أخَوان من كردستان

قصتا اهتداء من سلسلة: «أبناء الشرق يلتقون بالمسيح»

الدكتور سعيد وأخوه


أخَوان من كردستان. الدكتور سعيد وأخوه . الطبعة الأولى . 1993. English title: Two Brothers from Kurdistan. German title: Zwei Brüder von Kurdistan.

مقدمة

هذه قصة اهتداء أخوين مسلمين، هما محمد وسعيد، من كردستان إلى المسيحية، وقد اقتبسنا معظم حوادثها من كتاب بعنوان «دكتور سعيد من إيران» الذي كتبه «جاي رسولي بن محمد رسولي». يسرنا أن نضيفها إلى مجموعة القصص التي سبق أن نشرناها عن المهتدين إلى المسيح من مختلف البلاد الإسلامية.

وكثيراً ما جاء السؤال: «لماذا يصعب ربح المسلمين للمسيح، ولماذا نرى الكنيسة ضعيفة في معظم البلاد الإسلامية؟» وللإجابة على ذلك نقول إن الإسلام هو الديانة الوحيدة التي جاءت بعد المسيح، والتي تعترف أن المسيحية كانت ديانة عظيمة في وقتها، ويدَّعي أنه صار الدين الحقيقي الوحيد للعالم. ويعتقد المسلمون أن الله واحد، لكنهم يرفضون أن يدعوه «الآب». ويعتقدون أنه أرسل أنبياء كثيرين إلى العالم قدموا للبشر شرائع إلهية وأرشدوه إلى الطريق السوي، وأعظمهم نوح، وإبرهيم، وموسى، والمسيح ومحمد. ويعتقدون أن الله أنزل كتباً لبعض الأنبياء، مثل توراة موسى، وزبور داود، وإنجيل المسيح، لكنهم يعتبرون أن هذه الكتب لم تعُدْ ضرورية بعد أن أعطى الله إعلانه الكامل لمحمد. ويعترف القرآن بولادة المسيح من مريم العذراء، لكنه ينكر بنوَّته الإلهية. ويشير إلى معجزات المسيح في الشفاء. ويعترف المسلمون عامة أن المسيح وُهب قوة من الله لإقامة الموتى. لكن القرآن ينكر موت المسيح على الصليب، ويزعم أن واحداً من أعداء المسيح أو من أصحابه تغيّر بقوة الله إلى شكل المسيح فـ «شُبِّه لهم» وصُلب خطأ عوضاً عنه. ويقول إن المسيح رُفع حياً إلى السماء حيث هو اليوم. ومن الزعم المسلَّم به عند المسلمين أن المسيح في الإنجيل تنبأ عن مجيء محمد، وأمر أتباعه أن يقبلوه عندما يأتي. ولكن حيث أنه لا توجد إشارة إلى محمد في الكتب المقدسة المسيحية، لذلك يتهم المسلمون المسيحيين بجريمة تحريف كتبهم المقدسة، لأن النبوّات عن مجيء محمد قد حُذفت، وأُضيفت عبارات عن المسيح كابن الله، وعن صلبه وقيامته من الأموات.

وأغلبية المسلمين في بلاد مثل إيران، وإن كانوا يعترفون بالمسيح كنبي صالح وعظيم جداً، إلا أنهم يقولون إن محمداً هو خاتمة الأنبياء وأعظم المرسلين قد أخذ مكانه. ويقولون لا نريد «أن نرجع إلى الوراء» ونصبح أتباع المسيح، بل على عكس ذلك يجب على أتباع المسيح أن يطيعوا أمر سيدهم و «يتقدموا إلى الأمام» ويقبلوا محمداً والقرآن.

والإسلام ليس ديناً فقط بل هو أسلوب حياة، فيه تتوحد كل العناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية. بل حتى عندما يقتنع مسلم أن المسيح هو المخلّص الوحيد يصعب عليه أن يعترف بإيمانه علناً ويقطع علاقته بمجتمعه السابق.

وبالرغم من هذه الصعوبات التي تبدو مستحيلة في اهتداء المسلمين، يوجد مئات كثيرون من أعضاء الكنائس المسيحية في إيران ممن كانوا في الأصل مسلمين، أو هم أبناء مسلمين اهتدوا إلى المسيح بنعمة الله وقدرته، وبعضهم يخدمون الكنائس بأمانة كرعاة ومبشرين، وأسقف الكنيسة الأنجليكانية يحتفظ باسمه المسلم للدلالة على أنه من الممكن في إيران أن يعترف المسلم علناً بإيمانه بالمسيح وأن يخدمه بجرأة وشجاعة. لكن الحرية التي ينعمون بها اليوم، شأنها شأن الحرية الدينية في أية بلاد أخرى، لم تأتِ عفواً بدون شجاعة وآلام. فقد استخدم الله شهادة الأوفياء أمثال الأخوين اللذين نذكر قصة اهتدائهما للمسيحيين في هذا الكتاب، مع سائر العوامل الأخرى ليأتي بكثيرين من المسلمين إلى حظيرة المسيح، الراعي الصالح الذي بذل نفسه عن الخطاة.

وهذا ما نرجوه للقارئ الكريم.

الناشرون

في شمال غرب إيران يقع إقليم في الطرف الشرقي من هلال يُدعى «كردستان» يجاور شمال العراق وجنوب شرق تركيا، يسكنه شعب الأكراد، وهم من سلالة الآريين الذين احتفظوا إلى حدٍ كبير بصلات القبيلة واللغة والعادات. وهم سلالة صلبة قوية، اشتهروا في الماضي بكرم الضيافة والتعصّب الديني والخصال الحربية. والجزء الخاص من كردستان الواقع في إيران هو أحد الأقاليم الأربعة عشر الرئيسية التي تتكوّن منها إيران. وهو يقع في قلب سلسلة جبال الزغروف التي تجاور العراق. وهي أرض رائعة الجمال تكسو الثلوج قممها، وتجري فيها روافد وأنهار تعجّ بالمياه، وتتخلّلها أوديةٌ خضراء تكلّلها أزهار ونباتات الربيع. والمدينة الرئيسية في كردستان هي «سناج» (أو سنّة كما يلفظها العامة) وهي عاصمة الإقليم، ومركز التجارة للقرى المجاورة، يلتقي فيها علماء الإسلام وأساتذة الفقه.

في هذه المدينة المتعصِّبة، في القرن التاسع عشر، سكن رجلٌ اسمه «رسول» مع عائلته في بيت صغير يتكوَّن من ثلاث غرف. وكان هو السابع في عائلةٍ اشتهرت بولائها للإسلام، ولذلك كانوا يدعونه «رسول المُلاّ» (ومعناه الإمام رسول). وكان مصدر رزقه هو وعائلته كتابة صلوات للمرضى، كما كان يعالج كل أنواع المرض، ويلقِّن المشرفين على الموت كيف يجيبون الملاكين عندما يحضران لاستجوابهم حسب تعاليم الإسلام، ويعلّم أهل بلده أصول دينهم ومعتقداتهم. وكان يدير مدرسة تضم نحو عشرين أو ثلاثين صبياً يعلّمهم الفارسية والعربية. وكان يؤمُّ الصلاة يومياً في مسجد القرية، ويذهب بين حينٍ وآخر لزيارة مستعمرة للبُرص خارج المدينة غير خائف من العدوى، كما كان يعزي البؤساء في محنِهم.

كان للمُلاّ رسول وزوجته ثمانية أولاد، مات أحدهم بعد الآخر ولم يبقَ منهم سوى اثنين: أكبرهما محمد، والثاني سعيد الذي يصغر محمداً بثمانية أعوام. وحسب التقاليد والعادات الكردية كان سعيد الأصغر لا يخاطب أخاه محمد بالاسم، بل يدعوه «خاخا» أو «الأخ» باللغة الكردية. وتبعاً لذلك عندما انتقلا إلى منطقة أخرى لا يعرف أهلها اللغة الكردية، وكانوا يسمعون سعيداً يدعو أخاه «خاخا» حذوا حذوه، فكان كل واحد يعرفه باسم «خاخا». ولهذا السبب سنُطلق عليه هذا الاسم. ومع أنهما أخَوان شقيقان، إلا أننا نرى فرقاً كبيراً في اسميهما، لأنه في تلك الأيام الخالية كان لكل إنسان اسمٌ واحد. ولكن عندما تقدم الأخَوان في العمر، طلبت الحكومة من كل رعاياها أن يختاروا اسماً للعائلة، فاختار خاخا اسم والده، بينما اختار سعيد اسم الإقليم الذي يسكنه، وأضاف كل واحد ياء النسب للدلالة على الأصل، فأصبح اسم الأخوين: محمد رسولي وسعيد كردستاني.

وفي عام 1876 مات المُلاّ رسول تاركاً ابنه «خاخا» البالغ الحادية والعشرين من العمر رئيساً للعائلة. وكان عمر سعيد 13 سنة وقتئذ، لكنه كان قد اكتسب إلماماً مدهشاً باللغتين الفارسية والعربية، كما كان يعرف القرآن معرفة جيدة، حتى أن الناس الذين اجتمعوا في حفل تأبين المُلاّ رسول خلعوا على سعيد لقب «المُلاّ» واختاروه خلَفاً لأبيه للتدريس في المدرسة. وإذ صار خاخا رئيساً للعائلة أصبح مسؤولاً عن إعالتها، لذلك ترك مواصلة دراساته، وصار يكتسب قوته وقوت العائلة من تلاوة القرآن علَناً في الأضرحة وعند القبور.

كان خاخا وسعيد من المسلمين الغيورين في معقل التعصب حيث كانا يسكنان، فكانا يواظبان بكل أمانة واجتهاد على الصلاة في المساجد، وعلى ممارسة فروض الصلوات الخمس يومياً، وفي الصوم قطعياً عن الطعام والشراب من الفجر إلى الغروب مدة شهر رمضان، كما تتطلب الشريعة الإسلامية.

وفي عام 1834 كان قد جاء إلى إيران مرسَلون بروتستانت للعمل بين الأشوريين في مدينة يروميا (اسمها الحالي رصيخ) الواقعة في الركن الشمالي الغربي من البلاد. وفي خلال أربعين عاماً من العمل المرسلي رسَّخت الحركة البروتستانتية أقدامها في يروميا ومجاوراتها بكنائس ومدارس في المدينة والقرى المجاورة. وتدرَّب قسوسٌ ومعلّمون، وصاروا يرسلون مبشرين وموزعي كتب مقدسة إلى المدن الأخرى.

وفي عام 1879 (لما كان عمر خاخا 24 وعمر سعيد 16) وصل إلى مدينة «سناج» القس يوحنا مع اثنين من موزعي الكتاب المقدس لتوزيع الكتب المقدسة وليشهدوا للإيمان المسيحي. وكان الموزِّعان ينويان قضاء فرصة قصيرة للزيارة، أما القس يوحنا فكان قد عزم على البقاء مدة طويلة، لأنه كان يريد أن يحسِّن معرفته باللغة الفارسية. فأخذ يبحث عن معلّم، فقدَّموا له «سعيداً». وبعد أن أخذ سعيد أذناً من خاخا بوصفه رئيس العائلة قبِل المهمة، وكان الكتاب المقرر للدراسة هو الكتاب المقدس.

ومنذ البداءة صار سعيد يلاحظ أخلاق هؤلاء الرجال الثلاثة، لأنه سمع كثيراً من الأوصاف المحقِّرة للمسيحيين، بدرجة جعلته يسيء الظن فيهم ويسخط عليهم بشدة. لكنه وجد أن التُّهم التي سمعها لا تنطبق مطلقاً على هؤلاء الثلاثة، فهم لا يشربون الخمر، ويعيشون بأمانة، ويصلّون حتى لأجل أعدائهم. لذلك رأى أنه يتحتَّم عليه أن يغيّر فكره عنهم.

وفي أوقات معيَّنة كان الموزعان يسافران لتوزيع الكتب المقدسة، ويتركان «سعيداً» مع القس يوحنا يدرسان الكتاب المقدس ويبحثان في الدين. كان سعيد يسأل أسئلة كثيرة، وبدأ يدرس اللغة السريانية، لغة الأشوريين لمقارنة ترجمات الكتاب المقدس. وأعطاه القس يوحنا نسخة من العهد الجديد باللغة السريانية، أراها سعيد لأخيه، فغضب خاخا وحذّره من قراءة هذا الكتاب لئلا يقوده إلى الضلال. لكن هذا لم يمنع سعيداً، بل بالعكس أشعره بضرورة مداومة البحث، ولكن في الخفاء. وقد درس سعيد بنوع خاص نبوات العهد القديم (التوراة) عن المسيا، ولم يستطع أن يرى إتمام النبوات في محمد. وأخيراً أخذ الكتاب المقدس معه للبيت وأراه لخاخا وتوسَّل إليه أن يسمح له بالمداومة على درسه حتى يستطيع أن يكتب ما يدحض المسيحية، فسُرّ خاخا بذلك وأعطاه إذناً بالدرس. فاستطاع سعيد أن يدرس الكتاب المقدس علناً.

وكان كلما زادت دراسة سعيد، وزادت معرفته بالقس يوحنا، ولاحظ أخلاق المسيحيين، أخذت الشكوك تثور في فكره عن إيمانه الإسلامي. وذات يوم وهو ذاهب لصلاة العِشاء في المسجد، خطر بباله خاطر مريع «ماذا لو كان محمدٌ ليس النبي الحقيقي؟». وهزَّه هذا الخاطر التجديفي الشنيع بعنف، فشعر أنه نجسٌ حلَّت عليه اللعنة، فأسرع إلى المسجد راجياً أن يغسل نجاسة فكره بالوضوء، لكن قلبه لم يجد سلاماً. وعاد إلى البيت، وآوى إلى فراشه مبكراً، لكن النوم لم يواته، فقام أخيراً مصمماً أن يضع حداً نهائياً للأمر، فأشعل ناراً وأخذ بملقط قطعتي جمر من الفحم، ووضع جمرة على أحد ساقيه ثم على الأخرى. وكان الألم شديداً مبرحاً، لكنه لم يكفّ حتى تتعمق الجروح. ولما شُفيت جروحه نهائياً ظلت آثارها باقية. وكان قد أحرق أحد ساقيه ليذكر العهد الذي قطعه على نفسه أن لا يتكلم مطلقاً مع أي مسيحي في الدين المسيحي، وأحرق الساق الأخرى ليذكر تصرُّفه المشين في شكه في إيمانه الإسلامي. وأحرقهما كليهما ليتجنَّب ارتكاب مثل هذا الذنب الفظيع في المستقبل. وهذا يتفق مع العادات والتقاليد الكردية التي تقضي أنه عندما يقطع الإنسان عهداً عليه أن يترك أثراً في جسمه يذكّره بحفظ ذلك العهد.

