في سبيل الحق

. اسكندر جديد

توطئة
القِسم الاول: موجز مذكراتِ توفيق كَمَا كَتبها بنفسِه
القِسم الثاني: الرسَائل المتبَادَلة

توطئة

عرفت توفيق منذ حداثتي، فتى منحدراً من أسرة عريقة يتغنى أفرادها بالأمجاد الغابرة التي تبيّن نبالة الآباء والجدود. ولكن صروف الحياة دفعت به منذ فجر شبابه في أتون الألم، فاعتصرت دموعه. وتناولته الأرزاء بمقراض الهموم فقصَّت أطناب مسراته، فهجر بيت أبيه فجأة وراح يضرب أرض الله الواسعة.

لقد اختلف سكان القرية في أمره. فمنهم من قال: هو ابن لم يتمتع يوماً بعطف والديه المتنابذين، فكان من الطبيعي أن يرحل. ومنهم من قال: لقد أحب فتاة فخانت عهده وتزوجت من أحد أقربائه، فهجر الديار وطلب العزلة بعيداً توصُّلاً إلى النسيان. ومنهم من قال: انه قرأ بعض المؤلفات الدينية فأثَّرت في عقيدته ودفعته إلى الخروج على دين الآباء والجدود، وكان لابد له أن يتوارى. ومنهم من اكتفى بالقول إنه معتوه!

أما أنا فلم أقل شيئاً. إما لأنني كنت أُحب في هذا الفتى البساطة في الرأي، والاخلاص في سعيه وراء الحق. وإما لأنني لست ممَّن يتجنُّون على الغير بالظن والتخمين، اعتقاداً مني أن لكل نفس أسراراً غامضة لا تكشفها الظنون ولا يدرك أغوارها التخمين. غير أنني كنت أتمنى في قرارة نفسي أن تُتاح لي فرصة لقاء مع هذا الإنسان الذي أحببته.

مضت سنون عديدة كنت خلالها أسمع بعضاً من أخبار صديقي. وقد قيل عنه أشياء كثيرة، أُمسك قلمي عن تدوينها، تجنُّباً للأكاذيب التي اعتاد سكان قريتنا على دسّها في كل حادثة.

وذات يوم جاءني منه كتاب في البريد المضمون يدعوني فيه لزيارته في لبنان، وقد عيّن لي فيه الزمان والمكان. فسُررت جداً للدعوة التي أتاحت لي لقاءً اشتهيته بتوق النفس، ليس لأنني أعطف على هذا الإنسان وحسب، بل لأنني أرغب في الوقوف على الأسرار المحيطة به.

عند اللقاء وجدت صديقي فى صحة جيدة، ولو أن بعض الغضون التى خطتها يد السنين ظهرت على محياه، فأكسبت وسامته مهابة وجلالاً. وانبعثت من عينيه البراقتين نظرات تتكلم عن سرور داخلي مشبع بالسلام.

تأملت ملياً وجه صديقي، وبحثت فى غضون السنين التي انطوت من عهدي به، وعلى ضوء ما قيل فيه من أكاذيب. فلم أجد سبباً للابتسامة المشعة على ثغره، فسألته:

- ما بالك أيها الرجل؟ وأين ذلك الوجوم، الذي كان مخيّماً على وجهك؟ وماذا صنعت بذلك الحزن الذي كان ملاصقاً لحداثتك؟!

قال مبتسماً: ستعلم كل شيء من حديثي الطويل الذي دعوتك لتسمعه. لقد انقضت عشرون سنة وأنا منطو على بواعث مغادرتي بيت أمي، أكبح في صدرى جِماح ثورة الكرامة على الافتراءات التي رُميت بها، وأمسح ببلسم تجلُّدي الجراح التي أُصبت بها في ديار أحبائي، وأهدهد آلام نفسي بما في قلبي من رجاء حي: رجاء انشأته فّيَّ حالة سعيدة عرفتها في قراءتي بعض الكتب.

والآن يا صديقي، حان الوقت لكي أُسمع الجميع صدى صراخي المكتوم الذي ما زال يدوي في حنايا ضلوعي دون ان يخنقه هتاف الفرح الذي ملأ كياني منذ سنين خلت.

هاك سري يا صديقي: فكن أمينا له. وحين تجد الوقت المناسب للكشف عنه اكتبه وانشره، ولكن برفق، دون أن تسربله بالتوافه التي تتجنى على حرية الرأى او تحط من روعة الكفاح في سبيل المثُل العليا التي نجد ميلاً لاعتناقها.

بقيت مع صديقي عدة أيام أستمع إلى قصته الرائعة التي أثَّرت في وجداني حتى لكأني عشت الاحداث معه مرحلة فمرحلة.

وقبل أن نتبادل قبلة الوداع ناولني ملفاً ضخماً وقال: «لا بد أنك علمت أن أخي حسان بقي وفياً لي إلى المنتهى. ففي هذا الملف ستجد إلى جانب القسم الأول من مذكراتي مجموعة من الرسائل التي تبادلناها معاً، والتي تدور أبحاثها حول الطريق المؤدية إلى الحياة الابدية».

وبعد دقيقة صمت، استأنف صديقي قوله: «أعتقد أن نشر محتويات هذه الرسائل سيحمل كثيرين على الكف عن الافتراء عليّ».

مرت عشر سنوات على هذه المقابلة التي تركت في نفسي اثراً لا يُمحى، وقد بقي صدى عبارته الأخيرة يتردد في ذهني كلما خلوت إلى نفسي. إلى أن كان ذات يوم حين قرأت في احدى المجلات أنباء جديدة عن صديقي. انباء ذكرتني بالرسائل التي عهد بها إليَّ. فقلت في نفسي: «لقد آن لي أن أكتب قصة توفيق». وبالفعل فتحت درج مكتبي وأخرجت الورقات التي دوّنت عليها هذه القصة الطريفة مع الرسائل. وانه ليسُرّني أن أقدمها للقراء.

اسكندر

القِسم الاول: موجز مذكراتِ توفيق كَمَا كَتبها بنفسِه

1 - دعوة واختيار

«ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلْبَطْنِ دَعَانِي. مِنْ أَحْشَاءِ أُمِّي ذَكَرَ ٱسْمِي» (إشعياء 49: 1)

على جبين هضبة مخضوضرة تحتضنها سلسلة الجبال الممتدة من طورس شمالاً إلى عكار جنوباً بمحاذاة البحرالمتوسط اللازوردي قام بيت ريفي لا أجنحة له ولا شرفات. ولولا الحجارة المشذَّبة التي بنيت بها جدرانه لتميّزه عن الأكواخ المنتشرة حوله لما قِيل إنه بيت زعيم العشيرة.

في هذا البيت أبصرت عيناي النور عام 1911 وكُتب اسمي في سجل الأحياء «توفيق». وبالرغم من أن مجيئي إلى العالم قد َحيَّته أفراح صاخبة، إلا انني لم أنعم بحداثة سعيدة، لأن اختلافاً عقيماً نشب في ذلك البيت، فعكر صفاءه.

كان لوالدي ثلاث زوجات اعتدن على العيش تحت سقف واحد. وأدّى بهن استمرار الحياة معاً إلى نوع من التعايش المتهادن.

ولكن دخول الزوجة الرابعة - الضرة الجديدة - أصاب الجميع بنكسة. فاستيقظت الأحقاد واشرأبّت الدسائس تحطم التعايش وتمزق التهادن وتثير العواطف، مفِّرقة بين الأخ وأخيه.

حدث هذا ولم أبلغ السادسة من سني حياتي. وما كان لعقلي الصغير أن يدرك هذه الأمور، ولا لمفهومي الطفل أن يفقه لماذا تصر والدتي على حفر هوّة من التباعد بيني وبين أبناء وبنات أبي؟! وإنما كانت عيناي تشهدان مأساة إنسانية، تُمثَّل فصولُها على مسرح البيت المحموم بالتناحر والتباغض، والذي قسمته الأهواء، وراحت الضغائن ترسم سقوطه المروع.

وإنني أذكر في شيء من المرارة ذلك اليوم الذي فيه انتُزعت من فراشي، ولم يرسل الفجر خيوطه الأولى، وأُلبست ثيابي على عجَل، وحُملت من البيت والكرى لا يزال يسيطر عليَّ. إلى ان ألفيتني بعد برهة في بيت جدي (والد أمي) حيث كانت أختاي قد أُرسلتا منذ ساعة. وهناك سمعت أمي تعلن لذويها عزمها على هجر بيتها الزوجي لتعيش معنا في بيت مستقل.

حدث هذا في غياب والدي، الذي ما أن عاد حتى أجرى محاولات طيبة لإثنائها عن عزمها، ولكنها كانت متصلبة في وُجهة نظرها إلى درجة رفض كل تسوية. ولهذا لم يجد بدّاً من النزول عند رغبتها. ولكي يؤّمن لنا عيشاً كريماً، سلّمها بعض العقارات لكي تستغّلها وتستعمل ريعها في الإنفاق علينا.

ومع أن تصرف أبي كان من كل النواحي سمِحاً، فلقد بقيَتْ أمي حاقدة عليه كل أيام حياتها. ولم تشأ أن تتجاوب معه في شيء، حتى في أمر تربيتي، لأن الغيرة نهشت صدرها وقضت على تعقلها.

ومع حرصي على احترام ذكراها كأم، لا أستطيع إلا الاعتراف بأنها في سلبيّتها المشحونة بالكراهية لم تستطع أن توفر لي التوجيه الصالح أثناء حداثتي.

كانت تحبني إلى درجة الغلو. ولكن حبها هذا لم يستطع تجريدها من قساوتها وحدَّة طبعها اللذين عانيْتُ منهما الشيء الكثير. وقد أجد لها مبرراً في ذلك، لأنها لم تكن مثقفة أولاً. وثانياً لأنها هي نفسها، نشأت في بيت شهدت فيه المأساة الأليمة لتعدّد الزوجات. تلك الآفة الاجتماعية التي كانت وما زالت سبباً في تحطيم عدد من الأسر الكبيرة في شرقنا العزيز.

وكان لوالدتي، ككل امرأة، عاطفة الزوجة والأم، غير أن هذه العاطفة التي حطمتها أنانية الرجل بأشد الأسباب إيذاءً لشعور المرأة، سرعان ما انقسمت بين محبة أولادها وكراهية ضراتها. ففي ظل هذه العاطفة التي جمعت النقيضين الحب والكراهية، قضيت طفولة مضطربة لم تعرف الاستقرار.

وكان من البديهي أن أنطبع بالبيئة التي عشت فيها، فتنشأ فيَّ عُقد وعواطف مشوشة، لا تخوّلني إقامة أواصر الإخاء مع أبناء وبنات أبي، الذين لم يكونوا في حالة أفضل من حالتي. ولولا محبة الله العجيبة التي افتقدتني بعناية خاصة وهيَّأت لي الأسباب لمعرفة الرب المخلّص، لكنْتُ شرَّ الخلق.

كان والدي يحبني حباً جماً. وكان يريد الإشراف على تربيتي ويرغب بإلحاح في أن أمكث معه. وربما كان حبه لي السبب في إبقائه أمي في عصمته بالرغم من نشوزها.

لقد استقدمني ذات يوم إلى مدينة جبليّة حيث كان له دار كبيرة ومكتب دائم لتسيير أعماله كزعيم قبيلة، وكان يشغل منصباً كبيراً في القضاء. وكانت غايته من استقدامي إليه أن يُلحقني بالمدرسة هناك. ولكن وجودي مع زوجته الجديدة تحت سقف واحد كان كافياً لإثارة خاطر والدتي. إذ سرعان ما صوَّر لها سوء الظن بضرتها أن خطراً يهدد حياتي. فأسرعت لاسترجاعي إلى القرية.

وفي القرية سلخت خمسة اعوام من سني حياتي في «كتَّاب الخوجا» أتعلم القراءة والكتابة. ولما فُتحت مدرسة ابتدائية في قريتنا ألحقتني أمي بها. وفي هذه المدرسة صرفت أيضاً خمسة أعوام أخرى، استوعبت في غضونها كل ما كان في جعبتَيْ الشيخ أحمد وزميله علي أفندي.

* * *

أنا الآن في سن المراهقة أتمتع إلى جانب النباهة بحسّ مرهَف. الميزتان اللتان لم تستطع حمّى الخصام الناشب حولي أن تحول دون نموّهما. وعلى ضوء نباهتي وحسي المرهف حكمت على حماقة والديّ. ومن هنا كانت نقطة الانطلاق في تنسيق عواطفي وأحاسيسي المشوَّشة. غير أنني كنت في حاجة ماسة إلى التوجيه. وحاجتي تصرخ: من لي بناصح؟ من لي بمرشد؟

كان من الطبيعي أن ألقى توجيهاً من أبي الذي كان يحبني، وهو أَولى الناس بتوجيهي. ولكن قلب والدي كان قد شُغل تماماً ببنيه وبناته من الزوجة الجديدة، حتى خُّيل إليَّ أنه لم يعد لي فيه مكان. وكان من الطبيعي أيضاً أن يقوم بالمهمة إخوتي الكبار. ولكن هؤلاء لم يكونوا مُعدّين لمثل هذه الأمور. فاثنان منهم لم أعرفهما إلا من عهد قريب لأنهما كانا يعيشان في بلاد الاغتراب، أما الثالث فكان شاباً طائشاً يقضي جل وقته في الصيد.

في هذا الجو الذي لم تلطفه المحبة ولم يظهر فيه أثر للوئام، كان عليَّ أنا الفتى الطريّ العود أن أضع خطوط مستقبلي. لم تكن عندي فكرة واضحة تصلح كنقطة انطلاق. غير أنني كنت مقتنعاً أن حاجتي الأولى هي الالتحاق بمدرسة ثانوية بدون إبطاء.

كانت أخبار افتتاح المدارس الثانوية في المدن تصل تباعاً إلى مسمعي، مما زكَّى الشوق فيَّ للالتحاق بإحداها، وصيَّرته الرغبة أعز أمنية لديَّ، فهُرعت إلى والدي ألتمس عنده تحقيق هذه الأمنية.

وفي ملتمسي أرقتُ من دموع التوسُّل قبل أن يتقرر أمر إلحاقي بثانوية البنين في مدينة اللاذقية. ولحُسن الحظ لم تجد والدتي ما يحول دون ذهابي بعد أن تأكدت من أن المدرسة التي سألتحق بها لم تكن في المدينة التي تسكنها ضرّتها.

ما أن التحقت بالثانوية حتى شمَّرتُ عن ساعد الجد، ورحت أشقّ طريقي باجتهاد. وساعدني الذكاء الفطري الذي كنت أتمتع به على التقدم السريع، فأنهيت التحصيل العالي في غضون ثلاث سنوات. وكذلك ساعدتني نباهتي ودقة ملاحظتي في التعويض بسرعة عما فاتني من ثقافة اجتماعية.

* * *

خلال سني دراستي الثانوية كنت أقيم في بيت أرملة مسيحية فاضلة. وكان والدي يدفع لها مبلغاً من المال مقابل سكني وطعامي. والحق أقول إن تلك السيدة الكريمة عاملتني معاملة الأم الرؤوم لابنها. وأعترف أن بيتها كان مدرستي الاجتماعية الأولى. فلُطف أولادها الذين كانوا يتسابقون إلى كسب ودّي ويتهافتون على إكرامي جرَّدني من خشونتي وأنانيتي. وفي هذا البيت الكريم لاحظت كيف تستطيع المحبة التي تتأنى وتَرْفق وتسامح، وتشيع السلام بين أفراد العائلة الواحدة. وفي الخدمات الكثيرة التي أداها لي هؤلاء الأبناء بروح الوداعة والتواضع توبَّخت كبريائي، مما ساعدني على إعادة النظر في الكثير من تصرفاتي. وقد وجدتُ في الوسط البسيط الذي تنتمي إليه هذه العائلة كل ترحيب من أقاربهم وأصدقائهم. ولكَمْ ساعدتني العادات التي اقتبستها من هذا في بناء حياتي، بعيداً عن تعقيدات المنتفخين من أبناء الأُسر العريقة. وأقولها شهادة للحق إن الأشخاص الذين أقمتُ معهم صداقات في هذا الوسط هم من أحب وأنبل وأوفى الأصدقاء الذين عرفتهم في حياتي.

2 - في الطريق

«وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هٰذِهِ ٱلْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 16)

تميَّزت منذ حداثتي بميلي إلى التقوى وتمسُّكي بقواعد الدين، بحسب مذهب الفرقة الدينية التي كنت أنتمي اليها. أما نظرتي إلى معتقدات الطوائف الأخرى فكانت ترتدي طابع التحفّظ. واكثر من ذلك انني كنت أنفر من الدين المسيحي لأنه ينادي بصلب المسيح بأيدي اليهود، ولأن بعض التفاسير الفقهية تتهم المسيحية بالإشراك.

بيد أن مذهب الباطنية الذي كنت متأثراً به جداً، أوجد فيَّ نوعاً من الإيمان بأن المسيح الذي قال القرآن إنه كلمة الله وروح منه، لا بد أن يكون شخصاً فوق البشر والملائكة. ولهذا لا يمكن أن يقع في أيدي اليهود ليُصلب.

وحدث ان تجادلتُ مرات عديدة مع أصدقائي الجدد. وبما أنهم لم يكونوا حائزين على معرفة دينية تخوّلهم الردّ على وجهات نظري، استقدموا شاباً إنجيلياً لمناظرتي. ولكنه لم يُجْرِ معي أي بحث، بل اكتفى بتقديم نفسه:

- أنا أ.م. طالب في المدرسة الإنجيلية. ويسرني جداً أن تقوم بيننا أواصر صداقة.

- أهلاً وسهلاً. إنه شرف لي عظيم أن أكون من عداد أصدقائك.

كان الشاب على درجة ممتازة من الطيبة وحسن الخلق وسلامة الذوق. وبسجاياه هذه استطاع أن يفتح قلبي ويحتل فيه مركزاً طيباً منذ لقائنا الأول. وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى توطدت بيننا أواصر المودّة. وبتوالي الأيام تحولت المودة بيننا إلى نوع من التآخي. وقد استخدم الله هذا الشاب البسيط لاقتيادي إلى معرفة المخلّص. فقد جاءني ذات يوم ودعاني للخروج معاً كما جرت لنا عادة أن نخرج للتنزُّه أثناء العطل المدرسية. إلا أنه في هذه المرة دعاني للذهاب معه إلى الكنيسة:

قال: في هذا اليوم ستحتفل كنيستنا بأحد أعيادها، ويسعدني كثيراً أن تأتي معي للتعرُّف على طريقة عبادتنا.

فقلت له: يؤسفني أن أصارحك بأن لي آراء خاصة في المسيحية تجعلني أعتذر عن عدم الذهاب إلى الكنيسة. انني لا أرتاح إطلاقاً إلى ما يردده المسيحيون عن صلب المسيح.

- رويدك يا أخي! إن تعليم الصليب سام جداً أكثر مما تتصور أو تفكر. إنه عمل الله بالفداء تجاوباً مع حبه العجيب للإنسان! ولكن بما أنك غير مهيأ الآن للنظر في هذا الموضوع، لنترك البحث فيه إلى فرصة أخرى.

وبعد برهة من الصمت، أخرج من جيبه نسخة من العهد الجديد وقال:

- خذ، هذا هو إنجيل الله. اقرأه بإخلاص وتأمل في آياته. واسأل الله أن ينير ذهنك لتعرف السبب الذي من أجله جاء المسيح إلى العالم، وأخذ الجسد ليموت على الصليب.

أخذت الكتاب شاكراً. وفي المساء قبل أن آوي إلى فراشي رحتُ استعرض كلمات صديقي، مستعيناً بحواسي الذهنية لاستعادة تلك النبرة الغريبة التي تلفَّظ بها صديقي، والتي لمستُ فيها إخلاص من يرجو لصديقه السعادة. فقامت في نفسي طائفة من الخواطر المتناقضة، إلى أن ألفيتني أخيراً مدفوعاً بإلهام ليس من هذا العالم لأعيد النظر في موقفي السلبي من دعوته لي لزيارة الكنيسة.

وقلت له ذات يوم: لك البشرى يا صديقي، فلقد صممت على الذهاب معك إلى الكنيسة. لقد أعدْتُ النظر في موقفي، ووجدت انه لا يحقّ لي ان أبقى أسيراً لهذا التحفظ المقيت الذي لازمني منذ زمن بعيد.

- حسناً (وابتسامة السرور تتألق على محياه) وليكن موعدنا غداً الأحد.

ولما كان الأحد ذهبت معه إلى الكنيسة. وهناك رأيت الأمور تختلف كثيراً عمّا قيل لي وعن كل ما تصورته. وسرعان ما أُعجبت بطريقة العبادة. حتى لكأن ما جرى لم يكن بغريب عن نفسي.

ولفت نظري بنوع خاص جمال الترنيم، وبساطة العبادة، وخشوع العابدين. واكثر ما أثّر في وجداني، عظة الوقور القس راعي الكنيسة.

3 - إنطباعاتي الأولى

«فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هٰكَذَا قُدَّامَ ٱلنَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ ٱلْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ»(متى 5: 16)

لقد أحبني أولئك البسطاء الذين شاءت العناية الإلهية أن أعيش بينهم حصة من الزمن. وكان من البديهي أن أنجذب بفعل محبتهم، التي أظهرت لي الحياة في روعة البساطة وجمال الولاء المسيحي. وكان لا بد لهذه الشهادة أن تعمل عملها في نفسي، فتُذيب ذلك التعصب الأعمى الذي كان يغلّف ذهني ويجمّد أفكاري عن قبول حقائق متواترة، يؤمن بها مئات من ملايين البشر.

ففي هذا الجو المشبع بروح المحبة لاح لي صواب نصيحة صديقي أ.م. بقراءة الإنجيل. فأخرجت النسخة التي قدمها لي من درج طاولتي ورحت أقرأها ببطء. وقد وجدتني منذ القراءة الأولى منجذباً كما بسحر، حتى لكأن كلام يسوع قد كُتب لأجلي خصيصاً. وما أن تلوْتُ عظة المسيح على الجبل، حتى انفتحت امام عينيَّ دنيا متلألئة بالحب.

وبقدر ما كنت أتقدم في قراءة الإنجيل كنت أنمو في النعمة وفي معرفة المسيح. وحين وصلت في قراءتي إلى يوحنا 3: 16 «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» هزّتني موجة عارمة من الفرح، لأنني وجدت فيها مفتاح لغز الصليب.

لقد انفتح ذهني وانزاحت الغشاوة عن بصيرتي، فعرفت لماذا قبل يسوع أن يموت على الصليب. إن الله أحب الإنسان وكان جاداً في محبته حتى بذل. وكان سخياً في بذله حتى قدّم ابنه الوحيد لكي يفدي كل من يؤمن به وينقذه من عقاب الهلاك.

قد يتعارض هذا القول مع مفاهيم البشر فلا يستسيغه منطقهم. وقد يتردد كثيرون في قبول فكر كهذا، أن يقدم الله ابنه الوحيد للناس. ولكن ألم يقدم ابراهيم ابنه اسحق لله؟ وهل يصحّ أن يكون الله متخلفاً عن أحد مخلوقاته في مجال العطاء والبذل؟ حاشا وكلا! لأنه إن كان في قلب الإنسان محبة لله، فالله هو نفسه محبة.

في هذا الجو الإنجيلي الرائع، هبَّت عليَّ نسيمات المحبة فأحيت قلبي المائت بالذنوب والخطايا. وسرعان ما شُغفت بحب الإنجيل، فرُحت أطالعه بنهم، واسجل في قلبي كل الآيات التي تتكلم عن محبة الله للإنسان الخاطىء. ولم يمض وقت طويل حتى ألفيتني مدفوعاً بحاجتي إلى طلب الخلاص. ولسعادتي أنني في حاجتي عرفت مخّلصي يسوع الذي مات عني على الصليب لكي لا أهلك، بل تكون لي الحياة الأبدية.

وكان من البديهي أن تقتادني معرفة المخلّص إلى الإعتراف به قدام الناس. ولكن كيف يتم هذا؟ كيف أستطيع مواجهة الصعاب التي سيثيرها التعصّب في وجهي؟ وهل ستكون شفقة على فتى يحاول الخروج على مبادىء الجدود؟

كل الطرق لاحت لعيني محفوفة بالأخطار. وكل أبواب الرأفة بدت موصدة في وجهي. بيد أنه كان علّي أن أذكر رأفة الله، لأن الذي قال: «اتبعني» قال أيضاً: «خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي» (يوحنا 10: 27 و28).

لم تكن لي بعد معرفة واسعة في أمور الحياة الروحية تخوّلني معالجة قضيتي بالصلاة. ولكن المسيح، راعي الخراف العظيم كان يعرف حاجتي إلى الحماية. وأنا كنت متأكداً كل التأكيد انه مهتمٌّ بي، وإنه لا بد أن يدفع عني كل أذى ويحميني من كل شر.

4 - أحداث وأحداث

«لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِٱسْمِكَ. أَنْتَ لِي» (إشعياء 43: 1)

كان عام 1929 مملوءاً بالأحداث الخطيرة بالنسبة لعائلتنا، ففيه توالت الكوارث على والدي، فقد أسفرت الانتخابات النيابية عن خسارته لمقعده في البرلمان، ونجم عن ذلك تدهوره سياسياً ومالياً واجتماعياً. فاقبل على موائد الخمر والميسر حتى أُثقل بالديون وارتهنت أملاكه وقلّت موارده. وهذا التردّي في أوضاع والدي أثّر في مجرى حياتي، لأنه بعد انهيار حال والدي بات من المتعذر عليّ أن أتابع دروسي. بل بالحري أصبح لزاماً عليّ أن أعمل لإعالة نفسي.

وبالفعل تركت مقاعد الدرس ورحت أفتش عن وظيفة في إدارات الدولة. وقد دار في خلدي أن رصيد والدي من الوجاهة لدى المسئولين لم يستنفد بعد، وأنهم لابد أن يمدوا لي يد المساعدة. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث. بل أرفعهم رتبة راح يعارض تركي المدرسة، منّوِهاً بالمستقبل الزاهر الذي ينتظرني لو تابعت دروسي.

لم أنحن أمام الصدمة بل تابعت السعي، فقدمت طلب توظيف إلى مصلحة البريد والبرق، ودخلت المسابقة. وإذ لم يكن لي من يسند طلبي فشلت، فاضطربت أفكاري، وأصبحت كسفينة في وسط عاصفة هوجاء تتقاذفها الأمواج في كل اتجاه.

ولاحظ أصدقائي الارتباك البادي على وجهي، وتساءلوا عما حلّ بالفتى الذي كان إلى وقت قريب يبسم للحياة والحياة تبسم له. وحاول بعضهم معرفة ما بي بقصد مساعدتي، فأبت نفسي السماح لأحد أن يتدخل في شئوني.

على أن هذه الأحداث بما حملت من مزعجات وهموم أليمة، لم تحُلْ دوني والتفكير فيما صممتُ عليه من إعلان مسيحيتي، الأمر الذي ما فتيء يحتل المركز الأول من اهتمامي. ففي يوم مطير من شهر آذار (مارس) 1929 ذهبت مع صديقي أ.م. لمقابلة القس لمصارحته بأفكاري. ففرح الراعي الوقور وبارك خطوتي، وشجعني وصلى لأجلي. إلا أنه أعرب عن أسفه الشديد لعدم استطاعته ضمّي رسمياً إلى كنيسته، لأن قانون البلاد لا يسمح له بذلك. وفوق ذلك أوجس خيفة من الاصطدام بوالدي. ولكنه بعد التفكير نصح لي بالذهاب إلى لبنان حيث يتمتع المواطنون بحرية الفكر والمعتقد، ووعدني بإرسال كتاب توصية إلى المجمع الإنجيلي الأعلى ليضمني إلى إحدى كنائسه.

لقد بدت الفكرة صائبة من جهة الاستفادة من أنظمة لبنان. ولكن عملياً لم تُحلّ مشكلتي، لأن ذهابي إلى بلد ليس لي فيه أصدقاء ولا معارف لا بد أن يعرضني لصعوبات لا قِبَل لي بمواجهتها. فقبل كل شيء يترتّب عليَّ أن أكسب معيشتي، الأمر الذي يشكل صعوبة لا يمكن تذليلها، لأنني لم أتعلم مهنة ولم يسبق لي أن زاولت عملاً ما.

غادرت القس الطيب ولم أحزم على أمر، لأن الأمور بدت لي معَقَّدة محفوفة بالأخطار محاطة بصعاب لا قدرة لي على تخطّيها. بيد أنني لم أفقد ثقتي في الله الذي أوكلت اليه كل أموري. ورغماً مما لاح في الأفق من مثبطات العزائم كنت أشعر في قرارة نفسي بقرب انفراج الأزمة.

في صباح اليوم التالي بينما كنت أصارع الأفكار جاء زميلي في الدراسة ج.ج. وبعد أن حيّاني قال:

- لقد نشب خلاف بيني وبين والدي، وأصبح البقاء في البيت متعذراً عليّ. ولهذا عقدت النية على الذهاب إلى لبنان في أقرب وقت. وهناك سأنخرط في جيش المشرق التابع للقيادة الفرنسية.

وقلت لصديقي معترضاً: ولكن هل تستطيع احتمال مشقة الجندية؟

- لا توجد مشقّة بالمعنى الصحيح بالنسبة للشبان المتعلمين. لأن القيادة بعد إنهاء مدة تدريبهم ترسل الأوائل منهم إلى مدرسة الضباط، والباقين إلى مدرسة الرقباء.

- إذا كان الامر كذلك فماذا يمنعني من الذهاب معك؟

قلت هذا بعد أن لاح لي أن دخولي الجيش سيحل كل المشاكل التي لاحت لي حين أُشير عليَّ بالذهاب إلى لبنان.

- سأكون سعيداً جداً لو ذهبنا معاً. فكر في الأمر جيداً، والأفضل أن تسرع. سأعود إليك في صباح الغد لنذهب معاً إن كنت قد قررت ذلك.

- لقد قررت وسأبدأ فوراً بالاستعداد للرحيل، وليكن الله في عوننا.

لم يلزمني وقت طويل للاستعداد لأن الأشياء التي يمكنني أخذها معي إلى الثكنة قليلة جداً. لذلك وزعت ثيابي على أصدقائي أبناء السيدة س. الذين ما أن علموا بنبأ رحيلي القريب حتى ظهرت الكآبة على وجوههم.

في صباح اليوم التالي ودّعتهم دامع العينين كسير القلب، فقد عرف هؤلاء الطيبون كيف يحتلون في قلبي وتقديري المراكز التي لم يستطع أشقائي احتلالها. في الحقيقة لولا الشجاعة التي بثَّها الرجاء في صدري لما استطعت فراقهم.

ذهبت وزميلي ج. ج ميممين شطر مدينة طرابلس، فبلغناها ظهراً. وبعد أن صرفنا الساعات الباقية من النهار في التجوّل في شوارع المدينة، قضينا الليل في أحد الفنادق المتواضعة. وفي الصباح توجهنا إلى ثكنة الجيش. وهناك بعد الفحص الطبي قُبلنا في فوج المشاة الأول. كان ذلك في الحادي عشر من شهر آذار (مارس) سنة 1929. ومنذ ذلك الوقت أصبحت الجندي رقم 8382.

في اليوم التالي أُرسلت إلى مدرسة التدريب حيث بدأت حياتي الجديدة بين مجموعة من الشبان المنتمين إلى شتى الأوساط والمناطق والطوائف. وهناك حُشرنا كل أربعين مجنداً في غرفة. لم أُعط سريراً للنوم، بل لوحاً من الخشب عرضه سبعون سنتيمتراً. أما الفراش فكان محشوّاً بالقش الخشن، المستخلص من أوراق النخيل.

بعد أن سجّل الرقيب اسمي في سجل الفصيل أرسلني إلى مخازن السرية لاستلام الألبسة العسكرية وبندقية وحقيبة وبلطة وبعض أواني المطبخ، وبعض الأدوات التي تُستعمل لنصب الخيمة.

كان عليّ منذ الآن أن أقوم بغسل ملابسي وتنظيف عدتي وأسلحتي، وأن أشترك دورياً في ما يسمّونه أعمال السخرة العامة كتنظيف الغرفة وكنس الساحة ونقل طعام الفصيل من المطبخ إلى قاعة الطعام. ولكن لحُسن الحظ خُفف عني هذا العبء ولم يمض أسبوع على دخولي الثكنة، إذ تطوّع بعض المجندين للقيام بأعمال السخرة نيابة عني لقاء كتابة رسائلهم إلى ذويهم، لأن معظمهم كانوا أميين. وكذلك الرقيب خفف عني بعض الواجبات مقابل كتابة تقاريره اليومية لأنه لم يكن متمكناً من اللغة الفرنسية.

هذه هي المرحلة الأولى لحياة العزلة، التي كُتب عليّ أن أعيشها بعيداً عن ضوضاء العالم، لا يعكّر الجو حولي سوى صوت البوق الذي كان يدوي بين آونة وأخرى داعياً الجنود للتجمّع أو للخروج أو لتناول وجبات الطعام أو للنوم أو للنهوض.

وجاءت أحداث جعلت قيادة الجيش تعرض عليَّ اختياراً من ثلاثة:

أ - تسريحي من الجيش.

ب - انتقالي إلى الفوج الثاني.

ج - بقائي في الفوج الأول.

وكان من البديهي أن أختار البقاء في الفوج الأول، أي في لبنان، حيث أنتظر الوقت الملائم لتقديم طلب الانضمام رسمياً إلى عضوية الكنيسة، الذي من أجله احتملت آلام ترك أهلي وبلدي. وحين أعلنت اختياري تأثر قائد الفوج وقال لي مشجعاً:

- لا تخش بأساً بعد اليوم لأنني سأخصك برعايتي شخصياً. قلت ودموع الفرح تنحدر من محاجري: «شكراً يا سيدي القائد. سأكون عند حسن ظنك بي».

وبالفعل برَّ القائد الكريم بوعده، فما أن أنهيت مدة التدريب الأولى حتى رقّاني إلى رتبة عريف، وعيّنني سكرتيراً وترجماناً في مكتبه. وبعد أشهر قليلة قضيتها في العمل المجدي رقّاني إلى رتبة رقيب، مما رفع معنوياتي، لأنها رتبة ذات مرتب يكفي لسد أعوازي، وإظهاري في مظهر لائق في المجتمع.

في هذه الآونة بدأت اتصالاتي بالكنيسة الإنجيلية، فوجدت بين أعضائها الوسط الذي يلائمني، وفي اجتماعاتها الجو الروحي الذي كنت محتاجاً إليه. ولقيت كل تشجيع من راعي الكنيسة. وبعد وقت غير طويل من المواظبة على الاجتماعات قُبلت في عضوية الكنيسة.

5 - عرس متواضع

«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِٱلرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَاوَاتِ» (متى 5: 3)

في الثاني والعشرين من شهر شباط (فبراير) 1932 تزوجت. ولم يكن لعرسنا فخامة أعراس الناس التي تبدأ بمهرجان ضخم بين زغردة النساء وقرع الأجراس، ولكن كانت له روعة البساطة وجلال الاتضاع. كان موكب العروس مقتصراً على أخيها وزوجته وثلاثة أصدقاء وفدوا إلى الكنيسة مشياً على الأقدام، وهم يحملون الأماني الطيبة بدلاً من أكاليل الزهر. واقتصر موكب العريس على شاهدي الزواج اللذين جاءا من صفوف عمال البناء.

لم يكن لعرسنا فخامة أعراس الناس، إذ لم تُلْقَ فيه خطب، ولم يتعال فيه هتاف أو تصفيق. ولكن كان يخيّم عليه وقار من وجود الرب فيه، وقد باركه العلي على لسان القس الوقور، كما بارك عرس قانا الجليل.

لم يكن لعرسنا فخامة أعراس الناس، فلم تصدح فيه الموسيقى بألحانها الفخمة لإثارة المرح، ولكن الترنيمة البسيطة التي أنشدتها عقيلة القسيس وابنته، امتزجت بأنشودة الشكر التي هتف بها قلبانا لذاك الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه:

كما يسوع قد أتى مشرِّف العرس
احضُرْ هنا يا ربنا بروحك القدسي
انظر لمن تعاهدا هنا يداً بيد
كُن بالرضى مكللاً عقداً قد انعقد
وليثبتا طول المدى في الحق والإيمان
والسَّير في سُبل الهدى وطاعة الرحمان

 

لم يكن لعرسنا فخامة أعراس الناس، لأننا حين غادرنا الكنيسة ولم يواكبنا رتل من السيارات المزدانة بالزهور والأشرطة الملونة، فقد سرنا على الأقدام إلى موقف السيارات، وأخذنا لنا مكانين في سيارة أجرة ذاهبة إلى طرابلس.

وحين ترجَّلنا في «ساحة التل» لم يكن أحد في انتظارنا، ولكن كان الله رفيقاً لنا، وصوته يهمس في أعماقنا: «طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات.. طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض.. طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله».

لم يكن لنا منزل بالمعنى الصحيح، لأن المسكن الذي أعددتُه كان غرفة وحيدة يقتصر أثاثها على سرير بسيط، فراشه ووسادته من قش، وطاولة صغيرة وكرسيين. ولكن كنا سعداء لأن قلبينا كانا مفعمين بغبطة ليست من هذا العالم، أنشأها فينا سلام الله الذي لا يستطيع العالم أن يدركه أو يمنحه.

لم يكن لدينا مال لشراء أوانٍ للمطبخ، فبقينا حصة من الزمن نتناول طعامنا عند الجارة أم فهد، لقاء بعض دريهمات كنا ندفعها لها، تمشياً مع المرتب الصغير الذي كنت أتقاضاه من الجيش. وقد تعلمنا من هذه الشركة مع أم فهد أجلّ درس في التعاون الاجتماعي. كما كانت لنا بمثابة بركة عظيمة، لأننا في تلك الفترة من حياتنا تدرّبنا على العيش بالكفاف، وتعلمنا أن نحيا في الواقع، بحيث لا طموح يتجاوز الامكانية. أو كما قال الرسول بولس: «تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِياً بِمَا أَنَا فِيهِ» (فيلبي 4: 11).

وفي تلك الآونة أيضاً كنا في حاجة إلى إرشاد في الناحية الاجتماعية، فقيَّض الله لنا أختاً كبرى من الكنيسة لم تدخر جهداً في سبيل توجيه زوجتي التوجيه الصالح. ولم تجد ضيراً في أن تفتح لنا بيتها، حيث أُتيح لنا التعرف على أفاضل القوم من أصدقائها. وأنا شخصياً وجدت زوجها، ليس فقط الصديق الوفي، بل الناصح الحكيم أيضاً.

أما من جهة الرعاية الروحية فقد خصَّنا راعي الكنيسة بعناية خاصة. فكان يأتي مع زوجته لزيارتنا بصورة مستمرة. وقد كان لهذه الزيارات الرعوية أثر طيب في بناء حياتي الروحية على أسس ثابتة.

6 - في المدرسة الحربية

«فَرَفَعَ لُوطٌ عَيْنَيْهِ وَرَأَى كُلَّ دَائِرَةِ ٱلأُرْدُنِّ أَنَّ جَمِيعَهَا سَقْيٌ» (تكوين 13: 10)

في صيف عام 1934 التحقت بالمدرسة الحربية بحمص، وهناك قضيت خمس سنوات، عملت خلالها نصف وقتي في قسم المحاسبة التابع للمدرسة، والنصف الآخر في تلقّي الدروس العسكرية والعلمية. وفي نهاية المدة اجتزت الامتحانات بنجاح، ونلت الشهادات التي تخوّلني الارتقاء إلى رتبة ضابط.

في أثناء إقامتي في حمص اندمجت في الوسط الإنجيلي، وواظبت على اجتماعات الكنيسة واشتركت في نشاطاتها. وفي كنيسة حمص الإنجيلية سمعت للمرة الأولى موعظة عن «الولادة الجديدة» للواعظ المصري الشيخ كامل منصور، ففتحت عظة رجل الله هذا ذهني، وعلى ضوئها عرفت أن دعوتي المسيحية يجب أن تذهب إلى أبعد من الإيمان والانتساب إلى جماعة مسيحية. ينبغي أن تمتد إلى تكريس الحياة لله. فانشغل خاطري بهذا الموضوع مدة طويلة. وتمنيت أن تُتاح لي الفرصة لتكريس حياتي للفادي. ولكن هذا الأمر بدا لي صعب المنال، ولا يمكنني إدراكه طالما أنا أقضي معظم وقتي في الثكنة. وقد أكسبتني حياة الجندية شيئاً من الخشونة وحدة الطبع.

في الفترة التي قضيتها في حمص حظيت بتقدير كثيرين، وجمعت حولي صداقات ذات شأن. ولكن هذه الامتيازات ما كانت لتعني تكريس الحياة في شيء. ولم ألبث أن راح هذا الموضوع الخطير يقض مضجعي ويثقل ضميري. إلا أن هذا التبكيت لم يدم طويلاً، لأن استمرائي الحياة البراقة سرعان ما وضع رماداً على وميض يقظتي. فاستسلمتُ للواقع حاسباً أن تكريس الحياة إنما هو نوع من التصوف لا يمكن للمرء أن يدركه إلا بعد جهاد طويل وبلوغ سن معينة.

تتابعت الأيام فبرزت خلالها أحداث خطيرة بالنسبة لي، إذ خرج أمر تنصُّري من إطار الكتمان وأصبح معلوماً لدى الخاصة والعامة، فكثر التعليق عليه، ورُميت بأبشع التهم. جُرحت في بيت أحبائي وتنكرت لي عاطفة أمي. تجَّهم لي وجه إخوتي وجفاني أبناء قومي.

احتملتُ كل هذه العوامل القاسية بأناة المحبة التي تحتمل كل شيء وتصبر على كل شيء. وما كانت أحقاد أبناء أبي وبنات أمي إلا لتزيدني تمسّكاً بما اعتقدته صواباً، وتشبُّثاً بما أيقنت أنه حق. وما كانت حملات التجريح إلا لتزيدني عناداً في نضالي في سبيل الحق الذي عرفته وآمنت به.

في ذلك الحين تطوع نفر من رجال الدين في محاولة لإرجاعي عن طريق الجدل. فسمعت محاوراتهم واحتملت قساوة انتقادتهم بكل محبة وبطول أناة. وأجبت على كل سؤال بصراحة وبساطة مقابلاً القسوة باللين، كما قال الرسول: «غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرٍّ بِشَرٍّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِٱلْعَكْسِ مُبَارِكِينَ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهٰذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً» (1بطرس 3: 9).

كان الرب معي وروحه الصالح يرشدني، واضعاً في شفتيَّ الكلام المُصْلَح بملح الكتاب المقدس، والذي أعطى نعمةً للسامعين. فقد كانت أجوبتي مبنيَّة على ما تعلمته من الكتاب المقدس عن محبة الله للعالم، التي دبّرت في الكلمة المتجسد وسيط صلح بين الله والناس، لكي يتمم مشيئته بالفداء الذي أعدَّه منذ البدء. وعقَّبت على ذلك بالقول: «هذا هو المبدأ الذي اعتنقته، وليس في وسعي الرجوع عنه، لأنه أنار حياتي، وأراحني من أتعابي». ولقد عملت نعمة الله في تلك المباحثة، فصرفت الغيظ وأنهت المناظرة بسلام.

بيد أنه لم يطل الوقت حتى انبرى لي شبان مثقفون في محاولة من نوع آخر. وكانت وسيلتهم التلويح بعطف دولة الانتداب على طائفتي السابقة. قالوا إنها وضعت برامج خاصة لأبناء البيوتات العريقة، بحيث سيضمن لي الرجوع ترقيات سريعة في الجيش.... وقد همس أحدهم في أذني - وكان صديقاً لي:

- ابق يا أخي على اعتقادك، فقط تظاهر بالرجوع، لأن المهم الآن هو إنقاذ سمعة عائلتك التي لاكتها الألسن.

قلت محتجاً: يا صديقي المحبوب أنت تطالبني بأبغض الأمور لديَّ، وهو النفاق. كما أنك تريد حملي على ارتكاب خطية خاطئة جداً. ألم تسمع قول المسيح: «مَنْ يُنْكِرُنِي قُدَّامَ ٱلنَّاسِ أُنْكِرُهُ أَنَا أَيْضاً قُدَّامَ أَبِي ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ»؟! (متى 10: 33).

وبعد لحظة صمت استأنفتُ القول:

أنت تقول إن حكومة الانتداب تعطف على طائفة معينة، وإنه في وسعي عند التسليم برأيك أن أحصل على ترقيات سريعة. ولكن هل أتاك سؤال المسيح: «مَاذَا يَنْتَفِعُ ٱلإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ٱلْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ٱلإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟» (متى 16: 26).

حتى في الوسط المسيحي نفسه حاول المجرِّب أن يدفعني في طريق أخرى زرع فيها فخاخاً ماكرة لكي يوقع بي. حدث ذلك أثناء مقابلة تمَّت بيني وبين الأسقف «ك»الذي أحبني كثيراً وأبدى استعداده لبذل نفوذه الواسع لدى قيادة الجيش لكي يحرز لي ترقيات سريعة، بشرط أن أعتنق مذهب طائفته. وقد زيَّن لي الأمر، بأن قال:

- أنا لست فقط أقدم لك خدمة مادية، بل أيضاً أهبك بركة روحية بإنقاذك من ضلال البروتستانت.

قلت باستياء: يا صاحب السيادة، إن ما تعرضه عليَّ مُغْرٍ حقاً. ولكن عند البروتستانت تعرَّفت على مسيح مخلّص. فإن كان مسيحكم خيراً منه فأنا مستعد للسير وراءه، حتى بدون الترقيات الموعودة!

7 - عظة الصليب

«إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي» (لوقا 9: 23)

جاء واعظ ضيف إلى مدينة حمص للقيام بسلسلة من الاجتماعات الانتعاشية. وقد بدأها بعظة عن دور الصليب في حياة المسيحي. واتخذ آية لموضوعه قول رسول الجهاد العظيم بولس: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ ٱلآنَ فِي ٱلْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي ٱلإِيمَانِ، إِيمَانِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي» (غلاطية 2: 20).

جاءت هذه العظة لتثير ضميري من جديد، فرغبت من أعماق نفسي أن أحصل على اختبار الصليب، فأصلب نفسي الأمّارة بالسوء، وأحيا للمسيح الرب حياة التكريس حسب مشيئته الصالحة المرضيَّة الكاملة. ولم ألبث أن قرنت رغبتي بمحاولات شخصية، ولكن على غير طائل. لأن الأوساط التي كنت أعيش فيها وبيئة الثكنة لم تكن لتساعدني على ذلك.

ومن محاولاتي المبذولة يومئذ، كان الاحتكاك ببعض المسيحيين الذين خُيّل إليَّ أن تهذيبهم الاجتماعي يدل على ما يتمتعون به من مستوى روحي رفيع، بحيث تستطيع عشرتي معهم أن تنهض بي. ولكن للأسف الشديد كنت كمن جاء يطلب الحيَّ بين الأموات. فمدير المدرسة، الأديب المشهور ف.م. الذي ظننته مِلْحاً جيداً سيصلح فيَّ طعم الحياة، أصرَّ على تدشين عهد التعارف بيننا بكؤوس الخمر.

ولما حمي أوار الحرب العالمية الثانية نُقلت إلى الفرقة 191 من سلاح المشاة التي كانت ترابط في اللاذقية. كانت هذه الفرقة ستُرسَل إلى جبهة القتال حالما تُنهي تدريبها على الأسلحة الحديثة التي تلقَّتها. على أن هذا لم يتم، لأن المقاومة الفرنسية انهارت تحت ضغط الجيوش الهتلرية عام 1940.

ولما تشكَّلت حكومة فيشي أمرت بحلّ فرقتنا وتقسيمها إلى أفواج. ونتيجة لهذا التقسيم دُعي فوجنا بالفوج الخامس. إلى أن كان صيف 1941، فحدثت مناوشات بين قوات الحلفاء وقوات فيشي على حدود فلسطين والعراق. فأُرسل فوجنا على جناح السرعة إلى جنوب غربي سوريا لإيقاف زحف قوات الانكليز والديغوليين القادمة من فلسطين لاحتلال سورية ولبنان. ولكن المعارك لم تستمر طويلاً لأن الفريقين المتحاربين دخلا في مفاوضات السلم، فأُوقف إطلاق النار، وصدرت لنا الأوامر من القيادة العليا بتجمع الفرق لكي يُعاد نقلها إلى مراكزها التي كانت مرابطة فيها قبل بدء القتال. ولكن قوات الحلفاء أبت إلا اعتبارنا أسرى حرب. وتبعاً لذلك ساقتنا إلى معتقلات أنشأتها هنا وهناك. وهكذا كُتب لي أن أذوق طعم الأسر وراء الأسلاك الشائكة. ولم يُفرَج عني إلا حين وقَّعت صكَّ تطوّع في قوات الفرنسيين الأحرار. فنُقلت إلى اللواء السابع الذي كان منتشراً على الساحل السوري اللبناني للدفاع عن الشواطىء.

خلال فترة الأسر عاد موضوع الحياة المكرسة يشغل ذهني من جديد. ومن جديد أخذ التبكيت يعمل في نفسي بشدة. وأخيراً عزمت على ترك الجندية حالما تضع الحرب أوزارها لأكرس حياتي كلياً لفاديَّ الحبيب. ولكن ما أن رُقيت إلى رتبة ملازم حتى انفتح لي باب العالم واسعاً على مصراعيه، مقدِّماً المباهج والمسرات كما يحدث عادة عند نهاية كل حرب، حيث يطلق معظم الناس العنان لأهوائهم، مستنبطين ألف وسيلة ووسيلة للهو. فخرجت عن كل تحفظ واندمجت في ما يسمّونه «الوسط الراقي»وهناك نمت نوماً روحياً ثقيلاً، إلى أن همس صوت الله في أذني قائلاً: «ٱسْتَيْقِظْ أَيُّهَا ٱلنَّائِمُ وَقُمْ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ ٱلْمَسِيحُ» (أفسس 5: 14).

8 - العزم على مغادرة الوطن

«كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ ٱللّٰهَ، ٱلَّذِينَ هُمْ مَدْعُّوُونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رومية 8: 28)

في عام 1945 حين تقرر انسحاب الفرنسيين من سوريا ولبنان، كان كل شيء معدّاً لذهابي وأفراد عائلتي إلى أوربا. ولكن الرب الذي اختارني وأتى بي إلى حظيرته، وحافظ عليّ خلال المخاطر والمعارك التي خضتُها لم يسمح بذلك، لأن حكمته العجيبة كانت تدبرّ كل شيء للخروج بي من قبضة العالم إلى حرية أولاد النور، لأعيش الحياة المكرسة التي صبوتُ إليها منذ أن عرفت الحق.

كانت الأعوام التي قضيتها في خدمة الجيش تحت لواء فرنسا الحرة تتيح لي حق التجنُّس بالجنسية الفرنسية. وبانتظار أن تتم الاجراءات القانونية صدر أمر بنقلي إلى الجيش الفرنسي المرابط في ألمانيا الغربية. كانت المناسبة مغرية للغاية. فمتابعة الخدمة في جيش فرنسا الكبير كانت ستتيح لي الترقيات إلى رتبة عليا في الجيش، وبالتالي ستخوّلني مرتباً تقاعدياً حسناً بعد عشر سنوات. ولكن الله الذي قال: «كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ»(إشعياء 55: 9) لكي يبيّن غنى رأفته بآنية هوان سبق فأعدَّها بحكمته لمجد اسمه، تدخَّل عند اللحظة الأخيرة بوضع عدة عراقيل للحيلولة دون ذهابي إلى أوربا. فقد صدر أمر بنقلي إلى جيش المستعمرات المرابط في أفريقيا الاستوائية لمدة سنتين، قبل الالتحاق بعائلتي، التي تقرر أن تقيم في مارسيليا. وزرع هذا التبديل المفاجىء المخاوف في نفس زوجتي وجعلها ترفض الانفصال عني، الأمر الذي اضطرني إلى تقديم استقالتي من الجيش الفرنسي. قُبلت الاستقالة بعد أيام قليلة وصدر أمر بتسريحى. وتنفيذاً للقوانين في مثل هذه الحالة، صرف لي صندوق الجيش تعويضاً مالياً عن خدماتي تحت العلم.

بعد تسريحي في أيلول (سبتمبر) 1946، اتخذت مدينة طرابلس مقراً لي. وفي الأيام الأولى لعودتي إلى الحياة المدنية خُيّل اليَّ انني أعيش في عالم غريب عني في مفاهيمه ونمط معيشته. ومع ذلك كان عليَّ أن أتوافق مع الناس الذين اخترت العيش في وسطهم، وأن أقوم بعمل ما لإعالة زوجتي وأولادي.

نصح إليَّ الناصحون الاشتغال بالتجارة. ولما أظهرت لهم عدم ميلي إلى هذا العمل، هوَّنوا عليَّ الأمور، وراحوا يذكرون أمامي عدداً من الأسماء التي صار أصحابها من الأثرياء في غضون سنوات قليلة. وكان منطقهم قوياً إلى درجة إقناعي بدخول الوسط التجاري. فاستأجرت دكاناً في قلب المدينة، وملأت رفوفه بالبضائع من أصناف«النوفوته».

خلال عملي الجديد أُتيح لي أن أختبر الناس، وأن أشهد في معاملاتهم الشيء الكثير من التجنّي على ناموس المحبة، وأن أشتمَّ في أهوائهم وميولهم روائح النجاسة. وساءني جداً ما شاهدته من انهيارٍ في الأخلاق، وعدم تورع كثيرين عن ارتكاب الموبق وإهانة الجسد في سبيل المادة.

في هذا الوسط الموبوء بأهواء الهوان، وقفت على شفير الهاوية. وقد زلَّت بي القدم أكثر من مرة، حتى خفت من الانزلاق في المهاوي. فصرخت إلى الله ضارعاً اليه بإلحاح ليساعدني. كانت الإرادة حاضرة عندي لكي أطلب وجه الله بإخلاص، ولكن عدو الخير الغاوي الرجيم كان ناشطاً وباذلاً كل جهد ليقيّد هذه الإرادة. وقد وجد في عملي الجديد فرصة له ليستعبدني بالشهوات المتوفرة في هذا الوسط. ولم يلبث أن حرَّك فيَّ ميولي السابقة نحو بعض الخطايا التي مارستها في أزمنة جهلي. فكان لي صراع هائل مع سلطان الهوى. صراع بين الروح التي ترفض أفكاره وتشتهي ضد الجسد، وبين الجسد الذي عمل قديماً مشيئته، وما فتيء يشتهي ضد الروح.

كان المجرِّب بارعاً في أسلوبه، فأخذ يعرض أمامي المتع التي يوفّرها العالم، والتي سيجعلها عملي الجديد اكثر وفرة وأسهل تناولاً. ولم ينس العدو الماكر أن يضع إطاراً لامعاً حول المتع التي كانت أثيرة لديَّ في الماضي. ولما لاح له شيء من المقاومة عندي، حاول أن يقضي عليه بالشك في كون هذه المتع هي خطايا حقاً، هامساً في أذني الكلمة الماكرة التي أغوى بها الأبوين الأولين: «أَحَقّاً قَالَ ٱللّٰهُ لاَ تَأْكُلاَ مِنْ كُلِّ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ؟» (تكوين 3: 1) أحقاً قال الله أن لا ترفّه عن نفسك ببعض المتع التي يرتاح اليها جسدك بعد هذه الجهود التي تبذلها كل يوم؟!

كاد المجرب الخادع ينجح في حيله، لولا تدخُّل روح الله القدوس، فقد ذكّرني الروح المبارك بالوصية الرسولية القائلة: «لاَ تُحِبُّوا ٱلْعَالَمَ وَلاَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلَّتِي فِي ٱلْعَالَمِ. إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ ٱلْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ ٱلآبِ. لأَنَّ كُلَّ مَا فِي ٱلْعَالَمِ شَهْوَةَ ٱلْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ ٱلْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ ٱلْمَعِيشَةِ، لَيْسَ مِنَ ٱلآبِ بَلْ مِنَ ٱلْعَالَمِ. وَٱلْعَالَمُ يَمْضِي وَشَهْوَتُهُ، وَأَمَّا ٱلَّذِي يَصْنَعُ مَشِيئَةَ ٱللّٰهِ فَيَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَد» (1يوحنا 2: 15-17) وتابع روح الله القدوس عمله في ضميري، مبكتاً تارة على برٍّ وعلى خطية ودينونة. وتارة أخرى، مذكّراً إياي بكل ما علّمني يسوع عن القداسة التي بدونها لا يقدر أحد أن يرى الرب.

ولكن المجرب سرعان ما اتخذ خطة جديدة للقضاء على يقظتي، عن طريق إدخال شك من نوع آخر، هو الشك في رحمة الله. وقد استهلَّ محاولته بإبراز خطايا أزمنة جهلي في إطارات بشعة جداً، حتى أن ما كان منها هفوة طفولة ظهر أمامي هوة سحيقة تفصلني عن الله ولا أستطيع اجتيازها.

كانت هذه العوامل تعصف بي وأنا في غرفة نومي، ولم يبق من الليل إلا أقله. وكنت متعباً جداً وحواسي جدّ مضطربة. كنت كسفينة ضلَّ ربانها خلال أعاصير هوجاء. ولكن محبة الله المدبرة بكل حكمة شاءت تلك الليلة بالذات أن تفتح عينيَّ لأرى عجائب من شريعته. فقبل أن يرسل الفجر خيوطه الوردية، ذكرني روح الرب بقوله: «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18).

ثم تذكرت الآية الذهبية التي أنارت ذهني وقادتني إلى معرفة محبة الله في الصليب: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). فجثوت على ركبتيَّ أستعرض الماضي. وعلى شاشة من ذكرياته البعيدة أخذت أستعرض سقطات الماضي، وإذ بينها خطايا عزيزة تأصَّلت بفعل العادة. وبحركة لا شعورية، لا شك أنها من روح الله، أخذت قلماً ودوَّنتُها على ورقة بيضاء. وكان إرشاد الله لي أن أجرّد ضدها حملة صلاة، واحدة فواحدة. وشاء الله أن يسمع صلواتي ويعطيني الغلبة. فرحت أشطبها الواحدة بعد الأخرى بالحبر الأحمر. ولم يمض أسبوع حتى طهَّرني دم يسوع من كل خطية.

9 - بعض الاختبارات

«فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَي» (عبرانيين 9: 14)

بعد تلك الليلة المشهودة التي أسفرت فيها المحاجة مع الله عن طيّ صفحة ملوّثة بالإثم، وفتح أخرى بيضاء بنعمة ذاك الذي أحبني وقد غسلني من خطاياي، توالت عليَّ الاختبارات الروحية عند قدمي مخلّصي المجيد. وأرى لزاما عليَّ أن أسرد بعضاً منها، شهادة لعمل نعمة الله العجيب الذي أخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة.

