منار الحق

أدلة قرآنية على صحّة الديانة المسيحية

فهرس الكتاب

الباب الأول:  الآيات القرآنية التي تبيّن أن محمداً لم يأت بالآيات المعجزات ٥

الباب الثاني:  الآيات القرآنية التي تبرهن أن محمداً لم يُرسَل مجبِراً ومكرِهاً للناس على الإيمان بة   ٢٤

الباب الثالث:  الناسخ والمنسوخ في القرآن         ٤٢

الباب الرابع:  الآيات القرآنية التي تبيّن أن التوراة و الإنجيل لم يتغيّرا ولا تحرفا   ٥٧

الباب الخامس:  الآيات القرآنية التي تدل على أن النبوّة والكتاب خاصان ببني إسرائيل       ٧٨

الباب السادس:  الآيات القرآنية التي تشير للاهوت المسيح ١٠١

المسابقة لمنار الحق

 

فاتحة

الحمد للّه الذي أَنْزَلَ الكتاب نوراً وهُدىً لأُولي الألباب، وأقامَهُ بالبيّنات الراهنات حجَّة اللّه مدى الأزمنة والأوقات.

أما بعد، فلمَّا كان للمسلمين في قرآنهم من حُسن الشهادة للتوراة والإنجيل، ودلالة سلامتها من شائبة التحريف والتبديل، وإشارات إلى لاهوت المسيح. ولما كان أكثرهم يرمون الكتاب بالتحريف، ويعتبرون المسيح كأحد الأنبياء العظام، أو دون بعضهم في العظمة والمقام - كأنهم لم يتلوا من القرآن إلا شَذَرات، ولم تمرّ أبصارهم على كبار الآيات المُبيِّنة سلامة الكتاب، والجاعلة المسيح موضوع العجب العجاب، كنت كثيراً ما أفكر في ذلك، وأطرح تضرُّعي أمام إلهي أن يعلن لهم حقَّ ابنه بواسطة كتابهم، مفكِّراً في أفضل وسيلة لذلك. إلى أن اتاح لي الله الاطلاع على أشهر كتبهم الدينية بعد القرآن، ككتب السنَّة (الحديث)، والسيرة النبويّة و”إحياء علوم الدين” للإمام الغزالي، وتفسير القرآن للإمام الفخر الرازي وللإمام البيضاوي، وللجلالَين، فأخذت في دراستها. ثم صرفت جهدي في جمع الآيات القرآنية الدالة على صحة الديانة المسيحية، مع خلاصة تفسيرها في كتب الأئِمَّة المذكورين. ولمَّا تيسّر لي بعونه سبحانه نوال المطلوب، نسقتها على المنوال المُدرج في هذا الكتاب، مع تقييد ملاحظات وذيول للأبواب، وخاتمة. فجاء كتاباً صغير الحجم كبير الفائدة، راجياً من لا يُرجَى سواه أن يفيد به من يقف عليه ويتروّاه. ولما كنت أعرف قصر باعي في فن الإنشاء والتأليف، لا آمَن خلوّه من الضعف والركاكة. غير أن أملي بحِلم القارئ النبيل أن يسبل ذيل المعذرة على ما يرى فيه من الوهن والتقصير، ويصلح ما ربما يراه فيه من الخطأ والنسيان، فإن العصمة للّه.

 

القاهرة سنة ١٨٩٤

 

 

الباب الأول الآيات القرآنية التي تبيّن أن محمداً لم يأت بالآيات المعجزات

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” (الأنعام ٦: ٣٧).

التفسير الاسلامى : قالوا إن هذا النوع الرابع من شبهات منكري نبوة محمد (ص)، لأنهم قالوا: لو كان رسولاً من عند الله فَهلاّ أُنزِل عليه آية قاهرة ومعجزة باهرة. ويُروى أن بعض الكفرة طعن فقال: لو كان محمد قد أتى بآية معجزة، لما صحَّ أن يقول أولئك الكفار “لولا نُزِّل عليه آية” ولما قال إن الله قادر على أن ينزل آية - والجواب عنه إن القرآن معجزة قاهرة، بدليل أنه تحداهم به، فعجزوا عن معارضته، وذلك يدل على كونه معجزاً. بقي أن يُقال: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف قالوا “لولا نزل عليه آية من ربه”؟  فيأتي الإمام الرازي بالجواب على ذلك. ونذكر بعضه ملخصاً:

١          -           لعل القوم طعنوا في كون القرآن معجزاً، فقالوا إنه كتاب، والكتاب ليس مثل معجزات التوراة والزبور والإنجيل. ولأجل هذه الشبهة طلبوا المعجزة.

٢          -           إنهم طلبوا معجزات قاهرة مثل معجزات سائِر الأنبياء، كشقّ البحر وإظلال الجبل وإحياء الموتى، فأجاب الله عن سؤالهم: “قل إن الله قادر على أن ينزل آية” أي من نوع ما اقترحتموه “ولكن أكثرهم لا يعلمون”. واختلفوا في تفسير هذه الكلمة. زعم أهل السنّة أنه لما أنزل الله القرآن آية باهرة كان طلب الزيادة جارياً مجرى التعنُّت الباطل، والله سبحانه له الحكم والأمر، فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. أو “على وفق المصلحة” على قول المعتزلة.

٣          -           هو أنه لما ظهرت المعجزة القاهرة لم يبق لهم عذر ولا علة. فبعد ذلك لو أجابهم الله في ذلك الاقتراح فلعلهم يقترحون ثانياً وثالثاً ورابعاً، وهكذا الى ما لا غاية له، وذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل. فوجب في أول هذا الأمر سد هذا الباب، والاكتفاء بما سبق من المعجزة القاهرة، والدلالة الباهرة.

٤          -           إنه لو أعطاهم ما طلبوا من المعجزات القاهرة، فلو لم يؤمنوا عند ظهورها لاستحقّوا عذاب الاستئصال. فاقتضت رحمة الله صونهم من هذا البلاء، فلم يعطهم ما طلبوه رحمة منه، وإن كانوا لا يعلمون (الرازي مجلد الثاني عشر صفحة ٢٠٩-٢١١)

 

وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” (الأنعام ٦: ٣٧).

التفسير:  أي مما اقترحوه، وإن الله قادر على أن ينزل مما اقترحوه. غير أن إنزالها يستجلب عليهم البلاء، وأن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره (البيضاوي المجلد الأول صفحة ٢٧٧)

 

 

تعليقنا:  لا يُلام قريش بعدل على اقتراحهم على محمد آية كآيات الأنبياء السالفين. والقول إن الله قادر على أن ينزل آية ليس بحجة، ويمكنهم أن يجيبوا: نعم إن الله قادر على إنزال الآيات، وبيان قدرته على إنزالها أنه أنزلها على أنبيائه السالفين، كموسى وعيسى. ولو كان محمد كواحد منهم لساواه بهم من هذا القبيل.

والقوم لو رأوا القرآن معجزة لاكتفوا به عن اقتراح آية. ولو كان كذلك لما كان الجواب في الآية: “قل إن الله قادر على أن ينزّل آية”. بل: “قل إن القرآن لهم آية”. والعرب لا يجهلون أن لبعض بلغائهم كامرئ القيس، والنابغة، وقَسّ، من الخطب والقصائد ما أعجزت الآخرين عن الإتيان بمثلها. فهل اعتبروها آيات؟  وإذا كان القرآن معجزة قاهرة مثل إحياء الميت وفلق البحر، فما المانع من إضافة معجزة إليه من جنس آيات موسى وعيسى؟  وماذا يضر ذلك بحكمة الله؟

والقول:  إنه لو أجابهم الله الى طلبهم فلعلَّهم يقترحون ثانياً وثالثاً ورابعاً إنما هو من باب الظن، فلا يُؤخذ به. لعلهم كانوا قد اكتفوا واقتنعوا، لأن مطلوبهم آية، كأنهم قالوا: كيف نقبل ادّعاء رجل كهذا بالنبوَّة، مع أن رسالته جاءت بغير آية تبرهن صحة دعواه، كما برهن أنبياء اسرائيل لقومهم صحة دعواهم بالآيات التي أتوها؟  أفلا يأتينا محمد بواحدة منها لنؤمن به؟

والقول إن هذا الطلب من العرب كان جارياً مجرى التعنُّت الباطل، لا يُرى من الإنصاف بشيءٍ، ومحمد جاءهم بدين يختلف عن دين بني إسرائيل ودين النصارى ودين آبائهم. فعدم قبولهم إياه بغير آيات قاهرة كآيات الأنبياء المتقدمين دليل على نباهتهم وخلوص نواياهم. ومسألة استحقاق عذاب الاستئصال لغير المؤمنين بالآيات، مجرد احتمال لا دليل عليه.

“وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” (الأعراف ٧: ٢٠٣).

التفسير:  خلاصة التفسير أن العرب اقترحوا على محمد آية من ربه تثبت إرساليته، فأُمر أن يجيب: “قل إنما أتبع ما يُوحى إليَّ من ربي” إلى آخر الآية، لأن عدم إتيانه بآية معجزة كما اقترحوا عليه لا يقدح في الفرض، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة قاهرة. فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في إثبات النبوَّة، فكان طلب الزيادة من باب التعنُّت (الرازي المجلد الخامس عشر ١٠١-١٠٢).

تعليقنا:  رذا كان العرب اقترحوا على محمد آية تثبت إرساليته من الله، فذلك منهم عن إخلاص، ليكونوا على يقين بأنه رسول من الله. وهذا يُظهر أنهم لم يعتبروا القرآن آية، بل رأوا احتياجه إلى آية تثبت إنزاله من عند الله. فليس عند القوم شيء من التعنُّت. ولاحظ أنهم هناك قالوا في غياب محمد: “لولا نُزّل عليه آية من ربه”. وهنا طلبوا منه مواجهة عمل آية بقولهم: “لولا اجتَبيتَها” فكأنهم بعد أن تحدثوا مع بعض في أمر دعوى محمد، وقالوا: “لو أنزل الله عليه آية كآيات أنبياء بني اسرائيل كنا نقبل دعواه بفرح، ولكننا بدون ذلك لا نقدر أن نصدّقه” قالوا: “نطلب منه ذلك” فأتوا وسألوه آية قائلين: “لولا اجتبيتها” أي لو عملتها كنا نؤمن بك كنبي الله ورسوله إلينا. فما كان جوابه لهم إلا: “قل إنما أتبع ما يُوحَى إليَّ من ربي”. فهل هذا جواب يقنع الذين يطلبون آية تبرهن أنه وحي الله إليه؟  كلا!

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ” (الرعد ١٣: ٧).

التفسير:  خلاصته أن الرسول منذر لقومه، مبيّن لهم. ولكل قوم من قبله هادٍ ومنذر وداعٍ، وأنه تعإلى سَوَّى بين الكل في إظهار المعجزة، إلا أنه لكل قوم طريق مخصوص لأجله استحقَّ التخصيص بتلك المعجزة المخصوصة. فلما كان الغالب في زمان موسى هو السحر، جعل الله معجزته سحراً. ولما كان الغالب في أيام المسيح الطب، جعل الله معجزته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. ولما كان الغالب في أيام الرسول (ص) الفصاحة والبلاغة، جعل الله معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن. فلما كان العرب لم يؤمنوا بهذه المعجزة، مع كونها أليق بطباعهم، فالواضح أنهم لن يؤمنوا عند إظهار سائر المعجزات. فهذا الذي قرره “القاضي” وهو الوجه الصحيح الذي يبقى الكلام معه منتظماً. وكلمة “إنما أنت منذر” أي: ليس لك إلا الإنذار، وأما الهداية فمن الله تعإلى (الرازي المجلد التاسع عشر ٤٨-٤٩).

وتفسيرها من البيضاوي هو: يقولون ذلك لعدم اعتدادهم بالآيات المُنَزلة عليه، واقتراحاً لنحو ما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. “إنما أنت منذر” \

مرسَل للإنذار كغيرك من الرسل، وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوّتك من جنس المعجزات، لا بما يُقْترح عليك. “ولكل قوم هاد” يهديهم إلى الحق. على أنه تعإلى قادر على إنزال ما اقترحوه، وإنما لم يُنزله لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد (البيضاوي المجلد الأول ص ٦١٦).

تعليقنا:  ترى بين الآية وتفسيرها بوناً عظيماً، فليس في الآية إشارة لكون القرآن معجزة “إنما أنت منذر ولكل قوم هاد” أي ليس لك إلا الإنذار كما ترى في تفسير الرازي. وأما القول بأن الله سوّى بين الكل في إظهار المعجزة إلى آخر القول، فهو قول باطل لسببين:

١          -           من آيات موسى ما لا يقرب إلى السحر، كضربة أبكار المصريين وإغراق جيشهم في البحر وتفجير الماء من صخر. وكذا من آيات المسيح ما لا يقرب البتة إلى الطب، كإنزال مائدة من السماء وخلقه طيراً من طين (حسب القرآن) وإشباعه من بعض الأرغفة آلافاً، ومَشْيِهِ على الماء حسب الإنجيل. ولقد جاء بعد موسى وعيسى أنبياء وحواريون كيشوع وإيليا وأليشع ورسل المسيح، صنعوا آيات عديدة كآيات موسى وعيسى.

٢          -           لم تكن الفصاحة والبلاغة خاصة بالعرب دون غيرهم من الأمم، بل كل أمة فصيحة بليغة في لغتها الخاصة، ولا سيما اليهود واليونان، كما هو ظاهر من مؤلفاتهم وخطبهم وأشعارهم. كما لم يكن العرب في زمن محمد خالين من صناعتي السحر والطب، وكانوا على جانب عظيم من النباهة وسرعة الخاطر، كانت حالتهم وطباعهم تستدعي صنع معجزات من نبي قام بينهم إثباتاً لدعواه، كما كانت حالة المصريين والإسرائيليين تستدعي ذلك.

وإذا كانت ديانتا موسى وعيسى قد تبرهنتا بالآيات والعجائب، فالأَوْلَى إذا قام شخص ادَّعى النبوة وجاء بدين يخالفهما بدعوى أنه ناسخ لما قبله من الأديان، أن يثبت دعواه ودينه بآيات تفوق آيات ذينك النبيين. وإلا فأي لوم وحرج على من لا يصدق ما جاء محمد به؟

“وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُون” (الإسراء ١٧: ٥٩).

التفسير:  ملخصه أن كفار قريش قالوا: “لولا يأتينا بآية كما أُرسل الأولون”. وعن سعيد بن جبير أن القوم قالوا لمحمد: “إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء، فمنهم من سُخِّرت لهم الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى. فأْتِنا بشيء من هذه المعجزات. فأجاب الله تعإلى عن هذه الشبهة بقوله: “وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذَّب بها الأولون”. المعنى أنه تعإلى لو أظهر تلك المعجزات القاهرة، ثم لم يؤمنوا بها، بل بقوا مصرّين على كفرهم، فحينئذ يصيرون مستحقين عذاب الاستئصال. لكن عذاب الاستئصال على هذه الأمة غير جائز، لأن الله تعإلى علم أن فيهم من سيؤمن، أو يؤمن من أولادهم. فلهذا السبب ما أجابهم الله إلى مطلوبهم (الرازي المجلد العشرون ص ٢٣٣-٢٣٥).

وتفسير الآية من الإمام البيضاوي هو: وما صرفنا عن إرسال الآيات التي اقترحتها قريش “إلا أن كذَّب بها الأولون”. الذين هم من أمثالهم في الطبع، كعاد وثمود. وإنها لو أرسلت لكذَّبوها تكذيب أولئك، واستوجبوا الاستئصال على ما مضت به سُنَّتنا. وقد قضينا أن لا نستأصلهم، لأن فيهم من يؤمن أو يلد من يؤمن (البيضاوي المجلد الأول ص ٧٠٢).

تعليقنا:  القول بعذاب الاستئصال لمن كذَّب آيات المرسلين إليهم مدحوض من التوراة، فإن المصريين كذبوا بآيات الله عن يد موسى، فلم يستأصلهم الله بل أهلك منهم وأبقَى. وبنو إسرائيل في أدوار كثيرة كذَّبوا أنبياء الله وقتلوا منهم كثيراً، ولم يستوجبوا عذاب الاستئصال، بل لا يزالون أمة قائمة على رغم كل ما أُجري لإبادتهم. أما عاد وثمود فربما بادا كطُسْم وجديس. فلعل ذلك من توغلهم في الشر ومزاولتهم المغازي والحروب.

ولا يُعلم عن أمة قام فيها نبيُّ من الله إلا وصدقه بعضها، لأن آيات الرسالة كآيات موسى وعيسى لا تذهب سدى في الجميع. وإذا كان محمد - وهو لم يأتِ بآية - صدَّقه وآمن به سريعاً عدد عظيم من قريش، إن لم نقل أكثرهم. ولم يطل الحال حتى قبل دعواه أهل يثرب، فكيف لو أجرى الله على يده آيات كآيات الأنبياء المذكورين؟  وإذا كان القوم صدقوه من دون آيات، فأي محل للقول إنه لم يُرسَل بالآيات لئلا يكذِّب بها القوم فيُستأصَلوا؟  لأنهم إذا كانوا قبلوا الدعوى بدون آيات، فكيف يكذبونها بالآيات؟  فلو أن محمداً بعد إفراغ المجهود منه بإنذار القوم لم يصدّقه منهم أحد، بل أصرَّ جميعهم على عدم تصديق دعواه - إلا أن يأتيهم بآيات قاهرة كآيات موسى وعيسى - ربما كان محل صغير للقول إنهم لا يؤمنون ولا بالآيات. ولكن المعلوم أن خديجة زوجته اعتبرته نبياً من الله ورسولاً في بدء ادّعائه ذلك، ولم يلبث أن آمن به علي ابن عمه وأبو بكر وعثمان وعُمر، وهلّم جراً. ولم تمض سنون قليلة حتى آمن به جميع أهل مكة. وأكثر الذين جعلوا الآيات شرطاً للإيمان به واقترحوها عليه آمنوا به بدونها. والله العليم عالم أن القوم سيؤمن أكثرهم بمحمد بدون آية، وعليه فلا خوف على القوم من عدم الإيمان بالآيات. وهل لله سبحانه أن يقول قولاً ينافي علمه بما سيكون؟ تعإلى الله عن ذلك علوًّا كبيراً!

“وَقَالُوا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا

 الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ” (العنكبوت ٢٩: ٥٠).

التفسير:  ملخصه أن القوم قالوا لمحمد: “إنك تقول إنه أنُزل إليك كتاب كما أُنزل إلى موسى وعيسى، وليس كذلك. لأن موسى أوتي تسع آيات برهن بها أن الكتاب من عند الله. وأنت ما أوتيت شيئاً منها”. فأرشد الله نبيَّه إلى أجوبة منها قوله: “إنما الآيات عند الله” وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة.. فما أنا سوى رسول. وأما إنزال الآية فحُكمُه لله وحده. ومعنى قوله: “وإنما أنا نذير مبين” أن الآية عند الله ينزلها أو لا ينزلها لا تتعلق بي. ما أنا إلا نذير وليس لي عليه حكم بشيء (الرازي المجلد الخامس عشر ٧٧).

وتفسير البيضاوي لهذه الآية “وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه” مثل ناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى. “قل إنما الآيات عند الله ينزلها كما يشاء لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه” وإنما أنا نذير مبين، ليس من شأني إلا الإنذار وإبانته (البيضاوي المجلد الثاني ص ٢٣٦). وكذا تفسير الجلالين، سوى أنه يقول: “وفي قراءة آيات كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى، وإنما أنا نذير مبين، منذر بالنار أهل المعصية” (الجزء الثاني ص ١٠٣).

تعليقنا:  لنا على شرح هذه الآية من الأئمة المذكورين ملاحظتان:

١          -           صَدَقَ القوم بطلبهم من محمد آيات تبرهن صحة دعواه بإنزال كتاب إليه من الله، كما برهن موسى وعيسى بالآيات على إنزال الكتاب إليهم. ومن لا يرى عدالة هذا الطلب؟  والقول “إنما الآيات عند الله” ليس هو جواباً لذلك السؤال؟  ونلاحظ أن العرب لم يروا في القرآن برهاناً على أنه من عند الله، وإلا لاستغنوا بذلك عن شهادة الآيات.

٢          -           ليس محمد رجل آيات، إنما هو فقط منذر بالنار أهل المعاصي. وهذا يستطيعه غير الأنبياء والمرسلين من ذوي المحبة والغيرة. والقول “وليس من شرط الرسالة الآية المعجزة” لا محل له في هذا الصدد. نعم ليست الآية شرط الرسالة في كل مُرسَل، لأن الله أرسل البعض بدون أيّ معجزة، كإرميا وملاخي، لكنه لم يرسل مشترعاً بدون آيات قاهرة. ومحمد لم يجئ مشترعاً فقط، بل ناسخاً للشرائع السابقة له. فالمقام الذي ادَّعاه يوجب عليه الإتيان بآيات أكثر وأعظم من آيات أولئك المشترعين.

“أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمَْ” (العنكبوت ٢٩: ٥١).

التفسير:  إن كان إنزال الآيات شرطاً، فلا يشترط إلاّ إنزال آية. والقرآن هو معجزة ظاهرة باقية. وقوله: “أوَلَم يكْفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب” القرآن معجزة أتمّ من كل معجزة تقدَّمتها (الرازي المجلد الخامس والعشرون ٧٨-٧٩). والبيضاوي يفسر الآية: إن القرآن آية مُغنية عمَّا اقترحوه تدوم تلاوته عليهم متحدين به، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحل (البيضاوي المجلد الثاني ص ٢٣٦). وفي الجلالين: القرآن، آية مستمرَّة لا انقضاء لها، بخلاف ما ذُكر من الآيات (الجزء الثاني ص ١٠٣).

تعليقنا:  ليس في آية “أولم يكفهم...”بيان كون القرآن معجزة. فالقوم فضلاً عن أنهم لم يعتبروه معجزة، لم يعتقدوا إنزاله من عند الله، إذ قالوا:  “إن هذا إلاَّ إفك افتراه، وأعانه عليه قوم آخرون” (انظر سورة الفرقان ٤). وكثيرون من أمة الإسلام يدحضون القول بإعجازه. جاء في كتاب المواقف:  “أما القائلون بإعجاز القرآن فقد قالوا من وجوه إعجازه كونه إلى الدرجة العالية من البلاغة التي لم يُعهد مثلها في تراكيب العرب”.

وهل رُتب البلاغة متناهية فيه؟  قال:  “اختلفوا فيه”. ثم قال (صاحب الكتاب):  “والحق أن الموجود منها متناهية، لأنها واقعة في تلك الألفاظ الشريفة الدالة على المعاني الصحيحة. ولا شك أن الموجود من تلك الألفاظ في اللغات متناه دون الممكن من مراتبها فانه غير متناه”.

“وقيل إعجاز  القرآن:  إخباره عن الغيب، نحو:  “وهم من بعد غلبهم سيَغْلِبون في بضع سنين” أخبر عن غلبة الروم على الفرس فيما بين الثلاث إلى التسعة. وقد وقع كما أخبر به.

وقيل وجه إعجازه عدم اختلافه وتناقضه، مع ما فيه من الطول والامتداد. وتمسكوا في ذلك بقوله تعإلى:  “ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً”.

وقيل وجه إعجازه بالصرفة، على معنى أن العرب كانت قادرة على كلام مثل القرآن قبل البعثة، لكن الله صرفهم عن معارضته. واختُلف في كيفية الصرف. عمت المعتزلة “صرفهم الله عنها مع قدرتهم عليها، وذلك بأن صرف دواعيهم إليها مع كونهم مجبولين عليها”... فهذا الصرف خارق للعادة فيكون معجزاً.

وقال المرتضي من (الشيعة):  “بل صَرَفَهم بأن سَلَبهم العلوم التي يُحتاج إليها في المعارضة، فلم يبقَ لهم قدرة عليها” (انتهى مُلخَّصاً).

ملخص شُبهات القادحين في إعجازه

قالوا: 

١ - وجه الإعجاز  أن يكون واضحاً بحيث لا يلحقه ريب. لكن اختلافكم في إعجازه برهان على عدم وضوحه، فكيف يظهر إعجازه؟

٢ - ما ذكرتم من الوجوه لا يصلح للإعجاز. من ذلك البلاغة. أما البلاغة فلوجوه: 

(أ) إذا نظرنا إلى أبلغ خطبة للخطباء وأبلغ قصيدة للشعراء وقطعنا النظر عن الوزن والنظم المخصوص، ثم قسناها بأقصر سورة من القرآن (وأنتم تتحدّون بالقول:  “فأْتوا بسورة من مثله”) لم تجد الفرق بينهما في البلاغة بيّناً. ولا بد في المعجز  من ظهور التفاوت بينه وبين ما يُقاس إليه، إلى حدٍّ تنتفي معه الريبة!

(ب) اختلف الصحابة في بعض القرآن، حتى قال ابن مسعود إن الفاتحة والمعوَّذتين ليست من القرآن، مع أنها أشهر سوره. ولو كانت بلاغتها بلغت حد الإعجاز  لتميَّزت به عن غير القرآن، فلم يختلفوا في كونها منه.

(ج) كانوا عند جمع القرآن إذا أتى الواحد بالآية أو الآيتين، ولم يكن مشهوراً عندهم بالعدالة، لم يضعوها في المصحف إلا ببيّنة أو يمين. فلو وصلت بلاغتها حدّ الإعجاز لعرفوها بذلك ولم يحتاجوا في وضعها في المصحف إلى عدالة ولا إلى بيّنة أو يمين.

(د) لكل صناعة مراتب في الكمال بعضها فوق بعض، وليس لها حدّ معيَّن تقف عنده ولا تتجاوزه. ويظهر في كل زمان شخص يفوق كل من سواه في عصره - ولو أن شخصاً آخر في عصر آخر يفوقه. فلعل محمداً كان أبلغ أهل زمانه، فأتى بكلام عجز  أهل زمانه عن الإتيان بمثله. ولكن هذا لا يعني أن محمداً كان أبلغ من كل الناس في كل الأزمنة.

٣ - وأما عدم الاختلاف والتناقض فيه مع طوله، فنقول أمرين: 

(أ) إن فيه تناقضاً، إذ قال:   ”مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ” (الأنعام ٦:  ٣٨). ”وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ” (الأنعام ٦:  ٥٩) - مع أن القرآن لا يشتمل على أكثر العلوم الأصوليَّة والطبيعية والرياضية والطبية، ولا على الحوادث اليومية!

وفيه خطأ لغوي كقوله:  ”إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ” (طه ٢٠:  ٦٣) وكان الأصحّ أن يقول “هذين”. و ”وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ” (البقرة ٢:  ١٧٧) وكان الأصحّ أن يقول “والصابرون” لأنه عطف على قوله “والموفون”. وكقوله:  ”إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى” (المائدة ٥:  ٦٩) وكان الأصح أن يقول “والصابئين” كما قالها في البقرة ٦٢ والحج ١٧. قال عثمان حين عُرض عليه المصحف:  “إن فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتهم”.

وفيه تكرار لفظي بلا فائدة، كما في سورة الرحمان. وفيه تكرار معنوي كقصة موسى وعيسى.

كذلك فيه إيضاح الواضح، نحو “تلك عشرة كاملة”.

ولقد نفى القرآن عن نفسه الاختلاف فقال:  ”وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراًً” (النساء ٤:  ٨٢).لكننَّا نجد فيه اختلافاً كثيراً. والاختلاف إما في اللفظ أو في المعنى. والأول إما بتبديل اللفظ أو التركيب، أو الزيادة والنقصان. والكل موجود فيه، فتبديل اللفظ مثل “كالصوف المنفوش” بدل “كالعهن”. ومثل “فامضوا إلى ذكر الله” بدل “فاسعوا”. ومثل “فكانت كالحجارة” بدل “فهي كالحجارة”.

واما تبديل التركيب فمثل “ضربت عليهم المسكنة والذلَّة”، بدل “الذلة والمسكنة”. ونحو “جاءت سكرة الحق بالموت” بدل “الموت بالحق”.

واما الزيادة والنقصان فمثل “النبي أولى من المؤمنين من أنفسهم، وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم” ففي هذه القراءة زيادة، وفي المشهورة نقصان. وكذا الحال في قوله:  “له تسعة وتسعون نعجة أنثى”.

واما الاختلاف في المعنى فمثل “ربَّنا باعِدْ بين أسفارنا” بصيغة الأمر ونداء الرب. و”ربُّنا باعَدَ بين أسفارنا” بصيغة الماضي، ورفع الرب. والأول دعاء، والثاني خبر. ونحو “هل يستطيع ربُّك؟” بالغيبة وضم الباء. و”هل تستطيع ربَّك” بالخطاب وفتح الباء. والأول استخبار عن حال الرب، والثاني عن حال عيسى.

(ب) يوجد عدم الاختلاف في كثير من الخطب والقصائد الطوال، بحيث لو تتبعها أبلغ البلغاء لم يعثر فيها على خطأ ولا ناقض ولا اختلاف. فلا يكون عدم الاختلاف موجباً للإعجاز.

وأما القول بالصِّرفة، فإن المعجز  فيها هو الصرف لا القرآن. فلو قال:  “أنا أقوم، وأنتم لا تقدرون على القيام” وكان كذلك، لم يكن قيامه معجزاً، بل عجزهم عن القيام.

خلاصة الدفاع عن هذه الشبهات

الجواب عن الأولى:  قولهم:  “اختلافكم في إعجازه دليل الخِفاء، فكيف يستدل به على إعجازه؟”

قلنا الاختلاف والخِفاء، وإن وقع في آحاد الوجوه، فلا اختلاف بيننا. ولا خفاء في أن مجموع القرآن بما فيه من البلاغة والنظم الغريب والإخبار عن الغيب...واشتماله على غير ذلك مما ذُكر في وجه الإعجاز  معجز، وإنما وقع الخلاف في وجهه لاختلاف الأنظار ومبلغ أصحابها من العلم.

والجواب عن الثانية:  أن الآحاد لا يعارض القاطع، يريد أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مُروَى بالآحاد المفيدة للظن، ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذي يزيل الظن، فتلك الآحاد مما لا يُلتفت إليه. ثم إن سلمنا اختلافهم مما ذُكر، قلنا إنهم لم يختلفوا في نزوله على محمد، ولا في بلوغه في البلاغة حد الإعجاز، بل في مجرد كونه من القرآن، وذلك لا يضرّ موضوع مناقشتنا.

والجواب عن الثالثة:  إن اختلافهم عند جمع القرآن فيما يأتي به الواحد من آية أو آيتين، إنما هو في موضعه في القرآن، وفي التقديم والتأخير فيما بينه وبين الآيات الأُخر، لا في كونه من القرآن، وذلك لأن القرآن كله منقول بالتواتر عن محمد. فما أتى به الواحد كان متيقناً كونه من القرآن. وطلب البيّنة والتحليف انما كان لأجل الترتيب، فلا إشكال. واما قوله “إن هذان لساحران” (طه ٦٣). فقيل:  غلط من الكاتب ولم يُقرأ به، فإن أبا عمرو قرأ “إن هذين” وزعم أن كاتب المصحف قد غلط في كتابته بالألف. وقول عثمان “إن فيه لحناً” أي في الكتابة في خط المصحف. وأما قوله “تلك عشرة كاملة” فدفع لتوهُّم غير المقصود ولو بوجه بعيد جداً. وأما الاختلاف اللفظي أو المعنوي الواقع في المنقول المتواتر لا يكون قادحاً في اعجازه، بل هو أيضاً من صفات كماله. وإن المراد بالاختلاف المعنوي عن القرآن هو الاختلاف في البلاغة، فهو مع طوله خال من هذا الاختلاف. ثم إن قياس أقصر سورة إلى أطول خطبة أو قصيدة جورٌ وعدولٌ عن سواء السبيل، لأن التحدي بها إنما يكون بما هو على مقدارها المشتمل على مثل بلاغتها، لا بما هو أضعافها المشتملة على مثلها، كما لا يخفى على أي منصف. فيكفينا في إثبات النبوة أن القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجز  (الرازي المجلد الثاني والعشرون ٧٤-٨١).ولكننا نقول

دفع تلك الشبهات غير واف بالغرض: 

١ - لقد اختلفوا في دليل إعجازه، فقيل:  إعجازه إنه في الدرجة العالية في البلاغة، وقيل:  إعجازه إخباره عن الغيب. وقيل:  هو عدم اختلافه. وقيل:  هو الصِّرفة عن معارضته.

ثم أن قياس أبلغ خطبة أو قصيدة إلى أقصر سورة جورٌ وعدولٌ عن سواء السبيل، والقرآن يقول:  “فأْتوا بسورة من مثله” بدون التفات إلى المعادلة أو التفاوت من حيث الطول والقصر. فإذا أتى القوم بخطبة أو قصيدة تساوي في البلاغة أقصر سورة، يكونون قد أتوا بمثله. ومن المعلوم أن الطويل من الخطبة أو القصيدة أكثر عرضة للضعف من القصير، فيقال على سبيل التعجب:  “هذه القصيدة مع طولها خالية من الركاكة والخطأ” وهذا لا يُقال عن البيتين أو الثلاث الخالين من ذلك، فمن الأسهل جعل الكلام الأقصر غاية في البلاغة، كما إنه من الأسهل جعْل أقصر سورة قرآنية في غاية البلاغة. ويوجد من خطب العرب وقصائدهم ما يعارضها أو يفوقها في ذلك. فأين اذاً إعجازه؟

على أن صاحب الشبهة لم يقل:  “إذا نظرنا إلى أطول خطبة أو قصيدة” بل:  “إلى أبلغ” فغايته البلاغة لا الطول.

٢ - في جوابه عن الشبهة الثانية، قال:  “ثم إن سلمنا اختلافهم فيما ذُكر” (أي في أمر الفاتحة والمعوّذتين) قلنا:  إنهم لم يختلفوا في نزول كل القرآن على محمد، بل اختلفوا في أمر سورة الفاتحة والمعوّذتين، فقال بعضهم:  “ليست من القرآن”. وهذا يضعف القول إنهم لم يختلفوا في نزول القرآن على محمد، اذ اختلفوا في نزول بعضه عليه!  فكان الأحرى بصاحب الدفع أن يقول “إن سلمنا باختلافهم في نزول بعض  القرآن على محمد لم يختلفوا في نزول باقي القرآن عليه” بدل قوله:  “لم يختلفوا في نزوله على محمد”. فبقيت الشُّبهة في إعجاز  القرآن غير مدفوعة.