أما وقد صمَّم على عزمه وختمه بجروحه فقد أرسل إلى القس يوحنا يخبره أن ضغط الأعمال عليه لا يسمح له بمواصلة إلقاء الدروس عليه. لكن ذلك لم يُرح بال سعيد، فقد ظلت شكوكه تشتدّ. لقد شُفيت جروحه لكن قلبه لم يُشفَ. وذات ليلة وهو راجع من المسجد خرّ بوجهه على الأرض في زاوية مظلمة وتوسل إلى الله بدموع أن ينقذه من تعاسته ويهديه إلى الطريق المستقيم. وإذ كان يصلي بدأ الثقل يرتفع عن قلبه وصمم أن يدرس الكتاب المقدس والقرآن معاً، ويستأنف دراساته مع القس يوحنا. وواظب على هذا عدة شهور، كان فيها يدرس الكتاب المقدس بإرشاد القس يوحنا، ويدرس القرآن مستعيناً بالتفاسير. ولكنه لم يجد في القرآن ما يروي ظمأه.

وإذ كان سعيد يصرف وقتاً أطول مع القس يوحنا صار خاخا يشك في الأمر، فوبَّخ سعيداً بكلام قاس. كان يفاخر بنبيِّه محمد ويتكلم بسخرية على المسيحيين. ويوماً ما ضرب خاخا سعيداً وكسر عليه الكثير من العصي، حتى وقع سعيد على الأرض من شدة الألم، وقبّل التراب تحت قدمي خاخا.

لكن لم يمض وقت طويل حتى عاد سعيد يجلس مع القسيس حزيناً لسماعه بقُرب موعد رحيل القسيس. وفجأة رنّ في قلبه كلام إشعياء النبي «قُومِي ٱسْتَنِيرِي لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ وَمَجْدُ ٱلرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ» (إشعياء 60: 1). ظلت هذه الكلمات تتردد في داخله حتى ملأت السعادة كل كيانه. ولما سأله القس يوحنا عن سبب فرحه أخبره سعيد بالأمر، وبعد تقديم صلوات شكر قال القسيس: «افرح وتهلل لأنك قد وجدت نعمةً عند الله».

وبعد أيام قليلة رحل القس يوحنا، بعد أن حثَّ صديقه على المواظبة على الصلاة باجتهاد حتى لا يُجرَّب بالارتداد عن إيمانه الجديد الذي وجده، فإنه عندئذ يكون خيراً له لو لم يقبل المسيحية قط. ولم ينس سعيد مطلقاً هذا الإنذار.

وجد سعيدٌ نفسه وحيداً ووقع في حيرة مربكة. هل يعترف بإيمانه الجديد؟ ربما يؤدي هذا به إلى الموت. هل يلجأ إلى الهروب؟ من الصعب عليه أن يفعل ذلك. وأخيراً قرّر أن يحل مشكلته بالرياء والمواربة، فكان يصعد إلى المئذنة ويؤذّن للصلاة، وبعد أن ينادي «أشهد أن محمداً رسول الله» يصلي بصوت منخفض «اللهم سامحني». ثم ينزل إلى المسجد ويشترك في الصلاة مع المصلين، وإنما عوضاً عن تلاوة العبارات المفروضة في الصلوات عند الركعات كان يتلو بصوت هامس الصلاة الربانية وقانون الإيمان الرسولي. لكن هذه الحياة المزدوجة حطمت قلبه المخلص.

عند ذلك لم يستطع أن يحتمل الأمر. وكان له صديق حميم اسمه فيض الله. وفي يوم جمعة بعد انتهاء الصلوات جلس سعيد وفيض الله معاً، وأخبر سعيدٌ صديقه بإيمانه الجديد، وظلا يتحدثان معاً يوماً بعد يوم، وظل فيض الله يحاول أن يُعيد صديقه إلى الإسلام. ولما لم يجد جدوى في ذلك، حاول أن يبهجه بتحويل أفكاره إلى أمور أخرى، فدعاه مع عدد قليل من الأصدقاء إلى حديقة والده. وبينما كانوا يُعِدّون الشاي بدأ الشباب يُطرِبون أنفسهم بالأغاني، لكن سعيداً لم يطرب بشيء منها. وأخذ خبزاً وخرج إلى بستان الكرم ومضى يصلي، ثم أكل الخبز وقطف بعض حبات العنب وتأمل في موت المسيح، وكان هذا أول عشاء رباني يتناوله.

وصار يبوح بسره شيئاً فشيئاً لأصدقائه الآخرين. ولم يكن يواجه خطراً خاصاً في هذا لأنهم لم يريدوا أن يفضحوه. إنما جاءه الخطر من ناحية أخرى، فقد سأله طبيب يهودي عما إذا كان يريد أن يتعلم اللغة العِبرية كما يتعلم السريانية، فأجاب بالإيجاب. وبذلك تمَّ الاتفاق على أن يقوم بتعليم أولاد الطبيب اللغة الفارسية ويقوم الطبيب بتعليمه اللغة العبرية. وكان للطبيب أصدقاء كثيرون من اليهود كان لسعيد حديث ديني متواصل معهم. ولما لم يستطيعوا أن يُفحموه بإجاباتهم غضبوا وأذاعوا أن سعيداً أصبح مسيحياً. وسرعان ما انتشرت الإشاعة وبدأ الناس يشتمونه في الشارع ويقولون عنه «هذا هو الملعون». ولم يبق أحد يرثي لحاله في المدينة سوى عدد قليل من أصدقائه المقرَّبين وبعض الكاثوليك.

في تلك الأيام عاد تاجر كاثوليكي تقي من رحلة له إلى روسيا، فذهب سعيد لزيارته، لأن التاجر كان صديقاً للقس يوحنا. وأخبره سعيد بإيمانه الجديد. فسأل التاجر سعيداً إن كان مستعداً أن يواجه الأخطار التي ينطوي عليها أمر اهتدائه، فأجابه سعيد أنه لا شيء يمكن أن يجعله يترك المسيح، ولو أدى الأمر به أن يموت شهيداً. عند ذلك أهداه التاجر بعض الكتب، ومن بينها كتاب الدكتور فاندر «ميزان الحق» الذي كُتب لدحض الإسلام وتُرجم إلى اللغة الفارسية. وكان عليه أن يقرأ هذه الكتب خُفية لئلا يجدها خاخا.

ولم يكن سعيد إلى ذلك الوقت قد أخبر أخاه بأنه غيّر إيمانه ودينه، ولكن بما أنه لم يعُد يتلو الصلوات أو يقرأ القرآن، أدرك خاخا أن تغييراً هاماً قد حدث. وبالتغني والتباهي عن محمد والكلام عن «المسيحيين الكلاب» والتهديد والضرب أجبر خاخا وأصدقاؤه سعيداً على العودة إلى ممارساته السابقة. ومرة حاول سعيد أن يهرب من المدينة، ولكن الأمر عُلم وفشلت خطته.

وذات يوم أرسل رئيس المُلاّ في المدينة إلى سعيد يطلب إليه أن يحضر لمقابلته ومعه الكتاب المقدس ليريه بعض الفصول التي له إلمام بها. وبعد فحص الكتاب المقدس صرّح أنه لا يجد فيه شيئاً يجعل المسلمين أن يكرهوا المسيحيين. وقد سُرّ سعيد بذلك جداً لكنه ارتكب غلطة فظيعة إذ سلمه كتاب «ميزان الحق». وأثار الكتاب غضب المُلاّ وغيّر موقفه فوراً، فكتب تكذيباً قُرئ في المسجد الرئيسي يعلن فيه أن الشاه طلب منه أن يفعل ذلك. لكن رئيس المُلاّ كان رجلاً لطيفاً فعمل على حماية سعيد من المتعصّبين المحليين.

حلّ فصل الشتاء وواجه سعيد في بلده كل ما يستطيع أن يحتمله. وذات يوم حينما كان خاخا وسعيد وأحد الجيران جالسين حول المدفأة بدأ سعيد يقرأ من كتاب إسلامي عن ميلاد محمد والمعجزات التي صاحبته. ولما أخذ خاخا يذكر بالإطراء والمديح هذا النبي العجيب تجاسر سعيد وقال: «إذا كانت هذه القصص حقيقية، فلا بدّ أن تكون قد أنبأت بها نبوات سابقة. ولهذا يجدر بنا أن نفحص الكتاب المقدس لنرى إذا كانت فيه نبوات عن مجيء محمد». ووافق الجار على ذلك، لكن خاخا استشاط غضباً، وأخذ البندقية المحشوة المعلقة على الحائط وصوَّبها نحو أخيه. لكن الجار تدخّل في الأمر وأخذ البندقية، وانتحى بسعيد جانباً وحذره ورجاه أن يكون أشد حرصاً من ذلك فيما يقوله.

أدرك سعيد الخطر الذي كان يحدق به. ترى ماذا يفعل؟ فكر أن يهرب مرة أخرى، لكنه كان قد حاول الهروب مرتين قبل ذلك وباءت محاولتاه بالفشل. وقد لاحظ عليه خاخا أنه صار حزيناً مغموماً وألحَّ عليه أن يخبره بالسبب. وأخيراً قرر أن يعترف بالأمر، لكن ليس بكلام اللسان، لئلا يهيج أخاه بل بكتابة خطاب، فكتب لأخيه يقول إنه صار مسيحياً منذ وقت طويل وإنه مستعد أن يموت في سبيل إيمانه، ولكن إذا كان خاخا يعفو عنه فهو مستعد أن يكون خادمه بقية حياته. وقد احتفظ بالخطاب في جيبه متردداً أن يسلمه لأخيه.

أخيراً في إحدى الليالي، بيما كان الأخوان وضيف آخر معاً جالسين حول المدفأة بدأوا يتحدثون عن الدين. وتفوه خاخا والضيف بملاحظات لم يستطع سعيد أن يحتملها، فخرج إلى خارج وركع يصلي طالباً معونة الله. وعند عودته أخرج الخطاب من جيبه وسلّمه لأخيه، فقرأه خاخا ثم ألقى به في النار. ورأى الضيف ملامح الغضب على وجه خاخا ففهم مضمون الخطاب وخرج من البيت مسرعاً.

بعد أن أحرق خاخا الخطاب اضطجع الأخوان للنوم، لكن لم يستطع أي منهما أن ينام. أخيراً بدأ خاخا بالكلام وكان كلامه يشتد غضباً مع كل عبارة إلى أن صاح أخيراً:

- «لا يمكن لكلب وإنسان أن يعيشا معاً، فاخرج فوراً!».

فتوسل سعيد: «أين يمكن أن أذهب في ليلة كهذه؟».

- «لا يهمّني».

- «أرجوك أن تسمح لي بالبقاء الليلة، وسأذهب غداً».

صاح خاخا وقد أخذ البندقية: «اخرج أيها الكلب الملعون».

أسرع سعيد ولبس ثيابه وخرج يواجه البرد القارس. طرق على أبواب بيوت أصدقائه الكاثوليك لكنهم خافوا أن يقبلوه. أخيراً قبلته امرأة عجوز كان قد كتب لها عدة خطابات. ولكن لكي لا يسبّب لها المشاكل ترك بيتها في الصباح الباكر وذهب إلى مدرسته منتظراً ما يحدث له.

أما خاخا فقضى ليلته يصرخ إلى الله: «أنت قد أخذت أبي وأمي، والآن قد تركني أخي». واستيقظ مبكراً مثل سعيد، وأخذ بندقيته وذهب إلى حانوتٍ مقابل الكنيسة الكاثوليكية، حيث ظن أن أخاه قضى ليلته فيها. ولما سأله الناس لماذا جاء يحمل بندقيته، أجابهم أن أخاه سعيداً قد ارتدّ، وأنه ينتظره ليقتله. ولما سمعوا ذلك أرادوا أن يقتلوه بأنفسهم. وعلم خاخا أن ثلاثين شخصاً منهم قد تعهّدوا بقتل سعيد. ومع أن خاخا كان متأهباً لقتل سعيد بنفسه، إلا أنه لم يرضَ أن يجعل أخاه يقع فريسة في يد رعاعٍ هائجين.

ذهب خاخا ليتشاور مع امرأة من العائلة كانت معروفة بالحكمة ورقة القلب، فذهبت معه إلى المدرسة حيث أمكنها أن توجِد بينهما نوعاً من التفاهم والمصالحة، فقبل خاخا أخاه في البيت، وهو يعلم أنه قد صار مسيحياً. وكان هذا انتصاراً لسعيد. وذهب خاخا إلى رئيس المُلاّ في المدينة، كما فعل سعيد من قبل، وأخبره بما حدث وطلب نصيحته فيما يفعل، فأجابه المُلاّ: «لا تفعل شيئاً، بل اترك الأمر لي، وأنا أعيده إلى حظيرة الإسلام ببراهين من القرآن».