وأرجو ألاَّ يظن أحد أني أتخّذ من ذكر بعض اختباراتي مادة للافتخار بنفسي، فقد تعلمت من الرسول الكريم أن لا أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح (غلاطية 6: 14). وليست غايتي من سردها إلا إظهار قوة الله المخلِّصة وعمل محبته في توجيه حياة الذين هم له، وعنايته بهم في ساعات المحن، وحفظ نفوسهم من الوقوع في قبضة اليأس حين تسمح حكمته بمرورهم في بوتقة التأديب، أو في غربال التجارب لامتحان إيمانهم. أو أن توافق مشيئته على هبوطهم إلى المنخفضات التي يغشاها ضباب الشك، حين لا يتدخَّل الله سريعاً في بعض الحالات، فيُخيَّل لهم أنه تركهم.

في ظل الصليب

في فجر تجديدي كنت متحمساً جداً لدعوة الصليب، وفخوراً بالنعمة التي أعطتني محبة صابرة طويلة الأناة. بيد أنه في وقت ما تألَّب ضدي نفر من الإخوة وراحوا يناوئونني بلا سبب، متجنّين على حق المودة الأخوية التي تربطني بهم. فشقَّ عليَّ أن يقاومني إخوة مسيحيون أحببتهم بمحبة يسوع. وحين كانوا في العالم لم أضنَّ بجهد في سبيل اقتيادهم إلى المخلِّص.

واشتدت مقاومة أولئك الإخوة واتخذت شكل الاضطهاد. فأُعيي صبري، واستُنفذت أناتي، فوضعت أصبعي مندهشاً على قول المسيح: «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ وَالِدَيْنِ أَوْ إِخْوَةً أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلاَداً مِنْ أَجْلِ مَلَكُوتِ ٱللّٰهِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ فِي هٰذَا ٱلّزَمَانِ أَضْعَافاً كَثِيرَةً، وَفِي ٱلدَّهْرِ ٱلآتِي ٱلْحَيَاةَ ٱلأَبَدِيَّةَ» (لوقا 18: 29و 30). وفي غمرة اندهاشي تحركت شفتاي بالسؤال الحائر:

- أحقاً يا رب انك بهؤلاء أتممت لي هذا الوعد؟!

ولكن شكراً لله لأجل الروح المعزي الذي لم يتركني في الحيرة. بل سرعان ما همس في أذني قول الرب: «لَيْسَ ٱلتِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلْمُعَلِّمِ، وَلاَ ٱلْعَبْدُ أَفْضَلَ مِنْ سَيِّدِهِ. يَكْفِي ٱلتِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ، وَٱلْعَبْدَ كَسَيِّدِهِ. إِنْ كَانُوا قَدْ لَقَّبُوا رَبَّ ٱلْبَيْتِ بَعْلَزَبُولَ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ أَهْلَ بَيْتِهِ؟» (متى 10: 24 و25). فهذه الآية الكريمة عملت في نفسي ووبختني على تساؤلي. ولم ألبث حتى طرحت آلامي أمام فاديَّ ومخلّصي بروح منسحقة، وبالصوم والبكاء عرضت أوجاعي النفسية. فسمع صراخي وذكَّرني الروح المبارك بقول المسيح لبطرس: «لَيْسَ أَحَدٌ تَرَكَ بَيْتاً أَوْ إِخْوَةً... لأَجْلِي وَلأَجْلِ ٱلإِنْجِيلِ، إِلاَّ وَيَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ... مَعَ ٱضْطِهَادَاتٍ» (مرقس 10: 29 و30)

في ظل الصليب أيضاً

في صيف 1954 عاد أولئك الإخوة إلى مضايقتي مرة أخرى. ومرة أخرى تمرَّرت نفسي، فرُحْت أتساءل إن كان فيَّ ما يثير هؤلاء الأعزاء. كثر تساؤلي حتى صار نوعاً من الامتحان. ولكن الامتحان لم يسفر عن إدانتي، فقد كنت مُخْلصاً في علاقتي مع الجميع، دقيقاً في الحِفاظ على ما اؤتُمنت عليه. ومع أنني لم أدَّخر وسعاً في سبيل التقرّب إلى هؤلاء الأحباء وكسْر الجليد بيننا، إلا أن بادرتي لم تلق ترحيباً منهم. لذلك كان لا بد لي من طرح القضية أمام الرب. ففي ليلة شديدة القيظ، صرخت للسيد رب الجنود لإنقاذ الموقف. لم أحسب الوقت، ولكنني بقيت جاثياً على ركبتيَّ إلى أن دبَّ النعاس إلى أجفاني. حينئذ استسلمت إلى الكرى. ولكن في الهزيع الأخير من الليل أيقظني صوت داوٍ: «قم اقرأ المزمور 84».

كنت وحيداً في البيت فلم أشك في أنه صوت الرب، وأن هناك رسالة لي في المزمور الذي أحبه كثيراً وأجد لذة بتلاوته. إلا أنني لسبب الإعياء الذي كنت أعانيه يومئذ لم أنهض حالاً، بل قلت في نفسي، سأتخذ هذا المزمور المجيد موضوعاً لتأملاتي عند الفجر. ثم عدت إلى النوم. ولكن قبل أن يرسل الفجر خيوطه الأولى أيقظني الصوت مرة أخرى: «قم، اقرأ المزمور 84».

نهضت من فراشي وتناولت كتابي المقدس. وجثوت لأقرأ المزمور المحبوب. وفي أثناء القراءة كنت أتأمل في كل عبارة وأتحسس معانيها، علها تكون حاوية رسالة الله لي. إلى أن وصلت إلى القول: «طُوبَى لأُنَاسٍ عِّزُهُمْ بِكَ. طُرُقُ بَيْتِكَ فِي قُلُوبِهِمْ. عَابِرِينَ فِي وَادِي ٱلْبُكَاءِ يُصَيِّرُونَهُ يَنْبُوعاً» (مزمور 84: 5 و6). انفتح ذهني لأرى حكمة الله في صليب ابن محبته. فقد تعلّمت في تلك اللحظة أن العبور في وادي الدموع هو ضرورة لكل من يريد السير وراء الفادي، وأن الذين يشاركون رجل الآلام ومختبر الحزن آلامه وأحزانه، يجب أن يفعلوا ذلك، لا نافلة مفروضة، بل حباً متجاوباً مع حب الذي وضع نفسه لأجل الأحباء. حينئذ تصير فيهم الكلمة الرسولية: «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَّوِعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ ٱمْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً. وَأَمَّا ٱلصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ» (يعقوب 1: 2-4).

عملت هذه الرسالة في نفسي بقوة عجيبة، فانتصرت المحبة وسترت كثرة من الخطايا. وأعطاني الرب نعمة جديدة لأحمل أوزار سُخْرة الأحباء إلى ما بعد الميل الثاني.

نير المسيح

خلال ممارستي الأعمال التجارية جاءني يوماً السيد م.م. ليقبض مبلغاً لحساب تاجر بيروتي كنت أتعامل معه. وصادف يومئذ أن وجد بين النقود المتجمعة لديَّ مبلغ مائة ليرة سورية. ولما كان الفرق وقتها بين النقدين السوري واللبناني يبلغ تسعة في الماية، قلت للسيد م.م.: «بلغ الزميل الكريم تحياتي، وقل له أن يضيف تسع ليرات إلى حسابي الدارج».

ومع أن طلبي هذا كان معقولاً ومعمولاً به في الوسط التجاري فقد ثارت ثائرة السيد م.م. وصرخ في وجهي: «يا....أنت لا تعرفني، يا.... أنا أسحق أكبر رأس تحت قدميَّ».

كانت عباراته من النوع الذي ذِكْره قبيح. وكان في تهديده ما يثير أكثر من السخط. ولكن بنعمة المسيح استطعت أن أقابل قحّته باللطف. وهذه النعمة شملت أيضاً ابني الشاب الذي تمالك نفسه أمام الإهانة السافرة، واستطاع بمعاونة شاب آخر أن يُخرج الرجل من المحل بكل لطف.

تأثرت جداً من تصرّف هذا الإنسان الذي لم يسبق لي أن أسأت اليه، ودار في خلدي أن أستعمل حقوقي لمقاضاته. ولكن المحبة التي تحتمل كل شيء لأجل مجد المسيح سرعان ما صرفت فكري عن اتخاذ أي إجراء ضد المعتدي.

حين كنت أُطلع ابني على عزمي على الصفح، تمشياً مع وصية الرب: «لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ» (متى 5: 39) رجع السيد م.م. وعلى وجهه سيماء الانكسار. وقبل أن يتخطى عتبة المحل صرخ: «يا سيد، أرجوك باسم المسيح أن تسامحني. أرجوك باسم الوداعة التي علّمك إياها المسيح أن تسامحني».

قلت مبتسماً: «أنا لم أنتظر إلى الآن لكي أسامحك يا أخي. لقد سامحتك منذ الدقيقة الأولى. ولو لم أفعل لكان لي معك شأن آخر».

وكرر الرجل بلهجة التوسل: «سامحني.... سامحني» لكأنه خجل من فعلته إلى درجة خفض جناح الذل. فلم أتركه يتمادى في توسلاته، إذ قمت وصافحته بحرارة وأجلسته على كرسي ثم قلت لابني:

- اذهب إلى المقهى المجاور واحضر للسيد فنجان قهوة. ولما تناول القهوة وهدأت أعصابه قلت: «يا سيد م.م. الله يسامحك».

في اليوم الذي تلى هذا الحادث، وبينما كنت ألقي درساً في مادة التعريب والترجمة على طلبة صف البكالوريا في ثانوية مار إلياس الميناء، التي كنت متعاقداً معها، وقف تلميذ وطلب الكلام: «يا أستاذ، لقد شهدتُ البارحة ما حدث معك في السوق، فتأثرت كثيراً. واسمح لي إذا قلت إنه لم يكن حادثاً بل مأساة. وبحسب رأيي يجب أن يكون المرء جباناً ليحتمل إهانة كهذه».

أمام هذه التورية أوقفت الدرس، واتخذت من المناسبة فرصة لأكلم الطلاب عن القانون الذهبي الذي وضعه يسوع للمسيحية: «لاَ تُقَاوِمُوا ٱلشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ ٱلأَيْمَنِ فَحَّوِلْ لَهُ ٱلآخَرَ أَيْضاً. وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَٱتْرُكْ لَهُ ٱلرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَٱذْهَبْ مَعَهُ ٱثْنَيْنِ» (متى 5: 39-41).

وقبل أن أبدأ تعليقاتي على الموضوع قلت للطالب الذي هزأ بي: «يا صديقي، أنا لست بجبان. إنني من حملة وسام صليب الحرب من درجة امتياز. وهذا الوسام لا يُعطي إلا لجندي قام بأعمال بطولة». وبعد لحظة من الصمت استأنفت: «على العكس، فإن احتمال السفهاء والامتناع عن مجاراتهم هو نوع من الشجاعة».

وبعد هذه المقدمة بدأْتُ كلمتي للطلاب متّخذاً آية لموضوعي من قول الرسول بولس: «فَإِنْ جَاعَ عَدُّوُكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَٱسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هٰذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ ٱلشَّرُّ بَلِ ٱغْلِبِ ٱلشَّرَّ بِٱلْخَيْرِ» (رومية 12: 20 و21).

وبعد أن بيَّنت لهم أن دخولي مع السيد م.م. في جولة من الشتائم كان في الغالب سيتحول إلى معركة تتشابك فيها الأيدي، وهذا يعني نزولي إلى مستواه. وأنا كتلميذ للمسيح أربأ بكرامتي النزول إلى هذا الدرك. إنني فخور جداً لأني استطعت تحطيم كبريائه بقوة وداعة المسيح. أما التعويض للكرامة التي أُهينت فقد أُعطي بانتصار المحبة، وذلك حين جاء الشر إلى الخير معتذراً وطالباً الصفح.

هكذا، كما تمجَّد المعلم الصالح في حادثة السيد م.م. تمجد أيضاً بين الطلاب، لأن الحياة أُظهرت لهم بعمل نعمة المسيح في نفسٍ قبلتْهُ، وحملت نيره.

خدمة مباركة

صرفت أسبوعاً كاملاً في الصلاة والصوم والتأمل، طالباً إلى الهي الذي أعبده بروحي أن يعيّن الاتجاه الذي يريد أن أسلكه. وقد سألته بحرارة أن يعطيني الرسالة التوجيهية من كتابه العزيز، فاستجاب الله طلبتي وفرج كربتي. ففي اليوم السابع أغمضت عينيَّ وفتحت الكتاب المقدس عفوياً. ولما نظرت الصفحة التي أمامي وقع نظري على الأصحاح الأربعين من سفر إرميا النبي، حيث يقول قائد جيش نبوخذ نصر للنبي الكريم: «فَٱلآنَ هَئَنَذَا أَحُلُّكَ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلْقُيُودِ ٱلَّتِي عَلَى يَدِكَ. فَإِنْ حَسُنَ فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ مَعِي إِلَى بَابِلَ فَتَعَالَ، فَأَجْعَلُ عَيْنَيَّ عَلَيْكَ. وَإِنْ قَبُحَ فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ مَعِي إِلَى بَابِلَ فَٱمْتَنِعْ. اُنْظُرْ. كُلُّ ٱلأَرْضِ هِيَ أَمَامَكَ، فَحَيْثُمَا حَسُنَ وَكَانَ مُسْتَقِيماً فِي عَيْنَيْكَ أَنْ تَنْطَلِقَ فَٱنْطَلِقْ إِلَى هُنَاكَ» (إرميا 40: 4).

كانت الرسالة صريحة، وصريحة جداً. وانطلقت إلى حيث حسُن في عينيَّ. انطلقت إلى الكنيسة التي قُبلت فيها للمرة الأولى عضواً في جسد المسيح. وقد رحَّبت بي كنيستي ابناً محبوباً، ما زال اسمه مسجَّلاً في قلبها. ولم يجد الإخوة وسيلة للإعراب عن ابتهاجهم بعودتي افضل من انتخابي شيخاً وضمّي إلى عمدة (مجلس) الكنيسة. وتلا ذلك فرزي لخدمة الإنجيل كواعظ متجول في مناطق عكار والكورة والمنصف.

لا يستطيع إلا من ذاق حلاوة خلاص الله وتكرَّس لخدمته أن يدرك مقدار الفرح الذي امتلأت به نفسي وأنا في طريقي إلى بلدة الحاكور للقيام بخدمة الوعظ. حينئذ ترددت في خاطري كلمة الرب مخلّصي: «هَئَنَذَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَاباً مَفْتُوحاً وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُغْلِقَهُ، لأَنَّ لَكَ قُّوَةً يَسِيرَةً، وَقَدْ حَفِظْتَ كَلِمَتِي وَلَمْ تُنْكِرِ ٱسْمِي» (رؤيا 3: 8).

تاجر فاشل

لم أصادف نجاحاً في عملي التجاري. فمنذ أُصبت بخسائر فادحة، أولاً بسبب سوء أمانة بعض الذين تعاملت معهم. وثانياً، بسبب هبوط الأسعار المفاجيء خلال السنتين اللتين أعقبتا نهاية الحرب، ثم ارتفاعها بصورة مفاجئة حين نشبت حرب كوريا، وهبوطها أيضاً بعد وقت قصير. وثالثاً، لأن الأصناف التي كنت أتَّجر بها كان يسيطر عليها باعة دهاة لا يتورعون عن استعمال وسائل غير شرعية لترويج أعمالهم. كل هذه الأسباب معاً أوقعت بضائعي في الكساد، وبمرور الوقت أصابتها بتدنّي الأسعار إلى أن استنفدتُ رأس المال وأصبحتُ غير قادر على الاستمرار.

هكذا بعد مرور عشر سنوات في الكد وُجدت في موقف حرج جداً. كان محلي مكتظاً بالبضائع، ولكن كان مقابلها عدد عديد من السندات المستحقَّة الدفع، يقبع في أدراج البنوك. فلاح لي شبح إفلاس مريع يهدد حتى سمعتي الأدبية.

أشار عليَّ بعض الزملاء أن أعلن إفلاسي بعد تهريب القسم المهم من البضائع. وهوَّنوا عليَّ الأمر بقولهم: «إن الجميع في مثل حالتك يفعلون هذا. ويُجرون تسوية مع الدائنين بدفع 15 - 20 في الماية. وهكذا تستطيع أن تنقذ رأس مالك».

قلت لأولئك الناصحين: كلا شكراً. أنا تلميذ المسيح يتصرف وفقاً لمشيئة المسيح: «كُنْ أَمِيناً إِلَى ٱلْمَوْتِ فَسَأُعْطِيكَ إِكْلِيلَ ٱلْحَيَاةِ» (رؤيا 2: 10).

بقيت عدة أشهر في بلبلة أفكار أحاول الاستمرار في العمل، إلى أن جاءني شاب يعرض عليَّ شراء المحل بكل محتوياته، فلم أتردد، لأنني وجدت أن بيع المحل يخرجني من الورطة العقيمة. وبنتيجة البيع حصلت على مبلغ من المال يزيد ببضع مئات من الليرات على ديون المحل.

بقدر ما كانت النتيجة صدمة عنيفة لزوجتي وابنتي الكبرى، كانت لي ولابني البكر عملية إنقاذ من مأزق سيء. وقبل أن أسلم المحل لصاحبه الجديد خلوت إلى نفسي في المستودع الخلفي ورفعت صلاة شكر لله، لأن محبته شاءت أن تهش عليَّ بعصا التأديب، حاسباً عملية التجريد من المال بركة وخلاصاً من البقية الباقية من انتفاخ، كان يقاوم اتضاعي أحياناً.

بعد عملية التسليم عدت إلى البيت، فقابلتني زوجتي والبنت الكبرى بعاصفة من البكاء والنحيب، فابتسمت لهما وقلت: «لا تخافا، ولا يضطرب قلبكما، نحن نؤمن بالله. نحن نعرف الذي قال: لا أهملك ولا أتركك. نحن نرتجي الله ونثق في رأفته». وبعد لحظة من الصمت، قلت للابن الكبير: «هات كتب الترنيم. يجب أن نهتف بترنيمات لإله خلاصنا لأنه إلى هنا أعاننا، ولم يمنع رأفته عنا، ولم يخجل ملتمسنا، ولم يسلم أرجلنا إلى الزلل».

كان توزيع كتب الترنيم يعني شيئاً واحداً بالنسبة لأفراد العائلة: الاقتراب من الله. فقد كان في نفوسنا شيء من عاطفة المرنم التي عبَّر عنها بالقول: «أَمَّا أَنَا فَٱلٱقْتِرَابُ إِلَى ٱللّٰهِ حَسَنٌ لِي» (مزمور 73: 28).

ما أن تناول كلٌّ كتابه حتى لاح هدوء على وجوه الجميع. وبعد برهة تأمل صامت توجَّهت خلالها القلوب إلى فاديها وراعيها الرب، أخذنا ننشد الترنيمة التي مطلعها:

يا عسكر الرحمن من تجنَّدوا في موكب الرب العلي مجّدوا
فزتم بنصر دائم فحمّدوا مليكنا المنصور

 

كانت الأصوات ترتفع مشوبة بالحزن. ولكن ما أن وصلنا إلى القرار القائل: «تمَّ الخلاص هللويا رنموا لربنا يسوع» حتى رانت على أصوات الجميع نبرة فرح مصدرها تعزيات الرب، التي سكبها الروح القدس في قلوبنا. وومض في أعيننا بريق ترجم سلام الله الذي ملأ صدورنا.

بعد تلاوة فصل من الكتاب المقدس رفعنا صلاة شكر للرب الذي أحبنا وفدانا، وشاءت محبته أن يعزينا بعصا التأديب، فتشددت عزائمنا بالذي قال: «فَلاَ تَخَافُوا. أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ» (متى 10: 31). ومال كل واحد منا إلى الاعتقاد بأن الرب رأى في حياة الترف التي كنا نحياها نوعاً من تعظّم المعيشة، ووزراً ثقيلاً يعيق اهتمامنا بما فوق، فجرَّدنا من كل ثقل أو انتفاخ لإعدادنا لحمل نير المسيح، وتعلُّم درس الوداعة والتواضع عند قدميه.

ويكون لكم الدم علامة

خلال الحوادث الدامية التي مرَّت بلبنان عام 1958 كان الحيّ الذي نسكن فيه يقع بين ثكنات الجيش ومعاقل الثوار. وكان الثوار يتسللون إلى الحي لاعتقال من تضع الوشايات علامة استفهام على سلوكه السياسي. وفي أحد الأيام جاء أحد معارفي وقال لي: «أنصحك بمغادرة البلد لأن الثائرين عزموا على اعتقالك. ويبدو أن أحد الوشاة همس في أذنهم أنك غير محبذ للثورة».

قلت لمحدثي: «أنا لست ضد أحد، وإن كنت لا أحبذ حركة الثائرين، فأنا أيضاً لم أقاومها. أنا مواطن مسالم، ولا أريد التدخل في شؤون لا تعنيني».

قال محدثي: «قد تكون صادقاً، ولكن المعلومات التي لديَّ تجعلني أخشى أن يصيبك مكروه. لذا أكرر نصيحتي لك بالذهاب مع أفراد عائلتك».

لم يكن في وسعنا اللجوء إلى أحد لحمايتنا لأن الجميع أصابهم الذعر، حتى أن معظم السكان نزحوا إلى الجبال. ولكننا نعرف الذي قال: «مَنْ يَمَسُّكُمْ يَمَسُّ حَدَقَةَ عَيْنِهِ»(زكريا 2: 8)، لجأنا إلى هذا الاله حافظ البسطاء. وقد ألهمنا روحه القدوس وسيلة الحماية. ففي إحدى الليالي وكان إطلاق النار على أشده، اجتمعنا كعادتنا في حلقة الصلاة العائلية. فأخذت الكتاب المقدس وقرأت الأصحاح الثاني عشر من سفر الخروج. ثم وضعت إصبعي على قول الله لموسى: «تَكُونُ لَكُمْ شَاةً صَحِيحَةً ذَكَراً ٱبْنَ سَنَةٍ... وَيَكُونُ عِنْدَكُمْ تَحْتَ ٱلْحِفْظِ إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ هٰذَا ٱلشَّهْرِ. ثُمَّ يَذْبَحُهُ كُلُّ جُمْهُورِ جَمَاعَةِ... وَيَأْخُذُونَ مِنَ ٱلدَّمِ وَيَجْعَلُونَهُ عَلَى ٱلْقَائِمَتَيْنِ وَٱلْعَتَبَةِ ٱلْعُلْيَا... وَيَكُونُ لَكُمُ ٱلدَّمُ عَلاَمَةً عَلَى ٱلْبُيُوتِ ٱلَّتِي أَنْتُمْ فِيهَا، فَأَرَى ٱلدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ، فَلاَ يَكُونُ عَلَيْكُمْ ضَرْبَةٌ لِلْهَلاَكِ حِينَ أَضْرِبُ أَرْضَ مِصْرَ» (خروج 12: 5-13).

بعد القراءة جثونا على الركب، وتوسلنا إلى إلهنا حافظ نفوس أتقيائه أن يرش عتبة بيتنا العليا وقائمتيه بدم يسوع، فصحنا الذي ذُبح لأجلنا (1كورنثوس 5: 7).

فاستجاب الرب صلاة الإيمان. ودرأ عنّا الخطر في تلك الليلة والليالي التي تلت.

لم يطل الوقت حتى تردَّت الحال وتفاقمت واشتد الخطر. انقطع تيار الكهرباء والماء. وأصبح خطر الموت بالرصاص حائلاً دون ذهاب أحدنا إلى السوق لشراء الطعام. لم يكن لدينا المال اللازم للذهاب إلى الجبال أسوة بالغير، فصلَّيت بحرارة إلى الرب لكي يدبر أمر خروجنا من المدينة إلى مكان بعيد، يعطيني فيه الرب فرصة لكي أخدمه.

استجاب الرب صلاتي وأعطاني سؤل قلبي. ففي اليوم التالي تسللتُ من الحي وذهبت إلى بيروت، وهناك عمل القسوس مدفوعين بمحبة المسيح على تدبير أمري بتعييني واعظاً لكنيسة المروج في أعالي المتن. وكم سرَّني أن أصرف ثلاثة أشهر في خدمة الفادي بعيداً عن كل خطر. أكرمني الرب جداً إذ أعطاني ما سألت: الخدمة والملجأ الأمين. فتمَّ لي القول الإلهي: «وَيَكُونُ أَنِّي قَبْلَمَا يَدْعُونَ أَنَا أُجِيبُ، وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بَعْدُ أَنَا أَسْمَعُ» (إشعياء 65: 24).

تمتعت في بلدة المروج ببركة الخدمة على نطاق واسع. فعددٌ كبير من الإنجيليين الذين أموُّا منطقة المتن الأعلى هرباً من الثورة كانوا يحضرون إلى الكنيسة في كل أحد. فسُرَّ قلبي وانتعشت نفسي. وفي هذا الجو المشبع بالرؤى فكرت في تكريس كل وقتي لخدمة المسيح في الكنيسة. فرُحْتُ أفكر في الأمر جدياً، مصلياً وطالباً إرشاد الرب، إلى أن شعرت بأنني مدعوّ من الله لخدمة الإنجيل. فصمّمت أخيراً على الانضواء في صفوف خدام الرب. وحين جاء أمين سر السنودس أطلعته على قراري. فسُرَّ بالأمر ورفع توصية للجنة العمل الديني بتعييني، فاجتمعت واتخذت قراراً بتعييني واعظاً ومبشراً في أبرشية مرجعيون، وذلك ابتداءً من أول تشرين (اكتوبر) 1958.

10 - الخدمة العملية

«لَيْسَ أَنْتُمُ ٱخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا ٱخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا 15: 16)

خلال خدمتي في منطقة مرجعيون أُعطيت نعمة خاصة من الله في الخدمة العملية، ففي غرفة المطالعة التي عُهد إليَّ أمر إدارتها في بلدة النبطية، سنحت لي فرصة طيبة لإقامة أواصر المودّة مع معلّمي وطلاب المدارس، فاتخذت هذه المودَّة سبيلاً لخدمة الإنجيل في الوسط المدرسي. وما لبث الطلاب أن منحوني ثقتهم، حتى أن بعضهم راح يطلب عندي الحلول لمشاكله الشخصية. وكم كان فرحي عظيماً بالحكمة التي أُعطيتها من فوق لمساعدتهم في ذلك.

وفي المدرسة التابعة للسنودس الإنجيلي الوطني أُتيحت لي الفرصة لنشر كلمة الله. فقد كان من ضمن واجباتي أن أدرّس مادة الدين لجميع الصفوف، وأن ألقي رسالة وعظ أسبوعية على الهيئة التعليمية والطلاب معاً.

وكذلك كانت السنون الخمس التي أمضيتها في النبطية فترة درس واستعداد لخدمة أوسع، فخلالها اجتزت امتحان العلوم واللاهوت ونلت اجازة التبشير القانونية من السنودس الإنجيلي الوطني، وفي نهايتها انتُخبت راعياً لكنيسة الميناء والمستشفى الإنجيلي. وفي الميناء تمتعت ببركات جزيلة، سواء في خدمة الكنيسة أم في التحدث إلى المرضى بكلمة الله، أم في مدرسة التمريض التابعة للمستشفى، والتي كنت أدرّس فيها الكتاب المقدس، أم في جمعية سيدات طرابلس، التي طلبت إليَّ رئيستها أن أقود اجتماعاتها لدرس الرسالة إلى أفسس.

في شهر تموز (يوليو) 1965 دُعيت لأكون راعياً لكنائس ضبيَّة والحدث والرابية، فبدأت أطرح الأمر بالصلاة أمام عرش النعمة، متخذاً ما يشبه الأُسلوب الذي استعمله رجل الله جدعون، للتأكد من أن الله سيؤيده في المسؤولية التي انتدبه لحملها. وكم كان سروري بالغاً في أن الله حقق لي العلامات التي طلبتها في صلواتي. حينئذ لم أتلكأ في الموافقة، فتمَّ التعاقد بيننا ابتداءً من 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1965. وفي 14 تشرين الثاني (نوفمبر) 1965 رُسمت قسيساً في حفل كبير اشترك فيه اثنا عشر قسيساً، وذلك في الكنيسة الإنجيلية الوطنية في بيروت.

وشعرت بعمق المسؤولية التي وُضعت على عاتقي حين وقف القس المترئّس للحفل يذكّرني بالواجبات التي ترتّبها عليَّ القسوسية، في كوني سفيراً للرب يسوع، وخفيراً ووكيلاً لتعليم أولاد الله ونصحهم وإرشادهم إلى طريق الله، ومكلَّفاً بالحفاظ على خراف المسيح الذين اشتراهم بموته ولأجلهم سفك دمه، وبالإتيان بكل من سيُفوَّض لعهدتي إلى معرفة الله، وإلى كمال البلوغ في المسيح.

ويا له من سرور عظيم أفعم قلبي حين وُضعت الأيادي على رأسي، وسمعت تلك العبارة من فم الرعاة الاثني عشر: «نعطيك يمين الشركة لتشترك معنا في هذه الخدمة المباركة».

القِسم الثاني: الرسَائل المتبَادَلة

11 - أخ يفتش عن الحق

«إِنَّ لِي حُزْناً عَظِيماً وَوَجَعاً فِي قَلْبِي لاَ يَنْقَطِعُ! فَإِنِّي كُنْتُ أَوَدُّ لَوْ أَكُونُ أَنَا نَفْسِي مَحْرُوماً مِنَ ٱلْمَسِيحِ لأَجْلِ إِخْوَتِي أَنْسِبَائِي حَسَبَ ٱلْجَسَدِ» (رسالة رومية 9: 2، 3)

في عام 1936 جمعتني وفاة والدي بإخوتي، فتبادلنا قبلات التعزية التي دشَّنت بيننا عهد المصالحة. ولما عدت إلى بيتي في حمص أتيتُ بأخي حسّان فعاش معنا حصَّة من الزمن في جو المحبة التي أضفاها المسيح على بيتنا المتواضع. وحين عاد إلى أمه كان يحمل في نفسه فكرة طيبة عن المسيحية، تحركت في نفسه بعد سبعة عشر عاماً. وكان قد شبَّ وتعلم وتزوج وأنجب أولاداً. وقد حركها بعد هذه السنين الطويلة، عتاب وجّهته إليه لسبب هَجْره لي كل هذه المدة. فكتب لي رسالة موجزة، هذا نصها:

عزيزي توفيق

أبلغتني أمي بحنقك عليَّ، ولك ملء الحق. على أن عذري الذي يُقبَل منك دائماً هو صدق محبتي لك وإخلاصي، اللذان تشعر بهما ولا شك. ولا يمكن أن يتحوَّلا أبد الدهر.

لدى ذكري إياك يسبح بي الخيال إلى تكوين صورة مثالية للأخ البار. ويبدو أمام عينيَّ قبس من الذوق والعطف والاخلاص..

إن لك في نفسي آثاراً لا تمحوها الأيام، ومواقف لا يعتريها البلى، كوَّنت جزءاً من شخصيتي، ونمت نموها، فأصبحتُ أرى فيك مثالاً يُقتدَى، وخاطراً يخالط الذكرى.

فما حنقك عليَّ إلا سحابة صيف أستظلّ بها، دون ان أخشاها. ولك عليَّ حق العتب والتقريع، ولي عليك حق العذر. فمتى نال كلٌّ حقه فلا لوم ولا عذر.

18 - 8 - 52 المخلّص: حسان

يبدو أن إبطائي بالجواب حمل العزيز حسَّان إلى الظن أن رسالته لم تصل إليَّ، فبعث رسالة ثانية هذا نصها:

أخي العزيز

تحية الوفاء لمعدن الصفاء والحب والولاء، والتماس عفو أخ كريم النفس في الإخاء.

بلغني عتابك منذ شهور، فبادرت إلى الكتابة مرتين، عسى أن تكون وصلتك رسالتاي. إن المحبة فاعلة، ظاهرة كانت أو خافية، دانية أو قاصية، وقد أصابنا منها السهم الأوفر والنصيب الأكبر. فبربك لا تعتب ولا يذهبن بك الظن بأني جاحد فضلك أو ناسٍ إحسانك، فإنك منذ عهد صباي معلّمي الذي مدَّ لي يد المحبة، فاستمرأتُ الحياة وعرفتُ القيم الإنسانية التي رأيتها مجسَّمة فيك. وأعترف بقصوري عنك في كل شيء، وبعجزي التام عن مجاراتك أو اللحاق بك، لأني ضعيف، لا قِبَل لي أن أماثلك في شيء.

ولئن فاتنى أن أمارس أفعالك، أو أن أنسج على منوالك، فما فاتني أن أحبك الحب الصافي الصادق. هذا الحب الذي ترعرع في قلبي منذ الصبا، فدرجت عليه. وليس أمتن من حب بدؤه الصبا ونهايته الموت.

7 - 9 - 52 المخلّص: حسان

قرأت رسالتيْ حسّان، وتأملت في كل كلمة وردت فيهما. فصعُب عليَّ أن أتقبل المديح لسجايا لم تكن أصلاً في طبيعتي، وإنما هي من صنع ربي ومخلّصي الذي أنقذني من ضلال العالم الشرير. فالحياة أُظهرت لي يوماً. وعملاً بالامانة يجب أن أشهد لرب الحياة، الذي شاء فولدني بكلمة الحق (يعقوب 1: 18). وتمشياً مع حبي لفاديَّ ومخلّصي كتبتُ إلى أخي أوجّه نظره إلى مصدر السجايا التي استحسنها فيَّ. وصدَّرت رسالتي بالآية الكريمة: «اَللّٰهُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي ٱلْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي ٱللّٰهِ وَٱللّٰهُ فِيهِ» (1يوحنا 4: 16).

أخي المحبوب حسان

كلا يا حبيب، إنني لم أحقد عليك، ولكني عتبت. وما العتب إلا ومضة من ومضات المحبة التي تكمن نارها تحت رماد الهجر. وحالما تتعرض لتيارات الذكرى يتطاير الرماد عنها، فيستعر أوارها وتلدغ أقرب المقربين!

أجل! إنني أحيا ناعم البال في عالمي الصغير بين زوجة وفية وأولاد أربيهم في تأديب الرب وإنذاره. بيد أن النعمة التي أنا فيها مقيم لم تكن لتزيل من خاطري صور عالمي الكبير، العالم الذي قُطعت منه ولما أبلغ رشدي.

لقد عشت في عالمي ذاك في ظل تقاليد جافة جامدة منتفخة، لا أثر فيها للتضحية التي هي روح المحبة. ولك أن تتصور معي حالة أسرة عريقة تعيش وفقاً لتقاليد لا روح فيها! فهذه التقاليد نفسها أنشأت في بيتنا مضاعفات عاطفية منحرفة، بُلينا بها نحن الأولاد. فوسمت عواطفنا بنزوات أمهاتنا الأربع، اللواتي جمعهن تقليد خاطىء في بيت أب مهمل!

لقد أصابتني تلك العوامل في صميم نفسي. فرزحْتُ تحتها حقبة من الزمن أتجرع خلالها مرارة الحياة في ألوان شتى، فجعلت مني إنساناً مهشَّم العاطفة خائب الأمل.

كانت عواطف والديَّ تتشاحن حولي بين مدّ وجزر. وفي كل مرة كنت أدفع الثمن من حبات قلبي المسكين، لأن تلك الومضات العابرة من حنان الأم وحدب الوالد كانت تتخاصم وتتعارك بأسلحة الغيرة المزعومة على مستقبلي، فيطمو عليَّ حطامها، غمراً ينادي غمراً.

وحين تجاوزْتُ سن الصبا إلى الشباب، أخذت أنظر إلى الحياة من خلال رجاء هزيل وأمل أعجف في تكوين حياتي. ولكن عناية الله لم تتركني، فقد كان لي بقية من إيماني بالله وثقة برحمته. وعلى نور هذه البقية تأملت في الحياة، وأردت أن أعيشها حياة حب ووئام مع إخوتي وأخواتي. ولكن للأسف صُدمت بواقع البيئة التي كنا نعيش فيها، وقد شُحن جوها بالحقد والكراهية والحسد والخصام. وإنما كثائر لم أرد الاستسلام للواقع المرير، وحاولت التقرُّب من أبناء وبنات أبي، ولكنني صُدمت بجدار ضخم من كيد«الضرائر» تحطمت عليه كل محاولاتي، مما أثار شجني واستنزف دموعي. وكثائر أيضاً هجرتُ أبي وأمي وإخوتي، وذهبت أضرب في فضاء الله، أنشد المحبة. ولسعادتي، قادتني عناية القدير إلى كنيسة المسيح، حيث ذقت طعم المحبة، محباً ومحبوباً. فشكراً لله الذي لم يتركني أضارب الهواء بعواطفي، بل قادني إلى حظيرة المختارين المحبوبين الذين ألبسهم يسوع أحشاء رأفات وتواضعاً ووداعة وطول أناة (كولوسي 3: 12).

والآن يا حبيبي، كم أشكرك لأجل عبارات المحبة التي تدفقت من قلبك، فرسمتها يراعتك ببراعة مدهشة. وشاءت كياستك أن تقدمها مديحاً براقاً يصعب عليَّ قبوله. مجداً للرب الذي شاء فرحمني وولدني جديداً بلمسة من روحه القدوس.

يا أخي، أنا لا برَّ لي. ويقضي ناموس الامانة أن أعترف لك بصراحة أنه لم يكن فيّ شيء صالح. وكل ما في الأمر هو أن القدير شاء يوماً أن تسطع أنواره الكاشفة في نفسي، لأرى على ضوئها بشاعة حالتي.

رأيت نفسي مشحونة بالأمور المتخالفة مع مشيئة الله، وإنني في حاجة ماسة إلى التطهير من أدران الاثم، فأُخلق جديداً. كان عليَّ أن أتخلص من أنانيتي البغيضة، من الذات التي تحمل الكراهية والكبرياء والظلم والرداءة.

ولغبطتي وضعني الرب الإله في طريق إنجيل محبته! أو على الأصح وضع الإنجيل بين يديَّ. فتعلمت منه المحبة في مثال المسيح الذي قدَّمه، تمشياً مع قوله الإلهي:«هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16) ولقد فهمت هذا الدرس عملياً من قول المسيح«ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل احبائه». (يوحنا 15: 13) فانجذبت بفعل المحبة، ولم ألبث أن صار نشيد المحبة الذي كتبه بولس لهجي في كل مناسبة، أردد مقاطعه الرائعة بلذة ليست من هذا العالم (في1 كورنثوس13).

«ٱلْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ. ٱلْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ ٱلسُّؤَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِٱلإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِٱلْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَداً».

وفي مدرسة المحبة تعلمت أن كل من لا يصنع البر ليس من الله، وكذا من لا يحب أخاه. من يحب أخاه فقد وُلد من الله. ومن لا يحب لم يعرف الله، لأن الله محبة.

هذه هي دروس المحبة، وهي جديرة بأن يتعلمها البشر وأن يعملوا بموجبها، فتُحل مشاكلهم. وعندئذ يتم المكتوب: «لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ ٱلأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (إشعياء 11: 9).

كلا يا أخي لم أنسك ولن أنساك لأن ذلك ليس في استطاعتي. فإن فتر لساني عن التلفّظ باسمك فأنت صورة لا تُمحى من خاطري، لأنك قسم من محبتي وجزء من حناني.

لا لزوم للمعذرة يا حسان لأن هذا القلب الذي ينبض في صدري شفاه المسيح من الكراهية، بحيث لم يبق له حق بالمعذرة. لا تعتذر لأن الاعتذار ترضية الانانية، وقد سمّاه الناس واجباً. أما أنا فأنانيتي قد صُلبت منذ أمد بعيد مع يسوع ولفظت أنفاسها، فأصبح الواجب بالنسبة لي عمل محبة متجاوب.

لا تقل إن أخي يحيا في مثالية نُسجت من خيوط الاوهام. ولا تنسبن لي المبالغة، بل ترفق بي. واعلم أن حالتي هي حق عرفته، وواقع أعيشه، سعيداً مطمئناً قرير العين.

لقد انتقدني كثيرون ونسبوا إليَّ الحماقة، واتهموني بِقِصر النظر والمروق والكفر. فغضبت في الماضي وحزنت وتذمرت، ولكنني الآن اشكرهم جميعاً لأنهم في انتقادهم وتجريحهم دفعوني إلى إعادة النظر في أدبياتي وعواطفي. وقد أعانني الله في محاولاتي، فاختبرني وامتحنني ووضعني في خطوات يسوع المعلم الصالح، لأتعلّم منه الحياة في وجهها الصحيح.

أنا لست بمتفلسف يا حسان. أنا إنسان له إيمان بسيط، هو عطية الله للمساكين بالروح، وقاية لهم من شر الامور المعقدة.

اخيراً، مُدَّ يدك أيها العزيز، لنقم اتصالاً بيننا على أساس هذه المحبة، طالبين إلى الله الذي هو نفسه محبة أن يفرغنا من ذواتنا ويملأنا حبا.

20 - 9 - 52 المخلّص توفيق

12 - فعل المحبة

«كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي ٱلرَّبِّ» (1كورنثوس 15: 58)

بعد أن استودعت البريد رسالتي إلى حسان، اتجهت إلى الله بصلوات حارة ليرافق الرسالة بنعمته فتجد قبولاً حسناً عنده. فسمع الله توسلاتي واستجاب طلبتي. ففي 15 - 10 - 52 جاءتني منه الرسالة التالية:

عزيزي

لم أبطىء يوماً في كتابة رسالة كما أبطأت في رسالتي هذه التي أسطرها إليك. ولعل مرجع ذلك إلى التهيُّب الذي كان يلابسني كلما أمسكت القلم، نتيجة إعجابي بالمراحل الدقيقة التي مررتَ بها قبل أن تنتظم حياتك. ووقوفي طويلاً أمام جهادك في هذا السبيل، وعلى نحو تبرز فيه إرادتك التي استطاعت ان تكوِّن شخصيتك مستقلة عن كل تأثير، مستهزئة بأي حال، نافرة من أي تقليد، بعد أن طُبعت بطابع جديد يبدو وكأنه كل شيء في حياتك. وهذا الطابع هو «المحبة».

إن لهذه الكلمة السحرية أثراً بالغاً في كل نفس، بنسبة ما تحتمل النفوس. ولقد ظفرتَ بنصيب كبير منها نتيجة إيمانك العميق بها. وقد اتخَّذتَها كما لمستُ فيك وسيلة وغاية: وسيلة إلى حل مشاكلك وتسويتها بصورة تتفق مع روحك المفِتّشة السليمة، وغاية إلى السلام والنجاة من قيود النفس.

وليس جديداً على ما ذكرت لي من المثل العليا التي تعلَّقت بها، والتي كانت رائدك القوي في نضالك المستمر من أجل ما صبوت إليه من سكينة نفس واستقرار حال. وإني أُحيّي فيك كل خطوة خطوتها إلى عالمك هذا، راجياً أن تستمر عليك النعم والسعادة.

والمحبة في معناها الضيق والواسع، والقريب والبعيد، ثمرة الإيمان ولا شك. تلك المحبة التي تسبغ على العالم نوراً، والتي من أجلها تستعذب النفس التضحية بدرجاتها العديدة. وإنك لن تجد في نفس مؤمنة إلا المحبة الخالصة، تجاهد بها دوماً إلى بلوغ الكمال عن طريق إنكار الذات والاستسلام إلى الله كلياً، مما يهيّيء للمتصف بها إرادة واعية، ورغبة تامة في التضحية، خلاصاً من الميول والنزوات التي تتعارض مع الغاية النبيلة التي من اجلها وُجدت المحبة.

لقد قيل فيك الكثير. ولست أشك في نظرتك إذ ترى لنفسك ما لا يراه الناس. ولكل حقه في أن يعيد النظر في آماله وأمانيه على ضوء واقعه. وأن من يعرفك ويختبر نفسيتك لا يسعه إلا الإعجاب بالقوة الروحية التي تتمتع بها، والتي ساهمت إلى حد بعيد في بناء شخصيتك على ضوء التعاليم التي تؤمن بها. وإني كمقرٍّ في حق تقرير المصير الشخصي أرى أنك قمت بواجبك نحو نفسك على الوجه الذي أقرَّه تفكيرك ومنطقك، مستوحياً في كل أحوالك إيمانك الراسخ في صدرك منذ أن استأنست برشدك وأعملت ذهنك، منقباً عن حقائق لم يتيسر لك إيجادها ولمسها إلا في تغيير نظرتك إلى أصول العقائد والعمل بها. فكان إيمانك الجديد بالمحبة، كما صورته لي، دليلاً ناصعاً على اهتمامك الشديد بروحك، وتجريدك من الضعف الموروث، مكتسباً هذه النزعة الخالدة بروعتها والقوية بجوهرها، والتي لا يدركها إلا المنطلق في الآفاق البعيدة، التي انطلقت فيها.

وينبئني عنك ما لمسته فيك شخصياً من ضروب العطف والحنان. وإني إذ أحب أن أحدثك قليلاً عن نفسي، أعترف لك بأن مشاكلي أنا الآخر تشبه مشاكلك في المراحل الأولى من الشباب، بل لعلها كانت أشد تعقيداً. فقد عشتُ أبعد ما أكون عن الشعور بحماية الأب وحنان الأم. فقد أُلقي بي في الحياة ولما تكتمل شخصيتي، معرَّضاً لجميع التيارات، حسنها وقبيحها. وكان عليَّ أن أدبر أمري منفرداً مادياً وتهذيبياً، دون معونة أب أو حدب أمّ أو عطف قريب. فكان رائدي طبعي وغريزتي، دون أن يلابس طبعي أي توجيه، أو يتحكم في غريزتي أي إرشاد. ومع ذلك فقد منَّ الله عليَّ بأن حياتي المضطربة تلك أورثتني عُقداً نفسية كانت أُولى نتائجها أني اضطُررت إلى مغادرة المدرسة، ولما أكوِّن لنفسي مستقبلاً جيداً.

وكان أن توفي والدنا فقدمْتُ إلى القرية. وهناك اقترحتَ عليَّ أن أرافقك إلى بيتك في حمص. وما زلت أذكر، لأن الحوادث الهامة تنطبع في الذهن فلا تزول ذكراها، كيف سافرنا. جلست في حضنك إلى طرطوس، وفي قربك إلى طرابلس. ومن هناك في سكون ليلة من ليالي تموز (يوليو)، اتجهنا إلى حمص في قطار الثامنة والنصف. وجلسنا في عربة الدرجة الثانية. ولدى وصولنا إلى حمص في الواحدة بعد نصف الليل استقلينا عربة يجرها حصانان سارت بنا إلى البيت في الحميدية. وفتحت لنا زوجتك الباب ورحّبت بنا. وقضيتُ بين ظهرانيكم حصة من الزمن كنت أعيش خلالها ولأول مرة محاطاً بعطف عائلي وحب خالص نسيت معهما كل آلامي الماضية. وزالت عني الهموم التي تراكمت في فراغ حياتي الواسع. وأعدتُ الكرَّة مرتين، كنت في خلالها العزيز الحبيب الأثير لديكم جميعاً. وبوسعي لو يُفسَح المجال، أن أسرد وقائع حياتي آنذاك. فاني أعيش فيها الآن. وثق يا عزيزي ان هذه الفترات هي أثمن ذكريات تحتل خيالي وأسعد ما مرَّ في حياتي حتى الآن.

وإن كانت معاشرتي لك أسعدتني من جهة، فلا بد أن تكون أثرَّت في فهمي معنى الحياة من جهة ثانية. لقد كنت شاباً بسيطاً محدود التفكير بما يحيط به. وإذ لم يتيسر لي أن أجد الشخص الذي يمكن أن يكون مثلاً أعلى لي في الحياة، كنت أضمّ صورتك دائماً إليَّ، وأتمثَّلك بكل عمل أقوم به. فاقتبست منك أساليب كثيرة وعادات جديدة. وإنك في أوج عاطفتك الصادقة وحديثك الشيق عن المحبة الذي أتحفتني به الآن، تبدو أكثر جلاءً منك في أي وقت عرفتك فيه، وأشد فاعلية في نفسي. ولا غرو فإن المحبة التي ينبض بها قلبك تجد إيجابية في قلبي. وإنها لنعمة إلهية أن يجمع بين أخوين هذا القبس الذي يبدد ظلمات النفس، ويجلو أوهام الحياة. فالمحبة نور يشعّ في النفوس كما أن الله نور يشع في القلوب. وأنا اؤمن بأن الله محبة، إذ أن المحبة نور. وبعد فليس حب أعظم من هذا: أن يضع المرء نفسه من أجل أحبائه.

يسرني أيها العزيز أن تستمر في الكتابة اليَّ، ولك أن تثق في أن قلبي يخفق بمحبتك وتسعدني ذكراك. وإني مهما بعدت بيننا الشقة واختلفت الأحوال حافظ على محبتي لك، لأنها ترعرعت في ظروف سعيدة، وأصبح لها أثر خالد في النفس، لا تمحوه الأيام. واني لأفخر بأنك المثل الأعلى الذي صبوتُ اليه وتمثّلت به. فشكراً لك يا أخي وتحياتي واحترامي إلى الأخت العزيزة عقيلتك، وقبلاتي للأولاد الأحباء. ودمت سالماً. وليحفظك الله للمخلّص.

حسان. 15 - 10 - 52

13 - المحبة تستر كثرة من الخطايا

«وَلٰكِنْ بِنِعْمَةِ ٱللّٰهِ أَنَا مَا أَنَا، وَنِعْمَتُهُ ٱلْمُعْطَاةُ لِي لَمْ تَكُنْ بَاطِلَةً» (1كورنثوس 15: 10)

لقد أبى العزيز حسان إلا أن يجعلني مرة أخرى موضوعاً لإطرائه. ومرة أخرى تملَّكني الشعور بالخجل أن أُمدح لأجل سجايا لم تكن فيَّ أصلاً، وإنما أُعطيت لي فضلاً من ذاك الذي أحبني. ومرة أخرى أمسكت بالقلم لأوجّه نظر أخي الحبيب إلى مصدر كل عطية صالحة وكل موهبة تامة، الذي استطاع بقدرته في المحبة أن يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة. فكتبت اليه الرسالة التالية:

أخي الحبيب

جاءت رسالتك العزيزة في وقت بلغ بي العطش إلى محبتك ذروته القصوى، فكان لها الوقع المستحبّ في نفسي المشتاقة اليك.

إنني أشكر الرب إلهي الذي أعطاني نعمة في عينيك حتى منحتني محبة غطت عيوبي وسترت نقائصي. وإنني أمام عاطفتك النبيلة التي شاءت أن تُلبسني رداء الكمال، وثقتك الغالية في شخصي الحقير، ألفيتُ نفسي رهين واجب محتَّم يهيب بي مرة أخرى أن أوجّه نظرك إلى مصدر هذه النعمة التي أنا فيها مقيم.

فأنا ككل أفراد البشر، تردَّيت في النقائص وتمرغت في حمأة الكبائر خلال أزمنة جهلي، وعصيت أوامر الحق ودست شرائعه حيناً من الدهر. ولكن الله أبا الرأفة وإله كل تعزية ومصدر كل بر وقداسة وحق تعاظمت رحمته بي، فأشفق على تعاستي ووضعني يوماً في طريق يسوع راعي النفوس وأسقفها.

هذا هو الكلمة، الذي كان في البدء عند الله. وصار جسداً، وحلَّ بيننا ردحاً من الزمن يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، وفقا لقوله: «أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10).

هذا الشخص الإلهي كما قال الرسول بولس: «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبى 2: 6-8). وبوضعه نفسه عن البشر على هذه الصورة أظهر صفات الله الغنية بالمحبة والرأفة وكل لطف.

إن محبة الله قد ظهرت وتحسَّسها البشر في الإله الذي صار إنساناً. وأتى إلى عالمنا هذا حاملاً قلب الله لكي يعلن للناس أن «الله محبة». وان هذه المحبة لم تر ضيْراً في أن يتحمل القدوس الحق ورئيس ملوك الأرض المشاق والآلام في ضنك العيش ورقة الحال، ليخلّص الناس من عبودية الخطية ويطلقهم في حرية أولاد الله، ليخلصني أنا الخاطي بالذات ويعطيني ميراثاً مع القديسين في النور.

عزيزي حسان،

ثق أن رسالة المسيح لم تكن مجرد نظريات لرفع مستوى أمته الاجتماعي، أو قواعد سياسية لتوحيد عناصرها وتوسيع مداها الحيوي، كما هو شأن مفكري الأجيال وقادة الامم. بل كانت عملاً خلاقاً لرفع المستوى الروحي والأدبي عند كل الذين قبلوه.

أما تعاليمه فهي ناموس حب إيجابي في كل شيء، فهي ايجابية مع الميل إلى الخير لبلورته ودفعه في طريق الكمال، وايجابية مع نزعة الشر إذ توبخها بالنور على الخطية، وتردّ المنساق بها إلى سبل البر.

وقد قدَّم يسوع تعاليمه للناس في إطار محبة عملية عجيبة ذهبت به في العطاء إلى وضع النفس. وفي حياته كقدوس حق لم يستطع أحد أن يبكته على خطية. وفي خدمته المؤيَّدة بقدرة فائقة، أعطى برهاناً ساطعاً على أنه شخص عجيب فريد. وحقاً قال عنه النبي العظيم إشعياء، قبل تجسُّده بسبعة قرون: «وَيُدْعَى ٱسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6).

وكيف لا يكون يسوع شخصاً عجيباً فريداً، فقد حُبل به من الروح القدس ووُلد من عذراء فكان عجيباً فى ولادته!

وهو كلمة الله الأزلي الذي شهد له الوحى أن كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان. وأن فيه كانت الحياة، والحياة نور الناس (يوحنا 1: 3-5) وهو «بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (العبرانيين 1: 3) ومع ذلك فلأجل فداء الإنسان وخلاصه تواضع وأخذ الجسد، وولد في مذود البقر إذ لم يكن لأمه مأوى، فكان عجيباً في تواضعه!

إن له كل الأرض وملؤها، المسكونة وكل الساكنين فيها (مزمور 24: 1) ثرواتها وعناصرها تحت تصرفه وفي سلطانه. إذ بكلمة منه أطعم عدة آلاف من سمكتين وخمسة أرغفة شعير (يوحنا 6: 1-13) ومع ذلك فكثيراً ما كان يبيت على الطوى ويتناوله الجوع بآلامه، فكان عجيباً في تصرفاته فريداً في أعماله!

لقد وهب للناس الكساء والمأوى، وهيّأ للجميع أسباب العيش. ولكنه هو نفسه لم يكن له مأوى يسكن إليه ولا ملجأ يمكث فيه. وقد أعلن هذه الحقيقة لتلميذ صمَّم على أن يتبعه: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ ٱلسَّمَاءِ أَوْكَارٌ، وَأَمَّا ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأْسَهُ» (لوقا 9: 58) فكان عجيباً في زهده!

لقد أخلى عرشه المجيد بين الملائكة الخادمة لجلاله، وأتى إلى أرض الشقاء والآلام ليعيش بين جماعة من صيادي السمك والعشارين المحتقرين من الناس. وفي هذا الوسط البالغ الوضاعة لم يقبل أن يخدمه أحد. لأنه كما قال: «لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متى 20: 28) فكان عجيباً في وداعته!

وفي أيام جسده نزل إلى وسط الخطاة والأثمة، واستضافهم وآكلهم وحدّثهم، ليرفع معنوياتهم، وينهضهم من سقطاتهم، ويعيد إليهم اعتبارهم بغفران خطاياهم. وحين عرضته مجالسهم لانتقادات رجال الدين قال: «لاَ يَحْتَاجُ ٱلأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ ٱلْمَرْضَى. فَٱذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (متى 9: 12 و 13) فكان عجيباً فى حكمته!

وقد بلغ الاتضاع برب المجد إلى حد عجيب في رقة الحال، لأنه عند موته لم يكن له من الأرض التي بسطتها يمينه مكان قبر، مما دفع إنساناً ثرياً ليتبرع له بقبر منحوت في الصخر، فكان عجيباً في فاقته!

خلال معالجته لآفات المجتمع حلَّ كل مشكلة بمحبة متأنية، فلم يأخذ مذنباً بذنبه ولا شقياً بشقاوته، بل أعطى لكل من أقبل إليه غفراناً ونعمة للتوبة وقداسة حياة ونصيباً معه في الحياة الأبدية.

شاهد فتاة أُمسكت في زنا، وقد أحدق بها جماعة من الكتبة والفريسيين ليرجموها حتى الموت. وعلى لسان كل منهم لعنة على الساقطة وهتاف للشريعة التي أدانتها. تحلقوا حولها وظلمة الآثام تضع عماهة على بصائرهم حتى لا يسمعوا أنين المساكين الذين لم يترفقوا بهم.

فوقف بهم والغضب المقدس يملأ صدره، وكرهه للرياء الخسيس يزكي سخطه. فلو كانوا حماة للآداب حقاً لأتوا بالرجل الذي أسقطها في فعلتها إلى الرجم. تطلع واضع الشريعة والناموس، وكديان كل الأرض صرخ بهم: «مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَّوَلاً بِحَجَرٍ!» (يوحنا 8: 7). فجاءت كلمته لاذعة كالسوط لاهبة كالنار، فخافوا وارتعدت ركبهم، وتطلع كل واحد إلى رفيقه منتظراً أن يكون هو الباديء، فخاب انتظارهم، ولم يلبثوا حتى ارتعشت أيديهم مفلتة الحجارة. ثم انسلّوا واحداً تلو الآخر ابتداءً من الشيوخ. نعم، في لحظة تحول القضاة إلى متّهمين، لأنه في تلك الساعة سطع قبس نور الرب، فاخترق سرائرهم وكشف خفياتهم المشحونة إثماً وفجوراً.

في الواقع، يا حسان، من يستطيع أن يقول إنه بلا خطية؟ والله يقول: «ٱلْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعاً، فَسَدُوا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً، لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌا»؟ (مزمور 14: 3).

استاء الكتبة والفريسيون من فعلة تلك المرأة وحسبوها أشراً منهم، حتى لكأن القلب البشري الفاسد يرتاح إذا اكتشف من هو أشرّ منه! ولكن الاختبار يعلمنا أن هذا النوع من الناس أبعدهم عن الرحمة، حتى تثور ضمائرهم إذا رُحم إنسان ساقط. وفاتهم أن يعلموا أن لله قلباً غنياً بالرحمة، وأنه من أجل محبته الكثيرة يعامل الخاطئ بالرأفة ليحييه بالغفران.

كانت المرأة المشتكى عليها مذنبة حقاً، وقد أوقفها الذنب أمام مجموعة من المتمسكين بالحرف الذي يقتل، والذين لا رحمة في قلوبهم لمن يخالف ناموس موسى. ولكن ما أن وقف بهم القدوس الحق، حتى وجدوا أنفسهم غير قادرين على تنفيذ القصاص الذي اعتزموه، لأن القدوس الحق وضع شرطاً أن يبدأ بالتنفيذ من كان بلا خطية. فجرَّدهم بذلك من سلطة القضاء، لأنهم هم أنفسهم خطاة أثمة.