٣ - أما جوابه عن الشبهة الثالثة فهو أكثر ضعفاً، لأنه على فرض أن الاختلاف الواقع عند جمع القرآن فيما يأتي به الواحد من الآية والآيتين كان عن موضعها في القرآن لا في كونها منه، قلنا:  إذا كان موضع تلك الآية في القرآن مجهولاً عند الصحابة، لا يبعدأان يكون مجهولاً عندهم كونها منه، لأنه إذا كانت معلومة أنها منه بالنقل المتواتر، فلماذا لا يكون معلوماً بالنقل المتواتر موضعها فيه، كما في أمر التوراة والإنجيل المعلوم بالتواتر إنزال كامل أجزائه وترتيب فصوله وآياته؟

على أن العارفين يؤكدون أن هذا الاختلاف الباعث إلى طلب البيّنة ممَّن يأتي بتلك الآية أو الآيتين، وتحليفه، إنما كان على أنها من القرآن، وللإثبات بوجه شرعي أنها منه، لأن القوم كانوا يأتون بتلك الآيات مكتوبة على حجارة أو عظام أو سعوف النخل، ويعرضونها على جامعي القرآن من الصحابة، مدَّعين أنها أُنزلت على النبي، فيطالبونهم بالبيِّنة على صحة دعواهم. وإذا لم يجدوا البيِّنة حلَّفوهم اليمين. فلو كان جامعو القرآن عارفين من ذي قبل بتلك الآيات أنها من القرآن، لما كان هناك داعٍ لإبراز  بيِّنة أو أداء قَسَم، بل كان الواحد من العرب يقول:  “إني أذكر، أو أؤكد أن آية كذا هي في موضع كذا من القرآن، وقد سمعت الرسول يقرأها في سورة كذا منه”. ومثل هذه الجملة لا وجود لها في قصة جمع القرآن. وعدم وجودها يبيّن بطلان الدعوى أن البيِّنة واليمين كانا لإثبات موضع تلك الآيات في القرآن، لا في أنها منه.

أما القول بخصوص اللحن في كلمة “إن هذان لساحران” انه غلط من الكاتب، وإن قول عثمان “إن في القرآن لحناً” يعني في الكتابة في خط المصحف، هو قول عديم الاعتبار. فلو قصد عثمان أن اللحن هو غلط من كاتب القرآن، لبادر إلى إصلاحه، ولما أبقى اللحن على حاله في كتاب يعتبره كتاب الله. فقوله:  “إن في القرآن لحناً وستقيمه العرب بألسنتهم” وتركه ذلك اللحن على ما هو، دليل أن عثمان اعتبر ذلك اللحن أصلياً في القرآن (“إن في القرآن لحناً”). فتبقى الشبهة في مركزها غير متزعزعة.

وقوله “وأما قوله:   تلك عشرة كاملة، فدَفْع لتوهُّم غير المقصود ولو بوجه بعيد جداً” هو إقرار بأن الشبهة في محلها. وليس من سبيل إلى دفعها، لأن إيضاح الواضح سخافة في الكلام فلا داعي له، لأن من يتوهم العشرة تسعة هو قاصر العقل. ولما كان المدافع يعرف ذلك، قال:  “ولو بوجه بعيد جداً”. وربما يقول قارئ:  كان الأكْيَس للمدافع لو لم يتعرض البتة لهذه الشبهة!  ولكن رأى أنه كمناظر ومدافع عن القرآن عار عليه الإعراض عن شبهة من الشبه القادحة في إعجازه. ولما لم ير بدّاً من دفع لها، لجأ إلى قول ما قال.

ومن الغريب أنه يجعل الاختلاف اللفظي والمعنوي في القرآن غير قادح في إعجازه، بل هو أيضاً من صفات كماله، لوقوعه في المنقول المتواتر - فما هو دليل ذلك؟  فإذا كان مراده بذلك أن وجود هذا الاختلاف في القرآن دليل عدم التغيير فيه من حين جمعه عثمان، فنصادق له على ذلك. على أن هذا ليس دليلاً على كماله. فإذا كان هذا الاختلاف فيه قبل أن يجمع عثمان نسخه لأجل تنقيحها، وبعد جمعه لم يمسه بإصلاح ما، بل أبقاه كما كان - كما في أمر “إن هذان لساحران” فيكون هذا الاختلاف فيه أصلياً - مع أنه يؤكد دعوى كماله “لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً”. وأغرب من ذلك أنه يعتبر الاختلاف المنفي عن القرآن هو الاختلاف في البلاغة، كأنه لما لم يستطع إنكار ما فيه من الاختلاف اللفظي والمعنوي، خلافاً لمنطوق الآية المذكورة، لجأ إلى القول إن الاختلاف فيه من حيث البلاغة.

فنقول:   إذا كان عدم الاختلاف في القرآن من حيث البلاغة لا من حيث اللفظ والمعنى، يكون معجزاً من حيث البلاغة لا من حيث الألفاظ والمعاني، ويكون من عند الله من حيث البلاغة، ومن عند غير الله من حيث الألفاظ والمعاني!

فهل هذا اعتقاد المسلمين؟  على أن عدم وجود اختلاف في بلاغة كتاب، طويلاً كان أو قصيراً، ليس دليلاً على أن ذلك الكتاب من عند الله، بل على حصول كاتبه على موهبة البلاغة من الله. فذكاء العقل وسرعة الخاطر وحدَّة الذاكرة هي مواهب من عند الله. فاذا رأينا إنساناً على غاية الفصاحة نقول:  “سبحان الواهب المعطي!” وقد لا يخطر لنا أن كلماته أو كتاباته البليغة الخالية من الركاكة والخطأ مُنَزلة من عند الله، وأن قائلها نبي الله!  فإذا كان القرآن غايةً في البلاغة وخالياً من الاختلاف، نقول:  ما ذلك إلا لما خُصَّ محمد من موهبة الفصاحة التي هي من مواهب الله لخلقه، فلا شيء في ذلك من دليل النبوة، لأن موهبة الفصاحة قد يستعملها ذووها في الكلام المُنزَل وغير المُنزَل، كما في كثير من خطب وأشعار اليونان والعرب.

وهنا لدى المسلم إشكال خطير، لأنه إن قال إن القرآن معجز  من حيث اللفظ والمعنى، قلنا له بوجود الاختلاف فيه. وهذا يبطل دعوى إعجازه من هذا القبيل. وإن قال بل إعجازه في بلاغته، قلنا:  قد ظهر بطلان ذلك فيما مرّ من الكلام... هذا إذا كان القرآن كما يقولون في غاية الفصاحة ومنتهى البلاغة. على أن هذه الدعوى قد سقطت فيما تقدم من دعاوى القادحين في إعجازه، بل إن كثيرين من العارفين بأحكام اللغة ينكرون عليه ذلك بأدلة وبراهين لا تدُحَض.

تذييل

١          -           لقد اتضح من الآيات التي اقتبسناها في هذا الباب مع تأويلها أن محمداً لم يأت بآية معجزة، وان عدم إرساله بالآيات المعجزات على طراز  الرسل المتقدمين لم يكن إلا إشفاقاً على العرب من عذاب الاستئصال إذا لم يؤمنوا بعد رؤيتهم الرسول يعمل تلك الآيات. فينتج من ذلك عدم مؤاخذة القوم بعدم تصديقهم دعوى محمد بالرسالة بدون آية تبرهن صحة دعواه، لأن المؤاخذة واقعة بعدم تصديق القوم الدعوى المبرهنة بالآية. فلا مؤاخذة لعدم وجود معجزة.

٢          -           وإذا قالوا إن القرآن معجزة بالغة قاهرة مثل شق البحر وإحياء الميت، قلنا:  إذا كان القرآن معجزة مثل آيات موسى وعيسى وجَب عقاب القوم الذين سمعوه ولم يؤمنوا به بالاستئصال، لأنه إذا وجب استئصال الأقوام الأولين لعدم إيمانهم برسل الله إليهم، بعد رؤية معجزاتهم، وكان القرآن آية مثل تلك، أو أتمَّ منها (راجع تفسير الرازي) وجب بمقتضى هذا القانون استئصال الذين لم يصدقوا دعوى محمد بالنبوة والرسالة، لأنهم سمعوا القرآن الذي هو معجزة قاهرة. ولما لم يُستأصلوا، دَلَّ ذلك على أن القرآن ليس بآية معجزة كما يدَّعون، وفقاً للقول:  “وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذَّب بها الأولون”. فعلى الوجه الإيجابي أن القرآن آية معجزة تُهدَر الآية:  “وما منعنا...” وعلى الوجه السلبيّ (أن القرآن ليس آية) تسقط عن القوم المؤاخذة بعدم تصديقهم محمداً، وهذا مُنْكَر. فكيف للمسلم العاقل الخروج من هذه الدائرة؟  على أنه قد اتضح لدينا مما تقدم أن القرآن ليس آية معجزة.

٣          -           وأما ما رُوي في الحديث أن محمداً عمل عدة آيات، مثل نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام القليل لإشباع جمٍ غفير، فهذه الروايات تنافي القرآن الذي يصرّح بعدم إرسال محمد بالآيات، ولو جرت على يد محمد آية واحدة لذُكرت في القرآن. ولما كأن الحديث لا يقاس بالقرآن، كأن المعوَّل على القرآن عند وقوع الخلاف بينهما. وكل لبيب يرى أنهم لم يحسبوا القرآن معجزة محمد الوحيدة إلا لأن محمداً لم يأت بمعجزة غيره!

 

 

الباب الثاني الآيات القرآنية التي تبرهن أن محمداً لم يُرسَل مجبِراً ومكرِهاً للناس على الإيمأن

 

لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (البقرة ٢:  ٢٥٦)

التفسير:  في تفسير هذه الآية وجوه: 

١          -           وهو قول أبي مسلم والقفَّال - إنه تعإلى لم يبْن أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكُّن والاختيار. وإن القسر والإجبار مما لا يجوز  في دار الدنيا. ونظيرها قوله:   ”فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (سورة الكهف١٨: ٢٩). وقوله في سورة أخرى:   ”وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟” (سورة يونس ١٠: ٩٩) إذاً الإكراه والإلجاء إلى الإيمان غير جائز، لأنه ينافي التكليف.

٢          -           الإكراه أن يقول المسلم للكافر:  آمِنْ وإلا قتلتك!  فقال تعإلى:  “لا إكراه في الدين”.

لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرَهاً، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحَّ إسلامه فليس بمُكره. ومعناه لا تنسبوهم إلى الإكراه (الرازي المجلد السابع ص ١٤).

وتفسير الآية في البيضاوي:   “إذاً الإكراه في الحقيقة إلزام الغير فعلاً لا يُرى فيه خير يحمله عليه”.. وقيل إخبار بمعنى النهي، أي “لا تُكرهوا في الدين”. وهو إما عام (اي على الجاهلية وأهل الكتاب) منسوخ بقوله “جاهد الكفار والمنافقين”. أو خاص بأهل الكتاب (اليهود والنصارى) لما روي أن أنصارياً كأن له ابنأن تنصرا قبل بعث محمد نبياً، فألزمهما أبوهما وقال:  “والله لا أدعكما حتى تسلما” فاختصما إلى رسول الله، فقال الأنصاري:  “يا رسول الله، أيدخل بعضي النار وأنا أنظر إليه؟” فنزلت الآية. فخلاَّهما (البيضاوي المجلد الأول ص ١٧٦).

وفي الجلالين:   قد ظهر بالآيات البينات أن الإيمان رشد والكفر غي، نزلت فيمن كأن له من الأنصار أولاد أراد أن يكرههم على الإسلام (الجزء الأول ص ٤٦).

تعليقنا:  رأينا في تفسير هذه الآية من الإمامين الرازي والبيضاوي ثلاثة أمور جديرة بالاعتبار: 

١ - إن الله تعإلى لم يَبْنِ أمر الإيمان على الإجبار والقسر.

٢ - إن الإكراه والإلجاء إلى الإيمان غير جائز، لأنه ينافي التكليف.

٣ - قيل أن الآية إخبار بمعنى النهي، أي لا تُكرِهوا.

فإذا كأن الله لم يبْنِ أمر الإيمان على الإجبار والقسر، يكون الإجبار والقسر على الإيمان منافياً لما بنى الله. وإذا كان الإكراه والإلجاء إلى الإيمان غير جائز، فمن يفعله يجوّز  ما ليس بجائز. وإذا كانت الآية إخباراً بمعنى النهي عن الإكراه، فيكون ذلك الإكراه إما فُعل قبل النهي، أو كان في النية والعزم ليُفعل عند سنوح الفرصة، فنُهي عنه بها. وعليه فإن الآية “لا إكراه في الدين” نهي مطلق عن الإكراه. وهو عام لا خاص، كما يستدل أيضاً من الأمرين الأول والثاني أعلاه.

وأما قول الرازي:  “لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مكرهاً، لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحَّ إسلامه فليس بمُكره”. فهو غير مقبول، لأنه يندر أن يسلم شخص بعد الحرب طائعاً مختاراً، بل الغالب أن الداخلين في دين الإسلام بعد هزيمتهم وتضعضع أحوالهم هم مُكرَهون أو مضطرون إلى ذلك. فكيف جاز  له إطلاق عدم الإكراه على مثلهم؟  أنسي أن الجهاد في غزو الجاهلية وأهل الكتاب كان طاعة للقرآن ليكون الدين كله لله، كما يقول ”وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ” (البقرة ٢:  ١٩٣).

“لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا \

ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ” (البقرة ٢:  ٢٧٢)

التفسير:   في تأويل هذه الآية مسائل خلاصتها أن بعض أصحاب محمد أبوا التصدُّق على سائليهم من أقاربهم المشركين، فاستشاروه في ذلك، فنزلت الآية. فأمر محمد بالتصدّق عليهم.

ومنها أن محمداً لم يكن يتصدق على المشركين حتى نزلت الآية فتصدَّق عليهم.

والمعنى على جميع الروايات “ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة ليدخلوا في الدين، فتصدق عليهم لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم. وقال:  “أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟” فاعْلمَه الله أنه بعثه بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً ومبيّناً للدلائل. فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك. فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وصدقتك عنهم.

وفيه وجه آخر:  ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بأن توقف صدقتك عنهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل الإيمان المطلوب منهم هو الإيمان على سبيل التطوُّع والاختيار (الرازي المجلد السابع  ٧٦-٧٧). وتفسير البيضاوي لهذه الآية هو:  لا يجب عليك أن تجعل الناس مهتدين، وإنما عليك الإرشاد والحث على المحاسن والنهي عن القبائح (المجلد الأول ص ١٨) وتأويلها في الجلالين:  نزلت هذه الآية بسبب منع محمد من التصدُّق على المشركين ليُسلموا. فالمراد منها:  ليس عليك إدخال الناس في الإسلام، إنما عليك البلاغ. وهداية الناس على الله. وثواب ما تنفقون من المال صدقة عائد إلى أنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله، أي ثوابه لا غيره من أغراض الدنيا خبر بمعنى النهي، وما تنفقون من خير تجازون عليه (الجزء الأول صفحة ٤٩، ٥٠).

تعليقنا:   ما أجمل مفاد هذه الآية حسب تفسير الأئمة المذكورين، فإذا كان لا يجب منع التصدُّق على المشرك ليسلم، أو لئلا يكون ذلك إلجاءً له إلى الدين بسبب عَوَزه، فكم بالحري لا يجب غزوه ومحاربته لهذه الغاية؟  لأنه إذا كان منع الصدقة عن المشرك إلجاءً له إلى الدين، فكم يكون القهر في الحرب والسبي والنهب وخوف القتل بعد الاستسلام؟  (كما في أمر يهود قريظة الذين بعد أن استسلموا إلى محمد، أمر بضرب رقابهم) يكون أكبر سبب لإلجاء المقهور المسبي الخائف إلى الدخول في دين الغالب. وعليه كيف لاق بالإمام الرازي القول:  “لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب إنه دخل مُكرهاً”. أَمَا كان الأجدر به الحكم بعدم جواز  غزو القبائل ومحاربتها ليدخلوا في دين الإسلام، وفقاً لهذه الآية وما تقدمها؟  وإذا كان معنى الآية هو:  إنما عليك البلاغ وعلى الله الهداية، وأنها خبر بمعنى النهي، أفما يكون محمد منهيّاً عن اتخاذ أية وسيلة كانت لإلجاء الناس إلى الدين، لأن الإيمان الحاصل من الإلجاء لا ينفع، بل الإيمان النافع هو ما كان على سبيل التطوع والاختيار. وإذا كانت هذه حقيقة ربأنية فكيف التوفيق بينها وبين القول:  “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله”؟

“وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” (آل عمران ٣:  ٢٠).

التفسير:  ليس للنبي إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة. فإذا بلَّغ ما جاء به فقد أدَّى ما عليه، وليس عليه هدايتهم. “والله بصير بالعباد” يفيد الوعد والوعيد (الرازي المجلد السابع ٢١٠-٢١٢).

وتفسير البيضاوي لها هو:  إن أسلموا فقد نفعوا أنفسهم بأن أخرجوها من الضلال. وإن تولَّوا فإنما عليك البلاغ، أي فلم يضروك، إذ ما عليك إلا أن تبلغ، وقد بَلَّغت (المجلد الأول ص ١٩٨).

وفي الجلالين:   قل لليهود والنصارى ومشركي العرب:  أأسلمتم، أي أسلموا. فإن أسلموا فقد اهتدوا من الضلال. وإن تولوّا عن الإسلام فإنما عليك التبليغ للرسالة، والله بصير بالعباد، فيجازيهم بأعمالهم (الجزء الأول ص ٥٦)

وتعليقنا:  أوضحت هذه الآية أنه ليس لمحمد إلا تبليغ الناس الرسالة التي أتى بها، بالدليل والحجة. فهذه مع الجزء الآخر من الآية (“والله بصير بالعباد” أي:  هو يجازيهم على أعمالهم) تفيد أنه ليس لمحمد اتخاذ الحرب بتة والتضييق على الناس كوسيلة لإدخالهم في دينه أو مقاصتهم على رفض الإسلام، وفقاً لما جاء في آية أخرى:   ”عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ” (الرعد ١٣:  ٤٠).

فإذا كان محمد أدَّى ما عليه، وهو أن يبلّغ - وقد بلّغ، فلم يبق عليه شيء أخر. وإذا كان الله لم يرسله إلا بشيراً نذيراً، وما عليه إلا تأدية ذلك للناس، فلمإذا لم يقف محمد عند هذا الحدّ؟

وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ” (الأنعام ٦:  ٦٦، ٦٧).

التفسير:  قل لستُ عليكم بوكيل، Hي لست عليكم محافظاً حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل. إنما أنا مُنذر، والله هو المجازي لكم بأعمالكم.

قال ابن عباس والمفسرون:  “نُسخَت هذه الآية بآية القتال”. والإمام الرازي ينكر ذلك قائلاً:  bن هذا بعيد، مفسراً كلمة “لكل نبأ مستقر” بأنه يجوز  أن يكون المراد من ذلك عذاب الآخرة، ويجوز  أن يكون المراد منه استيلاء المسلمين على الكفار بالحرب والقتال والقهر في الدنيا (الرازي المجلد الثالث عشر ص ٢٣).

وتعليقنا:  هذه آية رابعة تبين أن محمداً ليس بوكيل على مكذبيه حتى يجازيهم على تكذيبهم إياه. وهذا يبيّن بجلاء ما عليه وما لله من جهتهم - أي هو منذر، والله مجازي المكذبين بآياته.

وأما دعوى ابن عباس وغيره من المفسرين بأن هذه الآية نُسِخت بآية القتال، والرازي ينكر ذلك، فنرى أن الفريقين مصيبأن كل منهم في جهة. أما إصابة الفريق الأول، فإن آيات القتال نسخت آيات السلم وأخذت مكانها، فلم يعد يُعمل إلا بآيات القتال. ففعلاً آيات القتال أبطلت نفوذ آيات السلم. فإذا قالوا نسختها أو أبطلت فعلها لا فرق.

وإصابة الرازي في إنكار هذا النسخ هو رسوخ آيات السلم، فمحمد ما أُرسل إلا للتبشير والإنذار والبلاغ. ولو أُرسل لغير ذلك كالحرب والقتال لما كانت الآيات على هذا المنوال. وهذه الآيات إخبار بمعنى النهي عن الإكراه والإجبار. فكيف يبيّن وظيفة محمد كمبشر ونذير وينهاه عن وسائل الإكراه والإلجاء إلى الدين، ثم يعدل إلى الأمر به؟

هذا لا يجدر بالمخلوق العاقل، فكم بالحري القدوس الكامل؟!  وجلَّ عن مثل ذلك!

قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ” (الأنعام ٦:  ١٠٤).

التفسير:  من أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر، وإياها نفع. ومن عمي عنه فعلى نفسه عمي، وإياها ضَرَّ بالعمَى. “وما أنا عليكم بحفيظ” أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر، والله هو الحفيظ عليكم. ثم يقول:   الغرض بهذه البصائر أن من ينتفع بها اختياراً استحق بها الثواب، لا أن يُحمل أو يُلجأ إليها، لأن ذلك يبطل هذا الغرض:  فمن أبصر فلنفسه، ومن عمي فعليها. قال:  وفيه إبطال قول المجبرة في المخلوق. قال المفسرون إن معناه:  لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم أو الوكيل. قالوا:   إنما هذا كان قبل الأمر بالقتال. فلما أُمر بالقتال صار حفيظاً عليهم. ومنهم من يقول:   آية القتال ناسخة لهذه الآية، وهذا بعيد. فكان هؤلاء المفسرون مشغوفين بتكثير النسخ من غير حاجة إليه. والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه:  إن الأصل عدم النسخ، فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان (الرازي المجلد الثالث عشر ١٣٣-١٣٤).

وتعليقنا:  هذه آية خامسة تبين عدم صلاحية الإلجاء إلى الدين. فلنا من تفسير هذه الآية ثلاثة أمور ذات شأن: 

١ - ليس على محمد حفظ أعمال المشركين ومجازاتهم عليها.

٢ - إن الإلجاء إلى الدين يُبطل منه غرض الثواب.

٣ - تخويل الله للإنسأن مطلق الحرية في أمر الدين والعبادة، بحيث يستحق منه العقاب إن عصى، والثواب إن أطاع. وأما أن ذلك منسوخ بآيات القتال فهو زعم باطل، لأن الإكراه إلى الدين غير جائز  في الشرع لمنافاته التكليف، ولأنه يبطل الغرض من الدين:  الذي هو الثواب. ولذلك قال:  “لا إكراه في الدين”.

ولكن الأمر صار عكس ذلك، فإن آيات القتال أبطلت العمل بآيات السلم، والإكراه في الدين قام مقام النهي الصريح عنه. والقائل:  “ما أنا عليكم بحفيظ” أضحى عليهم حفيظاً!

وهنا نقول إذا كان محمد لجأ إلى وسائل الإكراه والإلجاء إلى الدين، فهو بذلك يبطل غرض الدين في المُكرَه إليه، لأنه يُعْدِمه الثواب. وإذا كان محمد أُرسل رحمة للعالمين، فكيف يكون كذلك وهو يحرم الناس من ثواب الله بإجبارهم وإلجائهم إلى الدخول فيه؟

فما السبيل للتوفيق بين الرأيين والجمع بين الضدين؟

نحن نثني على الإمام لقوله عن النسخ:  “وهذا بعيد” - لأن هذه الآيات إخبار بمعنى النهي عن اتخاذ وسائل الإكراه والإلجاء، غير النافع، والمبطل غرض الدين، والمنافي لحرية الضمير الممنوحة من لدنه تعإلى للإنسأن. غير أنه لم يبين لنا ما هو بعيد، وما مراده بقوله إن الأصل عدم النسخ. فهل مراده عدم النسخ في هذا الأمر؟  فإن كان هذا مراده، فأين يذهب بآيات القتال والإكراه؟  وكيف يوفّق بين النسخ وعدمه؟

“وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ” (الأنعام ٦:  ١٠٧).

التفسير:   لما بيَّن الله أن لا قدرة لأحد سواه على إزالة الكفر عنهم، ختم الكلام بما يكمل معه تبصير الرسول عليه السلام، وذلك أنه تعإلى بيَّن له قدر ما جُعل إليه، فذكر أنه تعإلى ما جعله عليهم حفيظاً ولا وكيلاً على سبيل المنع لهم، وإنما فُوِّض البلاغ بالأمر والنهي في العلم والعمل، وفي البيان بذكر الدلائل أو التنبيه عليها. فأن أنقادوا للقبول فنَفْعه عائد إليهم، وإلا فضرره عائد عليهم (الرازي المجلد الثالث عشر ١٣٧-١٣٩).

وتفسيرها من البيضاوي هو:   وما جعلناك عليهم رقيباً، وما أنت عليهم بوكيل تقوم بأمورهم. ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله، أي لا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح (البيضاوي المجلد الأول ص ٣٩٦).

وتعليقنا:   هذه آية سادسة تبيّن لك مسئولية محمد، وهي البلاغ والإنذار. ودفعاً للتوهم أنه جُعِل أيضاً لمحمد عقاب الذين لا يقبلون بلاغه وإنذاره، قال:  “وما أنت عليهم بوكيل” والتفسير أنه ما جعله عليهم حفيظاً ولا وكيلاً على سبيل المنع لهم.

 فمحمد قد نُهي نهياً مطلقاً عن إيذاء المشركين ليُجبرهم للدخول في الدين بثلاثة أمور، هي: 

١ - عدم إكراههم إلى الإسلام بالسلاح أو غيره.

٢ - عدم الامتناع عن الإحسأن إليهم.

٣ - عدم سبّهم.

فمإذا بقي له غير البلاغ والإنذار بالحب واللطف والحلم، قبلوا أو أبوا؟

“وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَأنَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُون” (يونس ١٠:  ٩٩، ١٠٠).

التفسير:   قال:   المراد “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، على رأي الجبائي والقاضي وغيرهما:    مشيئة الإلجاء، أي لو شاء الله أن يلجئهم إلى الإيمان لقدر عليه، ولصحَّ ذلك منه. ولكنه لم يفعل ذلك، لأن الإيمان الصادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه ولا يفيده. “أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟” والمعنى:  أن لا قدرة لك على التصرف في أحد. والمقصود منه بيأن أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى. “وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله تعالى”. قال القاضي:   “المراد أن الإيمان لا يصدر عنه إلا بعلم الله وتكليفه، أو بإقداره عليه” (الرازي المجلد السابع عشر ١٦٥-١٦٩).

وتفسير البيضاوي لهذه الآية هو:  أفأنت تُكره الناس بما لم يشأ الله منهم؟... على أن خلاف المشيئة مستحيل، فلا يمكنه تحصيله بالإكراه عليه. “وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله”. إلا بإرادته وإطلاقه وتوفيقه. فلا تجهد نفسك في هداها، فإنه إلى الله (البيضاوي المجلد الأول ص ٥٥١).

وتعليقنا: هذه الآية كالآية الأولى في هذا الباب، نهي عن الإكراه - وكانت إما لأن محمداً كان قد ابتدأ باتخاذ وسائل الإكراه، أو نوى أن يجريه متى مَكَّنَتْهُ الأحوال. وهي تبيّن تقصير الإكراه عن ابلاغ الناس شأو الإيمان، لأن ذلك عطيَّة الله وخاص به. فإذا كان الإكراه في الدين ممنوعاً من لدن الرحمان لعدم نفعه وفائدته، فكيف وجب الإكراه؟

“قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ” (يونس ١٠:  ١٠٨).

التفسير:  خلاصة تأويل هذه الآية أنه تعالى بيَّن أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة، “فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها. وما أنا عليكم بوكيل” فلا يجب عليَّ من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم، وفي تخليصكم من العذاب الأليم أزْيَد مما فعلت. قال ابن عباس:  “هذه الآية منسوخة بآية القتال” (الرازي المجلد السابع عشر ١٧٥-١٧٦).

وتعليقنا:   في هذه الآية وتأويلها أمرأن

١          -           لم يقصد الله بإرسال محمد أكثر من إنزال الشريعة وإبلاغها للناس.

٢          -           الواجب على محمد ليس أكثر من البلاغ والإنذار، فإذا كان محمد باشر القتال والإكراه فقد عمل ما لم يكن في قصد الله بإرساله. وإذا كان لا يجب على محمد أكثر من البلاغ والإنذار والنصح، فكيف وجب عليه الغزو والغارات والقتل والنهب والسبي؟ وإذا كان ذلك جائزاً وواجباً، فلمإذا القول “لا إكراه في الدين. أفأنت تكره الناس حتى يؤمنوا؟”

ذلك من أعظم التناقض غير القابل للجمع والائتلاف! وما أغرب ما قال ابن عباس:  “هذه الآية منسوخة بآية القتال”! فيا ابن عباس، أحقاً لم ترَ عدم قابلية الآية للنسخ، أو لم ترَ أن القول “لا إكراه في الدين” هو نفي مطلق للإكراه؟

والقول:   “أفأنت تُكره الناس حتى يؤمنوا.. إلى آخر الآية” بيان جلي لعدم نفع الإكراه، وإنه تعالى لا يريده. وكيف قال لمحمد:  “وما جعلناك عليهم حفيظاً. وما أنت عليهم بوكيل”. وهذا ليس فقط قول ابن عباس، بل هو قول المسلمين أجمع منذ شرع محمد الغزو والقتال. وليس من مسلم يقول بثبوت هذه الآية ويرضى بآيات القتال.

ولا أعلم كيف يقبل علماء الإسلام - وهم يفهمون هذه الآيات ويأولونها هذا التأويل الحسن - كيف يقبلون آيات القتال ويرون وجوبها وصلاحيتها؟  وإذا كانوا يعتقدون أن فئتي الآيات من عند الله، يكونون في ارتباك لا خروج منه، بل يبقون يتقلَّبون بين هذا وذاك إلى ما شاء الله!

“وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ” (شورى ٤٢:  ٦).

التفسير:   الذين اتخذوا من دونه أولياء، أي جعلوا له شركاء وأنداداً، الله حفيظ عليهم، أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيء. وهو محاسبهم عليها. ولا رقيب إلا هو وحده. وما أنت يا محمد بمفوض اليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان. إنما أنت منذر (الرازي المجلد السابع والعشرون ١٤٦-١٤٧).

“وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَأناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ” (النحل ١٦:  ٨١-٨٣).

التفسير:   إن تولوا يا محمد وأعرضوا وآثروا لذّات الدنيا ومتابعة الآباء والمعاداة في الكفر، فعلى أنفسهم جنوا ذلك. وليس عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام (الرازي المجلد العشرون ٩٢-٩٥).

وتفسير البيضاوي لهذه الآية:   فإن تولوا أو أعرضوا ولم يقبلوا منك، فإنما عليك البلاغ المبين، فلا يضرك فإنما عليك البلاغ وقد أبلغت. وهذا من إقامة السبب مقام المسبَّب (المجلد الأول ص ٦٧٧).

تعليقنا:   هذه أيضاً ثلاث آيات تبين أن محمداً ما أُرسل لقسر الناس وإكراههم على الإيمان. وسواء اهتدى المشركون بواسطة سمع الكتاب أو ضلوا “ما أنت عليهم بوكيل” - أي لست مأموراً أن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر.

والثانية:   لا رقيب على المشركين إلا الله وحده، وأن محمداً غير مفوَّض إليه من الله أمرهم ولا قسرهم على الإيمان.

والثالثة:   إن أعرض القوم عن قبول بلاغه وإنذاره فليس عليه إلا البلاغ.

فكيف يُعرض علماء الإسلام عن معأني هذه الآيات الصريحة ويجيزون مخالفتها بما يزعمون نزوله من آيات القتال؟ فيا محمد، إذا كان لا رقيب على المشركين إلا الله وحده، فكيف صرت عليهم رقيباً؟  وإذا كنت “ما أنت عليهم بوكيل” حتى تكرههم على قبول الدين، فكيف صرت عليهم وكيلاً حتى تغزوهم وتهرق دماءهم وتسبي ذراريهم؟  وإذا كان ربك لم يُفوِّض إليك أمرهم، بل أمرك فقط بإبلاغهم وإنذارهم، وإن هذا عليك قبلوا أم امتنعوا - فلِمَ لم تقف عند هذا الحد، حتى إن تولوا تدعهم وشأنهم، وربُّك بصير بهم؟

“وَإِنَّ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ” (الرعد ١٣:  ٤٠).

التفسير:   ملخصه:   أعلم أن المعنى “وإن ما نرينَّك بعض الذي نعدهم من العذاب أو نتوفينَّك” قبل ذلك - والمعنى:   سواء أريناك ذلك أو توفيناك قبل ظهوره، فالواجب عليك تبليغ أحكام الله تعالى وأداء أمأنته ورسالته، وعلينا الحساب (الرازي المجلد التاسع عشر ٦٦-٦٧).

وتعليقنا:   الأمر واضح، أنه ليس على محمد سوى إبلاغ الناس رسالة ربه، وعلى الله محاسبتهم “إن تولوا” أي أعرضوا عن قبولها مصرّين على كفرهم.

غير أن هذه الآية كفصل الخطاب في بيانها ما على محمد وما على الله:    “فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب”. كانه تعالى قسم أمر العباد بينه وبين محمد، بأن جعل على محمد إبلاغهم حقه، وعليه محاسبتهم ومجازاتهم. فإذا كان الأمر هكذا، هل لمحمد أن يدين المعرضين عن إبلاغه متخطياً حدود ربه؟

“وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَّكَلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً” (الاحزاب ٣٣:  ٤٨).

التفسير:   ملخصه:   ولا تطع الكافرين إشارة إلى الإنذار بمن خالفهم وردَّ عليهم. وعلى هذا فقوله:  “ودع أذاهم” أي دعه إلى الله، فإنه يعذبهم بأيديكم وبالنار (الرازي المجلد الخامش والعشرون ٢١٨).

وتفسير الجلالين لهذه الآية:   ولا تطعهم فيم يخالف شريعتك، واترك أذاهم. لا تجازهم على كفرهم ونفاقهم، وتوكلّ على الله كافيك (الجزء الثاني ص ١٢٠).

وتعليقنا:   لا غرو أن الجلالين أصابا دون الرازي في تفسير هذه الآية. وإنك ترى في تفسيرها من الرازي عيباً وخطأ. فأي بصير مميّز  يرى في القول “ودع أذيتهم، إنه يعذبهم بأيدي محمد وأتباعه” فهل نَهْي محمدٍ عن إيذاء القوم يعني أن محمداً سيعذب أولئك القوم؟  فكان الإمام رام التوفيق بين هذا النهي والردع عن أذية الكافرين والمنافقين، وبين القول:   ”وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً” (النساء ٤:  ٨٩). والتوفيق بين هذين القولين، والجمع بين هذين الضدين ليس بأيسر من التوفيق بين النار والماء!

اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النحل ١٦:  ١٢٥).

التفسير:   ملخص التفسير قال:   ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة، وهي البراهين القطعية اليقينية. وادع عوام الخلق بالموعظة الحسنة، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية. وتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل. ثم قال تعالى:   إن ربك “هو أعلم بالمهتدين”. والمعنى أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاث. فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك (الرازي المجلد العشرون ١٣٨-١٤٠).

وتفسيرها في الجلالين هو:   ادع الناس يا محمد إلى سبيل ربك بالحكمة أي بالقرآن، والموعظة الحسنة مواعظه، أو القول الرقيق وجادلهم بالمجادلة التي هي أحسن، كالدعاء إلى الله بآياته، والدعاء إلى حججه.”إن ربك أعلم بمن ضل” فيجازيهم (الجزء الأول ص ٢٥٨).

وتعليقنا:   هذه الآية بيان لوظيفة محمد، وهي دعوة الجميع إلى سبيل الله بالبرهان والدليل، بالرفق والحلم، والاقتصار على ذلك. فليت محمداً استمر على هذه المعاملة ولم يستخدم الغزو والاغتيال، كاغتياله الرجال الذين لم يقبلوا دعوته أو هجوه، ككعب بن الأشرف، وأبي عفك الشيخ، وسفيان بن خالد، وأبي رافع بن أبي عقيق، الأمر الذي لا يجدر بذي البأس، فكم بالأولى من هو باعتبار نبي مرسل للإرشاد والهدى.

“وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً” (الإسراء ١٧:  ١٠٥).

التفسير:   ملخص التفسير:  بيَّن الله أن القرآن معجز  قاهر دال على الصدق. ثم حُكي أن الكفار لم يكتفوا بهذا المعجز  بل طلبوا سائر المعجزات، فأجاب الله بأنه لا حاجة لإظهار سائر المعجزات، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرة، منها أن قوم موسى أتاهم الله تسع آيات بينات، فلما جحدوا بها أهلكهم الله. فهكذا هنا. ثم أن الله لو أتى قوم محمد تلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها، وجب استئصالهم، وذلك غير جائز  في الحكمة، لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، والذي لا يؤمن فسيظهر من نسله من يصير مؤمناً. ولما تم هذا الجواب عاد إلى تعظيم حال القرآن وجلالة درجته، فقال و”بالحق نزل”. والمعنى أنه ما أردنا بإنزاله إلا تقرير الحق والصدق. ثم قال تعالى:  “وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً” والمقصود أن هؤلاء الجهَّال الذين يقترحون عليك هذه المعجزات، ويترددون عن قبول دينك، لا شيء عليك من كفرهم، فإني ما أرسلتك إلا مبشراً للمطيعين ونذيراً للجاحدين. فإن قبلوا الدين الحق انتفعوا به، وإلا فليس عليك من كفرهم شيء (الرازي المجلد الحادي والعشرون ٦٧-٦٨).

وتعليقنا:   تكلمنا عن دعوى إعجاز القرآن وبطلأنها في الباب الأول، وكذلك مسألة عذاب الاستئصال. ولا يخفى على القارئ العزيز  أن لفظة “إلا” في هذه الآية تفيد الحصر بأن محمداً ليس أكثر من مبشر ونذير، ما أُرسل إلا إلى ذلك. فإذا قام بهما يكون قد أدَّى كل ما عليه. فليس له أن يتجاوز  أمر التبشير والإنذار، لأنه ما أُرسل (حسب الآية) إلا إلى ذلك.

ولنفرض أن الآية كانت بسبب اقتراح القوم على محمد آيات معجزات كآيات موسى وعيسى، وأن المراد بها أن محمداً ما أُرسل لعمل الآيات. نقول:  يدخل تحت هذا الحصر أيضاً أنه ما أُرسل لقتال الناس بداعي إكراههم إلى الدين، الأمر الممنوع كليّاً بالآيات المتقدمة. فلا أحلى ولا أجمل من كلمتي “مبشر” و”نذير” لأن الأولى خبر خير، والثانية تحذير من شر مقبل يمكن توقيه. فإذا لجأ هذا المبشر والنذير إلى وسائل القهر والإكراه، ألا يكون قد تجاوز  حدود إرساليته هذه؟  وهل يبقى من مقامٍ لحرف “إلا” في آية “وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً؟” وهل يمكن للقوم أن يتوسَّموا فيه المبشر، وهم لا يرونه إلا عاتياً قاهراً مجبراً، يدعو الملأ بحد سيفه إلى قبول دعوته، أو أداء الجزية عن يد وهم صاغرون؟  وهل من عاقل يرى لزوماً للقول “وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً” إذا كان سبحانه أرسله لغزو الأقوام وقسرهم على الإسلام؟  وهل من مسلم مدرك حر الفكر لا يرتبك كل الارتباك عند تأمله مثل هذه الآيات وهو يرى محمداً رجل حروب وفتوحات وغنائم؟

“إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بَوَكِيلٍ” (الزمر ٣٩:  ٤١).

التفسير:   خلاصته أن محمداً كان يعظم عليه إصرار القوم على الكفر، فقال تعالى:  “إنّا أنزلنا عليك الكتاب الكامل الشريف لنفع الناس ولاهتدائهم به، وجعلنا إنزاله مقروناً بالحق، وهو المعجز  الذي يدل على أنه من عند الله. فمن اهتدى فنفعه يعود عليه، ومن ضل فضير ضلاله يعود عليه. “وما أنت عليهم بوكيل” أي لست مأموراً بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر، بل القبول. وعدمه متروك لهم، وذلك لتسلية الرسول في إصرارهم على الكفر (الرازي المجلد الخامش والعشرون ٢٨٣-٢٨٤).

وتعليقنا:   لا زالت الآيات تتوارد بالسور المتتابعة أن محمداً ليس على الناس وكيلاً لقهرهم وقسرهم على الإيمان، ولا لعقابهم على إعراضهم وعدم إيمانهم. فإن الإلجاء إلى قبول الإيمان يبطل الغرض منه، وهو الثواب.

لقد رأينا في هذا الباب أربعة أمور حريّة بالاعتبار: 

١          -           عدم جواز الإكراه في الدين.

٢          -           عدم جواز مجازاة من يرفضون دعوة محمد.

٣          -           وجوب التصدُّق عليهم.

٤          -           بيان العمل الذي أُرسل إليه محمد، وهو التبشير والإنذار وتحديده على سبيل الحصر.

فهل يبقى محل بعد لآيات القتال، أو مسوّغ للإكراه والإلجاء والقهر؟  كلا!  لأنه كيف يكون “لا إكراه في الدين” وفي الدين إكراه؟  وكيف الإكراه، والإلجاء إلى الدين غير نافع ونافع؟!  وكيف لم يُرسَل محمد لمثل ذلك، وأُرسل إليه؟!  فهل من نقيضين أعظم من هذين؟  وهل من سبيل للجمع بينهما؟  هل يسوغ أن يُنسب لله الكامل القدوس مثل هذا التناقض، أي أن يقول:  “ما أرسلت عبدي ليفعل كذا” ثم ينقض قوله ويقول:  “بل ارسلته ليفعله!” وما أقمته على الناس وكيلاً ليُكرِههم أو يقاصّهم، ثم يقول:  أقمته ليجاهد الكفار والمنافقين؟

تذييل

من المعلوم أن محمداً نطق بهذه الآيات السلميّة في مكة وسار بموجبها بتواضع وحلم، وكذا بعد هجرته إلى يثرب مدة. وإنما حين عظُم شأنه بوفرة أنصاره وأبطاله، رأى من مصلحته ومصلحة أصحابه العدول عن منهج السلم والاقتصار على البلاغ والإنذار، إلى منهج الغزو والغارات. فانقلب من مبشر ونذير إلى قاهر مُجبر، إذ أخذت آيات القتال تنصب عليه صبّاً، فلم يبق للآيات السلمية سوى مجرد وجودها في القرآن!  وليس من غرضنا في ذيل هذا الباب الخوض في مسألة الناسخ والمنسوخ، لأننا أفردنا لذلك الباب التالي - ولكن ألا يرى المسلم العاقل دوام الغرض من آيات حسن معاملة من لا يقبلون الإسلام؟

ولست أصدق أن مسلماً مخلصاً يرى أن الآيات السلميّة أُنزلت للعمل بها في حالة ضعف الرسول وعجزه، ثم أُلغيت لما اعتز  بالرجال وتقوَّى بالعِدد والمال!  “لا إكراه في الدين” و”ما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً” و”عليك البلاغ وعلينا الحساب”. إذا كانت هذه الآيات مكينة ثابتة لا تُلغى، فأين مكان آيات القتال للإكراه إلى الدين والانتقام من الذين لا يؤمنون، وكيف له التوفيق بينهما؟  فكيف تكون فئتا الآيات من عند الله؟

والتملُّص من هذا الإشكال بالقول:  “سبحأن الله، إنه فوق كل ذي علم عليم” لا يصالح التناقض الواضح! فتسبيح الله وإجلاله شيء، وفهم الآيات والعمل بها شي آخر!

 

 

الباب الثالث الناسخ والمنسوخ في القرآن“

 

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (البقرة ٢:  ١٠٦).

التفسير:  في تفسير هذه الآية مسائل وأوجه كثيرة نأتي بأهمها ملخصاً. قالوا إن النوع الثاني من طعن إليهود في الإسلام أنهم قالوا:  “ألا ترون إلى محمد، يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه؟  ويقول اليوم قولاً وغداً يرجع عنه؟” فنزلت هذه الآية.

ومن المسائل في تفسير هذه الآية أنهم اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن، وقال ابو مسلم بن بحر إنه لم يقع. وأثبت معظمهم حدوث النسخ للأسباب الآتية: 

١          -           هذه الآية “ما ننسخ من آية أو ننسها” إلى آخر الآية.

٢          -           إن الله أمر المتوفَّى عنها زوجها بالاعتداد حولاً كاملاً، ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشراً.

٣          -           إنه أمر بثبات الواحد للعشرة، بقوله:  “فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين”. ثم نسخ ذلك بقوله:  “الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين”.

٤          -           إنه نسخ القبلة عن بيت المقدس إلى حرم مكة.

٥          -           قوله:  “وإذا بدّلنا آية مكان آية، والله أعلم بما ينزِّل، قالوا:  إنما أنت مفترٍ...”.

فالتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم، فكيف كان فهو رفع ونسخ؟

“أو ننسها”. إن النسي أن يصحّ في هذه الآية بأن أمر الله بطرح ذلك المنسي من القرآن وإخراجه من جملة ما يُتلى، ويُؤتى به في الصلاة أو يُحتج به.

يُروى إنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها - أو “ننسها” أن نتركها. وهي الآية التي صارت منسوخة في الحكم ولكنها غير منسوخة في التلاوة (الرازي المجلد الثالث ٢٢٥-٢٣٣).

وتفسيرها من البيضاوي:   نزلت الآية لما قال المشركون أو إليهود “ألا ترون محمداً يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمر بخلافه؟”. ونسخ الآية بيان أنتهاء التعبّد بقرائتها والحكم المستفاد منها، أو بهما جميعاً. “ما ننسخ” أي نأمرك أو جبريل بنسخها، أو تجدها منسوخة. “وننسها” أي نُنسي أحداً إياها، وتَنْسَها أي أنت. وقرأ عبد الله:  “ما نُنْسِكَ من آية أو ننسخها نأت بخير منها أو مثلها” أي بما خير للعباد في النفع والثواب، أو مثلها في الثواب. “ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير” فيقدر على النسخ والإتيأن بمثل المنسوخ، وربما هو خير منه. الآية دلت على جواز  النسخ... (المجلد الأول ص ١٠٤، ١٠٥).

وتفسيرها من الجلالين هو:   ما ننسخ من آية، أي نزل حكمها إما مع لفظها أو لا. وفي قراءة بضم النون، من “اَنْسَخَ” أي نأمرك أو جبريل بنسخها. أو ننسها نؤخرها فلا نُنْزِل حكمها ونرفع تلاوتها أو نؤخرها في اللوح المحفوظ، أو نُنسِها أي ننسِكها أي نمْحُها من قلبك، وجواب الشرط “نأتِ بخير منها” أنفع للعباد في السهولة أو كثرة الأجر. “أو مثلها” في التكليف والثواب. “ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير” ومنه النسخ والتبديل والاستفهام للتقرير (الجزء الأول ص ١٨).

وتعليقنا:   في تفسير هذه الآية ثلاث نقط: 

١ - الداعي إلى طعن المشركين وإليهود في الإسلام. وكل منصف يرى هذا الطعن في محله من وجهين: 

(أ) شهرة العرب بثبات القول كشهرتهم في الكرم، فالموت أحب إليهم من تغيير قولهم والإخلاف في وعودهم. فلما رأوا محمداً يغيّر ويبدل في كلامه، ويرجع عما سبق أن قاله ويأمر في الغد بما نهى عنه في أمسه، أنكروا عليه ذلك لمنافاته العادة العربية، وحسبوا الإسلام ألعوبة لا يجدر بالعاقل قبوله.

(ب) لأن إليهود لم يعهدوا مثل ذلك في شرعهم، ولا كان في أنبيائهم. فلا أمر ولا نهي من الشرع الذي أُعطي لموسى نُسخ بلسأنه أو بلسان خَلَفه يشوع. وكل الأنبياء بعد موسى حتى المسيح صادقوا على شرع موسى كما أُنزل بدون تغيير أو تبديل. فلما رأوا محمداً، يَنْسخ ليس فقط من أحكام التوراة، بل كثيراً من الأحكام المدَّعي إنزالها عليه من عند الله اتباعاً لظروف الزمأن والمكان، أنكروا دعواه، حاسبين ذلك منه نوعاً من الحيل السياسية.

٢ - مثل هذه الآيات الناسخة تدل على ضعف قائلها. والله سبحانه لن يَشُوبه ضعف أو عجز. فينتج من ذلك أنها ليست من عند الله، لأن تنقيص عدة المتوفَّى عنها زوجها من سنة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، وثبات “الواحد إلى عشرة” إلى ثبات “الواحد لاثنين” ضعف في القائل، كانه جهل بالمستقبل، وهو أن طول العدة للمترملة يضحى تجربة لها وحملاً ثقيلاً على من يتوق إلى الزواج بها - وأن في المسلمين ضعفاء يعجزهم الضعف عن ثبات واحدهم للعشرة، كقول الآية “وعلم أن فيكم ضعفاً”. ألم يعلم علام الغيوب ذلك لما قال بثبات واحدهم للعشرة؟  وإن كان ولا بد عرفه، فلمإذا لم يأمر به من أول الأمر، بحيث لا يكون داع لنسخه؟

٣ - في الإنساء والنسيان:  قال بعضهم إن الله أمر بطرح ذلك المنسي من القرآن. وبعضهم:  إن المنسي منسوخ في الحكم لا في التلاوة. وبعضهم قالوا بالأمرين، أي بالقراءة والحكم. ويفسر “ننسها” نُنسى أحداً إياها. و”تنسها” أي أنت يا جبريل. وبعضهم:  نُزِيل حكمها، إما مع لفظها أو لا. أو نُزيل حكمها ونرفع تلاوتها، أو نؤخّرها، أو نمْحُها من قلبك يا محمد. فأي تفسير نأخذ؟  فإن الآيات المنسوخة لم تزل في القرآن، يتلوها المسلمون، غير أنها لا حكم لها!

ثم أن كلمة “ننسها” تفيد النسيان، أي ذهاب تلك الآية من ذهن السامع والقارئ، كما لو كانت لم تُسمع ولم تُقل، وفقاً للرواية أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها. ولما كانت هذه المنسوخة لم تزل في مصحف القرآن تُقرأ وتسمع وتعقل، فأين القول “أو ننسها” وهي غير منسيَّة؟!  وعليه فالآية المزعوم إنزالها لإبكام إليهود وإفحامهم، أو لراحة أفكار المسلمين المنزعجين بذلك الطعن المقبول قد زادت الطين بلة. والمفسرون زادوا الأمر صعوبة، فكيف يمكن للمسلم المفكر أن يعتبر هذه الآية وتفسيرها علاجاً لذلك الطعن، ودفعاً للاعتراض؟

وليس في إلغاء فرع أو بند من بنود الشرع، والإتيأن ببند مثله أو خير منه، ما يدل على القدرة الباهرة حتى يقال في ذلك “ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير؟” بل بالحري ما يكشف عن ضعف المؤلف الذي يُنقِّح تأليفه بالإلغاء والتغيير والتبديل في جمله وكلماته، كعادة المؤلفين من البشر!

“وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَّزِلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ” (النحل ١٦:  ١٠١، ١٠٢).

التفسير:   ملخصه:   قال ابن عباس:   كان إذا نزلت آية فيها شدة، ثم نزلت آية ألين منها، تقول كفار قريش:  والله ما محمد إلا يسخر بأصحابه. اليوم يأمر بأمر وغداً ينهى عنه. وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه. فأنزل الله هذه الآية “وإذا بدلنا آية مكان آية”. ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره في مكانه، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها، وهو نسخها بآية سواها. وقوله “والله أعلم بما ينزّل” من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف، أي هو أعلم بمصالح العباد، وهذا توبيخ للكفار على قولهم “إنما أنت مفترٍ” أي:  إذا كان هو أعلم بما ينزل، فما بالهم ينسبون لمحمد (ص) الافتراء لأجل التبديل والنسخ؟  “بل أكثرهم لا يعلمون” حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل، وإن ذلك لمصالح العباد. “وروح القدس” هو جبريل عليه السلام. أي أن جبريل نزّل القرآن من ربك ليثبّت الذين آمنوا، ليسلوهم بالنسخ.

على أن مذهب أبي مسلم الأصفهاني يرفض النسخ. فقال:   المراد “إذا بدَّلنا آية مكان آية” في الكتب المتقدمة، مثل أنه حوّل القِبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. قال المشركون “إنما أنت مفتر” في هذا التبديل. وأما سائر المفسرين فقالوا:   النسخ واقع في هذه الشريعة. وذهب الشافعي أن القرآن لا يُنسخ بالسنَّة، واحتج على صحة مذهبه هذا بقوله:   “وإذا بدَّلنا آية مكان آية” يقتضي أن الآية لا تصير منسوخة إلا بآية أخرى. وهو ضعيف لأن لا دلالة في الآية على أنه تعالى لا يبدل آية إلا بآية، وأيضاً فجبريل عليه السلام قد ينزل بالسنَّة كما ينزل بالآية (الرازي المجلد العشرون ١١٥-١١٦).

وتفسيرها من البيضاوي هو:  بدَّلنا بالنسخ، فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظاً وحكماً “والله أعلم بما ينزل” من المصالح، فلعل ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده، فينسخه. وما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن، فيثبته مكانه. “قالوا إنما أنت مفترٍ” أي متقوّل على الله، تأمر بشيء ثم تبدل ذلك فتنهَى عنه. وهو جواب:  إذاً الله أعلم بما يُنزِّل. “بل أكثرهم لا يعلمون” أي لا يعلمون حكمة الأحكام، ولا يميزون الخطأ من الصواب. “قل نزله الروح القدس” يعني جبريل عليه السلام (المجلد الأول ص ٦٨١).

وفي الجلالين:   “وإذا بدلنا آية مكان آية” بنسخها وإنزال غيرها لمصلحة العباد، والله أعلم بما ينزل، قالوا (أي الكفار للنبي):  إنما أنت مفترٍ كذاب، تقول من عندك. بل أكثرهم لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ (الجزء الأول ص ٢٥٦).

وتعليقنا:   ليس في الآية أعلاه من دفع صحيح أو برهان مقنع لمشركي قريش الذين رَموا محمداً بالافتراء على الله فيما يدَّعيه أنه من عند الله، بقولهم:  “محمد يسخر بأصحابه.. وأنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه” ومن يا ترى لا يرى طعنهم هذا في محله؟

١          -           بسبب الإلغاء والتبديل.

٢          -           لأن المشترع لم يأت بآية قاهرة تثبت أن هذا القرآن أو نَسْخَه هو من عند الله. وهيّن على الإنسان أن يدّعي التنزيل من الروح القدس، ولا يكون ذلك برهاناً على صحة دعواه. ويظهر من الآية أنها لم تكن إلا لإزالة الريبة من قلوب أصحاب محمد بقولها:  “ليثبت الذين آمنوا وهدىً وبشرى للمسلمين”. فيلوح لك من ذلك أن أصحابه تأثروا من طعن قريش بسبب التغيير والتبديل من محمد في القرآن، وشكّوا في صحة دعواه، فكانت الآية:   “وإذا بدلنا آية مكان آية”. فهذه الآية وسابقتها جاءتا لنفس السبب.

غير أن المفسرين يزيدوننا تنويراً في سبب تبديل آية بآية، إنه كان للمصلحة، وأن الطاعنين في الإسلام لا يعلمون حقيقة القرآن وفائدة النسخ والتبديل، أنه لمصالح العباد.

لقد رأى العرب النبهاء فائدة النسخ والتبديل في القرآن لفئة تصبو إلى الغزو والفتوحات والغنائم. والآيات المنسوخة والمبدَّلة أكثرها تنهاهم عنه. ولم يظهر قط أنهم قالوا بعدم فائدة النسخ والتبديل. إنما حين رأوا محمداً يلغي ويبدل القرآن بما يراه أوفق للمصلحة والحال، حسبوا القرآن مختلقاً من عند محمد، لأنه لو كان من عند الله لما وقع فيه هذا النسخ والتبديل مجاراة لتقلبات القلب الإنساني. ويكون تغيُّر الظروف وتقلبات الأحوال أوجب للنسخ والتبديل في القرآن. كان القرآن على ما يكون المسلمون لا المُسْلمون على ما هو القرآن! وكانه سبحانه ملتزم بمجاراة العبد، فيلغي اليوم من الأحكام التي أنزلها أمس، أو يبدلها بما يرضي ذلك المخلوق ويوافق ميوله!  ومن المعلوم أن عادة الإنسان التقلب والتغيير لأنه فاسد ضعيف خطّاء. أما الله فهو العليم الثابت القول، الراسخ الرأي، الذي يعلن للعباد إرادته، ويُنزّل على الإنسان أحكامه وفقاً لكماله وعلوّ شأنه.

“وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً” (النساء ٤:  ١٥).

التفسير:   زعموا أن هذه الآية صارت منسوخة بالحديث، وهو ما رواه عبادة بن الصامت أن النبي قال:  “خذوا عني خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر والثيّب بالثيّب. البكر تُجلَد وتُنفَى، والثيّب تُجلَد وتُرجَم”. ثم إن هذا الحديث صار منسوخاً بقوله:  “الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد مائة جلدة” وهذا يثبت أن القرآن قد يُنسَخ بالسنَّة، وأن السنَّة قد تُنسخ بالقرآن. هذا رأي فريق من المفسرين.

والفريق الثاني يرى أن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد. وأما أبو بكر الرازي (لشدة حرصه على الطعن في الشافعي) قال:  “القول الأول أوْلَى” لأن آية الجلد لو كانت متقدمة على قوله “خذوا عني” لما كان لقوله خذوا عني فائدة، فوجب أن يكون قوله “خذوا عني” متقدماً على آية الجلد. وعلى هذا تكون آية الحبس منسوخة بالحديث، ويكون الحديث منسوخاً بآية الجلد. فحينئذ ثبت أن القرآن والسنَّة قد ينسخ أحدهما الآخر. ثم يستضعف البعض تفسير أبي بكر الرازي، ويفسر “فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً” بأن إمساكهن في البيوت محدود إلى أن يجعل الله لهن سبيلاً، وذلك السبيل كان مجملاً. فلما قال محمد “خذوا عني الثيب تُرجم والبكر تُجلد وتُنفىَ” صار هذا الحديث توضيحاً لتلك الآية لا ناسخاً لها، إلى أن يقول:  ومن المعلوم أن جَعْل هذا الحديث توضيحاً لإحدى الآيتين ومُخصِّصاً الآية الأخرى أَوْلى من الحكم بوقوع النسخ مراراً. وأما أصحاب أبي حنيفة فيقولون إن آية الحبس نُسِخت بآية الجلد (الرازي المجلد التاسع ٢٢٩-٢٣٤).

وتعليقنا:   لقد جاءتنا هذه الآية وتأويلها بغرائب مدهشة \

لم تكن في الحسبان، وهو نسخ القرآن بالسنَّة والسنَّة بالقرآن. زعموا أن السنَّة قد نسخت الآية المتقدمة بحديث “خذوا عني” كما رأيت فيما تقدم. ثم انتصر القرآن لنفسه بأن نسخ حكم السنَّة المذكور بقوله:  “الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد مئة جلدة”. فكان القرآن والحديث خصمان يروم كل منهما امتهان الآخر.

ثم أن بعضهم، تخلُّصاً من هذا الأمر المعيب، قالوا إن الحديث “خذوا عني” هو توضيح لآية الحبس لا ناسخ لها، مفسرين “أو يجعل الله لهن سبيلاً” أن هذا السبيل هو ما روي في الحديث:  الجلد والنفي للبكر، والجلد والرجم للثيب. فهل يا ترى من مسلم يرضى بذلك وهو يرى أن آية الحبس مبدولة بآية الجلد. فلو أن ذلك السبيل المذكور بآية الحبس هو النفي والرجم (بحسب رواية الحديث) لوضَّحت آية الجلد التابعة ذلك. ولكن هذه الآية نسخت الحديث بالنفي والرجم، فثبت أن حديث الرجم ليس هو السبيل المذكور في آية الحبس.

أيسوغ أن يُنسب مثل هذا العمل لله الجليل العليم؟ وألا نمتهن الله لو قلنا إنه ينسخ كلامه بقول ينافيه، ثم يعود فينسخ الناسخ بقول آخر؟!

تذييل

ليس في القرآن أغرب من مسألة الناسخ والمنسوخ! فهل يقبل المسلم الفطن القول إن الآية المنسوخة كانت وقت إنزالها تناسب مصلحة الإسلام، لأن المسلمين كانوا ضعفاء.. فلما نالوا قوة اقتضى الحال إبدالها بما هو خير منها!  مع أن المسلم الفطن يرى الآية الفاصلة:   “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً” (الإسراء ١٧:  ١٠٥)!

ألا يدور في خلده عدم إمكان التمييز  الصحيح بين الناسخ والمنسوخ؟  فلعل الناسخ هو المنسوخ، أو أن المنسوخ هو الناسخ!  فما أدرأني إن القول ”لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” (البقرة ٢:  ٢٥٦) ناسخ للإكراه؟  ألا يفسّرها بعض علمائنا أنها إخبار بمعنى النهي، أي لا تُكرهوا في الدين؟  (راجع الباب الثاني). وإلا ما الداعي لإنزالها، وقد كان سالف محمد في الأنبياء، عيسى ابن مريم، المشهور بالمحبة والحلم والإحسان؟  فلو أن عيسى جاء مُكرِهاً الناس إلى الدين، وجاء بعده محمد رحمة للعالمين، لكان ذلك داعياً للقول “لا إكراه في الدين” تحريراً له من اتِّباع خطة عيسى في الإكراه. أي:  يا محمد، لا تحذو حذو سالفك عيسى بإكراه الناس إلى الدين. أنت رسول الله إلى الناس، وما على الرسول إلا البلاغ.

ولما لم يكن عيسى مُكرِهاً تكون هذه الآية نهياً لمحمد عن الإكراه. وعليه فهي ناسخة لا منسوخة. وما يزيد المسألة جلاء الآية:   “أفأنت تكرِه الناس حتى يكونوا مؤمنين؟  وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله”.

١ - فما هو سبب إنزال هذه وتلك؟  ألا لأن محمداً ابتدأ بالإكراه أو نواه، فاقتضى إنزالها نهياً إليه وردعاً له عن نهج هذا المنهج. وإذا كان الله ينهى محمداً عن الإكراه والاعتداء، مبيّناً أنه ما أرسله لمثل ذلك (كما رأيت في مجمل الآيات الواردة في ذلك الباب) ينتج من ذلك أن نسخها وإبدالها بآيات الإكراه خلاف والتواء، لأن الآيات المتقدمة نهيٌ عما جال بخاطر محمد أو شرع به. وإذ نُسخ هذا النهي بالمنهي عنه يكون ذلك عبارة عن حرب قائمة على قدم وساق بين آيات القرآن، كانه من ضدين لا يجتمعأن.

ولما اختلج في صدر محمد حب الإكراه والجزاء، أو التفكير في اتخاذ وسائله، أتت الآيات الناهية له عن ذلك، ليقتصر على البلاغ والإنذار. ولما لم يكن في وسعه اجتياز  تلك الحدود إلا بمبرّر شرعي، نزلت الآيات الناسخة لذلك النهي، فأصبح المنهي عنه مأموراً به!  فأي تناقض أعظم مما بين القول:   ”لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ” والقول:   ”وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ” (البقرة ٢:  ١٩٣). والقول:   ”وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (البقرة ٢:  ١٩٠). والقول:   ”فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ” (التوبة ٩:  ٥). وأيضاً:  ”فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ” (محمد ٤٧:  ٤). والقول:   “وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” (آل عمران ٣:  ٢٠). والقول:   “قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون” (التوبة ٩:  ٢٩). والقول:   “لاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَّكَلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً” (الأحزاب ٣٣:  ٤٨). والقول:   ”وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً” (النساء ٤:  ٨٩). وأيضاً:   ”يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ” (التوبة ٩:  ٧٣، التحريم ٦٦:  ٩). والقول:  ”وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً” (الإسراء ١٧:  ١٠٥). وأيضاً:   ”فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ” (الرعد ١٣:  ٤٠). ”وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ” (الشورى ٤٢:  ٦) والقول:   ”فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤُمِنِينَ” (النساء ٤:  ٨٤). وأيضاً:   ”يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ” (الأنفال ٨:  ٦٥). وغير ذلك.

وبعد فإنه هرباً من القول بالتناقض والخلاف قيل هو ناسخ ومنسوخ، أي إبطال حكم سابق بحكم تالٍ بداعي أن الحكم السابق نزل إلى أجلٍ معلوم. اقتضى نسخه وإبداله بحكم آخر موافق لحالة الإسلام. وإذا طولبوا بالبرهان قالوا:  هو إنزال الآيات الناسخة، وهو كما لا يخفى ليس برهاناً البتَّة لسببين: 

١ - احتياج هذه الآيات إلى برهان أنها من عند الله.

٢ - لأنها أمر بما قد سبق النهي عنه في تلك الآيات المزعوم نسخها.

غير أن الذين يثقون أن كل كلمة في القرآن هي من عند الله، يعتبرون الناسخ دليلاً على أنقضاء أجل المنسوخ. لكن إذا سألتهم:  ما هو الناسخ والمنسوخ؟  عجزوا عن بيانها حق البيان، لأنهم يرون في المزعوم نسخه قوة أكبر من قوة الناسخ له، كما في آية “لا إكراه في الدين” وأخواتها. فلا أقدر أن أصدق أن ذوي النبالة من المسلمين تسلّم عقولهم بوقوع النسخ على مثل هذه الآيات الناهية عن القتال واتخاذ وسائل الإجبار والإكراه، فكم بالحري غير المسلمين الذين يرون أن التغيُّر في نفس محمد غيَّر منهجه، فاتَّجه إلى الغزو والغنائم، ونسخ آيات السلم بآيات القتال، وأحال المبشر النذير إلى قاهر. وما يزيد ذلك تأكيداً هو سبق الفعل للنسخ لا النسخ للفعل، أي تعدي الحكم قبل نسخه، وصيرورة ذلك التعدي وسيلة لنسخ المتعدَّى عليه، كما ترى في مسألة سرِيَّة عبد الله ابن جحش الأسدي إلى نخلة، فإن الآية التي نسخت آية المنع عن القتل في الأشهر الحرام، وهي ”يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ” (البقرة ٢:  ٢١٧) نزلت بعد ارتكاب عبد الله المذكور القتل في الشهر الحرام، وإعطاء خُمس السلب لمحمد، وتعيير قريش محمداً بارتكاب سِريتَّهِ القتل في الشهر الحرام. (أنظر السيرة النبوية المكية ٢١٢-٢١٤ والرازي المجلد السادس ٢٩-٣٤) فالناسخ هنا تابع لا متبوع!

ويماثل ذلك عدة آيات، منها ما كان اتّباعاً للرغائب، كما في مسألة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة. قالوا إن محمداً كان يتمنى من الله تحويل القبلة إلى حرَم مكة، فكانت الآية ”قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ” (البقرة ٢:  ١٤٤). (الرازي المجلد الرابع ١٠٩-١١٨) فإذ لم يكن محمد راضياً ببيت المقدس قبلةً للعرب، بل كان يودُّ إبداله بحرم مكة لدواع سياسية، كانت الآية وفق مرامه.

وكذا آية زواجه بزينب امرأة زيد. فإنها نزلت بعد أن نظر تلك المرأة ووقعت في قلبه، فقال:  “سبحان الله مقلب القلوب” وودّ التزوُّج بها لو وجد إلى ذلك سبيلاً ينزّههُ عن العار، فنزلت الآية تبيح له ذلك وهي:   ”وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَّوَجْنَاكَهَا” (الأحزاب ٣٣:  ٣٧) (الرازي المجلد الخامس والعشرون ٢١١-٢١٤، والبيضاوي المجلد الثاني ص ٢٧٣).

ومنها ما كان مجاراة لضعف القوم بخيانتهم حكم الله في الصوم، كما ترى في آية ”أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ” (البقرة ٢:  ١٨٧). وزعموا أن مجامعة النساء كانت محرمة ليلة الصيام على المسلمين، كما على أهل الكتاب قبلهم، بداعي الآية “كُتِب عليكم الصيام بشرط أن لا ينام الرجل وأن لا يصلي العشاء الأخيرة، فإذا فعل أحدَهما حُرِّم عليه ذلك. وحدث أن جماعة من المسلمين منهم عمر بن الخطاب خأنوا ذلك بأن أتوا نساءهم بعد صلاة العشاء الأخيرة، حتى قال محمد لعمر:  “لم تكن جديراً بذلك يا عمر”. فنزلت الآية، والقول فيها إنكم تختانون أنفسكم (أي ترتكبون الخيانة بالجماع ليلة الصيام) (الرازي المجلد الخامس ١٠٢-١٠٩).