فلمّا علم المسلمون أن خاخا صار يحمي أخاه أرادوا أن يقتلوا الأخوين. في ذلك الوقت تلقَّى سعيد خطاباً من القس جيمس هوكز المرسَل في مدينة حمدان (وهي تبعد ثمانين ميلاً إلى الجنوب الشرقي) يقول فيه إنه علم في زيارته مؤخراً لمدينة سناج بالخطر الذي كان يواجه المتجدد حديثاً، وطلب منه أن يذهب إليه ليعلّمه اللغة. وتوسل سعيد إلى خاخا أن يسمح له بذلك. وبعد تردد كثير سمح له أخيراً بالذهاب. ورسما خطة أن يسافر سعيد مع القافلة المتوجهة إلى حمدان، والتي ستبدأ رحلتها من خارج المدينة في منتصف الليل. واتفقا أن يحمل خاخا حاجيات أخيه إلى مكان معين خارج المدينة ليسلّمها له. وحمل خاخا أمتعة سعيد القليلة والتقيا في المكان المتفق عليه. ولما وصلا إلى نهر صغير كانت قد ملأته أمطار الربيع سارا على شاطئه، فحمل خاخا أخاه على كتفيه وعبر به المخاضة. فكان هذا العمل وحده أشد أثراً في إعادة العلاقات بين الأخوين أكثر من كل شيء آخر. ولحقا بالقافلة عند الغروب وودع كل منهما الآخر بسلام.

بدأت القافلة مسيرها حوالي منتصف الليل، وواصلت سيرها إلى شروق الشمس، وكان سعيد قد بدأ يشعر بالأمان، وإذا بآماله تتحطم وتنهار عندما رأى خاخا ومعه اثنان من أصحابه، جاؤوا ليُرجِعوه. وقال خاخا إن المدينة قد انقلبت، والناس هائجون يطلبون عودة سعيد، ويهددونه بتدمير بيت العائلة. ولكن سعيد تصلب وقال: «اقتلوني هنا إذا شئتم، لكني لا يمكن أن أرجع إلى المدينة». ولما رأى خاخا أن كل جهوده في إقناع أخيه قد فشلت احتضنه وودعه ورجع. ومضى سعيد مع القافلة التي وصلت إلى حمدان بعد خمسة أيام. وكان ذلك عام 1881.

هناك بدأت حياة جديدة لسعيد. أصبح الآن حراً من المسلمين المتعصبين في بلده، وكان يسكن في مكان أمين في بيت المرسَل، وبدأ يتعرّف على عدد من المهتدين من الأرمن واليهود. وطلب أن يعتمد، ولكن القس هوكز والأرمن نصحوه بأن ذلك ليس للخير في الوقت الحاضر لئلا يثير المسلمين في تلك المنطقة. وفي تلك الفترة تعيّن شقيق الشاه حاكماً لحمدان، وكان دكتاتوراً قاسياً. وخاف الأرمن من أن اعتراف سعيد علناً بالمسيحية يثير عليهم المتاعب والقلاقل، فأشاروا عليه أن يتبع التقاليد والعادات الإسلامية، ويحلق رأسه، ويلبس العمامة مرة أخرى، وكان قد ترك هذه منذ هروبه.

في خريف أول سنة قضاها سعيد في حمدان، وصل من أمريكا طبيب مرسَل اسمه الدكتور «ي. و. ألكساندر» ومعه زوجته ليمارس مهنة الطب في تلك المدينة، وصار سعيد مترجِماً ومساعداً له بسبب إتقانه للّغة الإنكليزية. وكان اتصاله بالمرسلين وغيرهم من المسيحيين ودراساته مع القس هوكز وملازمته الاجتماعات المسيحية سبباً في نموه روحياً. وإنما أحزنه أن عدم تعميده حرمه من تناول العشاء الرباني، ولو أنه قاسى في سبيل إيمانه أكثر مما قاسى أي شخص آخر من المسيحيين.

وبعد أن قضى نحو سنتين ونصفاً في حمدان تهلل قلبه عندما حضر لزيارته خاخا الذي بدا وكأنه قد فقد روح التعصب، وصار ينظر إلى تجديد أخيه سعيد كأمرٍ نهائي لا يتغيّر. وكان للأخوين فرص كثيرة للحديث والبحث عن الدين بروح ودية قبل عودة خاخا إلى بلده.

بعد فترة أخرى من الزمن قرر خاخا أن يزور حمدان للمرة الثانية. باع بيته وأظهر أنه ذاهب ليأخذ سعيداً إلى مكانٍ يتوب فيه ويرجع إلى الإسلام. وقد شك بعض الناس في نياته، ولكي يعيقوه عن السفر قدموا له فرصة أن يكون إمام المصلين في المسجد الذي كان يذهب إليه. وبعد أن سافر قرر المُلاّ أن بيت خاخا مملوك لشخص مرتد، لا يحميه القانون، لذلك يكون بيع البيت باطلاً، ويحل البيت للمسجد. وتحت هذه الظروف أعاد خاخا الثمن للمشتري، فصارت صفقة البيع خسارة كلية للبيت والأثاث.

لما أقام خاخا في حمدان حاول المرسلون إقناعه بأن يقرأ الكتاب المقدس. ولكي يتوصّلوا إلى هذا الهدف كانوا يعطونه نبذة من فصول كتابية لينسخها مقابل أجرة، ولكن عندما كان يصادف عبارات لا يريدها كان يمزّق الأوراق أو يطعنها بالخنجر الكردي الذي كان دائماً في زناره. ولما كان يحدث هذا كان المرسلون يخبرونه أن لا يهتم بمعنى الفصل بل يكتفي بنقله وقبض أجرته. وكان الدكتور ألكساندر، يعيره كتباً ليقرأها من بينها كتاب «ميزان الحق». ولما قرأ الكتاب عرف عن دينونة الله للخطية ورسالة محبة المسيح، وبدأ ذلك يؤثر في نفسه. وكان يذهب إلى المسجد يوماً بعد آخر لكنه لم يجد راحةً في سماع الوعظ. وإنما الذي أثر فيه أكثر هو ما لاحظه من فرق بين تصرف المسلمين وحياة المرسلين والمعلمين المسيحيين. وبدأ يذهب إلى اجتماعات الكنيسة بشيء من الخوف والفزع.

وذات يوم كان أحد المرسلين عائداً إلى أمريكا، فطلب من خاخا أن يرافقه إلى الحدود الإيرانية. وفي الطريق وقع خاخا من على الحصان وكسر ركبته. وفي إثناء عودته إلى حمدان، وهو في دور النقاهة لم يكن يقدر على عمل شيء سوى القراءة، فصار يدرس الكتاب المقدس بغيرة وشوق، وأخيراً تمكن خاخا أن يعترف بإيمانه بالمسيح نهاراً جهاراً بطريقة مؤكدة. وذلك أبهج قلبه وأطربه. لقد أخذ ذلك منه وقتاً طويلاً وعناية دقيقة في الدرس، حتى رفض الإسلام وقبل المسيحية، ولكنه بعد أن اتّخذ قراره لم تكن به حاجةٌ للرجوع عنه.

من هذه النقطة فصاعداً اتخذت حياة الأخوين من كردستان طريقين مختلفين. كان لكل منهما بيته الخاص وعائلته الخاصة، وعمله الخاص، وجدير بنا أن نكتب عن كل واحد منهما فصلاً خاصاً.

بعد أن اعتنق خاخا الإيمان المسيحي وتجدد وهجر كردستان كان عليه أن يجد عملاً مستديماً في بيته الجديد في حمدان. وكان أول عمل قام به هو أن يكون سائساً لأحد المرسلين. وفي تلك الأيام لم تكن هناك عربات، ولا طرق ممهدة للعربات في حمدان، بل كان السفر بين مدينة وأخرى يتم عن طريق القوافل. وكان على من يرغب السفر من مدينة إلى أخرى أن يمتطي ظهر دابة ويسير مع القافلة، أو يمشي إذا أراد المسافرون أن يمشوا على الأقدام. ولذلك اعتاد المرسلون أن يحتفظوا ببعض الخيول، وصار خاخا سائساً لها، إلى جانب قيامه بواجبات أخرى كما يقوم الخدَم. وعندما نرى هذا المُلاّ يقوم بخدمةٍ كهذه يخطر حالاً ببالنا ذاك الذي اتّضع «آخذاً صورة عبد» (فيلبي 2: 7).

من هذا العمل الوضيع ارتقى خاخا إلى مشرف على مساكن الطلبة، فقد افتتح القس هوكز مدرسة للبنين كان يأتي إليها أولاد الأرمن من مسافة بعيدة، والتزم الأمر فتح قسم داخلي لهم. ولأنها كانت مدرسة صغيرة، وطلابها قليلين لم يكن عمل المشرف مرهقاً.

وبعد بضع سنوات أُقفلت المدرسة، وتعين خاخا مبشراً. فجال في شوارع المدينة وأسواقها يوزع الكتب والنبذ المسيحية. وكان يجلس في غرفة الانتظار في المستوصف، يتكلم مع المرضى وهم ينتظرون دورهم للدخول إلى الطبيب. وكان يقوم بمثل هذا العمل في المستشفى. ولما كان يمشي في الشوارع كان يسمع كلمات قاسية ولعنات وشتائم من المتعصبين المسلمين، ومرة هجم عليه كردي متوحش حسبه أخاه سعيداً، ولكنه استطاع أن يدافع عن نفسه، وتقدَّم آخرون لمساعدته.

على أن ألذّ عملٍ عند خاخا كان القيام برحلات تبشيرية في القرى المجاورة لحمدان، وكان يرافقه مبشر آخر في بعض الأحيان. وفي أوقات أخرى كانت تذهب معه مبشرة وسيدة مرسلة أيضاً. ولما لم تكن توجد طرق بين قرية وأخرى كان السفر يتم بالركوب على الحمير. وكان الفريق يبدأ عادة في الصباح ويصل غالباً بعد ساعة أو ساعتين إلى قرية أخرى، حيث يجدون بيتاً يمكن أن يقيموا فيه. وفي الشتاء يجلسون حول الموقد. وإن كانت معهم سيدات كانوا بالطبع يحتاجون إلى غرفتين. وإذا جاء صاحب البيت أو آخرون من القرى المجاورة كانوا يتكلمون معهم أو يقرأون من الكتاب المقدس. وإن لم يجدوا أحداً في البيت كانوا يذهبون إلى الشوارع أو إلى الحقول حيث يجدون أناساً يتكلمون معهم. وعندما يحل الليل كان غالباً يأتي بعض الناس إلى البيت الذي يوجدون فيه فيتكلمون معهم، وعادة كان الناس يقابلونهم بشيء من المودّة، ويُصغون إليهم باهتمام، وإنما كان يحدث أحياناً أن يأتي شخص متعصب يحب الجدل ويدافع عن إيمانه، وقد يهدد. وإذا كانت القرية صغيرة كانوا يقضون ليلة واحدة، ثم يتركونها باكراً في صباح اليوم التالي. ولما تكررت الزيارات صار الناس يعرفون خاخا ويرحبون بحضوره.

وفي تجوُّل خاخا في هذه القرى كانت له اختبارات كثيرة طريفة. روى أحد الذين رافقوه كثيراً في هذه الرحلات أنه يوماً ما رأى شخصٌ جماعة الكارزين راكبين في الحقول فنادى: «خاخا! خاخا!» فتوقّفت القافلة حتى جاء الرجل، ودار بينه وبين خاخا حديث قصير. ولما مضى الرجل أفاد خاخا زملاءه أن الرجل سيأتي لمقابلته متأخراً ذلك اليوم ليسمع منه، لأنه آمن بالإنجيل. وقال خاخا لزملائه إن هذا الرجل نفسه، قبل هذا الوقت بسنتين، قد حرم خاخا من النوم ليلة كاملة وهو يهدده بالقتل لأنه مرتد، رغم أن الرجل وقتها كان مندهشاً من عمق معرفة خاخا بالكتاب المقدس والقرآن. لكن خاخا لم يغضب منه بل أخبره أنه يحبه وأن الله أيضاً يحبه، ولكن إن كان مع ذلك يرى نفسه مضطراً أن يقتله فليفعل ذلك. وختم خاخا بقوله: «هذا الرجل الآن واحدٌ من أعزّ أصدقائي».

وفي رحلة أخرى، بعد أن انتهى خاخا من قراءة أصحاح من العهد الجديد وتفسيره لبعض المجتمعين حوله، سأل شاباً كان جالساً بجواره: هل تستطيع أن تقرأ؟ ولما أجاب بالإيجاب سلمه خاخا العهد الجديد. وأخذ الشاب الكتاب، جاعلاً أعلاه إلى أسفل وبدأ يحرك شفتيه دون أن يفوه بكلمة. فظن خاخا أنه أميّ لا يعرف القراءة، يتظاهر بأنه يقرأ. فقال له: اقرأ بصوت عال، فقرأ. عند ذلك سأله: «لماذا تمسك الكتاب مقلوباً؟» فأجاب: «في القرية التي نشأت فيها، لم يكن هناك أحد متعلماً إلا شخص واحد هو المُلاّ، وكان يجمع حوله عدداً منا نحن الأولاد في نصف دائرة ويعلمنا القراءة. ولم يكن معه سوى كتاب واحد، كان المُلاّ يضعه في حِجره، وكان مكاني قدامه مباشرة، فلم أرَ الكتاب إلا مقلوباً، ولذلك تعلمت أن أقرأ بالمقلوب».

في صيف عام 1935 لما كان عمر خاخا ثمانين سنة تقريباً جلس هو وسعيد يوماً يستعيدان الذكريات. وقادهما الحديث إلى اختباراتهما السالفة في كردستان. وقال سعيد إنه يريد أن يذهب مرة أخرى إلى سناج، فسأله خاخا: «وماذا تقول عني؟ إني لم أرَ المدينة منذ أكثر من خمسين سنة». في اليوم التالي جاءت مخابرة هاتفية (تليفونية) مستعجلة إلى سعيد، وكان طبيباً في ذلك الوقت، تدعوه أن يذهب إلى سناج للكشف على زوجة الحاكم، وكان قد ذهب لعلاجها منذ أكثر من عشرين عاماً خلت، وكان ميالاً في بادئ الأمر أن يعتذر لأن ذهابه إلى هناك يعني أنه لا يفحص مريضاً واحداً بل مرضى كثيرين يستغرقون طول اليوم، ويشعر أن صحته لا تساعده على ذلك. وأخيراً قبل على شرط أن يذهب مع زوج ابنته الدكتور تتفون، فأرسل إلى أخيه خاخا أن يتأهب للذهاب معهما. وقد فرح خاخا جداً بذلك.