وحين خلت الساحة وجدت تلك التعسة نفسها وجهاً لوجه أمام الشخص الوحيد الذي بلا خطية، والذي في وسعه أن يرميها بحجر. ولكن لسعادتها ان الذي بلا خطية هو نفسه المخلِّص الذي جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك. وهذا المخلّص الذي به النعمة والحق سألها:

- يا امرأة، أين هم أولئك المشتكون عليك؟ أما دانك أحد؟!

قالت المرأة بلهجة يسودها الانكسار والندم: «لا أحد»

- ولا أنا أدينك. اذهبي ولا تخطئي أيضاً (يوحنا 8: 10 و11).

قالها لكي يُفهم الحاضرين من غير المشتكين أن معرفة الله ترفع العقاب، «وَإِنَّهُ هٰكَذَا يَكُونُ فَرَحٌ فِي ٱلسَّمَاءِ بِخَاطِئٍ وَاحِدٍ يَتُوبُ أَكْثَرَ مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ بَارّاً لاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى تَوْبَةٍ» (لوقا 15: 7).

من المسلَّم به يا أخي أن المسيح لم يتجاهل فعلتها، ولم يُردْ الإقلال من إثمها. وإنما ذكّرها بلطف بشرّ فعلها لكي يقتادها بلطفه وإمهاله وطول أناته إلى التوبة (رومية 2: 4) أي أنه غفر لها، وكان الغفران خير وسيلة لقطع علاقتها بالماضي.

وماذا أقول لك عن عمل المسيح بين الحزانى الذين واساهم وخفَّف أحزانهم ومسح الدمعة من أعينهم، أو عن اهتمامه بالمعذبين في الارض، والمتألمين والمطرودين، مما يتطلَّب ذكره وقتاً طويلاً...

هذا هو مخلّصي يسوع المحب، الذي جاء إلى العالم لكي يخلّصني أنا أول الخطاة. هذا كاهني العظيم الذي لكي يصنع تطهيراً لخطاياي دخل إلى أقداس الله بذبيحة نفسه، فحصل لي على صك الغفران مكتوباً بدم صليبه.

هذا هو الفادي الذي عرف عنه إشعياء النبي قبل دخوله إلى العالم فقال:

«لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا، وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً، مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا. كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا» (إشعياء 53: 4-6).

هذا هو فاديَّ الذي اعترض سبيلي يوماً ليعلن لي أنه يحبني بالرغم من مساوئي الكثيرة وآثامي الغليظة. وقد أسمعنى كلمته التي ملكت عليَّ وجداني، وملأت قلبي بالإيمان والرجاء والمحبة، وجذبتني إلى صليبه: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).

في ذلك اليوم كنت أهيم في صحراء الحياة وفي كياني جوع إلى البر لم تستطع كل أديان البشر أن تشبعه، وفي روحي عطش إلى معرفة الحق لم تستطع تعاليم الناس أن ترويه. فأوقفني وقال:

- أيها الجائع «أَنَا هُوَ ٱلْخُبْزُ ٱلْحَيُّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هٰذَا ٱلْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى ٱلأَبَدِ. وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 6: 51).

- أيها الظامئ تعال واشرب من الماء الحي «مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى ٱلأَبَدِ، بَلِ ٱلْمَاءُ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يوحنا 4: 14).

نعم يا أخي، هذا هو يسوعي حبيبي ومخلّصي وأسقف نفسي، وقد وقف بي عندما ضنَّت عليَّ المحبة البشرية بعاطفة أبي. وتبسَّم في وجهي حين تجهَّم لي وجه أمي، ومدَّ يده الكريمة التي تحمل أثر المسامير ومسح الدمعة من عيني. وفي وسط ليلي الحالك الذي خبت فيه نجوم المحبة من أفق إخوتي وأبناء جلدتي أطلَّ عليَّ وقال: لا تخف. «أَنَا هُوَ نُورُ ٱلْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي ٱلظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ ٱلْحَيَاةِ» (يوحنا 8: 12).

هذا هو وسيط الصلح بين السماء والأرض، وقد صالحني مع الله بموته كفّارة عن خطاياي، ثم صهرني في بوتقة محبته، فجعل مني أنا الإنسان الشقي خليقة جديدة، وفقاً لقول الرسول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي ٱلْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (2كورنثوس 5: 17).

«هُوَذَا حَمَلُ ٱللّٰهِ ٱلَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 1: 29) وقد رفع خطيتي فعلاً لأنه أخذ مكاني على الصليب ودفع أجرة خطيتي وفاءً للعدل الإلهي، لكي يبطل عني حكم القصاص طرحاً في جهنم النار لأجل كل فرية اقترفتها وكل كلمة بطالة تلفَّظت بها شفتاي وكل فكرة أثيمة نبتت في خاطري.

عزيزي حسان

إن قلبي الآن يفيض بأفكار كثيرة في موضوع محبة الله المعلنة في يسوع المسيح، ولكن مجال هذه الرسالة ضيق لا يتسع لتدوينها. فعسى أن تُتاح لي فرصة لقاء بك لأحدّثك فماً لفم عن اختباراتي الروحية الكثيرة منذ أن عرفت فاديَّ الذي أنار لي الحياة والخلود. قبلاتي.

المخلّص: توفيق. 23 - 10 - 52

14 - إني أؤمن

«أَمَّا ٱلآنَ فَيَثْبُتُ ٱلإِيمَانُ وَٱلرَّجَاءُ وَٱلْمَحَبَّةُ، هٰذِهِ ٱلثَّلاَثَةُ وَلٰكِنَّ أَعْظَمَهُنَّ ٱلْمَحَبَّةُ» (1كورنثوس 13: 13)

قبل أن أستودع رسالتي الآنفة صندوق البريد طلبتُ إلى عدد من الإخوة المحبوبين أن يشتركوا معي في الصوم والصلاة حتى يرافق روح الرب الرسالة إلى قلب حسان. فاستجاب الرب صلوات الإيمان، ولم يمض وقت طويل حتى جاءني منه جواب يحمل البشرى السعيدة عن تأثره برسالة المحبة. وفيه يقول:

عزيزي،

لقد كان كتابك لي طيلة أيامٍ، شغلي الشاغل، وماليء تفكيري ومجال خيالي، فقد تضمَّن قصة حياتك بايجاز، واعترافات ذات شأن. إلى جانب أمانيك وآمالك في حياة خِبرْت مرَّها وحلوها، وألفت صعبها وذلولها، وقاسيت ما قاسيت حتى انتهيت إلى هذا الوضع الذي حلَّ جميع مشاكلك النفسية، واسترحت مما يريبك ويضنيك. فأنت بحق وجدارة عصامي قلباً وقالباً، مادياً ومعنوياً. ولك أن تفخر بأن كوَّنت شخصيتك بنفسك بعد تجربة واختبار وبحث وتدقيق، ولم تدخر وسعاً في سبيل الوصول إلى أرفع ما تستطيعه من درجات الكمال.

قرأت كتابك مرات ومرات، وكنت أجد فيه كل مرة جدَّة وروعة، وألمس من خلال تعابيرك روحك الصافية التي انتشت بالمحبة والطهر، فاذا هي تشفّ عن أسمى العواطف الإنسانية وأروع آيات الحب والوفاء. اعترافاتك هذه زادتني تعلّقاً بك، وثباتاً على أن تكون مَثَلي الأعلى الذي كنتهُ طيلة سنوات عديدة. وإن ادَّعائك بالضعف والحقارة أعلاك في نظري، ورفع مقامك في يقيني.

ولئن كانت معاشرتي إياك ردحاً قصيراً من الزمن تركت في نفسي أثراً عميقاً لا يمكن أن تمحوه السنون، لما غمرتني به من عطف وود وقابلتني به من سماحة وكرم، فإن أفكارك وتعاليمك أثرَّت في وجداني أثراً موازياً لما تفاعل في نفسي. وها أنت تبسط لي من جديد حبك وإخلاصك بثوب من التعاليم والحقائق، كما فعلت في العام الماضي عندما كتبتَ لي رسالة كهذه، أحفظها إلى الأبد لأعود إليها بين الحين والحين، استنطقها وحياً وإلهاماً وأستشفّ من خلالها روحك الحنون ودافعك النزيه.

إن الاقتناع الروحي نعمة من النعم لا تتيسر لأكثر الناس. وأنا فى الحقيقة لا أحسب المرء بالغاً درجة الاطمئنان النفسي إلا إذا اقتنع بخلاص روحه، ووثق أنه سيلقى ربَّه بقلب سليم. والسعيد في نظري هو من أدرك هذا الحد، ووُفّق إلى الإعتقاد بصلاحه، وتخلَّص من شكوكه وريبه. ومن الطرق التي تمهّد للإنسان السمو روحياً، لا تخرج على نطاق الدين والفلسفة. فالمتدينون والمتفلسفون هم أعلى الناس مرتبة وأعظمهم سعادة. وربما كان الدين في حد ذاته فلسفة عالية تحقق السعادة الروحية وإن خرجت أحياناً عن حدود المنطق.

أنا مؤمن معك يا أخي أن المرء لا يستنير إلا بالمحبة، ولا يخلص من آلامه ومتاعبه إلا بإلهام من الله، كالذي نزل عليك حين كنت تهيم في صحراء الحياة وحيداً، بعد أن ضنَّ عليك ناموس المحبة البشرية بعاطفة أبيك، وتجهَّم لك وجه أمك، وتنكر لك أبناء جلدتك. لكأن الله أراد لك النجاة مما عانيته منفرداً، فقدر لك هذه الخيبة المضنية، وأوقعك في هذه الظلمة الغاشمة من الألم والعذاب، فبرز لك وجه مخلّصك الأكبر يسوع، وتناهى إلى سمعك صوته يهيب بك قائلاً: «أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي الظلمة، بل يكون له نور الحياة». ولقد كان جوعك الروحي شديداً وعطشك النفسي بالغاً حين اعترض يسوع سبيلك وحنى عليك قائلاً: «أنا هو الخبز الذي نزل من السماء. إن أكلت منه تحيا إلى الابد» حينئذ تلمَّست حياة جديدة على ضوء النور العظيم الذي تبدَّى لك، وهرعت تطلب هذا الخبز السماوي لتشبع منه مرة واحدة إلى الابد، فبُعثت خلقاً جديداً بروح جديدة على غرار قول الرسول: «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة».

لست أشك في أنك وصلت إلى أوج القناعة النفسية في ظل هذه التعاليم الحية. وإني أكبّر فيك هذه الخطوة الجبارة، وأهنئك بما وُفقت إليه من رضى وقبول، إذ أُنير أمامك السبيل إلى الخلود والاستقرار الذي يعوز أكثر الناس. ولست أكتمك يا عزيزي أنني لم أصل حتى الآن إلى هذه القناعة التي أنشدها، إذ أن حدَّها الإلهام، وهذا ما لم يتيسر لي قط.

لقد تشابهنا كثيراً في آلامنا، ومصادرها واحدة. فكلانا عاش بعيداً عن أمه وأبيه، وكلانا ذاق مرارة الحرمان في مختلف صوره وأشكاله واقترف من الصغائر والكبائر. على أنه قُدِّر لك أن تتلمس طريقاً سار بك إلى السعادة، فوجدت من يمسح دمعتك ويؤنس غربتك ويقيل عثرتك. ومررتَ في أعظم تجربة روحية استسلمت بعدها إلى السعادة والاطمئنان. أما أنا، فلم يُقدَّر لي ما قُدِّر لك في ظروفنا المتشابهة وآلامنا المتفقة.

وشدَّ ما أثَّر فيَّ ما لمست فيك من يقين وثبات، هما لا بد ناجمان عن اختبارات كثيرة، على ضوء ما برز لك واتضح من الدلائل في عالمك الواسع. عسى أن تأتي ظروف أستطيع فيها فهم ما لم أفهمه منك من خلال هذه السطور القليلة.

ولقد سرني أنك حدَّثتني عن نفسك، ولم تخْف عني أموراً دقيقة، ونوَّهت بأخطائك كما يفعل التائب الذي يذكر خطاياه، دون أن تثور في نفسه أية ثورة ولا يرافق ذكرياته أي هيجان. فعلمتُ أنك تغلبتَ على جميع نقاط الضعف بعد أن قوي ايمانك وصحَّ تفكيرك منذ أن اتخذت المحبة الإلهية قدوة واغترفت من ينبوعها جرعة، غُذِّيت من كيانها لقمة.

وها أنت تدلّني على جميع هذه المصادر التي كانت سبباً في خروجك من ظلمة مريرة إلى عالم آخر قوامه المحبة والتضحية والإيمان. ويسعدني أن أكون موضع ثقتك، فتكشف لي عن حقائق لم أعلمها، وتؤنسني بأحاديث حبية تتغلغل في نفسي لتثيرها، وتتفاعل مع ما يختلق في وجداني من مشاعر وأحاسيس، وتروي ظمأي. فشكراً لك يا أخي على كل هذا لأني ألمس فيه هدى روحياً وراحة كبرى وحقائق بديعة.

إني أؤمن بالكثير مما ذكرته لي، بل به كله. أؤمن أن يسوع هو نفس الله، وأنه القادر إذن، فولادته قدرة، وإشباعه الألوف من سمكتين وخمسة أرغفة قدرة، وإحياؤه الموتى قدرة. وشفاؤه الأكمه والأبرص قدرة. وإنه لا يعجزه شيء. وأعتقد حيث تريد وتتصور. على أنني أرجو أن تحدثني مطوَّلاً عن مقتله، إذ أني أقف هنا موقفاً يصعب عليَّ تعليل صلبه وقتله. فزدني إيضاحاً حول هذا الحدث العظيم.

إن العزيزة الاخت عقيلتك لم تتبدَّل حيالي منذ عرفتُها فقد كانت لي أماً وأختاً مدة إقامتي بين ظهرانيكم في حمص واللاذقية. وليس يسعدني كذكرى تلك الأيام حينما كنت أرافقها حيثما حلّت أو ذهبت، في البيت والسوق. في الصباح والمساء، عندما كنت أشاركها في رعاية الأطفال الأحباء. لم يكن حينئذ لديَّ أم ترعاني سواها، ولا أخت تفهمني غيرها.

ما زالت هذه الذكريات الأثيرة لديَّ. وهي ما عادت إلى مخيلتي إلا وملأتني حبوراً. فمن الطبيعي يا عزيزي أن تفرح الأخت المحبوبة لأخباري الحسنة.

دمت سالماً للمخلّص.

حسان 10 - 1 - 53

15 - الصليب حقيقة

قال يسوع: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32)

تلوت رسالة حسان فامتلأت نفسي سروراً لا يستطيع قلم كاتب مار أن يصفه. كيف لا أسر وقد لمست كلمة الحياة قلبه بهذه البساطة، فيُقبل إلى الفادي، ويعترف به سيداً ومعلماً وهادياً؟ فكتبت:

عزيزي

في وقت كنت فيه أترقب تعزية من السماء جاءت رسالتك العزيزة فملأت نفسي غبطة لا يمكن للسان طلق أن يعبّر عنها.

وأية تعزية أعظم من أن أرى أخي حبيبي، يتحفَّز للانعتاق من قيود التقاليد الموروثة إلى حرية أولاد النور؟

وأية تعزية أعظم من أن يكون لكلمة الحق موضع في وجدانك وتأثير على نفسك؟

وأية تعزية أعظم من أن يعطيني الله نعمة في عينيك حتى تهبني ثقتك الغالية، وتطلب إليَّ أن أشرح لك موضوع صليب الرب يسوع المسيح؟

وأية تعزية أعظم من أن تنجذب بفعل محبة الله الباذلة لتبحث عن الاطمئنان الروحي في ظل الفداء الذي هو الترجمان الأوحد لمحبة الله للبشر؟

وأية تعزية أعظم من أن تنصت معي إلى الصوت القائل: «أنا هو نور العالم من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة»؟

وأية تعزية أعظم من أن يذهب بك الإيمان إلى معرفة يسوع في ألوهته، ومحبته العجيبة، التي أعلنت لنا أن الله محبة؟

وأية تعزية أعظم من أن أمتثل لرغبتك، ضمن معلوماتي المتواضعة، لإيضاح ما يبدو لك غامضاً في موت يسوع؟

إن موضوع الصليب، الذي نحن في صدده موضوع خطير جداً. وقبل الخوض في دقائقه، لا بد لي من التمهيد بذكر بعض الأحداث المهمة التي وردت في الكتاب المقدس منذ الإنسان الأول، والتي وضَّحت محبة الله لأجل خلاص العالم:

السقوط

يعلّم الكتاب العزيز أن الله خلق الإنسان على صورته في البر وقداسة الحق. وعاهده عهد الحياة على شرط الطاعة الكاملة لوصاياه. وهاك النص، كما ورد في سفر التكوين: «فَخَلَقَ ٱللّٰهُ ٱلإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللّٰهِ خَلَقَهُ. ذَكَراً وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ. وَأَخَذَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا. وَأَوْصَى ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ آدَمَ قَائِلاً: مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً، وَأَمَّا شَجَرَةُ مَعْرِفَةِ ٱلْخَيْرِ وَٱلشَّرِّ فَلاَ تَأْكُلْ مِنْهَا، لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 1: 27، 28 و2: 15-17).

وعاش آدم ردحاً من الزمن في فردوس الله، في جو بهي من الطهر، تجمّله شركة روحية مع الله كانت تملأ قلب آدم وفكره بالسعادة.

كان آدم بسيطاً، وفي البساطة قُرْبٌ من قلب الله. وكان كاملاً، وفي الكمال مسحة من روح الله. وكان مؤمناً، والإيمان هو اليد التي تتناول بركات الله. وكان باراً، وفي البر قَبَس من نور الله.

ومع ذلك فقد سمح الرب الإله أن يمتحن آدم. وكان موضوع الامتحان: هل يحتفظ آدم بمكانه من الطاعة والولاء؟ كانت هناك وصية وضعت فاصلاً بين ما يحقّ لآدم وما يمتنع عليه. وقد أراد الله أن يعلمه أن هناك فاصلاً بين الحلال والحرام. والخطية هي أن يتعدى هذا الفاصل. وقد جعل الله هذا كله بأسلوب رمزي في ثمر الشجرة الممتنعة على آدم.

كما أن سهولة الامتحان ظهرت في التجربة التي جاءت من الشيطان. فهذا تقدم من حواء في ناصح، تهمّه مصلحة العائلة الأولى. وقد بادرها بسؤال بسيط في ظاهره، ولكنه مبطن بالخداع:

- أحقاً قال الله أن لا تأكلا من كل أشجار الجنة؟ (تكوين 3: 1) وكأن الغاوي يقول: هل من المعقول أن الله الذي خصَّكما بكل هذا الحب، وأحاطكما بكل هذه العناية، ووفَّر لكما كل هذه السعادة، يمنعكما من أن تأكلا من كل أشجار الجنة؟!

أُخذت الأم الأولى باللهجة الماكرة التي قدَّم بها الشيطان سؤاله حتى اعتراها شيء من الشك في صلاح الوصية. وفي ظل الشك أجابت:

- «مِنْ ثَمَرِ شَجَرِ ٱلْجَنَّةِ نَأْكُلُ، وَأَمَّا ثَمَرُ ٱلشَّجَرَةِ ٱلَّتِي فِي وَسَطِ ٱلْجَنَّةِ فَقَالَ ٱللّٰهُ: لاَ تَأْكُلاَ مِنْهُ وَلاَ تَمَسَّاهُ لِئَلاَّ تَمُوتَا» (تكوين 3: 2 و3).

لاحظ كيف أن حواء حين غشاها ضباب الشك زوَّرت كلام الله بأن زادت عليه كلمة «لا تمساه». ولكي يزيدها الشرير شكاً في صلاح الله وحق وصيته قال لها:

- «لَنْ تَمُوتَا! بَلِ ٱللّٰهُ عَالِمٌ أَنَّهُ يَوْمَ تَأْكُلاَنِ مِنْهُ تَنْفَتِحُ أَعْيُنُكُمَا وَتَكُونَانِ كَٱللّٰهِ عَارِفَيْنِ ٱلْخَيْرَ وَٱلشَّرَّ» (تكوين 3: 4 و5).

كان كلام الغاوي لحواء منطقياً مقنعاً بأن الله في سبيل منعها ورفيقها من مساواته في المعرفة، قيَّدهما بتحذير أقل ما فيه أنه غير صادق. فاجتاح الشك قلب المرأة، ولم تلبث أن استجابت لغواية عدو الخير. وللمرة الأولى «رَأَتِ ٱلْمَرْأَةُ أَنَّ ٱلشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ ٱلشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضاً مَعَهَا فَأَكَلَ» (تكوين 3: 6).

وهكذا سقطت العائلة الأولى. سقطت المرأة لأنها شكَّت في صلاح وصية الله، ولأنها أرادت أن تماثل الله في المعرفة. ولم تكتفِ بكسر الوصية بل أشركت رجلها معها فنقض عهد الله وتعدى حدوده، والخطية هي التعدي (1يوحنا 3: 4). ولما كانت أجرة الخطية بحسب ناموس الله موت (رومية 6: 23) وقع المخالفان تحت القصاص وفقاً للانذار الإلهي: «يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 2: 17).

ومعنى الموت هنا، ليس انحلال الجسد في القبر، بل هو موت النفس، بخلودها في العذاب الأبدي، في بحيرة النيران المتقدة. «حيث دُودَهُمْ لاَ يَمُوتُ وَنَارَهُمْ لاَ تُطْفَأُ»(إشعياء 66: 24).

سقط آدم فوقع تحت طائلة الحكم، فقال الله له:

- «مَلْعُونَةٌ ٱلأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِٱلتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكاً وَحَسَكاً تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ ٱلْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزاً حَتَّى تَعُودَ إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ» (تكوين 3: 17-19).

ثم طرده من جنة عدن، فهام على وجهه مع امرأته يضربان في الأرض في متاعب وآلام. ثم انجبا نسلاً. وكان نسلهما بالطبع مطروداً فاقداً ميراثه بالفردوس. وبديهي أن يكون النسل ضعيفاً ورازحاً تحت ثقل الخطية الموروثة على أرض لُعنت بسبب الإنسان.

ولم يصبح الأبوان الأولان خاطئين فقط، بل مورِّثين الخطية لجميع أبنائهما على وجه التعاقب والاستمرار. كما هو مكتوب: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية 5: 12) ومن العبث أن يُقال إن خطية آدم لم تنحدر الينا، وإن كل إنسان يولد بقدرة كاملة على اختيار الخير والشر إذ لا أثر لخطية أبويه فيه. وأنا لا أدري كيف جاز لأصحاب هذا الرأي أن يجزموا بهذا الأمر، بينما حقيقة الكتاب المقدس تناهضهم وتسد عليهم الطريق. وعملياً، ألم يكن آدم نائباً عن الجنس البشري؟ بلى، لأن كل الوعود التي أعطاها الله له كانت له ولنسله. وعند لفظ الحكم عليه لُعنت لهم الارض، كما لعنت له. وكتب لهم أن يأكلوا خبزهم بعرق جباههم، كما كتب له. وتسلط الموت عليهم، كما تسلّط عليه. وأوجاع الولادة التي كُتبت على حواء قصاصاً ما زالت تعانيها كل بنت من بناتها. وقد أدرك ابو العلاء المعري هذه الحقيقة فقال:

هذا جناه أبي عليَّ وما جنيتُ على أحد

وكيف يجوز أن نسلم بآثار الوراثة العميقة في الحياة في شتى وجوهها، ولا نسلم بأثر الميراث الآتي إلى الإنسان من خطية أبويه الأولين؟! إن اختبارات البشر في كل جيل وعصر تصرخ في فزع مستمر مع داود بن يسى: «هَئَنَذَا بِٱلإِثْمِ صُّوِرْتُ وَبِالْخَطِيَّةِ حَبِلَتْ بِي أُمِّي» (مزمور 51: 5) وكذلك بعد عشرات الأجيال ارتفعت هذه الصرخة عينها من رسول الجهاد بولس: «وَأَمَّا أَنَا فَجَسَدِيٌّ مَبِيعٌ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ. لأَنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ مَا أَنَا أَفْعَلُهُ، إِذْ لَسْتُ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُهُ، بَلْ مَا أُبْغِضُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ أَفْعَلُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ، فَإِنِّي أُصَادِقُ ٱلنَّامُوسَ أَنَّهُ حَسَنٌ. فَٱلآنَ لَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُ ذٰلِكَ أَنَا، بَلِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱلسَّاكِنَةُ فِيَّ... فَإِنِّي أُسَرُّ بِنَامُوسِ ٱللّٰهِ بِحَسَبِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْبَاطِنِ. وَلٰكِنِّي أَرَى نَامُوساً آخَرَ فِي أَعْضَائِي يُحَارِبُ نَامُوسَ ذِهْنِي، وَيَسْبِينِي إِلَى نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ ٱلْكَائِنِ فِي أَعْضَائِي» (رومية 7: 14-23).

قال العالم الانكليزي الكبير هاكسلي: «لا أعلم أن هناك دراسة انتهت إلى نتيجة تعسة للنفس كدراسة تطوّر الإنسانية. فمن وراء ظلام التاريخ تبيَّن أن الإنسان خاضع لعنصر وُضع فيه مسيطر عليه بقوة هائلة.. إنه فريسة واهنة عمياء لدوافع تقوده إلى الخراب، وضحية لأوهام لا نهائية جعلت كيانه العقلي هماً ثقيلاً، وأفنت جسده بالغموم والمتاعب. ومنذ آلاف السنين لا يزال هو هو، يقاتل ويضطهد، ويعود ليبكي ضحاياه ويبني قبورهم».

وهل يحتاج أحد إلى هذه الشهادات الصارخة الآتية عبر التاريخ لكي يلمس هذه الحقيقة؟ ألا يكفي أن ينظر الإنسان إلى أعماق نفسه ويتحسس ميوله ونزواته ليعلم أن ناموس الخطية ساكن فيه؟

يكفي أن نلقي نظرة على المجتمع البشري لنلمس هذه الحقيقة في كل إنسان، وهي أن «الجميع فَسَدُوا وَرَجِسُوا بِأَفْعَالِهِمْ» (مزمور 14: 1) الجميع خلوا من صورة الله، التي كانت لآدم قبل السقوط «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ» (إشعياء 53: 6) «ٱلْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحاً لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ... وَفَمُهُمْ مَمْلُوءٌ لَعْنَةً وَمَرَارَةً. أَرْجُلُهُمْ سَرِيعَةٌ إِلَى سَفْكِ ٱلدَّمِ. فِي طُرُقِهِمِ ٱغْتِصَابٌ وَسَحْقٌ» (رومية 3: 12-16).

ان وجود الخطية في حياة كل إنسان أمر لا يجهله أحد، لأن فساد الطبيعة البشرية ظاهر للحسّ في عجز الإنسان عن حفظ الناموس الادبي من تلقاء نفسه، حتى بتوبته الذاتية. فهذه عرضة للفشل إن كانت لا تتلقى معونة الله بالروح القدس. مما يؤكد لنا خلو نفس المرء من البر الأصلي الذي كان للإنسان الأول قبل السقوط.

يكفي أن نلقي نظرة عابرة على تاريخ الجريمة عبر الأجيال لنجد الدليل الحاسم على فقدان الإنسان طبيعة الصلاح، وأخذه طبيعة الفساد. وأول ما ظهرت طبيعة الفساد الموروثة كان في جريمة القتل الأولى التي اقترفها قايين بن آدم بحق أخيه هابيل. ولماذا قتله؟ أليس لأنه كان شريراً؟ ولماذا يخاصم أحدنا الآخر؟ أليس لأن طبيعة الشر متأصلة فينا؟ لماذا تحارب أمة أمة؟ أليس بفعل شر الافراد حينما يتكتلون؟

ما هي أجرة الخطية؟

«أُجْرَةَ ٱلْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رومية 6: 23) وقد مات آدم و حواء حين سقطا. ماتا الموت الروحي بدليل انفصالهما عن الله وفقدانهما الشركة الروحية الجميلة الحلوة المقدسة مع خالقهما المحب. وإذ فقدا ذلك الشوق للمثول في حضرته عند هبوب ريح النهار، اختبئا من وجهه في وسط أشجار الجنة (تكوين 3: 8) اختبئا بسبب الخطية. كما هو مكتوب «آثَامُكُمْ صَارَتْ فَاصِلَةً بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِلَهِكُمْ، وَخَطَايَاكُمْ سَتَرَتْ وَجْهَهُ عَنْكُمْ» (إشعياء 59: 2).

ما أرهب الحكم العادل «لأَنَّكَ يَوْمَ تَأْكُلُ مِنْهَا مَوْتاً تَمُوتُ» (تكوين 2: 17) ولكن هل انتهى الأمل في عودة الإنسان إلى فردوسه الضائع، وطهارته المفقودة؟ كلا! إن الرجاء لم يمت ولن يموت، لأن الله محب كما هو عادل. ومحبة الله الغنية بالرحمة واللطف دبرت إنقاذ الإنسان فكانت فكرة الفداء.

تدخُّل محبة الله

لما كان الله كاملاً في كل صفاته، ومن كمالاته العدل والصدق، وبما أن عدله وصدقه لا يتغيّران، حكم على تعدي الإنسان بالموت الأبدي قصاصاً. غير أنه كما أن لله عدلاً وصدقاً لا يتغيران، له أيضاً محبة لا تتغير، عجيبة لا تعرف الحدود في صفحها وغفرانها. وقد عبَّر عنها تعالى بقوله: «وَمَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ أَدَمْتُ لَكِ ٱلرَّحْمَةَ»(إرميا 31: 3) هذه المحبة المتفاضلة جداً اتخذت في قلب الله صفة المحبة المدبِّرة حيال ضعف الإنسان لإنقاذه. فضعف الإنسان كشف لنا حنان الله «الذي لاَ يُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 33: 11) وهذه المحبة العجيبة، كانت في البدء كلمة عند الله. ولكنها تجسَّدت عند ملء الزمان في يسوع لتفدي الإنسان تتمة لوعد الله بمخلّص يأتي من نسل المرأة (تكوين 3: 15). وهذا الوعد المبارك اخترق النبوات والرؤى إلى أن استقر في قلب يسوع على صليب الجلجثة بدمه الثمين ليرفع خطية العالم.

قال المحامي الذائع الصيت، سير جنت برنتس في ختام دفاعه عن أحد المتهمين: «لقد قرأت في كتاب ما ان الله في مشورته الأزلية سأل العدالة والحق: هل أصنع الإنسان؟ فأجابت العدالة كلا، لأنه سيدوس جميع شرائعك وسننك ونظمك. وقال الحق: لا تصنعه لأنه سيكون قبيحاً، وسيسعى دائماً وراء الباطل متكلماً بالكذب! حينئذ قالت المحبة: أنا أعلم أن هذا سيكون. ولكني مع شر الإنسان وفساده، سأتولى أمره وسأسير به خلال الطريق المظلمة، إلى أن آتي به إليك».

لقد خلق الله الإنسان على أحسن تقويم، ولكنه سقط واندفع في سقوطه وراء الباطل وتوغل في الشر. ولكن محبة الله تعهدته بالرحمة الغنية بالألطاف، إذ دبرت له خلاصاً كاملاً شاملاً بيسوع المسيح. وها نحن اليوم نقف بهذا الخلاص الكامل الشامل الأبدي لنرى حاجة الإنسان إليه، بل لنرى ضرورته وحتميته عند الله، وأن نعرف السبيل اليه. وكيف يمكن أن يقبله الإنسان. وما هي نتائج وآثار هذا القبول في حياة الإنسان الحاضرة والأبدية. ولعلنا بعد هذا كله ندرك ما يمكن أن ندعوه بنظرية المسيحية الكاملة عن الفداء.

والآن دعني أعود بك إلى رواية التكوين. لنتأمل معاً في ما صنعته محبة الله لسَتْر عري آدم وحواء. يقول الكتاب العزيز: «وَصَنَعَ ٱلرَّبُّ ٱلإِلٰهُ لآدَمَ وَٱمْرَأَتِهِ أَقْمِصَةً مِنْ جِلْدٍ وَأَلْبَسَهُمَا» (تكوين 3: 21) وهذا العمل لا بد استلزم ذبح بعض حيوانات الجنة. وبهذا رُسم عهد الذبائح الكفارية التي مورست في ما بعد في العهد القديم، وكانت رمزاً إلى حمل الله، يسوع، الذي بذبيحته «يرفع خطية العالم». ونعلم من الكتاب المقدس ان ذبيحة الدم التي قدمها هابيل لم تكن إلا ظلا للفداء العتيد، وعملاً يتفق مع فكر الله، بل انها من وحيه وإلهامه (تكوين 4: 4).

وكذلك الكبش الذي أعطاه الله لإبراهيم ليفدي به اسحق ابنه، لم يكن إلا رمزاً للفداء العظيم الذي أعدَّه منذ الأزل بذبيحة المسيح العتيدة (تكوين 22: 1-14).

وأيضاً خروف الفصح الذي أمر الله الشعب أن يقدموه في مصر (خروج 12: 1-42) لم يكن إلا رمزاً بارزاً لفصح العهد الجديد، الذي ذُبح فيه حمل الله، بدليل قول الرسول بولس:«لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضاً ٱلْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا. إِذاً لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ ٱلشَّرِّ وَٱلْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ ٱلإِخْلاَصِ وَٱلْحَقِّ» (1كورنثوس 5: 7 و8).

اختبارات شعب

عاش شعب العهد القديم آلاف السنين في ظل الناموس الذي أُعطي بموسى. وهذا الناموس وإن كان قد أتاح للبشر قديماً التكفير عن الخطايا بواسطة تقديم قرابين مادية من ثمار الأرض والحيوانات، إلا أن أحكامه الصارمة كانت توقع العقوبات على كل متعدّ، لأنها كانت آلة العدل والنقمة بيد الله. وقد جاء في الكتاب العزيز: لأن جميع الذين هم في الناموس هم تحت لعنة. لأنه مكتوب: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ ٱلنَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ» (تثنية 27: 26 غلاطية 3: 10) وقال الوحي الإلهي في يعقوب: «لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ ٱلنَّامُوسِ، وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ، فَقَدْ صَارَ مُجْرِماً فِي ٱلْكُلِّ» (يعقوب 2: 10).

ولما لم يكن في وسع أحد أن يحفظ كل أحكام الناموس، فلا بد أن اللعنة وقعت على الجميع «لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 23). وعملياً نجد أن الناموس عاجز عن إعطائنا البر، لأن عمله يقتصر فقط على إعطائنا مقياس الكمال. وأشبّهه بالمرآة، التي تُرينا القذى في أعيننا دون أن تكون لها القدرة على إخراجه.

يقول الرسول بولس في هذا الموضوع: «لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ، لَكَانَ بِٱلْحَقِيقَةِ ٱلْبِرُّ بِٱلنَّامُوسِ. لٰكِنَّ ٱلْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى ٱلْكُلِّ تَحْتَ ٱلْخَطِيَّةِ، لِيُعْطَى ٱلْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. وَلٰكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ ٱلإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، مُغْلَقاً عَلَيْنَا إِلَى ٱلإِيمَانِ ٱلْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ. إِذاً قَدْ كَانَ ٱلنَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى ٱلْمَسِيحِ، لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِٱلإِيمَانِ» (غلاطية 3: 21-24).

هكذا، يا أخي، أمام عجز الإنسان وعدم قدرته على حفظ الناموس تحركت محبة الله حناناً على الإنسان، وتدخلت لرفع الخطية التي حطمت قداسة الإنسان وشوهت صورته. ولتحريره من لعنة الناموس تحركت في المسيح لتطلقه من قيود الخطية ومن عبودية ناموس الحرف وترسله في الحرية وفقاً لقول المسيح: «رُوحُ ٱلسَّيِّدِ ٱلرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ ٱلرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ ٱلْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي ٱلْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِٱلْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِٱلإِطْلاَقِ» (إشعياء 61: 1). وفي هذا يقول الرسول بولس:«لأَنَّهُ لَمَّا كُنَّا فِي ٱلْجَسَدِ كَانَتْ أَهْوَاءُ ٱلْخَطَايَا ٱلَّتِي بِٱلنَّامُوسِ تَعْمَلُ فِي أَعْضَائِنَا، لِكَيْ نُثْمِرَ لِلْمَوْتِ. وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ تَحَرَّرْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ مَاتَ ٱلَّذِي كُنَّا مُمْسَكِينَ فِيهِ، حَتَّى نَعْبُدَ بِجِدَّةِ ٱلرُّوحِ لاَ بِعِتْقِ ٱلْحَرْفِ» (رومية 7: 5 و6).

16 - التجسَّد

«عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16)

لمس رجال الله قديماً ضعف الإنسان وعجز الناموس عن شفائه من مرض الخطية، ففتشوا عن وسيلة غير الذبائح والمحرقات، التي قال الرسول إنها «مِنْ جِهَةِ ٱلضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ ٱلَّذِي يَخْدِمُ» (العبرانيين 9: 9) والتي لا يمكنها أن تكمل مسرة الله. فقد جاء في سفر المزامير: «لأَنَّكَ لاَ تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لاَ تَرْضَى. ذَبَائِحُ ٱللّٰهِ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. ٱلْقَلْبُ ٱلْمُنْكَسِرُ وَٱلْمُنْسَحِقُ يَا اَللّٰهُ لاَ تَحْتَقِرُهُ» (مزمور 51: 16 و17).

وقال الوحي في إشعياء: «لِمَاذَا لِي كَثْرَةُ ذَبَائِحِكُمْ؟» يَقُولُ ٱلرَّبُّ «ٱتَّخَمْتُ مِنْ مُحْرَقَاتِ كِبَاشٍ وَشَحْمِ مُسَمَّنَاتٍ، وَبِدَمِ عُجُولٍ وَخِرْفَانٍ وَتُيُوسٍ مَا أُسَرُّ. حِينَمَا تَأْتُونَ لِتَظْهَرُوا أَمَامِي، مَنْ طَلَبَ هَذَا مِنْ أَيْدِيكُمْ أَنْ تَدُوسُوا دِيَارِي؟ لاَ تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ. ٱلْبَخُورُ هُوَ مَكْرُهَةٌ لِي» (إشعياء 1: 11-13).

ولكن خلال هذه الظلال أعلن الله لرجاله الأمناء أنه أعدَّ وسيلة حاسمة للخلاص، بوسيط صلح إلهى يأتي عند ملء الزمان، ويكمل بقربان نفسه، إلى الأبد، كل الذين يؤمنون باسمه (العبرانيين 10: 14).

فهذا هو أيوب الذي حلَّت به التجارب بأقسى ضروبها، وانتابته المحن بأفظع صورها، يرى هذا الوسيط الإلهي من خلال حاجته الماسة إلى الخلاص، ويشتهي تدخُّله بينه وبين الله، فيقول: «لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا! لِيَرْفَعْ عَنِّي عَصَاهُ وَلاَ يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ» (أيوب 9: 33 و34).

وها هو إشعياء يراه بعين النبوَّة مولوداً من عذراء باسم عمانوئيل «ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللّٰهُ مَعَنَا» (إشعياء 7: 14، متى 1: 23) فيكتب لنا ألقابه الإلهية: «عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ ٱلسَّلاَمِ» (إشعياء 9: 6) ويُسهب في شرح عمله الفدائي إذ يقول: «لَكِنَّ أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا. وَنَحْنُ حَسِبْنَاهُ مُصَاباً مَضْرُوباً مِنَ ٱللّٰهِ وَمَذْلُولاً. وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا... ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ... أَنَّهُ ضُرِبَ مِنْ أَجْلِ ذَنْبِ شَعْبِي؟ وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ... أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ ٱلرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ... وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 53: 4-12).

وها هو شاول الطرسوسي، بعدما حاول عبثاً أن يدرك البر الذي في الناموس، راح يفتش عن هذا الوسيط الذي تكلم عنه موسى والأنبياء، وينشد عنده الإنقاذ من جسد الخطية والموت، إلى أن أدركه وسيط الصلح نفسه على طريق دمشق، وحرره من حرف الناموس الذي يقتل، وأطلقه في حرية ناموس روح الحياة، فأنشد تسبيحته الخالدة: «أَشْكُرُ ٱللّٰهَ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا» (رومية 7: 20) . ثم كتب شهادته الرائعة بمداد الاختبار: «لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ ٱلْحَيَاةِ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ ٱلْخَطِيَّةِ وَٱلْمَوْتِ» (رومية 8: 2) وتبدو شهادته أروع وأشد جلاءً في قوله: «مَعَ كَوْنِهِ - أي المسيح - ٱبْناً تَعَلَّمَ ٱلطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ. وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ ٱلَّذِينَ يُطِيعُونَهُ سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ» (العبرانيين 5: 8 و9).

إن التجسد هو محور الكتابة المقدسة لأنه أساس عمل الفداء، وشرط ضروري لإتمام وظيفة المسيح كفادٍ. ولهذا كان موضوعاً لسلسلة من الإعلانات الإلهية التي امتلأت بها أسفار الوحي، بدأت بإشارات عامة إلى منقذٍ يأتي عند ملء الزمان ليخلّص البشر، ويكون بركة عظيمة لجميع الشعوب. ثم أخذت توضِّح أكثر فاكثر كل ما يختصّ به. ابتدأت بذكر نسل المرأة، ثم ذكر نسل ابراهيم، ثم سبط يهوذا، ثم بيت داود، ثم ولادة المنقذ من عذراء. وجاء في الاعلانات أنه يكون صاحب صفات إلهية، وأنه يفتدي لنفسه جنساً مختاراً يكون هو لهم رئيساً وملكاً (إشعياء 9: 6 و7).

والمدهش أنه ذُكر في الإعلانات ظروف غريبة ودقيقة، لا نتمكن نسبتها إلى حذاقة البشر. من ذلك تعيين محل ولادته بالضبط، فقد جاء في سفر ميخا النبي: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا 5: 2). وأنه يكون ذليلاً وممجداً معاً: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلرَّبِّ، رُوحُ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْفَهْمِ، رُوحُ ٱلْمَشُورَةِ وَٱلْقُّوَةِ، رُوحُ ٱلْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ ٱلرَّبِّ»(إشعياء 11: 1و 2). وانه يكون ملكاً، ولكن بدون مجد خارجي ويركب على جحش (زكريا 9: 9) وأعجب من ذلك كله، أنه يكون كاهناً وملكاً معاً. وايضاً كاهناً وذبيحة معاً (مزمور 110: 4 و عبرانيين 5: 6).

أما أروع ما قيل في التجسُّد فهو «فِي ٱلْبَدْءِ كَانَ ٱلْكَلِمَةُ، وَٱلْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ، وَكَانَ ٱلْكَلِمَةُ ٱللّٰهَ... وَٱلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ ٱلآبِ، مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً...» (يوحنا 1: 1-18) . «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ ٱلتَّقْوَى: ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ، تَبَرَّرَ فِي ٱلرُّوحِ، تَرَاءَى لِمَلاَئِكَةٍ، كُرِزَ بِهِ بَيْنَ ٱلأُمَمِ، أُومِنَ بِهِ فِي ٱلْعَالَمِ، رُفِعَ فِي ٱلْمَجْدِ» (1تيموثاوس 3: 16).

فالتجسد إذن حقيقة لا ريب فيها، يؤيدها كتاب الله، ويعلّم بأنه كان طريقاً اتّخذه الكلمة الذي كان في البدء عند الله ليصل إلى مذبح الفداء «لِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ»(مرقس 10: 45).

والآن يا عزيزي، دعنا نقبل بوداعة الإعلانات الخاصة المكنوزة لنا في الكتاب المقدس عن ظهور الكلمة في الجسد. إن أسمى وأعمق حقائق الكتاب العزيز مقدَّمة لنا في صورة شخصية، وليس في ألواح حجرية كالناموس، بل في شخص المسيح، بحيث أن من يعرف الإبن فقد عرف الآب (يوحنا 8: 19). وكم أشكر الله لأن الإنجيل الذي قبلتُه وأقوم فيه، وبه أيضاً أخلص، لم يكن بوسيط أو وسطاء بشريين، فلم ينزل به ملاك على المسيح من لوح محفوظ، ولم يكلم الله المسيح به من وراء حجاب كما كان الشأن مع موسى حين أعطاه الشريعة على سيناء، ولم يوح إليه وحياً مباشراً كما كان الأمر مع الرسل والأنبياء، بل كان المسيح نفسه: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ» (عبرانيين 1: 1 و2). فانجيلنا هو كلمة الحياة الأبدية الذي كان عند الآب وأُظهر لنا، الذي رأيناه وسمعناه ولمسَتْه أيدينا (1يوحنا 1: 1-4). وهذا ما كان يسوع نفسه يعلنه ويعلّم به، فقد قال لجماعة من الفقهاء حين سألوه: من أنت؟ «أَنَا مِنَ ٱلْبَدْءِ مَا أُكَلِّمُكُمْ أَيْضاً بِهِ. إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةً أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوِكُمْ، لٰكِنَّ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ. وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ فَهٰذَا أَقُولُهُ لِلْعَالَمِ». وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَنِ ٱلآبِ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ، وَلَسْتُ أَفْعَلُ شَيْئاً مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهٰذَا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي ٱلآبُ وَحْدِي » (يوحنا 8: 25-29). هذا هو الإنجيل الذي يعلّمنا أن الكلمة المتجسد كان الصورة المجسَّمة لما جاء يبلغنا إياه، فقد قال: «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا 14: 9). فالكلمة الذي كان في البدء عند الله، ونزل من السماء، صار بنزوله في يسوع كشفاً ذاتياً للآب، وفقاً لقوله: «اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلٱبْنُ ٱلْوَحِيدُ ٱلَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ ٱلآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا 1: 18).

وقد أُعلنت هذه الحقيقة لبولس، فصار له غرض واحد يتحكم في حياته وهو معرفة المسيح، حتى أن جميع أهدافه كانت مجموعة في كلمة واحدة «لأعرفه» (فيلبي 3: 8-10). وقد حضَّ الرسول الكريم مؤمني أفسس على السعي وراء هذا الهدف، مؤكداً لهم أن غاية المواهب التي يعطيها الروح القدس هي «إِلَى وَحْدَانِيَّةِ ٱلإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ ٱلْمَسِيحِ» (أفسس 4: 13).

وقد عبَّر الكتاب عن التجسُّد بكلمة «ظهور» أو ما يرادفها أو يُشتق منها: «ٱللّٰهُ ظَهَرَ فِي ٱلْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16). وهذا وصف كتابي لحادثة التجسد التي تختلف عن سنن الطبيعة في ولادة كل إنسان من الجسد (يوحنا 3: 16) ولكن الكلمة الذي كان في البدء وحده «صار جسداً» (يوحنا 1: 14). فالتجسّد إذن كان ظهور الكلمة. وكلمة ظهور تدل على أن الذي ظهر في الجسد كان هو نفسه محتجباً «كَانَ عِنْدَ ٱللّٰهِ. اَللّٰهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يوحنا 1: 18). ولما ظهر لم يتغيَّر شيء في شخصه الإلهي. كان ساكناً في نور لا يُدنى منه، ولا يقدر أن يراه أحد من الناس (1تيموثاوس 6: 16). ولكن حين تجسَّد صار مرئياً. ومن هنا كان قول الرسول: «صُورَةُ ٱللّٰهِ غَيْرِ ٱلْمَنْظُور»(كولوسي 1: 15).

ومما يشيع البهجة في النفس أن يوضح الوحي الغرض من الظهور في الجسد، وهو القيام بعمل المصالحة بين الأرض والسماء. صحيح أن ظهور ذاك الذي لم يره أحد قط أمر عجيب لا يستطيع العقل البشري إدراك كنهه، ولكنه التعبير الواضح لمجد الله في تعامله مع البشر بالنعمة والحق اللذين صارا بيسوع المسيح (يوحنا 1: 17). ومتى تعمقنا في دراسة الإنجيل نعلم أن القصد من تجسُّد الكلمة هو القيام بالوساطة بين الله والناس. وبالمقارنة بين ما كتبه الرسول بولس في الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 3: 16 و2: 5، نعلم أن يسوع الذي بذل نفسه فدية لأجل الجميع إنما تجسَّد لكي يصالح الله مع الناس، وفقاً للكلمة الرسولية: «إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ» (2كورنثوس 5: 19).

والمتأمل في كتابات يوحنا البشير والرسول الملهم يرى أن غرض التجسد كان رفع الخطايا، ونقض أعمال الرجيم:

«وَتَعْلَمُونَ أَنَّ ذَاكَ - أي يسوع - أُظْهِرَ لِكَيْ يَرْفَعَ خَطَايَانَا، وَلَيْسَ فِيهِ خَطِيَّةٌ» (1يوحنا 3: 5).

«مَنْ يَفْعَلُ ٱلْخَطِيَّةَ فَهُوَ مِنْ إِبْلِيسَ، لأَنَّ إِبْلِيسَ مِنَ ٱلْبَدْءِ يُخْطِئُ. لأَجْلِ هٰذَا أُظْهِرَ ٱبْنُ ٱللّٰهِ لِكَيْ يَنْقُضَ أَعْمَالَ إِبْلِيسَ» (1يوحنا 3: 8) وكذلك الرسول بولس يقرن تجسّده بعمله الكفّاري لتبرير الخطاة: «فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَاراً كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ، وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ ٱنْقِضَاءِ ٱلدُّهُورِ لِيُبْطِلَ ٱلْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ»(العبرانيين 9: 26).

كل هذه النصوص وغيرها تشير إلى الوساطة التي قام بها الكلمة الذي صار جسداً. وهي توضح أن الذي تجسد عند ملء الزمان «مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4 و5) كان هو نفسه الكلمة الذي كان في البدء عند الله. فهو كائن منذ الأزل، وعلاقته الجوهرية كالأقنوم الثاني للآب تظهر في الأسفار المقدسة لبصيرة كل من يتأمل فيها بعمق، وإنما ظهرت في الجسد وفقاً للإعلانات الإلهية، ولا يستطيع أن ينكرها إلا اعمى قاسي القلب.

إن من يقرأ الأسفار التي كتبها يوحنا بإلهام الروح القدس يرى أن التلميذ الذي كان يسوع يحبه قد اختير ليبيّن في كتاباته ظهور الحياة في يسوع المسيح: «فَإِنَّ ٱلْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلأَبَدِيَّةِ ٱلَّتِي كَانَتْ عِنْدَ ٱلآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا» (1يوحنا 1: 1 و2). ونفهم من هذه الشهادة الملهمة أن الحياة في يسوع لم تكن محدثة، بل كانت موجودة منذ أزلية الكلمة الذي كان في البدء عند الله، وإنما كانت مستترة فيه وظهرت الآن. وقد أوضح يوحنا أن الغرض من ظهورها أن تكون للمؤمنين شركة مع الآب ومع الابن: «ٱلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ ٱلآبِ وَمَعَ ٱبْنِهِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ» (1يوحنا 1: 3).

وهذه الشركة المباركة هي دعوة إلى السلوك في النور: «وَهٰذَا هُوَ ٱلْخَبَرُ ٱلَّذِي سَمِعْنَاهُ مِنْهُ وَنُخْبِرُكُمْ بِهِ: إِنَّ ٱللّٰهَ نُورٌ وَلَيْسَ فِيهِ ظُلْمَةٌ ٱلْبَتَّةَ... وَلٰكِنْ إِنْ سَلَكْنَا فِي ٱلنُّورِ كَمَا هُوَ فِي ٱلنُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا 1: 5 و7).

الحياة في يسوع كانت موجودة منذ الأزل، وشهد الوحي لذلك في أمكنة عديدة من الأسفار المقدسة، منها:

* «مُنْذُ ٱلأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ ٱلْبَدْءِ... لَمَّا ثَبَّتَ ٱلسَّمَاوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا. لَمَّا رَسَمَ دَائِرَةً عَلَى وَجْهِ ٱلْغَمْرِ» (أمثال 8: 23و27).

* «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي ٱلَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ ٱلْقَدِيمِ مُنْذُ أَيَّامِ ٱلأَزَلِ» (ميخا 5: 2).

* «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى ٱللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ ٱلسَّمَاءِ مِثْلُ ٱبْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى ٱلْقَدِيمِ ٱلأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. فَأُعْطِيَ سُلْطَاناً وَمَجْداً وَمَلَكُوتاً لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ ٱلشُّعُوبِ وَٱلأُمَمِ وَٱلأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ» (دانيال 7: 13 و14).

* «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا 8: 58).

ولعل أروع ما في شهادة يوحنا عن الحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت هو كتابته عن ظهورها في محبة الله التي أُعلنت بيسوع المسيح. هذه المحبة لم تكن محدثة، بل أزلية، كانت مستورة عن العيان، إلى أن أظهرت بفادي البشر، لتحيي المائتين في الذنوب والخطايا (أفسس 2: 5). قال يوحنا: «بِهٰذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ ٱللّٰهِ فِينَا: أَنَّ ٱللّٰهَ قَدْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ» (1يوحنا 4: 9). ولا يلبث الرسول الكريم أن يُظهر لنا أن المحبة أزلية بأزلية الله، إذ يقول: «أَيُّهَا ٱلأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضاً، لأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ ٱللّٰهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ ٱللّٰهِ وَيَعْرِفُ ٱللّٰهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ، لأَنَّ ٱللّٰهَ مَحَبَّةٌ» (1يوحنا 4: 7).

وأجمل ما يشع علينا من جمال هو الصورة التي تتراءى لنا ونحن نتطلع بالإيمان إلى الكلمة الذي، مدفوعاً بالحب، اشترك معنا في اللحم والدم، وتحسَّس مواضع آلامنا واختبر علّة شقائنا. ولكنه لم يقف في محبته عند حد التحنُّن على شقاوة الناس، بل صار لأجلهم رجل أوجاع ومختبر الحزن (إشعياء 53: 3). فقبل أن يصل إلى مذبح الصليب ليرفع خطيتهم، تحمَّل كل أنواع الأذى من هزء وخزي وعار. فهذا القدوس الحق الذي «فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ ٱللاَّهُوتِ جَسَدِيّاً» (كولوسي 2: 9) بُصق في وجهه، وصُفع، ولُكم، ورُكل، وجُلد. وأخيراً ُعُلِّق على «صليب اللعنة» (غلاطية 3: 13). فيا لها من محبة عجيبة ظهرت بملئها وكمالها لمجد اسم الله العظيم وسرور قلبه بخلاص كل من يؤمن. وما أروع ما قاله الرسول بولس في هذا الموضوع: «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5: 8).

ومن المسلَّم به أن التجسد لم يقطع ربط الأزلية بين الآب والابن أو يضعفها، بل بقيت هذه الروابط قائمة في أيام جسد الكلمة. وقد أشار المسيح إلى ذلك بقوله: «اَلآبُ يُحِبُّ ٱلٱبْنَ وَقَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ» (يوحنا 3: 35). «وَٱلَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي ٱلآبُ وَحْدِي» (يوحنا 8: 29). «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ إِلاَّ ٱلَّذِي نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ، ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ ٱلَّذِي هُوَ فِي ٱلسَّمَاءِ» (يوحنا 3: 13). وقد تكون هذه الإعلانات دون معنى لو لم تقترن بأعمال لا يستطيع البشر أن يقوموا بها، تدل على أنها خرجت من شفتي «ٱلَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (العبرانيين 1: 3). وهل ننسى إعلاناته المدهشة عن الشركة القائمة بينه وبين الآب والتي استمرت في أيام جسده: «أَنَا وَٱلآبُ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 30). «أَنَا فِي ٱلآبِ وَٱلآبَ فِيَّ؟ ٱلْكَلاَمُ ٱلَّذِي أُكَلِّمُكُمْ بِهِ لَسْتُ أَتَكَلَّمُ بِهِ مِنْ نَفْسِي، لٰكِنَّ ٱلآبَ ٱلْحَالَّ فِيَّ هُوَ يَعْمَلُ ٱلأَعْمَالَ» (يوحنا 14: 10) «اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ٱلآبَ» (يوحنا 14: 9).

صحيح أن الأسفار المقدسة تعلّم أن الرب أطلع إبراهيم على بعض أسراره (تكوين 18: 17) وأنه كان «وَيُكَلِّمُ ٱلرَّبُّ مُوسَى وَجْهاً لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ ٱلرَّجُلُ صَاحِبَهُ» (خروج 33: 11) ولكن لا إبراهيم ولا موسى، ولا نبي آخر، ولا ملاك، كان له السلطان أن يقول: «أنا والآب واحد».

ليس سوى عمانوئيل (الذي تفسيره الله معنا) كان يمكنه أن يتكلم هكذا وينجو من عقاب الله، الذي قال: «أَنَا ٱلرَّبُّ هَذَا ٱسْمِي، وَمَجْدِي لاَ أُعْطِيهِ لآخَرَ، وَلاَ تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ» (إشعياء 42: 8). شكراً للذي في البدء كان الكلمة وكان عند الله، وكان الله. ولكنه بدافع من حبه العجيب للإنسان الساقط أخذ الجسد. وقدّم نفسه ذبيحة إثم ليصالحنا مع الله بدم صليبه. وما أحلى الصورة التي رسمتها يراعة الرسول بولس حين كتب لأهل فيلبي عن الفكر الذي في المسيح يسوع: «ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي 2: 6-8). وإن كنا لا ندرك هذا السر العجيب في حبه لنا إلى هذا الحد، فلنكتفِ بالهتاف مع داود بن يسى: «مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ كَانَ هٰذَا وَهُوَ عَجِيبٌ فِي أَعْيُنِنَا» (مزمور 118: 23).

17 - الفداء

«ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ» (أفسس 1: 7)

الفداء هو العمل الذي أتمَّه الرب يسوع على الصليب، ليوفي مطاليب ناموس الله وعدله، عوضاً عن الإنسان الخاطئ، ولأجل خلاصه. فكان في آلامه وموته كفّارة لإتمام جميع الغايات المقصودة بقصاص البشر على خطاياهم. فهو قد وفّى العدل الإلهي حقه، وجعل الخاطىء الذي يؤمن بالفداء مبرَّراً.

