن كرمه  .... أما زرعنا فهو العمل الذى فى قلوبنا ، وهو لا يعمل بأيد بشرية ، إنه يقوم بفلاحتنا : " أنا الكرمة وأنتم الأغصان ... أبى الكرام " يو 15 : 1 ، 5

لقد سلم الرب هذا الكرم إلى كرامين ... " دفع الكرم إلى نواطير " لكنه لا يكف عن أن يعتنى بالكرم بنفسه ويهتم به فى محبة شديدة ، إذ يقول " كرمى الذى لى هو أمامى " .. يحرسه بنفسه ليلا ونهارا لا يبخل عليه بشىء ،

إن كان الثمر يقدم لحساب السيد المسيح فما هو نصيب الخدام ؟

" الألف لك يا سليمان ومئتان لنواطير الثمر " ... وربما قصد بالمئتين أن يكون مئة لرجال العهد القديم والمئة لرجال العهد الجديد ، فالثمر كثير يتمتع به كل الخدام فى العهدين ، لهذا يقول الرسول بولس لشعبه " يا سرورى وأكليلى " فى 4 : 1

إذ تعمل الكنيسة فى كرم الرب ، ويدرك العاملون أنهم يعملون لحساب السيد المسيح الذى له " الألف " وأيضا لحساب أنفسهم فلهم " المائتان " ، يصيرون كمن هم فى وسط الجنات ، يتحول الباب الضيق والطريق الكرب إلى نير هين وحمل خفيف ، يعيشون وهم على الأرض كمن فى فراديس مفرحة ، لذا يناجى الرب عروسه قائلا : " أيتها الجالسة فى الجنات ، الأصحاب يسمعون صوتك ، فاسمعينى " .

أما فتجيبه بالفرح قائلة : " أهرب ( أسرع ) يا حبيبى ولكن كالظبى أو كغفر ( صغير ) الأيائل على جبل الأطياب " .

ولعل مجيئه مسرعا على جبل الأطياب يذكرنا بالأطياب التى كفن بها السيد ، فإنه يلتقى معها خلال دفنها معه ... إذ تموت معه كل يوم ، لكى تحيا معه إلى الأبد .

هذا هو ختام النشيد .... وكأنها تردد ما قالته العروس فى سفر أبو غلامسيس ( الرؤيا ) :

" أمين .. تعال أيها الرب يســــــوع " !

عودة الى الرئيسية