وكم كان سروره عظيماً وهو يزور مدينة صباه ويرى الأماكن الملأى بالذكريات: البيت القديم وقد أصبح خراباً. قبر والديه. المسجد الذي كان يصلي فيه. في أثناء الثمانية الأيام التي قضوها هناك كان سعيد مشغولاً برؤية المرضى، أما خاخا فأُتيحت له فرصة كافية ليتجول ويرى ما يريد، وقد أضافه أهل مدينته وأكرموا وفادته ليلاً ونهاراً. وحيثما ذهب كان يشهد لهم بمنتهى الحرية عن إيمانه المسيحي ويوزع النبذ.

وفي يوم عودتهما إلى حمدان اجتمع عدد كبير من أعيان المدينة في بيت الحاكم لتوديعهما. وأراد أحدهم أن يغيظ خاخا ويسخر منه أمام الحاضرين فسأله: «لماذا تريد أن تعود إلى حمدان؟ امكث هنا معنا وعُد إلى الإسلام فنزوّجك بامرأة فاضلة ونقدّم لك كل ما تريد من المال». فأجاب خاخا: «عندي هِبة الحياة الأبدية. فلماذا أريد غِنى العالم؟ لو ملأتَ أكبر قصر بالذهب وقدمته لي فهذا لا يغريني».

- «لماذا إذاً اضطهدتَ أخاك وطاردته ببندقية لتقتله؟».

- «ذلك كان في أيام جهلي، كما يحدث لك الآن وأنت لا تفهم هبة الحياة الأبدية في المسيح».

هذه كانت كلمات خاخا الوداعية لأهل سناج، وهي اعتراف صريح بإيمانه أمام الذين سبق أن شاهدوه يسعى لقتل أخيه.

بعد عودة خاخا إلى حمدان بوقت قصير أُصيب بشلل استدعى دخوله إلى المستشفى. وبعد عدة شهور شُفي بطريقة عجيبة، ولكنه ظل أصم لا يسمع ولا يستطيع أن يتفاهم مع الناس. لكنه استطاع أن يمشي في الشوارع حوالي ساعتين كل يوم ويوزع النبذ على الناس.

وفي أحد الأيام وهو يمشي كالعادة صدمته عربة وسارت فوقه، وحاول ضابط المرور وبعض الشهود الذين رأوا الحادث أن يقبضوا على السائق. ورأى خاخا علامات الذعر على وجه السائق، فقال للضابط: «اتركه حراً، فهذه غلطتي لأني أصم ولم أسمع العربة». ونتيجة لهذا الحادث ظل يلازم الفراش، ولم تستطع زوجته الطاعنة في السن أن تعتني به في هذه الحالة، فأخذه ابنه الدكتور سعيد إلى مدينة عراق، حيث كان يمارس مهنة الطب واعتنى به حتى توفي في 7 آذار (مارس) سنة 1940 في الخامسة والثمانين من عمره.

كان صمم خاخا عائقاً كبيراً له خصوصاً في أعوامه الأخيرة، ولكنه عمل لنفسه سماعة بسيطة على شكل جرس تتصل بأنبوبة من المطاط يبلغ طولها حوالي قدم، كان يعطيها للشخص الذي يكلمه. وقد ساعده هذا قليلاً. وحدث أن جاءت سيدة أمريكية لزيارة مرسل هناك وجاء خاخا إلى حيث كانا يجلسان. ولم تكن السيدة تعرف شيئاً من اللغة الفارسية، وظنت أن خاخا يعرف الإنكليزية، فبدأت تحدثه بها وخاخا لم يستطع أن يسمع أية كلمة قالتها، لكنه ظن أنها تتكلم بالفارسية فكان يتحدث معها بالفارسية كما بحوار الطرشان! ولم يسجل أحدٌ ما جرى بينهما من حديث، لكن يبدو أنه تم بسرور وفائدة. وقال خاخا فيما بعد: «غريب جداً أن بعض المرسلين يأتون من أمريكا وينفقون سنتين أو ثلاثاً يتعلمون الفارسية، بينما هذه السيدة العجوز لم تقضِ في إيران أكثر من بضعة أسابيع وتتكلم الفارسية بطلاقة».

ربما منحه صَممه بركة خفيَّة، إذ حجب عنه سماع الإهانات والشتائم واللعنات التي كانت تُوجَّه إليه. ولا شك أنه منعه أيضاً من الاشتباك في مجادلات لا طائل تحتها، لكنه كان عقبة متزايدة في حرمانه من الحديث الديني ومن ممارسة عمله الحقيقي، لكنه على أي حال لم يمنعه عن تقديم الرسالة المسيحية للذين كانوا يريدون أن يسمعوا.

وقصة حياة خاخا لا تكمل بدون إشارة إلى حياته العائلية، فإنه لم يتزوج إلا بعد أن استقر في حمدان. وقد تزوج فتاة اسمها «حياة» كان أبواها مسلمَين، وكان عمرها نحو 15 أو 16 سنة في ذلك الوقت وكانت طالبة بمدرسة الأمريكان للبنات في تلك المدينة. وأثار زواجها من شخصٍ مسيحي بعض المسلمين المتعصبين في حمدان، فاحتجوا للحاكم فوضع أباها في السجن، لكنه أطلق سراحه بعد قليل. وقد برهنت السيدة «حياة» أنها زوجة صالحة وربّة بيت ممتازة.

ومن الصعب أن نجزم متى قبلت «حياة» الإيمان المسيحي. ربما حدث ذلك تدريجياً. ولقد شهد أحد أبنائها أنها كانت على درجة كبيرة من الإيمان قبل أن تعرف المسيحية، وأنه يدين لها بـ 80 في المائة من إيمانه. ولم تعترف قط بإيمانها علناً وهي في حمدان، وربما كان ذلك بسبب المسلمين المتعصبين. ومن الناحية الأخرى كانت تقرأ الكتاب المقدس منفردة، ومع أولادها، وكانت تؤمن إيماناً عظيماً بالصلاة، وتحثّ أولادها على أن يصلّوا. ولما كانوا صغاراً كان اثنان منهم يذهبان إلى المدرسة مع أولاد آخرين من القسم الداخلي في حارة ضيقة بين البيت والمدرسة أربع مرات في اليوم. وكان في تلك الحارة حائط قديم مشروخ مبني من الطين ومعرَّض للسقوط في أي وقت. وكانت «حياة» تخاف لئلا يقع الحائط على أولادها. لذلك جمعتهم ذات ليلة وطلبت منهم أن يصلوا بحرارة حتى يقع الحائط في نصف الليل لما لا يكون أحد ماراً بالحارة. وفي اليوم التالي وجدوا الحائط قد انهار. فاجتمعت الأم مع أولادها ورفعوا صلاة شكر لله.

في أيام «حياة» الأخيرة اضطرت لملازمة فراشها في بيت ابنها دكتور إبراهيم الذي كان قد انتقل إلى طهران بعد موت والده. وكثيراً ما كان الاثنان يتحدثان في الأمور الروحية. ويوماً ما اقترح عليها أنها تحسن صنعاً إذا اعتمدت قبل أن تذهب إلى بيتها السماوي، ووافقت على ذلك. فأسرع يبلغ هذا الخبر لقسيس صديق حتى يرتب أمر عمادها، وقال له: «أرجو أن تسرع في المجيء إلى البيت لأني ظللت أصلي مدة خمسين عاماً طالباً أن تعتمد والدتي، وها هي أخيراً مستعدة للمعمودية». وقد أُجريت المعمودية في اليوم التالي، وهي في التسعين من العمر، وكانت ابنة حفيدتها في الرابعة! وماتت بعد عدة سنين، في سنة 1965 في سلام، يملأ قلبها إيمان نقي بمخلّصها.

كان لخاخا وحياة ثمانية أولاد، ستة صبيان وبنتان، وكانت الأم هي التي تولّت تربيتهم، ولكن كان والدهم متشدداً جداً في عدة أمور. مثلاً كان لعب الورق محرماً قطعياً، إذ كان يعتبره لعبة خطرة جداً، والخطوة الأولى في طريق القمار. وكان من الصعب أن يحصل أحد الأبناء على نقود يشتري بها أوراقاً للعب (الكوتشينة) ولو للتسلية، وإذا حدث أن وجدها والدهم مرة، كانت الأوراق تختفي ولا تعود للظهور مرة أخرى. ومرة حاولوا أن يخدعوه بمهارة فصنعوا بأنفسهم أوراقاً للعب (كوتشينة) من ورق مقوى، ولكن حالما عرف عنها، اختفت كما اختفى غيرها من قبل.

بعد الحرب العالمية الأولى، بدأت الروايات الأوروبية تُترجَم إلى اللغة الفارسية، ووجدت سبيلها إلى الأسواق الإيرانية، وصار أبناء خاخا مثل غيرهم من أصدقائهم يستعيرون هذه الكتب وتعرَّفوا إلى مؤلفات دوماس، وفيكتور هيجو وجورج ساند، ودستوفسكي وغيرهم. فلما رأى خاخا أبناءه يقرأون هذه الكتب ارتاب في الأمر، وإذ لاحظهم يلتهمون كتاباً بعد آخر هاله الأمر وتعجب ساخراً قائلاً «يا للعيب!» وحاول أبناؤه أن يخفوا الكتب بين غيرها وسط الرفوف، ولكن سرعان ما كان يكتشفها، ولكن بما أنها مستعارة من مكتبة، لم يستطع خاخا أن يدمرها. ولأنه لم يكن يعرف محتوياتها أراد أن يقرأها خلسة، ولكن حدث مرة أو مرتين أن جاء الأولاد فجأة وضبطوه يقرأ أحد هذه الكتب الخطرة، وكان ينظر إليهم بابتسامة تنمّ عن خجله. وهم بدورهم كرروا كلمته المشهورة «يا للعيب!» وأضافوا «قراءة حقيرة لعقلية كبيرة». وبعد أن اكتشف ما في هذه الكتب صار يقرأ بعضها بصوت عال للعائلة في سهرات المساء.

صار ثلاثة من أبنائه أطباء واثنان معلمَين، ذهب أحدهما فيما بعد إلى أمريكا وانضم إلى أسرة «صوت أمريكا» عدة سنين. وزاول أحد الأطباء مهنته في الولايات المتحدة، وكتب سيرة عمه «الدكتور سعيد» والتي تُرجمت إلى خمس لغات من لغات الشرقين الأوسط والأقصى، وأحد أحفاده عمود من أعمدة الكنيسة الإنجليكانية في أصفهان.

لقد صار خاخا المُلاّ المتكبر على جانب كبير من التواضع. عندما كان يتكلم عن نفسه كان يتكلم بإنكار ذات فجسَّد في حياته تعليم المسيح الذي حضّ أتباعه أن يصيروا مثل الأولاد. لقد نال الطوبى الأولى بكل تأكيد لأنه كان «مسكيناً بالروح». ومع تواضعه كان يتميز بما للأطفال من ثقة. كان مخلّصاً لا غش فيه، وكان لا يشك في الآخرين. قبِل الناس على ما كانوا يظهرون به، ولم يهتم بفحص بواعثهم. وقال أحد أولاده إنه لا يذكر أنه سمع أباه يوماً ما يتكلم كلمة قاسية عن أحد.

صفة أخرى تميَّز بها خاخا هي تصميمه بالنسبة لمن يحبهم وعناده بالنسبة لمن لا يحبهم. عندما كان يضع خطةً لأسفاره كان يتمّمها بدقّة تامة، وصفتها إحدى المرسَلات بقولها: «قلت له: هذه الطريق توصّلنا إلى مدينة كذا، بها سيدتان يهمّني أن أزورهما. فقال: لا يمكن أن نذهب إلى هناك في هذه الرحلة. فقلت: ولكني وعدتُهما بزيارة في مثل هذا الوقت! فقال: لكننا اليوم ذاهبون إلى بلد أخرى». وهكذا كان ينفّذ برنامجه بدون أي تغيير. وكان غالباً يفعل ذلك لشعوره أن الروح القدس يقوده عند وضع خطته. وعندما اتَّخذ قراره بقبول المسيح لم يتحوَّل ولم يتبدل في قراره، بل ظل متمسكاً به إلى النهاية دون تردد، رغم كل ما قابله من اضطهادات.

وكان إيمانه مصحوباً بالغيرة الشديدة للكرازة، فبعد أن قبل الإيمان بالمسيح شعر أن واجبه الأول هو نشره، لأنه رأى ضرورة مشاركة الآخرين في أهم شيء عنده. وكان يسعده أن يروي قصة تجديده واهتدائه واهتداء أخيه، وكان للقصتين تأثير عميق. وحالما أُخلي سبيله من كل الواجبات الأخرى وتعيَّن كارزاً يحمل البشارة ويذيع الأخبار السارة، كرس نفسه تماماً لهذا العمل. ولم تثبط همّته اللعنات ولا التهديدات عن توزيع النبذ في الشوارع. وكانت الرحلات التبشيرية نبعَ فرحٍ لحياته، وكان يتطلع إليها بشوق. وعندما كان يسمع برحلة تبشيرية كان يبادر بطلب الانضمام إليها حتى بعد أن أصابه الصمم والمرض. ولما كان المسؤولون يرفضون سفره (شفقةً عليه) كان يشعر بخيبة أمل شديدة. لقد كان في أعماق نفسه مبشراً بكل معنى الكلمة.

أما حياة خاخا التعبدية فكانت لها مميزاتها الخاصة. كان معتاداً أن ينفرد كل صباح في ركن من الغرفة، كان بمثابة مذبحه الخاص. وكان أحياناً ينفرد في غرفة خاصة ويقضي وقتاً هادئاً في خلوة مع الله. واعتاد في المساء أن يصلي همساً بعد أن تُطفأ الأنوار. وقد شهد أحد أبنائه أنهم وإن كانوا لم يتعوّدوا على ما يُسمّى بالعبادة العائلية في البيت، إلا أن والدهم لم يهمل قط عادة التعبُّد الهادئ الذي كان مصدر إلهام له في سنواته الأخيرة. كان خاخا رجل صلاة، وكثيراً ما كان يقول لأبنائه: لا يمكن لأحد أن يحمل أثقال الحياة أو يواجه مسؤولياتها بغير صلاة. والذين اعتادوا مرافقته في رحلاته التبشيرية كثيراً ما كانوا يرونه جالساً على سريره في منتصف الليل ويسمعونه يصلي. ولما أصابه الصمم لم يدرك أن صوته كان مسموعاً بل كان يحسبه همساً. كان الصوت مسموعاً لكن الكلمات لم تكن واضحة، وكانت صلواته الجمهورية تعرف بنبرتها ولفظها الكردي، ولكنها كانت قوية التأثير، وواضح للجميع أنها نابعة من القلب.