ويُعبَّر عن فداء المسيح في لغة الكتاب المقدس بكلمة «نعمة» لأن الآب السماوي لم يكن مضطراً لأن يقّدم ذبيحة عن البشر الخطاة، وكذلك الإبن لم يكن مُجبراً لأن يتجسّد ويقوم بوظيفة الفادي. وإنما اللاهوت الكامل الذي هو غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة، أوقف عقاب الناموس وقَبِلَ الآلام النيابية التي تجرَّعها الكلمة المتجسّد عوضاً عن الخاطئ. وقد أعلن الفادي هذه الحقيقة حين قال: «وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ» (يوحنا 10: 15). وحين نقابل هذه الآية الكريمة مع قرينتها: «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا 15: 13) نعلم السبب الذي من أجله ارتضى الأقنوم الثاني أن يُخلي نفسه ويصير جسداً، ويتألم ويحمل خطايانا في جسده على الصليب. وقد شرح لنا الرسول بولس الآلام النيابية «لأَنَّهُ مَا كَانَ ٱلنَّامُوسُ عَاجِزاً عَنْهُ، فِي مَا كَانَ ضَعِيفاً بِٱلْجَسَدِ، فَٱللّٰهُ إِذْ أَرْسَلَ ٱبْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ ٱلْخَطِيَّةِ، وَلأَجْلِ ٱلْخَطِيَّةِ، دَانَ ٱلْخَطِيَّةَ فِي ٱلْجَسَدِ، لِكَيْ يَتِمَّ حُكْمُ ٱلنَّامُوسِ فِينَا، نَحْنُ ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رومية 8: 3 و4) بمعنى أن حكم الموت الذي كان سيقع علينا ويُنفَّذ فينا، أجرة للخطية، أخذه يسوع عنا بالنيابة، تتمة للنبوة القائلة: «تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إشعياء 53: 5).

ويؤكد الفداء منح الغفران وما يعقبه من بركات الخلاص لشعب الله المؤمن. وذلك لسببين:

1 -أنه وعد به للمؤمنين جزاءً لطاعة المسيح وآلامه، كما تقول الكتابة المقدسة: «فَإِذاً كَمَا بِخَطِيَّةٍ وَاحِدَةٍ صَارَ ٱلْحُكْمُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ لِلدَّيْنُونَةِ، هٰكَذَا بِبِرٍّ وَاحِدٍ صَارَتِ ٱلْهِبَةُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، لِتَبْرِيرِ ٱلْحَيَاةِ. لأَنَّهُ كَمَا بِمَعْصِيَةِ ٱلإِنْسَانِ ٱلْوَاحِدِ جُعِلَ ٱلْكَثِيرُونَ خُطَاةً، هٰكَذَا أَيْضاً بِإِطَاعَةِ ٱلْوَاحِدِ سَيُجْعَلُ ٱلْكَثِيرُونَ أَبْرَاراً» (رومية 5: 18-19).

2 -لأن الفداء وفىَّ مطاليب عدل الله لأنه بُني على العهد الأزلي المقطوع بين الآب والإبن لأجل فداء الإنسان، وقد سجله الوحي قطعاً لكل ريبة ممكنة لدى الإنسان فقال:«لِذٰلِكَ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلَى ٱلْعَالَمِ يَقُولُ: ذَبِيحَةً وَقُرْبَاناً لَمْ تُرِدْ، وَلٰكِنْ هَيَّأْتَ لِي جَسَداً. بِمُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ لِلْخَطِيَّةِ لَمْ تُسَرَّ. ثُمَّ قُلْتُ: هَئَنَذَا أَجِيءُ. فِي دَرْجِ ٱلْكِتَابِ مَكْتُوبٌ عَنِّي، لأَفْعَلَ مَشِيئَتَكَ يَا أَللّٰهُ» (مزمور 40: 6 وعبرانيين 10: 5-7). بمعنى أن يسوع تجسد لينوب عن الخاطئ بتحمُّل قصاص الدينونة، إنفاذاً للعهد المقطوع. وقد شرح الرسول بولس هذا الموضوع بقوله: «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ ٱلْغَضَبِ» (رومية 5: 8، 9).

قد تسألني: ولماذا اختار الله هذه الطريقة بالذات؟ فأقول: في ما تقدم ذكرتُ لك طائفة من نصوص الكتاب تؤكد أن البشر وقعوا تحت لعنة الناموس لعجزهم عن إقامة أحكامه، بسبب ناموس الخطية الموروث والمتأصّل في كل نفس بشرية. وبما أن الخطية دخلت إلى العالم بواسطة إنسان كامل، أي آدم قبل السقوط، كان لا بد من وساطة إنسان كامل لرفعها. ولما كان الكمال متعذراً على البشر، تجسَّد الكلمة الذي كان في البدء عند الله، وصار إنساناً ليقوم بهذه الوساطة بين الله والناس. وقد تمت هذه الوساطة على الصليب، حيث قدّم المسيح نفسه ذبيحة كفّارية عن الجنس البشري. وحين قال: «قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا 19: 30) انشقَّ حجاب الهيكل الذي كان يفصل بين القدس وقدس الأقداس، والذي يمثل الحاجز الذي أوجدته الخطية بين الإنسان و الله. فموت الرب يسوع الكفّاري فتح لنا الطريق إلى حضرة الله. وهذا ما عناه حين قال:«أَنَا هُوَ ٱلطَّرِيقُ وَٱلْحَقُّ وَٱلْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى ٱلآبِ إِلاَّ بِي» (يوحنا 14: 6). «فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِٱلدُّخُولِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِٱلْحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ» (العبرانيين 10: 19 و20).

أكمل المسيح بآلامه البديلية الكفّارية الفداء، ونجم عن ذلك تبرير الخاطي كما هو مكتوب: «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 24، 25). إليك، في ما يلي سلسلة من البراهين على لزوم الكفّارة:

1 - الحاجة إلى الخلاص - ما من شك في أن الخلاص هو حاجة جميع الناس لأن الخطية ثابتة على الجنس البشري. وقد صدق من قال إن الخطية شائعة في جميع الناس. وقديماً قال الرسول يوحنا: «إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِباً، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا» (1يوحنا 1: 10).

والخلاص ليس مجرد حاجة جماعية، بل هو حاجة كل إنسان على حدة. فكل إنسان في حاجة إلى الخلاص. لا فرق بين أبيض و أسود، بين جاهل وعالم، بين غني أو فقير«ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 23).

في قلب الإنسان شعور طبيعي بديهي بأن التوبة لا تستطيع رفع خطاياه السالفة. ولا بد من وسيلة أخرى لنوال الصفح. وهذه الوسيلة هي الكفّارة. وإلا فبماذا نعلل وجود الذبائح منذ القديم وانتشارها بين معظم أديان العالم، ونيلها هذا الحظ الوافر من التقليد والتواتر؟ أليس لأن مبدأها موافق لما يشعر به قلب الخاطي من الحاجة إلى الكفّارة؟

تحملنا طبيعتنا الأدبية على احترام ما تطلبه القداسة، حتى ولو كانت سيرتنا مخالفة لها. ويحس كل منا بأن ضمائرنا لا تطمئن بالنجاة من مغبَّة خطايانا، على سبيل آخر غير التبرير بواسطة الكفّارة.

2 - البرهان العقلي - الله قدوس والإنسان خاطي. ولما كانت الخطية إهانة لاسم الله فقد استحقت دينونته. ولا يمكن تبريرها إلا إذا انتفت الدينونة بجملتها عن الخاطىء. فالتوبة ليست أكثر من رجوع إلى خط الطاعة، رجوع يصحبه ما يجب على الخاطىء من ندم وحزن وانسحاق على الخطية واعتراف بها. ولكن التوبة مهما كانت كاملة وشاملة لا تستطيع إزالة وزر الخطايا السالفة، إذ ليس لها شيء من عمل التكفير عنها. لأنه لو صحَّ ذلك، لما بقي إكرام لعدل الله ولا اعتبار لقداسته تعالى. كما أنه لا يصح أن يُقال إنها تقوم لدى الله مقام العقاب. قد يكون لها وجه حكم الخاطىء على فجوره وآثامه، ولكنها لا تشير إطلاقاً إلى حكم الله فيها، أي فرط كراهيته لها وشدة عقابه عليها، نظراً لمضادتها لقداسته، ومخالفتها لشرائعه واستقامة حكمه، ومنافاتها لخير البشر. لذلك وجبت الكفّارة عن الخطايا السالفة.

هب أنك تبتاع حاجياتك المنزلية من محل تجاري على طريقة «الحساب الدارج» وكنت غير متروٍّ في الشراء، مما جعلك ترزح تحت ديون باهظة لا قِبَل لك بدفعها. وجعل صاحب المحل يتوقف عن تقديم طلباتك، ويرفع عليك دعوى في المحاكم. فتتقدم اليه متوسلاً:

- يا صديقي، أرجوك أن تعيد النظر في موقفك مني. ومقابل ذلك أعاهدك على التعامل معك فصاعداً بالنقدي.

إن صاحب المتجر يرحّب بالبيع النقدي، ولكن ليس معقولاً ان يضرب صفحاً عما له في ذمتك، بل سيقول لك:

- حسناً، ولكن ماذا عن المبلغ الذي لي في ذمتك؟ إنه مسجل في دفاتري، وليس في وسعي التنازل عنه، لأنه قسم من ثروتي.

3 - موافقتها لمقتضى الشريعة - فالشريعة الإلهية تطالب بحقوقها قصاصاً للمذنب. والشريعة التي تخلو بنودها من القصاص ليست شريعة حقيقية.

الناموس هو النائب العام. ولا يجوز له التنازل عن طلبه في القصاص إيفاءً للعدل السماوي، وإلا لطُعن به كحارس صالح على العدل الإلهي. لذلك هو يطلب قصاصاً صارماً للجاني، أو كفّارة عن ذنبه.

هب أن إنساناً كريماً يرتبط بصداقة معك ومع التاجر الذي أوقف التعامل معك، وشكاك للمحكمة لعجزك عن الدفع، يأتي ويقول للتاجر:

- يا سيد أنا صديقك وصديق حسان. وقد ساءني أن يكون دينه الباهظ سبباً للخصومة بينكما. ولهذا جئت اليوم لأسدّد ديونه السابقة دفعة واحدة. وأرجوك أن تقيم معه علاقة جديدة.

فماذا تظن أنه يحدث؟ ألا يفرح التاجر كثيراً، ويرحب بك من جديد؟ لا شك أنه سيفرح، لأن الوساطة أتاحت له الفرصة للحصول على ديونه التي عليك. ولأنك ستتعامل معه فصاعداً بالنقدي.

هذا مَثَل يشبه ما عمله الرب يسوع لأجل الخاطئ، فبموته بديلاً عنه وَفَى العدل الإلهي. وأصبح في وسع كل من يقبله مخلّصاً شخصياً أن ينال صفحاً كاملاً عن خطاياه السالفة. وهذا الكمال في عمل المسيح الإيفائي لا يعود إلى كونه قد تألم في النوع أو المقدار نفس الآلام الواجبة على الخاطىء، بل يعود إلى مقام شخصه الفائق. لأنه لم يكن إنساناً وحسب، بل إلهاً وإنساناً في شخص واحد. فكانت طاعته وآلامه طاعة وآلام شخص إلهي. وليس المعنى في ذلك أن الطبيعة الإلهية نفسها تألمت، بل لأن يسوع ذو طبيعتين مميزتين، صحَّ أن يُنسب اليه ما يُنسب إلى إحدى الطبيعتين. مثله كالإنسان، إذا أهين في جسده كانت الإهانة لذاته. وإن لم يكن هذا المبدأ صحيحاً، لا يكون في صلب يسوع ذنب أعظم مما في قتل واحد من عامة الناس ظلماً. ولا أدل على ذلك من قول الكتاب: إن الله أقتنى الكنيسة بدمه (أعمال 20: 28) وأن رب المجد صُلب (1كورنثوس 2: 8). فيلزم مما تقدم أنه لإيفاء يسوع كل القيمة الخاصة بطاعة كلمة الله المتجسد وآلامه، وأن بره غير محدود الاستحقاق. وقد أوضح الرسول هذا الأمر بقوله: «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى ٱلْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ ٱلْجَسَدِ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَ!» (العبرانيين 9: 13 و14). وما أجمل ما قاله المرنم في هذا الخصوص:

كنت مديون العلي خالِق الكل
وفى ديْني الذي مات من أجلي
قد وفى دَيْني كلَّه الحمل
حينما مات لذا قال قد كمل

 

4 - موافقتها لاحتياج الإنسان الأدبي - لكل إنسان طبيعة أدبية وضمير يقدّر سمو العدل والقداسة. فإذا ما اقتنع بخطيته ولم يجد لها كفّارة ينزعج ضميره وتضطرب حواسه الادبية. ومن المسلَّم به أنه بالرغم من سقوط الإنسان لا يزال الضمير فيه. وهو يُعرَف بالقوة الأدبية التي تميّز الحلال من الحرام في أعمالنا، وتحكم على العمل بالثواب أو العقاب. ويمكننا القول إن هذه القوة هي صوت سلطان الله الذي خلقها على غاية الموافقة في اتجاهاتها مع أحكام الله المنزلة على جبل سيناء. ولكن هذه القوة مع أهميتها الكبرى لا تستطيع خلاص الإنسان من الدينونة، لأنه مع احتجاجه على فعل الشر لدى الإنسان، لا يستطيع احتجاجه تبرير الإنسان. فقط هو «يصادق الناموس أنه حسن» (رومية 3: 20). هكذا لا يخلص أحد من الدينونة بمجرد صوت الضمير. وكما أن الناموس كان بصرامته «مؤدِّبنا إلى المسيح» (غلاطية 3: 24) هكذا صوت دينونة الضمير أو الشعور بالإثم يفرض علينا وسيط صلح يكفّر عن خطايانا.

ومع ذلك يوجد بين الناس من يحاول حل مشكلة الضمير بأعمال البر الذاتي، ظناً أن أعمال المبرة تقابل برحمة الله، فأهملوا حكم الضمير بالعقاب ولجأوا إلى رجاء الرحمة. وهذه الطريقة هي المعوَّل عليها في كثير من الأديان، وخصوصاً في الديانة البوذية التي توصي الإنسان بالجد في الكمال بدون ذبيحة، أو كفّارة، أو إقرار بالذنوب. وكذلك زعم أتباع بدعة سوسينيوس أن مجرد التوبة عن الخطايا يحرك رحمة الله بحيث لا يبقى في الحكم الإلهي ما يمنع الخلاص عن الذين يتوبون عن خطاياهم. ولكن عهد الذبائح عبر الأجيال ينطق بخطأ هذه المزاعم. وقد وضعت الكلمة المقدسة ختمها على هذا الأمر بالقول: «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (عبرانيين 9: 22).

صحيح أن دم الذبائح الحيوانية لم يستطع يوماً أن يكمل الذي يخدم (عبرانيين 9: 9) ولكن شكراً لابن الله الذي شاء عند ملء الزمان أن يأخذ الجسد «ويدخل مرة واحدة إلى الأقداس ليوجد فداءً أبدياً» (عبرانيين 9: 12).

كم أتمنى أن تجمعنا كفّارة المسيح يوماً معاً في ميراث النور، لنشترك مع الملائكة والقديسين في ترنيمة المجد للخروف المذبوح: «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً... مُسْتَحِقٌّ هُوَ ٱلْحَمَلُ ٱلْمَذْبُوحُ أَنْ يَأْخُذَ ٱلْقُدْرَةَ وَٱلْغِنَى وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلْقُّوَةَ وَٱلْكَرَامَةَ وَٱلْمَجْدَ وَٱلْبَرَكَةَ... وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ» (رؤيا 5: 9-13).

يجب أن لا يخدع الضمير بالتعليم عن الرحمة خارج الفداء، ففي كفّارة المسيح فقط وُفّق الضدان «الحق والرحمة» لأن كفّارة المسيح تقرّ من جهة بما لشريعة الله من حق لا يمكن للخاطىء أن يتعداه بدون قصاص. ومن الجهة الأخرى تظهر ما عند الله من حب غني في الرحمة (أفسس 2: 4).

وتجد طبيعة الإنسان الدينية في الكفّارة موضوعاً موافقاً لها، فهي توقظ فينا الشعور بالخطية والذنب وخوف العقاب ورجاء الغفران والمحبة الفائقة لله، لأنه لم يشأ أن يهلكنا بل أرسل ابنه الوحيد لكي نحيا به.

5 - ترتيب الله لها - لو لم يكن لزوم للكفّارة لما رتّبها الله، فقد قال يسوع: «أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (متّى 20: 28).«وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى ٱلْحَيَّةَ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ هٰكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 14 و15). وقال بولس: «وَلٰكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ ٱلّزَمَانِ، أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية 4: 4 و5).

هذه الآيات المجيدة تبيّن أن الله أحب الإنسان محبة عجيبة غنية بالرحمة جاءت في يسوع، وترجمت بالفداء الذي أكمله على الصليب ليعرف جميع الناس أن الله ليس عدلاً وحسب، بل أنه محبة. وهذا الفداء العجيب من شأنه أن ينبّه ضمير الخاطىء فتصير المحبة الإلهية وثاقاً يربط الخاطىء إلى صليب المسيح، وفقاً لقوله: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32).

في كتاب سياحة المسيحي يرسم لنا يوحنا بنيان ببراعته صورة لوصول المسيحي إلى قمة الجلجثة. هناك ينزل حمل خطاياه، إذ يقول:

«رأيت في حلمي أن الطريق العام الذي كان على المسيحي أن يسلكها محاطة على جانبيها بسور يُدعَى الخلاص. فإلى تلك الطريق أسرع المسيحي المثقل بحمله، وأخذ يجري بعناء شديد نظراً لثقل الحمل الذي على ظهره. وظل يركض حتى وصل إلى مكان مرتفع يعلوه صليب وعند أسفله قبر. وحالما اقترب من الصليب انفكَّ حمله وسقط عن ظهره وأخذ يتدحرج، إلى أن وصل إلى باب القبر وسقط فيه. ولم أعد أراه في ما بعد». وحينئذ لمعت أسارير المسيحي ابتهاجاً. وقال بقلب فَرِح: «الرب يسوع جلب لي الراحة بحزنه، والحياة بموته». ووقف صامتاً برهة ينظر ويتعجب، لأنه كان من المدهش حقاً أن يستطيع منظر الصليب إراحته من حمله. فنظر إلى الصليب وأطال النظر اليه حتى هطلت دموعه على خديه. ثم وثب فرحاً ثلاث وثبات. وسار وهو يسبح الرب:

كنت في سجن الخطايا عبد إبليس الرجيم غير مأمول خلاصي ثم نجاني الرحيم
واشتراني واشتراني ذاك بالدم الكريم
لم يفِ بالمال ديني ذلك الفادي العظيم بل فداني بدماه من عذابات الجحيم
واشتراني واشتراني ذاك بالدم الكريم

 

18 - الصليب

«وَيُصَالِحَ ٱلٱثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ» (أفسس 2: 16)

هذا هو الموضوع الأساسي لرسالتي لك، لأنه يقدم لك التفسير لما صعُب عليك فهمه عن موت المسيح، وبدا لك كأحجية عسرة الحل. شأنك في هذا ككل الذين حاولوا الاطلاع على دقائق هذا الأمر خارج الإنجيل. فكانت محاولاتهم كمن يطلب الحي بين الأموات.

في فصول سابقة أوردت لك أبحاثاً موجزة في التجسد والخلاص والكفّارة. وكان ذلك تمهيداً للدخول في موضوع الصليب، ذلك المذبح الذي قُدِّمت عليه الذبيحة البديلة عن الجنس البشري.

قد يقول البعض إن الصليب حادثة وهمية، وهي إن دلت على شيء فعلى جهالة الذين يؤمنون بها، وعلى المنطق أن ينعتها بأنها بدعة كفرية. فإلى مثل هؤلاء يقول الرسول بولس: «لأَنَّهُ إِذْ كَانَ ٱلْعَالَمُ فِي حِكْمَةِ ٱللّٰهِ لَمْ يَعْرِفِ ٱللّٰهَ بِٱلْحِكْمَةِ، ٱسْتَحْسَنَ ٱللّٰهُ أَنْ يُخَلِّصَ ٱلْمُؤْمِنِينَ بِجَهَالَةِ ٱلْكِرَازَةِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً: لِلْيَهُودِ عَثْرَةً، وَلِلْيُونَانِيِّينَ جَهَالَةً! وَأَمَّا لِلْمَدْعُّوِينَ: يَهُوداً وَيُونَانِيِّينَ، فَبِٱلْمَسِيحِ قُّوَةِ ٱللّٰهِ وَحِكْمَةِ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 1: 21-24).

لقد سبق أن ذكرت لك أن موت المسيح على الصليب كان موتاً نيابياً. وقد يصعب على الإنسان الطبيعي أن يؤمن بهذا الأمر، ولكن الواقع يؤيد أن مبدأ النيابة هو أهم مبادىء الطبيعة والحياة. فأينما سرت واتجهت تجد المبدأ النيابي موجوداً في العناصر، فالطبيعة تفتت الصخور لتقدم الطمى الذي يشيع الخصب في الارض، والشمس تستهلك كميات هائلة من ذاتها كل يوم لتمدنا بالحرارة والنور، ودودة القز ما أن تتحول إلى فراشة حتى تبدأ سبيلها نحو الموت. ولكنها قبيل موتها بلحظات تخلّف وراءها مئات البيوض التي ستتحول في دورها إلى ديدان. وأجمل ما قيل في هذا الصدد هو ما قاله يسوع نفسه: «اَلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ ٱلْحِنْطَةِ فِي ٱلأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلٰكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يوحنا 12: 24). وغير هذه من الأمثال التي تجعل الصليب القمة العليا لهذا الناموس المنتشر في الطبيعة والخليقة. بل إنه يكشف لكل متأمل عن حقيقة مدهشة وهي أن البذل هو أساس الإثمار.

من أدلة عديدة على موت المسيح مصلوباً أقدم الادلة التالية:

1 - شهادة التاريخ

قال الرسول بطرس: «لَمْ تَأْتِ نُبُّوَةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (2بطرس 1: 21) فالإيمان المسيحي مبني على حقائق دوّنها كتبة الوحي وتسندها النبوات، ويؤيدها التاريخ ويشهد لها الإختبار والتواتر.

وحقيقة صلب المسيح لا تستند إلى شهادة المسيحيين وحسب، بل تثبتها أيضاً كتابات الوثنيين واليهود القدماء. وحسبنا أن نلقي نظرة عابرة على كتابات بعضهم لنجد فيها التأييد الشامل لرواية الإنجيل عن آلام وموت يسوع المسيح.

* شهادة تاستيوس الوثني - كان تاستيوس مؤرخاً ضليعاً ومن أفصح خطباء زمانه. وُلد سنة 55 م، وانخرط في سلك الجندية في عهد الامبراطور فبسيانوس سنة 69 - 79. وفي سنة 88 ولي منصب قاضي القضاة. وقد اشتهر بسجلاته التاريخية التي ضمَّنها تاريخ الامبراطورية من سنة 14 - 68 ميلادية، وذلك في ستة عشر مجلداً. وقد كتب فصلاً إضافياً عن صلب المسيح وشجاعة المسيحيين التي استمدت مادتها من الصليب قبل كل شيء. قال إن إسم المسيحيين مشتق من المسيح الذي قُتل بأمر بيلاطس البنطي الوالي في حكم طباريوس.

* شهادة لوسيان الوثني - وُلد هذا المؤرخ في سنة 100 م. وكان أحد كتاب اليونان البارزين وأشدهم حذقاً، وأوسعهم اطلاعاً على كتابات الاقدمين. وقد جعلته أسفاره الكثيرة غزير المادة. وبما أنه من مذهب الأبيقوريين لم يقدر أن يفهم إيمان المسيحيين واستعدادهم للاستشهاد في سبيل المسيح، وشوقهم الروحي إلى السماء. فسخر من اعتقادهم بخلود النفس وحسبهم شعباً مخدوعاً، يتعلّق بأهداب عالم ما بعد الموت، عوضاً عن التمتع بالعالم الحاضر. وكتب عنهم في بعض مؤلفاته: إن المسيحيين ما زالوا يعبدون ذلك الرجل العظيم، الذي صُلب في فلسطين، لأنه أدخل إلى العالم ديانة جديدة.

* شهادة يوسيفوس اليهودي - كان يوسيفوس من أشهر مؤرخي اليهود، وقد وُلد في أورشليم بعد موت المسيح بقليل، ودوَّن تاريخ الأمة اليهودية في عشرين مجلداً من بدايتها إلى حكم الامبراطور نيرون، أي بعد موت المسيح بعشرين عاماً. وقد ذكر في مؤلفه المسيح وسابقه يوحنا المعمدان، وضمّنه بياناً مفصّلاً عن موت المسيح وما نجم عنه. قال: «حكم بيلاطس على المسيح بالصلب بناء على إلحاح رؤساء شعبنا. والذين أحبّوا المسيح لم يرتدوا عنه بل هم باقون إلى الآن. ويدعون مسيحيين نسبة له».

* شهادة التلمود - من المعروف أن التلمود هو كتاب مقدس في نظر اليهود. وقد جُمع في عدة مجلدات، يستطيع أي باحث أن يطلع عليها. وفي طبعة التلمود التي نشرت عام 1943 في امستردام نقرأ على الصفحة 43 تحت عنوان «سنهدريم»: لقد صُلب يسوع قبل الفصح بيوم واحد، ونودي أمامه أربعين يوماً أنه سيُقتل لأنه ساحر قصد أن يخدع إسرائيل ويضلّله. وطُلب إلى من يشاء التقدم للدفاع عنه. ولما لم يتقدم أحد صُلب في مساء الفصح. وهل يحق أن نفكر أن أحداً يجرؤ على الدفاع عنه؟! ألم يكن مفسداً؟ وقد قيل إن شخصاً مثل هذا «لاَ تَسْمَعْ لَهُ وَلاَ تُشْفِقْ عَيْنُكَ عَلَيْهِ وَلاَ تَرِقَّ لَهُ وَلاَ تَسْتُرْهُ» (تثنية 13: 8).

* شهادة الحاخام يوسف كلوزنر. لقد ألّف هذا العلامة الضليع كتاباً عن يسوع الناصري، أثبت فيه بعد نقد وتحليل أن روايات الإنجيل هي وثائق تاريخية صحيحة، وأن يسوع عاش ومات كما روت نصوصها.

* شهادة بيلاطس نفسه - لقد أرسل بيلاطس تقريراً ضافياً إلى طباريوس قيصر ضمَّنه ذكر عجائب المسيح وموته وقيامته. وهذا التقرير الذي كان محفوظاً في سجلات رومية كان من الوثائق التي استند عليها العالم المسيحي ترتليانوس في دفاعه التاريخي الشهير عن المسيحيين، الذي قدمه إلى والي أفريقيا الشمالية الروماني بعد ستين سنة لموت المسيح.

2 - شهادة الفصح المسيحي:

في الفصح المسيحي الذي يُدعى العشاء الرباني أو العشاء السري، دليل ملموس لا يمكن دحضه ولا التقليل من أهميته لأنه يستند على التواتر.

ولما كان موت المسيح لأجل خلاص البشر هو أهم جميع الحوادث، اقتضى حفظه تذكاراً دائماً. ولهذه الغاية رسم مخلّصنا المبارك فريضة العشاء الرباني، موصياً تلاميذه:«اصنعوا هذا لذكري».

وممارسة عشاء الرب في الكنيسة بدون انقطاع منذ الصليب إلى هذا اليوم برهان قاطع على صدق وقوع الحادثة، التي هو تذكار لها. وهذه الفريضة ليست مجرد برهان على موت المسيح وحسب، بل هي شهادة واضحة للغاية التي من أجلها مات المسيح. فان قوله له المجد: «هذا هو جسدي الذي يُبذل عنكم.. هذا هو دمي الذي يُسفك عن كثيرين لمغفرة الخطايا» يدل على أنه مات كفّارة وذبيحة.

وللعشاء الرباني بالنسبة للمسيحيين أكثر من معنى، فهو:

  1. عهد بين المسيح وخاصته في كل جيل أو عصر. إنه عهد النعمة والرحمة والغفران الذي كُتب بالدم. فهو بهذا المعنى أعمق وأبعد امتداداً من عهد الفصح اليهودي، الذي كان ظلاً للحقيقة، بينما الفصح المسيحي هو الحقيقة عينها.
  2. شركة حياة مستمرة بيننا ككنيسة وبين المسيح الذي هو رأس الكنيسة ومخلّص الجسد. وفي هذا يقول الرسول بولس: «كَأْسُ ٱلْبَرَكَةِ ٱلَّتِي نُبَارِكُهَا، أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ ٱلْمَسِيحِ؟ ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ؟» (1كورنثوس 10: 16).

    ونلاحظ هنا أن المسيح قد خصَّص أهم وأجلّ ما في المسيحية ليكون أساس هذه الشركة ومظهرها وطابعها ورسمها أمام جميع الناس، أعني به الفداء الذي اقتضاه بذل حياته من أجلنا.

  3. شكر. لأن المسيح بارك الخبز وشكر على الكأس. بارك وشكر لأجل تدبير الله العظيم للخلاص. ولأجل محبته الفائقة المزمعة أن تسير به إلى الصليب لأجل فداء الملايين في كل جيل وعصر.
  4. تذكار. لأن المسيح قال: «اصنعوا هذا لذكري» ومن اللازم لنا أن نعلم أن هذه الذكرى ليست مجرد ذكرى تاريخية لحادثة الصلب، بل هي تذكار حي فعال يقوم في خاطر كل مسيحي، يبدو فيه الصليب اختباراً متجدداً في الحياة، وفقاً لقول الرسول بولس: «مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 20).
  5. شهادة متواترة للمسيح المصلوب، لأن المشتركين في العشاء الرباني يقرّون بإيمانهم بالمسيح مصلوباً. ويجددون معه عهد الولاء، واعترافاً بفضله عليهم يخبرون بموته إلى أن يجيء.

وبالفعل حفظ المسيحيون في كل العالم وصية فاديهم، ومارسوا الفريضة التي سُلّمت إليهم من الرسل وفقاً لقول الرسول بولس: «لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ ٱلرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً: إِنَّ ٱلرَّبَّ يَسُوعَ فِي ٱللَّيْلَةِ ٱلَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا، أَخَذَ خُبْزاً وَشَكَرَ فَكَسَّرَ، وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هٰذَا هُوَ جَسَدِي ٱلْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. ٱصْنَعُوا هٰذَا لِذِكْرِي». كَذٰلِكَ ٱلْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَمَا تَعَشَّوْا، قَائِلاً: «هٰذِهِ ٱلْكَأْسُ هِيَ ٱلْعَهْدُ ٱلْجَدِيدُ بِدَمِي. ٱصْنَعُوا هٰذَا كُلَّمَا شَرِبْتُمْ لِذِكْرِي». فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هٰذَا ٱلْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هٰذِهِ ٱلْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ ٱلرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (1كورنثوس 11: 23-26).

وهذه الأقوال الرسولية تضعنا أمام الحقائق التالية:

  1. أن المسيح سبق وأنبأ تلاميذه بموته وكسر جسده وسفك دمه.
  2. أنه مات فعلاً على الصليب بدليل حفظ الرسل الحواريين وصيَّته وتسليمها للاجيال القادمة.
  3. لو أن الشخص الذي مات على الصليب كان غير المسيح لما رسم هذه الفريضة وأوصى بممارستها على مرّ الاجيال.

لو سألت المسلم دليلاً على صحة عقيدة أو مصدر فريضة من الفرائض التي يمارسها، لأجابك بأن تواتر الأحاديث والتقاليد عبر الأجيال والعصور هو خير دليل. فالحجّ إلى مكة المكرمة مثلاً يعطي دليلاً على وجود وصية في الإسلام تفرض الحج على من يستطيع إليه سبيلاً. ويستشهد المسلم بهذه الفريضة المتواترة على صحة نصوص القرآن الخاصة بالحجّ. وكذلك أنه يستشهد برمي الجمار أثناء الطواف خارج مكة كدليل على أن هناك وصية إسلامية برميها . فكم بالحري يكون هذا التواتر أكثر بروزاً في ممارسة الفريضة التي رسمها المسيح تذكاراً لموته الكفاري!

بقي أن أقدم لك بعض الأدلة التاريخية التي حفلت بها كتابات المسيحيين عبر الأجيال المتتابعة، والتي تؤكد أن ذكرى موت المسيح كانت تمارس حيثما قامت الديانة المسيحية. فجميع الاجيال حفظت الفريضة بدقة، وقد سلمها السلف للخلف:

  1. الكتابة المقدسة - وصف كتبة الإنجيل الظروف التي رسم فيها يسوع الفريضة، فما أن أنبأ تلاميذه بالأحداث الأليمة المزمعة أن تقع حتى ملأ الحزن قلوبهم، فأراد أن يبثَّ الشجاعة في نفوسهم لاحتمال الأرزاء الوشيكة الوقوع، فرسم لهم العشاء الرباني وليمة حب تذكارية، ثم أتبع ذلك بكلمات معزية ومشجعة: «أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ ثَبَتُوا مَعِي فِي تَجَارِبِي، وَأَنَا أَجْعَلُ لَكُمْ كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتاً، لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي، وَتَجْلِسُوا عَلَى كَرَاسِيَّ تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ»(لوقا 22: 28-30).

    ثم أوصاهم بالثبات فيه وبكلامه ومحبته، وأعرب لهم أن حبه لهم هو من نوع حب الآب السماوي له (يوحنا 15: 1-9). ثم أوصاهم بأن يحبوا بعضهم بعضاً قائلاً: «هٰذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هٰذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ... بِهٰذَا أُوصِيكُمْ حَتَّى تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً» (يوحنا 15: 12-17). ثم شرح لهم الأسباب التي من أجلها سيبغضهم العالم كما أبغضه قبلهم، وأن أبناء العالم سيضطهدونهم كما اضطهدوه (يوحنا 15: 18-25) وأخيراً رفعهم بصلاته الشفاعية الرائعة. وقد أفرد كتبة الأناجيل أروع الفصول لتدوين كل ما جرى في تلك الليلة الرهيبة (اقرأ متى 26، مرقس 14، لوقا 22، ويوحنا 13 و 14 و 15).

    ولا يخفى أن ملحدي الغرب وضعوا الأناجيل تحت النقد المدقق، ولكنهم خرجوا بالقول إن كاتبيها هم من أقدم جماعة المسيح، ومنهم من تناول العشاء الرباني مع يسوع.

    وفي سفر الأعمال نجد أول ذكر لجماعة مسيحية مارست الفريضة بعد صعود المسيح: «وَكَانُوا يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ ٱلرُّسُلِ، وَٱلشَّرِكَةِ، وَكَسْرِ ٱلْخُبْزِ، وَٱلصَّلَوَاتِ»(أعمال 2: 42).

  2. كتب الطقوس - لدى الكنيسة عدد عديد من كتب الطقوس التي يرجع عهدها إلى العصر المسيحي الأول، وفيها ذكر للصلوات التي كانت تُتلى حين ممارسة فريضة العشاء الرباني.
  3. القوانين الكنسيَّة - لقد أعدت المجامع الكنسية عدة قوانين منذ مجمع نيقية سنة 323 وجميعها تذكر هذه الفريضة.
  4. كتب الأقدمين - تجد طائفة من الكتب لأقدم الكتّاب المسيحيين تذكر هذه الفريضة وتبسطها كفريضة مقررة تسلَّمها الأبناء من الآباء، ومارستها الكنائس كجوهر للعبادة. ونخص من أولئك الكتّاب:

* أكليمندس الاسكندري (150 ميلادية) الذي أفاض في الكتابة عن هذه الفريضة. ومن أقواله في صددها: «فأخذ المخلّص خبزاً وباركه ثم كسره وقدمه قائلاً: خذوا كلوا هذا هو جسدي. ثم بارك الكأس وقال: خذوا اشربوا. هذا هو دمي».

* إيريناوس (سنة 135 ميلادية) وقد تربى في مدرسة بوليكاربوس تلميذ يوحنا الرسول. وهذا الكاتب نوَّه بفريضة العشاء الربانى وشرح علاقة دم المسيح بالخبز والخمر.

* يوستنياس الفيلسوف الذي توفي في القرن الأول المسيحي. في كتابه الدفاعي عن المسيحيين أسهب في شرح فريضة العشاء الرباني، وكان قصده أن يُطلع الوثنيين على عقائد المسيحية.

* القديس اغناطيوس (نحو 55 ميلادية) وكان معاصراً ليوحنا الإنجيلي وصديقاً لتلميذه بوليكاربوس. وقد كتب عدة رسائل إلى كنائس أبرشيته في موضوع العشاء الرباني. قال في رسالته إلى كنيسة أفسس: «أطيعوا الأسقف والمشيخة بعقل متحد، كاسرين خبزاً واحداً هو دواء خلودنا. لأن هناك جسداً واحداً لربنا يسوع المسيح وكأساً واحدة لوحدة دمه».

المسابقة الأولى «في سبيل الحق»

أيها القارئ العزيز،

إن قرأت هذه السيرة الممتعة بتمعن، تستطيع الإجابة على الأسئلة التالية بسهولة، وان كان لديك أي أسئلة أو استفسارات عن هذا الكتاب، يمكنك الكتابة إلينا مباشرة عن طريق استمارة الاتصال الموجودة على الموقع.

  1. ما هي بعض الافتراءات التي قيلت ضد توفيق؟
  2. وماذا كان السبب الحقيقي لقراره في تغيير حياته؟
  3. ماذا كان دور أ.م. في البدء في تغيير مسار حياة توفيق؟
  4. لماذا اعتذر القس عن عدم تعميد توفيق في شهر أذار (مارس) 1929؟
  5. لماذا قرر توفيق الإلتحاق بالجيش؟
  6. لماذا كان عقد قران توفيق بهيجاً رغم مظاهر فقره؟
  7. ماذا حدث لما خرج أمر تنصُّر توفيق من إطار الكتمان؟
  8. ماذا كان تأثير عظة القس من غلاطية 2: 20 على توفيق؟
  9. ماذا كان غرض الله من عرقلة سَفَر توفيق إلى أوربا؟
  10. ماذا كانت تجارب توفيق في ميدان التجارة؟
  11. ما هي الصعوبات التي لاقاها توفيق من المسيحيين؟
  12. كيف تعلَّم توفيق أن يحمل نير المسيح؟
  13. كيف نال توفيق وعائلته نصرةً على خسائر التجارة؟
  14. ماذا قاد توفيق للتفرُّغ للخدمة الدينية؟
  15. كيف تعمَّقت علاقة توفيق بأخيه حسَّان؟
  16. ماذا أعجب حسَّان في أخيه توفيق؟
  17. ما هي أجرة الخطية، وكيف تدخَّلت محبة الله لتعالج آثارها؟
  18. اكتب ملخصاً لفكرة التجسُّد كما شرحها توفيق لحسَّان؟
  19. ما هو البرهان العقلي لضرورة الفداء؟
  20. ما هو برهان الشريعة على ضرورة الفداء؟
  21. كيف تجد الفداء موافقاً لإحتياج الإنسان الأدبي؟
  22. كيف رتَّب الله الفداء بالكفّارة؟
  23. ما هي شهادة التاريخ لحقيقة صَلْب المسيح؟
  24. ما هي شهادة العشاء الرباني لتاريخية صَلْب المسيح؟
  25. ما هي شهادة أوائل المسيحيين لتاريخية صَلْب المسيح؟

19 - محاكمات يسوع

«ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ»(إشعياء 53: 7)

قبل أن أسرد عليك مراحل محاكمات يسوع أرى من الأهمية أن أورد بعض الأحداث التي سبقت المحاكمات وأثَّرت في مجراها:

1 - فكرة الجريمة: في النصف الأخير من خدمة يسوع على الأرض تزايد عدد الذين قبلوا تعليمه، فخاف رؤساء اليهود على مراكزهم، وحاولوا إثارة يسوع ضد السلطة الرومانية التي كانت تحكم فلسطين. ولما فشلت محاولتهم جربوا أن يوقعوه في مخالفة لناموس موسى فينتفض الشعب عليه - أي أنهم في كلتا المحاولتين اجتهدوا أن يحملوه إلى ارتكاب مخالفة تستوجب الحكم عليه. ولكن المسيح خيب آمالهم لأنه لم يسقط في مخالفة لقانون قيصر أو لناموس موسى، بل أمر باحترامهما معاً، إذ قال:«أَعْطُوا إِذاً مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلّٰهِ لِلّٰهِ» (متى 22: 21).

ولكن رؤساء الكهنة لم يسلّموا بالهزيمة، بل اجتمعوا مع الفريسيين وتشاوروا لإيجاد علّة للحكم عليه. ولما عجزوا قال بعضهم: «ماذا نصنع؟ فإن هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة. إن تركناه هكذا يؤمن به الجميع فيأتي الرومان ويأخذون موضعنا وأمتنا». فقال قيافا، رئيس الكهنة: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ ٱلشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ ٱلأُمَّةُ كُلُّهَا» (يوحنا 11: 49 و50) وبهذا القول وضع قيافا فكرة الجريمة في نفس سامعيه.

2 - صفقة البيع: كان بين تلاميذ يسوع الإثني عشر واحد إسمه يهوذا الإسخريوطي. ويبدو أنه أحب المسيح في البداية، إلا أن حبه للمال وشهوته للعظمة استوليا عليه تدريجاً، وظنَّ أنه يبلغ غرضه إذا نودي بيسوع ملكاً. ولكنه حين أدرك قبل غيره أن يسوع لا ينوي تسَنُّم السُدّة الملكية مُني بخيبة أمل، وخصوصاً حين سمع تصريحات المعلم بأن نصيب تابعيه هو المقاومات والاضطهادات حتى الموت. وحين سمع يسوع يقول إنه لابد أن يُسلَّم لليهود ليُصلب انقطع آخر خيوط رجائه، فبدأت محبته بالفتور. وقد ظهرت بوادر فتوره في بيت عنيا حين اعترض على تكريم مريم أخت لعازر ليسوع بإهراق قارورة الناردين الثمين على رجليه. ولمّا كان رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والفريسيين أعداء ليسوع يريدون إهلاكه، قرر أن ينحاز إليهم باعتبارهم الجانب الأقوى. ولما تأكد أنهم يأتمرون على يسوع ليقتلوه، مضى إليهم وقال: «ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه لكم؟» ومما لاريب فيه أن المتآمرين سُروا من إنحياز الخائن إلى صفوفهم. وبعد مشاورات صامتة وعدوه بمبلغ لا يتجاوز دية العبد حين يقتله ثور، أي بثلاثين من الفضة. وهذا لكي يتم ما قيل بالأنبياء:

* «هَكَذَا قَالَ ٱلرَّبُّ: مِنْ أَجْلِ ذُنُوبِ إِسْرَائِيلَ ٱلثَّلاَثَةِ وَٱلأَرْبَعَةِ لاَ أَرْجِعُ عَنْهُ، لأَنَّهُمْ بَاعُوا ٱلْبَارَّ بِٱلْفِضَّةِ» (عاموس 2: 6).

* «فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَٱمْتَنِعُوا. فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ» (زكريا 11: 12 و متى 26: 14-16).

3 - العشاء الأخير: بدأت احتفالات عيد الفصح العظيم. وكانت النساء مشغولات بإعداد الفطير الخاص الذي يؤكل في أيام العيد الثمانية، بينما انصرف الرجال إلى السوق لاختيار الحملان التي تُذبح في اليوم الأول من العيد، لأن الناموس كان يقضي أن يقدم كل بيت حملاً.

أما يسوع وهو عالم أن ساعته قد دنت، فذهب مع تلاميذه إلى علية متواضعة عند أحد الخُلصاء وأعدّوا الفصح. ولما كان المساء جلس مع تلاميذه الإثني عشر. وفيما هم يأكلون، رأوا سيدهم يضطرب جداً. ثم لم يلبث أن قال لهم: إن واحداً منكم سيسلمني! وهذا لكي يتم ما تنبأ به داود النبي: «رَجُلُ سَلاَمَتِي، ٱلَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ» (مزمور 41: 9، يوحنا 13: 8).

حدَّق التلاميذ نظرهم في وجه المعلم وقد هزَّهم وأحزنهم جداً أن يفكر المسيح في إمكانية حدوث أمر كهذا. فبدأوا يسألونه واحداً فواحداً: هل أنا هو يارب؟! ولكن واحداً منهم، وهو يهوذا الإسخريوطي بقي صامتاً. ولما انشغل الباقون بالكلام فيما بينهم، قال يهوذا بصوت أقرب إلى الهمس: «لعلك لا تعنيني أنا». وقد قالها الخائن ليعلم إن كانت مقاصده الآثمة قد كُشفت. ولكن يسوع «لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 2: 25، متّى 26: 25) «مَا أَنْتَ تَعْمَلُهُ فَٱعْمَلْهُ بِأَكْثَرِ سُرْعَةٍ» (يوحنا 13: 27). فقام يهوذا وخرج. وكان ليلاً.

من الملاحظ في هذا الحوار أن كلمات يسوع ارتدت طابع اللطف. ولعله أراد أن يعطي الفرصة للخائن فيرجع عن شر قلبه ولو في اللحظة الأخيرة. ولكن الشيطان كان قد دخله (يوحنا 13: 27).

وفي أثناء العشاء رسم يسوع سر الفصح المسيحي. فبعد أن قال لتلاميذه: «شهوة أشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتالم» أخذ خبزاً وشكر وكسره ورفعه أمامهم، وقال: «هذا هو جسدي الذي يُبذَل عنكم». لم يكن كلامه هذا غريباً في أسماعهم، فقد سبق له أن قال عن نفسه: «أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (يوحنا 6: 51).

لما أكل التلاميذ الخبز أخذ يسوع كأساً وشكر، ورفعها أمامهم وأعطاهم قائلاً: «ٱشْرَبُوا مِنْهَا كُلُّكُمْ، لأَنَّ هٰذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا» (متى 26: 27و 28) فأخذ التلاميذ الكأس وفي قلوبهم خشوع عظيم وشربوا منها كلهم.

بعد هذا خرج يسوع مع الأحد عشر في ضوء القمر، واتخذوا الطريق المؤدية إلى بستان جثسيماني عبر وادي قدرون. وفي البستان ابتدأ يسوع يحزن ويكتئب. ثم قال لتلاميذه: «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى ٱلْمَوْتِ» (متى 26: 38).

4 - القُبلة الغادرة: ذهب الخائن إلى الرؤساء وأخبرهم أن يسوع قد أعلن نيته أن يُسلّم ذاته للصلب، وأنه اليوم طلب إليه أن يعمل لتسليمه بسرعة، فلا صعوبة إذن في إلقاء القبض عليه وتسليمه باكراً للوالي الروماني قبل أن يستيقظ الشعب من نومه.

كان يهوذا يعلم المكان الذي ذهب إليه يسوع مع تلاميذه، فذهب على رأس نصف كتيبة من جند الهيكل، بعد أن أعطاهم علامة «ٱلَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ. أَمْسِكُوهُ» (متى 26: 48). ولما دخلوا البستان تقدم إلى يسوع وقال: «السلام يا سيدي» وقبَّله. فاستلَّ الجنود سيوفهم وعصيَّهم وتقدموا نحو يسوع فسألهم: «من تطلبون؟». أجابوا بسرعة:«يسوع الناصري». قال يسوع بلهجة من له سلطان: «أنا هو» مما جعلهم يضطربون. ويقول البشير يوحنا إنهم رجعوا إلى الوراء وسقطوا على الأرض.

وفي غمرة الرهبة التي استولت على نفوس عصابة الظلام رنَّ صوت يسوع ثانية: «قد قلت لكم إني أنا هو. فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون».

حينئذ انتصبوا وطوقوا يسوع وربطوا يديه الطاهرتين خلف ظهره. وكان أشد المهاجمين حماساً عبد رئيس الكهنة، فانبرى له بطرس وضربه بسيفه فقطع أذنه اليمنى. ولكن يسوع أشفق عليه، وسأل الجند أن يحلوا ربطه قليلاً ليصلح بفعل المحبة الاذى الذي ألحقه بطرس بالعبد، وفقاً لقوله: «أحسِنوا إلى مبغضيكم». ولما حلوا ربطه مد يده وشفى أذن العبد. ولعله أراد أيضاً بصنع هذه الآية أن يؤكد لمعتقليه أنه قادر على كل شيء، وأنه لم يكن في وسعهم أن يلقوا عليه يداً لو لم يشأ ذلك. ثم التفت إلى تلميذه ليُظهر له استياءه من عمل العنف الذي قام به، فأمره بردّ سيفه إلى غمده مذكِّراً بالحكمة القائلة: «إن الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون».

كان قد مضى نصف الليل، فأسرع الجند وأوثقوا يسوع ثانية وأحاطوه من كل جهة واقتادوه في ضوء القمر إلى المدينة. أما التلاميذ فإذ ضمن لهم الانسحاب تركوا المكان وفروا هاربين.

من سياق ما تقدم يتضح أن المسيح هو نفسه الذي اعتقل في البستان لأن ثلاثة من تلاميذه على الأقل كانوا معه هناك وقد دوَّنوا الحادثة في أناجيلهم، وشهادتهم حق. وهناك حقيقة مهمة جداً، وهي أن شخصاً غير يسوع ما كان ليستطيع بهيبته وجلاله أن يؤثر في قلوب تلك المجموعة من الأشرار المسلَّحين ليخروا على الأرض. وليس من يد أخرى غير يد يسوع كانت تستطيع أن تشفي أذن العبد.

وهكذا تصبح الرواية القائلة إن الشخص الذي قبض عليه جند الهيكل كان شخصاً آخر، أُلقي عليه شَبَه المسيح، مجرد زعم مسكين لا يسنده أي دليل. وحاشا للرب وهو القدوس الحق أن يخدع البشر على هذه الصورة! وحاشا للشاهد الأمين فادي النفوس أن ينكص بعهده أو يخدع تلاميذه. وحاشا للشفيع الذي صلى من أجل تلاميذه والذين يؤمنون به بكلامهم أن يخدعهم بمسرحية كهذه، مما يجعل كلامهم عن ساعاته الأخيرة مجرد أكاذيب!!! وأية خدعة أقبح من أن يقول المسيح بعد يومين يكون الفصح وابن الإنسان يُسلَّم ليُصلب، فيأتي الفصح ولكن المسيح يتراجع ويتوارى بأعجوبة، ملقياً شَبَهه على اۤخر. فيُقتل هذا الآخر وينجو هو! وما أظنك، يا أخي بمصدِّق هذا الزعم الذي أقل ما فيه أنه يطعن في صدق الله، ويُنزل المسيح بقبوله هذه الخدعة إلى درجة القتلة.

إنه لمن أشد الكفر أن ينحرف أحد في تيار الظن بأن الله القدوس الحق العادل (لكي ينجي مسيحه من ميتة العار على الصليب) خدع ألوف الملايين خلال عشرين قرناً، بينما كان في وسعه أن يعيده في مركبة من نار كما فعل لإصعاد إيليا النبي، أو كما قال المسيح لبطرس حين أبدى المقاومة أن يرسل لإنقاذه «أَكْثَرَ مِنِ ٱثْنَيْ عَشَرَ جَيْشاً مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ» (متى 26: 53).

وهل هذا الإله الذي اسمه المحبة والرحمة والعدل، يسمح أن يُقْدِم ألوف المسيحيين على الإستشهاد في سبيل إيمان مبني على خدعة؟ لا أظنك تصدق هذا!

5 - المحاكمة الدينية: كتب يوحنا في إنجيله ما ملخصه أن الجند استاقوا المسيح موثوقاً إلى حنان رئيس الكهنة السابق - وهو صدوقي أتى به هيرودس الشرير من الإسكندرية وأقامه رئيساً للكهنة، فشغل هذه الوظيفة السامية مدة سبع سنين، إلى أن عزلته السلطة الرومانية لسبب الشك في موالاته. وبعد أن توإلى خمسة من أبنائه على رئاسة الكهنة أُسندت هذه الوظيفة إلى صهره قيافا. ولكن رغماً من هذا كله بقي له نفوذ واعتبار كبيران بين أبناء قومه. وحنان هذا كان المدبر الأكبر للمكائد ضد يسوع، لأن يسوع حين طهر الهيكل قضى على تجارته غير الشرعية، التي كانت تدرّ عليه أرباحاً طائلة.

بعد استجواب سريع أرسل حنان يسوع موثوقاً مخفوراً إلى قيافا. وعملاً بمشورة حميه، جمع قيافا مجلس السنهدريم حالاً لمحاكمة يسوع. وقد حرص هذا الماكر على استثناء المعتدلين من الفريسيين ليتسنى له تشكيل محكمة كل أعضائها من أعداء يسوع، فيجري محاكمة سريعة تمكّنه من تسليم الأسير إلى الرومان قبل شروق الشمس مع صورة الحكم بالموت، ويستعمل كل وسائل الضغط على بيلاطس الوالي لينفّذ الحكم قبل أن تبدأ أيام العيد، التي بحسب شريعة اليهود لا يجوز إعدام أحد خلالها.

كان للرئيس الرديء ما أراد، فقد التأم المجلس في فحمة الليل في بيته، وتمت أحطُّ محاكمة عرفها تاريخ البشر!

بدأ الاستجواب بسؤال الرئيس يسوع عن تلاميذه وتعليمه. وكان السؤال مبطَّناً بإتهام السيد بأن له تلاميذ ظاهرين وأتباعاً أردياء مستترين، وبأن له تعاليم نقية ينادي بها في وضح النهار، وأخرى يوسوس بها في صدور الناس في جنح الظلام. ولكن يسوع فنَّد التهمة الدنيئة قائلاً: «أنا كلّمت العالم علانية. أنا علّمت كل حين في الهيكل حيث يجتمع اليهود، وفي الخفاء لم أتكلم بشيء. اسأل الذين سمعوا».

ويبدو أن الجواب أغاظ قيافا وأثار أفراد حاشيته الذين لم تألف أسماعهم سوى أقوال التملق في حضرة سيدهم. فتقدم خادم رديء (ولعله ملخس الذي أبرأ اذنه) وصفعه قائلاً: «أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟».

لم يكن الصفع المخالفة الوحيدة التي ارتكبها أعداء يسوع في محاكمته، بل إنها واحدة من سلسلة المخالفات التي أهمها:

  1. اجتماع المجلس ليلاً للمحاكمة، الأمر الذي يخالف نصوص الناموس، التي تمنع الحكم بالقضايا الجنائية ليلاً.
  2. الحكم عليه بالموت، لأن هذا السلطان كانت الدولة الرومانية قد انتزعته منهم منذ سنين.
  3. عدم تعيين محامٍ له، وعدم إعطائه الفرصة لتقديم شهوده، عملاً بنصوص الشريعة.
  4. تصريح رئيس المحكمة وعدد من الأعضاء بآرائهم أثناء المحاكمة، لكي يؤثروا على سير الدعوى.
  5. خلو مواد الاتهام من أية علة تستوجب حكم الموت. ولو عدنا قليلاً إلى الوراء، إلى يوم تآمرهم عليه، لرأينا أن حكم الموت قد صدر عليه قبل المحاكمة بزمن، بحيث جعل منها محاكمة صورية.
  6. إمعان أعوان الكهنة بالإستهزاء بيسوع، ولطمه والبصق في وجهه، وبهذا تمت نبوة إشعياء النبي: «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ ٱلْعَارِ وَٱلْبَصْقِ» (إشعياء 50: 6).

حين فشل قيافا في محاولاته للإيقاع بيسوع، اهتم الرؤساء بتدبير شهود زور ليلصقوا به تهمة تستوجب الحكم. ولكن شهادات الزور التي لفقوها اختلفت، وفشل أصحابها في إثبات أية شكاية عليه. وأخيراً عثروا على شهود حرَّفوا كلاماً قاله يسوع منذ ثلاث سنوات عن نقض هيكل جسده، فقالوا: «سمعنا هذا المجدف يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي - يقصدون هيكل سليمان - وفي ثلاثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأيادٍ».

وحينما لم يجد يسوع أن شهادة الزور هذه تستلزم أي تكذيب، بل هي ساقطة تلقائياً لم يجب عليها. فلجأ رئيس الكهنة إلى المداهنة، فقال لأسيره: «استحلفك بالله الحي أن تقول لي: هل أنت المسيح ابن المبارك؟» أجاب يسوع: «أنا هو. وسوف تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء».

ويبدو أن هذا التصريح المقتبس من النبوات أثر في نفس بعض الحضور، فشعر قيافا بالضيق وتزعزعت ثقته في مقدرته على توجيه المحاكمة، فلجأ إلى مسرحية ماكرة، إذ مزق ثيابه قائلاً: «قد جدف! ما حاجتنا بعد إلى شهود؟ ها قد سمعتم تجديفه. ما رأيكم؟».

وللأسف نجحت المسرحية في القضاء على تردد الحضور. ولم يلبثوا أن صرخوا مع الآخرين: إنه مستوجب الحكم.

عزيزي حسان،

قد تقول إنني خرجت عن موضوعي بسرد هذه التفاصيل. ولكن لعلك تعذرني متى علمت أن قصدي من سردها أن تتأكد أن يسوع كان دائماً تحت أنظار أعدائه، وأن ترى في أجوبته أثناء محاكمته ما يثبت شخصيته، وخصوصاً ما كان منها متفقاً مع النبوات.

6 - أمام بيلاطس: انتهى المجلس من محاكمة يسوع في الصباح حوالي الساعة السادسة. وكان الرؤساء قد استنفروا جمهورهم فجاءوا بيسوع موثقاً من عند قيافا، ومرّوا به في الشوارع إلى قصر بيلاطس. ولما وصلوا إلى القصر لم يدخلوا، بل وقفوا خارجاً ينتظرون، لأن دخولهم إلى قصر الوالي كان سيدنسهم، فيمنعهم من أن يأكلوا الفصح. وكأنهم وطدوا أنفسهم على إراقة دم يسوع قبل أن يريقوا دم الحملان التي أعدّوها للفصح. وإذ علم بيلاطس بقدومهم، وكان ملماً بعوائدهم الدينية، خرج لمقابلتهم. وحالما رأى أنهم أحضروا له أسيراً سألهم: «أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟ ماذا فعل؟؟».

كان الكهنة والشيوخ يريدون منه أن يُثبّت حكمهم على يسوع بدون ذكر الأسباب التي أدانه مجلسهم الكبير بموجبها. ولكن بيلاطس لم يرغب في أن يكون أداة سهلة لتنفيذ مآربهم، و خيَّب ظنهم بسؤاله. ومع ذلك لم ينكفئوا أمام السؤال، بل أجابوا بخبث: «لو لم يكن فاعل شر لما كنا سلمناه إليك!».

ولكن بيلاطس أصر على تحديد الإدانة، مما اضطرهم إلى تلفيق تهمة بسرعة. فقالوا: «وجدنا هذا الإنسان يفسد الأمة، ويمنع أن تُعطى جزية لقيصر، قائلاً إنه هو مسيح ملك». قالوا ذلك ليحملوا بيلاطس على تصديق حكمهم بدون فحص، أو ذكر الدوافع الحقيقية للحكم عليه بالموت. ولكن بيلاطس لم يؤخذ بمكرهم، بل أجابهم بمكر أشدّ، ولطم كبرياءهم إذ قال:

- خذوه أنتم، واحكموا عليه حسب ناموسكم. قالها متهكماً فأصابهم في صميم كرامتهم، لأن السلطة الرومانية جردتهم من حق إصدارالحكم بالإعدام وأمام هذه الطعنة التي أصابت قلب عزتهم القومية أحنوا الرأس وقالوا بتذلل: «لا يجوز لنا أن نقتل أحداً».