ومنها ما كان تحِلّةً لأَيمان محمد بتحريمه:   ”يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ” (التحريم ٦٦:  ١، ٢). زعموا أن سبب نزول هذه الآية هو أن محمداً واقع زوجته مارية القبطية في بيت زوجته حفصة ابنة عمر بن الخطاب وهي غائبة، فجاءت حفصة فشقَّ ذلك عليها. فأرضاها وقال لها:  “اكتمي عليَّ وقد حرَّمت مارية على نفسي، وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمَّتي”. وأن حفصة أخبرت عائشة بذلك. ولما لم تكتم أمره طلَّقها واعتزل نساءه تسعة وعشرين يوماً، حتى كما قيل:  نزل جبريل وأمره بمراجعتها بداعي أنها صوَّامة قوَّامة. وقال مسروق:  حرم النبي أم ولده (يعني مارية) وحلف أنه لا يقربها، فأنزل الله تعالى هذه الآية. فقيل له:   “أما الحرام فحلال، وأما اليمين التي حلفت عليها فقد فرض الله لكم تَحِلَّة أيمانكم” (الرازي المجلد الثلاثون ٤١-٤٤، الجلالين الجزء الثاني ص ٢٤٤). لقد حرَّم محمد وأثبت التحريم بالأيمان، وطلَّق. وكانه لما رأى أن لا ذنب لمارية يوجب تحريمها عليه، وعدم مناسبة طلاق بنت عمر بن الخطاب، وتضايق من ذلك. ولا يليق بالنبي المشترع أن يحلَّ الحرام ويحنُث بالأيمأن ويراجع المطلَّقة بدون مسوغ شرعي. وزوجة النبي لا تجوز  لآخر. كانت الآية من جهة تحليل مارية ونزول جبريل لمراجعة حفصة.

ومنها ما كان تبرئةً لفعل أُنكِر على محمدٍ فعله، كما ترى في غزوة بني النضير (قبيلة يهود بجوار يثرب) إذ كان محمد في أثناء محاصرته إياهم يقطع نخيلهم، فنادوه من الحصون:  “يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد وتعيبه على من صنعه. فما بال قطع النخيل وتحريقها؟  أهو إفساد أم إصلاح؟” فارتاب بعض أصحابه بجواز  هذا الفعل، وتأثَّروا من اعتراض بني النضير. فنزلت الآية:  ”مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ (اللينة النخلة التي تمرها من دون نواء) أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ” (الحشر ٥٩:  ٥) (السيرة النبوية الجزء الأول ص ٢٩٣-٢٩٥).

ومنها ما كان بياناً لعدم جواز  فعلٍ صدر من محمد، وهو صلاته على جثة المنافق (المؤمن ظاهراً والكافر باطناً) عبد الله بن أبي سلول، ونهياً له عن إتيان مثل ذلك فيما بعد، إذ زعموا أن الآية:   ”وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ” (التوبة ٩:  ٨٤) نزلت بعد فراغ محمد من الصلاة على المذكور وإقامته على قبره حتى نهاية دفنه. وقالوا إن عمراً مانع محمداً من الصلاة على المنافق بداعي نفاقه فلم يمتنع، فنزلت الآية مِصداقاً لرأي عمر، كعدة آيات غيرها، مثل آية تحويل القبلة المتقدم ذكرها، وآية الحجاب للنساء، وآية تحريم الخمر (الرازي المجلد السادس عشر ١٥١-١٥٤ والسيرة النبويَّة الجزء الثاني ص ١٥٩، ١٦٠). فتأمل كيف كانت الرغائب والميول والأفعال والآراء مغنطيساً جاذباً لتلك الآيات المُجَارية. فهل رأيت في التوراة أن الله نسخ حكماً من أحكامه وأحل حراماً ليبرئ المتعدِي أو الخائن، أو أنزل شرعاً ومجاراة لميوله ومراعاةً لرغائبه، فرداً كان أو جماعة، نبيّاً أو ملكاً؟  بالعكس، ترى في حالة تعدّي حدود الشرع كان الله ينزِل آياته تبكيتاً لذلك المتعدي. وكثيراً ما كانت آيات الله تنزل ردعاً لقصد القاصد وميله لإجراء أمر غير مرضيٍّ لله.

وبعد، فإن كلا من الناسخ والمنسوخ باقٍ في المصحف، فمسكين المسلم الذي يتلو هذه وتلك بُكْرَةً وعشيَّة على غاية الوقار، وهو يجهل أيهما باقٍ وأيهما ملغى - فكاني به وهو في موقف التردد والحيرة يتساءل:  لمإذا هذا التباين في القرآن وهو من عند الله الواحد الأحد؟

يأخذ قارئ القرآن العجب من الدعوى بسلامته من الاختلاف بقول الآية:    ”وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً” (النساء ٤:  ٨٢). ويزيده تعجباً وانذهالاً عدم اعتبار أئمة الإسلام وعلمائه الناسخ والمنسوخ فيه اختلافاً، مكتفين بالبحث فيما يعدّه بعضهم اختلافاً من حيث اللغة والركاكة في بعض الألفاظ، والتكرار غير المفيد، وإيضاح الواضح، إلى غير ذلك. ففي القرآن اختلاف كثير، فهو إذاً من عند مَن؟

 

 

الباب الرابع الآيات القرآنية التي تبين ان التوراة و الإنجيل لم يتغيّرا ولا تحرفا“

 

 

وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ” (البقرة ٢:  ٤٢).

التفسير:   لا تُلبسوا الحق بالباطل أمرٌ بترك الإغواء والإضلال. وإضلال الغير يحصل بطريقين: 

١          -           الذي سمع دلائل الحق فإضلاله بتشويش تلك الدلائل عليه.

٢          -           والذي لم يسمعها فإضلاله يكون بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها. فقوله:   “ولا تلبسوا الحق بالباطل” إشارة إلى القسم الأول، وهو تشويش الدلائل عليه. وقوله:  “وتكتموا الحق” إشارة إلى القسم الثاني، وهو منعه من الوصول إلى الدلائل. والأظهر في الباء التي في قوله “بالباطل” أنها باء الاستعانة، والمعنى “ولا تلبسوا الحق بسبب الشبهات التي توردونها على السامعين” لأن نصوص التوراة والإنجيل في أمر محمد عليكم كانت نصوصاً خفيَّة يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال. ثم أنهم كانوا يجادلون فيها ويشوّشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بسبب إلقاء الشبهات. فهذا هو “ولا تلبسوا الحق بالباطل” (الرازي المجلد الثالث ٤٢-٤٣).

وتفسيرها في البيضاوي هو:   “ولا تُلبسوا الحق بالباطل”. اللبس الخلط، وقد يلزمه جعل الشيء مُشْتبهاً بغيرهِ. والمعنى:  لا تخلطوا الحق المُنزَل عليكم بالباطل الذي تخترعونه وتكتمونه حتى لا يُميَّز  بينهما. أو:  لا تجعلوا الحق مُلتَبساً بسبب خلط الباطل الذي تكتمونه في خلاله أو تذكرونه في تفسيره. “وتكتمون الحق وأنتم تعلمون” كانهم أُمِروا بالإيمان وترك الضلال، ونُهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحق، والإخفاء على من لم يسمعه. أي:  لا تجمعوا لبس الحق بالباطل وكتمانه “وأنتم تعلمون” أنكم لابسون كاتمون، فإنه أقبح، إذ الجاهل يُعذَر (المجلد الأول ص ٧٦، ٧٧).

وفي الجلالين:   تخلطون الحق الذي أنزلتُ عليكم بالباطل الذي تغيرونه “وتكتمون الحق” نعت محمد وأنتم تعلمون (الجزء الأول ص ٩).

وتعليقنا:   ترى اتفاق هؤلاء المفسرين العظام لهذه الآية:  أن التلبيس والكتمان كان بالتأويل والإخفاء، فيستحقون منا على ذلك طيب الثناء. وعليه نقول:  إذا كان أهل الكتاب، وهم يعلمون نعت محمد وصفته (كما سترى في تفسير الآيات التالية) ولم يقدموا ولا أسلافهم على نزع ذلك منه أو تحريفه، فقط اقتصروا على تشويش تلك الدلائل على السامع وإخفائها عن غير السامع، ينتج من ذلك أنهم كانوا أمناء على كتابهم كما أُنزل، وأن قول بعض عامة المسلمين بتحريف لفظ الكتاب لا يستحق أيَّ اعتبار.

 

أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (البقرة ٢:  ٧٥).

التفسير:   في تفسير هذه الآية آراء ووجوه كثيرة، نكتفي بذكر أشهرها مُلخصاً. زعموا أن محمداً وأصحابه طمعوا في اقتياد يهود المدينة إلى الإسلام، كما يروون أن محمداً حين دخل المدينة ودعا إليهود إلى كتاب الله وكذَّبوه، أنزل الله هذه الآية. واختلفوا في “الفريق منهم” فمنهم من قال:  هو من كان في أيام موسى. ومنهم:  بل من كان في زمن محمد. ويقول الإمام الرازي:    إن هذا أقرب، لأن الضمير في قوله:  “وقد كان فريق منهم” راجعٌ إلى ما تقدَّم، وهم الذين عناهم الله بقوله:  “أفتطمعون أن يؤمنوا لكم”. واختلفوا في كلمة “ثم يحرفونه” فقال بعضهم إن التحريف إما أن يكون في اللفظ أو في المعنى... وحَمْل التحريف على تغيير اللفظ أَوْلى من حمله على تغيير المعنى... وإن لم يكن ذلك فيجب أن يُحمل على تغيير تأويله، وإن كان التنزيل ثابتاً. وإنه يمتنع ذلك إذا ظهر كلام الله ظهوراً متواتراً كظهور القرآن، فأما قبل أن يصير كذلك فغير ممتنع تحريف نفس كلامه... إلى أن يقول:  وأما إن قلنا إن المنحرفين هم الذين كانوا في من موسى عليه السلام، فالأقرب أنهم حرفوا ما لا يتصل بأمر محمد (ص). وأما أن قلنا:  المحرِّفون هم الذين كانوا في زمن محمد (ص)، فالأقرب أن المراد تحريف أمر محمد، وذلك إما أنهم حرفوا نعت الرسول وصفته، أو لأنهم حرفوا الشرائع كما حرفوا آية الرجم. وظاهر القرآن لا يدل على أي شيء حرفوا “من بعد ما عقلوه وهم يعلمون” وربما يقول قائل إن “عقلوه وهم يعلمون” تكرار لا فائدة فيه. أجاب القفَّال عنه من وجهين: 

١          -           من بعد ما عقلوا مراد الله، فأوَّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى.

٢          -           إنهم عقلوا مراد الله تعالى، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العقوبة من الله (الرازي المجلد الثالث عشر ١٣٢-١٣٦).

وتفسيرها في البيضاوي هو:   “فريق منهم” طائفة من أسلاف إليهود. “يسمعون كلام” يعني التوراة “ثم يحرفونه” كنعت محمد وآية الرجم، أو تأويله، فيفسرونه بما يشتهون. “من بعد ما عقلوه” أي فهموه بعقولهم ولم يبقَ لهم فيه ريبة “وهم يعلمون” إنهم مفترون مبطلون. ومعنى الآية أن أحبار هؤلاء ومقدَّميهم كانوا على هذه الحالة، فما موقف سفَلتهم وجُهَّالهم؟  وأنهم وإن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك (المجلد الأول ص ٩١).

وتعليقنا:   وإن كان ما قد تقدم في الآية الأولى وتأويلها كافياً لبيان عدم تحريف الكتاب، لا بد لنا من الملاحظة على كل آية ترد في هذا الباب، لتنوُّع الآيات وتلوُّن تفسيرها. فالرازي والبيضاوي متفقان على أن التحريف المذكور هنا هو التفسير الفاسد والإخفاء، ويختلفان في ذلك الفريق المحرِّف. فيقول الرازي إنه كان في زمن محمد، والبيضاوي إنه طائفة من أسلاف إليهود معاصري محمد. فسواء كانوا يهود زمن محمد أو أسلافهم، فالمسألة واحدة من جهة التحريف، كما في مسألة آية الرجم، لا بتغيير وتبديل الألفاظ في مواضعها حسبما ذهب بعضهم، أي إمكان وقوع ذلك قبل ظهور كلام الله ظهوراً متواتراً، الذي سنبيّن بطلانه فيما يأتي: 

 

“وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” (البقرة ٢:  ١٠١).

التفسير:   خلاصته أن المنبوذ من الذين أوتوا الكتاب هو التوراة. فإن قيل:  كيف يصحُّ نبذهم للتوراة وهم يتمسكون بها؟  قلنا:  إذا كان يدل على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام لما فيه من النعت والصفة، وفيه وجوب الإيمان، ثم عدلوا عنه، كانوا نابذين للتوراة. أما قوله تعالى:  “كانهم لا يعلمون” فدلالة على أنهم نبذوه عن علم ومعرفة، لأنه لا يُقال ذلك إلا فيمن يعلم، فدلَّت الآية على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوّته، إلا أنهم جحدوا ما يعلمون (الرازي المجلد الثالث ٢٠١-٢٠٢).

وتفسيرها من الجلالين “رسول من عند الله” محمد (ص). “الكتاب” التوراة “نبذوها” أي لم يعملوا بما فيها من الإيمان بالرسول وغيره كانهم لا يعلمون من أنه نبيّ حق أو أنها كتاب الله (الجزء الأول ص ١٦، ١٧).

وتعليقنا:   كل آية في هذا الباب تصدّق على ما سبقها بعدم تحريف الكتاب، فإن هذه الآية تعلن أن نبذ بعض أهل الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم، هو عدولهم عما تضمن من الدليل على نبوة محمد حسبما يزعمون، أو إنكار ما هم يعلمونه من ذلك، ولا يعني أنهم نزعوه من كتابهم. فكان محمداً لما أكد عدم تحريف أهل الكتاب كتابهم، اتَّهمهم بالتلبيس والكتمان والنبذ، أي التفسير الفاسد لتشويش الدلائل، والكتمان والعدول والإغضاء عما يرونه في كتابهم من الدلالة عليه، وهو أكْفَى بيان لأهل القرآن على عدم مس الكتاب بتحريفٍ ما.

 

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (البقرة ٢:  ١٧٤).

التفسير:   زعموا أن هذه الآية نزلت في إليهود. قال ابن عباس:  “نزلت هذه الآية في رؤساء إليهود، ككعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، وحُيي بن أخطب، وأبي ياسر بن أخطب. كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا. فلما بُعِث محمد خافوا أنقطاع تلك المنافع، فكتموا أمر محمد وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية. واختلفوا في أي شيء كانوا يكتمون، فقيل:   كانوا يكتمون صفة محمد ونعته والبشارة به، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدّي والأصم وأبي مسلم. واختلفوا في كيفية الكتمان، فالمرويُّ عن ابن عباس أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل. وعند المتكلمين هذا ممتنع، لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر التحريف فيهما، بل كانوا يكتمون التأويل، لأنه كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد عليه السلام، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد. المعنى:  “الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب” (الرازي المجلد الخامس ٢٥-٢٨).

وتفسيرها في الجلالين هو:  أن الذين يكتمون من التوراة نعت محمد هم إليهود، ويشترون به ثمناً قليلاً من الدنيا، يأخذون بدله من سَفَلتهم فلا يظهرونه خوف فَوْته عليهم، يكون مآلهم النار (جزء ١ ص ٢٨).

وتعليقنا:   في تفسير هذه الآية أمران خطيران: 

١          -           إن تحريف التوراة والإنجيل ممتنع لبلوغهما مبلغ الشهرة والتواتر، بحيث يتعذر التحريف فيهما.

٢          -           كتمأن المعاني من آيات الكتاب بتفسيرها تفسيراً فاسداً يصرفها عن معانيها الصحيحة.

على أن أهل الكتاب ليس فقط لم يُقدِموا على تحريف كتاب الله، بل كانوا أمناء على حفظ آياته كما أُنزِلَت. وإذا كتم علماء إليهود وأشرافهم (حسب الآية وتفسيرها) ما في التوراة من صفة محمد والبشارة به، خوفاً من سقوط اعتبارهم في عيون العامة، وأنقطاع المنافع الجارية عليهم، يتضح أنهم لم يتجرءوا على تحريف آية من كتابهم، وربما لم يخطر لهم ذلك ببال. فلم يبقَ لهم حسب تفسير الآية إلا الكتمان، وهو إما كتمان الكلمات أو كتمان المعاني. وإذا كان علماء الإسلام بعد محمد أدركوا معنى الآيات هكذا، فكم بالأولى عَلِمَ محمد سلامة الكتاب من التحريف، فقال:  “يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون؟” أي:   تنكرونها على من لم يسمعها وأنتم عالمون بها شاهدون لها.

 

 

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟” (آل عمران ٣:  ٧٠).

التفسير:   في قوله “بآيات الله” وجوه خلاصتها: 

١          -           المراد منها الآيات الواردة في التوراة والإنجيل المبشِّرة بمحمد عليه السلام.

٢          -           إنهم كانوا كافرين بنفس التوارة، لأنهم كانوا يحرفونها. وكانوا ينكرون وجود تلك الآيات الدالة على نبوة محمد (ص).

٣          -           وأما قوله “وأنتم تشهدون” فالمعنى أنهم عند حضور المسلمين، وعند حضور عوامهم، كانوا ينكرون اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على نبوة محمد (ص). ثم إذا خلا بعضهم مع بعض شهدوا بصحتها. ومثله قوله تعالى “تبغونها عِوَجاً وأنتم شهداء” (الرازي المجلد الثامن ٩١-٩٢).

وتعليقنا:   يُفهم من هذه الآية وتفسيرها أن أهل الكتاب لم يحذفوا من كتاب الله الآيات التي يزعم محمد أنها تعنيه وتبشر به، ولا أنهم حرَّفوها، لأنهم (حسب الآية) كانوا يكفرون بها، أي ينكرونها وهم يشهدونها في كتابهم. وذلك لا يُبقي محلاًّ لتهمة أهل الكتاب بتحريف كتابهم. ولو كان من شيمتهم تحريف الكتاب، لكانوا أزالوا منه تلك الآيات المزعوم أنها تنبئ بمحمد وتبشر به، أو بدَّلوها، عوض إنكارهم إياها وهم يشهدونها. ولما لم يفعلوا ذلك يتضح أنهم كانوا محافظين بكل حرصٍ واعتناء على سلامة الكتاب كما أُنزل من عند الله.

 

“وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” (آل عمران ٣:  ٧٨).

التفسير:   هذه الآية نازلة في حق إليهود، وهي معطوفة على ما قبلها. واللَّيُّ هو عطف الشيء وردُّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج. وذهب بعضهم بأن اللَّيَّ باللسان هو تحريف اللفظ في حركات الإعراب. إلى أن يقول:   بقي ههنا سؤالان: 

١          -           إلى مإذا يرجع الضمير في قوله “لتحسبوه”؟ الجواب:   إلى ما دلَّ عليه قوله:   “يلوون ألسنتهم” وهو المحرَّف.

٢          -           كيف يمكن إدخال التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟  الجواب:  لعل هذا العمل صدر عن نفرٍ قليل يجوز  عليهم التواطؤ على التحريف. ثم أنهم عرضوا ذلك المُحرَّف على بعض العوام. وعلى هذا التقدير يكون التحريف ممكناً. والأصوب عندي (الرازي) في تفسير الآية وجه آخر، وهو أن الآيات الدالة على نبوة محمد (ص) كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب، والقوم كانوا يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة، فَتُشْتَبَه تلك الدلائل على السامعين. وكان إليهود يقولون:  مراد الله من هذه الآيات ما ذكرناه لا ما ذكرتم، فكان هذا هو المراد بالتحريف وبلَيّ الألسنة. وهذا مثل ما أن المُحِقَّ في زماننا إذا استدلَّ بآية من كتاب الله تعالى، فالمُبطِل يورد عليه الأسئلة والشبهات ويقول:   ليس مراد الله ما ذكرت. فهكذا في الصورة (الرازي المجلد الثامن ١٠٦-١٠٩).

وتفسيرها في الجلالين هو:   وإن منهم (أي أهل الكتاب) لفريقاً:  طائفة ككعب بن الأشرف يلوون ألسنتهم بالكتاب، أي يعطفونها بقراءته عن المُنزَل إلى ما حرَّفوه من نعت النبي ونحوه، لتحسبوه، أي المحرَّف من الكتاب الذي أنزله الله وما هو منه. ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنهم كاذبون (الجزء الأول ص ٦٤).

وتعليقنا:  هذه الآية واضحة المعنى إلى حَدٍّ تستغني به عن التفسير. وهي مثل آل عمران ٧٠ التي توضح نوع تحريف بعض إليهود للتوراة، وهو لفظ الكلام باللسان، بخلاف ما هو في التوراة. لأن هذا الفريق (كان على حسب الآية) يعلم أنه بذلك يقول الكذب على الله، أو هو يعلم أن آيات التوراة خلاف ما يقول. وهذا أيضاً دليل راهن على عدم إقدام أهل الكتاب على تحريف كتابهم. ونحن نثني على الإمام الرازي أنه لم يشترك مع الذين يجيبون على السؤال الثاني في تفسير الآية بقولهم السخيف:  لعل هذا العمل صدر عن نفر قليل يجوز  عليهم التواطؤ على التحريف، ثم أنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوام. وعلى هذا التقدير يكون التحريف ممكناً فنجيب مثل هؤلاء: 

١          -           لا يعوَّل على قضية مبنيَّة على “لعل” و”ربما” لخلوّها من الدليل والبرهان.

٢          -           لأن افتراضهم هذا يُطلق بالأولى على جامعي القرآن. فما وجّهوه على أهل التوراة تحت “لعلَّ” يتوجَّه طبعاً على أهل القرآن، لأن جامعيه كانوا نفراً قليلاً.

٣          -           نسألهم:   من هم ذلك النفر القليل الذي حسب زعمهم “لعل” صدر عنهم تحريف التوراة؟  فليبيّنوه لنا إن قدروا. أبهذا المقدار يجهلون تاريخ بني إسرائيل فلا يعلمون أن موسى قبل أن أنزلت عليه التوراة كان تحت رياسته وقيادته نحو المليونين منهم، وقد كتب لهم التوراة، وكانت تتلى عليهم في حياته مدة الأربعين سنة، ثم خَلفَه يشوع بن نون وعدد من الأنبياء، هم أصحاب الأسفار النبويَّة؟  إذاً “لعلهم” هذه لا محل لها هنا.

وشهرة التوراة وتواترها يمنع إدخال التحريف فيها. ويكفينا قول بعض مفسّري هذه الآية:  إنهم كانوا يحرفون الآيات بألسنتهم لإلوائها أو ردّها من استقامتها، أو جعلها مشتبَهة على السامعين بالأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة. وهذا هو المقصود بالتحريف وبلَيّ الألسنة.

 

 

“وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيَثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ” (آل عمران ٣:  ١٨٧).

التفسير:   خلاصته أن إليهود والنصارى كانوا يكتمون ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوة محمد فكانوا يحرفونها أو يذكرون لها تأويلات فاسدة. والمراد من النهي والكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة والشبهات المعطِّلة (الرازي المجلد التاسع ١٢٩-١٣١).

وتفسيرها في الجلالين هو:   إن الله أخذ العهد على بني إسرائيل في التوراة التي أتاهم ليبينوه للناس ولا يكتمونه، أو ولا تكتمونه (قراءتين) فطرحوه ولم يعلّموا به، آخذين بَدَله ثمناً قليلاً من سَفَلتهم برياستهم في العلم، فبئْس شراؤهم هذا (الجزء الأول ص ٧٨).

وتعليقنا:   لا يطعن محمد البتة بسلامة التوراة والإنجيل، ويسمِّي أهل الكتاب إليهود والنصارى. وقط لم يقل لهم إن هذه التوراة ليست هي التي أُنزلت على موسى، وهذا الإنجيل ليس هو الذي أُنزل على عيسى، كما يهذر البعض. إنما فقط يرميهم بالتلبيس والكتمان والإخفاء، للدلائل التي يزعم أنها تدل على نبوته وتبشر به، كما يقول الإمام في تفسير الآية السالفة، وهو أن الآيات الدالة على نبوة محمد كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظر وتأمل القلب. وكان أهل الكتاب يوردون عليها الأسئلة المشوشة والاعتراضات المظلمة، فينتج من ذلك أمران: 

١          -           أن ليس لمسلم أن يرمي أهل الكتاب بتحريفهم كتابهم.

٢          -           إن ذلك يوجب عليه اقتناء التوراة والإنجيل اللذين بيد إليهود والنصارى لدراستهما ككتاب الله بتدقيق النظر والتأمل والاحترام، لأن المعوَّل عليه في الاستدلال على نبوة محمد هو الكتاب المقدس. وليس ذلك فقط، بل يُلزم المسلم الأخذ بما فيه والقيام به.

 

 

“مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بَأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَأنَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاًِ” (النساء ٤:  ٤٦).

التفسير:   في تفسير هذه الآية مذهبان: 

١          -           كانوا يبدِلّون اللفظ بلفظ آخر، مثل تحريفهم اسم ربعة عن موضعه في التوراة، بوضعهم آدم طويل مكانه. فإن قيل:  كيف يمكن هذا في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب؟  قلنا:  ربما كان القوم قليلين، والعلماء أقل عدداً فقدروا على هذا التحريف.

٢          -           المراد بالتحريف إلقاء الشبهة الباطلة والتأويلات الفاسدة، وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل بالحيَل اللفظية، كما يفعل أهل البدع في زماننا هذا بالآيات المخالفة لمذهبهم وهذا هو الأصح. ومن الآراء في ذلك أنهم كانوا يدخلون على النبي ويسألونه عن أمرٍ، فيخبرهم ليأخذوا به. فإذا خرجوا من عنده حرّفوا كلامه (الرازي المجلد العاشر ١١٦-١٢٠).

وتفسيرها في الجلالين:   “يحرّفون الكلام عن مواضعه” أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، إما لفظاً بإهماله، أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده (المجلد الأول ص ٢٢٨).

 

 

“يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ” (المائدة ٥:  ٤١).

التفسير:   ”يحرفون الكلام عن مواضعه” أي من بعد أن وضعه الله مواضعه، أي فرض فروضه وأحل حلاله وحرّم حرامه. قال المفسرون إن رجلاً وامرأة من أشراف خيبر زنيا، وكان حدّ الزنا في التوراة الرجم، فكرهت إليهود رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوماً إلى محمد يسألونه عن حكمه في الزانيين إذا أحصنا، وقالوا:  إن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوه عن ذلك نزل جبريل بالرجم، فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبريل:  اجعل بينك وبينهم ابن صوريّا. فقال الرسول:   هل تعرفون شاباً أمرَد أبيض أعوَر يسكن فدك، يقال له ابن صوريّا؟ قالوا:   نعم، وهو أعلم يهودي على وجه الأرض. فرضوا به حكماً. فقال له محمد:  أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال ابن صوريّا:  نعم. فوثَبَت عليه سَفَلة إليهود. فقال:   خفتُ إن كذّبته أن ينزل علينا العذاب. ثم أمر محمد بالزانيين فرُجِما عند باب مسجده. إذ عُرفت القصة فنقول:   “يحرفون الكلام عن مواضعه” أي وضعوا الجَلْد مكان الرَّجْم (الرازي المجلد الحادي عشر ٢٣٢-٢٣٣).

وتعليقنا:   في تفسير هاتين الآيتين ثلاثة مذاهب: 

١ - إبدال اللفظ بلفظ آخر.

٢ - التأويل الفاسد.

٣ - الكتمان والإخفاء.

أما الأول فمرفوض، غير أن فيه أمراً يستدعي النظر، وهو مسألة قامة أبينا آدم. فأين يوجد في التوراة أن آدم كان طويل القامة؟  هل أتوا ذلك من باب الظن أو على قول أهل الخرافة والغباوة، فاتَّخذوا دليلاً على تحريف الكتاب؟!  فالحمد لله أن هذا هو الشيء الوحيد الذي زعموا تحريفه لفظاً في التوراة، مع أنه لا وجود له فيها البتة. لقد قالوا إن أهل الكتاب كانوا يشهدون في كتابهم الآيات المبشرة بمحمد، فكانوا إما يلبسونها بالباطل (أي بالتفسير الفاسد) أو يُخفُونها عن الآخرين. وذلك لا يدع قط سبيلاً لتهمة أهل الكتاب بتحريف كتابهم، لا في الأول ولا في الآخر. ولو أن التحريف اللفظي وقع في الكتاب لذكره القرآن، ولما رمى أهله بالتلبيس والكتمان والإخفاء. والقائلون بتحريف التوراة غير واثقين به، لإسنادهم إياه إلى حرف “لعل”. وهو تقدير غاية في الضعف، حتى أن الإمام وغيره من ذوي النبالة لم يُعيروا هذا القول أي اعتبار، كما رأيت. بقي أن تحريف الكلام عن مواضعه هو إلقاء الشُّبه الباطلة عليه والتفسيرات الفاسدة والإخفاء، كما في مسألة الزانيين المذكورين، أو تحريفهم كلام محمد بعد خروجهم من عنده حسب الرأي الأخير في تفسير الآية الأولى من الرازي (ص ٢٣٢).

 

 

وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بَالْمُؤْمِنِينَ” (المائدة ٥:  ٤٣).

التفسير:   ملخصه أن هذا تعجب من الله على تحكيمهم محمداً مع أن الحكم في الزاني هو في التوراة عندهم، وذلك من وجه دليل عنادهم وغيّهم، إذ يعدلون عن حكم الله في كتابهم إلى حكم محمد، طلباً للرخصة بعدم الرجم. ومن عدولهم عن حكم الله إلى حكم من يعتقدون فيه بطل دعواه بالرسالة والنبوَّة (الرازي المجلد الحادي عشر ٢٣٦).

وتفسيرها في الجلالين هو:   وكيف يحكِّمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله بالرجم؟  استفهام تعجّب، أي لم يقصدوا بذلك معرفة الحق، بل ما هو أهون عليهم. ثم “يتولّون” يُعرضون عن حكمك بالرجم الموافق لكتابهم من بعد ذلك التحكيم. وما أولئك بالمؤمنين. إنا أنزلنا التوراة “فيها هدىً ونور” أي هدىً من الضلالة وبيان للأحكام (جزء ١ ص ١١٧).

وتعليقنا:   هذه الآية مع تفسيرها تأتينا بثلاثة أمور تستحق الاعتبار: 

١          -           شهادتها لليهود أن عندهم التوراة فيها حكم الله. وهذه الشهادة قاطعة بعدم تحريف التوراة. ولو وقع في التوراة تحريف لما جاءت الآية “وعندهم التوراة فيها حكم الله”.

٢          -           لأن التوراة التي عند إليهود فيها حكم الله وفيها هدىً ونور، فهي تغنيهم عن تحكيم محمد أو غيره. وإذا كانت تغنيهم عن تحكيمه في أمر الزانيَيْن، فهي تغنيهم أيضاً عن تحكيمه في كل أمر يحتاجونه، لأن فيها هدىً من الضلالة.

إذا كان إليهود حكّموا محمداً بأمل أن يحكم في تلك المسألة بما هو أهون عليهم من حكم التوراة، يظهر أنهم لم يمسّوها بتحريفٍ ما، ولو نافت أهواءهم. أو:  لم يكن لهم سبيل إلى ذلك لتواترها المشهور شرقاً وغرباً، والشهادة على ذلك:   “وعندهم التوراة”. إن التوراة التي فيها حكم الله هي عند إليهود، وهي كلمة تنزهها عن كل تحريف وتبديل.

 

وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (المائدة ٥:  ٤٧).

التفسير:   يقول:   فإن قيل كيف جاز أن يُؤْمَروا بالحكم بما في الإنجيل بعد نزول القرآن؟  قلنا: 

١          -           إن المراد “ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه” من الدلائل الدالة على نبوة محمد (ص) وهو قول الأصمّ.

٢          -           ”وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه” مما لم ينسخه القرآن.

٣          -           المراد من “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه”. جرهم عن تحريف ما في الإنجيل وتغييره، مثل ما فعل إليهود من إخفاء أحكام التوراة. فالمعنى بقوله “ليحكم أهل الإنجيل” أي وليقرأْ أهل الإنجيل ما أنزل الله فيه على الوجه الذي أنزله الله فيه من غير تحريف ولا تبديل (الرازي المجلد الثاني عشر ٩-١٠).

وتعليقنا:   في هذه الآية بيان سلامة الإنجيل في زمان محمد من التحريف، لأنها تحثّ أهله على الحكم بما أنزله الله فيه. والقول إنه يُراد بذلك الدلائل الدالة على نبوَّة محمد فما هو إلا تعزيز  لبيان عدم تحريفه، فلو كان محرفاً ما كانت الآية “وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه” تعني الدلائل المُشار إليها، وما كان ذلك زجراً لهم عن تحريفه كما فعل إليهود من إخفاء أحكام التوراة.

وفي الآية دليلان: 

١          -           سلامة الإنجيل من التحريف.

٢          -           وجوب الاعتماد عليه والأخذ بما فيه. وإذا وجب ذلك على أهل الإنجيل وجب على أتباع محمد أيضاً، لينظروا فيه ويحكموا بما أنزل الله، ليس فقط بخصوص الآيات المزعوم أنها دلالة على نبوة محمد، بل أيضاً بخصوص الشهادات البيّنة للمسيح، لأنه بعد هذه البينات القرآنية على عدم تحريفه، مما ذكرنا ومما سيأتي، لا يجوز  للمسلم أن يعتبر بعض آياته دون بعض، بل عليه اعتباره بكل اجزائه إنجيل الله للعمل به والإيمان بما أنزل الله فيه.

 

 

“مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بآيات اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين” (الجمعة ٦٢: ٥).

التفسير:   ملخصه:  “حُمِّلوا التوراة” كُلّفوا العمل بها، “لم يحملوها” لم يعملوا بما فيها من نعته (ص) فلم يؤمنوا به. “كمثل الحمار يحمل أسفاراً” أي كتباً، في عدم انتفاعه بها. بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله المصدقة للنبي محمد (ص) (الجلالين الجزء الثاني ص ٢٣٨).

وتفسيرها في الرازي هو أنه تعالى ضرب هذا المثل للذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بالنبي عليه السلام. والمقصود منه أنهم لما لم يعملوا بما في التوراة، شُبِّهوا بالحمار، لأنهم لو عملوا بمقتضاها لانتفعوا بها لأن فيها نعت الرسول عليه السلام والبشارة بمَقْدمه والدخول في دينه. وقوله “حُمِّلوا التوراة” أي حُمِّلوا العمل بما فيها، وكُلِّفوا القيام بها. وقيل “حُمِلوا” بالتخفيف، والمعنى:  ضمنوا أحكام التوراة (الرازي المجلد الثلاثون ٤-٦).