كان خاخا يصرف وقتاً طويلاً في درس الكتاب المقدس، إذ كان الكتاب رفيقه الخاص. ولا يعرف أحدٌ كم مرةٍ قرأ الكتاب كله من الغلاف للغلاف. كتب أحد أولاده عن ذلك قائلا: «كتاب والدي المقدس من أثمن كنوزي. لقد كادت صفحاته تبلى من كثرة الاستعمال. وكلما أرى الملاحظات المكتوبة على الهامش أو الآيات الموضوع تحتها سطور يتهلل قلبي».

كان خاخا مسيحياً مكرساً بالتمام. ومع أنه لم يحصل على التعليم أو الشهرة التي كانت لأخيه الطبيب الدكتور سعيد، إلا أن شهادته لإيمانه كانت مخلصة كشهادة أخيه. إن التغيير الذي حدث في حياته حوَّله من مسلم متعصب متأهب لقتل أخيه، إلى تابع متواضع محب للمسيح، يقدم شهادة مقنعة قاطعة على حق الإيمان المسيحي وقوته. وكل حياته يمكن أن تُلخَّص في عبارة واحدة قصيرة اعتاد أن يوقع بها على رسائله وهي «خاخا، عبد يسوع المسيح».

والآن نستأنف قصة «سعيد» أصغر الأخوَين الكرديين: تركنا سعيد ساكناً في حمدان يعمل مترجماً ومساعداً للدكتور ألكساندر. وقد ذهب معه بهذه الصفة إلى طهران حيث أصابته «دوسنتاريا شديدة» ولازم الفراش، وكانت له فرصة كافية للتأمل. وقد أربكته ذكريات الأوقات التي كان له فيها أحاديث مع المسلمين وهو يخفي عليهم إيمانه. وقطع عهداً أنه إذا شُفي فلن يعود يتردد في الاعتراف بإيمانه علناً. وسرعان ما سنحت له الفرصة لإثبات إخلاصه في عهده، فإنه عند عودته سافر إلى مدينة كرمنشاه التي تبعد نحو 115 ميلاً إلى الجنوب الغربي، في رحلة تبشيرية مع القس شمعون، من يروميا. وفي كرمنشاه قابل سعيد كثيرين من الأكراد وشهد لهم عن إيمانه الجديد. وفي العيادة بحمدان قابل أيضاً عدداً كبيراً من الأكراد من منطقته التي نشأ فيها وقرأ لهم من الكتاب المقدس وتحدث معهم.

من هذه الفرص التي شهد فيها سعيد بالأخبار السارة في العيادة أدرك ما للخدمة الطبية من تأثير في تحطيم التعصب وفتح الباب للبشارة المسيحية. ونتيجة لذلك قرر أن يكون طبيباً، ووافق الدكتور ألكساندر على ذلك وأخذه كطالب طب.

هنا نشأت مشكلة جديدة، إذ كان سعيد يعلّم أبناء القس شمعون في بيتهم. وبعد بضعة شهور وقع في حب رفقة ابنة القسيس. وكان الحب متبادلاً، فلما فاتح والدها في موضوع الزواج رفض الوالد رفضاً باتاً لسببين: الأول لتفاوت الفرق بين البيئتين، والثاني للأخطار التي تنشأ لعائلته والمجتمع المسيحي بسبب هذا القِران. ولما علم أهل المجتمع الأرمني بالموضوع انزعجوا واستشاطوا غضباً، إذ خافوا من هياج المسلمين في المدينة بزواجٍ لم يحدث له مثيل من قبل، فذهبوا إلى المرسلين وطلبوا منهم أن يُبعِدوا سعيداً عن حمدان. وتجنُّباً لكل اضطراب أرسلوه إلى طهران حيث عاوده المرض.

وفي ربيع عام 1887 عاد الدكتور ألكساندر من إجازته بالولايات المتحدة إلى إيران، واحتاج إلى مساعدة سعيد له في العيادة، فعاد سعيد، وأزعج ذلك الأرمن. وعاد سعيد يطلب من القس شمعون أن يسمح له بالزواج من رفقة، وأخيراً وافق القسيس على ذلك بشرط واحد، وهو أن يعتمد سعيد علناً. وكانت فرحة سعيد طاغية، لأن هذا ما كان يتمناه. وفي 10 نيسان (أبريل) سنة 1887 تمَّت فريضة المعمودية جهراً وقد حضرها المسلمون والمسيحيون. ووافق القس شمعون موافقة تامة على الزواج. ولكن نشأت عقبة أخرى، إذ رفض القس هوكز أن يقوم بمراسيم الزواج، لئلا يُقتل سعيد نتيجة لهذا الزواج ويظل القس شمعون يلقي اللوم على هوكز. ومضت سنة كاملة إلى أن حضر القس يوحنا في زيارة لحمدان ووافق أن يقوم بعقد الزواج في احتفال بسيط في بيت القسيس، يقتصر على حضور عدد قليل من الأصدقاء.

هنا بدأ الاضطراب، إذ أراد الأرمن أن يدافعوا عن أنفسهم، فأذاعوا أخبار الزواج، وأعلنوا أن العروس ليست أرمنية بل أشورية. ونتيجة لذلك عُلقت إعلانات حول المدينة في اليوم التالي تدعو المسلمين أن يثوروا وينتقموا من فظاعة هذا الزواج الدنس. وسرعان ما تجمع الرعاع وبدأوا يسيرون في الشوارع بالهتافات. وأدرك الدكتور ألكساندر الحاجة الملحة إلى عمل سريع، ولحُسن الحظ كان قد عالج اثنين من أشهر أعيان المدينة وأشدهم تأثيراً في الناس، وهما حاكم المدينة وواحد من المُلاّ. فألحَّ عليهما أن يمنعا أي حادث مؤسف. فلما وصل الجمهور المتظاهر أمام مقر الحاكم خرج إلى الشرفة وقال لهم إنه قد وصلته رسالة من سعيد ينكر فيها اعتناقه للمسيحية. وأخرج من جيبه خطاباً وزعم أنه يقرأ منه. ونجحت الحيلة وتفرَّق المتظاهرون. وكان فريق آخر من المتظاهرين قد ذهبوا إلى المسجد الرئيسي في المدينة فهدّأ المُلاّ روعهم وصرفهم. وتُرك العروسان يهنآن بزواج سعيد بدون اضطراب، ولو أن العروس عاشت مدة في خوف شديد على حياة زوجها.

في تلك الأيام كان سعيد يعمل بكل جد وكد في دراساته الطبية ويتقدم فيها تقدماً محسوساً. وكان من وقت إلى آخر يزور القرى المجاورة، وحيثما ذهب كان يشهد لإيمانه. وفي عام 1891 انتهى عقد اتفاقه مع المرسلية وقام برحلة إلى يروميا، ورافقته زوجته رفقة مع ابنتهما الصغيرة، وهي طفلتهما الأولى. ولما عاد سعيد إلى حمدان، طلبت منه المرسلية أن يجدد عقده معها فقبل بعد تردد، وذلك لمدة سنة واحدة، لأن المرسلية كانت مضطرة لإغلاق عيادتها بسبب استقالة الدكتور ألكساندر، وكانوا في انتظار من يخلفه. وكانت مسؤولياته ثقيلة وزادت واشتدت بسبب ظهور الكوليرا. وكان سعيد على وشك الانهيار، ولكنه ظل حتى فصل الربيع حين وصل الطبيب الجديد، وعندئذ قدم استقالته وذلك عام 1893.

صمم سعيد في ذلك الوقت أن يقوم برحلة إلى أوروبا، إذ شعر أنه من المستحسن تغيير الجو لتقوية صحته، كما أنه أراد أن يحصل على تدريب طبي أكثر. فذهب أولاً إلى السويد، ثم إلى لندن حيث أُتيح له التعرف على الدكتور س.ي. ورن وزوجته، اللذين استضافاه في بيتهما مدة سنتين. وقد وجهه الدكتور ورن في اختيار منهاج دراساته الطبية وقدمه إلى الإخوة البليموث، وهم هيئة دينية لا تتقيد بنظام رسمي. وقد وجد في هذه الهيئة شركة دافئة روحية رافعة وأخيراً انضم إليها. أما عن دراساته الطبية فقد أخذ مناهج في التشريح وفي الفسيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) والرمد، وأمراض المناطق الحارة. ولما عاد إلى وطنه كان قد قضى عامين ونصفاً في الخارج.

أصبح الدكتور سعيد يمارس مهنته مستقلاً ولحسابه الخاص في حمدان. واستطاع بمعونة أصدقائه في إنكلترا أن يشتري بيتاً لأسرته. وقد تطلب عمله أن يرى مرضاه في أية ساعة تناسبهم أثناء النهار.

كانت تلك الأيام مشحونة بالقلاقل والاضطرابات لكل شخص، فقد قُتل نصر الدين شاه في مايو أيار سنة 1896. واضطربت حمدان بنزاع بين طائفتين من المُلاّ لخلاف بينهما على مسألة دينية. ودوى صفير الرصاص في الليل، وانتشر القتل والسلب والنهب. وكان من الصعب جداً خاصة على شخص مسلم تنصّر أن يشهد لإيمانه، لكن الدكتور سعيد ظل يمارس شهادته.

وفي سنة 1900 استدعى زوجُ ابنة الشاه (وهو الحاكم على عدة أقاليم في جنوب غرب إيران) الدكتور سعيد ليعالج زوجته، فقضى الطبيب سنة كاملة يخدم الأمير وحاشيته المكوَّنة من خمسة آلاف شخص. وبعد أن تمم هذه المأمورية استُدعي لخدمة القصر الملكي. وقد قام بهذه الخدمة بنجاحٍ عظيم، فأراد مظفر الدين شاه الاحتفاظ به كطبيب البلاط الملكي، لكن الدكتور سعيد لم يرد أن يحصر مهارته ومواهبه في أشخاص قليلين ممتازين بل أن يستخدم طاقاته لخدمة جميع الذين يحتاجون إليها. وأظهر الشاه تقديره للدكتور سعيد بأن منحه لقباً، لم يستخدمه «سعيد» قط، ولم يعرف معظم الناس شيئاً عنه.

وفي شتاء عام 1901 قام سعيد برحلة أخرى إلى يروميا، لكن الزوابع كانت شديدة والثلوج كثيفة جداً حتى استغرقت الرحلة مع وقفات الاستراحة أثناء الطريق نحو ثلاثة شهور. وكان يضطر أحياناً للنزول في بيت في إحدى القرى، ولما كانوا يكتشفون أنه مسيحي كانوا يشعرون أن البيت تنجس، لكنهم لم يعترضوا قط على الأموال التي كان يدفعها لهم نظير ضيافته، ولا على الخدمات الطبية التي كان يقدمها لهم.

وكان يلقى ترحيباً في كل مكان في يروميا. وكان حموه القس شمعون مغتبطاً جداً بإضافته. وقضى هناك أربعة شهور مكرساً نفسه للعمل الفردي الكرازي أكثر مما كان للوعظ الجماهيري. وفي نهاية تلك المدة قرر أن يعود إلى حمدان بالرغم من الأخبار التي وصلته عما فيها من أخطار. وطلب منه واحد من المُلاّ نسخة من كتاب «مصادر الإسلام» فأعطاها له. وهو كتاب كتبه قسيس إنكليزي يبيّن فيه ما اقتبسه الإسلام من التوراة ومن المؤلفات المسيحية الهرطوقية ومن الدين الزوروستري وغيرها. وهذا يخالف اعتقاد المسلمين أن القرآن نزل من الله نفسه. وأثار هذا الكتاب عاصفة من الغضب والهياج، فقد ادَّعوا أن الدكتور سعيد هو الذي ألَّفه، فأصدر زعماء الإسلام الدينيون في حمدان قراراً بقتل سعيد. ولكن بالرغم من ذلك شعر سعيد أنه يجب أن يعود، وقد رافقه في جزء من الطريق شقيق زوجته الدكتور جسي يونان، وكان قد رجع لتوِّه من فترة تمرين بمستشفيات الولايات المتحدة، وكان يعتزم أن يذهب إلى كردستان في عمل طبي كرازي.

وقد بلغهما خبر يحذرهما من المرور في بلدة سوجابولا (واسمها الحالي محلاباد) لأن رجلين كانا قد وصلا إليها من سانادا بِنيَّة شريرة. وتباحث الطبيبان: تُرى أي طريق يتخذان. وأشار الدكتور سعيد أنهما كانا قد أُوصيا بإلحاح من الأشوريين على طول الطريق أن يضعا ثقتهما في الله. فلماذا يخافان من المرور في سوجابولا؟ لذلك ذهبا. وعندما اقتربا من المدينة قابلهما وفدٌ من قِبل حاكم الإقليم يطلب إليهما أن يكونا ضيفيه. فعبَّرا عن شكرهما للحاكم، وطلبا منه أن يقبل الاعتذار، ووعدا بقبول دعوته للغداء في اليوم التالي. وقد طلب جماعة من المُلا الحاضرين أن يخبرهم سعيد لماذا ترك الإسلام. ورُتِّب اجتماع يُعقد في الغد فيه يجاوب على أسئلتهم. وفي نهاية ذلك الاجتماع تقدم إلى الأمام الرجلان اللذان حُذر منهما الدكتور سعيد حتى لا يذهب إلى سوجابولا، وإذا هما زميلاه من أيام الدراسة وقد حضرا للسلام عليه والترحيب به بكل حرارة. فلما سافر الطبيبان (دكتور سعيد ودكتور جسي) في اليوم التالي، كان في توديعهما نحو مائتي شخص.