لو لم تنزع رومية الحكم من أيديهم لرجموا يسوع بالحجارة. ولكن مشورة السماء كانت قد قضت بموته على الصليب. وكان لا بد أن يتم ما قاله يسوع عن نفسه: «وكما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان»

ومع ذلك لم يكن في وسع بيلاطس تجاهل التهمة الأخيرة التي وجّهها اليهود إلى يسوع، لأنها تهمة سياسية تتصل بوظيفة قيصر. لذلك دعا يسوع إلى الداخل وسأله:«أنت ملك اليهود؟» فأجابه يسوع: «أمن ذاتك تقول هذا، أم آخرون قالوا لك عني؟» قال بيلاطس بحدة يمازجها الاحتقار: «ألعلي أنا يهودي؟ أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك اليَّ. ماذا فعلتَ؟».

هذا الكلام يذكّرنا بما قيل في المزامير: «قَامَ مُلُوكُ ٱلأَرْضِ وَتَآمَرَ ٱلرُّؤَسَاءُ مَعاً عَلَى ٱلرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ» (مزمور 2: 2) حقاً إنه «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ، وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يوحنا 1: 11).

وقال السيد له المجد: «مملكتي ليست من هذا العالم» وبعد لحظات من الصمت استطرد: «لو كانت مملكتي من هذا العالم، كان خدامي يجاهدون لكي لا أُسلَّم لليهود».

كرر الوالي، محاولاً أن يمسك يسوع بكلمة، يمكن اتخاذها دعامة للإتهام الموجَّه إليه: «أفأنت ملك إذن؟» ولكن رب المجد قطع بكلامه الحبال التي حاول بيلاطس أن يلفّه بها وقال: «أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا. ولهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق». وكأنه يقول: أنا ملك حقاً. وإنما أساس وعماد وسلاح مملكتي هو الحق. في هذا تختلف مملكتي عن مملكة سيدك قيصر.

وأخيراً ألقى يسوع كلمته الأخيرة في أذني الوالي الغاشم. كلمة جعلته يشعر بأن الكرسي يهتز تحته، وبأن المتهم الذي أصبحت حياته بين يديه، قد تحوَّل إلى قاض:

«كل من هو من الحق يسمع صوتي». قالها بلهجة جعلت بيلاطس يتململ. لكأن في كلمته سوطاً يلسع ظهره، وكأني بالسيد يقول له: أنت من الباطل ولهذا لا تستطيع أن تسمع صوتي الذي هو صوت الحق. وإذ أدرك هذا الحاكم الظلوم أن تماديه في استجواب يسوع سيؤدي به حتماً إلى ورطة، قرر أن يُنهي المسألة بسؤال فيه من العبث ما صرف يسوع عن الإجابة عليه: «ما هو الحق؟».

لا بد أنك لاحظت من خلال ما تقدم أن شخصاً ما غير يسوع ما كان يستطيع إجتياز هذا الإستجواب دون أن تُكشَف شخصيته. وهل كان في وسع إنسان آخر، مهما بلغت قدرته في التمثيل، أن يسبّب في أجوبته إحراجاً كهذا إلى بيلاطس الذي أشتهر بالمكر وسعة الحيلة؟ وبعد هذا أفلا ترى معي أن الزعم بأن شخصاً آخر تقمَّص شخصية المسيح طوعاً أم كرهاً هو مجرد فكرة سخيفة فاشلة؟

7 - أمام هيرودس: كتب البشيرون أن بيلاطس خرج إلى اليهود وقال لهم: «أنا لست أجد علة في هذا الإنسان. ولكم عادة ان أطلق لكم أسيراً في الفصح. أفتريدون أن أطلق لكم يسوع ملك اليهود؟».

كان هذا التصريح إعلاناً ببراءة المسيح، فغضب الرؤساء، وصرخوا: «إنه يهيج الشعب، وهو يعلم في كل اليهودية مبتدئاً من الجليل إلى هنا».

كان بيلاطس يحاول أن يجد وسيلة للخروج من هذا المأزق الحرج الذي رمته فيه قضية يسوع المطروحة أمامه. فلما سمع عن نشاطه في الجليل استبشر، ظاناً أنه يستطيع التخلُّص من المشكلة بإرسال يسوع إلى هيرودس حاكم الجليل، فسأل: «هل هذا الرجل جليلي؟ ليذهب إذن إلى حاكم الجليل!».

قالها بلهجة الرضى، لأنه وجد في ذلك ليس فقط منفذاً للخروج من المأزق الحرج الذي فُرض عليه، بل أيضاً وسيلة لشراء رضى هيرودس الذي كان على خلاف معه. فأرسله إليه.

كان هيرودس يومئذ في أورشليم، فقبل يسوع فرحاً، لانه كان مشتاقاً من زمن طويل أن يراه بسبب الأشياء المُدهشة الكثيرة التي سمعها عنه. وترجَّى أن يراه يصنع آية. غير أن يسوع لم ينزل عند رغبته بالرغم من إلحاحه الشديد، ولا أجابه عن أسئلته الخاصة بشكوى الكهنة والرؤساء.

لقد لاذ بالصمت ترفُّعاً وإباءً لأن معجزاته أرفع وأجلّ وأقدس من أن تكون وسيلة تسلية وترفيه لهيرودس الماجن الشرير. وربما لو صنع يسوع أعجوبة أمام هيرودس كان سيسرع إلى إطلاق سراحه، وبذلك يفسد عليه الغرض الذي جاء إلى العالم لأجله، وهو الإرتفاع على الصليب لإتمام الفداء.

رأى هيرودس الشرير في صمت المسيح امتهاناً لكرامته وخرقاً لهيبته، فأراد الانتقام منه. يقول لوقا في إنجيله: «فاحتقره هيرودس مع عسكره واستهزأوا به، وألبسوه رداء لامعاً». ويُرجح بعضهم أن الرداء اللامع هذا كان أبيض، وهو من نوع الأردية التي كان يلبسها الملوك في الحفلات الرسمية. ويقول العالم الالماني روزنباخ، وهو أحد الاعلام في تفسير الأسفار المقدسة، إن هذا الرداء الذي كان يلبسه الكاهن أثناء الإحتفالات الدينية.

ردَّ هيرودس يسوع إلى بيلاطس مع كلمة شكر، لأنه اعتبر إرسال المعلم الجليلي إليه علامة محبة من بيلاطس. وكان باعثاً على إعادة الصفاء بين الحاكمين، بعد أن عكرته الخصومات مدة طويلة.

8 - تتمة المحاكمة: كان بيلاطس مصمماً على إطلاق سراح يسوع. وإذْ أُعيد إليه جلس على كرسي الولاية، ودعا إليه رؤساء الكهنة والعظماء والشعب، وقال: «لقد قدمتم إليَّ هذا الإنسان كمن يفسد الشعب. وها أنا قد فحصت قدامكم ولم أجد في هذا الإنسان علة مما تشتكون به عليه. ولا هيرودس أيضاً... وها لا شيء يستحق الموت صُنع منه». وبعد لحظة من الصمت استأنف الكلام: «لذلك فأنا أجلده كتحذير له وأطلقه».

وصرخ الجمع: «ليس هذا، بل باراباس! خذ هذا واطلق لنا باراباس». وكان باراباس لصاً محكوماً عليه بالموت لارتكابه سلسلة من الجرائم.

فسأل بيلاطس: «ماذا أفعل إذن بيسوع الذي يدعى المسيح؟» بعد أن أدرك استحالة التفاهم معهم.

- «اصلبه، اصلبه، إن اطلقته فلست محباً لقيصر. هذا قال عن نفسه إنه ملك، وكل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم قيصر».

- «أأصلب ملككم؟» قالها بيلاطس بلهجة التهكم والازدراء!

- «ليس لنا ملك إلا قيصر، قالوها بحماس مبطن بالمكر ليقضوا على تردد الوالي».

بهذا الإقرار الخانع أمام ممثل قيصر وجمهرة الشعب، حكم الرؤساء والكهنة على أنفسهم وعلى أمتهم، ليس فقط بالذل والمسكنة، بل بالإعدام الروحي. فقد رفضوا ملك الملوك ورب الأرباب، الذي جاء «لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يوحنا 11: 52) واتخذوا من دونه ملكاً وثنياً. وبطلبهم إلى ممثل قيصر أن يصلب المسيا تركوا لأبنائهم إرثاً مخضَّباً بالدماء البريئة. وإنه لعار حقاً أن تعمل الضغينة في القلوب إلى حد صرفها عن المسيح الذي أعطي من الله حكمة وبراً وقداسة (1كورنثوس 1: 30). وإنه لمن نكد الدنيا على الأمة اليهودية، أن تُبتلى برجال دين وقادة رأي أعماهم التعصب الذميم، وسيطرت الشهوات المادية على حواسهم حتى أوقعتهم في مهاوي الضلال. وأي ضلال أشد من هذا، أن تُدفع أمة بأسرها إلى رفض مسيحها وفاديها، الذي بقي آلاف السنين مالئاً رؤى أنبيائها وأحلام بنيها وبناتها؟!

قال اليهود: «أطلق لنا باراباس، أما يسوع هذا فاصلبه» فوصموا أنفسهم بالإنحياز إلى الظلمة بدلاً من النور، وأوقعوا أنفسهم تحت الدينونة وفقاً لقول المسيح: «وَهٰذِهِ هِيَ ٱلدَّيْنُونَةُ: إِنَّ ٱلنُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَأَحَبَّ ٱلنَّاسُ ٱلظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ ٱلنُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً» (يوحنا 3: 19).

أمام إصرار اليهود وخوفاً من كلمتهم «إن كنت لا تصلبه فلست محباً لقيصر» ارتعد بيلاطس الجبان. ولكي يخفي اضطرابه أتى بماء وغسل يديه، ثم التفت إلى اليهود وصرخ:«إني بريء من دم هذا البار»! قالها وهو لا يدري أن المياه لا تستطيع غسل الدماء البريئة.

صرخ اليهود بملء حناجرهم: «دمه علينا وعلى أولادنا» ليقطعوا الطريق على أية محاولة أخرى يمكن أن يبديها بيلاطس لإنقاذ يسوع.

وتاريخ اليهود من ذلك الوقت إلى يومنا لم يكن إلا إتماماً لهذا الدعاء الكفري الذي تجاسروا به على أنفسهم لقتل إنسان بريء. ولكن رحمة هذا الفادي لم تتوقف أمام أيّ منهم يريد أن يرجع عن شر قلبه ويقبله مسيحاً ورباً وفادياً.

يا عزيزي،

لعلك الآن ترفض المزاعم التي تقول إن أحداً ما، أو يهوذا نفسه، أخذ مكان المسيح وحوكم بدلاً عنه. ولو سلَّمنا جدلاً أنه لسبب أو لآخر قبل هذا الخائن أن يُحاكم بديلاً عن يسوع، وأنه قبل على مضض الإهانة وآلام الجلد، فلا يُعقل أن يبقى صامتاً ويقبل أفظع ميتة على الصليب!

ومهما حاول أصحاب رأى إحلال يهوذا مكان المسيح، فلا بد لمزاعمهم أن تتحطم على صخرة الحقيقة. فيهوذا لم يكن غبياً حتى أنه لا يجد لنفسه منفذاً خلال هذه المحاكمات فيحاول على الأقل ان يثبت شخصيته، لا سيما وقد تأيَّد بشهادة رفاقه أنه لم يكن محباً لمعلمه، الحب الذي يحمله إلى الموت بدلاً منه! على العكس، فقد أجمعت الآراء على أن الاسخريوطي حين خيَّب المسيح أمله في الوصول إلى السلطة الزمنية، انقلب عليه وسلَّمه لأعدائه، انتقاماً للوقت الذي صرفه معه وحسبه ضائعاً.

20 - أسلمه إليهم ليُصلب

«ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ... يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور 22: 16 و18)

جمع الضباط كل الكتيبة وعروا يسوع وألبسوه رداء قرمزياً، وضفروا إكليلاً من شوك ووضعوه على رأسه، وقصبة في يمينه، وكانوا يجثون عند قدميه ويقولون: «السلام يا ملك اليهود!» وضربوا رأسه بقصبة، وبصقوا في وجهه. وبعد ذلك عادوا به إلى بيلاطس، فخرج به إلى الجماهير وقال لهم بتهكم: «هوذا ملككم!» وكان يظن أن ما ناله يسوع من جلد وهزء، وأن مظهره الدامي سيحرك الشفقة في القلوب، وبالتالي يمهد لإطلاقه. لكن الجماهير الحاقدة ثارت لمجرد رؤيتها جراح الأسير، فانطلقت الصرخات من الحناجر: «اصلبه! اصلبه!» وخاف بيلاطس إن هو مضى في المحاولة لإطلاق يسوع أن يحدث اضطراب في المدينة كلها فقال لهم: «خذوه أنتم واصلبوه».

لقد انتهى دور المعلم صانع العجائب، وجاء دور حمل الله الذي يرفع خطية العالم. كان في الماضي يعلن سلطانه ببرهان القوة، أما الآن فلا لزوم لذلك، لأن كل شيء انتهى، وأتى وقت حلوله محل البشر الخطاة، ليأخذ اللعنة بديلاً عنهم (غلاطية 3: 13).

لم يكن الصلب أمراً جديداً على يسوع، فقد أنبأ به نيقوديموس حين جاءه ليلاً (يوحنا 3: 14-16) وأنبأ به تلاميذه قبيل حادثة التجلي (متى 16: 21) وأحاط اليهود علماً به في منتصف خدمته (يوحنا 12: 32).

كان الإعدام صلباً عادة فينيقية الأصل، فأدخلها اسكندر المكدوني إلى بلاد اليهود. ولكن هؤلاء لم يمارسوها إلا نادراً لأنه مكتوب في ناموسهم: «وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا ٱلْمَوْتُ، فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ، فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ... لأَنَّ ٱلْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ ٱللّٰهِ» (تثنية 21: 22 و23).

أما الرومان فكانوا يعاقبون به الأجانب والعبيد الذين يقترفون جرائم شائنة، ولا يسمحون إطلاقاً أن يُعاقَب به الروماني مهما كانت جريمته منحطة. ولكن يسوع بارتفاعه على صليب الخزي واللعنة صيَّر الصليب عنوان الفخر ومصدر البركة.

فاز الرؤساء أخيراً بالتخلُّص من يسوع وساروا به في موكب من الجماهير الحاشدة، فشخصت الأبصار إلى فريستهم، المعلم الجليلي، الناحل الجسم، المنهوك القوى، الدامي الجراح، والحامل صليبه على ظهره، الذي مزَّقه سوط الجلاد. فتم المكتوب بالأنبياء: «علَى ظَهْرِي حَرَثَ ٱلْحُرَّاثُ. طَّوَلُوا أَتْلاَمَهُمْ» (مزمور 129: 3).

اجتازوا به أزقة أورشليم حاملاً الصليب، أي المذبح الذي سيُرفع عليه، فتمم النبوة القائلة: «أَوْثِقُوا ٱلذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ ٱلْمَذْبَحِ» (مزمور 118: 27).

كان يسوع في حالة إعياء شديد، لأنه منذ أُلقي القبض عليه في البستان لم يذق طعم النوم، فقد سيق موثقاً من البستان إلى قصر حنان، فدار قيافا، فقصر الوالي. والتزم الوقوف في الاستنطاقات الطويلة التي تخللها اللطم واللكم والجلد، والتي فقد فيها كمية من دمه. يُضاف إلى هذه كلها الآلام النفسية القاسية التي عصفت بنفسه ذات الرقة والشهامة والحب والشعور. فقد آلمه أن يتشاحن تلاميذه وهو بعد معهم لأجل العظمة، وشقَّ عليه أن يخونه يهوذا، وأن ينكره بطرس، وأن يهرب الآخرون. وحزَّ في نفسه أن تنقلب عليه الجماهير بسرعة، فبعد أن هتفت له منذ أيام قليلة: «أوصنا لابن داود» ها هي اليوم تصرخ إلى بيلاطس: «اصلبه، اصلبه».

كل هذه الأسباب تجمعت معاً لتضعفه جسدياً حتى رزح تحت ثقل صليبه، فأمسك الجند سمعان، رجلاً قيروانياً، وسخروه ليحمل صليب يسوع. ولعل قائد المئة المكلَّف بحفظ الأمن أشفق عليه، وأمر أن يحمل أحد صليبه. ويبدو أن هذا الضابط كان باراً، لأنه حين أسلم يسوع الروح، قال: «بِٱلْحَقِيقَةِ كَانَ هٰذَا ٱلإِنْسَانُ بَارّاً» (لوقا 23: 47).

تابع موكب الموت سيره، فتبعته جماهير غفيرة من الشعب، بينهم عدد كبير من النساء اللواتي كن يلطمن وينحن عليه. فالتفت إليهن يسوع وقال بلطف: «يا بنات أورشليم، لا تبكين عليَّ، بل ابكين على أنفسكنَّ وعلى أولادكنَّ».

نتعلم من الإنجيل أن كثيرين من الرجال أساءوا إلى يسوع قولاً وفعلاً، ولكننا لا نجد في فصوله ذكراً لإمرأة أساءت إليه، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تعاليمه التي رفعت شأن المرأة في المجتمع. وها هو اليوم أمام عويل النساء عليه، ينسى آلامه. ويتَّخذ من المناسبة فرصة للوعظ، فيوجّه أنظارهنّ إلى ما هو أهم من ذرف الدموع إشفاقاً عليه، وهو ذرف دموع التوبة.

هذه لوحة رائعة يا أخي، تريك حمل الله رافع خطايا العالم وهو في طريقه إلى مذبح الفداء. وكم أتمنى أن تتأمل بكل خشوع في هذه اللوحة الرائعة لتمتع عينك بألوان الحب الباذل الذي أضفى عليها ألواناً من نور الله، الذي بذل إبنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.

وأخيراً وصل الموكب إلى جلجثة، فأسرع الجند وأعدّوا الصليب. وبينما هم منهمكون في عملهم قدَّم الجلادون ليسوع خلاً ممزوجاً بعصارة بعض الأعشاب المرّة بقصد تخديره فلا يشعر بحدَّة الألم، فرفض هذا الإجراء، لأنه أراد أن يحتمل الآلام وهو في أتم حالات الوعي. وما أظن أن إنساناً غير المسيح كان سيرفض هذا العرض.

وبعد هذه الإعدادات أمر الجلادون يسوع بالإضطجاع على الصليب. ولما تم هذا سمَّروا يديه ورجليه، ثم رفعوه مع صليبه ونصبوا الصليب في فوهة في الأرض. هكذا رُفع يسوع بين السماء والأرض، وصلبوا معه لصَّين من هنا ومن هناك، ويسوع في الوسط، فتم المكتوب بالأنبياء: «وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ» (إشعياء 53: 13).

كتب يوحنا في إنجيله أن بيلاطس كتب عنواناً ووضعه على صليب يسوع، في ثلاث لغات: العبرانية وهي لغة الدين لأن المسيح ابن داود وابن الله. اليونانية، وهي لغة العلم لأن المسيح هو نور العالم والحق الأزلي. ثم اللاتينية، وهي لغة السياسة لأن المسيح هو ملك الملوك. أما نص العنوان فهو: «يسوع الناصري ملك اليهود». واعترض اليهود على النص، وطلبوا من بيلاطس تعديله هكذا: «يسوع الناصري الذي قال أنا ملك اليهود» فرفض بيلاطس ملتمسهم، لأنه أراد منذ البداية أن يعرّض بأمة اليهود ويهزأ بهم. ولهذا أجابهم بصرامة وحزم: «ما كتبت قد كتبت».

ويشاء المسيح أن يجعل من صليب الهوان منبر مجد ليتكلم بأروع آيات الحب والغفران والرجاء. ففي غمرة آلامه وشدة أوجاعه تكلم رب المجد بسبع كلمات:

(1) «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لوقا 23: 34).

هذه صلاة شفاعية لأجل قاتليه، وقد حمَّلها طلبة لم يسمعها منه أحد قبلاً. في الماضي يتلفظ بالغفران كمن له السلطان على أن يمنح الغفران. ولكنه في هذه الساعة تكلم كمن يسامح أعداءه بحقوقه الشخصية، ويلتمس أن يصرف عنهم غضب الله على ما فعلوه به. وقيل: بما أنه كان على الصليب تحت القصاص نيابة عن البشر، فلا يصح منطقياً أن يستعمل سلطانه لأجل الغفران، فطلبه من الآب السماوي. وكم كان في طلبته هذه منسجماً مع وصيته لنا: «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ ٱلَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ!» (متى 5: 44). وبملتمسه أيضاً تمم النبوة القائلة: «شَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 53: 12) وكذلك بتشفّعه اتّخذ صفة المحامي الذي وجد عذراً للصفح عن المسيء: «لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون». كانوا حكماء في أشياء كثيرة، ولكنهم في تعصّبهم الأعمى لناموس الحرف الميت جهلوا المسيا، ولم يعرفوا زمن افتقادهم. لقد أهملوا الكتب المقدسة التي تشهد ليسوع بسبب تمسُّكهم بتقليدات آبائهم. وحسناً قال فيهم رب المجد: «تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ ٱلْكُتُبَ وَلاَ قُّوَةَ ٱللّٰهِ» (متى 22: 29) ولعلهم تجاهلوه لسبب ما رأوا فيه من مظاهر الضعة والوداعة. ولو فتحوا أعينهم لرأوا مجده في تعاليمه، وفي المعجزات التي صنعها بينهم. وتجاهلوا أعمال رحمته لأن قساوة قلوبهم وضعت حجاباً كثيفاً على بصائرهم. وحسناً قال فيهم: «هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ» (متى 15: 14) وجهلوا حقيقة الفداء الذي جاء لكي يتمّه لمصلحة البشر، لأن تحريض كهنتهم ورؤسائهم الحاقدين عليه أثارت الموجدة في صدورهم ضده. ولكنه سامحهم وتغاضى عن جهالاتهم.

قال أحد الأتقياء إن مجازاة الخير بالشر عمل شيطاني، ومجازاة الشر بالشر عمل وحشي، ومجازاة الخير بالخير عمل إنساني. أما مجازاة الشر بالخير فهو عمل إلهي، ولا يقوى على فعله سوى المسيح، أو من صيَّره الإيمان به شريكاً في طبيعته الإلهية (2بطرس 1: 4).

(2) «ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ ٱلْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي ٱلْفِرْدَوْسِ» (لوقا 23: 43)

لقد سبق رب المجد أن قال: «وَأَنَا إِنِ ٱرْتَفَعْتُ عَنِ ٱلأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 12: 32). وسرعان ما حقق هذا العمل بجذب اللص المصلوب إلى يمينه. ويبدو أن هذا التاعس تأثر بطلبة يسوع لأجل صالبيه وإيجاد العذر لهم، واندهش من احتماله تعييرات معيرّيه، وخصوصاً تعييرات اللص المصلوب إلى يساره. وكان الأثر بالغاً في وجدانه، حتى حمله على الإيمان بيسوع المصلوب والندم على ذنوبه السالفة. وقد خدم الفادي في اللحظات التي عاشها بعد الإيمان. وذلك بتوبيخه زميله المجدف. فكان في خدمته أقوى من التلاميذ الذين تفرَّقوا عن يسوع.

«اليوم تكون معي في الفردوس». اليوم وليس في يوم الدين. حين «تَجْثُوَ بِٱسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي ٱلسَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى ٱلأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ ٱلأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلآبِ» (فيلبي 2: 10و 11).

وماذا عمل هذا اللص الذي كسر قوانين السماء وداس شرائع الارض؟ لم يعمل حسناً، وإنما نطق بكلمات متجاوبة مع فكر الله، فالتقت كلماته بمحبة الله التي تغفر الذنوب والخطايا. لقد اعترف بذنبه ولم يكتم إثمه: «أما نحن فبعدلٍ نُقاصَص، لأننا ننال استحقاق ما فعلنا. وأما هذا البار فلم يفعل شيئاً ليس في محلّه». وبعد لحظة من الصمت التفت إلى الذي جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك وقال له بروح الصلاة: «ٱذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ» (لوقا 23: 42). لقد التقى بالفكر مع العشّار الذي صلى في الهيكل «ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ» (لوقا 18: 13) وكما عاد العشار إلى بيته مبرَّراً، هكذا انطلق اللص إلى السماء مبرَّراً. وقد لقبه مطالعو الكتاب المقدس «باللص الذي سرق الفردوس».

هذه هي الكلمات التي ينتظرها الرب من شفتي كل إنسان ليبرره ويقدّسه ويعطيه ميراثاً في النور. إنها معجزة فريدة حقاً! في لحظة في طرفة عين، وفي يوم هوان الصليب، يدرك هذا اللص ما لم يدركه اليهود، كهنة وكتبة وفريسيين، خلال سني المجد التي قضاها رب المجد بينهم!

(3) «يَا ٱمْرَأَةُ، هُوَذَا ٱبْنُكِ» (يوحنا 19: 26)

يخبرنا كُتَّاب الإنجيل أنه حين عُلِّق يسوع على الصليب، كانت واقفات عند صليبه مجموعة من السيدات بينهن أمه وأخت أمه، أم يعقوب ويوحنا. ولما كان يسوع قد جُرّد من ثيابه، ولم تكن له أية تركة، كان من الطبيعي أن يستودع أمه المباركة لإبن أختها يوحنا، وهو التلميذ الذي كان يحبه، والذي كان واقفاً هناك.

صحيح أن الآلام كانت آنئذ تعصف بجسده، إلا أنها لم تحُل دونه والتفكير بغيره، فأوصى لصالبيه بالغفران (لوقا 23: 34)، وللص التائب بالفردوس (لوقا 23: 42)، وليوحنا برعاية أمه (يوحنا 19: 25).

«يا يوحنا، هوذا أمك» مقدماً له تركة ثمينة غنية بالبركات، لأن يوحنا مديون للأم التي طوَّبتها السماء والأرض بمعلومات مهمة عن إبنها العجيب، ليكتبها في سفره الخالد، إنجيل يوحنا.

(4) «إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متى 27: 46)

في ظهيرة ذلك اليوم أظلمت الشمس، ولفَّت العتمة الكون بوشاحها الأسود ثلاث ساعات. وفي غضون ثلاث ساعات انفرز يسوع عن البشر ليواجه نوعاً جديداً من الآلام، وهو معَّلق بين السماء والأرض.

وقد أجمع كبار المفسّرين على أن انحجاب نور الشمس وقتئذ كان يرمز إلى انحجاب نور الرضى الإلهي عن يسوع، لأنه كان يحمل في جسده كل خطايا العالم، وكل ما يترتب عليها من قصاص، ابتداءً من لعنة الناموس وانتهاءً بغضب الله.

إن حسَّنا البشري لا يستطيع إدراك هذا النوع من الآلام التي عصفت بيسوع، ولكننا نستطيع أن نتصور أن قدوس الله الذي حمل في جسده كل خطايا العالم يشمئز من الخطية. فكم بالحري يشمئز من تحمُّل نتيجة خطايانا وجهالاتنا، التي لا تقل عن غضب الله على أبناء المعصية.

قال الدكتور زويمر إن المسيح حين عُلِّق على الصليب ليفتدينا من لعنة الناموس مرَّت عليه كل خطايا العالم في كل عصر وجيل، بكل تياراتها ولججها، وطمت فوق رأسه غمراً ينادي غمراً. فانتزعت من أعماقه الصرخة المدوية: «إلهي إلهي، لماذا تركتني!؟».

ليس لنا أن نتجاسر بالسؤال عما جرى بين يسوع والأب السماوي خلال الساعات التي انحجب فيها نور الشمس، إلا أننا متى تأملنا في رسالة يسوع الكفّارية نرى أن الكلمة الذي كان من البدء عند الله، إنما صار جسداً ليفتدينا من اللعنة التي وقعت علينا لأننا لم نثبت في كل أحكام الناموس. أو بتعبير آخر إن ابن الله تجاوباً مع محبته العجيبة، تطوع لكي يُوجِد غفراناً إلهياً للبشر الخطاة، وبذلك ناب عنهم في ساعة موته على الصليب.

إن نبَّوة إشعياء في الأصحاح الثالث والخمسين من سفره وصداها في كتابات بولس ترسم لنا صورة رائعة لحمل الله رافع خطية العالم. ولما كانت الخطايا تحجب وجه الله عن حاملها (إشعياء 59: 2) فالنتيجة لذلك هي انحجاب وجه الآب عن يسوع في تلك الساعة.

قال رجل الإصلاح الشهير ملانكثون: إن صرخة المسيح «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» برهان أكيد على أن المسيح اختبر في نفسه البشرية غضب الله ضد الخطية.

وقال أحد الاتقياء: إن كان موت المسيح هو فقط شهير عظيم لأجل الحق، فإن صرخته لا محل لها. ولكن إن كان قد جعل نفسه خطية لأجلنا، فإن خطايانا وخطايا كل العالم هي التي انتزعت من صدره تلك الصرخة.

ويرجّح ثقات المفسرين أن يسوع أطلق هذه الصرخة بلغته الأرامية وبصوت عظيم لكي يسمع عدد كاف من الناس، وليعلموا جيداً ويشهدوا أنه تُرك من الآب في تلك الساعة، فيعلم العالم أجمع بأي ثمن اشترى لنا يسوع حياتنا الأبدية.

(5) «أَنَا عَطْشَانُ» (يوحنا 19: 28)

يبدو أن عودة النور كانت إيذاناً بانتهاء آلام المسيح النفسية وتزايد إحساسه بالآلام الجسدية، فشعر الفادي بعطش شديد، وقد عُرف بالإختبار أن المصلوب يشتد عليه العطش.

نعم إن الراعي الصالح الذي يورد قطيعه إلى مياه الراحة أُصيب بالعطش (مزمور 23: 2). والمعلم الصالح الذي قال للسامرية: «مَنْ يَشْرَبُ مِنَ ٱلْمَاءِ ٱلَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا» (يوحنا 4: 14) قال: أنا عطشان. ومع أن الشريعة تقول: «إن جاع عدوك فأطعمه، وإن عطش فاسقه» فاليهود الذين نزلت عليهم الشريعة بخلوا عليه وهو المشرف على الموت بنقطة ماء يبرّد بها لسانه. أما الجند الروماني فإذ أرادوا الهزء ببلوغه هذه المرحلة من الإعياء والعجز أخذ واحد منهم إسفنجة وملأها خلاً ورفعها على قصبة وسقاه، فتمَّت النبوة القائلة: «ٱنْتَظَرْتُ رِقَّةً فَلَمْ تَكُنْ وَمُعَّزِينَ فَلَمْ أَجِدْ... وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور 69: 21).

لم يكن عطش يسوع بالعطش العادي، بل كان أقسى أنواع العطش، لأنه عطش الإحتضار. ولم يكن عطش الموت العادي بل عطش الموت عن ذنب الغير. فيسوع في تلك الساعة وصل إلى أبعد من الحد الأقصى لآلام الإنسان عند موته، مؤكداً بهذا أنه بالحقيقة عمانوئيل.

(6) «قَدْ أُكْمِلَ» (يوحنا 19: 30)

كمُل الفداء فكمُلت أهم أحداث التاريخ البشري في كل جيل وعصر. ولما كمل الفداء تمت المصالحة بين الناس والله. فعلى الصليب أكمل الفادي الناموس بكل رموزه ومتطلباته، وأنهى العهد القديم بكل ما فيه من فرائض وسنن ونوافل، وأبطل كل ما فيه من ذبائح ومحرقات وقرابين، لأنه بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد كل المقدَّسين.

لقد أكمل اليهود إثمهم فأطلقوا آخر سهم في جعبتهم. فمنذ البدء لم يقبلوا يسوع، بل نبذوا تعليمه، وجحدوا معجزاته، وجدفوا على اسمه. وأخيراً ألقوا عليه الأيادي وساقوه إلى القضاء وشهدوا عليه زوراً وبصقوا في وجهه وأسلموه إلى اعدائه. فجلده أعداؤه واستهزأوا به والبسوه إكليل الشوك وثقبوا يديه ورجليه بالمسامير وعلقوه بين لصين وعروه واقتسموا ثيابه ومثلوا به شرَّ تمثيل.

أما هو كلمة الله فقد نفذ مشيئة الآب بحذافيرها، فأطاع حتى الموت موت الصليب، فأكمل المكتوب، وحقق النبوات. ولم تبق ثمة حاجة إلى دم ثيران وعجول، أو شحم كباش وتيوس. لا حاجة بعد إلى الفصح، عيد أعياد اليهود، لأن فصحنا المسيح قد ُذُبح لاجلنا. «إِذاً لِنُعَيِّدْ، لَيْسَ بِخَمِيرَةٍ عَتِيقَةٍ، وَلاَ بِخَمِيرَةِ ٱلشَّرِّ وَٱلْخُبْثِ، بَلْ بِفَطِيرِ ٱلإِخْلاَصِ وَٱلْحَقِّ» (1كورنثوس 5: 8).

لقد تمّت الكفّارة واستراح المسيح من عملها، وأصبحنا ننال الفداء باستحقاقها. ونحن مغتبطون بعمل المسيح لأجلنا. «ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رومية 5: 8).

(7) «يَا أَبَتَاهُ، فِي يَدَيْكَ أَسْتَوْدِعُ رُوحِي» (لوقا 23: 46)

بهذه الكلمة السابعة والأخيرة ودّع المسيح خدمته الأرضية لينزل هنيهة إلى القبر، فأنار القبر إذ جعل له باباً مطلاً على الحياة الأبدية، ونقطة انطلاق إلى أورشليم السماوية، حيث مسكن الله مع الناس. وصارت هذه الكلمة «يا أبتاه، في يديك استودع روحي» أنشودة في فم كل محتضر آمن بالفادي، في كل جيل وعصر.

يقول يوحنا الإنجيلي إن يسوع بعد هذا «نكس رأسه وأسلم الروح». أسلمها بإختياره وفقاً لقوله: «أَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ ٱلْخِرَافِ... لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هٰذِهِ ٱلْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يوحنا 10: 15-18).

مات يسوع مصلوباً في السنة الخامسة عشرة لسلطنة طباريوس قيصر، في يوم ذُبحت فيه ألوف الحملان تكفيراً عن خطايا الشعب. وبينما كانت هذه تُذبح كان حمل الله رافع خطية العالم يجود بدمه لغسل خطايانا.

مات يسوع رب المعجزات، فلا عجب أن انشقَّ حجاب الهيكل، وتزلزلت الارض، وتشققت الصخور، وتفتحت القبور، وقام كثير من أجساد القديسين.

أخي الحبيب،

لا يكفي مطلقاً أن ينظر أحد إلى صليب يسوع كحدث تاريخي مؤثّر وحسب، بل كعمل إلهي قام به رب المجد ليشتري لنفسه قنية مقدسة، تخبر بفضائل الذي دعاها من الظلمة إلى نوره العجيب، وأن يتجاوب مع صليب الفادي بصلب نزواته وأهوائه، وفقاً للقول الرسولي: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ» (رومية 6: 5 و6).

21 - الأدلة النبوية

«لَهُ يَشْهَدُ جَمِيعُ ٱلأَنْبِيَاءِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يَنَالُ بِٱسْمِهِ غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا» (أعمال 10: 43).

1 - بيع يسوع بثلاثين من الفضة

النبوة: «فَقُلْتُ لَهُمْ: «إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَٱمْتَنِعُوا». فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ» (زكريا 11: 12).

إتمام النبوة: «حِينَئِذٍ ذَهَبَ وَاحِدٌ مِنَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُدْعَى يَهُوذَا ٱلإِسْخَرْيُوطِيَّ، إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَقَالَ: «مَاذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُونِي وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟» فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ» (متى 26: 14 و15).

2 - يُشترى بثمنه حقل الفخاري

النبوة: «فَقَالَ لِي ٱلرَّبُّ: أَلْقِهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ، ٱلثَّمَنَ ٱلْكَرِيمَ ٱلَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ. فَأَخَذْتُ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى ٱلْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ» (زكريا 11: 13).

إتمام النبوة: «حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا ٱلَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ ٱلثَّلاَثِينَ مِنَ ٱلْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَائِلاً: قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَماً بَرِيئاً. فَقَالُوا: مَاذَا عَلَيْنَا؟ أَنْتَ أَبْصِرْ! فَطَرَحَ ٱلْفِضَّةَ فِي ٱلْهَيْكَلِ وَٱنْصَرَفَ، ثُمَّ مَضَى وَخَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ ٱلْفِضَّةَ وَقَالُوا: لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي ٱلْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ. فَتَشَاوَرُوا وَٱشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ ٱلْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ» (متى 27: 3-7).

3 - يُنكَّل به ويُصلب

النبوة: «أَحَاطَتْ بِي كِلاَبٌ. جَمَاعَةٌ مِنَ ٱلأَشْرَارِ ٱكْتَنَفَتْنِي. ثَقَبُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ. أُحْصِي كُلَّ عِظَامِي، وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَيَتَفَرَّسُونَ فِيَّ» (مزمور 22: 16و 17).

إتمام النبوة: «فَمَضَى بِهِ ٱلْعَسْكَرُ إِلَى دَاخِلِ ٱلدَّارِ ٱلَّتِي هِيَ دَارُ ٱلْوِلاَيَةِ، وَجَمَعُوا كُلَّ ٱلْكَتِيبَةِ. وَأَلْبَسُوهُ أُرْجُواناً، وَضَفَرُوا إِكْلِيلاً مِنْ شَوْكٍ وَوَضَعُوهُ عَلَيْهِ... وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ. وَبَعْدَمَا ٱسْتَهْزَأُوا بِهِ، نَزَعُوا عَنْهُ ٱلأُرْجُوانَ وَأَلْبَسُوهُ ثِيَابَهُ، ثُمَّ خَرَجُوا بِهِ لِيَصْلِبُوهُ» (مرقس 15: 16-20).

4 - يُثخَّن بالجراح

النبوة: «وَهُوَ مَجْرُوحٌ لأَجْلِ مَعَاصِينَا، مَسْحُوقٌ لأَجْلِ آثَامِنَا. تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إشعياء 53: 5).

إتمام النبوة: «وَٱلرِّجَالُ ٱلَّذِينَ كَانُوا ضَابِطِينَ يَسُوعَ كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَهُمْ يَجْلِدُونَهُ، وَغَطَّوْهُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَ وَجْهَهُ وَيَسْأَلُونَهُ: تَنَبَّأْ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي ضَرَبَكَ» (لوقا 22: 63و64).

5 - يتقبل الآلام بصمت

النبوة: «ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ، كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى ٱلذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَاّزِيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ» (إشعياء 53: 7).

إتمام النبوة: «ٱلَّذِي إِذْ شُتِمَ لَمْ يَكُنْ يَشْتِمُ عِوَضاً وَإِذْ تَأَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يُهَدِّدُ بَلْ كَانَ يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ. ٱلَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ» (1بطرس 2: 23-24).

6 - يُضرَب ويُبصَق في وجهه

النبوة: «بَذَلْتُ ظَهْرِي لِلضَّارِبِينَ وَخَدَّيَّ لِلنَّاتِفِينَ. وَجْهِي لَمْ أَسْتُرْ عَنِ ٱلْعَارِ وَٱلْبَصْقِ» (إشعياء 50: 6).

إتمام النبوة: «وَكَانُوا يَضْرِبُونَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِقَصَبَةٍ، وَيَبْصُقُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَسْجُدُونَ لَهُ جَاثِينَ عَلَى رُكَبِهِمْ» (مرقس 15: 19) «حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ»(متى 26: 67).

7 - يُستهَزأ به

النبوة: «أَحَاطَتْ بِي ثِيرَانٌ كَثِيرَةٌ. أَقْوِيَاءُ بَاشَانَ ٱكْتَنَفَتْنِي. فَغَرُوا عَلَيَّ أَفْوَاهَهُمْ كَأَسَدٍ مُفْتَرِسٍ مُزَمْجِرٍ. كُلُّ ٱلَّذِينَ يَرُونَنِي يَسْتَهْزِئُونَ بِي. يَفْغَرُونَ ٱلشِّفَاهَ وَيُنْغِضُونَ ٱلرَّأْسَ قَائِلِينَ: ٱتَّكَلَ عَلَى ٱلرَّبِّ فَلْيُنَجِّهِ. لِيُنْقِذْهُ لأَنَّهُ سُرَّ بِهِ» (مزمور 22: 12و 13 و7 و8).

إتمام النبوة: «وَكَانَ ٱلْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُّزُونَ رُؤُوسَهُمْ... وَكَذٰلِكَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ أَيْضاً وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ ٱلْكَتَبَةِ وَٱلشُّيُوخِ قَالُوا: خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا» (متى 27: 39-42).

8 - يتعجب لماذا تركه الآب

النبوة: «إِلٰهِي! إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي، بَعِيداً عَنْ خَلاَصِي عَنْ كَلاَمِ زَفِيرِي؟» (مزمور 22: 1).

إتمام النبوة: «وَنَحْوَ ٱلسَّاعَةِ ٱلتَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: إِلٰهِي إِلٰهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟» (متى 27: 46).

9 - ويُسقَى خلاً

النبوة: «وَيَجْعَلُونَ فِي طَعَامِي عَلْقَماً، وَفِي عَطَشِي يَسْقُونَنِي خَلاًّ» (مزمور 69: 21).

إتمام النبوة: «بَعْدَ هٰذَا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ كَمَلَ، فَلِكَيْ يَتِمَّ ٱلْكِتَابُ قَالَ: أَنَا عَطْشَانُ. وَكَانَ إِنَاءٌ مَوْضُوعاً مَمْلُّواً خَلاًّ، فَمَلأُوا إِسْفِنْجَةً مِنَ ٱلْخَلِّ، وَوَضَعُوهَا عَلَى زُوفَا وَقَدَّمُوهَا إِلَى فَمِهِ» (يوحنا 19: 28 و29).

10 - يتقاسم الجند ثيابه بالقرعة

النبوة: «يَقْسِمُونَ ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي يَقْتَرِعُونَ» (مزمور 22: 18).

إتمام النبوة: «ثُمَّ إِنَّ ٱلْعَسْكَرَ لَمَّا كَانُوا قَدْ صَلَبُوا يَسُوعَ، أَخَذُوا ثِيَابَهُ وَجَعَلُوهَا أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ، لِكُلِّ عَسْكَرِيٍّ قِسْماً. وَأَخَذُوا ٱلْقَمِيصَ أَيْضاً. وَكَانَ ٱلْقَمِيصُ بِغَيْرِ خِيَاطَةٍ، مَنْسُوجاً كُلُّهُ مِنْ فَوْقُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لاَ نَشُقُّهُ، بَلْ نَقْتَرِعُ عَلَيْهِ لِمَنْ يَكُونُ» (يوحنا 19: 23 و24).

11 - لا يُكسر منه عظم

النبوة: «يَحْفَظُ جَمِيعَ عِظَامِهِ. وَاحِدٌ مِنْهَا لاَ يَنْكَسِرُ» (مزمور 34: 20).

إتمام النبوة: «فَأَتَى ٱلْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ ٱلأَوَّلِ وَٱلآخَرِ ٱلْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ» (يوحنا 19: 32-33).

12 - يُطعن جنبه بحربة

النبوة: «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، ٱلَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ، وَيَكُونُونَ فِي مَرَارَةٍ عَلَيْهِ» (زكريا 12: 10).

إتمام النبوة: «لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ» (يوحنا 19: 34).

13 - موت بين أشرار ويُكرَم عند موته

النبوة: «وَجُعِلَ مَعَ ٱلأَشْرَارِ قَبْرُهُ، وَمَعَ غَنِيٍّ عِنْدَ مَوْتِهِ» (إشعياء 53: 9).

إتمام النبوة: «وَلَمَّا كَانَ ٱلْمَسَاءُ، جَاءَ رَجُلٌ غَنِيٌّ مِنَ ٱلرَّامَةِ ٱسْمُهُ يُوسُفُ - وَكَانَ هُوَ أَيْضاً تِلْمِيذاً لِيَسُوعَ. فَهٰذَا تَقَدَّمَ إِلَى بِيلاَطُسَ وَطَلَبَ جَسَدَ يَسُوعَ. فَأَمَرَ بِيلاَطُسُ حِينَئِذٍ أَنْ يُعْطَى ٱلْجَسَدُ. فَأَخَذَ يُوسُفُ ٱلْجَسَدَ وَلَفَّهُ بِكَتَّانٍ نَقِيٍّ، وَوَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي كَانَ قَدْ نَحَتَهُ فِي ٱلصَّخْرَةِ» (متّى 27: 57-60).

22 - الأدلة الحِسّية

«لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُّوَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ» (2بطرس 1: 16).

1 - حاسة الأم - كانت العذراء المباركة مريم بين الحشود التي سارت وراء يسوع إلى تلة الجلجثة وقد وقفت قرب صليبه مع مجموعة من السيدات (يوحنا 19: 25) وقد تلقَّت وصيته الأخيرة بانضمامها إلى ابن أختها يوحنا. فلو أخطأ الجميع في التعرّف على شخصية المصلوب فالأم المفجوعة بوحيدها لا يمكن أن تخطىء. ولا أخالك تكذّب أحاسيس تلك الأم التي رأت وسمعت كل شيء وذرفت الدمع على فلذة كبدها. قلب الأم العامر بالحب والحنان لا يستطيع خداعه وهم ولا تمويه.

2 - شهادة شعار الصليب - هذا دليل مادي لا قبل لإنسان على نقضه. فلكل دين شعاره أو شارته. كالنجم لليهود، وزهر البشنين للبوذيين، والهلال للمسلمين.

ولكن كيف صار الصليب رمز الفخر والكرامة والبركة والرحمة وأمل الرجاء، بعد أن كان علامة الذل والهوان، ورمز اللعنة والجريمة والسخرية؟! كيف تصبح هذه الخشبة الخشنة الغشيمة التي كان يُصلب عليها أحط المجرمين شعار الفخر؟ بل كيف صارت شارة مجد يزيّن بها الملوك تيجانهم، وترسمها الدول في أعلامها، وترفعها الكنائس فوق أبراجها؟! وكيف صارت آلة الاعدام حلية تتقلدها السيدات، وأوسمة تزيّن صدور العظماء والفاتحين؟!

ليس إلا جواب واحد، هو ذاك الذي شرَّف الصليب بارتفاعه عليه. ليتم بفدائه ما أعلنه داود «ٱلرَّحْمَةُ وَٱلْحَقُّ ٱلْتَقَيَا. ٱلْبِرُّ وَٱلسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مزمور 85: 10).

وبماذا نفسر شارة الصليب التي نُقشت على أضرحة المسيحيين منذ فجر المسيحية، وفي السراديب التي كانوا يجتمعون داخلها في عصور الاضطهاد؟ أهي خرافات مصنَّعة، ام أنها حقائق تصرخ أن المسيح مات على الصليب؟

3 - شهادة يوحنا - كان يوحنا يحب يسوع ويسوع يحبه. ومن هنا كان لقبه «يوحنا الحبيب» ويوحنا لم يفارقه لحظة منذ العشاء الأخير إلى أن توارى في القبر. والإنجيل يخبرنا أنه كان معروفاً عند رئيس الكهنة، مما أتاح له مرافقة يسوع خلال محاكماته المتعددة. وقد سجل لنا شهاداته بمداد اليقين: «وَٱلَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ» (يوحنا 19: 35).

4 - شهادة القبر - ورد في البشائر تفاصيل وافية عن دفن يسوع، أذكرها لك نقلاً عن كتابة الذين رأوا بأعينهم، ولمسوا بأيديهم وسمعوا بآذانهم، وقبلوا الحقائق في قلوبهم.

«كان رجل من الرامة اسمه يوسف. وكان مشيراً شريفاً ورجلاً باراً. وهو تلميذ ليسوع ولكن خفية. هذا سأل بيلاطس أن يأخذ جسد يسوع. فأذن له بيلاطس. وجاء أيضاً نيقوديموس وهو حامل أطياباً مزيج مر وعود. فأخذا جسد يسوع ولفّاه بأكفان. وكان في الموضع الذي صُلب فيه بستان، وفي البستان قبر منحوت لم يوضع فيه أحد قط، فهناك وضعا يسوع». ويقول متى البشير إنهما دحرجا حجراً كبيراً على باب القبر. (متى 27: 57، مرقس 15: 43، لوقا 23: 50، يوحنا 19: 38) ولا شك في أن التلميذين اللذين كانا من أشراف اليهود ومن أعضاء مجلس السنهدريم، ما كانا ليكرما جسد المصلوب لو كان عندهما أقل شك في شخصيته.

5 - ضبْط القبر - ما أن علم أعداء يسوع من رؤساء اليهود بموافقة بيلاطس على دفن المسيح حتى أسرعوا إلى الوالي وقالوا له: «يا سيد، قد تذكرنا أن ذاك المضلّ قال وهو حي: إني بعد ثلاثة أيام أقوم. فمُرْ بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ويسرقوه، فتكون الضلالة الأخيرة أشرّ من الأولى». فقال لهم بيلاطس: «عندكم حراس فاذهبوا واضبطوه كما تعلمون فذهبوا وضبطوا القبر بالحراس، وختموا الحجر» أي أنهم مدّوا خيطاً فوق الحجر وألصقوه من الطرفين على باب القبر بالشمع، وختموا الشمع بختم بيلاطس الرسمي وأقاموا حراساً عليه (متى 27: 62-66) مما يؤكد لنا تماماً أن جسد يسوع قد دُفن في القبر وضُبط بأختام وحراس.

6 - شك توما - بعد قيامته من الأموات في اليوم الثالث ابتدأ المسيح يظهر لبعض تلاميذه. وإذ لم يظهر لتوما لم يصدق ما قيل له عن ظهوراته، بالرغم من تأكيد رفاقه الذين شاهدوه. وقد كتب لنا يوحنا حادثة شك توما، لكي يقطع الطريق على كل الذين حاولوا زرع الشكوك حول صلب وقيامة يسوع. قال يوحنا: «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَّوَلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سَلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: ٱقْبَلُوا ٱلرُّوحَ ٱلْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ. أَمَّا تُومَا، أَحَدُ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ، ٱلَّذِي يُقَالُ لَهُ ٱلتَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ. فَقَالَ لَهُ ٱلتَّلاَمِيذُ ٱلآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ ٱلْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ. وَبَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَانَ تَلاَمِيذُهُ أَيْضاً دَاخِلاً وَتُومَا مَعَهُمْ. فَجَاءَ يَسُوعُ وَٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمْ. ثُمَّ قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِناً. أَجَابَ تُومَا: رَبِّي وَإِلٰهِي. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يوحنا 20: 19-29).

23 - أدلة من إعلانات المسيح

«هٰكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (لوقا 24: 46)

في الليلة التي أُسلم يسوع فيها ألقى في مسامع تلاميذه خطاباً وداعياً يُعدّ بحق روعة الإنجيل، لأن فيه ظهرت عنايته كمعلم، وحنانه كأب، وحبه كفاد، ونعمته كمخلّص، وعطفه كراع على قطيعه الصغير - هذه المجموعة من البسطاء الذين تركوا العالم كله وتبعوه، ووضعوا رجاءهم عليه.

وكعالم بما يخبئه لهم الغيب من أحزان أليمة، ومصاعب قاسية، وخيبة أمل مريرة، ومستقبل مملوء بالضيقات، أخذ يعدهم نفسياً وروحياً لمواجهة هذه الأرزاء التي تنتظرهم، ويزوّدهم بالتعليمات لإتمام المرحلة الثانية من رسالة الإنجيل.

وبدأ السيد خطابه الرائع بكلمات مشجعة ومعزية: «لا تضطرب قلوبكم. أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي. في بيت أبي منازل كثيرة. أنا امضي لأعدّ لكم مكاناً وإن مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً آتي وآخذكم إليَّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم» إلى أن قال: «لا أترككم يتامى. أما الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلّمكم كل شيء، ويذكّركم بكل ما قلته لكم. سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا».

وكأب بار عارف أن ساعته الأخيرة قد اقتربت، أعلن لهم وصيته الأخيرة: «وصية جديدة أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً.. أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به. إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه أبغضني قبلكم. سيخرجونكم من المجامع. بل ستأتي ساعة فيها يظن من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله. لم أقل من البداية لأني كنت معكم. وأما الآن فإني ماضٍ إلى أبي».

من سياق هذا الخطاب الرائع نفهم أن المسيح لم يُخْفِ النهاية على تلاميذه. وإذا قارنّا ما ورد فيه بأقوال أخرى سابقة للمسيح، نرى أن المسيح يصرح علانية، بأنه جاء إلى العالم لغاية وحيدة هي بَذْل نفسه فدية عن كثيرين.

وبالمناسبة دعني أورد لك بعضاً من إعلانات يسوع الخاصة بموته الفدائي والتي دوّنها البشيرون بإرشاد الروح القدس، لأجل تعليمنا.

* «مِنْ ذٰلِكَ ٱلْوَقْتِ ٱبْتَدَأَ يَسُوعُ يُظْهِرُ لِتَلاَمِيذِهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَذْهَبَ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَيَتَأَلَّمَ كَثِيراً مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومَ» (متى 16: 21).

* «وَفِيمَا هُمْ يَتَرَدَّدُونَ فِي ٱلْجَلِيلِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (متى 17: 22 و23).

* «وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ صَاعِداً إِلَى أُورُشَلِيمَ أَخَذَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ تِلْمِيذاً عَلَى ٱنْفِرَادٍ فِي ٱلطَّرِيقِ وَقَالَ لَهُمْ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ لِكَيْ يَهْزَأُوا بِهِ وَيَجْلِدُوهُ وَيَصْلِبُوهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (متى 20: 17-19).

* «وَلَمَّا أَكْمَلَ يَسُوعُ هٰذِهِ ٱلأَقْوَالَ كُلَّهَا قَالَ لِتَلاَمِيذِهِ: تَعْلَمُونَ أَنَّهُ بَعْدَ يَوْمَيْنِ يَكُونُ ٱلْفِصْحُ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ لِيُصْلَبَ» (متى 26: 1 و2).

* «وَٱبْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيراً، وَيُرْفَضَ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس 8: 31).

* «لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ تَلاَمِيذَهُ وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي ٱلنَّاسِ فَيَقْتُلُونَهُ، وَبَعْدَ أَنْ يُقْتَلَ يَقُومُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ» (مرقس 9: 31).

* «فَأَخَذَ ٱلٱثْنَيْ عَشَرَ أَيْضاً وَٱبْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ عَمَّا سَيَحْدُثُ لَهُ: هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَٱبْنُ ٱلإِنْسَانِ يُسَلَّمُ إِلَى رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، فَيَحْكُمُونَ عَلَيْهِ بِٱلْمَوْتِ، وَيُسَلِّمُونَهُ إِلَى ٱلأُمَمِ، فَيَهْزَأُونَ بِهِ وَيَجْلِدُونَهُ وَيَتْفُلُونَ عَلَيْهِ وَيَقْتُلُونَهُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (مرقس 10: 32-34).

* «وَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: إِنَّ كُلَّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هٰذِهِ ٱللَّيْلَةِ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ ٱلرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ ٱلْخِرَافُ. وَلٰكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ» (مرقس 14: 27).

* بعد أن أشبع الجماهير من سمكتين وخمسة أرغفة قال لتلاميذه: «يَنْبَغِي أَنَّ ٱبْنَ ٱلإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ ٱلشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا 9: 22).

* «ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ. وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ» (يوحنا 2: 19، 21).

* «وَٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ ٱلْعَالَمِ» (يوحنا 6: 51).

* «هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي ٱلْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ أُكَمَّلُ. بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ ٱلْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجاً عَنْ أُورُشَلِيمَ» (لوقا 13: 32، 33).

- 24 - أدلَّة من أقوال الرسل

«أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رومية 4: 25)

كل من يقرأ سفر أعمال الرسل ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ويهوذا، يلاحظ أن التعاليم التي نشرها رسل المسيح وبشروا بها في كل العالم، قامت على المناداة بمسيح مصلوب سفك دمه عن الخاطئ، حتى أن بولس لخص الإنجيل كله بهذه الكلمات: «وَأُعَرِّفُكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ بِٱلإِنْجِيلِ ٱلَّذِي بَشَّرْتُكُمْ بِهِ، وَقَبِلْتُمُوهُ، وَتَقُومُونَ فِيهِ، وَبِهِ أَيْضاً تَخْلُصُونَ، إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ. إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثاً! فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي ٱلأَّوَلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضاً: أَنَّ ٱلْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا حَسَبَ ٱلْكُتُبِ، وَأَنَّهُ دُفِنَ، وَأَنَّهُ قَامَ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلثَّالِثِ حَسَبَ ٱلْكُتُبِ» (1كورنثوس 15: 1-4).

في ما يلي مقتطفات من أقوال الرسل، التي نادوا بها ودوّنوها في كتاباتهم المقدسة الموحى بها من الله:

1 - في الصليب والموت:

* قال بطرس لليهود: «يَسُوعُ ٱلنَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ ٱللّٰهِ بِقُّوَاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا ٱللّٰهُ بِيَدِهِ فِي وَسَطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضاً تَعْلَمُونَ. هٰذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّماً بِمَشُورَةِ ٱللّٰهِ ٱلْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ ٱلسَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. اَلَّذِي أَقَامَهُ ٱللّٰهُ نَاقِضاً أَوْجَاعَ ٱلْمَوْتِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُمْكِناً أَنْ يُمْسَكَ مِنْهُ» (أعمال 2: 22-24).

أرجوك أن تتأمل في عبارة الرسول «مسلَّماً بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق» وأن تنقشها على صفحة خاطرك، حتى كلما رددتها تذكر أن الفداء بموت المسيح كان من تدبير الله، وأنه كان في فكره تعالى منذ البدء.

* «فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً» (اعمال 2: 36).

* «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ»(رومية 6: 5 و6).

* «لٰكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ ٱلْكَامِلِينَ، وَلٰكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، ٱلَّذِينَ يُبْطَلُونَ. بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ - لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1كورنثوس 2: 6-8).