تعليقنا:   واضح أن هذه الآية تتحدث عن يهود زمان محمد، وهي تبيّن أن الله استأمنهم على التوراة كآبائهم، وكانوا أمناء على حفظها سالمة كما أُنزلت. لأن تشبيههم في هذا المثل بالحمار الحامل أسفاراً لا يدري ما فيها ولا ينتفع بها، تبرهن أنهم لم يمسّوا التوراة بتحريف، لأن الحمار الحامل أسفاراً لا يتعرّض لها بشيء من مثل ذلك، ولا يستطيعه. وعليه فهم لم يتعرضوا للتوراة بأذى، إنما حسب الآية كذَّبوا بآيات الله فيها، يعني التي تدل على محمد. وحسب التفسير لم يعملوا بما فيها، بل أوردوا الشُّبه على تلك الآيات الدالة عليه والمبشرة بمقدمه.

فأي بيان أجلى من هذا البيان على عدم مس إليهود توراتهم بتحريف ما؟  فالتوراة لم تزل اليوم كما كانت يومئذ، وهي باللغة العربية كما بالعبرأنية.

وبعد، فنحن مديونون للقرآن على وفرة شهاداته لسلامة التوراة والإنجيل، ليس كانهما مفتقرأن لمثل هذه الشهادة، بل لتنوير وإفادة المسلمين ليشاركونا في اعتناق كتاب الله للقيام به والإيمان بما أنزل الله فيه.

 

 

“الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ” (الأنعام ٦:  ٢٠).

التفسير:   علمهم بنبوّة محمد عليه السلام مثل علمهم بأبنائهم. وفيه سؤال وهو أن يقال المكتوب في التوراة والإنجيل مجرّد أنه سيخرج نبي في آخر الزمان يدعو الخلق إلى الدين الحق... أو المكتوب فيه هذا المعنى مع تعيين الزمان والمكان والنسب والصفة والحلية والشكل؟  فإن كان الأول فذلك القَدْر لا يدل على أن ذلك الشخص هو محمد عليه السلام. فكيف يصحّ أن يُقال:  “علمهم بنبوّته مثل علمهم ببنوّة أبنائهم”؟ وإن كان الثاني وجب أن يعلم جميع إليهود والنصارى من التوراة والإنجيل أن محمداً نبي من عند الله. والكذب على الجمع العظيم لا يجوز، فإن التوراة والإنجيل لا يشتملأن على هذه التفاصيل التامة الكاملة، لأن هذا التفصيل إما أن يُقال إنه كان باقياً في التوراة والإنجيل وقت ظهور الرسول عليه السلام، أو يُقال إن هذه التفاصيل لم تكن في التوراة والإنجيل في وقت ظهوره لأن التحريف قد تطرق إليهما قبل ذلك. والأول باطل، لأن إخفاء مثل هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب ممتنع. والثاني أيضاً باطل، لأن على هذا التقدير لم يكن يهود ونصارى ذلك الزمان عالمين بنبوّة محمد علمهم ببنوّة أبنائهم. وحينئذ يسقط هذا الكلام. والجواب عن الأول:  المراد بالذين “آتيناهم الكتاب” إليهود والنصارى. وهم كانوا أهلاً للنظر والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول (ص) فعرفوا بواسطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند الله. والمقصود من تشبيه إحدى المعرفتين بالمعرفة الثانية هذا القدر الذي ذكرناه (الرازي المجلد الثاني عشر ١٧٩-١٨٠).

وتعليقنا:   لقد أحسن الإمام بإقراره أن التوراة والإنجيل لم يشتملا على وصف محمد ونسبه وشكله والزمان والمكان اللذين ينبغ فيهما. وعليه يسقط الكلام أنهم كانوا عالمين بنبوّة محمد مثل علمهم ببنوّة أبنائهم.

بقي جوابه المعتبر تفسيراً صحيحاً للآية، وهو كما ترى يشتمل على ثلاث قضايا: 

١ - إن إليهود والنصارى كانوا أهلاً للنظر والاستدلال.

٢ - إنهم كانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول.

٣ - كنتيجة لذلك عرفوا بواسطة تلك المعجزات أنه رسول الله.

فلننظر إلى كل من هذه القضايا على حدتها: 

١ - إذا كان أهل الكتاب في زمان محمد أهلاً للنظر والاستدلال، فذلك ينافي نص ما جاء في الآية الخامسة من سورة الجمعة التي شبَّهتهم بالحمار الحامل كتباً لا يدري ما فيها. فعجباً!  كيف كانوا يعرفون محمداً كنبي الله ورسوله من كتابهم، ومع ذلك كانوا لا يدرون ما فيه كما لا يدري البهيم ما في الكتب المحملة على ظهره؟ هل من اختلاف أعظم من هذا الاختلاف؟  فأية الآيتين هي الصائبة وأيتهما المخطئة؟

فإذا كان أهل الكتاب أهلاً للنظر والاستدلال في كتابهم ولم يستدلوا به على محمد، ينتج أنهم لم يعرفوه نبياً ورسولاً كمعرفتهم أبناءهم، لأن من يعرف ابنه وينكره إلا العديم الإنسانية؟!  - وذلك لا يصح على الجمع الكثير.

٢ - من أين شاهد أهل الكتاب ظهور المعجزات على محمد وهو لم يأتِ بمعجزة ما (كما قد رأيت في الباب الأول)؟

٣ - والقضية الثالثة ساقطة بسقوط الثانية، لأن أهل الكتاب لم يروا لمحمد معجزات، وبالتالي لم يعرفوه أنه نبي الله ورسوله. وعليه فالقول “يعرفونه كما يعرفون أبناءهم” هو من باب الحدس والتخمين، أو هو مبني على إقرار الذين أسلموا من إليهود، كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهم، فقد قال ابن سلام في حضور عمر بن الخطاب (لما دار الحديث بخصوص معنى هذه الآية):   “أعرف محمداً نبي الله ورسوله معرفة أعظم من معرفتي بابني” فقال له عمر:   “وكيف ذلك؟” فقال:   “أما ابني فلعل امه خائنة به. وأما محمد فأعرفه أنه رسول الله”. فنهض عمر وقبّله بين عينيه.

على أن إقرار المذكورين ليس هو إقرار الأمة، لا سيما وهم مسلمون يُنتظر منهم مثل هذا القول الذي يختص بهم دون غيرهم.

ثم أن نص الآية “الذين آتيناهم الكتاب الخ” شهادة ثمينة على أمانة أهل الكتاب على كتاب الله، وحفظه كما أُنزل. وقد أجاد الإمام لما قال بعدم معرفة أهل الكتاب محمداً كنبي الله ورسوله كمعرفتهم أبناءهم. وهذا اعتراف بعدم مسّ أهل الكتاب كتابهم بتحريف ما.

 

 

“فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ” (يونس ١٠:  ٩٤).

التفسير:   أذكر أهم التفسيرات ملخصاً: 

زعم فريق أن هذا الخطاب غير موجَّه للنبي. وقال غيرهم:  بل هو للنبي. فمن قال إنه للنبي قالوا إن الخطاب مع النبي في الظاهر، والمراد غيره، كالمثل المشهور:   “اياك أعني واسمعي يا جارة”. وفيه نرى: 

الذين ذهبوا أنه لغير النبي قرروا أن الناس في زمانه كانوا ثلاث فرق:  المصدِّقون به، والمكذِّبون له، والشاكّون به. فقال الله لهم:  إن كنت أيها الإنسان في شكٍ مما أنزلنا إليك من الهدى على لسان محمد، فاسأل أهل الكتاب ليدلّوك على صحة نبوته.

واختلفوا في المسئول من أهل الكتاب، فمنهم من قال:   هم الذين آمنوا وأسلموا من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريّا، وتميم الداري، وكعب الأحبار. ومنهم من قال:  الكل، سواء كانوا من المسلمين أو من الكفّار.

فإن قيل:   إذا قلتم إن هذه الكتب قد دخلها التحريف والتغيير، فكيف يمكن التعويل عليها؟  قلنا:   إنهم إنما حرفوها بسبب إخفاء الآيات الدالة على نبوة محمد (ص). فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته كان ذلك من أقوى الدلائل على صحة نبوة محمد، لأنها لما بقيت مع كثرة دواعيهم على إزالتها، دَلَّ ذلك على أنها كانت في غاية الظهور.

ومما يؤيّد أن هذا الخطاب هو لمحمد، أن محمداً بشر يجوز  حصول الخواطر المشوشة والأفكار المضطربة في قلبه، ولا يزيلها إلا إيراد الدلائل وتقرير البينات ما يزيل عن خاطره تلك الوساوس.

ثم إن قوله:   “فإن كنت في شكٍ فافعل كذا وكذا” قضية شرطية لا إشعار فيها البتة بأن الشرط وقع أو لم يقع. (الرازي المجلد السابع عشر)

وتفسيرها في البيضاوي:   محقق عند أهل الكتاب ثابت في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك من القصص. والمراد تحقيق ذلك والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة ... أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة ما أُنزل إليه، أو تهييج الرسول وزيادة تثبيته، لا إمكان وقوع الشك له (المجلد الأول ص ٥٥٠).

وفي الجلالين:   فإن كنت يا محمد في شكٍ مما أنزلنا إليك من القصص فرضاً، فاسأل الذين يقرأون التوراة من قبلك، فإنه ثابت عندهم يخبرونك بصدقه (الجزء الأول ص ٢٠٥).

وتعليقنا:   يظهر من تفسير العلماء لهذه الآية أنهم شعروا بثقلها على عواتقهم، لأنها تقيم أهل الكتاب حكماً لمحمد، فحاولوا تأويلها على نوع يبقى فيه شرف نبيّهم غير ملومٍ. على أن صراحة الآية دفعتهم إلى كلام لا يجدر بأمثالهم، كقول بعضهم إن هذا الخطاب هو في الظاهر مع النبي والمراد غيره، أي للشاكين في أمره. وهو في غاية البعد عن مراد الآية. وبعضهم:  بل هو النبي كما رأيت فيما تقدم. على أنهم كيفما قلبوا المسألة وأداروها، تتجه نحو سلامة الكتاب وأمانة أهله عليه. فإذا كان الخطاب في الآية للشاكّين في نبوّة محمد، فيجب على كل مرتاب في أمره أن يستفتي من جهته أهل الكتاب!

وإن كان الخطاب موجَّهاً لمحمد (وهو الصحيح) فهو برهان على أمانة أهل الكتاب معاصري محمد على كتابهم، لأنه إذا كان لإزالة الشك من قلب محمد فيما أُنزل إليه، أو لدفع تلك الخواطر المشوّشة من قلبه، أُمر بسؤال قارئي الكتاب من قبله، فذلك برهان ساطع على أنهم أهل الكتاب الحق، وأنهم محافظون عليه كما أُنزل، وعلى كفايتهم لإعطاء الجواب الشافي لمحمد، ولجلاء الأوهام بنور كتابهم.

ولو لم يكن في القرآن شهادة لأمانة أهل الكتاب على كتابهم سوى هذه الآية التي نحن بصددها، لكفى بها دليلاً لهم.

أما قول بعضهم إنه يُراد بالذين “يقرأون الكتاب من قبلك” هم الذين أسلموا من إليهود، فهو قول ساقط كما بيّنا في الملاحظة على تأويل الآية السالفة، وهو غير مقبول كما قد رأيت عند المتكلمين.

وأما قول البيضاوي والجلالين إن محمداً أُمر بسؤال الذين يقرأون الكتاب من قبله عن القصص، فهو ضعيف، لأن الآية لا تبيّن أن المراد بذلك هو قصص التوراة التاريخية. وتفسير الإمام الرازي غير ذلك، لأنه يقول إن السؤال هو لإزالة الخواطر المشوشة من قلب محمد، وهو أكثر موافقة للآية.

فإذا كان محمد أُمر بسؤال أهل الكتاب للاستفادة منهم عن حقيقة ما أُنزل إليه، فعلى أتباعه أن يفعلوا الشيء نفسه. وإذا وجب ذلك، يكون الكتاب المقدس هو الحكم في العقائد والمذاهب، وللفصل بين الحق والبطل. فأين قول القائلين بتحريف الكتاب؟  لو كان أهل الكتاب غير أمناء على كتاب الله لكان القول “واسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك” عبثاً لا محل له، فكيف يسأل محمد أشخاصاً غير أمناء حرَّفوا كتاب الله؟  وكيف ينتظر من مثل هؤلاء أن يُخلصوا الجواب لمحمد؟  لكن الآية تعلن أمانة المسئولين وبراءة ساحتهم من تحريف، أو تغيير كلمة أو حرف!

تذييل

اتَّضح من الآيات المتقدمة في هذا الباب مع تفسيرها من أشهر العلماء الراسخين، سلامة التوراة والإنجيل من التحريف. والمسلم القائل بتحريفهما ينافي نصَّ القرآن الصريح، وينكر بذلك صحة ما اعتقد إنزاله من الله، لأن من يطعن في سلامة الكتاب يطعن في شهادة القرآن له. ومن يفعل ذلك لا يجوز  أن يُحسب مسلماً، فليس من شأن المسلم الطعن بسلامة الكتاب، إنما ذلك شأن من كفر بالقرآن!  وهل يفوتك أن شهادة القرآن لسلامة الكتاب هي دعوة لدراسته، وأن تلك القصص في القرآن أكبر داعٍ لقراءة الكتاب الذي أُخذت منه؟

فلا حاجة للمسيحي أن يُجهد نفسه مع المسلم ببيان عدم تحريف الكتاب، فالبيّنة على ذلك جليّة في قرآنه، وكفى بالقرآن دليلاً لأهله على سلامة الكتاب، وأن أهله كانوا في زمان محمد - كما هم اليوم - أمناء على كتابهم.

 

 

الباب الخامس الآيات القرآنية التي تدل على أن النبوّة والكتاب خاصان ببني إسرائيل“

 

 

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” (البقرة ٢:  ٤٧).

التفسير:   ملخصه أن الله يذكِّرهم بسالف نعمته عليهم، تحذيراً من ترك اتّباع محمد، كانه يقول:  إن لم تطيعوني لأجل سوالف نعمتي عليكم، فأطيعوني للخوف من عقابي في المستقبل. أما قوله “اني فضلتكم على العالمين” ففيه سؤال، وهو أنه يلزم أن يكونوا أفضل من محمد عليه السلام. وذلك باطل بالاتفاق. والجواب عنه: 

١          -           قال قوم:   العالم هو الجمع الكثير من الناس، كقولك:   رأيت عالماً من الناس. والمراد منه الكثير لا الكل. وهذا ضعيف، لأن لفظ العالم مشتقٌّ من العلم، وهو الدليل. فكل ما كان دليلاً على الله كان عالماً فكان من العالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين “العالم كل موجود سوى الله” وعلى هذا لا يمكن تخصيص العالم ببعض المُحدثات.

٢          -           المراد:   فضلتكم على عالمي زمانكم، وذلك لأن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك (وهو الآن) ليس بموجود. لم يكن ذلك الشخص من جملة العالمين حال عدمه، لأن شرط العالم أن يكون موجوداً. والشيء حال عدمه لا يكون من العالمين. وعليه، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل من العالمين في ذلك الوقت أنهم أفضل من محمد (ص).

٣          -           قوله “وأني فضَّلتكم على العالمين” عام في العالمين، لكنه مطلق في الفضل. والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة. فالآية تدل على أن بني إسرائيل فُضِلّوا على العالمين في أمر ما، وهذا لا يقتضي أن يكونوا أفضل من كل العالمين في كل الأمور، بل لعلهم وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد، فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر.

وفي ذلك أبحاث مستطيلة، نذكر منها ملخص بحثين: 

١          -           قال ابن زيد:   أراد به المؤمنين منهم، لأن عصاتهم مُسخوا قردة وخنازير على ما قال الله:  “وجعل منهم القردة والخنازير”. وقال:  “لعن الذين كفروا من بني إسرائيل”.

٢          -           قوله تعالى:   “وأني فضّلتكم على العالمين” يدل على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله لا في الدنيا ولا في الدين. فإن قيل لِمَا خصَّهم بالنعم العظيمة في الدنيا فهذا يناسب أن يخصَّهم أيضاً بالنعم العظيمة في الآخرة، كما قيل “إتمام المعروف خير من ابتدائه” فلِمَ أردف ذلك بالتخويف الشديد في قوله:  “واتقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفس شيئاً ولا يُقبل منها شفاعة ولا يؤْخذ منها عدل ولا هم يُنصرون”؟ والجواب:   لأن المعصية مع عظم النعمة تكون أقبح وأفحش، فلهذا حذرهم عنها (الرازي المجلد الثالث ٥٢-٥٣).

وتفسيرها في الجلالين:   اذكروا نعمتي بالشكر عليها بطاعتي، واني فضلتكم، أي آباءكم على العالمين عالمي زمانهم (الجزء الأول ص ٩).

وتعليقنا:   لا بأس من القول إن الله فضَّل بني اسرائيل على عالمي مانهم. أما قول الرازي:  “وعليه لا يلزم من كون بني إسرائيل أفضل من العالمين في ذلك الوقت أنهم أفضل من محمد” فلنا عليه تعليقان: 

١ - هذا يعني تفضيل بني اسرائيل على بني إسماعيل معاصريهم!  وإذا كان الله خَصَّ بني إسماعيل بسيّد الأنبياء وحبيبه الخاص الذي ما خُلقت السماء والأرض إلا لأجله كما يزعمون، فبالضرورة تكون ذرية إسماعيل أفضل من ذرية إسرائيل (يعقوب). وعليه:  كيف فضَّل الله بني إسرائيل على بني إسماعيل؟

وإن قيل:   كان ذلك لأنه لم يكن قد خرج بعد نبيٌّ من ذرية اسماعيل، نقول:  إن الاقتصار على اعتبار الحال هو شأن الإنسان لا شأن العليم الحكيم، الذي يستوي عنده الحاضر والمستقبل. فإذا كان قصد الله إقامة نبي من ذرية اسماعيل في مستقبل الأيام أعظم وأفضل من كل أنبياء إسرائيل، فلا غرابة أنه يكون قد فضَّلهم على بني إسرائيل. فكيف يقول إنه فضَّل بني إسرائيل على العالمين بمن فيهم بني إسماعيل؟

٢ - زعموا أن محمداً أول خلق الله، أي أنه كان نوراً متسلسلاً من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات، من آدم حتى أبيه عبد الله حتى أمه آمنة. فعليه كان محمد موجوداً روحياً في أيام إسرائيل وذريته. وإذا كان الله فضل بني إسرائيل على بني إسماعيل عالمي زمانهم، يلزم من ذلك أن الله فضَّلهم على محمد الذي كان وقتئذ في الأصلاب والأرحام!

“وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنَا” (الأنعام ٦:  ٨٤).

التفسير:   ملخصه:   ووهبنا له إسحاق لصُلبه، ويعقوب بعده من إسحاق. فإن قالوا:   لِمَ لم يُذكَر إسماعيل عليه السلام مع إسحاق، بل أُخِّر ذكره عنه بدرجات؟ قلنا:  لأن المقصود بالذكر هنا أنبياء بني إسرائيل، وكلهم أولاد إسحاق ويعقوب. وأما إسماعيل فلم يخرج من صُلبه نبيٌّ إلا محمد. ولا يجوز  ذكر محمد عليه السلام في هذا المقام، لأن الله أمر محمداً أن يحتجَّ على العرب في نفي الشرك بالله بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصَرَّ على التوحيد، رزقه الله النِّعَم العظيمة في الدين والدنيا. ومن النعم العظيمة في الدنيا أن آتاه الله أولاداً كانوا أنبياءً وملوكاً. فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه، فلهذا السبب لم يُذكر إسماعيل مع إسحاق (الرازي المجلد الثالث عشر ٦٢-٦٤).

وتعليقنا:   جواب الإمام على سؤال السائل:  لمإذا لم يُذكر اسماعيل مع اسحاق، بل أُخِّر ذكره عنه بدرجات؟  ليس هو تخلُّصاً بل تملُّصاً، لسببين

١ - لم يقل السائل:  “لِمَ لم يذكر محمداً مع موسى؟” بل إسماعيل مع إسحاق. فأي محل إذاً للجواب:  “ولا يجوز ذكر محمد في هذا المقام”؟  ومن أين عرف حضرته أن المقصود من ذكر إسحاق ويعقوب كهبة الله لإبراهيم هو ذكر أنبياء بني إسرائيل؟  وما دليل ذلك؟  وعلى فرض صحة قوله إن ذكرهما مقصود به ذكر الأنبياء الذين سيأتون من نسلهما، فذلك يوجب ذكر إسماعيل معهما، لأن ذكره - بحسب مبدأ الإمام - ذكر للنبي الذي سيكون منه.

٢ - إذا كان المقصود من ذكر إسحاق ويعقوب معاً، ذكر الأنبياء الذين سيكونون من ذريتهما، ينتج من ذلك أن عدم ذكر إسماعيل معهما معناه أن لا نبي من ذريته.

وأما القول بامتناع محمد من ذكر نفسه لسبب كذا، فهو قول ساقط، لأنه لا يُفهم من ذكر إسماعيل مع إسحاق ذكر محمد.

“فَلَمَّا اعَتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُّلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَِليّاً” (مريم ١٩: ٤٩، ٥٠).

التفسير:  ملخصه أن إبراهيم لما اعتزل عشيرته واعتزل دينهم وبلدهم، وسار إلى حيث دعاه الله، عوّضه أولاداً أنبياء. وجَعْله تعالى إبراهيم وولده وحفيده أنبياء من أعظم النعم في الدنيا والآخرة. ثم بيَّن الله أنه مع ذلك وهب لهم من رحمته، أي: وهب لهم مع النبوة ما وهب، ويدخل فيه المال مع الجاه والأتباع والنسل الطاهر والذرية الطيّبة. ثم قال: “وجعلنا لهم لسان صدقٍ عليّاً”. ولسان الصدق:  الثناء الحَسَن. وعبَّر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبَّر باليد عما يعطى باليد وهو العطيَّة. واستجاب الله دعوته في قوله: “واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين” فصيَّره قدوة حتى ادعّاه أهل الأديان كلهم (الرازي المجلد الحادي عشر ٢٣٠).

وتفسيرها في البيضاوي هو:  “وهبنا له إسحاق ويعقوب” لعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء، أو لأنه أراد أن يذكر إسماعيل بفضله على الانفراد. وكلاًّ جعلنا نبياً، وكلاًّ منهما أو منهم (البيضاوي المجلد الثاني ص ٣٩).

وتفسيرها في الجلالين:  ذهب (إبراهيم) إلى الأرض المقدسة. ووهبنا له ابنين يأنس بهما، وكلاًّ منهما جعلنا نبياً، ووهبنا لهم (أي للثلاثة) من رحمتنا المال والولد، وجعلنا لهم لسان صدق عليّاً رفيعاً، وهو الثناء الحسن في جميع أهل الأديان (الجزء الثاني ص ١٧).

“وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ ويَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ” (العنكبوت ٢٩: ٢٧).

التفسير:  ملخصه أن إبراهيم لما أتى ببيان التوحيد، دفع الله عنه شر قومه الكفَّار، وأثابه في الدنيا بالبنين والذرية والجاه والمال. ثم قال:  “وانه في الآخرة لمن الصالحين” بيَّن الله ثواب إبراهيم العاجل والآجل، فقال:  “ووهبنا له إسحاق ويعقوب” الخ. ثم قال وفي الآية مسألتان:

١          -           إن إسماعيل كان من أولاده الصالحين. فلِمَ لم يُذكر؟  فيقال:  هو مذكور في قوله:  “وجعلنا في ذريته النبوة” ولكن لم يُصرّح باسمه، لأن غرضه كان تبيين فضله عليه بهيئة الأولاد والأحفاد. فذكر من الأولاد واحداً، وهو الأكبر، ومن الأحفاد واحداً وهو الأظهر.

٢          -           إن الله جعل في ذريته النبوة إجابة لدعائه. ويُستَحب من الوالد أن يسوّي بين ولديه. فكيف صارت النبوة في أولاد إسحاق أكثر من النبوّة في أولاد إسماعيل؟  فنقول:  الله قسَم الزمان من وقت إبراهيم إلى القيامة قسمين، والناس جمعين. فالقسم الأول من الزمان بعث الله فيه أنبياء فيهم فضائل جمَّة، وجاءوا واحداً بعد واحد، ومجتمعين في عصر واحد. كلهم من ورثة إسحاق عليه السلام. ثم في القسم الثاني من الزمان أخرج من ذرية ولده الآخر، وهو إسماعيل، واحداً جمع فيه ما كان فيهم، وأرسله إلى كافة الخلق، وهو محمد وجعله خاتم النبيين. وقد دام الخلق على دين أولاد إسحاق أكثر من أربعة آلاف سنة، فلا يبعد أن يبقى الخلق على دين ذرية إسماعيل مثل ذلك المقدار (الرازي المجلد الخامس والعشرون ٥٦-٥٧).

وتفسيرها في البيضاوي: قال:  “ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوّة والكتاب”. يعقوب نافلة حين يئس من الولادة من عجوز  عاقر. ولذلك لم يذكر إسماعيل. “النبوة” فكثر منهم الأنبياء. يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة (البيضاوي المجلد الثاني ص ٢٣٢).

وتعليقنا:  خالف الإمام بتفسيره هذه الآية قوله بعض المخالفة في تفسيره الأنعام ٨٤، لأنه في تفسير تلك زعم أن سبب عدم ذكر إسماعيل مع إسحاق هو لأن المقصود بذكر إسحاق ويعقوب فيها ذكر الأنبياء ذريتهما إلى آخر الكلام. وفي تفسير هذه يقول عن إسماعيل: هو مذكور في قوله: “وجعلنا في ذريته النبوَّة، ولكن لم يصرّح باسمه” إلى آخر القول. وكان الأجدر بالإمام أن يقول هذا القول منذ الأول، فلا يقع في ورطة التناقض الذي لم يُجْده نفعاً لسببين:

١          -           لأنه لو كان الأمر كما ذكر، لوَجَب ذكرْ اسمه مع ذكر اسم أخيه وابن أخيه. وإسماعيل هو ابن إبراهيم البكر، وهو الأكبر لا إسحاق كما يتوهم الإمام. وما أسقم السبب الذي يذكره لعدم التصريح باسم إسماعيل مع إسحاق، لأنه إن كان غرض الله تبيين فضله على إبراهيم بهيئة الأولاد والأحفاد، وإسماعيل ابن إبراهيم البكر الذي منه سيكون سيد الأنبياء والمرسلين (كما يزعمون) لكان هو أحرى بالذكر أولاً. ولكن فات الإمام أن السبب غير ما ذكر، وهو حقاً سببٌ موجبٌ لعدم ذكر إسماعيل مع إسحاق ويعقوب: لأنهما شجرتا الأنبياء حسبما يذكر البيضاوي (ص ٩١) ومن ذريتهما سيكون النسل المبارك الذي فيه تتبارك جميع قبائل الأرض (انظر تك ٢٢: ١٨، ٢٦: ٤، ٢٨: ١٤). وعليه فإن إسحاق وُهب لإبراهيم بوعدٍ، كما هو مقرَّر في التوراة والقرآن حيث بشَّر به الملائكة إبراهيم وسارة، بخلاف إسماعيل الذي وُلد له من جاريته هاجر بدون وعدٍ ولا تبشير.

٢          -           لأن القول “وجعلنا في ذريته النبوة” قرينة للقول “ووهبنا له إسحاق ويعقوب”. ولما كانت هذه النعمة مقرونة بتلك الهبة، دل ذلك على جعلها في ذرية الموهوبين لإبراهيم. وما يزيد هذه الحقيقة جلاءً انه عند ذكر اسم إسماعيل لا يقرنه بشيء من وعد النبوة، كما في ذكر إسحاق ويعقوب (انظر سورة الأنبياء ٨٥ وسورة ص ٤٥-٤٨).

ثم من أين عرف الإمام أن الله قسم الزمان إلى قسمين نبويين، الواحد زمان أنبياء بني اسرائيل، والثاني زمان نبوة محمد، وان الله جمع في محمد ما كان في أولئك الأنبياء من الفضائل، وأن دين أولاد إسحاق دام أكثر من أربعة آلاف سنة إلى آخر القول؟

هذا زعم فاسد لأنه:

١          -           لا يَخْفى أن المسيح هو من بني اسرائيل، ذرية إسحاق ويعقوب. ودينه منتشر في كل الأقطار، وعدد المؤمنين به أكثر من المؤمنين بدين محمد. وهو باقٍ نامٍ زاهٍ أكثر من كل دينٍ على وجه الأرض. هذا بالإضافة إلى أمة إليهود المتمسكة بشريعة موسى. فأين تقسيمه إذاً؟

٢          -           لم تُجمع في محمد فضائل أنبياء إسرائيل، حتى ولا فضائل واحدٍ من مشاهيرهم. ولإيضاح ذلك نأتي بذكر فضائل اثنين منهم، وهما موسى والمسيح.

فموسى كلَّمه الله وجهاً لوجهٍ، وأعطاه لوْحي الشريعة من على جبل حوريب بشارات حضور الله عز  وجل امام أعين شعب إسرائيل، وعجائبه ومعجزاته معلومة. ومحمد (حسب قولهم) لم يكلمه الله، بل كان جبريل يأتيه بالآيات من عند الله. وهو لم يصنع معجزةً، مع أن العرب طالبوه بهذا، كما قد رأيت في الباب الأول من هذا الكتاب. فأين محمد إذاً من فضائل موسى؟

اما المسيح فقد زاد كثيراً في الفضل على موسى من حيث الولادة والنسب والقداسة والعمل. وُلد من دون أب بشري، ودُعي في القرآن “روح الله وكلمته”. ولم يذكر له عيب ولا استغفار أو توبة. وآياته ومعجزاته تفوق آيات موسى، إذ أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص، وخلق من طين حياً. ومحمد ليس له مثل هذا النسب العجيب، والصفة والمقدرة. فلا هو عمل آيةً واحدةً مما عمل المسيح، وكان دأبه استغفار ربه عن ذنوبه، حتى كان الجواب حسب القرآن: “قد غفرنا لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر”. فضلاً عن أن المسيح كان زاهداً لم يعرف امرأة، وكان رجل حب وسلام ودِعة وسكينة، حيثما توجه كان ينثر البركات والخيرات على أولي الفاقة والبؤس. فأين محمد إذاً من فضائل المسيح؟

إنه سهل على المرء أن يدَّعي كما يشاء، ولكن الصعوبة في إثبات الدعاوى. فالقائد الحكيم يُعَدِلّ قوته قبل الحرب، ويقدِّر العواقب قبل خوض المعارك. أما الإمام فلم يزِنْ متانة أقواله هذه فيعرف منزلتها من القوة والضعف، ولم يحسب أن أهل الكتاب قادرون على دحضها بأوفر سهولة، فاقتحم المسألة على غير انتباه وتروٍّ.

“وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيَتاءَ الّزَكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ” (الأنبياء ٢١: ٧٢ و٧٣).

التفسير:  خلاصته (وهو قول ابن كعب وابن عباس وقتادة والغراء والزجاج) أن إبراهيم عليه السلام سأل الله ولداً، قال: “رب هب لي من الصالحين” فوهبه الله إسحاق إجابة لدعائه، وأعطاه يعقوب من غير دعائه. فكان ذلك نافلةً على ما سأل، كالصلاة النافلة يادة على الفرض. “وكلاًّ جعلنا صالحين” أي من إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنبياء ومرسلين عالمين بطاعة الله عز  وجل، مجتنبين محارمه. وأوحينا إليهم فعل الخيرات. وهذا يدل على أن الله خصَّهم بشرف النبوة. “وكانوا لنا عابدين” كان الله لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام، وفوا هم بعهد العبودية، وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة (الرازي المجلد الثاني والعشرون ١٩٠-١٩٢).

وتفسيرها في البيضاوي:  “وهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وَكُلاًّ جعلنا صالحين”. “نافلة” عطيّة، أو ولَد ولَداً أو زيادة على ما سأل وهو إسحاق، فتختص بيعقوب. ولا بأس للقرينة. وكلاًّ يعني الثلاثة “جعلنا صالحين” بأن وفقناهم للصلاح، أو حملناهم عليه، فصاروا كاملين (المجلد الثاني ص ٨٧).

تعليقنا:  تكرر القول أربع مرات في أربع سور “ووهبنا” إبراهيم إسحاق ويعقوب، ويتبع ذلك قول رائع.

١ - تبعه بالقول: “وكلاًّ هدينا”.

٢ - “وكلاًّ جعلنا نبياً”.

٣ - “وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب”.

٤ - “وَكُلاًّ جعلنا صالحين”.

ألا يدل ذلك أن غاية الله الحسنى هي في نسل إسحاق ويعقوب دون إسماعيل؟  وألا يوافق ذلك كل الموافقة ما ورد في التوراة من وعد الله لكل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب على التوالي ”تَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الْأَرْضِ” (تكوين ١٢: ٣ ، غلاطية ٣: ١٦). فهل لا يخطر على بال المسلم لدى تأمله هذه الآيات أنه لو كان لإسماعيل عند ربه كرامة مثل إسحاق، أو لو كانت الغاية فيهما متساوية، لكان ذِكْر إسماعيل بن إبراهيم أَوْلى في هذا المقام من ذكر يعقوب حفيد إبراهيم. وعوض القول المُكرَّر “ووهبنا له إسحاق ويعقوب” كان القول “ووهبنا له إسماعيل وإسحاق، أو إسحاق وإسماعيل”. فما علة هذا العدول عما هو طبيعي وعادي في هذه المسألة؟

وهنا نرجع بالقارئ العزيز  إلى تفسير الأئمة كلمة “ووهبنا له إسحاق ويعقوب”. فعلى القول في الآية الأولى، يقول الإمام الرازي:  “ووهبنا له إسحاق لصُلبه، ويعقوب بعده من إسحاق” فأرجوك تدبُّر هذه الكلمة. ألا تفيد كان الله لم يُنعم على إبراهيم بولد من صُلبه سوى إسحاق، مع أن إسماعيل ولده من صُلبه؟  فلمإذا لا يجيء ذكر لإسماعيل مع إسحاق، بل حُسِبَ الحفيد هبة الله لإبراهيم دونه، كانه ليس ولده!  وهذا دليل على أن غاية الله الصالحة هي في نسل إسحاق ويعقوب دون نسل إسماعيل، وفقاً لقوله في التوراة لإبراهيم من طَرْد هاجر وإسماعيل:  ”فِي كُلِّ مَا تَقُولُ لَكَ سَارَةُ اسْمَعْ لِقَوْلِهَا، لِأَنَّهُ بِإِسْحَاقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ” (تك ٢١: ١٢).