بعد أيام قليلة افترق الرجلان وذهب كل منهما في طريقه، فوصل سعيد إلى بيته بسلام دون أية حادثة، وتهلل للقاء عائلته مرة أخرى بعد غياب أكثر من ستة شهور.

وبالرغم من كل ما أثاره الناس من تعصب وحقد ضد الدكتور سعيد في غيابه عاد واستقر آمناً يزاول مهنته بنجاح مع أقل قدر من الانزعاج. وبعد ذلك بنحو سنة (أي في عام 1902) قرر أن يقوم برحلة أخرى إلى انكلترا ليُدخل ابنه الأكبر صموئيل (رُزق ابناً آخر، ليونارد عام 1869 فكملت عائلته بثلاثة أولاد) مدرسة هناك وليأخذ دراسات أخرى في علوم شرح الرموز الكتابية، والبكتريا، والرمد، وجراحة العين. ونتيجة لدراساته العليا، عندما عاد إلى حمدان في العام التالي، أجرى عمليات وأنواعاً من العلاج الناجع، جعل شهرته تطبق الآفاق، مما ضاعف حسد الأطباء المحليين له. وبين الذين نالوا الشفاء كان ابن حاكم الإقليم، وهو في الوقت نفسه شقيق الشاه.

وفي عام 1904 انتشر وباء الكوليرا بشكل فظيع في حمدان، فهرب من المدينة متوسطو الحال. أما الحاكم وعائلته وحاشيته فأقاموا مخيَّماً على هضبة مرتفعة تعلو ستة آلاف قدم فوق المدينة، واستدعوا الدكتور سعيد ليكون طبيبهم الخاص. وكان هناك رجل غني يدعى أمير أفخام يغار من سلطة الحاكم ويحسده، وكان يسكن في قرية «شفارين» التي تبعد نحو ستة أميال عن المدينة. وحدث أن أُصيبت زوجته وابنته بمرض خطير وتطوَّر حالهما إلى الأسوأ، فاتضع وأذل نفسه وطلب من الحاكم أن يسمح للدكتور سعيد بمعالجة هاتين السيدتين. وقد نجح الدكتور سعيد في علاجهما وشفائهما مما أبهج قلب أمير أفخام.

ولما صار الجو بارداً خفَّت وطأة الوباء ثم زال، وعاد الناس الذين هربوا إلى بيوتهم. وهنا ثارت متاعب أخرى على سعيد. فإن بعض الأطباء اليهود الذين تركوا دينهم واعتنقوا البهائية غاروا من نجاحه، وسلموا نسخة من كتاب «مصادر الإسلام» لبعض المُلاّ المتعصبين وادّعوا أن سعيداً كتب ذلك الكتاب. وتمنى أمير أفخام أن ذلك يثير اضطراباً ويخلق مشاكل لا يستطيع الحاكم أن يحلها فيضطر للاستقالة. فاجتمع المُلاّ في المسجد الرئيسي، ووقعوا قراراً يأمر بقتل سعيد لكتابته كتاباً يحوي سباً وتجديفاً على النبي، ويدعو المسلمين إلى الارتداد. ولو قُرئ هذا القرار علناً أمام الجماهير لكان دعوة للمؤمنين أن يقوموا وينفذوا الحكم.

لم يستطع الحاكم أن يفعل شيئاً، فأرسل برقية لرئيس الوزراء يخبره بما يجري حوله. وحاول أمير أفخام أن يهدئ الحال، ولكن كان الأمر قد تطور وأفلت الزمام، لذلك أرسل الأمير وفداً أحضر سعيداً ليلاً إلى شفارين. ولما عُرف مقره استأجرت جماعة من المتعصبين عصابة مجرمين لاغتيال سعيد في تلك القرية. وقام اثنان من المُلا بترؤّس تلك العصابة، وأقسما لأفرادها بالنبي أن سعيداً قد ترك ذلك المكان.

بعد ذلك بقليل أخبر أمير أفخام الدكتور سعيد أنه لا يستطيع أن يحميه بعد، وأراه برقية من رئيس الوزراء يطلب فيها إرساله في الحال إلى طهران. فسافر سعيد إلى العاصمة. وهناك علم أن كل ما حدث كان حيلة دبرها الأمير لإبعاد الحاكم عن حمدان، ولم يكن المُلاّ إلا أداة في هذه المؤامرة التي كان سعيد ضحيتها.

وطلب سعيد من زوجته أن تبيع أملاكهم وتأتي إلى طهران، لكن رفقة كانت تفضّل حمدان. أخيراً اتفقا على حل وسط، هو أن تذهب رفقة إلى طهران، ولكنهم يحتفظون بأملاكهم في حمدان.

بعد أن قضى الدكتور سعيد نحو سبع سنين يزاول مهنة الطب في العاصمة، عاد في عام 1912 إلى حمدان للسكن والعمل. وما أن مضى وقت قصير حتى وصله طلب من صاحب أملاك في قرية على حدود كردستان كان مشهوراً ببراعة خط يده، وكان الطلب لأجل خدماته الطبية. فقبل الدكتور سعيد الدعوة، وصاحبه في ذهابه ستة من الحراس المسلحين أرسلهم الرجل لمرافقته. وقد وجد الطبيب أن المريض يقاسي من هبوط عقلي ناتج عن التهاب في المخ. واستطاع الدكتور سعيد أن يُحدث تحسناً كبيراً في وقت قصير، حتى قال أبناء المريض إن أباهم تمكن من أن يقرأ وأن يكتب كما كان يفعل منذ عشرين عاماً خلت.

ولما كان الدكتور سعيد في تلك القرية وصلته رسالة من سيد نجم الدين (أحد أنسال محمد) وهو شخصية هامة له أتباع من حوض بحر قزوين المجاور لإيران من الحدود الغربية. وكانت الرسالة تستدعيه للذهاب إلى قرية في كردستان لمعالجة أحد أقاربه. وقد ظن سعيد وأصدقاؤه أنه ليس من الحكمة أن يذهب إلى منطقة فيها هذا التعصب، فأرسل جواباً بالاعتذار. وسقط جواب الدكتور سعيد في النار التي أشعلها الرسول الذي يحمل الجواب. وبعد أسبوع وصلت رسالة أخرى من الرجل نفسه توضح أن المريض هو سلطان أورامان قرب الحدود التركية، والتي منها جاءت عائلة سعيد نفسه. ترى ماذا يفعل؟ لا يستطيع أن يرفض خدمة السلطان حاكم شعبه، وفي نفس الوقت كان ذهابه يعرض حياته للخطر. اقترح بعض أصحابه أن يطلب من السلطان أجراً باهظاً، وبذلك ينتهي الأمر. فطلب من السلطان أن يكون أجره نحو 50 دولاراً في اليوم، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لذلك الوقت. وفي وقت قريب وصل سيد جلال الدين ابن سيد نجم الدين مع عدد كبير من الحاشية لمرافقته ووعد بدفع أي مبلغ يطلبه الدكتور.

وفي اليوم التالي جاءت رسالة من ساناجاز من حاكم الإقليم مع رسائل أخرى من بعض أعيان المدينة تطلب من الطبيب الذهاب لعلاج الحاكم. هذان طلبان من شخصين مهمين جداً، لكنهما يسكنان في مناطق شديدة التعصب. وبعد التأمل والصلاة قرر سعيد أن يحاول القيام بالمهمتين، بعد أن أخذ وعداً كتابياً من سيد جلال الدين أن يوصله ويرافقه كل الطريق في عودته.

وقرر الدكتور سعيد أن يذهب أولاً إلى ساناجاز، مع أن رجال السلطان قدموا له 300 دولاراً حتى لا يذهب، فأجابهم أن كلمته كلمة شرف لا يرجع عنها لقاء أي مبلغ من المال. ونستطيع أن نتصور شعوره وهو يدخل المدينة التي تركها منذ ثلاثين سنة خلت، بكل مناطقها المألوفة وذكرياتها واختباراتها العديدة. وقد قوبل بهتافات الترحيب في كل الشوارع والطرقات التي مشى فيها، والتي صبت عليه اللعنات في الأيام السالفة.

وجد الطبيب أن الحاكم يقاسي من التهاب حصوة مزمن في الكلى وارتفاع في ضغط الدم. فأعطاه حقنة وأمره بأن يأخذ حماماً ساخناً. وفي اليوم التالي تحسن كثيراً. وفي الصباح بدأ كثيرون من المرضى يأتون إليه فعالجهم جميعاً مجاناً. وبعد خمسة أيام تحسنت صحة الحاكم جداً فشعر سعيد أنه يستطيع عندئذ أن يرحل.

لم يكن السفر إلى أورامان بعيداً أو طويلاً، لكنه كان صعباً جداً، فقد كان الطريق جبلياً ضيقاً، وإذا زلت قدم الدابة تعرّضت هي وراكبها للسقوط من حافة الجبل إلى مئات الأقدام للأسفل. وفي أحد الأماكن كان الطريق ضيقاً وخطراً جداً حتى اضطر سعيد أن يقطعه زحفاً على يديه وقدميه. أما مدخل قصر السلطان فقد فُرش بالبساط الملون، وعند نهايته بُسطت سجادة جميلة وقف عليها السلطان ينتظر ضيفه، وقد أخذ سعيداً بالأحضان وقبله على خديه وفقاً للعادات الإيرانية.

ولما فحص الدكتور سعيد عيني السلطان وجد حالته مؤسفة جداً، فقد أُصيبت عيناه كلتاهما بالتراكوما، وأجرى طبيب عيون غير كفء عملية له في عينه اليسرى، فقاسى من الجلوكوما مما سبَّب له صداعاً شديداً. فضلاً عن ذلك فقد كان يقاسي من مرض السكري. وفي الواقع فشلت العملية في إحراز أي تقدم. لذلك أرسل سعيد للسلطان يخبره أنه لا يجد أملاً في علاج حالته، ولهذا يطلب الإذن بالسفر. فتوسل إليه السلطان قائلاً: «إني مستعد أن أعطيك كل ما أملك، فقط ساعدني لكي أرى بعيني التي لم تُجر فيها عملية». لكن الطبيب أجاب بأن العملية خطيرة جداً، وقد تزيد آلام السلطان وصداعه، وفي نفس الوقت تدمر سمعة الطبيب. واضطر السلطان لقبول النتيجة ورتب الأمر أن يسافر سعيد صباح الغد.

في تلك الليلة كان فصل الكتاب المقدس الذي قرأه سعيد هو قصة لعازر. وهو يقرأ كان كأنه يسمع الله يقول له «يسوع يسمع أن صديقه مريض في حالة خطرة. لكن بالرغم من الخطر سيذهب ويخدمه، لأنه يعلم أن هذه هي إرادة الآب. ألم أكن مرشداً لك في كل خطوة في الطريق في هذه السَّفرة؟ لقد حفظتك من كل ضرر. لقد أرسلتك إلى هذا الرجل المتقدم في السن وهو يتوسل أربع سنوات متوالية قائلاً: أرَسلوا لي سعيداً ليشفي عيني، وها أنت الآن تتركه لأنك وضعت ثقتك في عِلمك وليس فيَّ. أنا الذي كل شيء ممكن لديه». وأجاب سعيد: «أنا أطيعك يا رب، وأترك النتيجة لك».

في الصباح أفاد الطبيب السلطان أنه غيّر قراره بالسفر، وسيبقى ليجري العملية، ويطلب رسولاً يحمل برقية إلى سناج تُرسل إلى حمدان لإحضار أدواته للعملية. وقد اغتبط السلطان غبطة لا توصف.

مع أن أدوات الطبيب لم يمكن أن تصل قبل انقضاء أسبوع فإنه بدأ يستعد للعملية. وضع مريضه تحت نظام غذائي دقيق لتحسين حالته العامة. وأمر بتغطية أرضية الغرفة التي تجري فيها العملية بالبساط حتى لا يثور غبار مشي الأقدام على ترابها. وفعل كذلك بالسقف حتى لا تنزل ذرات غبار من السقف. وفي ذلك الوقت كان يقضي كل يوم من الصباح الباكر في علاج المرضى بشتى أنواع المرض. علاوة على ذلك حضر كثيرون من أقاربه لزيارته.

أخيراً وصلت أدوات الطبيب من حمدان وتحدد يوم العملية. كان ذلك في شهر نوفمبر (تشرين أول) وهو شهر ساعات نهاره قليلة. وفي يوم العملية بدأوا متأخرين، كانت الملتحمة أو باطن الجفن قد تلفت، وأصبحت القرنية كتلة متحجرة حتى استطاع الدكتور ان يقطعها بكل صعوبة. وقد تمزقت قزحية العين إلى أجزاء. أخيراً قطع الطبيب العدسية وأرخاها وأزالها، لكنه تنفس الصعداء لما استطاع السلطان أن يعد أصابعه. أخيراً قفل العين وربطها وأوصى أن تحفظ مقفلة أربعة أيام. وقد شهد سعيد أنه لم يكن له إيمان ولا ثقة في مهارته بل في الله.

بعد أن انقضت أربعة أيام حلَّ الدكتور الأربطة، وسأل السلطان: هل يقدر أن يرى أي شيء؟ فأجاب: نعم. في تلك اللحظة دخلت ابنة السلطان بكل هدوء، وسأل سعيدٌ من هي، فأخبروه عنها. وقد اهتز ثلاثتهم طرباً وعجباً. وغطى الطبيب العين وصار يردد ترنيمة مشهورة في اللغة الإنكليزية، كتبها جوزف هارت عام 1450 عن صلاح الله وأمانته وقدرته ومحبته التي ليس لها حدود، ولا تقيّدها قيود. ويمكن ترجمتها بتصرّفٍ كما يأتي:

يا ربنا المعبود، نبع الغنى والجود

صديقنا الودود، الدائم الوجود

يا حبك الرحيم، وعزك العظيم

ليس له حدود، كلا ولا قيود

تأثر السلطان جداً وطلب من سعيد أن يجري عملية لعيني زوجته. ولما أنهى عملية في إحدى عينيها استطاعت أن ترى جيداً حتى أنها قالت: لا داعي لأن يتعب في إجراء عملية في العين الأخرى.