لاحظ معي كيف أن الرسول بولس، مسوقاً بالروح القدس، حرص على أن يؤكد للعالم أن الفداء بالصليب كان منذ الأزل سراً من أسرار حكمة الله، ويتفق في تعليمه الملهم مع زميله المغبوط بطرس، الذي كتب إلى المؤمنين المشتتين في رحاب الأرض: «نَائِلِينَ غَايَةَ إِيمَانِكُمْ خَلاَصَ ٱلنُّفُوسِ. ٱلْخَلاَصَ ٱلَّذِي فَتَّشَ وَبَحَثَ عَنْهُ أَنْبِيَاءُ، ٱلَّذِينَ تَنَبَّأُوا عَنِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي لأَجْلِكُمْ، بَاحِثِينَ أَيُّ وَقْتٍ أَوْ مَا ٱلْوَقْتُ ٱلَّذِي كَانَ يَدُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ ٱلْمَسِيحِ ٱلَّذِي فِيهِمْ، إِذْ سَبَقَ فَشَهِدَ بِٱلآلاَمِ ٱلَّتِي لِلْمَسِيحِ وَٱلأَمْجَادِ ٱلَّتِي بَعْدَهَا. ٱلَّذِينَ أُعْلِنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ لَيْسَ لأَنْفُسِهِمْ، بَلْ لَنَا كَانُوا يَخْدِمُونَ بِهٰذِهِ ٱلأُمُورِ ٱلَّتِي أُخْبِرْتُمْ بِهَا أَنْتُمُ ٱلآنَ بِوَاسِطَةِ ٱلَّذِينَ بَشَّرُوكُمْ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ ٱلْمُرْسَلِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. ٱلَّتِي تَشْتَهِي ٱلْمَلاَئِكَةُ أَنْ تَطَّلِعَ عَلَيْهَا» (1بطرس 1: 9-12).

* «فَلْيَعْلَمْ يَقِيناً جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللّٰهَ جَعَلَ يَسُوعَ هٰذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبّاً وَمَسِيحاً» (أعمال 2: 36).

* «لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يُرْسِلْنِي لأُعَمِّدَ بَلْ لأُبَشِّرَ - لاَ بِحِكْمَةِ كَلاَمٍ لِئَلاَّ يَتَعَطَّلَ صَلِيبُ ٱلْمَسِيحِ. فَإِنَّ كَلِمَةَ ٱلصَّلِيبِ عِنْدَ ٱلْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ ٱلْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُّوَةُ ٱللّٰهِ» (1كورنثوس 1: 18).

* «لأَنَّ ٱلْيَهُودَ يَسْأَلُونَ آيَةً، وَٱلْيُونَانِيِّينَ يَطْلُبُونَ حِكْمَةً، وَلٰكِنَّنَا نَحْنُ نَكْرِزُ بِٱلْمَسِيحِ مَصْلُوباً» (1كورنثوس 1: 22-24).

* «وَأَنَا لَمَّا أَتَيْتُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ، أَتَيْتُ لَيْسَ بِسُمُّوِ ٱلْكَلاَمِ أَوِ ٱلْحِكْمَةِ مُنَادِياً لَكُمْ بِشَهَادَةِ ٱللّٰهِ، لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئاً بَيْنَكُمْ إِلاَّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوباً»(1كورنثوس 2: 1 و2).

* «إِذْ أَنْتُمْ تَطْلُبُونَ بُرْهَانَ ٱلْمَسِيحِ ٱلْمُتَكَلِّمِ فِيَّ، ٱلَّذِي لَيْسَ ضَعِيفاً لَكُمْ بَلْ قَوِيٌّ فِيكُمْ. لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ صُلِبَ مِنْ ضُعْفٍ لٰكِنَّهُ حَيٌّ بِقُّوَةِ ٱللّٰهِ» (2كورنثوس 13: 3 و4).

* «لأَنِّي مُتُّ بِٱلنَّامُوسِ لِلنَّامُوسِ لأَحْيَا لِلّٰهِ. مَعَ ٱلْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا بَلِ ٱلْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غلاطية 2: 19-20).

* «جَمِيعُ ٱلَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَنْظَراً حَسَناً فِي ٱلْجَسَدِ، هٰؤُلاَءِ يُلْزِمُونَكُمْ أَنْ تَخْتَتِنُوا، لِئَلاَّ يُضْطَهَدُوا لأَجْلِ صَلِيبِ ٱلْمَسِيحِ فَقَطْ... وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 6: 12-14).

* «أَيُّهَا ٱلْغَلاَطِيُّونَ ٱلأَغْبِيَاءُ، مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ؟ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوباً» (غلاطية 3: 1).

* «وَأَمَّا أَنَا أَيُّهَا ٱلإِخْوَةُ فَإِنْ كُنْتُ بَعْدُ أَكْرِزُ بِٱلْخِتَانِ فَلِمَاذَا أُضْطَهَدُ بَعْدُ؟ إِذاً عَثْرَةُ ٱلصَّلِيبِ قَدْ بَطَلَتْ» (غلاطية 5: 11).

* «فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هٰذَا ٱلْفِكْرُ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضاً: ٱلَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ ٱللّٰهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّٰهِ. لٰكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ ٱلنَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي ٱلْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى ٱلْمَوْتَ مَوْتَ ٱلصَّلِيبِ» (فيلبي 2: 5-8).

* «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ ٱلإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِ ٱلسُّرُورِ ٱلْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ ٱحْتَمَلَ ٱلصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِٱلْخِزْيِ» (العبرانيين 12: 2).

* «وَلٰكِنَّ ٱللّٰهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ ٱلْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ ٱلآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ ٱلْغَضَبِ» (رومية 5: 8 و9).

2 - في الفداء والدم والكفّارة والمصالحة

* «مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا» (رومية 3: 24 و25).

* «إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ ٱلَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي ٱلْمَحْبُوبِ، ٱلَّذِي فِيهِ لَنَا ٱلْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ ٱلْخَطَايَا»(أفسس 1: 5-7).

* «وَمِنْهُ أَنْتُمْ بِٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلَّذِي صَارَ لَنَا حِكْمَةً مِنَ ٱللّٰهِ وَبِرّاً وَقَدَاسَةً وَفِدَاءً» (1كورنثوس 1: 30).

* «اَلْمَسِيحُ ٱفْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ ٱلنَّامُوسِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ» (غلاطية 3: 13).

* «أَرْسَلَ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ ٱمْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ ٱلَّذِينَ تَحْتَ ٱلنَّامُوسِ، لِنَنَالَ ٱلتَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4 و5).

* «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ، ٱلشَّهَادَةُ فِي أَوْقَاتِهَا» (1تيموثاوس 2: 5، 6).

* «مُنْتَظِرِينَ ٱلرَّجَاءَ ٱلْمُبَارَكَ وَظُهُورَ مَجْدِ ٱللّٰهِ ٱلْعَظِيمِ وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، لِكَيْ يَفْدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (تيطس 2: 13 و14).

* «عَالِمِينَ أَنَّكُمُ ٱفْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ ٱلْبَاطِلَةِ ٱلَّتِي تَقَلَّدْتُمُوهَا مِنَ ٱلآبَاءِ، بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ، كَمَا مِنْ حَمَلٍ بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ، دَمِ ٱلْمَسِيحِ، مَعْرُوفاً سَابِقاً قَبْلَ تَأْسِيسِ ٱلْعَالَمِ» (1بطرس 1: 18-20).

* «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى ٱلْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ ٱلْجَسَدِ، فَكَمْ بِٱلْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلّٰهِ بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ لِتَخْدِمُوا ٱللّٰهَ ٱلْحَي» (العبرانيين 9: 13 و14).

* «إِنْ سَلَكْنَا فِي ٱلنُّورِ كَمَا هُوَ فِي ٱلنُّورِ، فَلَنَا شَرِكَةٌ بَعْضِنَا مَعَ بَعْضٍ، وَدَمُ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِهِ يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ» (1يوحنا 1: 7).

«كَأْسُ ٱلْبَرَكَةِ ٱلَّتِي نُبَارِكُهَا، أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ ٱلْمَسِيحِ؟ ٱلْخُبْزُ ٱلَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ ٱلْمَسِيحِ؟» (1كورنثوس 10: 16).

* «نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ ٱلْكَائِنِ وَٱلَّذِي كَانَ وَٱلَّذِي يَأْتِي، وَمِنَ ٱلسَّبْعَةِ ٱلأَرْوَاحِ ٱلَّتِي أَمَامَ عَرْشِهِ، وَمِنْ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱلشَّاهِدِ ٱلأَمِينِ، ٱلْبِكْرِ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ ٱلأَرْضِ. ٱلَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ» (رؤيا 1: 4-6).

* «مُسْتَحِقٌّ أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ ٱلسِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ، لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَٱشْتَرَيْتَنَا لِلّٰهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ، وَجَعَلْتَنَا لإِلٰهِنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً» (رؤيا 5: 9 و10).

* «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (1يوحنا 2: 1 و2).

* «مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ» (العبرانيين 2: 17).

* «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا وَنَحْنُ أَعْدَاءٌ قَدْ صُولِحْنَا مَعَ ٱللّٰهِ بِمَوْتِ ٱبْنِهِ، فَبِٱلأَوْلَى كَثِيراً وَنَحْنُ مُصَالَحُونَ نَخْلُصُ بِحَيَاتِهِ» (رومية 5: 10).

* «وَلٰكِنَّ ٱلْكُلَّ مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ ٱلْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ ٱللّٰهَ كَانَ فِي ٱلْمَسِيحِ مُصَالِحاً ٱلْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ»(2كورنثوس 5: 18 و19).

* «وَهُوَ رَأْسُ ٱلْجَسَدِ: ٱلْكَنِيسَةِ. ٱلَّذِي هُوَ ٱلْبَدَاءَةُ، بِكْرٌ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ، لِكَيْ يَكُونَ هُوَ مُتَقَدِّماً فِي كُلِّ شَيْءٍ. لأَنَّهُ فِيهِ سُرَّ أَنْ يَحِلَّ كُلُّ ٱلْمِلْءِ، وَأَنْ يُصَالِحَ بِهِ ٱلْكُلَّ لِنَفْسِهِ، عَامِلاً ٱلصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ» (كولوسي 1: 18-20).

* «وَلٰكِنِ ٱلآنَ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ ٱلْمَسِيحِ... ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلٱثْنَيْنِ وَاحِداً... مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ ٱلْوَصَايَا... وَيُصَالِحَ ٱلٱثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ ٱللّٰهِ بِٱلصَّلِيبِ، قَاتِلاً ٱلْعَدَاوَةَ بِهِ» (أفسس 2: 13-16).

حبيبي حسان

لقد صرفت أياماً طويلة في إعداد هذه الرسالة، وإنك بما حُشد فيها من آيات الله البينات تستطيع أن تكوّن لك فكرة عن الفداء الذين أُكمل بموت المسيح على الصليب، وأن تبني إيمانك على أساس الكفّارة، فتنال تطهيراً كاملاً لخطاياك السالفة. «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُلٍ لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ»(مزمور 32: 1 و2) إنه عهد المصالحة الذي أقامه المسيح بدم صليبه، بين الناس و الله. و أرجو ألاَّ تقف بعد الآن على شاطىء المعرفة الخلاصية، بل أن تبحر عباب أقيانوس الحب الفدائي وإلى كل الملء، وأن تفتخر بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به المصالحة.

قد يعثرك هوان الصليب أو تأنف خشونته، أو تصدّك عن اكتشاف مزاياه مجموعة من العقائد التي تندّد به. ولكن كساعٍ وراء الحق يجب أن تعيد النظر في الأمر على ضوء الحقيقة التي لاحت لك مؤخراً.

أنا أفهم عثرة الصليب بالنسبة لك لأنها كانت يوماً عثرتي، فقد حسبت تعليم الصليب لمدة طويلة نوعاً من الكفر الجاهل، لأنه لم يكن في وسعي التسليم بأن الإله يُجلد ويُصلب ويموت، وينزل إلى القبر كأي إنسان. ولكم تردد في خاطري قول إبي العلاء المعري:

عجبت لكسرى وأشياعه وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يُضام ويُقتل ظلماً ولا ينتصر

 

غير أن الله الذي افتقدني برحمته الواسعة، وشاءت محبته أن تقتادني إلى ينابيع خلاصه، لم تتركني عنايته أتخبط طويلاً في دياجير الجهل، فريسة للحدس والتخمين والأقوال المصنَّعة، بل أعلن لي يوماً بروح حكمته أن الصليب هو ترجمان محبته في الفداء «ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً... مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ... لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي ٱلّزَمَانِ ٱلْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارّاً وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ ٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 25 و26).

فعلى ضوء إعلانات الله تراءى لي يسوع الذي قبلته مخلّصاً في شخصية عجيبة، إله كامل وإنسان كامل، فكإله أقام الموتى، وفتح عيون العمى، وشفى المرضى، وأقام المقعدين، وغفر الخطايا، وأعطى كل الذين قبلوه سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون بإسمه. وكإنسان كامل أخذ الجسد وسيلة لتقديم نفسه ذبيحة إثم عن خطية العالم. بمعنى أن الصليب وقع على جسد ابن الإنسان، بينما اللاهوت لم يُمس. وهذا اللاهوت الكامل، أكرم الجسد لسبب الطاعة الكاملة وأجلسه عن يمين العظمة في الاعالي.

في ما يلي حادثة ظهر فيها يسوع إنساناً وإلهاً معاً: مات لعازر صديقه، فذهب إلى بيته وكل الظواهر تدل على أنه ذهب ليعزي أختيه مرثا ومريم. وحين رأى حزنهما الشديد تأثر وبكى، مُظهراً ناسوته الكامل. بيد أنه كإله كلي القدرة والسلطان وقف أمام قبر الصديق الميت وصرخ: «لعازر هلم خارجاً». وحالما صرخ رُدَّت الروح إلى الميت وقام من قبره، بعد أن احتجزه القبر أربعة أيام.

والآن يا أخي أناشدك الله أن لا تقف من نعمة ربنا يسوع في صليب محبته موقف العقلي الجامد المتشبث بالمنطق، لأن خلاصك يتوقف على الإيمان بمسيح مصلوب من أجلك. المنطق هو من ثمار البشرية، والله يقول للبشر: «كَمَا عَلَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ عَنِ ٱلأَرْضِ هَكَذَا عَلَتْ طُرُقِي عَنْ طُرُقِكُمْ وَأَفْكَارِي عَنْ أَفْكَارِكُمْ» (إشعياء 55: 9).

أرجوك برأفة الله أن تتعامل مع الإيمان بالقلب لا بالعقل، لأن القلب يُؤْمَن به للبر والفم يُعْتَرَف به للخلاص (رومية 10: 10).

أنت تعرف أن الإسلام يعترف بموت المسيح وقيامته، وإن كان أكثرية المسلمين يعارضون فكر الصليب، لأنهم محمولون ببعض النصوص التي للمفسرين فيها أكثر من رأي. وربما في بحث لاحق سأجول معك في القرآن لدرس ما جاء في هذا الموضوع الخطير.

وقبل أن أنهي رسالتي هذه أهيب بك وأنت الساعي وراء الحقيقة أن تدرس الأمر بنفسك، وليكن رائدك ما قاله الرسول بولس: «ٱمْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِٱلْحَسَنِ»(1تسالونيكي 5: 21).

أرسل لك نسخة من الكتاب المقدس، راجياً أن تعتمدها في درسك وبحثك، ففي هذا الكتاب العزيز دوَّن الوحي كل شيء عن تجسّد وحياة وتعليم وموت وقيامة وصعود المسيح.

لا تؤخذ بأقوال بعض السطحيين إن كتاب الله قد حُرّف، فما هو بقول حق، بل لغوٌ وضعه إبليس الرجيم في أفواه البعض ليبعد الناس عن الكتابة المقدسة التي لهم فيها حياة. وهي تشهد ليسوع بأن ليس بأحد غيره الخلاص. ولا أسخف من الادّعاء بتحريف الإنجيل إلا الادعاء بنَسْخه. وهذا الموضوع سأخوضه معك في رسالة قادمة إذا شاء الرب وعشنا.

يا أخي،

أنت تعلم أنني جاهدت في الماضي، وكثيراً ما جاهدت للحصول على سلام في قلبي، فكشف لي بحثي الصابر أن لا سلام إلا في الله. فبحثتُ في شخصه تعالى. وكانت لي محاولات طويلة وشاقة، طرقت خلالها طرقاً شتى، وذهبت مذاهب مختلفة. لقد تديّنت، وحسَّنت سلوكي. ولكن هذا لم يضع هدوءاً في ضميري، لأنه كان مجرد طلاء خارجي، هو صورة التقوى. ويا لها صورة جذابة تخدع كل من يحتك بي! شاب مثقف عذب الحديث عالي التهذيب واسع الإطلاع حلو المعشر... ولكن أقول الصدق إنني كنت أخدع نفسي ومن حولي. كانت تقواي دهاناً تكمن وراءه نفس هائمة لم تعرف السلام، لأنها كانت تعيش بدون قداسة.

وإنني أعترف أن محاولاتي هذه فشلت جميعها في رفع مستواي الروحي، فقد بقيت أسيراً لناموس الشهوات التي كانت تسبيني إلى ناموس الخطية والموت.

صحيح أن ضميري لم يكف يوماً عن نخسي في الصميم، ولكن مخدرات الضمير لم تكن بعيدة عني. كانت هنا جاهزة ووفيرة لتخفف عوامل الندم في وجداني. وما أسرع ما يمرض الضمير تحت الإدمان على الخدر! والضمير المريض يسوّل أفكاراً غريبة من وحي منطق مريض. وبالمنطق المريض كنت أحلل ما حرَّمته الشريعة. فقد قال لي المنطق المريض إن الشريعة وُضعت لأهل زمانها الذين عاشوا في الأزمنة البعيدة. العالم تطوّر بحيث أصبح من الجائز الاجتهاد عليها!

مثلاً كنت أقول في نفسي إن الله قد أعطى مباهج الحياة، وأعطاني حواساً. فلماذا إذن لا أتيح لنفسي التنعّم بما حولي؟!

أنا أعمل واجبي كإنسان: أعطي من مالي للمعوز، وأسدي من نصائحي للضال، وأسند بما عندي من قوى ضعفات الضعيف. أما من جهة بعض الممارسات التي أتيحها لنفسي في إطار الرضى، فليس فيها ما يشوب سلوكي كإنسان وكمؤمن. ولعل هذه الأفكار جاءتني من عمر الخيام الذي درست فلسفته في حداثتي، واستظهرت الكثير من رباعياته المشهورة!

ولكن الله الذي دعاني من أحشاء أمي، شاءت رأفته العجيبة أن تضعني يوماً في طريق شمس البر يسوع. وما أن سطعت أنواره في قلبي حتى رأيت نفسي على حقيقتها غارقة في أوحال الإثم، فانهار بري الذاتي بسرعة البرق، وتوارى رضاي عن نفسي، ولم يبق من هذا الكائن الذي اسمه توفيق إلا جسد هذا الموت، الذي دعاه الرسول «الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور». ويسوع هذا الذي أتى إلى العالم ليطلب ويخلّص ما قد هلك سرعان ما وجد في جوعه إلى الخلاص نفساً هالكة تحتاج إلى خلاصه، وخروفاً تائهاً يحتاج إلى هَدْيه. ولسعادتي أنه حملني على منكبيه وأتى بي إلى حظيرة مختاريه.

وقد مضت السنون وكلما ذكرت ذاك اللقاء أقول: «عجباً!! أنا لم أفعل شيئاً، ولم أبذل جهداً في البحث عنه!! ومع ذلك قبلني!!! وقد قبلني لأنه أحبني فضلاً!»

بحثت كثيراً وحاولت مجتهداً أن أجد في طرق البشر طريقاً تؤدي بي إلى السلام، فلم أفلح. وأعياني البحث وأملَّتني المحاولات حتى ضقت ذرعاً بوجودي. ولم يستطع ما قرأته من فلسفات المتقدمين وتعاليم المتأخرين أن يشبع نفسي، فانطبق على محاولاتي قول سليمان الحكيم: « بَاطِلُ ٱلأَبَاطِيلِ ٱلْكُلُّ بَاطِلٌ... وَقَبْضُ ٱلرِّيحِ» (جامعة 1: 2 و14).

ولكن ما عجزت عنه حكمة الحكماء وفلسفة الفلاسفة، عملته بي نعمة الله في صليب ربنا يسوع المسيح. فصليب الحب الإلهي وحده أطلقني من قيود النفس الأمارة بالسوء - أي أنه فرّغني من ذاتي ليملأني من فيض نعمته بالفداء والغفران، فسعدت وشبعت سروراً. وإذا بحياتي الشقية تتحول إلى فرصة استعداد لسفر قريب إلى ديار الخلود.

وفي سعادتي وشبعي من سرور سلام الله فكرت في أعزائي وبأعز أعزائي: بأخي وحبيبي. فجثوت على ركبتيَّ أسأل من أجله كل مالي في يسوع، ما عدا الآلام التي قاسيتها والإضطهادات التي تكبّدتها والجراحات التي أُصبت بها بأيدي أحبائي...

9 - 1 - 54 توفيق

25 - أسئلة حائرة

«وَأَنَا قُلْتُ فِي حَيْرَتِي: إِنِّي قَدِ ٱنْقَطَعْتُ مِنْ قُدَّامِ عَيْنَيْكَ. وَلٰكِنَّكَ سَمِعْتَ صَوْتَ تَضَرُّعِي إِذْ صَرَخْتُ إِلَيْكَ»(مزمور 31: 22).

أرجّح أن أخي قضى وقتاً طويلاً في درس ما ورد في رسالتي الأخيرة، ويؤيدني في ظني سكوته عدة أشهر، أمضَّني الإنتظار خلالها. ولكنه عوَّض عن ذلك برسالة جوابية ضمَّنها إلى جانب تعليقاته مجموعة من الاسئلة:

عزيزي توفيق،

قبلة شوق على وجنتيك. وأرجو لك ولأفراد عائلتك جميعاً كل سعادة. وبعد، تلقيت رسالتك في وقت كنت محط أفكاري و مدار ذكرياتي. وسرَّني أنكم في خير. وإني أقدم لك شكري على تمنياتك الطيبة لي، وشفقتك علي، وحبك إياي. مما يستوجب أن تكون أعز الناس عندي وآثرهم لديَّ وأقربهم إلى قلبي.. وإني إذ أكتب إليك الآن، فبوحي من تعابيرك الظريفة، وأفكارك الطريفة. وأستلهم من بحثك المشار إليه مادة خصبة لأجيبك على ما تفضّلت به عليَّ وأسديت إليَّ. وبديهي أن بحثك حول مقتل السيد المسيح قد أثار اهتمامي بقدر ما أثار إعجابي، فقد بدت لي رغبتك الصادقة وجهدك الواضح في إظهار الحقائق تسندها دلائل لا سبيل إلى دحضها. وشعرت بزهو أن يكون لأخي هذا الاطلاع الواسع، وهذه القدرة على اكتمال البحث من جميع النواحي.

لا اعتراض على الحوادث التي ذكرتها من حيث أنها كانت ظاهرة. على أنني شخصياً أرى أن لكل حادثة ظاهرة مقابلاً غير ظاهر. فمتى رأينا أن شخصاً اصفرَّ وجهه وارتجفت أوصاله عرفنا أن مقابل هذه الظاهرة البادية للعين حالة نفسية يعانيها الشخص المذكور. حالة غير ظاهرة. إلا بالتعبير عنها بالقول إنه خائف وما دام المسيح رُئي مصلوباً فيمكن أن يُقال استناداً إلى تعليل القرآن إن المصلوب شُبّه له. وقد رضي قوم أنه صُلب فعلاً، بينما قال آخرون بعدم صلبه يقيناً.

والآن لماذا صُلب المسيح؟ تقول إنه صُلب للتكفير عن خطية آدم التي لحقت الجنس البشري، إذ أن هذه الخطية أوجبت قتل آدم روحياً «من يخطىء قتلاً يُقتل، أو موتاً يموت». والموت يحمل معنى الغضب الإلهي والقتل الروحي. أنا أوافقك على أن آدم كان يمثل الجنس البشري وما أحسن قول الشاعر في هذا المعنى:

ليس على الله بمُسْتَبْعَد أن يجمع العالمَ في واحد

ولكن ما دامت خطية آدم لم تُغفر، فقد مات واستحق غضب الله وأُدخل جهنم جزاء فعلته. وكذلك جميع من جاء بعده من ذريته. والذين لم تُغفر خطيتهم التي لحقتهم من جراء عصيان آدم ذهبوا إلى جهنم. وهذا يعني أن جميع من سبق المسيح حتى آدم في النار. ومن جهة ثانية ما دام المسيح قد كفّر عن آدم ذنبه فقد غفر له هذا الذنب ولذريته أيضاً، ما داموا قد اعتُبروا خاطئين بضرورة إتْباع الخطية بالجنس البشري كافة. وهذا يقضي أن جميع من جاءوا بعد المسيح مغفور لهم ذنب آدم. وهذا الذنب لم يُغفر للسابقين من بني البشر ممن عاشوا قبل المسيح. ففريق محظوظ وفريق غير محظوظ. وإذا قلت إن السابقين غُفر لهم أيضاً وأُسقط عنهم الذنب، فأقول: كيف حملوه وماتوا عليه، ثم يُغفر لهم؟ فهل يغفر لإنسان ذنبه بعد موته، وهو لم يعد عاملاً حياً؟

ثم خطر لي أن قتلة عيسى أيضاً أصابهم الغفران من ذنب آدم. وكيف يُقتل الرب بيد قوم ليغفر لهم وهم القتلة ذنباً؟

ثم لماذا استوجب السابقون لمقتل عيسى عدم التكفير عنهم، واستحق اللاحقون التكفير؟ ولماذا لم يقتل عيسى قبل ذلك، حين أخطأ آدم فتغفر الخطية للجميع على السواء. وتتساوى ذرية آدم من حيث الغفران؟

وما دام الله هو القادر الذي لا يعجزه شيء، فكيف لا يستطيع أن يغفر لآدم وذريته ذنباً، إلا بقتل الإبن وصلبه والبصق في وجهه؟ وما الحكمة في تأخير هذا الأمر حتى عهد المسيح؟

ثم لماذا أذنب آدم؟ أليس إبليس هو السبب؟ أبسبب إبليس يُقتل الرب ويُهان؟ وهو لا يبالي إن غفر ذنوباً كثيرة دون أن يتكلف أية مشقة؟ فيكون عيسى فداءً لذنب آدم. وقد رأينا وتحققنا أن المفدي أجلّ من الفادي منطقياً. فهل يكون ذنب آدم أجلّ عند الله من عيسى؟

وخطر لي أن إبليس هو الجاني على آدم أحقّ بالقتل من عيسى المسيح لأنه سبب العلة. فإذا أراد الله القصاص وإحقاق الحق، أفلا يكون أقرب إلى العدل أن يعذب إبليس ويُقتل لأجل عصيانه واغوائه آدم، من أن يعذب المسيح وهو الرب البريء بسبب ذنب إبليس

لست أرى بعد هذه التعاليل مانعاً من الإعتراف بأن المصلوب شبه عيسى. ولا يعجز الآب أن يخلق صورةً على مثال الابن بحيث يحسبها (حتى أمه وأصدقاؤه) أنها هي صورة المسيح، وينجي الأب المسيح من القتل والإهانة. وربما كان معنى الكلام المذكور في القرآن «وما قتلوه يقيناً» ما يقرب من ذلك. أي أن القتلة أرادوا عيسى فأصابوا شبَهه ظناً منهم إنه هو نفسه. والفداء تدبير فعله الله سابقاً، حين أمر إبراهيم أن يذبح ابنه إسماعيل. فلما تهيأ لذبحه أرسل اليه ملكاً يحمل خروفاً، وأمر أن يُذبح هذا الخروف عن إسماعيل. وطبيعي كما ترى أن المفديَّ، وهو إسماعيل، أعظم خطراً وأجلّ شأناً من الكبش، وهو الفادي. فكيف يفدي الله إسماعيل وهو الذي سيُذبح بيد أبيه الطاهرة، ولا يفدي المسيح وهو الأعز ليخلّصه من أعداء مجرمين سيقتلونه ظلماً دون أمر الله، بأيد آثمة خاطئة؟ أفلا يمكن أن يفدي الله المسيح بشَبه له، كما فدى اسماعيل بكبش، كي يظن الناظرون أن المصلوب هو عيسى، وينجي عيسى كما نجى اسماعيل من القتل. ليس ثمة ما يمنع ذلك، ولا دليل على بطلان هذا التدبير.

ولما كان البحث متشعباً وطويلاً فإني أكتفي بهذا القدر. وأرجو أن أجد لديك تعليلاً لافتراضاتي، لأن القناعة النفسية التامة تقضي أن تكون الحقائق المطروحة من القوة بحيث لا يجوز الاعتراض على موضوعها، أو جزء من موضوعها.. أسأل الله أن يكون في عونك، وأن يأخذ بيدك إلى كل ما فيه السعادة والتوفيق. راجياً لكم جميعاً الصحة والسعادة.

9 - 4 - 45 حسان

قرأت رسالة حسان وتأملت أسئلته. وأدَّى بي التأمل في خاتمة رسالته إلى الاعتقاد بأن أخي لم يقصد بأسئلته الإحراج، وإنما تمنى أن يجد عندي ما يُلقي ضوءاً على خاتمة حياة المسيح على الأرض، لأنه لم يكن قد تحرر من فكرة أهل الباطنية الذين يعتقدون بعدم موت الأنبياء، ويعبّرون عن نهاية حياتهم على الأرض بكلمة «غيبه». لذلك لم يزعجني الرجوع إلى بحث موضوع الصليب مرة أخرى. بل كان من دواعي سروري أن أجيب على أسئلته بالرسالة التالية:

عزيزي،

وصلني كتابك في وقت كانت نفسي عطْشَى إلى ورود مناهل هذه التعزيات التي أخذت محبتك الصدوقة تتحفني بها، بين عامل الودّ تارة وعامل التقدير تارة أخرى، لأنه بالرغم من شأني المتواضع ومعارفي البسيطة، أبَتْ محبتك إلا أن ترفع من شأن شخصي الضعيف.

أشكر الرب إلهي لأنه شاء أن يستخدم طريقاً عجيبة جداً، ليهديني على الطريق والحق والحياة بربنا يسوع. فستر عيوبي وغسل آثامي بدم الفداء. وها هو اليوم يستعمل هذه الآنية الخزفية التي كانت إلى عهد قريب آنية للهوان، يستعملها آنية للكرامة، معطياً لي نعمة في عينيك لكي أصبح موضع ثقتك في موضوع خطير كهذا.

عزيزي،

لقد أوردت في كتابك عشر قضايا مهمة جداً، وهي تدفعني الآن إلى البحث والتنقيب تحت إرشاد المعلم الصالح لأُعدّ لك الأجوبة.

ولما كانت الأمور التي نحن في صددها تتعلق بمقاصد الله من جهة الإنسان، التي أعلنها بالكلمة الموحى بها بالروح القدس، فإنني أرجوك أن تقترب معي من إعلانات الله خالعين نعالنا أمام قدسيته، وحاسرين الرأس أمام مجده، قانعين بما أعلنه لنا من أسرار ملكوته ومقاصده المباركة بالفداء.

ولنقترب من إعلانات الحق متحررين من كل فكر جدلي أو تفسير عقلي، لأن كلمة الله أرفع وأجلّ من أن تخضع لفحص البشر، وأسمى وأقدس من أن تتناولها الحكمة البشرية بموازين المنطق، الذي كان وما زال يخضع لعوامل إنسانية تتأثر بالأهواء والبيئة.

ولنبتعد عن فكرة ترمي إلى جعل حقائق الله منطبقة على ميولنا وأذواقنا، أو أي اعتقاد خاطىء تسرَّب إلينا عن السلف وقبلناه كأمر مسلَّم به دون بحث. ولنطلب إلى صاحب الحق السماوي أن يعطينا النعمة وروح الفهم، لنهدم كل ظن وكل علو يرتفع ضد معرفة الله، لأن التصدي لحقائق الله بعلم أم بحكمة بشرية معناه محاولة القلب البشري الساقط المدنس بالخطيئة الخاطئة ضد الله.

قال الرسول بولس: «يَا لَعُمْقِ غِنَى ٱللّٰهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ ٱلْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ ٱلٱسْتِقْصَاءِ! لأَنْ مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟ أَوْ مَنْ سَبَقَ فَأَعْطَاهُ فَيُكَافَأَ؟.لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ. لَهُ ٱلْمَجْدُ إِلَى ٱلأَبَدِ. آمِينَ» (رومية 11: 33-36).

قراءة رسالتك تؤكد لي أنك ملمّ بالأسباب التي أوجبت الفداء، غير أن نظرك إليه لا يزال متأثراً ببعض الإعتبارات العقائدية التي تتشبث بالمنطق. وأنا مع اعتباري لهذه الناحية، فبعد شروحاتي السابقة، أرى نفسي محمولاً بالإخلاص إلى العُتب على ترددك أمام حقيقة الفداء. وإن شهادتي للحق الذي حررني تدفعني اليوم لأسالك مرة أخرى برأفة الله أن تبتعد عن كل تفسير أو تعليل عقلي في تقصّيك حقائق الله المعلنة في كتابه العزيز، والتي بحسب كلام الله «لَمْ تَأْتِ نُبُّوَةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (2بطرس 1: 21).

والآن أقدم لك في ما يلي الأجوبة على القضايا التي أثرتَها في رسالتك الأخيرة.

1 - لكل حادثة ظاهرة مقابل غير ظاهر

إنه منطق بارع ورشيق حقاً في تصوير الحوادث. هذا إذا كان لها ظاهر و باطن، كما أردت أن تجعل لها. صحيح أن الإنسان يقع في الأوهام والمرئيات، ويخضع أحياناً لسيطرة الإيحاء. ولكن هذه لا شأن لها في معلنات الله عن الفداء، فهي قد أُعطيت بوضوح لا يقبل التأويل، ونفذت بكل دقة بحيث جاءت الحوادث المدونة في الإنجيل متمّمة للنبوات التي وردت في أسفار الأنبياء والمزامير.

وتعترف معي أن الله منزَّه عن كل تمويه أو غش لأنه قدوس كامل صالح صادق، وإنه يجري كل أعماله ببساطة ووضوح كأشعة شمس النهار التي تشرق في كل صباح. فإذا قال مثلاً في بداءة التكوين: ليكن نور (تكوين 1: 3) فلا بد أن يكون النور. وإذا فصل بين النور والظلمة (تكوين 1: 4) فلا بد أن يكون النور غير الظلمة، والظلمة غير النور. هكذا إعلانات الله واضحة، لا باطن فيها ولا مكتوم، ولا يجوز أن تقبل التأويل، لأن سياسة الله للبشر تقوم عليها. وحياتهم الأبدية ترتكز على التعليم الوارد فيها.

أنت تعلم أن الله أعلن ذاته، وعبَّر عن مشيئته للناس في العهد القديم عن طريق الوحي، ومن البديهي أن يجعل إعلاناته واضحة لكي لا يضع البشر أمام ألغاز متعذّرة الفهم، لئلا يلجأوا إلى الحَدْس والتخمين.

أما في العهد الجديد فقد أعلنها بالكلمة المتجسد يسوع المسيح، الذي فيه تمَّت كل النبوات وتحققت بمجيئه كل الرؤى. وبرسله الأطهار خُتمت الشريعة. وفي هذا يقول الكتاب المقدس: «اَللّٰهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ ٱلآبَاءَ بِٱلأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هٰذِهِ ٱلأَيَّامِ ٱلأَخِيرَةِ فِي ٱبْنِهِ - ٱلَّذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ» (العبرانيين 1: 1-2) وكان الله واضحاً جداً لا لبس فيه ولا غموض، ولا باطن ولا مكتوم.

وكل متتبع لإعلانات الله منذ تكوين العالم إلى أن خُتمت الكتابة المقدسة، يرى أن إعلانات الله عن الفداء تأكدت وتمت بحوادث عيانية غير مبطنة. فأشباه الحقيقة في العهد القديم صارت حقيقة في العهد الجديد، لأن الله نور وليس فيه ظلمة البتة.

ففي حادثة صلب المسيح لجأ أصحاب نظرية إبدال المسيح بشبه إلى التعليل، بينما نحتاج إلى حقائق. وهذه الحقائق ليس فقط موجودة في الإنجيل، بل هي مرتكزة على أساس النبوات التي تحفل بها الكتابة المقدسة في الأنبياء والمزامير.

2 - رُئي المسيح مصلوباً.

فمما يمكن أن يُقال استناداً لتعليل القرآن إن المسيح شبَه له، ولا يعجز الآب أن يخلق صورة على مثال الابن بحيث يحسبها حتى أمه وأصدقاؤه أنها صورة المسيح، وينجى الآب، الخ...

سامحني إذا أعربت لك عن عدم ارتياحي لتفسيرك حادثة الصلب بالتعليل والافتراض، لأن التعليل هو من نصيب الذين توقعهم النصوص الغامضة والأقوال المتضاربة في الشك. أما يسوع الذي أنار الحياة والخلود، فلقد اتخذ كل حيطة لكي لا يترك للشك مجالاً لزرع التأويل والإفتراض، لأنه وهو بعد في الجسد أعلن لتلاميذه وللعالم اجمع بصراحة أنه أتى إلى العالم ليموت على الصليب، مقدّماً نفسه ذبيحة إثم ليفدي البشر من لعنة الناموس. وأن موت المسيح على هذه الصورة تمم النبوات التي قيلت قبل التجسّد بمئات السنين - راجع رسالتي السابقة. ونحن يا عزيزي لسنا مُجبَرين على اعتماد نصوص القرآن في بحثنا طالما الإنجيل موجود وفيه شهادة الذين رافقوا المسيح وتتلمذوا على يده، وشاهدوا حادثة صلبه وحدّثوا بها واتخذوها موضوعاً رئيسياً للتعليم والكرازة.

القرآن يا أخي لم يسجل أقوال شهود عيان لموت المسيح، وإنما أورد ذكره بإيجاز، بحيث لا نستطيع من خلاله أن نتتبع الحادثة ونلمسها. فبينما هو يقول «يا عيسى ابن مريم، إني متوفيك ورافعك إليَّ» يؤكد أن المسيح لا يستطيع الارتفاع إلى السماء إلا بعد الموت. فإن كان هو الآن في السماء، فهذا يعني أنه قد مات. فلا بد من الرجوع إلى الإنجيل، وإلى التاريخ، وإلى واقع الكنيسة المسيحية التي تأسست وقامت على مسيح مصلوب.

أما إذا أخذنا قول القرآن «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم» بحرفيته، وقرنَّاه بعدم كيفية الوفاة، يطلّ علينا استنتاج مذهل، وهو أن المسيح لم يمت. فإن كان لم يمت، فالمعنى أنه ليس في السماء. وإن لم يكن في السماء فهو على الأرض. وإن كان على الأرض أطلب إليك أن تدلّني على مكان وجوده.

وما دمت متشبّثاً بالتعليل المنطقي، فلماذا لا تقبل الرأي القائل عند بعض من يودّون التوفيق بين نص القرآن ونص الإنجيل، أن القول «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم»لا ينفي تاريخية حقيقة الصليب، لأن غاية اليهود كانت قتل يسوع المعلم لمنع انتشار مبادئه. وبما أن مبادىء يسوع قد انتشرت بعد موته أكثر منها في أيام جسده، فقد فشل اليهود في مقاصدهم بحيث يمكن القول منطقياً «وما قتلوه، وما صلبوه».

ولكن خير لك أن تترك التعليل في هذا الموضوع وأن ترجع إلى النصوص الإنجيلية الصريحة، وتقابلها مع النبوات، فهذا أسلم للبحث.

والآن إسمح لي أن أغيرّ الكلمة الأولى في عبارتك أعلاه، فأضع كلمة «شوهد» بدلا من «رئي» لأن حادثة الصليب لم تكن مجرد رؤيا دبرها الله وقصد بها أن يوهم الناس أن المسيح مات مصلوباً، بينما هو لم يمت. وإنما مات إنسان أُلقي عليه شبَهه. بل هي حقيقة تمت تبعاً لمشورته المحتومة وعلمه السابق. بحيث يصبح الاعتراض على حادثة الصليب تكذيباً لما أُوحي به للأنبياء، وطعناً صريحاً في صدق وأمانة الله، واتهاماً له بالتراجع في خططه التي أعدها منذ الأزل وأعلنها للبشر.

مع أنني قدمت لك سابقاً طائفة من الأدلة والبراهين على صلب المسيح، فإنني لن أترك هذه المناسبة تمرّ دون أن أذكر لك بعض الأمور التي اقترنت بصلب المسيح. والتي تؤكد أن هذا حدث فعلاً:

1 - العجائب

يخبرنا البشير متى أنه لما أسلم يسوع الروح كانت الساعة نحو السادسة، فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة. وأظلمت الشمس، وانشقَّ حجاب الهيكل إلى إثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت، والقبور تفتّحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين، وخرجوا من القبور بعد قيامته، ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين (متّى 27: 50-54).

لقد كانت ظاهرة غريبة أثَّرت فى الطبيعة، وأثارت عناصرها. كما أنها أثرت في النفس البشرية وأدهشتها، حتى أن قائد المئة الروماني الوثني ومن معه آمنوا بالمسيح المصلوب، وقالوا: «حقا كان هذا إبن الله» لأن هذه الظاهرة الفريدة في بابها لم تحدث من قبل ولا من بعد عند موت أي إنسان.

2 - القيامة

تتمة لقول الرب يسوع للكتبة والفريسيين «انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في اليوم الثالث» قام المسيح من القبر وظهر لتلاميذه هكذا:

أ - للنساء - جاء في الإنجيل أنه حين بزغ فجر يوم الأحد «جَاءَتْ مَرْيَمُ ٱلْمَجْدَلِيَّةُ وَمَرْيَمُ ٱلأُخْرَى لِتَنْظُرَا ٱلْقَبْرَ. وَإِذَا زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَدَثَتْ، لأَنَّ مَلاَكَ ٱلرَّبِّ نَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَجَاءَ وَدَحْرَجَ ٱلْحَجَرَ عَنِ ٱلْبَابِ، وَجَلَسَ عَلَيْهِ. وَكَانَ مَنْظَرُهُ كَٱلْبَرْقِ، وَلِبَاسُهُ أَبْيَضَ كَٱلثَّلْجِ. فَمِنْ خَوْفِهِ ٱرْتَعَدَ ٱلْحُرَّاسُ وَصَارُوا كَأَمْوَاتٍ. فَقَالَ ٱلْمَلاَكُ لِلْمَرْأَتَيْنِ: لاَ تَخَافَا أَنْتُمَا، فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكُمَا تَطْلُبَانِ يَسُوعَ ٱلْمَصْلُوبَ. لَيْسَ هُوَ هٰهُنَا، لأَنَّهُ قَامَ كَمَا قَالَ. هَلُمَّا ٱنْظُرَا ٱلْمَوْضِعَ ٱلَّذِي كَانَ ٱلرَّبُّ مُضْطَجِعاً فِيهِ. وَٱذْهَبَا سَرِيعاً قُولاَ لِتَلاَمِيذِهِ إِنَّهُ قَدْ قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ. هَا هُوَ يَسْبِقُكُمْ إِلَى ٱلْجَلِيلِ. هُنَاكَ تَرَوْنَهُ. هَا أَنَا قَدْ قُلْتُ لَكُمَا. فَخَرَجَتَا سَرِيعاً مِنَ ٱلْقَبْرِ بِخَوْفٍ وَفَرَحٍ عَظِيمٍ، رَاكِضَتَيْنِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ. وَفِيمَا هُمَا مُنْطَلِقَتَانِ لِتُخْبِرَا تَلاَمِيذَهُ إِذَا يَسُوعُ لاَقَاهُمَا وَقَالَ: سَلاَمٌ لَكُمَا. فَتَقَدَّمَتَا وَأَمْسَكَتَا بِقَدَمَيْهِ وَسَجَدَتَا لَهُ. فَقَالَ لَهُمَا يَسُوعُ: لاَ تَخَافَا. اِذْهَبَا قُولاَ لإِخْوَتِي أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى ٱلْجَلِيلِ، وَهُنَاكَ يَرَوْنَنِي» (متى 28: 1-10).

هذه حادثة مدونة بالوحي في الكتاب العزيز ولا يمكن لمصدق كلمة الله أن ينكرها. وإذا تجرأ أحدهم أن ينكرها، فكأنه يزعم أن الله علّم الملائكة أن يموّهوا على الناس. فهل تصدق هذا؟

ب - لتلميذي عمواس - نقرأ في الإنجيل أن تلميذين كانا منطلقين إلى قريتهما عمواس، وهما يتكلمان عن صلب يسوع. فاقترب إليهما يسوع المقام نفسه، ولكن أعينهما أُمسكت عن معرفته. فسألهما عما يتحدثان، فقال له أحدهما وهو كلوباس: «ألم تسمع بالأحداث التي جرت في أورشليم، المختصَّة بيسوع الناصري؟ هذا كان نبياً مقتدراً بالفعل والقول: كيف أسلمه رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب لقضاء الموت وصلبوه. ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن بعض النساء منا حيَّرننا إذ كن باكراً عند قبره ولم يجدن جسده. وقد أخبرن بأنهن رأين منظر ملائكة، قالوا إنه حي». فقال لهم يسوع: «أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء! أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟» ثم ابتدأ يفسّر لهما النبوات المختصّة به في جميع الكتب.

ولما وصلوا إلى القرية وجلس معهما أخذ خبزاً وبارك وكسر وناولهما. حينئذ عرفاه، ولكنه سرعان ما اختفى عنهما (لوقا 24: 12-31).

لاحظ أن يسوع ذكَّر تلميذيه بالحقائق المختصّة بموته على الصليب وقيامته، كما جاء في أسفار الأنبياء. ثم فسر لهما معنى النبوات مؤكداً أنها تمت بصورة صريحة واضحة.

ج - للأحد عشر - يقصّ علينا يوحنا حادثة ظهور يسوع للأحد عشر فيقول: «وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، وَهُوَ أَّوَلُ ٱلأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ ٱلأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ ٱلتَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ ٱلْخَوْفِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي ٱلْوَسَطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ. وَلَمَّا قَالَ هٰذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ ٱلتَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا ٱلرَّبَّ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً: سَلاَمٌ لَكُمْ. كَمَا أَرْسَلَنِي ٱلآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يوحنا 20: 19-21).

لا أظنك يا أخي تعتقد أن شخصاً عادياً يستطيع الدخول والأبواب مغلقة. فلا بد أن يكون هو المسيح نفسه، بدليل وجود الجراح في يديه وجنبه. وقد حرص أن يريهم جراحه ويجعلهم يلمسونها ليتحدى كل تأويل أو تعليل من النوع الذي ملأ ظنونك.

وترى معي الآن وضوح هذا الأمر، فلا باطن له أبداً، فأي مصلوب آخر غير المسيح ما كان ليستطيع الخروج من القبر، لأن القبر أمسك كل جسد طواه الثرى، ما عدا جسد قدوس الله.

وحاشا للشاهد الأمين أن يستغل بساطة الذين آمنوا به ليمثّل مسرحية خادعة، أقل أضرارها أنها تترك تلاميذه فريسة للأوهام والمرئيات، وبالتالي تأسيس ديانة على خدعة ماكرة!

وهل يليق بالرب من السماء الذي قال: «للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» دعماً لمسرحية خادعة، أن يترك تلميذه توما يجثو عند قدمي ممثل، ويقول له: «ربي وإلهي»(يوحنا 20: 28).

هناك حقيقة مهمة قالها الرسول بولس وهي أنه لا يقدر أحد أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس (1كورنثوس 12: 3) فحين سمع توما نداء المعلم: «هات اصبعك إلى هنا وأبصر يديَّ. وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً» قال بالروح القدس: «ربي وإلهي».

ليتني أستطيع التحوّل إلى قوة توسل لأسألك برأفة الله أن تقف من إعلانات السماء موقفاً إيجابياً، فتكف عن التمسك بالنظريات التي وضعها معلمون من البشر عقبة في سبيل الباحثين عن الحق، وأن تنبذ أفكارهم المتجنية على الحقيقة. لأنه أمام حق الله يجب أن نتنازل عن الأفكار التي تسرّبت إلينا من السلف، وعاشت فينا حيناً من الدهر، حتى تحولت عندنا إلى نقطة عقائدية يصعب التنازل عنها.

في رسالتي السابقة أوردت لك ما فيه الكفاية من أقوال الله على لسان أنبيائه ورسله عن الفداء الذي أعده الله في المسيح، وذكرت لك طائفة من أقوال الرب يسوع نفسه، والتي يؤكد فيها أنه جاء إلى العالم ليبذل نفسه فدية عن كثيرين، حتى أصبحتُ أربأ بك وأنت المطّلع على مقاصد الله في الفداء، والمفكر الحر الذي تراءت له الحقائق، أن تقف محجماً وراء أفكار سفسطائية وتعاليل منطقية، أقل ما فيها أنها تشبه آراء أهل الحلول والباطنية. وأن تتخذ من هذه الأفكار قاعدة للبحث في أمر هو أكثر الأمور خطورة.

إن افتراض الشبَه محل المسيح على الصليب أمر ينقصه الدليل البديهي، فلا نبوة ولا واقع يسنده. إنه مجرد تخمين، والتخمين لا يشكل دليلاً يمكن الركون إليه في قضية مهمة كهذه. ولو كان الآب يريد أن ينجي الاإن، كما ذكرت في رسالتك، لكان أجدر به أن يبيد أعداء المسيح بإحدى معجزاته، كما فعل حين نجَّى نبيَّه وكليمه موسى من فرعون وجيشه. كان في وسعه أن يرفعه إليه كما رفع أخنوخ وإيليا، وأعين الأعداء شاخصة، بدلاً من اعتماد حيلة ملتوية خادعة لا تليق بجلاله وقداسته. قال شاعرنا الكبير بدوي الجبل:

لا يخدع الله قوماً يؤمنون به فتلك خدعة إنسان لإنسان

لم يرفض المسيح الصليب، لا لأنه مفروض عليه، بل لأنه قبله كعمل حب فدائي، وفقاً لقوله: «لِهٰذَا يُحِبُّنِي ٱلآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً» (يوحنا 10: 17و 18).

وبالمقابلة بين هذه الآية وما جاء في سفر الأعمال 2: 22-24 تلمع أمام أعيننا حقيقة الفداء، وهي أن المسيح بناءً على المشورة الإلهية تقدم بالحب الأزلي ليصنع مسرة الآب بفداء الإنسان، فتمَّ ما قيل بإشعياء النبي: «أَمَّا ٱلرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِٱلْحُزْنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ وَمَسَرَّةُ ٱلرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ. مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ، وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (إشعياء 53: 10-11).

إنك في تعليلاتك واجتهاداتك لم تأت بشيء جديد، فحكاية الشَّبه وردت على ألسنة الناس، ومفادها أنه حين جاء اليهود ليلقوا القبض على يسوع صنع الرب معجزة، بإلقاء شبه يسوع على يهوذا الإسخريوطي، أما يسوع نفسه فقد حجبه عن الأعين، فقبض اليهود على يهوذا وأخذوه وصلبوه. وفي لغة أخرى، إن يسوع استغل خديعة الله للناس، فتسلل من البستان، ثم فر إلى بلاد نائية حيث انتهت حياته كما تنتهي حياة جميع الناس.

هل تصدق هذه الحكاية يا حسان؟ هل من المعقول أن يلقى القبض على يهوذا ولا يملأ الدنيا صراخاً واحتجاجاً في وجه شركائه، الذين أتى بهم لإعتقال يسوع؟!

إنها لحكاية مسكينة حقاً نُسجت من خيوط الأوهام، التي هي أوهن من خيوط العنكبوت.

ورب حلم تناقلته الليالي والخيالات فاستحال نبياً

إنني أربأ بك وأنت الساعي وراء الحقيقة أن تجعل من هذه الحكاية سنداً للبحث، ليس لأنها سخيفة وحسب، بل لأن حدوثها مستحيل للأسباب التالية:

  1. من الناحية العملية - فيهوذا حسب رواية الإنجيل بعدما سلم سيده وقع تحت تأنيب الضمير. وربما كان ذلك على أثر عتاب المسيح الرقيق له: «يا يهوذا، أبقبلة تسلم إبن الإنسان؟!» وقد اشتدّ عليه التبكيت إلى درجة أنه ذهب للكهنة ليرجع المال الذي تقاضاه منهم. ولكن الكهنة رفضوا وحمّلوه وزر فعلته، فذهب إلى الخلاء وخنق نفسه. فلو كان يهوذا هو الشخص الذي وقع عليه الشبَه واعتُقل وسيق موثوقاً إلى المحاكمة، لما كان في استطاعته الذهاب إلى الهيكل لإرجاع المال، لأن الرؤساء والجند لم يفارقوا الأسير لحظة منذ أن أُلقيت عليه الأيادي إلى أن عُلِّق على الصليب.
  2. من الناحية الأدبية - لو قبلنا جدلاً بالتعليل الذي قدمته، لكان علينا أن نفترض أن الشخص الذي ذهب لإرجاع المال لم يكن يهوذا بل المسيح نفسه. ولكي تتم فصول المسرحية التي دبّرها مع الله يجب أن يخنق نفسه، أو أن يخلق إنساناً على صورة يهوذا وشبَهه ويخنقه!!! ولا أظنك تقبل في أن تنسب إلى القدوس الحق كوميديا من هذا النوع الذي لا يليق بأحط إنسان.
  3. الناحية المنطقية - من المستحيل أن نصدق أن الذي عُلق على الصليب لم يكن المسيح نفسه، لأن الكلمات السبع التي نطق بها المصلوب كانت مليئة بمعاني الحب والطهارة وغنى النعمة، مما لا يمكن صدوره عن شفتي يهوذا الجبان الخائن.

    ولو تصفحنا سجل التاريخ واستعرضنا جميع الأشقياء نظيره الذين أُعدموا على الصليب، لعلمنا أنهم ساعة احتضارهم تفوَّهوا بأشنع التجاديف وأقبح الشتائم. أما يسوع فقد بدأ كلماته بالغفران، وختمها بالقول قد أُكمل، عن عمل الفداء الذي هو أسمى تعبير للحب.

  4. الناحية السلبية - لم يقع الباحثون في موت المسيح على أية وثيقة يفند فيها بعض من شهدوا حادثة الجلجثة، رومان أو يهود أو سواهم، رواية الرسل وجمهرة المؤمنين عن موت المسيح على الصليب. على العكس فإن مؤرخي ذاك الزمن أكدوا أن يسوع الذي يُدعى المسيح مات مصلوباً.

عزيزي حسان،

إن شعوري بترددك في قبول هذه الحقائق يجعلني أرجح أنك ستتساءل: ولكن هل مات المسيح فعلاً على الصليب؟ وقد يكون هذا السؤال وجيهاً بالنسبة لك، ولكنه سيبدو سخيفاً إذا وضع في ضوء الحقائق الراهنة التي ذُكرت في الكتاب المقدس، وأيّدها التاريخ:

  1. الرواية التي سردتها الأناجيل الأربعة والتي تشكّل دليلاً تاريخياً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنها حوت شهادة طائفة من شهود العيان عما نظروه ولمسوه وسمعوه.

    ومن المسلَّم به قانوناً أن أهم الأدلة ما يدلي به شهود العيان. وتزداد الشهادة قيمة إذا اتَّصف صاحبها بالأخلاق الحميدة. وهذا متوفر لدينا، لأن الشهود الذين دوّنوا في الإنجيل ما نظروه ولمسوه عند صليب المسيح كانوا من الحواريين الذين اتصفوا بالأمانة والخلق الكريم، مما يجعل مناقشتهم أو الشك في صدقهم تجنياً على الحق. وخصوصاً أن هذا النفر من صحب المسيح وأنصاره صرفوا ما تبقى من سني حياتهم يكرزون بين الناس بالإنجيل، جابوا أقاصي الأرض حاملين هذه الحقيقة، لا تثنيهم لا أتعاب ولا اضطهادات ولا عذاب الموت. وهذا دليل لا يستطيع أحد دحضه.

  2. .شهادة أسفار العهد الجديد الأخرى نجد في هذه الأسفار التي كُتبت بوحي من الله عرضاً وافياً لتعاليم الرسل وكرازتهم التي قدموا فيها للعالم مسيحاً مصلوباً، حتى أن أحدهم قال: «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ ٱلْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَم» (غلاطية 6: 14).
  3. شهادة النبوّة. تكلم أنبياء العهد القديم عن موت المسيح، وصرّحوا أن الغاية من تجسده هي تقديم نفسه ذبيحة لفداء الجنس البشري. وقد أشار المسيح نفسه إلى هذه النبوات في حديثه لتلاميذه بعد قيامته. في الواقع أن موسى وداود وإشعياء ودانيال وزكريا تنبأوا عن موت المسيح، إما بنبوات صريحة، أو بأمثال رمزية. ونجد تتمة كل هذه النبوات في العهد الجديد، مما يؤلف سلسلة من الأدلة التي لا يستطيع إنكارها إلا الجهلاء أو المغرضون.
  4. شهادة التاريخ. سبق أن استعرضنا شهادات عدد من المؤرخين الذين أجمعوا على الثقة في ما ورد في الكتاب المقدس عن موت المسيح. وما دمنا في جو التاريخ، ألفت نظرك إلى قول المسيح لتلاميذه: «ٱذْهَبُوا إِلَى ٱلْعَالَمِ أَجْمَعَ وَٱكْرِزُوا بِٱلإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس 16: 15) فأطاع التلاميذ أمر سيدهم، ونشروا الإنجيل في كل مكان وخلال ستمائة سنة قبل ظهور الإسلام. والإنجيل الذي نشروه يتلخص بكلمة واحدة وهي أن المسيح «أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا» (رومية 4: 25).

وكيف يمكن لإنسان، أياً كانت قدرته في التعليل المنطقي، أو براعته في الكتابة، أن يكذّب شعوباً برمتها اتفقت بالرغم من تفاوتها في اللغة القومية على حَدَث مهم مُشاهَد ومنقول بالتواتر؟ وهل فاتك العلم بأن قرآن المسلمين نفسه ينقل إلينا شهادة الأمة اليهودية: «إنا قتلنا عيسى بن مريم» والأمة اليهودية نقلت هذا الخبر بالتواتر عبر العصور والأجيال، أباً عن جد إلى إبن، إلى يومنا هذا. وهل في وسع أحد أن يكذّب الشهود الذين رأت عيونهم ولمست أيديهم وكتبوا شهادتهم بمداد اليقين، وخصوصاً بعد مرور ستة قرون على جريان الحوادث. وتواتر الشهادة التي لم يرتفع خلالها صوت واحد للطعن بصحتها، لا من اليهود الذين تبجّجوا بقتل المسيح، ولا من الوثنيين الذين تواطئوا معهم على ارتكاب أشنع جرائم التاريخ، ولا من المسيحيين الذين قبلوا حقيقة الصليب وكرزوا بها رسالة للخلاص لكل من يؤمن!؟

والآن لو تصفحنا سور القرآن، هل نجد فيها ما ينفي موت المسيح؟ كلا، على العكس فإننا سنجد خمسة نصوص على الأقل تؤيده:

  1. «وَٱلسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً» (مريم 19: 33) ففي هذا النص شهادة واضحة كرائعة النهار على حقيقة موت المسيح وبعثه، أي قيامته. وذلك على شكل نبوة ترتكز على معجزة، وكل تفسير غير ذلك يدّعي أن الموت لا يعني الموت العاجل، بل الآجل، يكون حذلقة فاشلة ينقصها سياق الحديث في السورة كلها.
  2. «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ» (البقرة 2: 87) والكلمة «تقتلون» تناقض الفكر أن المسيح نقله الله إلى السماء قبل موته.
  3. «ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّ ٱللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ ٱلنَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِٱلْبَيِّنَاتِ وَبِٱلَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟» (آل عمران 3: 183).