وتعليقاً على سورة مريم ٤٩، ٥٠ يقول الرازي إن إبراهيم لما اعتزل عشيرته وسار إلى حيث دعاه الله، عوَّضه أولاداً أنبياء، وجعل الله إبراهيم وولده وحفيده أنبياء. وهذه أعظم النعم في الدنيا والآخرة. فنثني على أمانة الإمام بتفسير الآية هكذا. فليس لإسماعيل حظّ أن يُحسب مع أخيه وابن أخيه كهبة الله لإبراهيم. وإذا كان كما يزعمون هو أباً لسيد الأنبياء حبيب الله، فلمإذا لم يُشرَّف بشيء من ذلك؟  أَوَليس هو ابن إبراهيم؟  لِمَ يا ترى (كما في الجلالين) “وهبنا له ابنين يأنس بهما وكلاًّ منهما جعلنا نبياً” فيا جلال الدين، ألم يكن لإبراهيم ولد من صُلبه غير إسحاق؟  فَلِمَ قلتَ: “يأنس بهما”؟  تعني ابنه إسحاق وحفيده يعقوب، ولم تقل يأنس بهما مع إسماعيل ولده. لقد كان إسماعيل حياً، فلمإذا لم تشمله بذكر الأنس لأبيه مع أخيه؟  أأهملته وفقاً للآية التي لا تذكره؟!

أما البيضاوي فيقول:  “لعل تخصيصهما بالذكر لأنهما شجرتا الأنبياء” لقد أحسن الإمام أيضاً بهذا التأويل، وإن يكن تحت لفظة “لعل” كانه بعد البحث لم يجد سبباً لتخصيصهما بالذكر إلا هذا. وكان عليه أن يقول: “لعل عدم شمل إسماعيل معهما بالذكر لأنه ليس هو شجرة أنبياء، ولا هو أصل نبيٍّ عظيم”. فلو كان إسماعيل شجرة أو أصل أعظم كل الأنبياء، وفيه جمع الله كل فضائلهم (حسب تأويل الرازي) لاستحق أن يُشتمل بالذكر مع إسحاق ويعقوب ويُحسب في عداد هبات الله لإبراهيم. ولكن الله لم يُشرفه بشيء من ذلك!

وعلى قول العنكبوت ٢٧ يقول الرازي إن إبراهيم لما أتى ببيان التوحيد دفع الله عنه شرَّ قومه الكفَّار، وأثابه في الدنيا بالبنين والذرية والجاه والمال. فيريد بالبنين هنا حسب الآية إسحاق ويعقوب، كان إبراهيم لم يُرزق بنين سواهما!

وعلى القول في الأنبياء ٧٢ أن إبراهيم لما سأل الله ولداً قال: “ربِّ هب لي من الصالحين” فأجاب الله دعاءه، ووهب له إسحاق إجابة لدعائه، وأعطاه يعقوب من غير دعائه، فكان ذلك نافلة.

وهنا ملاحظة:  إن كان إبراهيم حين سأل الله ولداً صالحاً: “ربّ هب لي من الصالحين” كان له إسماعيل، يتضح أن إبراهيم لم يعتبر إسماعيل ولداً صالحاً، فلم يحسبه ضمن الموهوبين له من الله. وإن كان لم يكن له حينئذ إسماعيل، وان إسماعيل وُلد لإبراهيم بعد إسحاق، كما أشار الرازي، ولم يُذكر بين إسحاق ويعقوب كهبة الله لإبراهيم، بل استُثني من ذلك، كانه لم يكن ولداً لإبراهيم، يظهر أنه لا خير فيه ولا في نسله. وتكون البركة قاصرة على نسل إسحاق ويعقوب الأنبياء الصالحين وشجرتي الأنبياء المباركين. واني لأُعجب من القول عن يعقوب إنه نافلة لإبراهيم كصلاة النافلة، زيادة على الفرض، وهو حفيد إبراهيم لا ولده من صلبه. وحسب المبدأ الطبيعي يُقال هو هبة الله لإسحاق لا إبراهيم. على أنه لو كان يعقوب أخاً لإسحاق من إبراهيم، وُلِد له بعد إسحاق بدون طلب إبراهيم، لصحَّ القول وأعطاه الله يعقوب زيادة على ما طلب، لأن إبراهيم طلب ولداً فزاده الله آخر من صلبه. ولما لم يكن كذلك، فلا يصح أن يُقال عن يعقوب إنه نافلة لإبراهيم.

ثم انه يوجد اختلاف واضح بين الإمامين الرازي والبيضاوي في تفسير العنكبوت ٢٧ “ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوّة والكتاب الخ”. فان الرازي يقول في مسألة أن إسماعيل كان من أولاد إبراهيم الصالحين، فلِمَ لم يُذكر في الآية مع إسحاق ويعقوب؟  فيقال هو مذكور في قوله:  “وجعلنا في ذريته النبوّة” ولكن لم يصرح باسمه. والبيضاوي يقول في تفسيرها:  “يعقوب نافلة حين يئس من الولادة من عجوز  عاقر، ولذلك لم يُذكر إسماعيل. “النبوة” فكثر منهم الأنبياء. و”الكتاب” يريد به الجنس يتناول التوراة والزبور والإنجيل والقرآن. أما قوله “فكثر منهم” بصيغة الجمع يريد به الثلاثة:  إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وهو يوافق تفسير الرازي لآية الأنبياء ٧٢ “وَكُلاًّ جعلنا صالحين” أي وكلاًّ من إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنبياء مرسلين...” وأوحينا إليهم فعل الخيرات. وهذا يدل على أنه سبحانه خصّهم بشرف النبوة.

فيتضح مما تقدم من قول البيضاوي في العنكبوت ٢٧ والرازي في تفسيره الأنبياء ٧٢ أن القول “وجعلنا في ذريته النبوة” أنه يعني بذريته إسحاق ويعقوب ونسلهما لا غير.

وهنا نسأل الإمام الرازي:  إذا كان الله سبحانه خصَّ إبراهيم وولده إسحاق وحفيده يعقوب بشرف النبوة، ألا يكون ذلك بياناً على أن إسماعيل لم يُنعم عليه بهذا الشرف؟  فكيف تقول إن إسماعيل مذكور في قوله “وجعلنا في ذريته النبوة” مع أن غاية الآية هي إسحاق ويعقوب؟

أما تفسير الإمام البيضاوي على “والكتاب” أنه يريد به الجنس ليتناول الكتب الأربعة التي منها القرآن، فهو فاسد من وجهين: 

١          -           إذا كانت الذرية المجعول فيها النبوة هي إسحاق ويعقوب ونسلهما (حسبما تبيَّن فيما تقدم) يكون المراد بالكتاب هو كتاب تلك الذرية، لأن الكتاب معطوف على النبوة، فلا يصح تخصيص النبوة بذريّة إبراهيم المشار إليها دون الكتاب المعطوف عليها. إذاً خُصَّ بنو إسرائيل من الله بالكتاب كما بالنبوة!

٢          -           إن الكتاب المعرَّف بأل هو الكتاب المشهور، وهو التوراة والإنجيل، حتى دعا القرآن إليهود والنصارى “أهل الكتاب”. وهو إرث لبني إسرائيل أورثهم الله إياه دون غيرهم. أي أنه سبحانه جعل الأنبياء الذين أوحى إليهم كلامه، فكتبوه وجمعوه إلى كتاب من بني إسرائيل دون غيرهم. ويؤيد ذلك قول القرآن:   ”وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ” (غافر ٤٠:  ٥٣ و٥٤). وإن قيل ذلك يخرج الإنجيل من الكتاب، قلنا كلاَّ، لأن المسيح وحوارييه إسرائيليون من نسل إسحاق ويعقوب ذرية إبراهيم المباركة.

فحاصل ما تقدم: 

١          -           ان النبوة والكتاب خاصان ببني إسرائيل.

٢          -           إن إسماعيل بن إبراهيم من الجارية ليس هو هبة الله لإبراهيم كأخيه وابن أخيه، وليس هو نبياً، ولا جدَّ نبي، طبقاً لما تقدم من قول التوراة:   “بإسحاق يُدعى لك نسل” وقوله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وعداً:  “وبنسلك تتبارك جميع قبائل الأرض”. فما أحق القول في القرآن إذاً لبني إسرائيل:  “وإني فضلتكم على العالمين”.

“وَقَالَ (إبراهيم) إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ” (الصافات ٣٧:  ٩٩-١١٣).

التفسير:   (خلاصته) “إني ذاهب إلى ربِّي” أي مهاجر إلى أرض الشام مواضع دين ربي. “هب لي من الصالحين” يعني بعض الصالحين. يريد الولد. فوهب له إسحاق كما قال تعالى:   “ووهبنا له إسحاق ويعقوب”. وقيل إن هذا اشتمل على ثلاثة أشياء:  على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليماً. وأي حلم أعظم من ولد يعرض عليه أبوه الذبح فيقول:  “ستجدني إن شاء الله من الصابرين”. (إلى أن يقول) وفي تفسير آيات الذبيح مسائل عديدة. ونحن نكتفي بذكر اثنتين هما أشهرها.

في تفسير لفظة “إني أرى في المنام أني أذبحك” وجهان: 

(أ) قال السدي:   كان إبراهيم حين بُشِّر بإسحاق قبل أن يولد له، قال:   “هو إذاً لله” فقيل لإبراهيم:  “قد نذرت نذراً فَفِ بنذرك”. فلما أصبح قال:  “يا بُني، أرى في المنام أني أذبحك”. وروي عن طريق آخر أنه رأى ليلة التروية في منامه كان قائلاً يقول له:  “إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا”. فلما أصبح تروَّى في ذلك الصباح إلى الرواح:  هل مِنَ الله هذا الحلم أم من الشيطان؟  فسُميِّ يوم التروية. فلما أمسَى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، فَسُمِّي “يوم عرفة”. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فَهمَّ بنحره، فُسمِّي “يوم النحر”. فهذا هو قول التفسير. وهذا يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة.

(ب) إنه رأى في المنام أنه يذبحه. ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح.

٢ - اختلفوا في من هذا الذبيح فقيل إنه إسحاق. وهذا هو قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم. وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المُسَيّب والحسي والشعبي ومجاهد والكلبي.

واحتج القائلون بأنه إسماعيل بحجج: 

١          -           ان رسول الله قال:   “أنا ابن الذبيحين”. وقال له أعرابي:  يا ابن الذبيحين (أي إسماعيل وعبد الله أبو محمد). فتبسَّم. فسُئِل عن ذلك، فقال إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهَّل له أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له:   “افدِ ابنك بمئة من الإبل”. ففداه بمئة من الإبل. والذبيح الثاني إسماعيل.

٢          -           نُقل عن الأصمعي أنه قال:   سألت أبا عمرو بن العلا عن الذبيح، فقال:  يا أصمعي، أين عقلك؟  ومتى كان إسحاق بمكة؟  وإنما كان إسماعيل بمكة والذي بنى البيت مع أبيه والمِنْحر بمكة.

٣          -           الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة، فكان الذبيح بمكة. ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبيح بالشام.

واحتج من قال إن ذلك الذبيح هو إسحاق بوجهين: 

١ - إن أول الآية وآخرها يدل على ذلك. أما أولها فإن الله حكى عن إبراهيم قبل هذه الآية أنه قال:  “إني ذاهب إلى ربِّ سيهدينِ” وأجمعوا على أن المراد منه مهاجرته إلى الشام.

ثم قال “فبشَّرناه بغلام حليم” فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحاق. ثم قال بعده:   “فلما بلغ معه السعي” وذلك يقتضي أن يكون المراد من هذا الغلام الذي بلغ منه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام. فَثَبت أن مقدِّمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحاق، وأما آخر الآية فهو أيضاً يدل على ذلك، لأنه تعالى لما تمَّم قصة الذبيح قال بعده:  “وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين” ومعناه أنه بشَّره بكونه نبياً من الصالحين. وذكر هذه البشارة عقيب حكاية تلك القصة تدل على أنه بشره بهذه النبوّة لأنه تحمل هذه الشدائد في قصة الذبيح. فثبت بما ذكرنا أن أول الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام.

٢ - والحجة الثانية على صحة ذلك ما اشتهر في كتاب يعقوب إلى يوسف عليه السلام:  “من يعقوب إسرائيل الله، ابن إسحاق ذبيح الله، ابن إبراهيم خليل الله”. فهذا جملة الكلام في هذا الباب. وكان الزجاج يقول:  “الله أعلم أيّهما الذبيح والله أعلم”.

أما عن مكان الذبح فالذين قالوا الذبيح هو إسماعيل قالوا:  كان الذبح بمنَى. والذين قالوا إنه إسحاق قالوا:  هو بالشام. وقيل ببيت المقدس. والله أعلم (الرازي المجلد السادس والعشرون ١٥٠-١٥٥).

تعليقنا:   المنصف يرى مما تقدم أن الذبيح هو إسحاق؟  وذلك من ثلاثة وجوه: 

١          -           إن هبة البنين لإبراهيم إجابة لدعائه “رب هب لي من الصالحين” حسب تفسير الأنبياء ٧٤ إنما كانت إسحاق وبعده يعقوب. وهو وفق سورة الصافات ١٠٠ التي تذكر دعاء إبراهيم:   “رب هب لي من الصالحين” وإجابة الله لدعائه “فبشرناه بغلام حليم”. ثم تبين الآيات التالية لها أن هذا الغلام هو الذبيح. ومن المعلوم أنه لا يُذكر في القرآن أن إبراهيم بُشّر بغلام سوى إسحاق، فعليه لا محل للريب أن يكون الذبيح هو إسحاق، كما علم ذلك عظماء الصحابة وجاهروا به.

٢          -           لأن القائلين بأن الذبيح هو إسحاق أولى كثيراً بالتصديق من القائلين إنه إسماعيل، وذلك لثلاثة أسباب: 

(أ) لأن عدداً منهم كعُمر والعباس وعلي وكعب الأحبار هم ركن الإسلام وعمدته، إذ هم أكابر الصحابة المُقرَّبين إلى محمد، فهم أدرى بمعاني القرآن من خلفائهم، ولا سيما الإمام عمر المشهور بحسن الرأي وإصابته، الذي أجمع الصحابة على علو منزلته عند الله بعد محمد، فقد نزلت عدة آيات تباعاً لرأيه، كآية منع محمد من الصلاة على من مات من المنافقين، وآية الحجاب للنساء إلى غير ذلك. حتى قال له محمد:  “يا عُمَر، لو لم أُبعث نبياً لبُعِثت أنت”.

(ب) لأن عدداً من القائلين إن الذبيح هو إسماعيل هم بنو أولئك العظماء ودونهم من كل الوجوه، فليس صواباً أن يُعتمد قولهم دون قول آبائهم، وأباؤهم هم الأقرب إلى محمد! كأن هؤلاء المتأخرين رأوا أهمية الاعتقاد أن إسماعيل هو الذبيح ليكون ذلك في الإسلام أساساً للزعم بأن المِنْحَر كان بمكة، ولأنهم قليلون بالنسبة إلى عدد القائلين إن الذبيح هو إسحاق ودونهم فضلاً وعلماً بالدين، راموا تعزيز  رأيهم وترجيح كفتهم بما أوردوه من الحديث عن محمد والأعرابي. وكل عاقل مُدرِك يرى أنه لو كان هذا الحديث صحيحاً لما خفي على العباس عم محمد، وعلى ابن عمه وصهره، وعلى عُمَر بن الخطاب عمدته وصاحب سره، الشديد الحرص على أقواله.

ثم أنه بعيد على محمد أن يقول أو يَدّعي خلاف الآيات القرآنية، لأن المسألة في القرآن خبريَّة لا شرعيَّة، فلا مدخل فيها للنسخ.

(ج) لأن الأخذ بقول القائلين إن الذبيح هو إسماعيل هدم للإسلام، لأن المسلم الذي لا يعتمد رأي كبار الصحابة كالمشار إليهم في مثل هذه المسألة يهدم أركان الثقة بهم، وذلك يؤدي إلى عدم اليقين بالقرآن الذي هم كتبته وشهوده والمعوَّل عليهم في جمعه ونشره. فمن يرضى من المسلمين ذلك لنفسه؟  وإذا لم يرضوا به وجب عليهم الإجماع بأن الذبيح هو إسحاق، وفقاً لآيات القرآن، ولمفهوم وإقرار أولئك الصحابة المقربين. وإذا أجمع المسلمون على أن الذبيح هو إسحاق وجب إجماعهم على أن المِنْحَر بالشام. وإذا كان المِنْحَر في الشام في أرض بيت المقدس، حيث افتدى الله إسحاق بالكبش، وجب إذا أرادوا النحر سنوياً لله، أن يأتوا ذلك في بيت المقدس، أو على أحد جباله، وليس على جبال مكة.

٣          -           ما قيل في تفسير سورة ص ٤٥ وهو:   “واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب” (يا محمد). صبر إبراهيم حين أُلقي في النار، وصبر إسحاق للذبح، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره. وهو وفق ما قيل إنه اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف ابنه. وتفسير الآية أعلاه هو للإمام الرازي كما سترى فيما يأتي.

وأما جواب أبي عمرو للأصمعي:   “يا أصمعي، أين عقلك؟  ومتى كان إسحاق بمكة؟  وإنما كان إسماعيل بمكة، والذي بنى البيت مع أبيه، والمِنْحر بمكة”. فليس هو بجواب و لا حجَّة، ولا عبرة له عند أولي الدراية والتعقل. وأفتكر أن الأصمعي بالنظر إلى قوة عقله وحدَّة ذكائه لم يَعِر هذا الجواب الفارغ شيئاً من الاعتبار. وإذا كان سكت فما ذلك إلا مراعاة للميل العام، كدأب كثيرين من الشعراء والأدباء الذين يبغون الخواطر مراعاةً للمصلحة. وبعد فإنه مشهور أن محل النحر والذبح لله كان بيت المقدس في أورشليم من أيام داود النبي إلى أن خربت المدينة والهيكل بأيدي الرومان بعد المسيح بنحو أربعين سنة، في نفس المكان الذي فيه قدَّم إبراهيم ابنه ليذبحه لله طوعاً لأمره تعالى، فافتداه الله بكبش كما نرى في التوارة (تك ٢٢:  ١-١٥). ما يُضحك أن يؤخذ قرن كبش مُعلَّق في الكعبة دليلاً على أن الذبيح كان إسماعيل، الذي على زعمهم كان يسكن مكة. كأن لا كبش في الحجاز  إلا الكبش الذي قدمه إبراهيم بدلاً من ابنه، ولا قرون إلا قرونه!  ومن المعلوم أن حرم مكة هُدم بعد إسماعيل مرة أو مرتين، ثم بُني أوسع وأجمل. فهل بقي قرن ذلك الكبش معلقاً في الكعبة، أو بُدِّل بقرنٍ آخر؟  على أني لا أقدر أن أصدِّق أن المسلمين من ذوي التعقل كالإمام الرازي وغيره يُعيرون مثل هذه الحكاية أي اعتبار. وما يريك أكثر فأكثر خرافة الحكاية هو أن إبراهيم أُمِر بتقديم ابنه في قفرٍ خالٍ من الإنس، لا في مسجد معمور محاطٍ بالناس.

“وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبَصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ” (ص ٣٨:  ٤٥-٤٨).

التفسير:   (ملخصه) واذكر عبدنا إبراهيم يا محمد. صبر إبراهيم حين أُلقي في النار، وصبر إسحاق للذبح، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره. “أولي الأيدي والأبصار” أي أولي الأعمال والمعارف والإدراك. “وإنا أخلصناهم بخالصة ذِكرَى الدار” لها معانٍ: 

١          -           إنهم استغرقوا في ذكر الدار الآخرة وبلغوا في هذا الذكر إلى حيث نسوا الدنيا.

٢          -           حصول الذكر الجليل الرفيع لهم في الدار الآخرة.

٣          -           إن الله أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا، وقبِل دعاءهم في قوله:   “واجعل لي لسان صدقٍ في الآخرين” ثم قال:   “واذكر إسماعيل وأليسع وذا الكفل وكلٌّ من الأخيار” وهم قوم آخرون من الأنبياء تحمَّلوا الشدائد في دين الله” (الرازي المجلد السادس والعشرون ٢١٦-٢١٧).

وتفسيرها في البيضاوي هو:   أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين، أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة. فعبّر بالأيدي عن الأعمال، وبالأبصار عن المعارف (البيضاوي المجلد الثاني ص ٢٧٤).

وتعليقنا:   هذه هي الآية الخامسة التي تؤكد للقارئ كأن إسماعيل ليس من عائلة إبراهيم، مع أنه ولده من صُلبه، إذ لم يُحصَ فيها مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب بالذكر، ولا نُعت معهم بالفضل. فكيف يأمر الله محمداً أن يذكر إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ويصفهم بفضل العلم والعمل، دون جده إسماعيل؟ لمَ يا ترى؟

في الآيات الأربع السالفات ذُكِر إسحاق ويعقوب كهبتي الرحمان لإبراهيم، دون التفات إلى إسماعيل، كأنه لم يكن! وعبثاً حاول بعض الشراح خرط ذكره ولو بمعنى بعيد في ذرية إبراهيم التي جعل الله فيها النبوة والكتاب، كما قد رأيت. وفي هذه الآية وُصف هذان النبيان مع أبيهما بصفتين لم يوصف بهما سواهم “أولي الأيدي والأبصار”. أما إسماعيل فهو مُحصىً من جملة الأخيار، إن كان هو المراد في آية ٤٨. على أنه يبدو للقارئ المدقق للآية وتفسيرها كأن المذكور فيها ليس هو إسماعيل بن إبراهيم بل شخص آخر، لإشماله بالذكر مع اليسع وذي الكفل. ولا يخفى أن المدة بين إسماعيل بن إبراهيم وأليشع نحو ألف سنة (انظر في التوراة تك ١٦:  ١٥، ١مل ١٩:  ١٩). ويظهر أن القرآن يذكر في هذه الآية إسماعيلاً آخر معاصراً لأليشع، وإلا كان ذِكْر إسماعيل بن إبراهيم مع أليشع في الآية في غير محله. ولو ذُكر مع يوسف بن يعقوب لكان ذلك أقرب للفهم أنه ابن إبراهيم، أما من جهة التفسير فيقول عن إسماعيل وأليشع وغيرهم “هم قوم آخرون من الأنبياء تحمّلوا الشدائد في دين الله”. فلو اعتقد هؤلاء الشراح أن إسماعيل المذكور في الآية هو ابن إبراهيم لأشاروا إلى نسبه لإبراهيم، ولما ضمّوه مع قومٍ آخرين.

وسواء كان المذكور في الآية ابن إبراهيم أو غيره، فليس لذلك أهمية، باعتبار المسألة التي نحن بصددها. ويكفي للقاريء أن الآية تذكّر محمداً بهؤلاء الآباء الثلاثة، وتستثني جدّه إسماعيل فلا تُحصيه بينهم. أَوَلاَ يبرهن هذا أن بركة الله للعالم هي في ذرية إبراهيم من إسحاق ويعقوب دون إسماعيل، مصداقاً لوعده المكرّر لكلٍ منهم بدوره:  “وفي نسلك تتبارك جميع قبائل الأرض”.

تذييل

اتضح لنا من الآيات التي أوردناها في هذا الباب ومن تفسيرها ثلاثة أمور: 

١          -           إن بني إسرائيل أفضل العالمين، فقد أقام الله منهم الأنبياء والمرسلين الذين أعظمهم وسيدهم المسيح، كلمة الله، وابنه الوحيد، المدعو في القرآن “كلمة من الله وروح منه” الذي أتى بالبركة الأسنى للعالم، إتماماً لوعده، وخصَّهم بكتابه العزيز  نوراً وهدىً لمن اهتدى وتفصيلاً لكل شيء.

٢          -           إن غاية الله العظمى من جهة البشر هي في نسل إبراهيم من إسحاق ويعقوب هبتي الله له.

٣          -           إن الذبيح لله من أولاد إبراهيم هو إسحاق، فينتج من ذلك نتيجتان: 

(أ) أن ليس لإسماعيل وذريته نصيب من النبوة والكتاب، فلا نبيٌّ مُرسَل إلا من بني يعقوب، ولا كتاب لله إلا كتابهم.

(ب) أن محل الذبح لله هو أورشليم لا مكة.

ثم إن وجود مثل هذه الآيات في القرآن تُري القارئ عدم حيثيّة إسماعيل وذريته عند الله، بل كل الحيثيّة والبركة لإسحاق ويعقوب وآلهما، كأن إسماعيل عدَمٌ في عدَمٍ. وطبيعي أن هذه الآيات تأتي لذهن المسلم الحُرّ بالأسئلة الآتية: 

لِمَ يا ترى لم يُدرج اسم إسماعيل مع إسحاق ويعقوب كهبة الله لإبراهيم؟  أليس كل البنين هبة للآباء، فما منع ذكر إسماعيل مع أخيه كهبة الله لأبيه، بل نقل الذكر من إسحاق الابن إلى يعقوب الحفيد كابن، ولم يلتفت إلى إسماعيل، كأنه ليس هو ابن إبراهيم أو كأن لا خير فيه يؤهله إلى مثل هذا التكريم؟  هل يمكن أن يكون ذلك بدون داعٍ؟  كلا!

وما هو هذا الداعي؟  إني لا أرى في تفسير علمائنا لهذه الآيات وجوابهم على مثل هذا السؤال ما يُروي الغليل، فليس هو سوى مواربة ومحاولة تشفّ عما في صدورهم من الضيق والحصر اللذين ألقتهما فيه هذه الآيات. ولمإذا لما أفرد إسماعيل بالذكر لم يقل “وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب” كما قال عن ذرية إبراهيم تبعاً لذكر إسحاق ويعقوب؟  وعلى الأقل “وجعلنا في ذريته نبوة وكتاباً”. ولمإذا لم يُدرج اسمه مع اسم أبيه إبراهيم وأخيه إسحاق وابن أخيه يعقوب عند ما حضَّ محمداً على ذكرهم كأولي الأيدي والأبصار؟  أكان خالياً من العلم والعمل حتى لم يكن أهلاً لشمله بالذكر معهم؟  فكيف هو إذاً نبي؟

ألا ينتج من ذلك أن إسماعيل ليس كأخيه إسحاق ولا كابن أخيه يعقوب، كهبة الله لأبيه؟  ولا هو كأبيه وأخويه من أولي الأيدي والأبصار (أي المعارف والأعمال)!  إنه ليس بنبي ولا وليّ. فما بال القرآن إذاً يدعوه نبياً بقوله:   ”وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً”؟ (مريم ١٩:  ٥٤). (إن كان هذا المذكور هو إسماعيل بن إبراهيم، لأن ذكره بين موسى وادريس يرينا أنه ابن إبراهيم). وإن كان صادق الوعد ورسولاً نبياً، فيكون هبة عظيمة من الله لأبيه. فلمإذا لم يُقَل عنه ذلك حين ذكر هبة البنين لإبراهيم، بل اقتصر على إسحاق وابن إسحاق كالوحيدين لإبراهيم؟

لا برهان أعظم وأوسع وأوضح مما تقدم في القرآن على تخصيص بني إسرائيل بأسنى النعم والبركات، لأن منهم يجري مجرى الحياة الفيّاض لأدواء كافة الأمم. ومن هو ذو بصيرة إذا تدبَّر مثل هذه الآيات في القرآن، وقارنها بأمثالها في التوراة، لا يرى أن نسل إبراهيم وإسحاق ويعقوب بركة الأمم هو المسيح كلمة الله، محيي الأموات والقلوب؟  وأي حاجة يا ترى تحتاجها أمم الأرض مثل إحياء قلوبهم وأنفسهم؟  فإذا كان المسيح المدعوّ في القرآن “روح الله” بمعنى أنه يحيي الأموات والقلوب، حسب تأويل الإمام البيضاوي (المجلد الأول ص ٢٩١) وحسب الرازي “سبباً لحياة الخلق في أديانهم” (الرازي المجلد الحادي عشر ١١٥) وكان نسبه إسرائيلياً من ذرية يعقوب - أفلا تكون كلمة الله في التوراة ليعقوب صادقة:   ”وَيَتَبَارَكُ فِيكَ وَفِي نَسْلِكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الْأَرْضِ” (تك ٢٨:  ١٤)؟... فإذا تباركت أمة من الأمم على الأرض بركة تحيي منها القلوب والأجساد، فإنما تتباركها بنسل يعقوب الذي هو المسيح!

 

 

الباب السادس

الآيات القرآنيةالتي تشير للاهوت المسيح“

 

 

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ” (آل عمران ٣:  ٤٥، ٤٦).

التفسير:   (ملخصه) “كلمة منه” لأن السبب المتعارف كان مفقوداً في حق عيسى عليه السلام، وهو الأب. فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم، فجُعِل بهذا التفسير كأنه نفس الكلمة، كما أن من قلب عليه الجود والكرم والإقبال يُقال فيه على سبيل المبالغة إنه نفس الجود ومحض الكرم وصريح الإقبال. “المسيح” في ذلك مذاهب نأتي بملخص بعضها: 

١          -           منها أنه مُسِح من الأوزار والآثام.

٢          -           ومنها أنه كان ممسوحاً بدهن طاهر مبارك يُمسَح به الأنبياء.

٣          -           ومنها لأن جبريل مسحه بجناحه وقت ولادته ليكون ذلك صوناً له عن مس الشيطان.

٤          -           ومنها لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن.

٥          -           قال أبو عمر بن العلاء المسيح الملك.

وجيهاً في الدنيا وفي الآخرة: 

١          -           في الدنيا بسبب النبوة وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى.

٢          -           وهو أيضاً وجيه في الدنيا بسبب انه يُستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص بسبب دعائه. ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته ويقبل شفاعته فيهم.

٣          -           إنه وجيه في الدنيا بسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه إليهود بها، ووجيه في الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عند الله تعالى. ومن الأسئلة في “كلمة منه” هذا السؤال، وهو الضمير في قوله اسمه، عائد إلى الكلمة وهي مؤنث، فلِمَ ذكّر الضمير؟  الجواب لأن المسمَّى بها مذكّر (الرازي المجلد الثامن ٤٦-٥١).

وتفسيرها في الجلالين:   “الملائكة” جبريل “وكلمة منه” أي وُلد وجيهاً فï الدنيا والآخرة، في الدنيا بالنبوة، وفي الآخرة بالشفاعة والدرجات العُلىَ. ومن المقرّبين عند الله. “ويكلم الناس في المهد أي طفلاً قبل وقت الكلام” (الجزء الأول ص ٦٠).

تعليقنا:   نقول إن المفسرين لم يصيبوا الهدف في تفسيرهم كلمة “منه” والجواب على ضميري المؤنث والمذكر: 

١          -           إنه لا يُشتم من الآية رائحة الإضافة إلى الكلمة حتى يسوغ للإمام القول:  “كان إضافة حدوثه إلى الكلمة”. فيظهر أن حضرته أتى بها من قبيل التخمين والحدس. وإذا كان السبب المتعارف مفقوداً في عيسى وهو الأب، وكان الوحي من الله عنه أنه كلمة منه، دلَّ ذلك على أبويّة الله له على نوع يجلّ ويسمو جداً عن أبوية الإنسان لابنه. ففي هذه الآية لمحة بهيّة إلى هذا الأمر السرّي، لا إضافة الإمام المذكورة.

٢          -           لا يُعتبر جوابه “لأن المسمى بها مذكر” جواباً لذلك السؤال، لأنه إذا كان الضمير في اسمه عائداً إلى الكلمة فالكلمة تكون ذاتاً. ولا فرق إن كان المسمَّى بها مذكراً أو مؤنثاً. فلو قيل:  “إن الله يبشرك بكلمة منه اسمها مرثا” يبقى المعنى أن الكلمة العائد إليها ضمير المسمَّى هي ذات، لأن البشارة أبانت ذاتيتها. وإذا كانت هذه الكلمة المُبشَّر بها ذاتاً من الله، فما تكون هذه الذات؟

أراد الإمام أن يتخلّص من عدة نقط صعبة، ففسّر الآية تفسيراً يوافق عقيدة الإسلام، غير مبالٍ بما هو عليه من الوهن والبُعد عن الصواب.

أما المذاهب المختلفة بشأن اسم المسيح فإنها تبيّن عدم بلوغ القوم حقيقة معناه والمراد به، لخلو القرآن من الإشارة إلى معنى هذا الاسم. وذلك يوّجه عقل القارئ إلى سؤالين مهمين: 

١          -           لمإذا امتاز  عيسى ابن مريم بهذا الاسم الذي لم يُسَمَّ به سواه من الأنبياء والمرسلين؟

٢          -           هل في شخص عيسى أمر يفوق شخصية الأنبياء والمرسلين أهَّله لاسم “المسيح”؟

ومن يقدر على إعطاء الجواب الصحيح لهذين السؤالين غير كتاب الله، التوراة والإنجيل؟  وهو “لأن الله مسحه بالروح القدس ملكاً على إسرائيل وكل الأمم”. “وأقامه رباً ومسيحاً”. وإنه استحق هذا الاسم وامتاز  به لامتيازه في شخصيته عن كل من سواه من أنبياء الله، لكونه من الله ابنه وكلمته، وبه الحياة الأبدية. فكما امتاز  المسيح في القرآن بكونه كلمة من الله وروح منه، امتاز  بلقب المسيح كسيد العالمين وملكهم. فالأولى علة الثانية، والثانية دلالة على معنى الأولى.

ويقول أحد هذه المذاهب:   “لأنه خرج من بطن أمه ممسوحاً بالدهن”. فهل في أحشاء مريم دهن؟  وإذا كان هذا الشخص العجيب في حاجة إلى مسحة الدهن، كبعض ملوك إسرائيل، فيُفعل له ذلك بعد ولادته. وإذا كان على زعمهم مُسح في بطن أمه فلا يكون ذلك بدهن، بل بالروح القدس، بمناسبة ما جاء في الإنجيل حين بُشِّرت أمه به:   ”اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللّهِ” (لوقا ١:  ٣٥). وإذا كان عيسى ابن مريم مُسِح وهو في بطن أمه، فذلك من جملة الدلائل على كونه شخصاً فوق العادة، يسمو جداً عن كافة أنبياء الله ومرسليه الذين لم يُقَل عن أحدهم شيء من مثل ذلك.