جاء يوم سفر سعيد فأرسل السلطان معه خمسين شخصاً يرافقونه، منهم عشرون فارساً راكبين على الخيل وثلاثين من المشاة. أخيراً وصلوا إلى سناج، وكان الناس يهنئونه في كل مكان لأن كل أنواع الإشاعات كانت قد انتشرت في أثناء غيابه. وبعد أن استراح بضعة أيام تهيأ للسفر إلى حمدان، وحضر جلال الدين لتوديعه والدموع في عينيه. وقال: «كنتُ كل أيام هذه الرحلة أفكر حتى أعود إلى بلدي، والآن وقد حان الوقت أشعر بحزن. لقد وهبتَني البصر فأصبحتُ أرى النور. وأطلب من الله أن يباركك للمعونة التي قدمتها لي».

وصل سعيد إلى بيته قبل عيد الميلاد بيوم أو اثنين، فكان ذلك وقت سرور وبهجة له ولأسرته. وقد شكر الله لحفظه إياه من كل أخطار الرحلة، ولأنه استخدمه في شفاء كثيرين من المرضى، وأعطاه فرصة للشهادة في مسقط رأسه في كردستان.

في العام التالي، أي سنة 1913 قام برحلة ثالثة إلى انكلترا، حيث كان ابناه. كان صموئيل قد قضى هناك 11 سنة، وكان وقتئذ يدرس الهندسة، وكان لموئيل قد قضى سبع سنوات ويحتاج إلى سنة أخرى لينهي تعليمه العام. كان سعيد مشتاقاً أن يرى ابنيه، كما كان يحتاج لشيء من الراحة والتغيير بعد سنوات كثيرة من العمل المضني. وقد جاءته فرصة السفر إلى أوروبا من مريض استدعاه لمرافقته. وهيأت له إقامته في لندن فرصة لتلقي دراسات مصحوبة بعمل أكثر تقدماً في مستشفيين درس فيهما من قبل، كما أنها أتاحت له مجالاً لزيارة السر وليم أوسلر الطبيب العالمي الذائع الصيت، الذي سبق أن تبادل معه مراسلات عن قبر ابن سينا الطبيب الفارسي الشهير الذي عاش في القرن الحادي عشر ودُفن في حمدان. وأبدى الدكتور أوسلر مزيداً من الاهتمام بتشييد قبر فخم جدير بأن يكون تذكاراً لهذا الطبيب والفيلسوف الفارسي الشهير. وقد اعتمد على معونة الدكتور سعيد في ذلك. ولكن قبل أن يُكلل هذا النداء بالنجاح نشبت الحرب العالمية الأولى وأخّرت كل شيء. ومات الدكتور أوسلر بعد انتهاء الحرب بقليل فتوقف المشروع. وأنفق المال الذي جُمع في تشييد بناية بها غرفة قراءة. وتبنّت وزارة التعليم الإيرانية المشروع فيما بعد ووضعت مخططات لضريح فخم ومكتبة، ودُشن البناء عام 1954 بحضور الملك والملكة وعظماء المستشرقين الممتازين.

وعند عودة الدكتور سعيد من انكلترا استأنف مزاولة الطب في حمدان. وسرعان ما اندلعت نار الحرب العالمية الأولى. وفي صيف 1916 جاء الجيش التركي إلى حمدان من بغداد، وقبل وصوله تركت الجالية المسيحية (ومعظمها من الأرمن) مدينة حمدان، ومن بينهم الدكتور سعيد وأسرته. ولكن رفقة بما اشتهرت به من روح ونزعة استقلالية بقيت ومعها لموئيل، وكان قد عاد من انكلترا إلى طهران، فجاء ليمكث مع أمه في حمدان. ولما عجز الأتراك عن القبض على «المرتد» دمروا أشجار البلاد التي تُقدر بمئات الدولارات بحجة أن سعيداً قد عالج جنود الروس عندما احتلوا المدينة، وأن ابنه صموئيل كان لا يزال يخدم في الجيش البريطاني. وقد عرض عليه البريطانيون فيما بعد تعويضاً لكنه رفض ذلك.

أقام الدكتور سعيد في طهران بقية أيام حياته في عيشة هادئة يمارس خدماته الطبية المعتادة، وكان بيته وعيادته المتجاوران بقرب مركز المدينة عبر الشارع الذي تقع فيه وزارة الحربية ودار الإرسالية الأمريكية المشيخية. وكان نظامه أن يستيقظ مبكراً في الصباح ويقضي وقتاً منفرداً في التعبد والتأملات، ثم يتناول طعام الإفطار، ويذهب إلى عيادته حيث يقضي من الثامنة والنصف صباحاً إلى الظهر، ثم من الساعة الثانية بعد الظهر إلى أن يحل الظلام، لا يقطع عليه ذلك سوى زيارته لمرضاه في البيوت، وكانت عيادته عادة ممتلئة. وكان يفحص مرضاه فحصاً دقيقاً لكن لا يسجل تواريخ الحالات التي يعالجها فقد كان يعتمد على ذاكرته الممتازة. وكان يعقد اجتماعين في بيته أسبوعياً لدرس الكتاب المقدس: في أيام الآحاد للمسيحيين، وأيام الخميس للمسلمين وغيرهم ممن يريد الحضور. وقد رافقته زوجته رفقة وكانت تدير البيت بكل كفاءة.

وبمرور الزمن، وبعد أن جاوز سعيد سن السبعين بدأ يخفض عمله تدريجياً. ولما كان يصطاف في مصيفه في حمدان جاءته دعوة من سناج ليعالج زوجة الحاكم، فقام لذلك برحلة قصيرة رافقه فيها زوج ابنته الدكتور تتفون وخاخا كما أشرنا في الفصل الثاني.

بعد عامين حين كان يصطاف في حمدان، استدعاه مركز الشرطة، وقيل له إن ذلك لعلاج مريض، ولكن بما أنه كان مصحوباً باثنين من رجال الشرطة أدرك أنه للقبض عليه، ولم يستطع أن يتصور لماذا. وفي التحقيق وجد من أسئلة الضابط أن التهمة كانت بسبب رسالة كان قد كتبها إلى ابن رئيس قبيلة كردية كان بين مرضاه، وقد مات مؤخراً. وكان قد قُبض عليه مع آخرين كرهائن بأمر من رضا شاه، والد الشاه الذي خُلع حديثاً وغادر البلاد، وقد فعل ذلك ليُخضع القبائل تحت أمره. وقد وردت عبارة في رسالة الدكتور سعيد فيها يقول: «ويسركِ أنه مات في بيته تحيط به عائلته، وليس مثل صولت الدولة (لقب رئيس قبيلة كشغال) أو تمورتاش (وزير البلاط السابق) وغيرهما ممن جالوا بهم ساخرين وسط البلاد وماتوا في السجن». مع أن مصير هذين الرجلين كان معروفاً وشائعاً عند الجميع، إلا أن الضابط سأل الدكتور سعيد كيف عرف أن هذين الرجلين قد ماتا في السجن، واتهمه أنه كان على اتصال وثيق بهما. وعند ذلك استدعى الضابط أحد رجال الشرطة ليودع الدكتور سعيد غرفة في السجن. وكان لا يوجد في تلك الغرفة سوى سرير خشبي بسيط وفراش حقيرة، فلم ينم تلك الليلة إلا قليلاً. وفي اليوم التالي سُمح للدكتور تتفون أن يحضر له سريراً وطعاماً من البيت. وقضى شهرين ونصف شهر في هذه الحالة، والموظفون في حمدان ينتظرون الأوامر من طهران ... وسُمح لأفراد عائلته وأصدقائه بزيارته، ووصلته رسائل مؤاساة كثيرة من أعيان كردستان ووجهائها، بل من أئمة الدين. لكنهم كانوا يكتبون بتحفظ طبعاً، لكن رسائل المواساة الصادرة من أناس كانوا فيما سبق يطلبون قتله كانت أكبر مصدر لفرحه في تلك الأيام المظلمة.

بعد شهرين ونصف أُرسل الدكتور سعيد إلى طهران تحت الحراسة، وهناك سعى أصدقاؤه لإطلاق سراحه، ولكن باءت كل مساعيهم بالفشل، بل ذهب صموئيل بنفسه مرتين إلى رئيس الوزراء، الذي كان الدكتور قد عالجه في وقت ما ونجح في شفائه حين فشل كل الأطباء الآخرين، لكن رئيس الوزراء أخبره أنه لا يستطيع ذلك، لأن الأمر في يد الشاه نفسه. أخيراً كتب صموئيل برقية مطولة للشاه فيها يخبره أن الخطاب الذي كتبه والده قد فُهم خطأ ويطلب العفو عنه. وكان لهذه البرقية أثرها الفعال، فصدر الأمر بالإفراج عن الدكتور سعيد. وقد سبب ذلك اغتباطاً عظيماً لكل العائلة والأصدقاء، ووصلت رسائل التهنئة من كل أنحاء البلاد. وقد دام سجنه تسعة وتسعين يوماً قال عنها الدكتور سعيد إنها كانت أحسن وقت راحة قضاه في خمسين عاماً.

في العام التالي انتقل الدكتور سعيد إلى بيت جديد بناه له ابنه المهندس صموئيل، وهو مكوّن من ثلاثة طوابق، بدروم وطابقان صممه خصيصاً لإراحته. وترجى أن يكون لديه وقت أطول للقراءة والكتابة، والدرس. وقد رُفعت اللافتة التي كانت على واجهة العيادة، ورغم ذلك لم ينقطع بعض مرضاه عن الإتيان إليه، ولم يسمح له قلبه الرقيق بصدِّهم. لكنه وجد على أي حال وقتاً أطول للدراسة.

لم يكد يمضي عام على سكنهم في هذا البيت الجديد حتى مرضت رفقة وطال مرضها عدة شهور، وأخيراً انتقلت إلى السماء في نوفمبر (تشرين أول) سنة 1939 ، وقد كسر موتها قلب زوجها وحزن حزناً عميقاً على شريكة حياته لمدة أكثر من خمسين عاماً، وقد توافد على خدمة جنازتها التي أُقيمت في كنيسة الإرسالية مئات من الناس من الوزراء إلى فقراء الشعب الذين كانت تساعدهم وتعطف عليهم.

وقبل انقضاء أربعة شهور على وفاتها جاءت الأخبار المحزنة عن وفاة خاخا، فزادت من آلام الدكتور سعيد. وقلب نشوب الحرب العالمية الثانية كل شيء ظلاماً. وكان صموئيل عازماً على التقاعد والإقامة في أمريكا مع زوجته وأولاده. وعقدت العائلة آخر اجتماع يربط كل أفراد الأسرة في أول يونيو (حزيران) سنة 1942 في عيد ميلاد سعيد التاسع والسبعين. وبعد ثلاثة أيام سافر صموئيل إلى الولايات المتحدة وترك أباه في حمدان لنزهته السنوية هناك.

بعد انقضاء أقل من شهرين، في 29 يوليو (تموز) أُصيب سعيد بنوبة قلبية في حديقته الهادئة ومات في نفس اليوم، وأُقيمت خدمة جنازة في قاعة الكنيسة الجميلة التي كان القس هوكز قد بناها تذكاراً لزوجته. وقد حضر حفل جنازه عدد كبير يمثلون بلاداً كثيرة. وأُنشد لحن من ألحانه، وهو مليء بالمديح لصفات وكمالات المسيح، ودُفن في المدافن البروتستانتية بجوار قبور أصدقاء العمر القس هوكز وزوجته، وقد نقشت على قبره هذه الكلمات: «لأني لا أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن» (رومية 1: 16).

والآن لنلقِ نظرة على الخصال والصفات الحميدة التي امتاز بها وجعلته خالد الذكرى:

أولاً بحثه عن الحق: في مستهل عمره وهو مسلم درس القرآن والشريعة الإسلامية وتعلم التقاليد الإسلامية. ولما جاء القس يوحنا إلى سناج بدأ يدرس الكتاب المقدس. ولم يكتف بأن يسأل الواعظ المسيحي عن معنى الآيات، بل درس اللغة الآرامية القديمة والحديثة، كما درس العبرية، حتى يستطيع أن يقارن الترجمات ويستخلّص أفضل المعاني. وفحص نبوات التوراة بكل دقة ليرى كيف تحققت في حياة المسيح. ولما كان في أشد حيرة وارتياب وهو يوازن بين الإسلام والمسيحية كان يصلي بلجاجة وحرارة قائلاً: «يا مرشد الضالين قُدني إلى الطريق الصواب حسب إرادتك. ارفع الحجاب عن نفسي وامنح قلبي راحة واطمئناناً». ولم يمض وقت طويل حتى استُجيبت صلاته. ولما جاء مار شمعون الأسقف الكاثوليكي إلى سناج، وكان متعمقاً في معرفة الكتاب المقدس، زاره سعيد مراراً في أثناء إقامته القصيرة واستفاد منه كثيراً في التعمق في معرفة الكتاب المقدس.

وكانت أول رحلة قام بها إلى أوروبا تهدف إلى غرض مزدوج: معرفة الحق الروحي والتبحر في البحث الطبي. وكان قد التقى قبل ذلك بمرسل سويدي في حمدان يدّعي أنه قد وصل إلى الكمال الروحي. وأراد سعيد أن يصل إلى ذلك إن كان ممكناً. وكانت إقامته في السويد تهدف إلى هذا الغرض، ولكن زيادة معرفته بذلك المرسل وزملائه لم تحقق له هذا الهدف. ولم يدرك حقيقة الأمر إلا عندما أشرق على عقله نور جديد، أضاء فكره وهو يدرس الكتاب في فرصة التعبد الصباحية من الآية التي تقول «وَلٰكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ» (1يوحنا 3: 2).