    فمن هو الرسول الذي قتلوه بعد أن أتاهم بالقربان، أي المائدة من السماء حسب رواية القرآن إن لم يكن عيسى بن مريم؟

  4. «إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ» (آل عمران 3: 55).

    قال الرازي نقلاً عن ابن عباس ومحمد بن اسحاق إن الوفاة هنا تعني الموت. وقال وهب: لقد توفى الله عيسى ثلاث ساعات ثم رفعه إلى السماء. وقال محمد بن إسحاق: توفى الله عيسى سبع ساعات ثم أحياه الله ورفعه. وقال البيضاوي: أمات الله عيسى سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء. وقال الربيع بن أنس إنه تعالى توفاه حين رفعه إلى السماء.

  5. «وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ ٱعْبُدُوا ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» (المائدة 5: 116و 117).

فهذه النصوص جميعها تثبت وفاة المسيح بحيث تصبح محاولات بعض المفسرين لتأويل كلمة الوفاة بالإستيفاء أمراً ضعيفاً. وهذا ما ذهب إليه الزمخشري، توفيقاً بين نصوص القرآن.

أيها العزيز،

ما دمنا نسعى لإزالة ضباب الشك عن البصائر، دعنا نعود مرة أخرى إلى الكلام عن الشبَه. هذه النظرية التي أُشيعت بين سواد المسلمين، والتي مفادها أن إنساناً صُلب بدلاً من المسيح. وقد بُنيت هذه النظرية على أساس أن الله لا يسمح أن يقع على المسيح هذا النوع من الموت المخزي المشين، الذي هو أقرب إلى الانتقام منه إلى الخضوع لسُنة الموت. ويستشهد المتمسكون بهذه النظرية لدعم روايتهم، بما جاء في الآية 157 من النساء: «وقولهم إنا قتلنا المسيح ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم. وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه، ما لهم به من علم إلا اتباع الظن، وما قتلوه يقيناً بل رفّعه الله إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً».

فهذه العبارة «شُبّه لهم» هي علة جميع الروايات التي أخرجها المفسرون وأثارت جدلاً وانقساماً في الآراء. وقد أبدى الإمام الرازي رأيه في هذا الموضوع، فقال: وهذه الوجوه متعارضة متدافعة والله أعلم بحقائق الأمور. فكيفما كان ففي إلقاء شبَه عيسى على الغير إشكالات:

  1. أنه إن جاز أن يقال إنه تعالى يلقي شبَه عيسى على آخر، فهذا يفتح باب السفسطة، ويؤدي إلى القدح في التواتر. ففتح هذا الباب أوله سفسطة وآخره إبطال النبوات بالكلية.
  2. إنّ الله أيده بروح القدس. فهل عجز هنا عن تأييده؟ وهو نفسه كان قادراً على إحياء الموتى، فهل عجز عن حماية نفسه؟
  3. إن الله كان قادر على تخليصه برفعه إلى السماء. فما الفائدة من إلقاء الشبهة على غيره؟ وهل في هذا إلا إلقاء مسكين في القتل من غير فائدة إليه؟
  4. بإلقاء الشبَه على غيره اعتقدوا أن هذا هو عيسى، مع أنه ما كان عيسى. فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس. وهذا لا يليق بحكمة الله.
  5. إنّ النصارى على كثرتهم في مشارق الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح وغلوّهم في أمره أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً ومصلوباً. فلو أنكرنا ذلك كان طعناً فيما يثبت بالتواتر. والطعن بالتواتر يوجب الطعن بنبوة محمد وعيسى وسائر الانبياء.
  6. ألا يقدر المشبوه به أن يدافع عن نفسه أنه ليس بعيسى؟ والمتواتر أنه لم يفعل. ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلف هذا المعنى. فلما لم يوجد شيء من ذلك علمنا أن الأمر ليس كذلك.

لذلك يجب رفض خرافة الشبه، الشائعة بين بعض المسلمين إلى حيث لا رجعة. ورفضها لا يغيّر شيئاً من موقف القرآن، ومقالة سورة النساء.

هذا هو رأي الإمام الرازي. ولا نظن أن علاّمة كالرازي، الذي اشتهر بفضله ونزاهته، أراد أن يخلق تناقضاً في القرآن بين سوره، وبين القرآن والإنجيل. وإنما الطريق السوي لفهم آية النساء 157 هو دراستها بعمق على ضوء الآيات المقارنة، وبالمقابلة بنصوص الإنجيل التي تظهر هدف اليهود من قتل المسيح.

في القسم الأول من رسالتي هذه تكلمت بإيجاز عن قصد اليهود من قتل المسيح. ولكن استكمال البحث يحملني على العودة إلى ما كتبه يوحنا في إنجيله عن هدف اليهود في قتل المسيح. يقول يوحنا: «فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ ٱلْكَهَنَةِ وَٱلْفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعاً وَقَالُوا: مَاذَا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هٰذَا ٱلإِنْسَانَ (أي يسوع) يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةً. إِنْ تَرَكْنَاهُ هٰكَذَا يُؤْمِنُ ٱلْجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي ٱلرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُذُونَ مَوْضِعَنَا وَأُمَّتَنَا. فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قَيَافَا، كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ: أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، وَلاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ ٱلشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ ٱلأُمَّةُ كُلُّهَا. وَلَمْ يَقُلْ هٰذَا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ ٱلسَّنَةِ، تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ ٱلأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ ٱلأُمَّةِ فَقَطْ، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ ٱللّٰهِ ٱلْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يوحنا 11: 47-52).

وحين علقوه على الصليب وأودعوه القبر، ظنوا أنهم قد انتهوا منه ومن آياته. ولكن بما أن انجذاب الألوف إليه بالصليب، الذي هو آية الآيات قد تم بسرعة بعد موته، يمكننا القول إنهم ما قتلوه. ويخبرنا القديس لوقا في سفر أعمال الرسل، أنه بعد برهة وجيزة من موت المسيح وقيامته وصعوده أقبل بطرس في مجمع اليهود مندداً بالرؤساء الذين تآمروا على يسوع وصلبوه (أعمال 2: 41).

فاليهود إذن لم يبلغوا هدفهم في القضاء على يسوع صانع الآيات، بل شُبّه لهم. ما قتلوه يقيناً بل ظنوا ذلك، لأن القبر لم يستطع أن يمسكه، بل قام من الأموات في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء بعد أربعين يوماً من قيامته. وتم القول: «والسلام عليَّ يوم وُلدت ويوم أموت ويوم أُبعث حياً» وكذلك صعود المسيح من دنيانا إلى حيث كان منذ البدء الكلمة عند الله، لم يضع حداً لآياته التي وعد باستمرارها بواسطة رسله الأطهار ومختاريه، حين قال: «وَهٰذِهِ ٱلآيَاتُ تَتْبَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ: يُخْرِجُونَ ٱلشَّيَاطِينَ بِٱسْمِي، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ جَدِيدَةٍ. يَحْمِلُونَ حَيَّاتٍ، وَإِنْ شَرِبُوا شَيْئاً مُمِيتاً لاَ يَضُرُّهُمْ، وَيَضَعُونَ أَيْدِيَهُمْ عَلَى ٱلْمَرْضَى فَيَبْرَأُونَ» (مرقس 16: 17 و18). وهكذا صار يسوع آية للعالمين في ولادته وحياته وتعليمه وموته وصعوده، وامتداد ملكوته.

قبل أن أنهي البحث في هذا الموضوع، أرى لزاماً عليَّ أن أتصدّى لزعم آخر لا يقل سُخفاً عن الزعم بالشبَه، وهو النظرية التي تقرّ أن يسوع عُلّق على الصليب فعلاً ولكنه لم يمت، وإنما أُغمي عليه، فظن اليهود أنه مات، فدُفن في قبر منحوت في الصخر. وبعد وقت قصير استرد وعيه ثم تسلل من قبره، مختفياً عن الأعين، وفرَّ إلى بلاد نائية حيث قضى نحبه كأي إنسان. وحجتهم في ذلك هي أن دماء الميت تتخثر حالما تحدث الوفاة ولا تسيل كما سالت دماء يسوع حين طعنه جندي روماني بحربة في جنبه.

ولكن هذه الحجة فنَّدها طبيب اسكتلندي، هو السير جيمس سمبسون. وهو العالم المشهور الذي اكتشف استعمال البنج في العمليات الجراحية. فقد كتب نبذة أكدّ فيها أن يسوع مات بما اصطلح الأطباء على تسميته بارتشاح الدم. وأكدّ أن الذي يموت على هذه الصورة تتمدد ذراعاه وتصدر عنه صرخة عالية، وينفجر جدار قلبه، فيتدفق منه الدم غزيراً. ويمكث الدم بعضاً من الوقت في الغشاوة. ثم يتحول قسم منه إلى مصل يشبه الماء. وهذا ما قاله يوحنا، مع أنه لم يكن يعرف الطب، وإنما كان دقيق الملاحظة وملهماً بالروح القدس. فأحسن وصف ما جرى أمام عينيه.

والآن لنقارن بين ما كتبه يوحنا وما يقرّ به الطب، فقد ورد في انجيله أن ذراعي المسيح كانتا ممدودتين أفقياً، وكانت كفاه مسمرتين على خشبة الصليب. وقد بقي ست ساعات في هذا الوضع، ثم «صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ وَأَسْلَمَ ٱلرُّوحَ» (مرقس 15: 37) «لِكَيْ لاَ تَبْقَى ٱلأَجْسَادُ عَلَى ٱلصَّلِيبِ فِي ٱلسَّبْتِ، لأَنَّ يَوْمَ ذٰلِكَ ٱلسَّبْتِ كَانَ عَظِيماً، سَأَلَ ٱلْيَهُودُ بِيلاَطُسَ أَنْ تُكْسَرَ سِيقَانُهُمْ وَيُرْفَعُوا. فَأَتَى ٱلْعَسْكَرُ وَكَسَرُوا سَاقَيِ ٱلأَّوَلِ وَٱلآخَرِ ٱلْمَصْلُوبَيْنِ مَعَهُ. وَأَمَّا يَسُوعُ فَلَمَّا جَاءُوا إِلَيْهِ لَمْ يَكْسِرُوا سَاقَيْهِ، لأَنَّهُمْ رَأَوْهُ قَدْ مَاتَ. لٰكِنَّ وَاحِداً مِنَ ٱلْعَسْكَرِ طَعَنَ جَنْبَهُ بِحَرْبَةٍ، وَلِلْوَقْتِ خَرَجَ دَمٌ وَمَاءٌ. وَٱلَّذِي عَايَنَ شَهِدَ، وَشَهَادَتُهُ حَقٌّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ لِتُؤْمِنُوا أَنْتُمْ. لأَنَّ هٰذَا كَانَ لِيَتِمَّ ٱلْكِتَابُ ٱلْقَائِلُ: عَظْمٌ لاَ يُكْسَرُ مِنْهُ. وَأَيْضاً يَقُولُ كِتَابٌ آخَرُ: سَيَنْظُرُونَ إِلَى ٱلَّذِي طَعَنُوهُ» (يوحنا 19: 31-37).

وقد عُرف هذا النوع من الموت عند العامة بالقلب المنكسر، وفقاً للقول الذي تنبأ به داود: «ٱلْعَارُ قَدْ كَسَرَ قَلْبِي» (مزمور 69: 20).

والآن لنعد إلى الإدّعاء بالإغماء، فقد قال أصحاب هذا الزعم إن المسيح وهو في حالة من الضعف والقنوط، بدأ يفقد رشده شيئاً فشيئاً. وقبل أن يُغمى عليه ندت عنه تلك الصرخة اليائسة.

كثيراً ما تكون الحقائق جارحة وأليمة. ولكن يفترض في الباحث عنها أن يتحلى بالنزاهة وحُسن النية، فلا يرسل الكلام على عواهنه في سبيل دعم ادعاء. لقد ذكر يوحنا في إنجيله أن يسوع بعدما شرب قليلاً من الخل، قال: «قد أُكمل». وهذه العبارة في اللغة التي كُتب بها الإنجيل تُقال عند تسديد حساب ما. فهي إذن لم تكن صرخة يائس لإثارة شجن سامعيه، وإنما كانت هتاف منتصر أطلقه يسوع حين أتم عمل الفداء ودحر قوة إبليس، وصار في استطاعة كل مؤمن به أن يخلص من عبودية الخطية. وحينئذ هتف: «قد أُكمل» ومات قرير العين لأنه تمم المشيئة الإلهية بالفداء العظيم، وفقاً لإعلانات السماء والنبوات.

3 - لماذا صلب المسيح؟ وكيف لا يستطيع الله أن يغفر لآدم و ذريته إلا بقتل الابن؟

كنت أعتقد أن رسالتي السابقة بما ضمّنتُها من اقتباسات كتابية أحاطتك علماً بالأسباب التي لأجلها صُلب المسيح. أما وقد صِغت سؤالك هذا في قالب يستلزم المزيد من الشرح، فلا بد لي من العودة إلى الموضوع معقباً على ما ذكرته لك عن سقوط آدم لسبب التعدي على وصية الله، وكيف أن السقوط رتَّب طرده من الفردوس، فراح يضرب في جنبات الأرض التي لُعنت بسببه، وعلى الأرض الملعونة أنجب نسلاً لا صلاح فيه، بدليل ميله الفطري إلى الشر. فامتلأت الأرض شراً.

وفي هذا يقول الكتاب المقدس: «وَرَأَى ٱلرَّبُّ أَنَّ شَرَّ ٱلإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي ٱلأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَّوُرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تكوين 6: 5) وكان لا بد لعدل الله أن يحكم بالهلاك، فقد قال الرب: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ ٱلأَرْضِ ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي خَلَقْتُهُ» (تكوين 6: 7) ومن هنا كان قول الرسول: «بِإِنْسَانٍ وَاحِدٍ دَخَلَتِ ٱلْخَطِيَّةُ إِلَى ٱلْعَالَمِ، وَبِٱلْخَطِيَّةِ ٱلْمَوْتُ، وَهٰكَذَا ٱجْتَازَ ٱلْمَوْتُ إِلَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ، إِذْ أَخْطَأَ ٱلْجَمِيعُ» (رومية 5: 12).

بيد أنه كما تميّز الله بالعدل الذي هو ترجمان بره، هكذا تميّز أيضاً بالرحمة التي هي ترجمان محبته. فهو كامل عدلاً، وكامل حباً. غير أن العدل لا يسوغ أن يهلك الإنسان على حساب كماله في المحبة. وهذه المحبة لا يجوز أن تنقذ الإنسان من الهلاك على حساب كماله في العدل. ولكي يكون الله كاملاً في كل شيء، تطوّع الكلمة الذي كان في البدء عند الله وأخذ جسداً ليفدي الإنسان من الهلاك. بمعنى أنه على صليب المسيح تصالح الضدان: العدل والرحمة.

ومن المعروف أن العناية الإلهية علَّمت البشر في كل الأجيال أن الله يعاقب الخطية. ولكنها لم تعلّم بأنه يتغاضى عن الذنب. لقد علمتهم بالناموس الذي أُعطي لموسى:«وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ» (لاويين 11: 44) وأنذرتهم بالأنبياء: «اَلنَّفْسُ ٱلَّتِي تُخْطِئُ هِيَ تَمُوتُ» (حزقيال 18: 20).

على أن ناموس موسى لم يتجاوز وظيفة المعلم، وتحذيرات الأنبياء لم تتجاوز وظيفة المنذر. وبديهي أن لا هذا ولا تلك تستطيع شفاء الضمير المجروح ولا استئصال شوكة الخطية من النفس.

إن عناية الله في العهد القديم أظهرت كمالاته الأدبية جزئياً بوجه الهيبة الإلهية. أما الفداء فقد كشف كل كمالات صفاته الأدبية، اذ أنه بالفداء أُعلنت الرحمة، وعُرف القلب المملوء بالمحبة.

يا أخي،

ليس من الممكن أن قرباناً مادياً يقدر أن يفدي النفس الخالدة التي خُلقت على صورة الله، كما أنه ليس في وسع التوبة أن تجعل من الإنسان باراً. قد يتوب الإنسان خارج الفداء ولكنه يبقى تحت الضعف، فيقع مرة ومرات في الإثم مما يجعل الفداء أمراً ضرورياً لأجل سلامه. وقد عرفنا من الإنجيل ومن الإختبار أن الذين فداهم الله بدم يسوع وتصالح معهم، فهؤلاء بررهم وحررهم من سلطان الخطية. الخطية لن تسودهم بعد (رومية 6: 14).

واضح أن فكر الله في الفداء وُجد منذ البدء. وقد أمر الله اليهود قديماً أن يشيروا إليه بالذبائح التي هي حجر الزاوية في الناموس الموسوي. وقبل أن يُعطَى الناموس المكتوب كان الآباء كنوح وإبراهيم ويعقوب وأيوب وغيرهم يمارسون خدمة الذبائح رمزاً، وكانت معرفتهم فيها تزداد وضوحاً جيلاً بعد جيل. وكلهم ينتظرون مجيء المسيح ويعيشون على رجائه، ويكفّرون عن خطاياهم بالذبائح التي ترمز إليه، لذلك نالوا الخلاص الذي أتمه فعلاً في الأيام الأخيرة.

ولما أعطى الله الناموس فصَّل طريقة معالجة الخطية، فقسم الحيوانات إلى طاهرة ونجسة. وعلّم الشعب أنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة، وأمر الخاطىء أن يقدم ذبيحة، وشدد أن تكون من الحيوانات الطاهرة التي لا عيب فيها، لأنها كانت تشير إلى يسوع، ذبيح العهد الجديد الذي هو قدوس وبلا عيب.

26 - تعيين الوسيط (أسئلة حائرة - تابع)

«لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (1تيموثاوس 2: 5 و6).

لشرح موضوع الوساطة لا مندوحة لي من العودة مرة أخرى إلى السقوط والعدل والقصاص والرحمة. فأقول: لقد فُطر الإنسان على حالة تُلزمه أن يتأمل في المستقبل، لأن ضميره يخبره بأن كل أعماله ستُرفع إلى قاضٍ عادل، وأن أعماله الشريرة تجعله يشعر بالمذنوبية، وأن يخشى القصاص الذي يهدد سعادته المرجوّة في العالم الثاني. وقد أجمعت الأديان السماوية على أن الإنسان الفاسد الذي يطلق لشهواته العنان لا يستطيع أن يواجه الله، لأنه عاش في أهواء هوان جسده الفاسد حسب شهوات الغرور. أي أنه أحب جسده، ومحبة الجسد هي عداوة لله.

ولكن إن كان الإنسان في حبه للجسد صار عدواً لله، فليس معنى هذا أنه صار يبغض كل صفات الله. فأكثر الناس شراً لا يكره رحمة الله، بل أنه يطمع فيها ويرجو أن تتناوله بالصفح فلا يحرم رضى الله.

جاء في الرسالة إلى الأفسسيين: « كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، ٱلَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ ٱلْمَسِيحِ وَٱللّٰهِ» (أفسس 5: 5) وجاء في سفر الرؤيا:«وَلَنْ يَدْخُلَهَا - أي السماء - شَيْءٌ دَنِسٌ وَلاَ مَا يَصْنَعُ رَجِساً وَكَذِباً، إِلاَّ ٱلْمَكْتُوبِينَ فِي سِفْرِ حَيَاةِ ٱلْحَمَلِ» (رؤيا 21: 27) وهذه العبارات تذكرنا بقول المسيح لأحد فقهاء اليهود: «ٱلْحَقَّ ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ ٱللّٰهِ» (يوحنا 3: 3) ونفهم من هذا أن الإنسان الساقط لكي يرث الحياة الأبدية يجب أن يستعيد صورة الله في البر وقداسة الحق. أي الصورة التي كانت لآدم قبل السقوط. وهذا مستحيل عليه بقدر ما هو مستحيل عليه أن يبعث نفسه من الموت. ولكن غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله، فالله الذي «يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ ٱلنَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ ٱلْحَقِّ يُقْبِلُونَ» (1تيموثاوس 2: 4) عنده «ٱلرَّحْمَةَ وَعِنْدَهُ فِدًى كَثِيرٌ» (مزمور 130: 7). وهو يفدي من يرجع إليه من كل آثامه. إنه «طَوِيلُ ٱلرُّوحِ كَثِيرُ ٱلإِحْسَانِ، يَغْفِرُ ٱلذَّنْبَ وَٱلسَّيِّئَةَ» (عدد 14: 18) وقد عبّر عن إرادته بقبول الخاطئ إذا رجع اليه «حَيٌّ أَنَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ ٱلشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ ٱلشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا» (حزقيال 33: 11).

ولكن إن غفر الله خطايا المذنب فيجب أن يكون هناك سبب كاف لغفرانها. وهذا الوجوب يملي علينا الحاجة إلى وسيط صلح قادر بوجاهته أمام الله ان يحيي نفوسنا المائتة، وأن يلبسنا بره لنظهر أمام الله في المحبة قديسين وبلا لوم. وهذا الوسيط الوجيه يجب أن يكون:

  1. إنساناً - نصَّ الرسول أن سبب اتخاذ يسوع طبيعتنا لا طبيعة الملائكة، هو أنه هبط إلى دنيانا لكي يفدينا. فكان ضرورياً أن يولد تحت الناموس الذي خالفناه لكي يكمل كل بر، ويتألم ويموت ذبيحة ليكفّر عن خطايانا، وأن يشترك في حياتنا البشرية ويختبر ضعفاتنا، كما هو مكتوب: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ ٱلأَوْلاَدُ فِي ٱللَّحْمِ وَٱلدَّمِ ٱشْتَرَكَ هُوَ أَيْضاً كَذٰلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِٱلْمَوْتِ ذَاكَ ٱلَّذِي لَهُ سُلْطَانُ ٱلْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولٰئِكَ ٱلَّذِينَ خَوْفاً مِنَ ٱلْمَوْتِ كَانُوا جَمِيعاً كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ ٱلْعُبُودِيَّةِ. لأَنَّهُ حَقّاً لَيْسَ يُمْسِكُ ٱلْمَلاَئِكَةَ، بَلْ يُمْسِكُ نَسْلَ إِبْرَاهِيمَ. مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيماً، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِيناً فِي مَا لِلّٰهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ. لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ ٱلْمُجَرَّبِينَ» (العبرانيين 2: 14-18).
  2. أن يكون بلا خطية - فإن الذبيحة التي كانت تُقدَّم للتكفير عن الخطايا كان يجب بحسب ناموس موسى، أن تكون بلا عيب. هكذا الذي يقدم نفسه لله ذبيحة عن خطية العالم يجب أن يكون هو نفسه بلا خطية، لأنه يستحيل أن يكون المخلّص من الخطية خاطئاً، لأن الخاطىء لا يستطيع الدخول إلى أقداس الله ليقدم نفسه ذبيحة إثم. كما أنه لا يستطيع أن يكون مصدراً للقداسة والحياة الأبدية لشعبه إن لم يكن هو نفسه باراً قدوساً. «لأَنَّهُ كَانَ يَلِيقُ بِنَا رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هٰذَا، قُدُّوسٌ بِلاَ شَرٍّ وَلاَ دَنَسٍ، قَدِ ٱنْفَصَلَ عَنِ ٱلْخُطَاةِ وَصَارَ أَعْلَى مِنَ ٱلسَّمَاوَاتِ ٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ ٱضْطِرَارٌ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ رُؤَسَاءِ ٱلْكَهَنَةِ أَنْ يُقَدِّمَ ذَبَائِحَ أَوَّلاً عَنْ خَطَايَا نَفْسِهِ ثُمَّ عَنْ خَطَايَا ٱلشَّعْبِ، لأَنَّهُ فَعَلَ هٰذَا مَرَّةً وَاحِدَةً، إِذْ قَدَّمَ نَفْسَهُ. فَإِنَّ ٱلنَّامُوسَ يُقِيمُ أُنَاساً بِهِمْ ضُعْفٌ رُؤَسَاءَ كَهَنَةٍ. وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلْقَسَمِ ٱلَّتِي بَعْدَ ٱلنَّامُوسِ فَتُقِيمُ ٱبْناً مُكَمَّلاً إِلَى ٱلأَبَدِ»(العبرانيين 7: 26-28).
  3. أن يكون إلهاً - لأنه لا يقدر الإنسان العادي أن يبيد سلطان الشيطان الذي سمَّاه الكتاب المقدس إله هذا الدهر (2كورنثوس 4: 4) ورئيس هذا العالم (يوحنا 12: 31) ورئيس سلطان الهواء (أفسس 2: 2) لذلك كان يستلزم وساطة شخص إلهي لينقذ البشر الذين سباهم عدو البر والصلاح. ولا يقدر على القيام بعمل الفداء العظيم إلا من هو قادر على كل شيء، وله حكمة ومعرفة غير محدودتين، ليكون رأس كنيسته وديَّاناً للجميع. ولا يقدر أن يكون مصدراً للحياة الروحية لجمهور المفديين إلا من حلَّ فيه كل ملء اللاهوت. ولا يقدر أن يكون حلقة اتصال بين الله والناس إلا الله الذي ظهر في الجسد.

فجميع هذه الصفات التي يعلّم الكتاب المقدس بضرورتها لتأهيل الوسيط للقيام بهذه الوظيفة اجتمعت في يسوع، ونتج عن توفر هذه الصفات في مخلّصنا يسوع أن وساطته التي أجرت المصالحة بين السماء والأرض تشمل كل ما فعل وما زال يفعله لخلاص البشر، سواء بآلامه النيابية على الصليب، أم بشفاعته كرئيس كهنة جالس عن يمين العظمة في الأعالي. وكلها كانت أعمال شخص إلهي. فالذي أخلى نفسه وأخذ صورة عبد وأطاع حتى الموت هو رب المجد.

وإذا أردت أدلة على أن المسيح هو الوسيط الوحيد بين الله والناس، فالمسيحية غنية بالأدلة الصريحة القوية منها:

  1. نص الكتاب الواضح بقوله: «يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ، ٱلَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ ٱلْجَمِيعِ» (1تيموثاوس 2: 5).
  2. قيام يسوع بجميع ما تقتضيه الوساطة في كل ما يختص بالكفّارة والشفاعة على الأرض وفي السماء، وفقاً للقول الرسولي: «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ فَلَنَا شَفِيعٌ عِنْدَ ٱلآبِ، يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ ٱلْبَارُّ. وَهُوَ كَفَّارَةٌ لِخَطَايَانَا. لَيْسَ لِخَطَايَانَا فَقَطْ، بَلْ لِخَطَايَا كُلِّ ٱلْعَالَمِ» (1يوحنا 2: 1 و2).. «فَمِنْ ثَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضاً إِلَى ٱلتَّمَامِ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى ٱللّٰهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ لِيَشْفَعَ فِيهِمْ» (العبرانيين 7: 25).
  3. قيام يسوع بجميع ما يترتب على وساطته إلى درجة الكمال، حتى لم يبق وجه لدخول غيره في ذلك «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى ٱلأَبَدِ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (العبرانيين 10: 14).
  4. كون المسيح المخلّص الوحيد. فقد جاء في سفر الأعمال: «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ»(أعمال 4: 12).
  5. لا محل لوسيط آخر بيننا وبين المسيح، لأن المسيح صار أخاً لنا ورئيس كهنة يشفع فينا (العبرانيين 2: 11 و 17) ويدعونا إليه بواسطة روحه القدوس الذي يعمل في قلب الإنسان، ويساعده، ويقنعه، ويجدده، ويقوده إلى المسيح بنور المعلنات الإلهية (يوحنا 15: 21).

فلا ريب أن المسيح هو وسيطنا الوحيد: «لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلآبِ» (أفسس 2: 18).

27 - عودة إلى الذبيحة (أسئلة حائرة - تتمة)

«فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (العبرانيين 10: 10).

في رسالتي السابقة، وتحت عنوان الفداء، قدمتُ لك عرضاً موجزاً للذبيحة في التاريخ المقدس. ولكن أسئلتك الأخيرة حملتني على العودة إلى هذا الموضوع.

يخبرنا الكتاب المقدس أن بعض قرابين العهد القديم كان دموياً، وبعضها غير دموي، وأن قسماً من القرابين الدموية يُسمى ذبائح الخطية وأهمّها ذبائح يوم الكفّارة العظيم. والتي كان يُقصد بها:

1 - استعطاف الله واستغفاره حتى يرضى، وتصير مغفرة الذنب التي قُدِّمت الذبيحة لأجل نوالها أمراً لائقاً بالصفات الإلهية.

2 - ستر الخطية للذين نالوا هذا الرضى الإلهي بواسطة التكفير عن الذنب بذبيحة أخرى تغطيها حتى لا يراها الله بعد مستوجبة القصاص. وقد أشار المرنم إلى هذه الحقيقة حين قال: «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ. طُوبَى لِرَجُلٍ لاَ يَحْسِبُ لَهُ ٱلرَّبُّ خَطِيَّةً، وَلاَ فِي رُوحِهِ غِشٌّ» (مزمور 32: 1 و2).

3 - بيان أن التكفير البدلي قد تمَّ بالعقاب النيابي، بمعنى أن الحيوان الذبيح قد حل مكان المذنب فتحمَّل ذنبه، واحتمل القصاص الذي استوجبه. وهذا التعليم تؤيده الأدلة التالية:

* كانت ذبائح العهد القديم عن الخطية للتكفير، ويتضح هذا من أقوال الكتاب المقدس، إذ يسميها قرابين الخطية، وقرابين الإثم. وعلّم بأن ذبائحها تحمل الإثم وتكفّر عنه. وعلى هذا يكون القصد منها الحصول على المغفرة، التي لا تُنال بالتوبة والإصلاح - مع أنهما مطلوبان - قبل تقديم الذبيحة وسفك دمها. أي بدفع نفس عن نفس وحياة عن حياة، وفقاً للقول الرسولي: «وَكُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً يَتَطَهَّرُ حَسَبَ ٱلنَّامُوسِ بِٱلدَّمِ، وَبِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لاَ تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ» (العبرانيين 9: 22).

وذُكر في سفر اللاويين أن سبب تحريم الدم في الطعام هو أن الدم قد أُفرز للتكفير، إذ يقول: «كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ ٱلْغُرَبَاءِ ٱلنَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكُلُ دَماً، أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ ٱلنَّفْسِ ٱلآكِلَةِ ٱلدَّمَ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا، لأَنَّ نَفْسَ ٱلْجَسَدِ هِيَ فِي ٱلدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى ٱلْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ» (لاويين 17: 8-11).

أما الشروط لقبول الذبيحة فهي أن تكون الحيوانات طاهرة وبلا عيب، لأنها ترمز إلى المسيح القدوس الكامل، الذي صار بديلاً للخطاة. وأن يقدم المذنب ذبيحة إظهاراً لاعترافه بأنه مستحق العقاب بسبب خطيته، وأن يضع يديه على رأس الذبيحة، إشارة إلى الإبدال. أي أنه يضع ذنبه على رأس الحيوان على نوع رمزي. وأن يحمل رئيس الكهنة الدم إلى قدس الاقداس، ويرشه على تابوت العهد، دلالة على أن الخدمة قد انتهت إلى الله، إيفاءً لعدله والتماساً لغفران الخطية.

وفي يوم الكفّارة العظيم كانوا ينتخبون تيسين من المعز ليكون أحدهما ذبيحة خطية، أما الآخر فكان يُطلق في البرية. وقبل إطلاقه كان رئيس الكهنة يضع يديه على رأسه ويقر بكل ذنوب الشعب وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم، ويجعلها على رأس التيس، ويرسله بيد من يلاقيه في البرية، فيحمل التيس كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة (لاويين 16: 21و 22). وقد حرص الوحي على تفسير هذا الرمز في إشعياء النبي، مشيراً إلى حمَل الله يسوع الذي حمل في جسده خطايانا على الصليب، إذ يقول: «كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَٱلرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا َعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (إشعياء 53: 6و 11).

وتعلم كلمة الوحي في العهد الجديد أن كهنوت العهد القديم بذبائحه لم يكن إلا ظلاً لكهنوت المسيح يسوع وذبيحته. وإنما في المقابلة بين العهدين والذبيحتين قال الرسول: «فَكَانَ يَلْزَمُ أَنَّ أَمْثِلَةَ ٱلأَشْيَاءِ ٱلَّتِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ تُطَهَّرُ بِهٰذِهِ، وَأَمَّا ٱلسَّمَاوِيَّاتُ عَيْنُهَا فَبِذَبَائِحَ أَفْضَلَ مِنْ هٰذِهِ. لأَنَّ ٱلْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى أَقْدَاسٍ مَصْنُوعَةٍ بِيَدٍ أَشْبَاهِ ٱلْحَقِيقِيَّةِ، بَلْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ عَيْنِهَا، لِيَظْهَرَ ٱلآنَ أَمَامَ وَجْهِ ٱللّٰهِ لأَجْلِنَا. وَلاَ لِيُقَدِّمَ نَفْسَهُ مِرَاراً كَثِيرَةً، كَمَا يَدْخُلُ رَئِيسُ ٱلْكَهَنَةِ إِلَى ٱلأَقْدَاسِ كُلَّ سَنَةٍ بِدَمِ آخَرَ... وَلٰكِنَّهُ ٱلآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ ٱنْقِضَاءِ ٱلدُّهُورِ لِيُبْطِلَ ٱلْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ» (العبرانيين 9: 23-26).

كانت ذبائح العهد القديم في مجالها الخاص المحدود تقوم بالقصاص البدلي. فكم بالحري ذبيحة المسيح في مجالها الأعلى غير المحدود تكفر وتخلّص إلى التمام.

* شهدت النبوة في إشعياء أن هذا التعليم العظيم لم ينحصر في نظام العهد القديم الرمزي، بل نصَّ عليه بالإستيفاء فعلاً، لأنه لم يقتصر على الإنباء بأن المسيح سيكون رجل أوجاع ومختبر الحزن، ومذلولاً ومهاناً، وأنه سيُقتل قتلاً فظيعاً لأجل الآخرين فقط. بل أيضاً أخبر أنه سيتحمل العقاب عوضاً عنا. قال: «تَأْدِيبُ سَلاَمِنَا عَلَيْهِ، وَبِحُبُرِهِ شُفِينَا» (إشعياء 53: 5).

وقد تسألني: لماذا لم يُبْقِ الله رسوم العهد الموسوي فيتابع الناس الكفّارة بالذبائح، فلا يبذل إبنه الوحيد لإرضاء العدل الإلهي ومحو خطايا البشر؟ فأقول: كان هذا ممكناً لو لم يشمل الإله الأمم بالوعد للخلاص. وتبعاً لذلك سُمِّي المسيح «مُشْتَهَى كُلِّ ٱلأُمَمِ» (حجي 2: 7). ولما كانت ترتيبات العهد القديم تختص بشعب اليهود فقط، كان لابد أن تُبطل، ويجىء عهد أفضل، يشمل كل الأمم والشعوب والألسنة. عهد أقوى من العهد الذي قام على طقوس ورسوم دعاها الرسول بولس «ٱلأَرْكَانِ ٱلضَّعِيفَةِ ٱلْفَقِيرَةِ»(غلاطية 4: 9) وقد صرّح أنها من جهة الضمير لا تقدر أن تكمل الذين يقدمونها (العبرانيين 9: 9) وعزى السبب إلى محدودية العهد نفسه «لأَنَّ ٱلنَّامُوسَ، إِذْ لَهُ ظِلُّ ٱلْخَيْرَاتِ ٱلْعَتِيدَةِ لاَ نَفْسُ صُورَةِ ٱلأَشْيَاءِ، لاَ يَقْدِرُ أَبَداً بِنَفْسِ ٱلذَّبَائِحِ كُلَّ سَنَةٍ، ٱلَّتِي يُقَدِّمُونَهَا عَلَى ٱلدَّوَامِ، أَنْ يُكَمِّلَ ٱلَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ... يَنْزِعُ ٱلأَّوَلَ لِكَيْ يُثَبِّتَ ٱلثَّانِيَ. فَبِهٰذِهِ ٱلْمَشِيئَةِ نَحْنُ مُقَدَّسُونَ بِتَقْدِيمِ جَسَدِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ مَرَّةً وَاحِدَةً» (العبرانيين 10: 1-10).

نفهم من هذا التعليم أنه قد جاء وقت فيه رفض الله القرابين المادية، التي «لا يمكن أن تزيل سلطان الخطية عن المتقدمين بها». وقد أعلن ذلك في إشعياء، حيث يقول:«لِمَاذَا لِي كَثْرَةُ ذَبَائِحِكُمْ؟» يَقُولُ ٱلرَّبُّ «ٱتَّخَمْتُ مِنْ مُحْرَقَاتِ كِبَاشٍ وَشَحْمِ مُسَمَّنَاتٍ، وَبِدَمِ عُجُولٍ وَخِرْفَانٍ وَتُيُوسٍ مَا أُسَرُّ» (إشعياء 1: 11) ولسبب ضعفها أبطلها الله. وفي هذا يقول الرسول: «فَإِنَّهُ يَصِيرُ إِبْطَالُ ٱلْوَصِيَّةِ ٱلسَّابِقَةِ مِنْ أَجْلِ ضُعْفِهَا وَعَدَمِ نَفْعِهَا، إِذِ ٱلنَّامُوسُ لَمْ يُكَمِّلْ شَيْئاً. وَلٰكِنْ يَصِيرُ إِدْخَالُ رَجَاءٍ أَفْضَلَ بِهِ نَقْتَرِبُ إِلَى ٱللّٰهِ» (العبرانيين 7: 18و 19).

ويذكر الرسول التفاوت بين عهد الذبائح وعهد النعمة، فيقول: «فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ذٰلِكَ ٱلأَّوَلُ بِلاَ عَيْبٍ لَمَا طُلِبَ مَوْضِعٌ لِثَانٍ» (العبرانيين 8: 7).

ومما مهد الطريق أمام ترتيب الإنجيل، هو إبطال أشياء كثيرة من نوافل العهد القديم منذ السبي، وأهمها:

أ - زوال مجد الهيكل عندما هُدم وأُخذت آنيته. متى تقرر مجيء الشخص الذي يرمز الهيكل إليه يزول مجد هذا الهيكل.

ب - ضياع لوحي الشهادة اللذين كتب الله عليهما الوصايا العشر باصبعه وأعطاهما لموسى على جبل سيناء.

ج - زوال سحابة المجد (الشكينا) التي كانت تغطي تابوت العهد وتُشعر بوجود مجد الله في الهيكل.

د - فقدان النار التي كانت محفوظة في الهيكل منذ أن نزلت من السماء والتهمت الذبيحة الأولى (2أيام 7: 1) وكان حفظها بناءً على وصية وردت في لاويين 6: 13. فهذه النار أُطفئت حين هدم الأشوريون الهيكل.

4 - ولكن آدم ما دامت خطيته لم تُغفر، فقد مات واستحق غضب الله. وهذا يعني أن جميع من سبق المسيح حتى آدم في النار:

كلا يا عزيزي، ليس جميع من سبق المسيح في النار، لأن توبة الذين رجعوا إلى الله منهم، والتي اقترنت بالذبائح الكفّارية التي قدموها بالإيمان، حصلت لهم على غفران الخطايا.

أما آدم نفسه فقد شمل وزوجه خلاص الله، عندما سمعا الوعد بفادٍ يأتي من نسل المرأة ليسحق رأس الحية. وحينما شعرا بخزي عريهما ألبسهما الله أقمصة من جلد، إشارة إلى أنه غفر إثمهما وستر خطيتهما. ونستنتج من إستعمال جلود الحيوانات لستر عريهما أن الله قد فداهما بذبائح دموية.

5 - جميع الذين جاءوا بعد المسيح مغفور لهم ذنب آدم، ففريق محظوظ وفريق غير محظوظ:

كلا يا عزيزي، ليس جميع الذين جاءوا بعد المسيح مغفور لهم، وإنما الله في المسيح فتح باب المصالحة مع البشر على مصراعيه، إذ قال: «هٰذَا هُوَ ٱبْنِي ٱلْحَبِيبُ ٱلَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ ٱسْمَعُوا» (متى 17: 5) وبهذا الإعلان وضع شرطاً للخلاص هو أن نسمع كلام إبن الله. ومن حسن حظ الإنسانية، أن يكون كلام ابن الله دعوة للخلاص، لأنه قال:«تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متى 11: 28) «كُلُّ مَا يُعْطِينِي ٱلآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجاً» (يوحنا 6: 37).. «هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. إِنْ كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَٱلْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَٱلثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ حَمْرَاءَ كَٱلدُّودِيِّ تَصِيرُ كَٱلصُّوفِ» (إشعياء 1: 18) فكل الذين سمعوا كلامه، وأقبلوا إليه خلصوا، وكل الذين دخلوا معه في المحاجة على أساس الفداء برَّرهم بدم العهد الأبدي. والله من فرط محبته الغنية بالرحمة لم يغلق باب المصالحة، بل تركه مفتوحاً، بحيث لا يزال في وسع أي إنسان أن يُقبل إلى المخلّص وينال باسمه غفران الخطايا. فقد قال له المجد: «هَئَنَذَا وَاقِفٌ عَلَى ٱلْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ ٱلْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 3: 20) إذا لا يوجد فريق محظوظ وآخر غير محظوظ، لأن الله في خلاصه لم يمّيز بين إنسان وإنسان، كما هو مكتوب: «لاَ فَرْقَ. إِذِ ٱلْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 22و 23).

6 - قتلة يسوع أصابهم الغفران:

من البديهي أن المسيح الذي علّم الناس: «أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون اليكم» أن يصلي لأجل الذين أساءوا إليه. وقد صلى فعلاً لأجل صالبيه: «يَا أَبَتَاهُ، ٱغْفِرْ لَهُمْ» (لوقا 23: 34) فجاءت طلبته إنجازاً لما كُتب بالأنبياء «وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء 53: 12).

بيد أن هذا الغفران الذي سأله الفادي لأجل أعدائه لم يشمل إلا الذين تابوا وآمنوا به، وعاشوا كما يحق لإنجيله في البر وقداسة الحق.

7 - لماذا لم يُقتل المسيح قبل ذلك حين أخطأ آدم؟ وما الحكمة في تأخير هذا الأمر؟

لم يكن ممكناً أن يُقتل المسيح قبل مجيئه إلى العالم وتجسده. وكان يجب أن يحدث هذا المجيء في وقت عيَّنه الله منذ الأزل، وسماه الرسول بولس «ملء الزمان». وعملياً لم يكن العالم قد تهيأ لمجيئه، لأنه كما تقول الكلمة الرسولية كان قاصراً تحت وصية الناموس إلى الوقت المؤجَّل من الآب (غلاطية 4: 1-4).

صحيح أن الأرض وقعت تحت اللعنة بسبب خطية آدم، إلا أن الله قضى بحكمته أن اللعنة يجب أن تأخذ مفعولها مرة قبل إصلاح كل شيء بالمسيح، وذلك بواسطة خراب عمومي تتغير به هيئة الأرض لتظهر نتائج السقوط الردية قبل حصول الإصلاح.

وأيضاً مجيء المسيح لم يكن مناسباً قبل مجيء موسى، لأن الناس لم يكونوا بوجه العموم قد زاغوا كلياً عن الله، أي أنهم لم يكونوا بأجمعهم واقعين في ظلمة الأوثان.

وربما كان من جملة الأسباب لعدم مجيء المسيح قبل الطوفان أو بعده مباشرة، أن الله أراد أن تمتلئ الأرض من البشر لتكون له مملكة أوسع، وتكون غلبته على الشيطان أمجد.

ولم يكن مجيئه مناسباً قبل سبي بابل، لأن مملكة الشيطان لم تكن يومئذ قد بلغت أوج عظمتها، فممالك الوثنيين كانت صغيرة قبل ذلك، فاستحسن الله أن يأتي المسيح في زمان أكبر مملكة عرفها التاريخ، وهي المملكة الرومانية، التي كانت مملكة الشيطان المنظورة في هذا العالم، فيكون المسيح بغلبته على هذه المملكة قد غلب مملكة الشيطان في أوج عزها.

المهم هو أن الكلمة الذي كان في البدء عند الله، والذي منذ البدء كان نظير الله في عجائب الطبيعة وأسرار الحياة (يوحنا 1: 1-5) قد جاء أخيراً في ملء الزمن لتراه الأعين وتلمسه الأيدي، وترى الأعين مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً (يوحنا 1: 14) وكان هو الذروة العليا للمظاهر المختلفة التي أعلن الله بها ذاته للبشر. فبه لم تُعلن قوة الله وعظمته فحسب، بل أُعلن قلب الله الحنون ورحمته وعطفه ومحبته.

كان على العالم المسكين أن ينتظر حقبة طويلة من الزمن قبل أن يبزغ نور هذا الإعلان الكامل، ولكن الله كان يُعنى جد العناية بهذا العالم البائس قبل التجسد.

ويخبرنا التاريخ أنه عند مجيء المسيح كان في العالم ثلاثة شعوب هي صاحبة النفوذ في ذلك العصر، اليونان والرومان واليهود. كان اليوناني المثقف المصقول، والروماني القوي المتسلط، واليهودي المحتقر المرذول. وهذه الشعوب الثلاثة تعاونت دون أن تدري على إعداد الطريق لمجيء المسيح، مما يجعلنا نعتقد أن هذا التعاون العفوي نوع من تدبير العناية الإلهية لإعداد طريق الآتي بإسم الرب.

وقبل كل شيء نرى أن الله استخدم الرومان لإعداد الطريق بتوحيد أجزاء العالم المتمدن، وإشاعة الأمن في رحابه، بعد أن كانت عصابات النهب والسلب تعيث فيه فساداً، حتى أنه كان قبل ذلك متعذراً على أية دعوة تنبعث من الديار المقدسة أن تتعدى تخوم تلك البلاد الصغيرة.

وكذلك اليونان قاموا بنصيبهم وهم لا يدرون بإعداد طريق المسيح، وذلك بتقديم اللغة اليونانية الجميلة اللينة التي كانت قد أصبحت اللغة الرئيسية والرسمية في الإمبراطورية الواسعة. فهذه اللغة كانت أداة طيبة لنشر رسالة الإنجيل في كل ربوع العالم المتمدن.

أما اليهود الذين تشتتوا في كل أصقاع العالم فقد حملوا معهم أسفارهم المقدسة، لأن موسى أوصاهم أن يقرأوها في المجامع كل سبت. وكان من أهم عوامل الاتصال أن الكتاب المقدس تُرجم قبل المسيح بمئتي سنة إلى اللغة اليونانية، مما أتاح للعالم الوثني أن يقرأ النبوات عن المسيح المنتظَر، وبالتالي أن يستعد لقبوله. ومن الغريب أن تتحد هذه الشعوب لإعداد طريق الرب وهي لا تدري. وفي هذا دليل حاسم على وجود يد الله في الأمر.

ولعل أغرب ما في الأمر كله الإنتظار الحار الذي كان عليه الشعب اليهودي قبل مجيء المسيح. ويعزو الباحثون حرارة هذا الانتظار إلى انقطاع الوحي عنهم خلال خمسة قرون. وكان طبيعياً أن ينسى الناس، وتضعف الآمال المرتقبة. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث. بل كان شوق الناس إلى مجيء مشتهي كل الأمم يزداد كل يوم. ومما لا ريب فيه أن الأمم الذين اطلعوا على محتويات الكتابة المقدسة شاركوا اليهود في انتظارهم. ولنا دليل على ذلك في مجيء المجوس من المشرق إلى الديار المقدسة للسجود لطفل المذود.

ومما يجدر ذكره أنه عند تجسد الكلمة في مذود بيت لحم، حدثت أمور مهمة جداً أعادت الرجاء إلى قلوب منتظري الرب:

* رجوع روح النبوّة، الذي كان قد احتجب بعد ملاخي النبي، حيث توقف الرؤى والوحي. أما الآن فقد أُعطي من جديد، فظهر هذا الروح أولاً في الوحي إلى زكريا الكاهن، فأليصابات، فمريم العذراء، فيوسف، فسمعان الشيخ فحنة النبية فيوحنا المعمدان...الخ.

* الفرح العظيم الذي كمل في السماء وعلى الأرض، وأعربت عنه أجواق من الملائكة، حين أنشدوا: «ٱلْمَجْدُ لِلّٰهِ فِي ٱلأَعَالِي، وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ ٱلْمَسَرَّةُ»(لوقا 2: 14). فأهل السماء والارض كانوا يرقبون تجسد الكلمة لأنهم اطلعوا على مواعيد الله المتعلّقة بالفداء الذي أعده الله.

* دخول يسوع الطفل إلى الهيكل لتتم النبوة: «وَيَأْتِي مُشْتَهَى كُلِّ ٱلأُمَمِ، فَأَمْلأُ هَذَا ٱلْبَيْتَ مَجْداً قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ... مَجْدُ هَذَا ٱلْبَيْتِ ٱلأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ ٱلأَّوَلِ، قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. وَفِي هَذَا ٱلْمَكَانِ أُعْطِي ٱلسَّلاَمَ، يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (حجي 2: 7-9).

8 - لقد رأينا وتحققنا أن المفدى أجلُّ من المفديّ به منطقياً. فهل يكون ذنب آدم أجلّ عند الله من يسوع؟

يا أخي،

يبدو أنك في سؤالك هذا تريد إدخال المنطق البشري في حكمة الله، الأمر الذي تجنَّبه الرسل والأنبياء. فقد قال إشعياء النبي: «مَنْ قَاسَ رُوحَ ٱلرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟ مَنِ ٱسْتَشَارَهُ فَأَفْهَمَهُ وَعَلَّمَهُ فِي طَرِيقِ ٱلْحَقِّ، وَعَلَّمَهُ مَعْرِفَةً وَعَرَّفَهُ سَبِيلَ ٱلْفَهْمِ؟» (إشعياء 40: 13 و14) وقال الرسول بولس: «مَنْ عَرَفَ فِكْرَ ٱلرَّبِّ، أَوْ مَنْ صَارَ لَهُ مُشِيراً؟» (رومية 11: 34).

لا يجوز للبشر أن يعترضوا على ما دبّره الله لخلاص الإنسان، ولا أن يناقشوا طرق العلي بالمنطق الإنساني المحدود، لأنه عندما تعمل محبة الله الغنية في الرحمة لطلب النعمة متعهّدة أن تدفع كل ما هو مطلوب من الإنسان، لا يبقى لمنطق البشر مجال للتعليل. ومَنْ هو الإنسان الضعيف العاجز حتى يُجيز لنفسه فحص أفكار الله، أو وزن محبته؟! ألا يكفينا أن نعلم من إعلاناته تعإلى أن محبته للبشر غنية في الرحمة واللطف، بمقدار أنه وهو الذي اسمه «قدوس» يهتم بالساقطين مثلنا، فيدبر أمر خلاصنا؟

يا أخي، ليس لأن ذنب آدم عند الله أجلّ من يسوع، حتى يبذل الآب ابنه الوحيد. وإنما محبة الله الفائقة للإنسان المخلوق على صورة الله خالقه، دبَّرت أمر خلاصه. ففدته بما هو أثمن بما لا يُقاس من الجنس البشري.

في العهد القديم كان يُكفَّر عن خطية الإنسان بذبيحة، والذبيحة أقل قيمة من الإنسان. ولكن الله لم يكن ليقبلها لأجل قيمتها المادية، بل لأنها كانت ترمز إلى فادٍ أجلّ من الإنسان. مثلها كالورقة النقدية التي ليست قيمتها في نوع الورق وإنما بخاتم الدولة الذي تحمله. فالذبائح في العهد القديم كانت كلها ممهورة بخاتم المسيح.

9 - إبليس وهو الجاني على آدم أحقّ بالقتل من يسوع لأنه سبب العلّة.

لم تقم فكرة الله في الفداء على الإنتقام من إبليس، بل قامت على الحب العجيب الذي يريد إنقاذ الإنسان من الهاوية التي فغرت فاها لتبتلعه قصاصاً بسبب العصيان. ولمّا كان الحب الإلهي لا يتجاوز حقه وبره، استلزم الأمر أن تُقدَّم ذبيحة تليق بقداسة الله. ولما كان إبليس رجساً نجساً دنساً ساقطاً، فهو لا يصلح أن يكون ذبيحة كفّارية يتنسَّم الله من تقديمها رائحة الرضى. لما كان الله قدوساً ولا يدنو منه إلا كل مقدس، استلزم أن يكون وسيط الصلح شخصاً إلهياً، لا شيطاناً غاوياً.

إن إبليس، يا عزيزي، ما زال منذ سقوطه موضوعاً لغضب الرب الإله. وحاشا أن يقوم في نفسك فكر كهذا، أن يقدَّم الشيطان الرجيم على مذبح الله بدلاً من القدوس الحق ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح، ليتمم عملاً إلهياً كالفداء العظيم!

لقد قال المسيح عن إبليس إنه كذّاب وأبو الكذّاب، فهل يسمح الله أن نضع رجاء خلاصنا على الكذّاب، الذي كان قتَّالاً للناس منذ البدء، ولم يثبت في الحق لأن ليس فيه حق؟ (يوحنا 8: 44).

إن فكرة إيقاع الموت بالشيطان (الضد) قد وردت في بعض تعاليم أهل الباطنية الذين أخذوا أفكارهم في هذا الموضوع عن اليونانيين والفرس القدماء، وأنا أُجلُّك عن الأخذ بهذه الآراء السخيفة التي ليس لها ظل في الأديان السماوية.

10 - إن الله فدى إسماعيل بكبش، والكبش أقل شأناً من إسماعيل. أفلا يمكن أن يفدي الله المسيح بشبَهه كما فدى إسماعيل بكبش؟

يا أخي،

لا يستطيع أحد خدمة الحقيقة إلا إذا سمَّى الأشياء بأسمائها الحقيقية. وعلى هذا الأساس يجب أن نقول إن إبن إبراهيم الذي فُدي بكبش لم يكن إسماعيل بل اسحق، وإن المكان الذي جرت فيه الحادثة لم يكن جبل عرفات بل جبل المريا. وقد حرص نبي الله وكليمه موسى الموحَى إليه من الله أن يدوّن لنا الحادثة بتفصيل في الأصحاح الثاني والعشرين من سفر التكوين: «خُذِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ ٱلَّذِي تُحِبُّهُ إِسْحَاقَ وَٱذْهَبْ إِلَى أَرْضِ ٱلْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ ٱلْجِبَالِ ٱلَّذِي أَقُولُ لَكَ» (تكوين 22: 2). ولما ربط إبراهيم إبنه ووضعه على المذبح فوق الحطب، وتناول السكين ليذبحه، ناداه ملاك الرب من السماء: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى ٱلْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئاً، لأَنِّي ٱلآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ ٱللّٰهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ٱبْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي. فَرَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ وَإِذَا كَبْشٌ وَرَاءَهُ مُمْسَكاً فِي ٱلْغَابَةِ بِقَرْنَيْهِ، فَذَهَبَ إِبْرَاهِيمُ وَأَخَذَ ٱلْكَبْشَ وَأَصْعَدَهُ مُحْرَقَةً عِوَضاً عَنِ ٱبْنِهِ» (تكوين 22: 12-13).

لا يصح أن يكون الإبن الذي طُلب إلى إبراهيم أن يقدمه محرقة إلا اسحق، لأن اسحق هو إبن الموعد ووريث أبيه، وموضوع وعد الله القائل: وبنسلك تتبارك جميع أمم الأرض (تكوين 18: 18). والبركة الموعود بها هنا هي بركة الفداء الذي عمَّ جميع الشعوب والأمم بالمسيح يسوع الذي جاء في الجسد من نسل إسحق. أما إسماعيل فهو إبن الجارية هاجر. وكان ابراهيم قد طرده وأمه، قبل الحادثة بعدة سنوات. وقد جاء في الرسالة إلى غلاطية أنه «كَانَ لإِبْرَاهِيمَ ٱبْنَانِ، وَاحِدٌ مِنَ ٱلْجَارِيَةِ وَٱلآخَرُ مِنَ ٱلْحُرَّةِ. لٰكِنَّ ٱلَّذِي مِنَ ٱلْجَارِيَةِ وُلِدَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، وَأَمَّا ٱلَّذِي مِنَ ٱلْحُرَّةِ فَبِالْمَوْعِدِ» (غلاطية 4: 22).

كان الله يعلم أن لإبراهيم إبنين. ومع ذلك قال له: «خذ إبنك وحيدك اسحق» تمييزاً لإبن الموعد الذي تعيَّن من الله وارثاً للمواعيد. أما إسماعيل فكان الوعد له بأن نسله سيكون أمة عظيمة (تكوين 21: 18).

أما عن سؤالك: «أفلا يمكن أن يفدي الله المسيح بشبهه؟» فقد كتبت لك ما فيه الكفاية عن هذا التعليل الهزيل الذي لا يقبله ذو عقل، لأنه يشكّل طعناً في أمانة الله، واعتراضاً على حكمته في الفداء. وأرجو أن تجد في ما أوردته لك من براهين كتابية ما يكفيك لإعادة النظر في ما يقوله عامة المسلمين عن الشبَه، لأن نظرية الشبه لم تؤيدها وقائع ولا أدلة. وكل ما قيل في صددها هو مجرد تعليل لا يُشبع النفس المفتشة عن الحقيقة. وإن القول القرآني «شُبّه لهم» لا يكفي لحل المشكلة. هذا إذا كانت هناك مشكلة. فإذا جعلته مسنداً إلى المسيح فهو مشبَّه به وليس بمشبَّه. وإذا أسندته إلى المقتول فالمقتول لم يرد له ذكر. لذلك ترى أن النص ليس فقط غير واضح بل أنه يضفي على الحادثة ثوباً من الإلتباس بعكس رواية الإنجيل الواضحة.

وقبل أن أختم هذا البحث أود أن تعلم أن المسيح «شخص عجيب». هكذا قال إشعياء النبي بإلهام الروح القدس. لذا يمكنك أن تفني العمر في البحث والدرس لتفسير شخصيته العجيبة دون أن تحصل على طائل. ويبقى السؤال حائراً على شفتيك: كيف يمكن أن يكون إلهاً ويُصلب؟ وكيف يمكن أن يبذل الله ابنه الوحيد لأجل خاطىء داس شرائعه واستحق سخطه؟

هناك وسيلة وحيدة لفهم هذا الأمر، وهي المجيء إلى المسيح ببساطة الإيمان وسماع إعلانه: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلٱبْنَ إِلاَّ ٱلآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ ٱلآبَ إِلاَّ ٱلٱبْنُ وَمَنْ أَرَادَ ٱلٱبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ. تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ ٱلْمُتْعَبِينَ وَٱلثَّقِيلِي ٱلأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ» (متّى 11: 27 و28).