أما تفسير “وجيهاً في الدنيا والآخرة” وهو وجاهته في الدنيا بسبب النبوّة، وبسبب أنه يُستجاب دعاؤه ويحيي الموتى، وبسبب أنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه إليهود بها. ووجاهته في الآخرة بسبب علو منزلته أو درجته عند الله تعالى، وأنه يجعله شفيع أمته، فهو تفسير مقبول، يُظهر امتياز  المسيح العالي عما سواه من الملائكة والبشر.

ووصف المسيح بهاتين الآيتين النيرتين أشبه بحلقات سلسلة ذهبية، كل حلقة منها تلقي نوراً على ما قبلها تزيد معناها جلاءً ووضوحاً. وهي جملة تبيّن تفرُّد المسيح كلمة الله بأنه نبي لا كالأنبياء ومسيح لا كالمسحاء. بل هو المسيح العجيب النسب والغريب الولادة، المقتدر والوجيه في الدارين!

“إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ” (المائدة ٥:  ١١٠).

التفسير:   فيه وجهان: 

١          -           إن الروح هو جبريل، والقدس هو الله، كأنه تعالى أضافه إلى نفسه تعظيماً له.

٢          -           إن الله خصَّ عيسى بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلويَّة الخيرة.

“تُكلّم الناس في المهد وكهلاً”. أما كلام عيسى في المهد فهو قوله “إني عبد الله آتاني الكتاب”. وكذا في حال الكهولية، من غير أن يتفاوت كلامه في هذين الوقتين. وهذه خاصية شريفة كانت له، ولم تحدث لأحدٍ من الأنبياء قبله ولا بعده (الرازي المجلد الثاني عشر ١٢٤-١٢٥).

وتعليقنا:   لم يبيّن لنا الإمام (كما كان يجب عليه) في تفسير هذه الآية أيَّ الوجهين صواب وأيّهما خطأ، أو أيّهما أقرب إلى الصواب. ونقول: 

١          -           لم يذكر القرآن لمحمد مثل ذلك، مع أنه يقول له:   ”نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ” و ”نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ” (النحل ١٦:  ١٠٢ والشعراء ٢٦:  ١٩٣).

٢ - سُمِّيَ المسيح في القرآن “روح من الله” ومن تفسير ذلك أنه روح من الأرواح الشريفة العالية القدسيّة، أضافه تعالى إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم. فبقى أن المراد بقول الآية “أيدتك بروح القدس” هي تلك الروح العالية، أو هي التي خُصَّ بها المسيح وحده.

على أن في ذلك إشكالاً لدى أهل القرآن:  إذا كان المسيح روحاً من الله، أي من الأرواح الشريفة العالية القدسيّة شرفها الله وعظَّمها بإضافتها إلى نفسه، فهي لا شك روح القدس. فكيف إذ ذاك يخاطبه:  “إني أيّدتُك بروح القدس”؟  هل يؤيّد روحُ القدس روحَ القدس؟  وهل المسيح وهو الروح السامية المقام عند الله يحتاج إلى تأييد روح دونها تقدِّره على عمل الآيات المعجزات؟  كلاّ بل إن هذا التأييد انما يجوز  على من ليس هو من روح الله.

ثم إن هذه الآية وتفسيرها أعظم دليل على سمو المسيح ورفعة شأنه فوق كل الأنبياء والمرسلين، لأن الله خصه بالروح الطاهرة النورانية المشرقة العلوية الخيرة. فنسأل المسلم المخلص:  ما هذه الروح التي خُصَّ بها المسيح من الله - أذات هي أم نعمة؟

فإن قال “نعمة” قلنا له:   وما تلك النعمة؟ أَوَحْيٌ هي أم قداسة؟  فإن قال هي “نعمة الوحي أو التقديس” نقول:   بطُل القول إن المسيح خُصّ بها، لأن الله أنعم بمثلها على بقية أنبيائه ومُرْسَليه، ويكون عبثاً القول “وروح منه”. وإن قال “بل ذات” يكون قد وافق معتقد أهل الإنجيل، وهو أن المسيح ذو طبيعتين، الواحدة من الله والأخرى من الإنسان. فكيف يخرج من هذه الدائرة، وكيف السبيل إلى حل هذا المشكل؟

“يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً” (النساء ٤:  ١٧١).

التفسير:   (خلاصته) “لا تغلوا في دينكم” لا تُفرطوا في تعظيم المسيح. “وكلمته” المعنى أنه وُجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة. “وروح منه” في ذلك تفاسير: 

١          -           أنه من نفخة جبريل. والمراد من قوله “منه” التشريف والتفضيل، كما يُقال:  هذه نعمة من الله.

٢          -           أنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم. ومن كان كذلك وُصِف بأنه روح.

٣          -           ”روح منه” أي رحمة منه. فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم، سُمّي روحاً منه.

٤          -           قوله “روح” أدخل التنكير في لفظ روح، وذلك يفيد التعظيم. فكأن المعنى “وروحٌ منه” أي روحٌ من الأرواح الشريفة العالية القدسية. وقوله “منه” إضافةً لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف والتعظيم. ومع ذلك فهو رسول من رُسل الله، فآمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل، ولا تجعلوه إلهاً (الرازي المجلد الحادي عشر ١١٤-١١٧).

وملخص تفسيرها في البيضاوي “وكلمته ألقاها” أوصلها إليها وحصَّلها فيها. “وروح منه” وذو روح صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. وقيل سُمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات والقلوب (المجلد الأول ص ٢١٩).

وتفسيرها في الجلالين:   يا أهل الإنجيل لا تتجاوزوا الحد في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا القول الحق من تنزيهه عن الشرك والولد. “إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها” أوصلها إلى مريم. “وروح” أي ذو روح. “ومنه” أُضيف إليه تعالى تشريفاً وليس كما زعمتم ابن الله أو إلهاً (الجزء الأول ص ١٠٨).

وتعليقنا:   ننظر أولاً في قول الآية:  “يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم” يعني:  لا تفرطوا في تعظيم المسيح حتى تعتبروه إلهاً وابن الله. فالخطاب في الآية لأهل الإنجيل. فبقوله:   “يا أهل الكتاب” يختم على أن الكتاب الحقّ بيدهم، وهو من جملة أقوال القرآن الدالة على أمانة أهل الكتاب على كتابهم بحفظهم إياه من دنس التحريف (كما قد رأيت بالكفاية في الباب الرابع). فكان الجدير بمحمد أن يبحث أولاً في الإنجيل قبل أن ينسب لأهله الغلو في دينهم، حتى إذا رأى الإنجيل يصف المسيح ابن مريم إلهاً وابن الله، يُسلّم بذلك. أو على الأقل يَعذُر أهله على إيمانهم بالمسيح كابن الله. وإذا لم يَرَ وصف المسيح في الإنجيل أكثر من عبد الله ورسوله، يؤَنّبهم. بتقوُّلهم على الله ما لم يجىء في كتابه الذي بين أيديهم، كما قيل إنه فعل في حكمه بأمر الزانيين من يهود خيبر. وكان هذا واجباً عليه، لأنه نسب الغلوّ لأهل الكتاب في دينهم بدون دراسة كتابهم حق الدراسة. ولا يجدر بالمسلم العاقل أن يغفل أول الآية:  “يا أهل الكتاب” فإن النصارى أهل الكتاب، أي إن كتاب الله الحق هو عندهم وهم أهله. فعوض أن يقول حسب الآية:  “يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم” أن يقول:  “يا أهل الكتاب، إيتوني بكتابكم لأرى فيه حقيقة أو بطلان دعواكم أن عيسى ابن مريم إله أو ابن الله”.

أما كون المسيح رسول الله فهذا صحيح، فهو كلمة الله وابنه (وذلك قلما يفرق عن نسبه في الآية “كلمته وروح منه”). ويليق إرسال الابن في بعض المهام كما يُرسَل العبد، فقد يرسل الملك أحياناً ابنه في مهمة دون غيره، ويقال عن ابنه في تلك الإرسالية إنه رسول الملك وابنه. لأن للمسيح هذه النسبة الإلهية “ابن الله” التي وردت مراراًً في الإنجيل بصريح النص (انظر مت ١٤:  ٣٣، مر ١:  ١، لو ١:  ٣٥، يو ١:  ٣٤، ٤٩، رؤ ٢:  ١٨) فقد دعاه القرآن بما يَقْرَب من ذلك، ولم يكتف بوصفه رسول الله، بل زاد أنه كلمته وروح منه. فليس النصارى إذاً مُغالين في دينهم باعترافهم أن المسيح هو ابن الله، بل هم شاهدون بالحق المنزل في الكتاب الذي أمنهم الله عليه، ودعاهم “أهله”.

أما تفسير “وكلمته” نرى الرازي بعيداً جداً عن الصواب. لقد هرب لما قال إن المسيح وُجد في البدء بكلمة الله وأمره. فهل قيل في القرآن عن أحدٍ إنه كلمة الله؟

وآدم والمسيح كلاهما بدون أب، وكلاهما نبيّان، ومع ذلك فقد امتاز  المسيح عن آدم بنسبته في القرآن لله “كلمته وروحٌ منه”. فعلى موجب تفسير الإمام يكون آدم أيضاً كلمة الله. فهل يقول ذلك؟

كان على الإمام بدل قوله “المعنى أنه وُجد بكلمة الله وأمره من غير واسطة ولا نطفة” أن يقول:  “وما الداعي يا ترى لولادة المسيح على خلاف المجرى الطبيعي؟  هل هو لأنه كلمة الله وروح منه؟  نعم”. كان على الإمام أن يستدل بولادة المسيح على السر المتضمَّن في نسبته لله “كلمته وروح منه” معتبراً تلك النسبة الإلهية باعثاً لولادته بدون أب، لا أن يتخذ ولادته مجرد سببٍ لتسميته “كلمته”. ولما لم تكن هناك ضرورة تدعو لولادة المسيح بدون أب، كما في مسألة خلق آدم، يُسْتَدل منها أنه لا بد أن يكون الباعث إليها عجيباً. وإذا أغضى المسلم طرفه عن الإنجيل الذي يبيّن له بوضوح وصراحة ذلك الباعث، فليعتبر نسبة المسيح لله في القرآن ككلمته وروح منه، باعثاً لولادته على خلاف الولادة الطبيعية. وعليه فإن تفسير الرازي المذكور عديم الاعتبار.

أما تفسير “ألقاها” و”كلمته” في البيضاوي فتفرق كثيراً جداً عما فسر الرازي، فقد قال البيضاوي:  “ألقاها أوصلها إليها وحصّلها فيها. وكذا في الجلالين:  أوصلها إلى مريم. فقد جعل الإمام البيضاوي مريم كظرف لكلمة الله. وإذا كانت كلمة الله ذاتاً كما يظهر من الآية الأولى في الباب، فيكون إيصالها من الله إلى مريم وتحصيلها فيها من نوع الحلول.

وليس من فرق بين القول إن الله حصَّل كلمته في مريم وبين القول إن كلمة الله حلَّت في مريم. وإذا كانت كلمة الله ذاتاً حلَّت في أحشاء مريم، فهي الذات التي بُشِّرت بها. “إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح”. أو هي حسب الإنجيل ابن الله الوحيد الكائن الأزلى.

ولا نقدر أن نحكم هل قصد البيضاوي بهذا التفسير الحلول أم لا. وسواء كان مراده هذا أو ذاك نرى أن تفسيره موافق كل الموافقة للقول “أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح”. فالحاصل من هذه الآية ومن تفسيري البيضاوي والجلالين المتقدمين أن الكلمة التي بُشرت بها مريم هي ذات، كانت قبل حلولها فيها، وأن ذلك هو العلَّة لولادة المسيح منها من دون أب.

أما تفسير “وروح منه” فإن الإمام الرازي يورد على ذلك وجوهاً مختلفة كما قد رأيت، ويتركها بدون أن يحكم أيّها صواب وأيها خطأ.

على أننا نرى في التفسير “وروح منه” أنه من نفخة جبريل، وهذا يرفع جبريل إلى مقام الألوهية لاقتداره على الخلق بنفخته. وليس فقط على الخلق، بل على خلق نبيٍّ ومسيحٍ تسامَى على من سواه من الأنبياء. فالقائل بذلك قد ساوى جبريل بالله وهو لا يدري، كما ترى في مسألة خلق الله آدم. ”فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” (الحجر ١٥:  ٢٩). فكأن الله تعالى وجبريل سيّان في المقدرة على إيجاد حيٍّ بالنفخة. (نعوذ بالله من كفرٍ كهذا) فكأني بالمفسّر، إذ تعذر عليه هضم القول إن المسيح روحٌ من الله (لأنه يبيّن علوّ منزلته فوق كل نبيّ ومرسَل ويوافق نص الإنجيل وإيمان النصارى بالمسيح) رام خفض “كلمة الله” إلى ما هو دون الملائكة بما ذهب، فتهوَّر إلى وهدة الضلال ولم يدرِ. ذلك جزاء من يحاول إبعاد الآيات عن معناها الأقرب.

أما أن المسيح سُمّي روحاً من الله لأنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم، وأنه رحمة من الله على الخلق... فما من بصيرٍ يقول إن استطاعة المسيح على إحياء الخلق في أديانهم سبباً لوصفه بأنه روح من الله، بل بما أنه روح من الله يقدر على فعل ذلك. وأنه روح من الله له القدرة على إحياء الخلق. فمن يستطيع إحياء الخلق من موتهم الروحي إلا روح الله وابن الله؟  وما أشبه القول عن المسيح إنه سبب لحياة الخلق في أديانهم بقول المسيح عن نفسه:   ”أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا” (يوحنا ١٠:  ١٠، ١١:  ٢٥) وهل من فرق بين قول المسيح هذا عن نفسه وقول البيضاوي عنه:  “سُمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات والقلوب”.

وكما كان البون عظيماً بين الرازي والبيضاوي في تفسير “وكلمته” كذلك الأمر بينهما في كلمة “وروح منه”. فالرازي يذهب في بعض الوجوه التي أوردها أنه روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية. والبيضاوي يقول إن المسيح ذو روح صدر منه (يعني من الله) لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. فما أقرب قول البيضاوي إلى نقطة الحق المعلن في إنجيل الله. لأنه أي فرق جوهري بين القول إن “المسيح روح صدر من الله” والقول إن “المسيح أتى من عند الله، وهو ابن الله”!  فما أعظم التلميح في هذه الآية وتفسيره إلى لاهوت المسيح ابن الله.

أليس غريباً أن الناطق بهذه الآية ومفسّريها بعد كل هذا البيان منهم عن غرابة المسيح وسمو طبيعته وامتيازه ووصفه بأنه “كلمته وروح منه” لا يعتبرونه أكثر من نبي مُرسَل مثل باقي الأنبياء والمُرسَلين. فما مَثَلهم بذلك إلا مَثَل من يصف رجلاً بصفة ابن الملك بالنسبة والمنزلة، ثم يسلبه كل ذلك بعدم اعتباره إياه أكثر من رجل من حاشية الملك وسفرائه.

“وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً” (النساء ٤:  ١٥٧، ١٥٨).

التفسير:   وفيه أسئلة أهمها:  إذا جاز أن يُقال إن الله تعالى يُلقي شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باباً للسفسطة، فإذا رأينا يداً فلعلّه ليس بزيد ولكن أُلقي شبَه زيد عليه. وعند ذلك لا يبقى النكاح والطلاق والمُلك موثوقاً به. وأيضاً يفضي إلى القدح في التواتر، لأن خبر التواتر يفيد العلم بشرط انتهائه في الآخرة إلى المحسوس. فإذا جوَّزنا حصول مثل هذه الشبهة في المحسوسات توجه الطعن في التواتر، وذلك يوجب القدح في جميع الشرائع.

ولا يمكن أن يُقال إن ذلك مختصٌّ بزمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأننا نقول:  لو صحَّ ما ذكرتم فذاك إنما يُعْرَف بالدليل والبرهان. فمَن لم يعلم ذلك الدليل وذلك البرهان وجب أن لا يقطع بشيء من المحسوسات، ووجب أن لا يعتمد على شيء من الأخبار المتواترة. إن فتح هذا الباب يوجب الطعن في التواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فهذا فرع يوجب الطعن في الأصول، فكان مردوداً.

واختلفت مذاهب العلماء في هذا الموضع وذكروا وجوهاً: 

١          -           قال كثيرٌ من المتكلمين إن إليهود لما قصدوا قتله رفعه الله تعالى إلى السماء، فخاف رؤساء إليهود من وقوع الفتنة من عوامهم، فأخذوا إنساناً وقتلوه وصلبوه، ولبّسوا على الناس أنه المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح إلا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة بين الناس، وبهذا الطريق زال السؤال. لا يقال إن النصارى ينقلون عن أسلافهم أنهم شاهدوه مقتولاً، لأننا نقول إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب.

٢          -           إنه تعالى ألقى شبهه على غيره. وفيه وجوه: 

(أ) إن إليهود لما علموا أنه حاضر في البيت الفلاني مع أصحابه، أمر يهوذا رأس إليهود رجلاً من أصحابه يقال له طيطايوس أن يدخل على عيسى عليه السلام ويخرجه ليقتله. فلما دخل عليه أخرج الله عيسى عليه السلام من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى، فظنّوه هو فصلبوه وقتلوه.

(ب) وكَّلوا بعيسى رجلاً يحرسه. وصعد عيسى عليه السلام في الجبل ورُفع إلى السماء، وألقى الله شبهه على ذلك الرقيب فقتلوه، وهو يقول:  “لست بعيسى”.

(ج) إن إليهود لما همّوا بأخذه، وكان مع عيسى عشرة من أصحابه، فقال لهم:  “من يشتري الجنة بأن يُلقى عليه شبهي؟” فقال واحد منهم:  “أنا”. فألقى الله شبهه عليه فأُخرج وقُتِل ورفع الله عيسى عليه السلام.

(د) كان رجل يدَّعي أنه من أصحاب عيسى عليه السلام، وكان منافقاً. فذهب إلى إليهود ودلَّهم عليه. فلما دخل مع إليهود لأخذه ألقى الله تعالى شبهه عليه، فقُتل وصُلِب.

وهذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور (الرازي المجلد الحادي عشر ٩٩-١٠٠).

وهكذا تفسير البيضاوي لهذه الآية من وجهة عرض الجنة على من يفديه من أصحابه، ومن جهة الرجل الذي كان ينافقه، والرجل المدعو طيطايوس الذي دخل يفتش عليه ولم يجده (المجلد الأول ص ٣١٥).

وتعليقنا:  وإن لم يكن في هذه الآية إشارة للاهوت المسيح كسالفاتها في هذا الباب، فهي تدل على علوّ منزلة المسيح عند الله فوق كافة الأنبياء والمرسلين، إذ نقله حياً إلى السماء، رغماً عن أعدائه.

وربما يستغرب القارئ توجيه الآية لليهود فقط منكراً اعترافهم أنهم قتلوا المسيح، دون أن يتعرَّض (لا فيها ولا في غيرها من القرآن) لاعتقاد النصارى المصادق لدعوى إليهود هذه. على أن استغرابه يزول إذا عرف كثرة إليهود جيران محمد في المدينة، ونُدْرَة وجود النصارى في تلك الناحية، وعدم اطِّلاع محمد وأصحابه على الإنجيل.

وهل يُخفى على محمد أن مسألة صلب المسيح وموته بالجسد بأيدي إليهود هي غاية التوراة ومحوَر الإنجيل؟ فالأنبياء منذ القديم أنبأوا عن ولادة المسيح وحياته وموته قتلاً كذبيحة عن الخطية، كما يُرى ذلك في أسفار التوراة، ولا سيما في نبوتي إشعياء ودانيال (إشعياء ٥٣ ودانيال ٩:  ٢٤-٢٧). والمسيح قبل موته أنبأ تلاميذه مراراً أنه عتيد أن يُسَلّم إلى إليهود فيصلبونه ويقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم. ورسله الذين يدعوهم القرآن حوارييه كان جلّ كرازتهم به أنه مات مصلوباً بأيدي إليهود فداءً عن الخطاة، وأنه قام في ثالث يوم من موته ورُفِع إلى السماء.

فإذا كان إليهود والنصارى أهل الكتاب، ولم يمَسّوا كتابهم بتحريف (كما رأيت في الباب الرابع) فبأي مسوغٍ تُنكَر عليهم قضية هي أشهر وأجلّ قضاياه؟  فكان الأولى بمحمد، لو أنكر الكتاب جملةً، ألا ينكر على أهل الكتاب قضية هي أساسه ورأسه. ولكن أن يؤْمن بالكتاب (التوراة والإنجيل) الذي بين يديه، ويقول لليهود والنصارى إنه مصدِّق لما معهم (البقرة ١٠١) فكيف يُنكِر مفاده وغايته الجليَّة بخصوص المسيح؟  وكيف هو مصدِّق لما مع أهل الكتاب ثم ينكر عليهم قضية هي أوضح ما جاء فيه؟  فأين ذاك التصديق؟  إن البقرة ١٠١ لا تقول:   “ولما جاءهم رسول من عند الله مصدِّق لما في التوراة” بل “مصدِّق لما معهم” أي توراتهم الحالية الكائنة معهم، الأمر الدال على ثقة محمد بسلامة الكتاب حينئد من شائبة التحريف، وعلى أمانة أهله عليه.

فإن قال قائل:   “إن الآية في سورة البقرة تعني إليهود فقط، وتوراتهم لا تنصّ أنهم قتلوا عيسى ابن مريم”. قلنا: 

١          -           في التوراة نبوات صريحة عن المسيح الذي سوف يأتي ويموت عن خطايا شعبه، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.

٢          -           إن التصديق المذكور هو على كافة الكتاب (التوراة والإنجيل) بدليل ما جاء في الآية ”نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ” (آل عمران ٣:  ٣، ٤) وأيضاً ”وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ” (يعني التوراة والإنجيل) (المائدة ٥:  ٤٨). ومحمد يحثّ أهل الإنجيل على الحكم بما أنزل الله فيه قائلاً:   ”وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ” (المائدة ٥:  ٤٧). وليس من مسلم عاقل ينكر أن محمداً مصدّق الإنجيل الكائن يومئذ بيد النصارى. فيقدر أولئك النصارى أن يقولوا له:  “يا أبا القاسم، أنت تحثّنا على الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الذي معنا. والله أنزل في الإنجيل قصة صلب المسيح بيد إليهود، وقيامته في اليوم الثالث من موته. وهو مشحون بهذا الخبر على أساليب شتَّى، وهي مدار تعليم الرحمة والنعمة فيه، التي لو نُزِعَت منه لأشْبَه بنواةٍ نُزِعَ منها لبّها. فإن كنت حقاً مصدقاً لما بين يديك من الكتاب الذي معنا، فيلزم أن يكون إيمانك بالمسيح مثل إيماننا، فتكون مسيحياً نظيرنا، وداعياً من دعاة ربنا. وإلا فدعواك أنك مصدِّق لما بين يديك من الكتاب الذي معنا غير صحيحة، لأن التصديق بالشيء وتكذيبه نقيضان لا يجتمعان”.

حقاً إن أغرب ما جاء في تاريخ البشر هو الإقرار بصحة الكتاب الكائن بأيدي إليهود والنصارى، والدعوى بتصديقه، ثم إنكار أهم إعلاناته ومضامينه!

أما من جهة تفسير هذه الآية فنقول: 

١          -           من أين يعرفون أن الناس لم تكن تعرف المسيح إلا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة للناس؟  تُعرف حياة المسيح وأعماله على الأرض من إنجيله. وإنجيله يخبرنا أن المسيح عاش ثلاثين سنة يشتغل بمهنة النجارة في الناصرة، وأنه كان معروفاً بيسوع الناصري النجار. ويخبرنا أنه بعد ذلك ترك مهنته وعاش نحو ثلاث سنين لا يفتُر عن السفر في أراضي إليهودية:   سهولها وجبالها مدنها وقراها، مُنادياً بملكوت الله ومبشراً بنعمته، داعياً الناس إلى التوبة والإيمان، عاملاً آياته ومعجزاته، حتى ذاع خبره في جميع سورية (انظر متى ٤:  ٢٤). فكانت الناس تتقاطر إليه من كل أنحاء البلاد حاملين إليه جميع السُقَماء والمرضى والمجانين لينالوا منه الشفاء. فكيف لم يكن الناس يعرفونه إلا بالاسم؟ وألا يقول عنه القرآن إنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، وإنه أنزل مائدة من السماء (آل عمران ٤٩ والمائدة ١١٠، ١١٤، ١١٥). فكيف إذاً كان غير معروف من الناس؟  كيف لا يطير صيته على جناح السرعة، وتتقاطر إليه الجماهير والأفراد لرؤياه وسماع كلامه ونوال بركاته؟

٢          -           أما قولهم “إن تواتر النصارى ينتهي إلى أقوام قليلين لا يبعد اتفاقهم على الكذب” فهو مدحوض من أربعة وجوه: 

(أ) إن النصارى ليسوا ناقلين عن أسلافهم خلفاً عن سلفٍ قصة صلب المسيح كما يموّهون، بل هي غاية كتابهم وعمدة إنجيلهم، كما تقدم بيانه أعلاه.

(ب) إن ما جاز  حسب زعمهم على تواتر النصارى الموهوم يجوز  على تواتر المسلمين.

(ج) إن أهل العلم من المسلمين يعتبرون شهادة التواتر حقيقة لا مراء فيها.

(د) على افتراض أن ليس للنصارى كتاب، أو أن كتابهم تلاشى من الأرض، فتواترهم قصة صلب المسيح ينتهي إلى حوارييه وأمه. فهل في عرفهم أن حواريي المسيح كاذبون بقصّهم هذا الخبر على الناس؟  أو هل يقولون بإمكان اتفاقهم على الكذب وهم المدعوّون في القرآن أنصار الله (آل عمران ٥٢).

أما كلامهم في الطريق الثاني من إلقاء الله شبه عيسى على إنسان آخر فهو كما ترى من نوع الخبط الصبياني الغير مستحق الرد عليه. وانظر أن القوم بمذاهب متضاربة في هذه المسألة!  وكيف يتفقون في أمر لا أساس له.

ونحن لا نؤاخذهم كثيراً، والآية تنص أنهم ”وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ “ (سورة النساء ٤: ١٥٧). فكأنهم لما رأوا أنفسهم مضطرين إلى تفسير الآية، ولا تاريخ لهم يُعتمد عليه كيف شُبّه لهم، ولا تلميح إلى ذلك في الكتاب المقدس بل بالحري ما ينافيه كما تقدم، لجأوا إلى التخيُّل، فهام كل منهم في جهة تباين الأخرى، الأمور التي لم تتفق في ذهن الإمام، الذي أسفنا أنه بخل علينا بإعطاء فكرة من هذا القبيل، بل وقف كمتفرج في ساحة خوض أولئك بمراد الآية وتفسير نصّها “شُبِّه لهم” ثم قال إن “هذه الوجوه متعارضة متدافعة، والله أعلم بحقائق الأمور”. يعني أنه لا يقدر أن يقطع بصحة وجهٍ منها. جيد قولك هذا أيها الإمام، غير أن الله العالم بكل الأمور أعلن لنا حقيقة صلب المسيح الفادي.

وأقترح للإمام تفسيراً يُخرج المفسرين المسلمين من ورطتهم: 

جاء نفي الصَّلب في آية واحدة في القرآن، وهي النساء ١٥٧. فلمإذا يفسّرونها على أنها إنكار لوقوع حادثة الصَّلْب كحادثة تاريخية؟  لمإذا يقولون إن معناها هو إنكار الصلب؟  فما قتله إليهود وما صلبوه، لأن الله رفعه إليه في اليوم الثالث لصلبه. إذاً شُبّه لليهود أنهم صلبوه وأنهوا رسالته، لكنهم لم يفلحوا لأن المسيح المصلوب قام من الموت. لقد اتَّبع إليهود الظنَّ. وما قتلوه يقيناً. بل رفعه الله إليه بعزّته وقوته وحكمته.

ولو أن الإمام أعلن هذا التفسير لوفّر على رواة القصص الخيالية المتضاربة الكثير من الجهد الذي لا معنى له ولا فائدة فيه.

“إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ” (آل عمران ٣:  ٥٥).

التفسير:   في تفسير الآية مسائل يطول شرحها نأتي بأهمها: 

١          -           ”متوفيك” أي متمِّم عمرك، فحينئذ أتوفاك. فلا اتركهم حتى يقتلوك، بل أنا رافعك إلى سمائي.

٢          -           ”متوفّيك” أي مميتك. وهو مروي عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق. قالوا:  “المقصود أن لا يصل أعداؤه من إليهود إلى قتله ثم إنه بعد ذلك أكرَمَه الله بأن رفعه إلى السماء”.

ثم اختلفوا على ثلاثة أوجه: 

(أ) قال وهب:  توفي ثلاث ساعات ثم رُفع إلى السماء.

(ب) قال محمد بن إسحاق:  توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه.

(ج) قال الربيع بن انس:  إنه تعالى توفَّاه حين رفعه إلى السماء. قال تعالى:   “الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمُت في منامها”.

ثم يقول:   وبقي من مباحث هذه الآية موضع مشكل، هو أن نص القرآن دلَّ على أنه تعالى حين رفعه إلى السماء ألقى شبهه على غيره “ما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبِّه لهم”. ويورد على ذلك عدة إشكالات مستطيلة الكلام، نأتي بأهمها ملخصاً: 

٣          -           إنه تعالى كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يرفعه إلى السماء. فما الفائدة في إلقاء شبهه على غيره؟  وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟

٤          -           إذا أُلقي شبهه على غيره ثم إنه رُفع بعد ذلك إلى السماء، فالقوم اعتقدوا فيه أنه هو عيسى مع أنه ما كان عيسى. فهذا كان إلقاءً لهم في الجهل والتلبيس، وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى.

٥          -           إن النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وشدة محبتهم للمسيح عليه السلام، وغلوُّهم في أمره، أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً مصلوباً. فلو أنكرنا ذلك، كان طعناً فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد (ص) ونبوة عيسى، بل في وجودهما ووجود سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وكل ذلك باطل.

والجواب على الإشكال الثالث فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء، وما ألقى شبهه على الغير، لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء.

والجواب على الإشكال الرابع أن تلاميذ عيسى كانوا حاضرين وكانوا عالمين بكيفية الواقعة، وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس.

والجواب على الإشكال الخامس أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين، ودخول الشبهة على الجمع القليل جائز. والتواتر إذا انتهى في آخر الأمر إلى الجمع القليل لم يكن مفيداً للعلم. وبالجملة فالأسئلة التي ذكروها أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوه. ولما ثبت بالمعجز  القاطع صدق محمد (ص) في كل ما أخْبَر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحْتملة معارضة للنص القاطع، والله ولي الهداية (الرازي المجلد الثامن ٦٧-٧١).

وتفسيرها في البيضاوي هو:   “إني متوفيك” أي مستوفي أجلك ومؤخِّرك إلى أجلك المسمَّى، عاصماً إياك من قتلهم، أو قابضك من الأرض، أو متوفيك نائماً، إذ روي أنه رُفع نائماً، أو مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل أماته الله سبع ساعاتٍ ثم رفَعَه إلى السماء، وإليه ذهبت النصارى. و”رافُعك اليَّ” إلى محل كرامتي ومُقر ملائكتي (المجلد الأول ص ٢٠٩).

وتعليقنا:   نرى في هذه الآية وتفسيرها ثلاث نقط: 

١ - منافاة هذه الآية للنساء ١٥٧، ١٥٨ من حيث موت عيسى وعَدَمه. فإن مراد النساء ١٥٧ أن عيسى لم يُمت، بل رُفع حياً إلى السماء. ومفاد آل عمران ٥٥ أن الله أماته ثم أحياه ورفعه إلى السماء. فكيف وهما آيتان من عند الله، تنقض إحداهما الأخرى؟  سبحانه أن يأتي بمثل ذلك!

إن هذا التناقض البيِّن بين هاتين الآيتين يُلقي المسلم المخلص في مأزق. والقول في الوجه الأول من تفسير آية “متوفيّكَ” يعني متمم عمرك، لا يحرز  في عينيه شيئاً من الاعتبار كما لم يحرز  عند غيره من أهل العلم، كما رأيت في الوجه الثاني من تفسيرها، وذلك من وجهين: 

(أ) لأن كلمة وفاة وتوفي في اللغة لا تفيد أكثر من موت ومات.

(ب) لأن قائلي هذا القول قالوه عن إفلاس الفكر بسبب التناقض بين الآيتين، فقالوه أمَلاً بإقناع البسيط لا إقناعهم. فنطالب أهل القرآن إما بالإقرار بتناقض الآيتين وإما بيان عدمه، إن كان في حيّز  إمكانهم.

٢ - بقاء اإاشكالات الواردة في مباحث هذه الآية غير محلولة، لأن الإجابات عليها ليست دفعاً لها، بل بالحري تزيدها مكانة واعتباراً في عيني أهل الدراية والإنصاف. فكأني بالإمام إذْ أزعَجه عظيم حجَّتها وأنها غير قابلة للدفع والدحض - كما يلوح لك من كلامه الأخير في تفسير الآية، وكان هو آخذاً بشرح القرآن لفائدة أبناء دينه، رأى عاراً عليه عدم المجاوبة كليّاً، فأراد سدَّ الثغرة ولو بقشَّة، فقال ما قال كمجاوب حتى يُقال جاوب. ولعل ذلك منه على أمل قبوله عند بسطاء المسلمين وأطفالهم، لأن ما الضرر إذا حدثت معجزة رفع عيسى إلى السماء بدون إلقاء شبهه على غيره حدّ الإلجاء؟  (كأنه يعني بالإلجاء إلجاء الكافر إلى الإيمان بواسطة المعجزة الظاهرة لعينيه، أو الجاؤه إلى ترك ما كان قصده من إيذاء المسيح). وألا تكون هذه المعجزة أشبه بمعجزة تحويل نار إبراهيم إلى بردٍ وسلام (حسبما يقول القرآن)؟  فإذا كانت معجزة رفع عيسى إلى السماء بدون إلقاء شبهه على غيره لا تناسب لبلوغها حد الإلجاء، فكيف ناسبت معجزة تحويل نار إبراهيم إلى برد وسلام التي ألجأت قومه الكفّار إلى الكفّ عنه؟  وكيف ناسبت معجزات موسى في مصر لكفّ المصريين عن إيذاء بني إسرائيل وإلجاء فرعون إلى تخلية سبيلهم؟  إذاً قول الإمام:  “فإنه تعالى لو رفعه إلى السماء وما ألقى شبهه على الغير لبلغت تلك المعجزة إلى حد الإلجاء” هو قول عَبَث، وليس فيه شبه الدفع لذلك الإشكال.