بدأ شوقه المتزايد للتبحر في العلوم الطبية مبكراً في مستهل أيام إقامته في حمدان، حين كان يعمل مع الدكتور ألكساندر، وكان يظل ساهراً إلى ما بعد منتصف الليل يدرس بتعمق مؤلفات الفارابي وابن سينا الطبيبين الفارسيين الذائعي الصيت. وواصل دراساته في لندن باجتهاد مدة عامين للحصول على قسط أوفى من العلم والمعرفة. وفي رحلة أخرى بعد ذلك ظل يسعى في طلب العلم، فإن تعطشه للحق لم ينقطع قط.

ولم يكن بحثه عن الحق قاصراً على ميادين الطب والإيمان المسيحي. بل بما أنه من أصل كردي كان يهتم أعمق اهتمام لمعرفة «أهل الحق» أو «علي الإلهي» وهو مذهب يُعتبر بدعة في الإسلام، نشأ في كردستان، وقد قرأ مقالة ضليعة عن هذا الدين الغريب في المؤتمر المرسلي الذي عقد في طهران عام 1926. وكان بعض البابيين الأوائل، ومنهم الباب نفسه بين مرضاه وأصدقائه، فأتاح ذلك له معرفة وثيقة قريبة بنشأة حركة بابي بهاء، وجمع قدراً كبيراً من المعلومات الثمينة النادرة والمخطوطات البابية المكتوبة باليد من مصادرها الأصلية. وكثير من هذه الكتب والمخطوطات الثمينة موجودة الآن في مكتبة جامعة برنستون. لكنه لم يجد في هذه الأديان جميعاً شيئاً يمكن أن يُقارن بالكنوز التي وجدها في المسيح.

ثانياً: كان الدكتور سعيد رجلاً روحياً عميقاً. لما كان مسلماً كان دائماً يطلب التقرب إلى الله. وإذ كان صبياً صغير السن قبل أن تُفرض عليه ممارسة الفروض الإسلامية بدأ يواظب على الصلاة في المسجد. وبعد ذلك لما تقدم في العمر قليلاً بدأ يصوم شهر رمضان ويمارس الفرائض التعبدية الخاصة به. وكان ينادي أو يؤذن بالصلوات الخاصة من فوق السطوح. وبينما كان غيره ينفق الليالي في الطعام والولائم، كان هو يكتفي بأكلة واحدة في المساء، ويشرب قليلاً من الماء عند الفجر قبل بدء الصوم. ولكي يكمل حياته الروحية طلب الانضمام إلى عضوية جماعة النقشبندية الصوفية، وهي مذهب واسع الانتشار بين الدراويش. لقد سمع أن بعض رجال هذه الجماعة صاموا أربعين يوماً وبعد ذلك حصلوا على رؤى عجيبة. فقُبل في عضوية هذه الجماعة وظل يمارس فروضها بأمانة كل ليلة مدة ثلاثة أعوام.

ولما صار مسيحياً كان طالباً غيوراً في ملازمة الكتاب المقدس. كان الكتاب أقرب صديق له. ولما هرب إلى حمدان ولحق به خاخا ليُرجعه إلى سناج، رفض سعيد أن يعود، فأخذ خاخا كيسه الذي كان يحوي أمتعته وكتبه المحبوبة زعماً منه أن ذلك يرغمه على العودة مع أخيه، لكن سعيد صاح قائلاً: «خذ كل شيء، إنما اترك لي الكتاب المقدس». وقد رافقه هذا الروح كل أيام حياته. لما كان يستيقظ في الصباح كان لا يبدأ عملاً قبل أن يقرأ الكتاب المقدس، وكان لا ينام في الليل إلا بنظرة أخيرة إليه. ولما كان يزور مرضاه كان يأخذ الكتاب معه، وكثيراً ما كان يقرأ لهم منه. كان الكتاب طعامه وشرابه، بل كان مرشده في الحياة اليومية، وتعزيته في المتاعب والضيقات.

ومع درسه للكتاب كان يواظب على الصلاة. وكانت صلاته شركة حقيقية مع الله. وكم كان يحزن على مواطنيه المسلمين الذين كانوا يتلون صلواتهم باللغة العربية وهم لا يفهمونها. كان يصلي لأجل عائلته ولأجل مرضاه. ولما كان يواجه ظرفاً صعباً كان يطلب إرشاد الله، وكثيراً ما حصل عليه وهو راكع على ركبتيه. ولما كان يواجه عملاً قاسياً أو مستحيلاً كان يطلب معونة الله، ولما كان العمل يكلل بالنجاح كان يسكب قلبه بالشكر لله الذي أعانه.

كانت حياة الدكتور سعيد الروحية مركزة في المسيح، فقد كان المسيح كل شيء له. وكتب ترانيم كثيرة يرنمونها في الكنائس، ولا سيما الترانيم التي تكشف عمق فكره وحقيقة قلبه. إليك إحداها، مترجمة كالآتي (ولو أنه لا يمكن ضبط وزن الشعر والسجع في الترجمة).

المسيح حياتي، المسيح نوري

المسيح قائدي في ظلام الليل

المسيح لي الكاهن المجيد والشفيع الوحيد

المسيح سيّدي، هو للحق مفتاحي الأكيد.

المسيح سيّدي، منحني السلام

المسيح مخلّصي ببره إلى التمام

المسيح نبيّي وكاهني وملكي الفريد

المسيح طريقي، قلبي يتمسّك بحقه الوطيد،

المسيح مجدي، المسيح إكليلي

المسيح يشاركني إذا اعترض الضيق سبيلي

المسيح كنزي ومجدي في السماء.

في حزني وغمّي حبّه هو العزاء

المسيح مخلّصي وقسمتي وربي

وكل مجدٍ يتغنى به قلبي

المسيح سلامي، المسيح طعامي

يا مسيحي يا هنائي يا صمد،

أنت عزي ورجائي للأبد.

يا مسيحي يا سروري والعزاء

لك شكري يا ميسِّر الفداء

إن مرضتُ أنت لي نبع الشفاء

كل عوزي أنت تبدل بالثراء

ثالثاً: صفة ثالثة من صفات الدكتور سعيد الممتازة هي الشهادة والكرازة. كم من مسلمين قبلوا الإيمان المسيحي في قلوبهم، ولكنهم خوفاً من الاضطهاد أو الضيق لم يعترفوا به. أما الدكتور سعيد فلم يكن فقط مستعداً أن يعترف بإيمانه، بل كان يطلب أية فرصة ليتحدث فيها عن إيمانه ويدعو الآخرين لقبوله. وكان يكلّم مرضاه عن إيمانه وعن قيمته عنده. لم يكن كافياً عنده أن يشفي الجسد، بل كان يطلب شفاء النفس أيضاً. ولما كان يُطلب للمثول أمام السلطات لم ينكر إيمانه قط لينقذ نفسه من الآلام. وسيّان عنده إن كان ينزل في بيت وضيع في إحدى القرى أو في بيت حاكم الإقليم، فقد كان دائماً يشهد عن إيمانه.

رابعاً: كانت الشجاعة ميزة أخرى من مميزات سعيد كما أظهرنا فيما سبق. حدث ذات يوم عام 1912 إن كان اثنان من المرسلين يتابحثان: هل حان الوقت الذي يُسمح فيه لمسلمٍ متنصّر أن يعظ في يوم أحد في كنيسة يكون بين الحاضرين فيها عدد من المسلمين. وفيما هما يتحدثان مرَّ الدكتور سعيد وسمع الدكتور صموئيل غوردن يقول لزميله: «نعم، لقد جاء الوقت، وها هو الواعظ!». وسُئل الدكتور سعيد فأجاب: يجب أن أستشير الرب أولاً. وفي اليوم التالي أجاب بالإيجاب. وكانت عظته عن تطهير نعمان السرياني من برصه، وهي العظة التي طبعها فيما بعد في شكل نبذة ووزعها على نطاق واسع. ولم تحدث نتائج خطيرة بالنسبة لشجاعته، ولكن هذا وضع سابقة حسنة لمتجددين آخرين شغلوا المنبر فيما بعد.

خامساً: من الصفات الأخرى التي امتاز بها الدكتور سعيد نذكر واحدة فقط هي معاملته لأعدائه بالمحبة. عندما كانت تُتاح له أية فرصة لعمل إحسان أو لطف أو تقديم عناية طبية لشخص أساء إليه أو حاول إيقاع ضرر به، كان دائماً مستعداً لتأدية تلك الخدمة. تأمل مثلاً في الشهادات التالية:

كان أحد زعماء المُلاّ في حمدان واحداً من الوجهاء الذين تآمروا على قتل الدكتور سعيد في عام 1904 واضطره لترك ممارسة مهنته في تلك المدينة والهروب إلى طهران. ولما عاد دكتور سعيد إلى حمدان بعد بضعة سنين ليستريح قليلاً في أثناء الصيف، كان هذا المُلاّ مريضاً جداً بقرح في معدته. وأرسل يطلب من الدكتور سعيد علاجه، فعالجه بكل شفقة وحنان ومهارة دون أن يتقاضى أي أجر، وظل يعتني به حتى استعاد صحته تماماً. وكلما احتاج هو أو أحد أفراد أسرته إلى علاج طبي كان الدكتور دائماً يعاملهم نفس المعاملة بالعطف وبدون أجر. وفي مرة أخرى رافقه مُلاّ آخر إلى عيادة الطبيب، وقال المُلاّ لزميله المرافق: «إني أخجل من نفسي أمام هذا الطبيب. لقد أسأت إليه أشد الإساءات، لكنه كان دائماً يقابل إساءاتي بالإحسان. ومرة أنقذ حياتي». وفي مرة أخرى قال لطبيب مسيحي: «لقد فعلت كل ما أستطيع لأقضي على حياته، لكنه بالرغم من ذلك كان دائماً يقابلني باللطف والإحسان».

وفي عام 1911 حين كانت الحكومة تحت حكم سلار الدولة شقيق الشاه المخلوع، جمع هذا النائب جيشاً من رجال القبائل بينهم عدد كبير من سناج ومجاوراتها، وسار بهم نحو العاصمة ليحتلها، لكنه هُزم. وأُخذ عدد كبير من رجال جيشه أسرى وسُجنوا في طهران. وكان بينهم من تعاهدوا على قتل سعيد. فلما عاد سعيد إلى العاصمة من إجازته الصيفية في حمدان، زار كثيرين من هؤلاء الأسرى المسجونين، وعالج الجرحى، وأعطى بعضهم مساعدة مالية، واستطاع أن يعمل على إطلاق سراح كثيرين منهم وأعادهم إلى كردستان. وهذه شهادة واحد منهم يعبر عن رأي الجميع «لقد كنتُ واحداً ممن أقسموا على قتل الدكتور سعيد لكنه شفى عيني، وأعطاني مساعدة مالية وأعادني إلى بلدي وأهلي».

بعد ذلك بسنين، حدث في عصر أحد الأيام أن كان الدكتور سعيد يقود اجتماعاً لدرس الكتاب المقدس في بيته، ودخل الغرفة ضابط بلباسه الرسمي. وواضح أنه كان يعاني من خُراج في رقبته، وطلب منه الطبيب أن ينتظر حتى ينتهي من درس الكتاب المقدس. وبعد الاجتماع ذهب سعيد إلى مستوصفه ليعقم الأربطة. وفي تلك الأثناء قال الضابط للجماعة: «أنتم لا تعرفونني. منذ سنين طويلة سعيت جهدي لقتل الدكتور، لكنه كان دائماً وأبداً يعالجني أنا وعائلتي بهذه الطريقة الممتازة». وبعد أن ذهب الضابط طلب الحاضرون من الدكتور أن يشرح لهم معنى كلام الضابط. أجاب الطبيب: «هذا الضابط الذي عالجته الآن هو محمد خان، وكان قبلاً لصاً مشهوراً من قطاع الطرق في كردستان. وفي طريق عودتي من أورمان إلى سناج، استأجروه ليعترض سبيل قافلتنا ويقتلني، لكن العناية غيّرت طريقي فنجوت. وظل محمد خان وخمسة وعشرون من أفراد عائلته تحت الإقامة الجبرية مدة سنة ونصف في طهران وكنت أتولى علاجهم كل تلك المدة مجاناً». لقد كان سعيد أميناً في حفظ تعليم سيده «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ» (لوقا 6: 27 و28).

لأجل هذه الصفات الممتازة، وبسبب الخدمات التي قدمها الدكتور سعيد لأناس كثيرين بمهارة فائقة وكرم فياض، قال السر مورتيمر دوراند سفير بريطانيا في إيران: «لو كانت الإرسالية الأميريكية في كل سني خدمتها (في إيران) لم تفعل شيئاً سوى تجديد الدكتور سعيد، تكون جهودها قد كُللت بأكمل نجاح».

أيها القارئ العزيز،

ان كنت مجتهداً في قراءة هذا الكتيب، يمكنك الإجابة على الأسئلة التالية بسهولة. الرجاء ارسال الإجابات على قسيمة الاتصال بنا الموجودة على الموقع.

  1. لماذا كان أهل سناج يدعون والد الأخوَين من كردستان «رسول المُلاّ»؟
  2. لماذا أراد القس يوحنا أن يصرف مدة طويلة في سناج؟
  3. ما الذي لاحظه سعيد في المسيحيين الثلاثة يختلف عما سبق أن سمعه عن المسيحيين؟
  4. لماذا وضع سعيد جمرتي نار على ساقيه؟
  5. لماذا خاف خاخا من دراسة سعيد للكتاب المقدس؟
  6. ماذا حدث لخاخا بعد أن باع بيته؟ ولماذا كانت صفقة بيع البيت خسارة كاملة؟
  7. ماذا قال خاخا عندما عرضوا عليه الزواج والمال؟
  8. اكتب صفتين أعجبتاك في خاخا.
  9. ما هو موضوع كتاب «مصادر الإسلام»؟
  10. كيف أفادت قصة لعازر الدكتور سعيد في عمله كطبيب عيون؟
  11. اكتب كلمات الترنيمة التي رتلها الدكتور سعيد بعد شفاء بصر السلطان؟
  12. اذكر صفتين أعجبتاك في الدكتور سعيد.

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:

The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486
Rikon
Switzerland

© 1996 - 2012 The Good Way Publishing. جميع الحقوق محفوظة لموقع دار الهداية

عودة الى  الصفحة الرئيسية