وما أضعف كلامه كجواب عن الإشكال الرابع!  إن حضرته بهذا الجواب يحكم بصدق وإخلاص تلاميذ المسيح بقوله:  “إن تلاميذ عيسى كانوا حاضرين وكانوا عالمين بكيفية الواقعة وكانوا يُزيلون ذلك التلبيس”. يعني أنهم كانوا يقولون للقوم إن الشخص المصلوب والمقتول ليس هو عيسى بل شبيهاً به، ألقى الله شبه عيسى عليه، وكان ذلك بحضورنا وعلمنا. وهذا من أغرب التُهَم والإِفك!  فمتى وأين قال تلاميذ المسيح مثل هذا القول؟  وما البيان على ذلك؟  فيا أيها الإمام ومن قال بقوله، إن تلاميذ المسيح الأطهار ليس فقط لم يقولوا شيئاً مما تذكرون، بل هم كتبوا بوحي الروح القدس في إنجيل سيدهم المسيح بتفصيل وبيان خبر صلبه وقتله من إليهود بسلطة الحكومة الرومانية، ثم قيامته وصعوده إلى السماء، القصَّة التي هي محور كرازتهم باسمه، كما ترى ذلك في الإنجيل إن اردت.

٣ - إلقاء شبَه عيسى على غيره حتى يُظَنَّ أنه هو عيسى، فلا يشك إليهود أن المقتول هو عيسى، هو محض غشّ وكذب. هذا محال في الله المنزَّه عن الكذب. وإذا لم تُسمِّ هذا الأمر غشاً وكذباً، فمإذا تسميه؟

أما الجواب عن الإشكال الخامس، وهو الطعن بالتواتر، فهذا قد دحضناه في ملاحظتنا على الآية السالفة.

٤ - تخلَّص الإمام من هذه الإشكالات، بقوله:  “وبالجملة، فالأسئلة التي ذكروها تتطرق الاحتمالات إليها من بعض الوجوه. ولما ثبت بالمعجز  القاطع صدق محمد (ص) في كل ما أخبر عنه، امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنصّ القاطع. والله وليّ الهداية” (ص ٧١).

فالإمام إذ رأى ضعف أجوبته وأنها ليست حلاًّ لتلك الإشكالات، أحْوَجَتهُ الضرورة رغماً عن حكم تعقُّله أن يلجأ إلى قول ما قال، فأشبه بذلك على قول المثل “هرب من الدب فوقع في الجب”!

إن القول بثبوت صدق محمد بالمعجز  القاطع هو دعوى بلا برهان، كما سترى. فإذا كانت هذه الأسئلة مُحَتملة، كما يقرُّ الإمام، فهي معارضة لنصّ القرآن. وإذا كانت معارضة لنص القرآن يكون ذلك من وجوه عدم إعجازه. وإذا تبيَّن أن القرآن ليس بمعجز، سقط القول بثبوت صدق محمد بالمعجز  القاطع، لأن صدق محمد بادعائه النبوة متعلق حسب فكرهم على إعجاز  القرآن الذي أتى به (راجع الفصل الأول من كتابنا). فإذا بطل إعجاز  القرآن بطل كون محمد صادقاً في مدَّعاه. فكيف جاز  للإمام أن يجعل الدعوى بثبوت صدق محمد مانعاً لصيرورة هذه الإشكالات المحتملة معارضة للنص، ومحمد لا تقوم دعواه إلا بثبوت النص؟  ثم إذا تبيَّن أن القرآن ليس هو بالمعجز  القاطع، تتطرّق الاحتمالات إلى هذه الأسئلة المعارضة لنصِّهِ، ولوجود التناقض فيه، كما تبيّن الآية التي نحن في صددها والنساء ١٥٧ ولما فيه أيضاً من المناقضة والاختلاف والتكرار واللحن وإيضاح الواضح كما ترى في الباب الأول من هذا الكتاب، لا يبقى لمحمد أساس لتصديق دعواه بالنبوَّة، ولا في كل ما أخبر عنه. فيزول المانع الذي ذكره الإمام لصيرورة هذه الأسئلة المحتملة معارضة للنص.

ثم نقول:  إذا كان حسب زعمه أن القرآن معجز قاطع، فلا يكون فيه شيء يمكن معارضته، ولا يكون له حاجة أن يُسْنَد بصدق محمد، لأنه إذا احتاج إلى صدق محمد لمنع صيرورة تلك الأسئلة المُحْتملة معارضة لنصه، فلا يكون معجزاً. وإذا لم يكن معجزاً (كما قد تبيَّن) ولا معجزة لمحمد غيره، ضاعت من محمد البيِنة على صدق دعواه. وما ظني بالإمام يجهل هذه الأمور الأوليَّة. وإذا كان لا يجهلها فما باله يُنزل نفسه منزلة الجاهل بالتجائه في مثل هذه الحشرة إلى الدور الباطل، وهو أن يقيم القرآن بياناً لصدق محمد، ثم صدق محمد مانعاً لمعارضة القرآن بالأسئلة المحتملة؟!

أيعضد محمداً بالقرآن، ثم يعضد القرآن بمحمد، وهو لا يجهل أن ذلك شائع البطلان؟!

تذييل

إن حاصل ما أوردناه من الآيات وتأويلها في هذا الباب أن عيسى ابن مريم امتاز  عمن سواه من المخلوقات بتسعة أمور: 

١          -           كونه بدون أب.

٢          -           كونه كلمة من الله أو كلمة الله.

٣          -           كونه روحاً من الله.

٤          -           اسمه المسيح.

٥          -           كونه وجيهاً في الدنيا والآخرة.

٦          -           كونه كلَّم الناس وهو في المهد.

٧          -           خلقه حياً من لا حيّ.

٨          -           قيامته من الموت.

٩          -           رفعه حياً إلى السماء.

وسبب روحانيته ووجاهته أنه روح من الله، أي صدر من الله، وأنه سُمّي روحاً لأنه كان يحيي الأموات والقلوب. ووجاهته في الدنيا بسبب أنه كان مبّرأ من العيوب التي وصفه إليهود بها، وفي الآخرة بسبب كثرة ثوابه وعلو درجته عند الله تعالى. في الدنيا بسبب أنه يُستجاب دعاؤه ويحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص، وفي الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته.

هذه الامتيازات الخاصة بعيسى تدل على أنه شخص عجيب الطبيعة والمصدر، لا يُقاس به نبي ولا مرسل. فهل بعد كل هذا يُلام المسيحيون على إيمانهم بالمسيح حسب نص كتابهم أنه “ابن الله الحي”. ثم لأجل تتمَّة الفائدة ببيان المشابهة والمقاربة الكلية بين نص القرآن والإنجيل، وضعنا الجدول أدناه: 

 

“إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (آل عمران ٣:  ٤٥-٤٧).

“وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلَاكُ مِنَ اللّهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُلٍ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكُ وَقَالَ:   “سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! اَلرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ”. فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلَامِهِ، وَفَكَّرَتْ مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ! فَقَالَ لَهَا الْمَلَاكُ:   “لَا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لِأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللّهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْناً وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيماً، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الْإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى  إِلَى الْأَبَدِ، وَلَا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ”فَقَالَتْ مَرْيَمُ

 

لِلْمَلَاكِ:   “كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟” فَأَجَابَ الْمَلَاكُ:   “اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللّهِ” (لوقا ١:  ٢٦-٣٥).

“ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ” (آل عمران ٣: ٤٥) “وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ” (النساء ٤: ١٧١).تفسيرها:   القاها إلى مريم أوصلها إليها وحصّلها فيها.

“وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً” (يوحنا ١:  ١٤).

 

“عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ” (رومية ١:  ٣).

 

“وَهُوَ مُتَسَرْبِلٌ بِثَوْبٍ مَغْمُوسٍ بِدَمٍ، وَيُدْعَى اسْمُهُ “كَلِمَةَ اللّهِ” (رؤيا ١٩:  ١٣).

 

“وَرُوحٌ مِنْهُ” (النساء ١٧١).التفسير:   وذو روحٍ صدر منه.

“لِأَنَّ الْآبَ نَفْسَهُ يُحِبُّكُمْ، لِأَنَّكُمْ قَدْ أَحْبَبْتُمُونِي، وَآمَنْتُمْ أَنِّي مِنْ عِنْدِ اللّهِ خَرَجْتُ. خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الْآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ” (يوحنا ١٦:  ٢٧، ٢٨). “فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ:   “لَوْ كَانَ اللّهُ أَبَاكُمْ لَكُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي، لِأَنِّي خَرَجْتُ مِنْ قِبَلِ اللّهِ وَأَتَيْتُ “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ:   قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ” (يو ٨:  ٤٢، ٥٨).

وقيل سُمِّي روحاً لأنه كان يُحيي الأموات والقلوب.وُصِف أنه روح لأنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم.

“قَالَ لَهَا يَسُوعُ:   “أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا، وَكُلُّ مَنْ كَانَ حَيّاً وَآمَنَ بِي فَلَنْ يَمُوتَ إِلَى الْأَبَدِ... وَلَمَّا قَالَ هذَا صَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ:   “لِعَازَرُ، هَلُمَّ خَارِجاً” فَخَرَجَ الْمَيْتُ” (يو ١١:  ٢٥، ٤٣، ٤٤).

“وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ”في الدنيا لأنه كان مبرأ من العيوب التي وصفه إليهود بها، وبسبب أنه يُستجاب دعاؤه الخ....

“مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟ فَإِنْ كُنْتُ أَقُولُ الْحَقَّ، فَلِمَاذَا لَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِي؟” (يو ٨:  ٤٦). “فَخَرَجَ بِيلَاطُسُ أَيْضاً خَارِجاً وَقَالَ لَهُمْ:  “هَا أَنَا أُخْرِجُهُ إِلَيْكُمْ لِتَعْلَمُوا أَنِّي لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً” (يو ١٩: ٤).” وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى فَوْقُ، وَقَالَ:  “أَيُّهَا الْآبُ، أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي” (يو ١١: ٤١، ٤٢).

وفي الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته.

“مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، الَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ اللّهِ، الَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا” (رومية ٨: ٣٤).

“اسْمُهُ الْمَسِيحُ” (آل عمران ٣: ٤٥).”إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ” (النساء ٤: ١٧١).

“أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ” (لوقا ٢: ١١) “فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ:  “أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ الْحَيِّ” (مت ١٦: ١٦) “أَنَّ اللّهَ جَعَلَ يَسُوعَ هذَا، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً” (أع ٢: ٣٦)

ومن تفسير اسم المسيح قال أبو عمر بن العلاء “المسيح الملك”

“وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ:  أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ... فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ:  أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟” فَقَالُوا لَهُ:  “فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ” (مت ٢: ١-٥).

“وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي” (المائدة ٥: ١١٠).

“مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ”. قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الْأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِيناً وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الْأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ:  “اذْهَبِ اغْتَسِلْ... فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً” (يو ٩: ٥-٧).

“إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ” (آل عمران ٣: ٥٥).رُوي عن ابن عباس ومحمد بن إسحاق أنهما قالا:  متوفيك أي مميتك. ثم أقامه الله ورفعه إلى السماء. قال وهب:  “توفي ثلاث ساعات ثم رُفع إلى السماء”. وقال محمد بن إسحاق:  “توفي سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه إلى السماء”.

“وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا... فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضاً بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَكَانَتِ السَّاعَةُ الثَّالِثَةُ فَصَلَبُوهُ. فَصَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. وَنَادَى يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ:  “يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي”. وَلَمَّا قَالَ هذَا أَسْلَمَ الرُّوحَ. فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ” (مت ٢٧: ٣٥، ٥٠ ومر ١٥: ٢٥، ٣٧ ولو ٢٣: ٤٦ ويو ١٩: ٣٣).“فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ الْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ ههُنَا، لِأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ.  أَنْتُنَّ تَطْلُبْنَ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ الْمَصْلُوبَ. قَدْ قَامَ! لَيْسَ هُوَ ههُنَا:  لِمَاذَا تَطْلُبْنَ الْحَيَّ بَيْنَ الْأَمْوَاتِ؟ لَيْسَ هُوَ ههُنَا لكِنَّهُ قَامَ” (مت ٢٨: ٥، ٦ و مر ١٦: ٦ ولو ٢٤: ٥، ٦).

“وَأَخْرَجَهُمْ خَارِجاً إِلَى بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ” (لوقا ٢٤: ٥٠-٥٢).

“لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الْأَرْضِ” وَلَمَّا قَالَ هذَا ارْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ. وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى السَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا رَجُلَانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالَا:  “أَيُّهَا الرِّجَالُ الْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ إِلَى السَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هذَا الَّذِي ارْتَفَعَ عَنْكُمْ إِلَى السَّمَاءِ سَيَأْتِي هكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ مُنْطَلِقاً إِلَى السَّمَاءِ”. حِينَئِذٍ رَجَعُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ مِنَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الّزَيْتُونِ، الَّذِي هُوَ بِالْقُرْبِ مِنْ أُورُشَلِيمَ عَلَى سَفَرِ سَبْتٍ” (أعمال ١: ٨-١٢).

هل وجدت المُقاربة المعنوية والموافقة الجوهرية بين حقلَي الآيات في هذا الجدول، وهل رأيت فيهما من عظمة المسيح وسمو شأنه ما يسمو جداً عن مقام أنبياء الله ومرسليه، وإن تفسير الآيات المدونة في هذا الباب، وإن لم تصِب الغرض تماماً فقد قرَّبت الذهن إلى نقطة الصواب، وإن آيات الإنجيل بخصوص المسيح تفسّر امتيازاته القرآنية لأنها هي الأصلية؟الخاتمة

إذ بلغت نهاية المطلوب من شهادة القرآن للتوراة والإنجيل، وما حوى من دليل على لاهوت المسيح، أوجِّه كلام الإخلاص إليك أيها المسلم المخلص الدائب على القرآن الملازم المسجد الذي لا يهمك سوى مرضاته تعالى، آملاًأان تصغيإاليَّ، ثم احكم فيه لنفسك. فها قد رأيت ما ذكرناه من صريح شهادة القرآن للتوراة والإنجيل الكائن بيد إليهود والنصارى، وكيف أجمع أشهر علمائكم الراسخين على سلامته من التحريف والتبديل لبلوغه مبلغ التواتر في الشرق والغرب. أما مراد الآيات كآية “ولا تُلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون” وآية “يحرّفون الكلام عن مواضعه” إلى نحو ذلك من الآيات المتقدمة إنما هو تشويش الدلائل على السامع بإلقاء الشبهات الباطلة، ومنع غير السامع من الوصول إلى تلك الدلائل، ووضع الباطل موضع الصحيح تحريفاً باللسان لا بالكتاب، كما في مسألة يهود خيبر المتقدم ذكرها. وإذا قلتَ إن التحريف اللفظي وقع في الكتاب بعد محمد والقرآن، أقول ذلك لا يمكن البتة لاتساع دائرة التواتر، ولكونه بيد كل فريق وشيعة من الفرق النصرانية بلُغتها الخاصة، ولوقوف الأخصام لهم بالمرصاد، ولاقتباس كتب المناظرة والمجادلة العديدة بآياته، الأمور التي لا تدع سبيلاً إلى ذلك.

وإذا كان في أثناء نحو ستة قرون (أي من عهد المسيح إلى ظهور محمد) لم يقع التواطؤ على تحريفه، فهل يمكن تحريفه بعد ذلك؟  كلا!  وقد علمت عدم جواز  الطعن في التواتر، لأن ذلك يوجب الطعن على ما قال علماء المسلمين في نبوة محمد ونبوة عيسى بل في وجودهما ووجود سائر الأنبياء.

فإذا كان الكتاب سليماً من شائبة التحريف والتبديل كما قد تبيَّن لك، مإذا يترتب عليك كإنسان يروم الحق إلا أن تسلِّم وتؤمن بصحة ما قد جاء فيه بخصوص عيسى المسيح كابن الله، وموته بالجسد فداءً عن الإنسان، لأن الاعتقاد بانزال الكتاب وسلامته موجبٌ لقبول ما جاء فيه. وكأني بكَ في موقف الحيرة لا يسعك إنكار سلامة الكتاب، ولا قضية غاية التوراة وروح النبوة ومفاد الإنجيل. ومن جهة أخرى ترى صعوبة التسليم بمسألة غاية في الغرابة ومنكرة من القرآن. وإني أحسّ معك بهذا الضيق الذي قد يصيب كثيرين ممن يبلغون مثل هذه النقطة الخطيرة وهم شديدو التمسك بما ورثوه من أسلافهم من العقائد المنافية لها. بيد أني أرجوك استغراق تأملك في ما تقدم في البابين الخامس والسادس ببصيرة خالية من شائبة الغرض.

إن البيت بأساسه، وكل بيت بلا أساس يدركه عاجل الخراب. فما تقدَّم في الباب الخامس أساس راسخ لما أُدرج في الباب السادس، فكان هو أولى أولاً بالنظر. لقد رأيت في هذا الباب الأساسي أمرين خطيرين:

١ - إن إسحاق ويعقوب هما أبوا النسل المبارك لإبراهيم.

٢ - الله خصَّ ذلك النسل بالنبوة والكتاب.

أرأيت كيف أن إسحاق ويعقوب هما هبة الله لإبراهيم، كأنه لم يُرزق سواهما، مع أنهما مسبوقان بإسماعيل وعيسو، وأنهما مع إبراهيم أبيهما “أولي الأيدي والأبصار” كأن لا سواهم في عصرهم ذوو علم وعمل، وأن كل الآيات في هذا الباب دلَّت على أن غاية الله العظمى هي في نسل إسحاق ويعقوب. ثم لقد رأيت هناك تقصير المفسرين عن بلوغ كنهِ الحقيقة البادية في تلك الآيات، رغم رغبتهم في المصادقة على تفضيل الله لبني إسرائيل على العالمين. وأحياناً كأنه على غير انتباه يرجع تفسيرهم إلى تأييد هذه الحقيقة. أما أولئك المفسرون فقد مضوا، وآيات القرآن هذه لم تزل هي هي. ولا ريب أن الله أبقاها شاهدة لتفضيله نسل إسحاق ويعقوب على العالمين، بما قد أولاهم وخصَّهم من النبوة والكتاب. ومن المعلوم أن الكتاب الموروث من الله تعالى لبني إسرائيل حسبما جاء في سورة غافر ٤٠: ٥٣، والمحفوظ منه على الدوام كما أُعطي لهم، يشتمل على ذلك الوعد الأسنى لكلٍّ من إبراهيم وإسحاق ويعقوب بدوره “أن بنسلك تتبارك جميع الأرض”. وهذا لا يصدق الا على المسيح فادي العالم نسل يعقوب المبارك الذي قد انبأت عنه أنبياء الله وأوسعوا في وصفه ومدحه كبركة الله للأمم ونور العالم. وكلا الإنجيل والقرآن على وفاق أن المسيح جاء بركة ورحمة للعالم.

وما ذكرناه في الباب السادس شُيّد على ذلك الأساس، وهو أن كلمة الله المُبشر بها مريم هي ذات كائنة قبل الحبل بها في مريم، وهي من الله، وجوهرٌ إلهي حَلّ في أحشاء مريم وتأنس منها، وهو علّة كيان المسيح بدون آب. وأن ما جاء في القرآن من نسب المسيح وصِفَتهِ ككلمة الله وروح منه ونوع ولادته الغريب وأعماله العجيبة هي إشارات إلى لاهوته العجيب.

أما مفسرو المسلمين فقد أجمعوا على إبعاد عيسى عن حقيقية ذاته العجيبة المشار إليها في آياته والمُعلنة في إنجيل الله، محاولين خفض نور نَسَبه، لتجريده من لاهوته الأزلي. بيد أنه ليس من شأن العاقل الحر تقييد عقله بتفسير المفسرين، بل استعمال بصيرته في فهم المعاني التي تؤدي إليها الألفاظ على الوجه الأقرب. وأنت ترى أن من هؤلاء المفسرين من قَرُبَ جداً إلى نقطة المعنى الصحيح، ومنهم من بَعُدَ عنه، ومنهم من كان بين بين، مع أنهم في تفسيرهم الآيات كانوا كأنهم يحومون حول غاية واحدة وهي إنزال المسيح كلمة الله وروحه منزلة بقية أنبيائه ومرسليه، غير مراعين ما بتلك الآيات من امتيازاته النسَبيَّة وصفاته السنيَّة التي تخوّله وحده مقاماً أسمى من مقام أي نبي أو مُرسَل سواه، لأنه من البعيد أن العاقل المدرك يقتنع بتفسيرهم وهو يرى لعيسى مثل هذه الامتيازات العجيبة التي لم يحرزها سواه.

فهل يجدر بعد كل هذا البيان إغماض بصيرتك النيّرة بعصابة الغرض، حتى لا ترى من خلال هذه الآيات مجد ابن الله؟  فإن فعلت ذلك كنت لنفسك ظالماً ولله عاصياً!

ثم لدى المقابلة ما بين آيات القرآن في هذا الباب وآيات الإنجيل بخصوص المسيح ترى نوعاً من الموافقة - فالقرآن يصادق الإنجيل في بعض خصائص المسيح وأوصافه موافقة تكاد تكون حرفيَّة، ويوافقه في البعض الآخر موافقة معنويَّة كما قد رأيت فيما مرّ. أما مصادقته للإنجيل من جهة المسيح فهي من حيث ولادته على خلاف العادة الطبيعية، وإجرائه المعجزات كإحياء الميت وابراء الأكمه والأبرص ووجاهته في الدارين وموافقته له في نسبة المسيح لله ككلمة الله وروح منه. وهو يماثل نسبته في الإنجيل لله ككلمة الله وابن الله. فترى أن الفرق واقعٌ في التعبير والتسمية لا في الحقيقة والمعنى، وهي في المكانين عجيبة غريبة، تريك رفعة شأن المسيح فوق كل مخلوق. وزد على ذلك أن القرآن والحديث زادا الإنجيل في وصف جلال المسيح، فالقرآن يقول إنه كلم الناس في المهد، وإنه كان يخلق من الطين طيراً. والحديث يقول إنه يوم وُلِد المسيح نُكِّسَت أصنام الدنيا، وانه ما وُلد لآدم إلا ونخسه الشيطان حين ولادته، فيصرخ مستهلاًّ من نخسة الشيطان، إلا عيسى ابن مريم وأمه، وأن إبليس حاول مساواته بباقي البشر من هذه الحيثيَّة فارتد خاسياً لأن جيش ملائكة الله المحيط بالطفل المبارك لم يدَعْه يقرب منه (انظر كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي المجلد الثالث ص ٣٧).

ألا ترى أن هذا الشخص الممتاز  هكذا عن كل البشر بامتيازات غريبة عجيبة هو شخص فوق العادة؟  وألا ترى أنه ليس بدون داعٍ موجب وسببٍ خطير خرق الناموس الطبيعي بولادته من دون أب؟  أيأتي الله أمراً عجيباً بلا داعٍ؟  فما ذلك الداعي يا ترى؟  والقول “مثله مثل آدم” كلاهما من دون أب ليس هذا جواب السؤال، لأن الإنسان الأول لا بد أن يكون بغير أب، لكن ما الداعي لأن يكون المسيح بدون أب؟  لابد من علةٍ كبرى لخروج ولادة المسيح عن السنَّة الطبيعية. وأن اقتران ولادته العجيبة مع نسبه السَنيّ وتسميته تعلن عن سرٍ خطير في شخص عيسى المسيح. وهل حقاً لا يتوق قلبك للاطلاع على ذلك السر؟  وإذا تقتَ إلى ذلك فأين تجد بيانه؟  أفي القرآن؟  كلا. صحيح أن القرآن أراك شيئاً نفيساً من مجد المسيح، لكنه لم يكشف لك عن بهاء كماله ولا أراك حقيقة ذاته، فكأنه بذلك أوْصلك إلى باب السر ولم يفتحه لك، بل تركك هناك تعاني الشوق!

هذا ما علَّمه القرآن بخصوص عيسى المسيح، فإنه قصّ عليك من غرابته وصفاته وأعماله ما أخذ معظمه من الإنجيل، وقطع عنك أهمّ نقطة، وهي سبب غرابة ولادته وسرّ نَسَبه واسمه، وعجيب مقدرته وعلو منزلته. فكأنه اطلعك إلى نصف البئر وأوقفك هناك، لا يطلعك ولا يُنزلك. غير أنه لم يبخل عليك بالدلالة على الكتاب الذي منه أخذ، وهو الإنجيل (النحل ٤٣ والأنبياء ٧ ويونس ٩٤).

إذا كنت مؤمناً بإنزال هذه الآيات وترى التزامك بها، مع ما قد علمت من سلامة التوراة والإنجيل اللذين غايتهما ومفادهما ابن الله المتأنس وفادي الخطاة بدمه. وأنك ولا بد رأيت بين تلك الآيات ونص الكتاب وفاقاً من جهة المسيح أعظم كثيراً مما بينها وبين تفسير المفسرين المذكورين، فما موقفك؟

هل تعتبر المسيح أرفع قدراً وأسمى شأناً من كل المخلوقات، فتبادر إلى مطالعة كتابه بالخشْيَة والضراعة لتعلم العلم الصحيح عن المسيح المتفرّد في ميلاده، الغريب في نسَبه، والذي لم يكن لإبليس سبيل إليه، المدعوّ في القرآن “كلمة الله وروح منه” وفي السنّة “روح الله” (الإمام الغزالي الجزء الثاني ص ٣٩٥ والجزء الثالث ص ١٢٩).

ومن أعظم من روح الله؟  ومن يكون هذا الناطق في المهد؟  من يكون هذا المقتدر على إحياء الأموات والقلوب حسب تأويل البيضاوي؟  (المجلد الأول ص ٣١٩) (يعني الأجساد والأرواح). ومن يستطيع ذلك سِوَى ربك القدير أو روحه القدوس؟  من يكون هذا الخالق الحي من الجامد؟  (طيراً من طين). أليس ذلك عمل الله في خلق آدم؟  من يكون هذا الذي لم يُذكر له عيب ولا إثم وليس له في القرآن استغفار ما، ولا أن الله تاب عليه أو غفر له (كما ذُكِر عما سواه من مشاهير الأنبياء)؟  من يكون هذا الذي لم يستطع الموت أن يمسكه ولم يكن للفساد سبيل إليه، بل قام على قول ابن وَهَب بعد توفيه بثلاث ساعات، وعلى قول محمد بن إسحاق بعد توفيه بسبع ساعات، ورُفع إلى الله بنفسه وجسده؟  من يكون هذا الذي سوف يأتي أيضاً ويقتل الدجَّال ويهلك بدعائه جيوش آجوج وماجوج (انظر حديث مسلم الجزء الخامس ص ٤١٤-٤١٧)؟  من يكون هذا الذي لم يحفل بالدنيا بل كان آية العفاف الطهر، ولم يقاوم الشر بل عاش محسناً صفوحاً خيّراً موصيّاً بحب الأعداء والإحسان للمُسيء ودعاء الخير للمضطهد الباغي، وإبداء الخير والمعروف للجميع اشراراً وصالحين؟  ألا إنه فوق البشر جنساً ورتبةً!

فهل نجرؤ على اعتباره مجرَّد إنسان، أو كأحد الأنبياء والمرسلين؟  كلا!  أالله يُرفعه وأنت تخفضه؟  أيدعوه كلمته وابنه (وحسب القرآن وروحه) ويظهر سناء هذه النسبة والمنسوب بما أولاه من قدرة الخلق وإحياء الأجساد والقلوب، وأنت تنزله منزلة عبدٍ ومرسَل؟  أَلا أن ذلك مقاومة لوحي الله وتنزيله!  وما جزاء من يقاوم الله؟

ثم أرجوك أن تتأمل قليلاً في فاتحة قرآنك ممعناً النظر في القول: “واهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالّين”. وابحث في مراد النص. الصراط المطلوب أن نهتدي إليه هو سبيل عبيد الله الأولين من أنبيائه وأوليائه الذين أنعم الله به عليهم.

ومن المعلوم أن بعض هؤلاء كان قبل بني إسرائيل كنوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب، وأكثرهم من بني إسرائيل الذين أعطاهم الله كتابه، وإن شئت فقُل صراطه أو سبيله، وهو يوافق الآية:  ”يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ” (البقرة ٢: ٤٧). كيف لا وقد أعطاهم كتابه، وكثّر منهم الأنبياء، حتى أقام منهم سيد الأنبياء والمُرسَلين، مسيح الله كلمته وابنه الوحيد (وحسب القرآن وروح منه).

أما بموجب البحث النقلي، فإنك تجد في المجلد الأول للإمام الفخر الرازي تفسيراً متنوعاً لهذا النص من عدة مصادر.

قال:  إن لتفسير هذه الآية وجوهاً. (نأتي ببعضها على سبيل الإيجاز):

١          -           ”إن الصراط المستقيم هو تحمُّل المشاق العظيمة لأجل مرضاته تعالى”. ويعضد ذلك بحكاية عن نوح أنه كان يُضرَب في كل يوم عدة مرات حتى يُغشى عليه. وكان يقول في كل مرَّة: “اللهمَّ اهدِ قومي”.

٢          -           هو العدل في الأمور أو الخط المتوسط بين الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال.

٣          -           معناه عرّفنا يا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك.

٤          -           اهدنا صراط من أنعمتَ عليهم من المتقدمين المُحِقّين المستحقين للجنة” وهم الأنبياء والصالحون. وأن نعمة الله على أولئك هي نعمة الإيمان، فمعنى قوله “اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين انعمت عليهم” أنه طلب نعمة الإيمان.

لقد أُمر محمد بطلب الهداية إلى إيمان وسيرة المتقدمين من أنبياء الله واتقيائه. ومن المعلوم أن أصول إيمان أولئك القدماء المنعم عليهم من الله مُدوَّنة في أسفار الكتاب المقدس المنسوبة إليهم، كأسفار موسى وصموئيل وداود وإشعياء وإرميا وغيرهم من رجال العهد القديم، وأسفار الإنجيل. فقد تبيَّن إذاً بجلاءٍ من كلا البحثين في مراد الآية المذكورة أن الصراط المستقيم الذي أُمِر محمد وتابعوه بطلب الهداية إليه هو الكتاب المقدس، صراط الذين أنعم الله عليهم من الأنبياء والأبرار السالفين، وهو يوافق تماماً نص الآية: ”وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ” (غافر ٤٠: ٥٣-٥٤) (والآية) ”ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ” (الأنعام ٦: ١٥٤).

وهنا أسألك: هل زال صراط الأنبياء السالفين أم هو باقٍ؟  فإن كان زالَ، فطلب الهداية إلى ما قد زال عبث!  وإن كان باقياً، فأين هو إلا عند أهله إليهود والنصارى الذين أمر الله محمداً بسؤالهم لإزالة شكّهِ!  وأيّ فرقٍ بين القول ”وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ” (آل عمران ٣: ٢٠) وبين الذين أوتوا الصِراط، لأن الصراط في الآية يراد به معرفة الله أو الإيمان به بحسب حق ذاته وصفاته، وهو السبيل إلى الله وجنّته. وهذا هو مضمون الكتاب الذي هو هدىً وذكرى لأولي الألباب. فإن كان هذا الصراط المستقيم كتاب العزيز  الرحمان الذي أنزله على أنبيائه ومرسليه الأقدمين، وأورثه لبني إسرائيل، باقياً غير مثلوم - كما قد تبيَّن لك بالكفاية فيما تقدم في هذا الكتاب، فلمإذا تتأخر عن طلب الهداية منه؟

المسابقة لمنار الحق

أيها القارئ العزيز،

إن تعمقت في قراءة هذا الكتاب تستطيع أن تجاوب على الأسئلة بسهولة. ونحن مستعدون أن نرسل لك أحد كتبنا الروحية جائزة على اجتهادك. لا تنسَ أن تكتب اسمك وعنوانك كاملين عند إرسال مسابقتك إلينا.

١          -           ما هي المعجزة التي جاء بها محمد؟

٢          -           بمإذا يفسر الإمام الفخر الرازي عدم قيام محمد باجراء معجزة من جنس معجزات موسى وعيسى؟

٣          -           ما هو تعليق صاحب الكتاب على دفاع الإمام الرازي في عدم إجراء محمد معجزات؟

٤          -           ما هو تفسير الإمام الرازي لآية البقرة ٢٥٦ “لا إكراه في الدين”؟

٥          -           ما هو تعليق صاحب الكتاب على سورة يونس ٩٩، ١٠٠ “أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين”؟

٦          -           قدم ملخصاً للتذييل الذي أورده صاحب الكتاب في نهاية الباب الثاني؟

٧          -           ما رأي “أبو مسلم بن بحر” في النسخ؟  وما هي أسباب النسخ في رأي معظم المفسرين؟

٨          -           مإذا يقول المفسرون عن تبديل آية مكان آية، كما جاء في النحل ١٠١، ١٠٢؟

٩          -           ما هو مفهوم سورة البقرة ١٧٤ من جهة اتهامهم بتحريف إليهود للتوراة؟

١٠        -           ما معنى ليّ الألسنة الوارد في آل عمران ٧٨ والنساء ٤٦؟

١١        -           كيف فضّل الله بني إسرائيل على العالمين؟  (البقرة ٤٧)

١٢        -           لمإذا استجاب الله دعاء إبراهيم بأن وهبه إسحاق ويعقوب (الأنعام ٨٤ ومريم ٤٩ والعنكبوت ٤٩) - ولم يقل إنه وهبه إسماعيل وإسحاق؟

١٣        -           قال بعض مفسري القرآن إن الذبيح هو إسحاق - من هم، ولمإذا قالوا بذلك؟

١٤        -           وقال بعض مفسريه إن الذبيح هو إسمعيل - من هم، ولمإذا قالوا بذلك؟

١٥        -           ما معنى لقب “المسيح” حسب رأي المفسرين المسلمين؟

١٦        -           ما هو تعليق صاحب الكتاب على تفسير مفسري القرآن للقب “المسيح”؟

١٧        -           من هو الروح القدس، بحسب رأي مفسري القرآن؟

١٨        -           ما هو تفسير علماء المسلمين للقول “وشُبِّه لهم”؟ ومن قالوا إنه الشبيه؟

١٩        -           ”ما لهم به من علم إلا اتّباع الظن” كيف يظهر هذا في تفسير علماء المسلمين لسورة آل عمران ٥٥؟

٢٠        -           ما هي الإشكإليهات الخمسة التي يقدمها الإمام الرازي لفكرة “إلقاء الشبه”؟  وما هو تعليق صاحب الكتاب عليها؟

الصفحة الرئيسية