فإلى هذا الشخص العجيب الذي دُعي «الرب من السماء» والذي أعلن الله بأعماله العجيبة ومحبته الفائقة، أوجّه نظرك مرة أخرى. وإنك لواجد عنده المعرفة الصحيحة كما وجدها الرسول بولس حين آمن بالمسيح على طريق دمشق، فصار له «يَقِينِ ٱلْفَهْمِ، لِمَعْرِفَةِ سِرِّ ٱللّٰهِ ٱلآبِ وَٱلْمَسِيحِ، ٱلْمُذَّخَرِ فِيهِ جَمِيعُ كُنُوزِ ٱلْحِكْمَةِ وَٱلْعِلْمِ» (كولوسي 2: 2و 3). وإني لشاهد لك بقوة الإيمان به وببرهان الروح القدس الذي جدد حياتي، وبقوة صليبه وقيامته التي غيرّتني ونقلتني من الموت إلى الحياة، ومن ظلمة الخطية إلى نور الغفران، والبر الذي في المسيح يسوع. أشهد لك أن الصليب حقيقة لا ريب فيها، وأنه الوسيلة الوحيدة التي استطاعت أن تؤكد لي أن الله يحبني رغماً عن الخطايا التي تمرغت في أوحالها ردحاً من الزمن.

توفيق

- 28 - الزعم بتحريف الكتاب المقدس

«اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متّى 24: 35)

أخي العزيز،

نعمة لك وسلام من الله. وبعد،

برّاً بوعدي الأخير أقدم لك في ما يلي رداً على بعض السطحيين الذين يزعمون أن لا مبرر لوجود الكتاب المقدس بعد أن عُبث به وحُرّف، بخلاف الراسخين في العِلم من المسلمين الذين يسلّمون معنا بأن العناية الإلهية حفظت الكتاب العزيز من أي عبث أو إفساد. وإنهم ليقرّون معنا أن شرّ افتراء على كتاب الله هو هذا الزعم الذي تنقصه الأدلة العلمية والتاريخية.

منذ آلاف السنين أمر الله اليهود: «لاَ تَزِيدُوا عَلَى ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهِ وَلاَ تُنَقِّصُوا مِنْهُ، لِتَحْفَظُوا وَصَايَا ٱلرَّبِّ» (تثنية 4: 2) وبعد ذلك بعدة قرون شهد سليمان الحكيم:«كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ نَقِيَّةٌ. تُرْسٌ هُوَ لِلْمُحْتَمِينَ بِهِ. لاَ تَزِدْ عَلَى كَلِمَاتِهِ لِئَلاَّ يُوَبِّخَكَ فَتُكَذَّبَ» (أمثال 30: 5و 6). وفي ختام الكتاب الإلهي جاء هذا التحذير الصارم: «لأَنِّي أَشْهَدُ لِكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالَ نُبُّوَةِ هٰذَا ٱلْكِتَابِ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هٰذَا يَزِيدُ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ ٱلضَّرَبَاتِ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هٰذِهِ ٱلنُّبُّوَةِ يَحْذِفُ ٱللّٰهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ، وَمِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ ٱلْمَكْتُوبِ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ» (رؤيا 22: 18-19).

فهل بعد هذه التحذيرات الصارمة، يتجرأ مؤمن على تحريف كلام الله؟ أما أصحاب النوايا السيئة فلا يستطيعون تحريف الأسفار المقدسة، إذ يتعذر عليهم جمع آلاف النسخ التي انتشرت في رحاب الأرض ليزوَّروها.

ومن المحزن أن يقوم أناس في الأيام الأخيرة ليتهموا رسل المسيح بتزوير الإنجيل، مما يشكل طعناً بالقرآن نفسه، لأن القرآن شهد للرسل المغبوطين بالنزاهة، ودعاهم«الحواريين أنصار المسيح، وأنصار الله». وشهد أيضاً للأسفار المقدسة بالصحة.

وكل من طالع القرآن يعجب لشهادته الصريحة بصحة الأسفار الإلهية، وهي شهادة حق لا تقبل الجدل أو التأويل، وقد وردت في عدد عديد من السور منها:

* «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (المائدة 5: 47).

* «أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُّوَةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ» (الانعام 6: 89 و90).

* «قُلْ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» (سورة المائدة 5: 68).

* «وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ» (آل عمران 3: 3 و4).

* «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» (المائدة 5: 46).

* «ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً» (الحديد 57: 27).

* «يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَّزَلَ عَلَى رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِٱللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً»(النساء 4: 136).

* «قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (القصص 28: 49).

* «وَكَيْفَ يَحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ؟» (المائدة 5: 43).

من دَرْس هذه النصوص القرآنية تطل علينا الحقائق التالية:

  1. إن الآيتين الأولى والثانية تهيبان بأهل الكتاب أن يعملوا بموجب ما أنزل الله فيه.
  2. الآية الثالثة تدعو محمداً للإقتداء بهدى أهل الكتاب الذين أُوتوا الحكمة والنبوة.
  3. الآية الرابعة تفيد أن الله أنزل الكتاب العزيز لهداية البشر.
  4. الآية الخامسة تشهد لصحة التوراة وتطلب من الجميع إقامة حدودها.
  5. الآية السادسة تشهد للإنجيل بأنه منزل من عند الله، ويجب على محمد أن يخضع لأحكامه.
  6. الآية السابعة تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالكتاب المقدس.
  7. الآية الثامنة توجب على محمد الإقرار بصحة الكتاب المقدس ومساواته بالقرآن.
  8. الآية التاسعة تبيّن أن مقيم الكتاب المقدس لا يحتاج إلى كتاب آخر للتحكيم.

وليس هذا فقط، بل إن القرآن يطلب إلى محمد أن يتخذ الكتاب المقدس وسيلة لإزالة الشكوك والريب، إذ يقول:

* «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَٱسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَأُونَ ٱلْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ» (يونس 10: 94).

والمتأمل بعمق في هذه النصوص القرآنية يجد فيها شهادات صريحة للرسل والمسيحيين الأوائل بالأمانة في حفظ كتاب الله، وهي أيضاً شهادات صريحة بأن الكتاب المقدس نفسه موحى به من الله. وإنها تتفق مع شهادة رسل المسيح بصحة الكتاب ووحيه، فقد قال الرسول بولس: «كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تيموثاوس 3: 16 و17).

وقال بطرس: «عَالِمِينَ هٰذَا أَّوَلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُّوَةِ ٱلْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ، لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُّوَةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ ٱللّٰهِ ٱلْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ»(2بطرس 1: 20 و21).

لهذا يقبل المسيحيون أسفار العهد القديم التي تسلَّمتها الكنيسة الأولى من اليهود، من سفر التكوين إلى سفر ملاخي، ويقبلون أسفار العهد الجديد التي تسلَّمتها الكنيسة من الرسل، من إنجيل متى إلى سفر الرؤيا.

ودفاعاً عن هذا المبدأ السليم أذكر لك في ما يلي الأدلة التي استطعتُ جمعها، والتي تؤكد صحة الكتاب المقدس وسلامته من أي عبث أو إفساد أو تحريف:

أولاً - الشهادة الداخلية

- تكوين الكتاب المقدس: - تبدو كلمة الله كنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل، فالمعنى أن الله قد سهر على تكوين كتابه المقدس بكل حكمة وفطنة، فحين نتتبع العهد القديم بالتدرُّج نرى أن الكتابة المقدسة عينها تخبرنا أن العهد القديم تكوَّن خلال ثلاثة أدوار:

- الدور الأول من آدم إلى موسى:

لم يخبرنا الكتاب كيف كلّم الله الإنسان، ولهذا سرعان ما نلجأ إلى قوانا الذهنية المحدودة لنحكم على التاريخ المقدس، ناسين أن ألوفاً من السنين تفصلنا عن الأحداث المدوّنة في الفصل الأول من سفر التكوين.

فمثلاً قبل الخطية كانت العلاقة بين الله والإنسان تختلف كلياً عما صارت إليه بعدها. كذلك ليس في وسعنا أن نتصور كيف كان آدم وحواء المخلوقان على صورة الله كشبَهه، ولا كيف كان الله يكلمهما، وإنما أخبرنا أنه كلمهما وكفى.

كذلك لم تحدد الكتابة المقدسة تاريخ بداية إعلانات الله للبشر، إلا أنها تساعدنا على الإستنتاج، فأخنوخ المذكور في تكوين 5: 21-24 كان نبياً، وهو السابع من آدم (رسالة يهوذا 14) فهذا النبي كانت ولا شك عنده معرفة عن الماضي، لأنه بحسب تسلسل الكتاب المقدس عرف آدم وتحدث إليه. وكذلك متوشالح بن أخنوخ كان معاصراً لنوح الذي كرز بالبر وأعلن الحق. ونوح نفسه كان في وسعه أن يوصل الأنباء المقدسة إلى أجيال ما بعد الطوفان (2بطرس 2: 5). وسام بن نوح هو أب كل العبرانيين، وعاش إلى زمن إبراهيم (تكوين 10: 21، 11: 10-26). وتخبرنا الرسالة إلى غلاطية أن الأنباء المقدسة نُقلت إلى ابراهيم، إذ تقول: «وَٱلْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ ٱللّٰهَ بِٱلإِيمَانِ يُبَرِّرُ ٱلأُمَمَ، سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ ٱلأُمَمِ» (غلاطية 3: 8).

فهذه الآية تؤكد لنا أن إبراهيم حصل على معطيات واضحة من الأحداث السالفة. وإبراهيم بدوره أحاط أبناءه علماً بما كان في معرفته، فقد ورد في سفر التكوين:

* «لأَنِّي عَرَفْتُهُ لِكَيْ يُوصِيَ بَنِيهِ وَبَيْتَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ يَحْفَظُوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، لِيَعْمَلُوا بِرّاً وَعَدْلاً، لِكَيْ يَأْتِيَ ٱلرَّبُّ لإِبْرَاهِيمَ بِمَا تَكَلَّمَ بِهِ» (تكوين 18: 19).

ويتضح من هذا النص الكتابي أن الاتصال بين إبراهيم وموسى لم يكن صعب التحقيق.

- الدور الثاني عصر موسى:

ابتداءً من سفر الخروج صار تسجيل الأحداث يجري بدقة في الكتاب المقدس لكي تظهر التذكارات، طاعة لأمر الله لموسى:

* «ٱكْتُبْ هٰذَا تِذْكَاراً فِي ٱلْكِتَابِ وَضَعْهُ فِي مَسَامِعِ يَشُوعَ» (خروج 17: 14).

وتخبرنا الكتابة المقدسة أن موسى أخذ كتاب العهد وقرأه في مسامع الشعب (خروج 24: 7). وقال الرب لموسى أيضاً:

* «ٱكْتُبْ لِنَفْسِكَ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتِ، لأَنَّنِي بِحَسَبِ هٰذِهِ ٱلْكَلِمَاتِ قَطَعْتُ عَهْداً مَعَكَ وَمَعَ إِسْرَائِيلَ» (خروج 34: 27). وكتب موسى مخارجهم ورحلاتهم حسب قول الرب (عدد 33: 2).

* «فَعِنْدَمَا كَمَّلَ مُوسَى كِتَابَةَ كَلِمَاتِ هٰذِهِ ٱلتَّوْرَاةِ فِي كِتَابٍ إِلَى تَمَامِهَا، أَمَرَ مُوسَى ٱللاَّوِيِّينَ حَامِلِي تَابُوتِ عَهْدِ ٱلرَّبِّ: خُذُوا كِتَابَ ٱلتَّوْرَاةِ هٰذَا وَضَعُوهُ بِجَانِبِ تَابُوتِ عَهْدِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِكُمْ، لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِداً عَلَيْكُمْ» (تثنية 31: 24-26).

- الدور الثالث من يشوع إلى ملاخي:

* «قال الله ليشوع: لاَ يَبْرَحْ سِفْرُ هٰذِهِ ٱلشَّرِيعَةِ مِنْ فَمِكَ، بَلْ تَلْهَجُ فِيهِ نَهَاراً وَلَيْلاً، لِتَتَحَفَّظَ لِلْعَمَلِ حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ» (يشوع 1: 8) و «وَكَتَبَ يَشُوعُ هٰذَا ٱلْكَلاَمَ فِي سِفْرِ شَرِيعَةِ ٱللّٰهِ» (يشوع 24: 26).

* «فَكَلَّمَ صَمُوئِيلُ ٱلشَّعْبَ بِقَضَاءِ ٱلْمَمْلَكَةِ وَكَتَبَهُ فِي ٱلسِّفْرِ وَوَضَعَهُ أَمَامَ ٱلرَّبِّ» (1صموئيل 10: 25).

* «فَهٰذِهِ هِيَ كَلِمَاتُ دَاوُدَ ٱلأَخِيرَةُ: وَحْيُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى، وَوَحْيُ ٱلرَّجُلِ ٱلْقَائِمِ فِي ٱلْعُلاَ، مَسِيحِ إِلٰهِ يَعْقُوبَ، وَمُرَنِّمِ إِسْرَائِيلَ ٱلْحُلْوِ: رُوحُ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي»(2صموئيل 23: 1و 2).

* وفي آخر أيام الملوك على عهد الملك يوشيا أحدث وجود الكتاب في بيت الرب نهضة روحية. فقد قال حلقيا الكاهن العظيم لشافان الكاتب: «قَدْ وَجَدْتُ سِفْرَ ٱلشَّرِيعَةِ فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ.. وقرأ شافان أمام الملك» (2ملوك 22: 8-13).

في الأصحاحين 28 و29 من سفر إشعياء أقام النبي العلاقة بين ارتداد كهنة اسرائيل وبين أسفارهم المقدسة إذ يقول:

* «وَصَارَتْ لَكُمْ رُؤْيَا ٱلْكُلِّ مِثْلَ كَلاَمِ ٱلسِّفْرِ ٱلْمَخْتُومِ ٱلَّذِي يَدْفَعُونَهُ لِعَارِفِ ٱلْكِتَابَةِ قَائِلِينَ: ٱقْرَأْ هَذَا فَيَقُولُ: لاَ أَسْتَطِيعُ لأَنَّهُ مَخْتُومٌ» (إشعياء 29: 10-18).

وقد أهاب النبي الكريم بالشعب أن يعودوا إلى كلام الله ليقرأوه قائلاً:

* «فَتِّشُوا فِي سِفْرِ ٱلرَّبِّ وَٱقْرَأُوا. وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ لاَ تُفْقَدُ. لاَ يُغَادِرُ شَيْءٌ صَاحِبَهُ، لأَنَّ فَمَهُ هُوَ قَدْ أَمَرَ، وَرُوحَهُ هُوَ جَمَعَهَا» (إشعياء 34: 16).

وفي السنة الرابعة، ليهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا، صارت كلمة الرب إلى إرميا:

* «خُذْ لِنَفْسِكَ دَرْجَ سِفْرٍ وَٱكْتُبْ فِيهِ كُلَّ ٱلْكَلاَمِ ٱلَّذِي كَلَّمْتُكَ بِهِ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَعَلَى يَهُوذَا وَعَلَى كُلِّ ٱلشُّعُوبِ» (إرميا 36: 2).

وفي السنة الأولى لداريوس بن أحشويرش ملك مادي وفارس كتب دانيال:

* «أَنَا دَانِيآلَ فَهِمْتُ مِنَ ٱلْكُتُبِ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَنْهَا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا ٱلنَّبِيِّ لِكَمَالَةِ سَبْعِينَ سَنَةً عَلَى خَرَابِ أُورُشَلِيمَ» (دانيال 9: 2). «وَلَكِنِّي أُخْبِرُكَ بِٱلْمَرْسُومِ فِي كِتَابِ ٱلْحَقِّ» (دانيال 10: 21).

وفي أيام أرتحشستا ملك فارس انكبَّ عزرا ونحميا على شريعة موسى التي أعطاها الرب. وقد كتب عزرا:

* «وَبَعْدَ هٰذِهِ ٱلأُمُورِ فِي مُلْكِ أَرْتَحْشَسْتَا مَلِكِ فَارِسَ... عَزْرَا هٰذَا صَعِدَ مِنْ بَابِلَ، وَهُوَ كَاتِبٌ مَاهِرٌ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى ٱلَّتِي أَعْطَاهَا ٱلرَّبُّ إِلٰهُ إِسْرَائِيلَ. وَأَعْطَاهُ ٱلْمَلِكُ حَسَبَ يَدِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِهِ عَلَيْهِ، كُلَّ سُؤْلِهِ... لأَنَّ عَزْرَا هَيَّأَ قَلْبَهُ لِطَلَبِ شَرِيعَةِ ٱلرَّبِّ وَٱلْعَمَلِ بِهَا» (عزرا 7: 1-10).

* «وَلَمَّا ٱسْتُهِلَّ ٱلشَّهْرُ ٱلسَّابِعُ... ٱجْتَمَعَ كُلُّ ٱلشَّعْبِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى ٱلسَّاحَةِ ٱلَّتِي أَمَامَ بَابِ ٱلْمَاءِ... فَأَتَى عَزْرَا ٱلْكَاتِبُ بِٱلشَّرِيعَةِ أَمَامَ ٱلْجَمَاعَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَاءِ وَكُلِّ فَاهِمٍ... وَقَرَأَ فِيهَا أَمَامَ ٱلسَّاحَةِ ٱلَّتِي أَمَامَ بَابِ ٱلْمَاءِ مِنَ ٱلصَّبَاحِ إِلَى نِصْفِ ٱلنَّهَارِ» (نحميا 8: 1-3).

ولخَّص زكريا تصرفات الشعب أمام الشريعة والكلام الذي أرسله الله بروحه:

* «وَكَانَ كَلاَمُ ٱلرَّبِّ إِلَى زَكَرِيَّا: هَكَذَا قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ: ٱقْضُوا قَضَاءَ ٱلْحَقِّ، وَٱعْمَلُوا إِحْسَاناً وَرَحْمَةً، كُلُّ إِنْسَانٍ مَعَ أَخِيهِ... فَأَبُوا أَنْ يُصْغُوا وَأَعْطُوا كَتِفاً مُعَانِدَةً، وَثَقَّلُوا آذَانَهُمْ عَنِ ٱلسَّمْعِ. بَلْ جَعَلُوا قَلْبَهُمْ مَاساً لِئَلاَّ يَسْمَعُوا ٱلشَّرِيعَةَ وَٱلْكَلاَمَ ٱلَّذِي أَرْسَلَهُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ بِرُوحِهِ عَنْ يَدِ ٱلأَنْبِيَاءِ ٱلأَّوَلِينَ» (زكريا 7: 8-12).

وتكلم ملاخي عن كتاب الله، الذي دعاه كتاب التذكرة:

* «حِينَئِذٍ كَلَّمَ مُتَّقُو ٱلرَّبِّ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ، وَٱلرَّبُّ أَصْغَى وَسَمِعَ، وَكُتِبَ أَمَامَهُ سِفْرُ تَذْكَرَةٍ لِلَّذِينَ اتَّقُوا ٱلرَّبَّ وَلِلْمُفَكِّرِينَ فِي ٱسْمِهِ» (ملاخي 3: 16).

يا أخي،

في ما تقدم ترى كيف أن الله سهر على تكوين كتابه المقدس عبر الأجيال، موحياً إلى رجاله القديسين مواد الكتابة. وهذا الإله الحي الذي سهر على تكوين أسفاره لا بد أنه حفظها أيضاً من عبث المزوّرين.

ثانياً - شهادة الكتاب بصدق وحيه

* قال داود: «رُوحُ ٱلرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (2صموئيل 23: 2).

* وقال لحزقيال: «يَا ٱبْنَ آدَمَ، قُمْ عَلَى قَدَمَيْكَ فَأَتَكَلَّمَ... أَنَا مُرْسِلُكَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، إِلَى أُمَّةٍ مُتَمَرِّدَةٍ... مِنْ كَلاَمِهِمْ لاَ تَخَفْ وَمِنْ وُجُوهِهِمْ لاَ تَرْتَعِبْ، لأَنَّهُمْ بَيْتٌ مُتَمَرِّدٌ. وَتَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بِكَلاَمِي» (حزقيال 2: 1-8).

* وقال لهوشع: «وَكَلَّمْتُ ٱلأَنْبِيَاءَ وَكَثَّرْتُ ٱلرُّؤَى، وَبِيَدِ ٱلأَنْبِيَاءِ مَثَّلْتُ أَمْثَالاً» (هوشع 12: 10).

* وقال لإشعياء: «أَمَّا أَنَا فَهَذَا عَهْدِي مَعَهُمْ قَالَ ٱلرَّبُّ: رُوحِي ٱلَّذِي عَلَيْكَ، وَكَلاَمِي ٱلَّذِي وَضَعْتُهُ فِي فَمِكَ لاَ يَزُولُ مِنْ فَمِكَ وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِكَ وَلاَ مِنْ فَمِ نَسْلِ نَسْلِكَ قَالَ ٱلرَّبُّ مِنَ ٱلآنَ وَإِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 59: 21).

* وقال المسيح لتلاميذه: «لَسْتُمْ أَنْتُمُ ٱلْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ ٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ» (متى 10: 20).

* وقال الرسول بولس: «وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ ٱلْعَالَمِ، بَلِ ٱلرُّوحَ ٱلَّذِي مِنَ ٱللّٰهِ، لِنَعْرِفَ ٱلأَشْيَاءَ ٱلْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ ٱللّٰهِ، ٱلَّتِي نَتَكَلَّمُ بِهَا أَيْضاً، لاَ بِأَقْوَالٍ تُعَلِّمُهَا حِكْمَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ، بَلْ بِمَا يُعَلِّمُهُ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ» (1كورنثوس 2: 12 و13).

ثالثاً - تأكيد الكتاب المقدس بعدم زواله

في الكتاب طائفة من الآيات التي تؤكد أن كلمة الله ثابتة لا تتزعزع، منها:

* «كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ... أَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ» (إشعياء 40: 6-8).

* قال المسيح: «فَإِنِّي ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ ٱلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ ٱلْكُلُّ» (متى 5: 18).

* «اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ» (متّى 24: 35).

* «لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ» (يوحنا 10: 35).

رابعاً - الألقاب التي أطلقها الكتاب على نفسه

* الكتاب: قال الله لموسى: «ٱكْتُبْ هٰذَا تِذْكَاراً فِي ٱلْكِتَابِ» (خروج 17: 14). «هَئَنَذَا جِئْتُ. بِدَرْجِ ٱلْكِتَابِ» (مزمور 40: 7).

* سفر الناموس: «كُلُّ مَرَضٍ وَكُلُّ ضَرْبَةٍ لَمْ تُكْتَبْ فِي سِفْرِ ٱلنَّامُوسِ هٰذَا يُسَلِّطُهُ ٱلرَّبُّ عَلَيْكَ حَتَّى تَهْلَكَ» (تثنية 28: 61).

* سفر الرب: «فَتِّشُوا فِي سِفْرِ ٱلرَّبِّ وَٱقْرَأُوا. وَاحِدَةٌ مِنْ هَذِهِ لاَ تُفْقَدُ» (إشعياء 34: 16).

* كتاب الحق: «وَلَكِنِّي أُخْبِرُكَ بِٱلْمَرْسُومِ فِي كِتَابِ ٱلْحَقِّ» (دانيال 10: 21).

* كتابة الله: «وَٱللَّوْحَانِ هُمَا صَنْعَةُ ٱللّٰهِ، وَٱلْكِتَابَةُ كِتَابَةُ ٱللّٰهِ مَنْقُوشَةٌ عَلَى ٱللَّوْحَيْنِ» (خروج 32: 16).

* كلمة الرب: «وَكَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ عَزِيزَةً فِي تِلْكَ ٱلأَيَّامِ» (1صموئيل 3: 1).

* شريعة الرب: «وَيَكُونُ لَكَ عَلاَمَةً عَلَى يَدِكَ، وَتَذْكَاراً بَيْنَ عَيْنَيْكَ، لِتَكُونَ شَرِيعَةُ ٱلرَّبِّ فِي فَمِكَ» (خروج 13: 9).

* شهادات الله: «أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ مُعَلِّمِيَّ تَعَقَّلْتُ، لأَنَّ شَهَادَاتِكَ هِيَ لَهَجِي» (مزمور 119: 99).

* كلام شفتي الرب: «مِنْ جِهَةِ أَعْمَالِ ٱلنَّاسِ فَبِكَلاَمِ شَفَتَيْكَ أَنَا تَحَفَّظْتُ» (مزمور 17: 4).

* شريعة الحق: «لِكَوْنِ عَهْدِي مَعَ لاَوِي، قَالَ رَبُّ ٱلْجُنُودِ. كَانَ عَهْدِي مَعَهُ لِلْحَيَاةِ وَٱلسَّلاَمِ... شريعة الحق كانت في فيه» (ملاخي 2: 4-6).

* الكتب المقدسة: «وَأَنَّكَ مُنْذُ ٱلطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ ٱلْكُتُبَ ٱلْمُقَدَّسَةَ، ٱلْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ، بِٱلإِيمَانِ ٱلَّذِي فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (2تيموثاوس 3: 15).

* الكتب: «فَتِّشُوا ٱلْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ ٱلَّتِي تَشْهَدُ لِي» (يوحنا 5: 39).

* الناموس: «فَأَجَابَهُ ٱلْجَمْعُ: نَحْنُ سَمِعْنَا مِنَ ٱلنَّامُوسِ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَبْقَى إِلَى ٱلأَبَدِ» (يوحنا 12: 34).

* الناموس والأنبياء: «فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ ٱلنَّاسُ بِكُمُ ٱفْعَلُوا هٰكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً بِهِمْ» (متى 7: 12).

* كلمة الحق: «شَاءَ فَوَلَدَنَا بِكَلِمَةِ ٱلْحَقِّ لِكَيْ نَكُونَ بَاكُورَةً مِنْ خَلاَئِقِهِ» (يعقوب 1: 18).

فلا ريب أن هذه الألقاب تحمل التأكيد بأن المتكلم في الكتاب المقدس هو الله، والله لا بد يحفظ كلمته من التحريف.

خامساً - شهادة النسخ القديمة

النسخة الإسكندرية - دُعيت بهذا الإسم نسبة إلى المكان الذي خُطَّت فيه وهو الإسكندرية. ولها المرتبة الأولى بين النسخ الثلثية. أحضرها من الإسكندرية إلى القسطنطينية البطريرك كيرلس لوكارس بطريرك الإسكندرية، وقدمها هدية للملك كارلوس الأول ملك انكلترا سنة 1628 م. وهي نسخة يونانية جميلة تشتمل على كل أسفار الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. ولم تزل هذه النسخة محفوظة بعناية في المتحف البريطاني، وعلى أول صفحة منها حاشية تقول إن هذا الكتاب نُسخ بيد سيدة مصرية شهيدة اسمها تقلا، نحو الوقت الذي كان فيه مجمع نيقية سنة 325 ميلادية. ويرجح العلماء أن الوقت الذي كُتبت فيه هذه النسخة ليس بعيداً عن سنة 350 م. وهي مكتوبة على رق تقسم كل من صفحاته إلى حقلين، في كل منهما خمسون سطراً بالحرف الثلث القديم.

النسخة الفاتيكانية - وسُميت بهذا الإسم نسبة إلى مكتبة الفاتيكان المحفوظة فيها، وهي تشمل العهد القديم والعهد الجديد باللغة اليونانية. ويعتقد المؤرخون بأنها خُطت من 25 إلى 50 سنة بعد النسخة الإسكندرية. وهي مكتوبة على رق جميل قسمت كل من صفحاته إلى ثلاثة حقول. وكل حقل يشتمل على اثنين وأربعين سطراً.

النسخة السينائية - وقد سُميت السينائية نسبة إلى جبل سيناء حيث اكتشف العلاّمة تشيندروف الألماني قسماً منها عام 1844، في دير القديسة كاترينا. وحين عودته إلى هناك سنة 1859 وجد القسم الباقي. وهي مكتوبة بحرف ثلثي واضح على ورق جميل، وفي كل صفحة منها أربعة حقول. وكل ما فيها يدل على قدمها. وقد أهداها العالم تشيندورف إلى إسكندر امبراطور روسيا. وحين حدثت الثورة البلشفية بيعت للمتحف البريطاني بلندن، وهي لا تزال محفوظة هناك.

النسخة الأفرائيمية - وهي محفوظة في متحف باريس، وتشتمل على الأسفار المقدسة باللغة اليونانية. وقد كُتبت على رق بحروف جميلة. ويُرجَّح أنها كُتبت في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي. ولهذه النسخة قيمة عظيمة في مقابلة المتون. وقد اعتبرها العالم تريجيبس بعد النسخة الفاتيكانية مباشرة.

وعلاوة على هذه النسخ الأربع المشهورة توجد نسخ أخرى عديدة أقل أهمية. وقد نشرت هذه المخطوطات فأعانت العلماء لترجمة الكتاب المقدس إلى معظم لغات العالم. وكلها تؤيد النص الكتابي الذي بين أيدينا. فشكراً لله لأجل عنايته بإيصال هذه النسخ إلينا لنجد فيها الدليل الحاسم على دحض ادّعاءات المغرضين بحصول تحريف وتزوير في الكتاب المقدس.

سادساً - شهادة علم الآثار

كانت الأسفار المقدسة ولم تزل عرضة لسهام المنتقدين من الكفرة والملحدين، لأنها تخالف أهواءهم، وتتعارض مع نزعاتهم. لذلك بحث كثيرون منهم في الآثار القديمة في فلسطين وبابل وأشور ومصر ليجدوا في النقوش القديمة ما يفنّد أقوال الأسفار المقدسة. لكن الله سخر منهم، وجاءت رياح الحقيقة بما لا تشتهي سفن النوايا السيئة، لأن النقوش جاءت موافقة لما ورد في الكتب المقدسة، حتى أن كثيرين من الملحدين الباحثين رجعوا إلى الإيمان، لأن شهادة الآثار القديمة أقنعتهم بصحة أسفار الكتاب المقدس. كانوا يعتقدون أن الكتابة كانت مجهولة على زمن كَتَبة العهد القديم، أو على الأقل كانت قليلة الاستعمال في فلسطين، حتى إلى قبيل الجلاء البابلي سنة 54 ق.م.. ولذلك لم يسلموا بأن موسى أو غيره كتبوا في ذلك الوقت. كما أنهم اعتقدوا بأن كتبة التوراة بالغوا في وصف أحداث وحضارة الشرق إلى حدٍ يفوق التصديق، نظراً لمغايرته أقوال المؤرخين القدماء. ولكن الاكتشافات الحديثة نقضت نظرياتهم، واضعة ختم التأييد على صحة الأسفار الإلهية في كل ما ذكرته عن مدنية مصر وبابل وأشور. وقد تثبَّت كل ما ورد فيها عن سنحاريب وتغلت فلاسر ونبوخذ نصر وغيرهم.

ويسعدنا أن تتيح لنا هذه الإكتشافات أن نرى ونلمس رسم الحروف التي كتب بها موسى وإشعياء وإرميا، وأن نثبت بما لا يقبل الجدل أن الكتابة كانت معروفة في عهد إبراهيم وموسى وحزقيال كما في أيامنا. وبهذه النقوش المكتشَفة تم في زمننا قول المسيح: «الحجارة تتكلم» بما حوته من نقوش سُجِّل فيها معظم الحوادث المهمة المذكورة في الكتاب المقدس.

1 - قصة التكوين - في المقارنة بين قصة التكوين في الكتاب المقدس وقصة الخلق كما وردت في النقوش البابلية والأشورية نجد مشابهات مذهلة، فكل من الروايتين ذكرت وقتاً كان فيه كل شيء خرباً وخالياً.

يقول الكتاب المقدس إن الله عمل النورين العظيمين، النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل (تكوين 1: 16). وتقول وثائق البابليين إن الله صنع السدوم والكواكب.

في الكتاب المقدس: يخلق الله الإنسان من تراب الأرض (تكوين 2: 7) وفي قصة بابل يخلقه مردوخ من اللحم والعظام.

ويستمر الكتاب المقدس في سرد الحوادث فيذكر لنا أن البشر ارتدّوا عن إيمانهم بالله الحي إلى عبادة آلهة متعددة، مما حدا بالأنبياء إلى بذل المحاولات للرجوع بالناس إلى عبادة الإله الواحد، مما يدحض النظرية التي سادت بين العلماء وخلاصتها أن الإنسان كان منذ البداية يعتقد بتعدد الآلهة.

يقول الدكتور س. هربرت، وهو أحد الأعلام في الحفريات، وأستاذ الدراسات الأشورية في جامعة أكسفورد: إنني أؤيد بكل ثقة أن عقيدة الوحدانية في الديانات السامية والسومرية، قد سبقت العقيدة بتعدد الآلهة. ويؤيد هذا الرأي سير بيتر ريتو مترجم كتاب «الموتى» لقدماء المصريين.

ودحضت الإكتشافات الحديثة الرأي السائد في بعض الأوساط العلمية أن التوحيد في الديانة العبرية هو وليد العقائد التي علّمها أنبياء القرن السابع أو الثامن قبل الميلاد، مؤكدة أن موسى نادى بعقيدة التوحيد قبل أن يدخل العبرانيون أرض كنعان.

2 - عهد الطوفان والآباء - قدّم علم الآثار من الحفريات البابلية قصة للطوفان تتفق مع ما ورد عنها في سفر التكوين في عدة وجوه، فقد ذُكر في كلٍّ من النصين أن الطوفان وقع بترتيب إلهي. وفي كل من الروايتين يحذّر بطل القصة من كارثة ستحل بالعالم، فيبني فلكاً له ولعائلته، ويُحضر معه حيوانات إلى الفلك. وحين تهدأ العاصفة يستقر الفلك على قمة جبل، فيرسل البطل طيوراً للإستكشاف. وينقطع آخر طير منها عن العودة. وفي نهاية الطوفان يقدم قرباناً لله فيؤكد له الأمان في المستقبل.

منذ عهد قريب اكتشف العالم الأثري «سير دولي» في أور الكلدانيين طبقة من الطمي ممتلئة بحطام مدينة أثرية قديمة، فاستنتج أن طبقة الطمي تعود إلى عهد الطوفان.

3 - أور الكلدانيين - قبل التنقيب في أراضي العراق لم يكن علماء الكتاب المقدس يعرفون شيئاً عن أور مسقط رأس ابراهيم، ولا عن مدى الحضارة التي وصلت إليها. ولكن جهود علماء الآثار أثبتت أن تلك الأرض القفراء كانت يوماً جنة تجري من تحتها الأنهار، وأنها كانت عاصمة لأمة عظيمة عريقة في الحضارة. وقد دلت الحفريات أنه في عصور التاريخ السحيقة وفد السومريون إلى تلك البقعة واستوطنوها وأنشأوا فيها حضارة عظيمة.

أما عن ديانتهم فكانوا يعتقدون بتعدد الآلهة، وكان لكل عائلة صنمها الخاص. وقد ذكر الكتاب المقدس أن راحيل حين هروبها من بيت أبيها سرقت آلهته (تكوين 31: 27-32). وقد أثبتت الإكتشافات أن إبراهيم لم يكن مجرد رئيس قبيلة بدوية تسكن الخيام، بل كان ينتسب إلى شعب متمدن بلغت حضارته أوجاً رفيعاً قبل أن يولد بعدة قرون. وقد أثبتت هذه الاكتشافات صحة ما ورد في الكتاب المقدس من أن ابراهيم كان من سكان حاران (تكوين 11: 28-31).

وإذا تتبعنا إبراهيم في رحلته الطويلة نمرُّ بدوثان وبيت إيل وشكيم، وهي مدن ورد ذكرها في الآثار. وقد دل التنقيب عن الآثار على صحة ما ورد في الكتاب المقدس عن أن الأراضي الواقعة جنوب البحر الميت التي قضى فيها ردحاً من الزمن كانت مزدهرة ومزدحمة بالسكان في عهد إبراهيم.

4 - قصة يوسف والخروج من مصر - من أروع قصص الكتاب المقدس قصة يوسف، هذا الشاب الذي كان فريسة لمكيدة قاسية من إخوته، فبيع إلى مصر كما يُباع العبيد. ولكن الله جعل الأشياء تعمل معاً للخير لأجله، فلم يلبث أن جلس على سُدَّة الحكم كوزير خزانة فرعون مصر. وقد أكد هذه القصة إكتشاف مقبرة أحد عظماء مصر، المدعو «ألقاب» وكان معاصراً ليوسف، إذ وُجد على قبره كتابة تشير إلى مجاعة رهيبة حدثت في أيامه، وأن الدولة وزّعت الغلال التي اختزنها وزير الخزانة في أوقات الخصب، وبذلك انتقلت أملاك الشعب إلى الدولة. وهذا يوافق ما جاء في تكوين 47: 18-22، حيث يذكر لنا السفر المقدس أنه حين نفدت نقود الناس اضطروا إلى بيع أراضيهم لفرعون مقابل الطعام.

5 - عبودية العبرانيين في مصر - عُرف زمن وظروف عبودية العبرانيين في مصر بواسطة إكتشاف لوحة منقوشة يعود زمنها إلى تحتمس الثالث، وهي تصور الساميين يقومون ببناء هيكل للفرعون. وكذلك اكتشف العالم إدوارد نافيل خرائب مدينة فيثوم، ووجد فيها غرفة ذات جدران قوية سُمكها ثمانية أقدام مُقامة من اللِّبن المجفف بحرارة الشمس والمخلوط بالتبن. مما يؤيد ما جاء في خروج 5: 7.

أما خروجهم من مصر فقد عرف من لوحة بالخط المسماري عُثر عليها في تل العمارنة سنة 1888، أرسلها حكّام فلسطين إلى فرعون مستنجدين لحمايتهم من غزو شعب خطير اسمه «العبيرو».

6 - موسى والناموس - يذكر الكتاب المقدس كيف ومتى وصل إلينا ناموس موسى. ولكن بعض القدماء زعموا أن هذا الناموس يعود إلى فترة لاحقة لزمن موسى. بيد أن التنقيب على يدي العالم الأثري دي مورجان سنة 1884 ألقى ضوءاً على ناموس موسى، فقد إكتشف في خرائب قصر شوشن بإيران، والذي ورد ذكره في سفر أستير، كنزاً من المخطوطات تؤيد صحة ما ورد في الكتاب المقدس عن ناموس موسى.

7 - حفريات رأس الشمرة - في سنة 1928 اكتُشف في رأس الشمرة، على بعد عشرة أميال شمال اللاذقية، بقايا مدينة أوغاريت التي تأسست عام 2000 قبل الميلاد. وعُثر فيها على مئات من الألواح تؤيد الكثير من قصص الكتاب المقدس، عن الفرزيين، والحويين، والحثيين.

وقد ورد في أحد هذه الألواح ذكر الله باسم «إيل» مما يتفق مع ذكره في سفر التكوين بهذا الإسم الذي تردد على لسان يعقوب حين كان هارباً في البرية.

8 - بقايا مدينة أريحا - بقايا مدينة أريحا القديمة من أقوى الأدلة الأثرية على صحة الكتاب المقدس، فكل مواصفات هذه المدينة تتفق تماماً مع ما ورد في سفر يشوع، فقد كانت محاطة بأسوار، مع مدخل واحد للمدينة. وقد دل التنقيب في أطلالها أن المدينة لم تُنهب قبل إحراقها فعلاً، فالقمح والعدس والبلح والعجين وُجدت كلها في صوامع من الطين، لأن يشوع حرم أخذ أي شيء من المدينة (يشوع 6: 17 و 18) وقد تأكد أن أريحا دُمرت حوالي عام 1500 ق.م. وهذا يتفق مع ما ورد في الكتاب المقدس.

9 - الحثيون - من أعظم الشواهد على صحة الكتاب المقدس كشف الحفريات عن وجود شعب الحثيين. فقد ورد في سفر التكوين أن إبراهيم اشترى مغارة المكفيلة من عفرون الحثي وجعلها مقبرة لزوجته سارة وله في ما بعد (تكوين 23: 8-10). وكذلك ذكر أن عيسو بن اسحق تزوج من بنات حث (تكوين 26: 34).

وفي سفر الخروج ذُكر الحثيون بين الشعوب التي حاربها العبرانيون، وذُكروا أيضاً في كل من أسفار يشوع والقضاة وصموئيل الأول. ومع ذلك كان العلماء إلى عهد قريب يشكّون بوجود الحثيين، إلى أن عُثر على أخبارهم ضمن لوحات الآثار المصرية، وتذكر إحداها أخبار معركة دارت بينهم وبين قوات رمسيس الثاني بالقرب من قادش عام 1287 ق.م.

سابعاً - شهادة المخطوطات المطمورة

1 - سفر إشعياء - من بين الكنوز التي عُثر عليها في كهوف قمران عام 1947 مخطوطة كاملة لسفر إشعياء النبي باللغة العبرانية. وهي مكتوبة على رقوق من جلد خيطت بعضها ببعض على شكل درج. ويستدل من شكل الكتابة ونوع اللغة أن هذه المخطوطة كُتبت في القرن الثاني قبل الميلاد. وما جاء في هذه المخطوطة يتفق مع النص المعترف به حالياً، كما ورد في أسفار العهد القديم التي بين أيدينا. وهذا يجعل العلماء اللاهوتيين يزدادون ثقة وتمسكاً بصدق كلام الوحي وبصحة الأسفار المقدسة.

2 - أسفار أخرى - لقد عُثر أيضاً في كهوف قمران على تفسير لسفر حبقوق النبي. وقد لوحظ أن النصوص التي اعتمدها المفسّر تطابق النصوص المدوَّنة في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا. واكتشف المنقبون في قمران على نسخة من أسفار اللاويين وأيوب والمزامير، إلى جانب قائمة بأسفار العهد القديم شملت جميع الأسفار التي لدينا ما عدا سفر أستير.

3 - إنجيل يوحنا - ادَّعى بعض العلماء بأن إنجيل يوحنا لم يُكتب قبل القرن الثالث الميلادي، مع أن آباء الكنيسة أكدوا أنه كتُب قبل موت يوحنا البشير بوقت قليل. وقد بقي هذا الاعتقاد في نفس البعض إلى عام 1877، حين عثر على آلاف الوثائق المكتوبة على البردي مطمورة في رمال مصر بالقرب من أرسينوي على بعد ثمانين ميلاً جنوب القاهرة. ومن أهم المخطوطات التي وُجدت هناك مخطوط لإنجيل يوحنا، أكد العلماء أنه كُتب قبل العام 125 ميلادي.

4 - مخطوطات أخرى - في عام 1931 ظهرت في أسواق العاديات المصرية مجموعات من أوراق البردى، اشترى السيد شستر بيتي الانكليزي جزءاً منها، وبيع الجزء الآخر لجامعة متشيغان بأمريكا. وهذه المجموعة تتكون من أحد عشر ملفاً تحوي مقتبسات من العهد القديم ومعظم أسفار العهد الجديد. وترجع كتابتها إلى العام 200 بعد الميلاد.

5 - الأناجيل الأربعة - لقد اكتُشف مؤخراً في دير القديسة كاترين بسيناء نسخة للأناجيل الأربعة باللغة السريانية يرجع تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي، وهي منقولة عن ترجمة قام بها المسيحيون في القرن الثاني، وهي لا تختلف في نصوصها عن نصوص البشائر الموجودة بين أيدينا.

6 - الدياطسرون - في عام 1881 اكتشف مخطوط هام هو الدياطسرون، وقد كتبه باللغة السريانية أحد آباء الكنيسة السريانية، ويدعى طاطيان. وفيه دمج نصوص الأناجيل الأربعة في إنجيل واحد. وقد ذاع صيت هذا المصنف واستخدمه المسيحيون الأولون فترة من الزمن، إلى أن قضت الكنيسة بإبطاله خوفاً من أن يحل محل البشائر الأربع. وقد عثر في السنوات الأخيرة على عدة مخطوطات من الدياطسرون، في خرائب مدينة دورا في العراق بلغات مختلفة. وعلى ضوء هذا الإكتشاف أكد العلماء أن الدياطسرون الذي لا تختلف نصوصه عن نصوص الأناجيل كان شائعاً ككتاب في القرن الثاني الميلادي. كما أثبتت أن إنجيل يوحنا كان متداولاً قبل العام 175 ميلادي.

أيدت الحفريات الكتاب المقدس بصورة مذهلة، حتى أنه ما كان أحد ليصدق أن الكتاب الإلهي يتفق مع التاريخ بهذه الدقة المتناهية. وحسناً قال العلاّمة الدكتور جليك الذي صرف سنين طويلة في التنقيب في الأراضي المقدسة: «من الحقائق المدهشة أنه لم يقم إكتشاف واحد من الإكتشافات الحديثة في وجه الحقائق المدوّنة في الكتاب المقدس. بل إن كل اكتشاف يؤيد في أدق تفصيلاته كل ما ورد في الكتاب العزيز. وما زال المجال متسعاً لإكتشافات جديدة. ومع ذلك فان الدلائل كلها تشير إلى أنه لم يعد هناك موضع لناقد أو معترض على أسفار العهد الجديد، وعلى التواريخ التي دُوّنت فيه. وهذا التوافق بين الإكتشافات ونصوص الكتاب العزيز يشكل أقوى شاهد على سلامة الوحي الإلهي، وعلى صدق الذين دوَّنوه».

وهكذا، يا عزيزي، يمكننا التأكد أنه بالرغم من أن الكتابة المقدسة لم يُقصد بها أن تكون تاريخاً بحتاً، فإنها أصدق مرجع تاريخي على الإطلاق. وإننا بفضل الإكتشافات الحديثة نتيقن تماماً أن الأسفار الإلهية لم تعبث بها يد العابثين. بل إن الله حفظها لتكون نوراً وهدى للناس.

وكم يجب أن نشكر الله لأجل الإكتشافات التي أظهرت أن كتابة إنجيل يوحنا ترجع إلى عصور سحيقة في القدم، الأمر الذي تؤكده لنا كتابة يوحنا نفسها، لأنه لم يكن في وسع إنسان آخر متأخر عن يوحنا أن يذكر لنا الأماكن بهذه الدقة عن كل ركن من أركان أورشليم قبل سقوطها وتدميرها.

قال الدكتور البرايت، وهو عالم أثري اشتهر بالدراسات الكتابية: «إننا بفضل اكتشافات قمران نستطيع أن نتيقن أن العهد الجديد هو كما كُتب بمعرفة الأقدمين. وهو الذي يحوي تعاليم المسيح ورسله. وكلها لا يتجاوز تاريخ كتابتها الفترة ما بين 25 إلى 80 للميلاد. وكلما كان المؤرخ معاصراً للحوادث التي يكتب عنها تكون روايته أدق وأقرب إلى الصواب».

أخي،

إن كان بحثي المتواضع ينتهي عند هذا الحد، فان صفحات عديدة ستُكتب عنه بيد أهل الإختصاص، لا بل عدة مجلدات ضخمة، لأن أرضنا المقدسة تضم عدداً عديداً من المدن التاريخية التي تهدَّمت وأصبحت أطلالاً، ولكنها ما زالت عائشة في سجل التاريخ. وهي تنتظر أن تفتح بطونها يوماً لتغني العالم بكنوزها من أخبار الذين من بينهم قام يسوع فادي البشر ورئيس السلام.

وأتمنى من صميم قلبي أن تجد في هذه الأدلة التي جمعتها في بحثي ما يسهّل على فطنتك الوقادة أن تكِوّن لك رأياً في ما قيل عن كتبة الوحي الإلهي، ولعلك تصبح بعد اليوم من عداد الذين يؤمنون بأن «كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَٱلتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَٱلتَّأْدِيبِ ٱلَّذِي فِي ٱلْبِرِّ، لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ ٱللّٰهِ كَامِلاً، مُتَأَهِّباً لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تيموثاوس 3: 16 و17).

«ٱمْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِٱلْحَسَنِ» (1تسالونيكي 5: 21)

في الفصل السابق ذكرتُ أن بين كنوز المسيحيين نُسخاً من الكتاب المقدس مكتوبة على رقوق، يعود تاريخ نسخها إلى ثلاثماية سنة قبل الإسلام. ولقَّب القرآن الكتاب المقدس بعدة أسماء منها:

* كتاب الله: «وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُوا ٱلْكِتَابَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» (البقرة 2: 101).

«أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ» (آل عمران 3: 23).

* آيات الله: «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ؟» (آل عمران 3: 70).

قال الزمخشري في تفسير هذا النص: آيات الله، التوراة والإنجيل. فلو كانت محرفة لما كان دعاها القرآن آيات الله.

* الذكر: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَٱسْأَلُوا أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» (النحل 16: 43).

* الكتاب المنزل: «كُلُّ ٱلطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَّزَلَ ٱلتَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِٱلتَّوْرَاةِ فَٱتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (آل عمران 3: 93).

فلو كانت التوراة محرّفة ما كان القرآن يستشهد بها. العكس هو الصحيح. فقد أكد القرآن أن الكتاب المقدس لا ريب فيه وأنه جاء مصدقاً له:

* «وَمَا كَانَ هَذَا ٱلْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ ٱللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ ٱلْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ» (يونس 10: 37).

* «وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوا أَّوَلَ كَافِرٍ بِهِ» (البقرة 2: 41).

* «وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ» (البقرة 2: 89).

* «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ» (المائدة 5: 48).

أيها العزيز، حَكِّم المنطق، فلو كان الكتاب المقدس محرفاً لكانت شهادة القرآن بصحته مزورة، وبالتالي لفشل في مهمته كمهيمن عليه.

وهناك شهادات أخرى في القرآن تثبت صحة الكتاب المقدس وصلاحه لهداية البشر في كل جيل وعصر، ومنها:

* أنه هدى للناس: «نَّزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ» (آل عمران 3: 3 و4).

فهذه شهادة صريحة بتنزيل الكتاب وحياً على كاتبيه، وشهادة بصلاحه لهداية الناس.

* يجب إقامة أحكامه: «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (المائدة 5: 47).

* يجب على المسلم أن يؤمن به: «وَلاَ تَجَادِلُوا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِٱلَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» (العنكبوت 29: 46).

* «يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي نَّزَلَ عَلَى رَسُولِهِ وَٱلْكِتَابِ ٱلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ» (النساء 4: 136).

* الكتاب المنير: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلّزُبُرِ وَٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ» (آل عمران 3: 184).

* الفرقان: «وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» (الانبياء 21: 48).

بعد هذه الجولة بين نصوص القرآن أعود بك إلى الموضوع الأساسي، وهو الإدعاء بتحريف الكتاب المقدس، وعلى لساني هذا السؤال: هل يقول القرآن بتحريف الكتاب المقدس؟

حين ندرس القرآن بتدقيق وتجرُّد، نرى أن طائفة من آياته تتهم فريقاً من اليهود بتحوير بعض معاني التوراة، لا نصوصها، وذلك عن طريق الكتمان والإخفاء وليّ اللسان. ولكن لا نجد أي نص قرآني يتهم المسيحيين بتحريف الإنجيل. اما الآيات التي اتهمت اليهود بالتحوير فهي:

* «أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟» (البقرة 2: 75).

قال الإمام الرازي: إن المراد بالتحريف هنا هو تشويه التفسير أو كتمان الحق. وقد عزى إلى اليهود أنهم جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا منه ما أبدوا وأخفوا منه ما أخفوا. فهذا التصرف وإن يكن ممقوتاً، إلا أنه لا يُحسب تبديلاً لآيات الكتاب المقدس. والإتهام أيضاً وُجّه إلى فريق من اليهود فقط، بينما الفريق الآخر يتلو الكتاب حق تلاوته كما تقول الآية 121 من سورة البقرة «ٱلَّذِينَ آتيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ».

* «مِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بَأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ» (النساء 4: 46).

فالذين هادوا هم اليهود. وكلمة «من» تعني فريقاً منهم لا كلهم لووا ألسنتهم بكلمة راعنا، مما جعلها تورية بالنبي العربي. فيكون التحريف إذن في التفسير وليس في النص، وهو عمل قام به اليهود لا المسيحيون.

وفي تفسير هذه الآية قال العلماء وعلى رأسهم الإمام البيضاوي: يحرّفون الكلم عن مواضعه، أي يميلونه عن مواضعه، التي وضعه الله فيها. إما لفظاً بإهماله، وإما معنى بتحميله على غير المراد، وإجرائه في غير مورده. وخلاصة القصة هي أن المسلمين كانوا يقولون لمحمد: راعنا يا رسول الله - من المراعاة - أي أعرنا سمعك وفرّغه لكلامنا. أما في لفظة اليهود وهم يلوون ألسنتهم فكانت سبّاً قبيحاً. ومعناها عندهم اسمع لا سمعت. وقيل الرعونة. كانوا يقولونها لمحمد ويضحكون في ما بينهم. فسمعها سعد بن معاذ ذات يوم، وكان يعرف لغتهم، ففطن لها فقال لليهود: «لئن سمعنا أحداً منكم يقولها لمحمد لأضربنَّ عنقه». ولهذا حذر القرآن المسلمين من التلفّظ بكلمة راعنا فصاعداً، إذ يقول:

* «يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (البقرة 2: 104).

* «وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ» (المائدة 5: 41).

* «يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ» (المائدة 5: 15).

* «وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِٱلْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»(آل عمران 3: 78).

* «إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ» (البقرة 2: 159).

حين فحص علماء المسلمين في الهند مسألة التحريف على ضوء هذه الآيات اقتنعوا بأن نصوص الأسفار المقدسة لم تُبدَّل ولم تُحرَّف. ولعلهم استأنسوا بتفسير الإمام الرازي للآية 78 من آل عمران. إذ يقول: «كيف يمكن إجراء التحريف في التوراة مع شهرتها العظيمة بين الناس؟»

ويتضح لكل من يبحث بنزاهة أقوال القرآن في هذا الموضوع فساد نظرية القائلين بالتحريف. على العكس، إنه يجد في سور القرآن شهادات صريحة لصحة وسلامة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد:

* «وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً... فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ» (المائدة 5: 12، 13).

أجمع المفسرون على أن هذا النص خاص بيهود خيبر، فقد ارتكب اثنان منهم خطية الزنا، فكرهوا أن يرجموهما كما تنص شريعة موسى، وأرادوا فقط جلدهما. فأرسلوا وفداً من بني قريظة ليستفتوا النبي العربي بعد أن أوصوهم: إن أفتاكم محمد بالجَلْد فخذوه واقبلوه، وإن أفتاكم بخلافه فاحذروا أن تقبلوه. ولما مثلوا في حضرة محمد قالوا: ننشدك الله الذي أنزل عليك كتابه وحلاله وحرامه، هل تجد فيه الرجم على من أحصن؟ فقال لهم نعم. فتواثبوا عليه. فقال خفت إن كذبته أن ينزل علينا العقاب. ثم أمر محمد بالزانيين فرُجما عند باب المسجد(الجلالان والبيضاوي).

فالخطاب إذن عن بعض اليهود، وفي حكم من أحكام التوراة حاولوا تفسيره لا تبديله.

* «وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاءَ» (المائدة 5: 14).

ذكر الإمام الرازي أن المراد هنا هو إلقاء الشُّبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وصرف اللفظ عن معناه الحق إلى معنى باطل، بوجوه الحيل اللفظية، كما يفعل أهل البدع في زماننا بالآيات المخالفة لمذهبهم. إن تغيير اللفظ عند المتكلمين ممتنع، لأن التوراة والإنجيل كانا بالغي الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما.

ومما تجدر ملاحظته أن القرآن هاجم نصارى نجران وهم من أهل البدع. وحاولوا إلصاق بدعهم وهرطقاتهم بالمسيحية منذ فجرها، ونجحوا في نشر مذهبهم في الجزيرة العربية. وكان لهم تعاليم ومفاهيم هي أقرب إلى الكفر والإلحاد منها إلى الإيمان المسلَّم للقديسين. وأتحدى أياً كان يجد نصاً قرآنياً صريحاً يعرض بالمسيحيين أو يتهمهم بتحريف الإنجيل.

وقد وجَّه القرآن دعوته للوثنيين ليؤمنوا بالإله الواحد، ووبخ اليهود على رفضهم المسيح وإصرارهم على تكذيبه ومحاولتهم تشويه سمعة أمه مريم العذراء المباركة. كما أنه وجَّه لوماً وتجريحاً لأهل البدع من النصارى. ومن المؤسف أن يستغل بعض السطحيين تعريض القرآن بأولئك الهراطقة ليلصقوا بالمسيحيين تهمة تزوير الكتاب المقدس، الأمر الذي لم يحدث إطلاقاً، ولا يمكن أن يحدث لسبب بديهي جداً، وهو أن الله لا يمكن أن يسمح بأن يعبث أحد بشريعته، متحدياً قدرته على حفظها. مما يشكل طعناً بصدق المواعيد التي وردت في القرآن نفسه، والتي منها:

* «إِنَّا نَحْنُ نَّزَلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» (الحجر 15: 9).

* «وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ» (الانعام 6: 34).

* «لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ» (يونس 10: 64).

* «وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً» (الفتح 48: 23).

* «لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ» (الانعام 6: 115).

* «لاَ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ» (فصلت 41: 42).

ولا يسعني إلا سؤال أولئك المدَّعين بالتحريف:

  1. ما هي أدلتكم على أن الكتاب المقدس قد حُرف أو عُبث بنصوصه؟
  2. هل في وسعكم أن تدلونا على نسخة من الكتاب المقدس في الزمن الغابر والحاضر تختلف بنصوصها عن الكتاب الذي وصل إلينا من السلف إلى الخلف؟
  3. هل يستطيع أحد أن يقدم برهاناً واحداً يبيّن فيه طبيعة التحريف المزعوم وحالته؟
  4. هل يستطيع إنسان ما أن يذكر الوقت الذي جرى فيه التحريف؟ فإن كان ذلك جرى قبل الإسلام، فلماذا شهد القرآن للكتاب وصدق على محتوياته؟ وإن كان بعد الإسلام، فالنسخ المخطوطة والمحفوظة في المتاحف يعود تاريخ نسخها إلى ما قبل الإسلام بثلاثة قرون على الأقل، ونصوصها لا تختلف عن النسخ المتداولة في أيامنا.
  5. بعد أن شهد القرآن للكتاب العزيز أنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه أُنزل من الله هدى للناس ورحمة، هل يصح أن يعود لينسب له التغيير؟
  6. أين هي الآيات المتغيّرة، وما الفائدة من تغييرها؟
  7. ما هو موقف المدَّعين من منطق الواقع الذي يضع حداً للجدل في هذا الموضوع؟ لأنه ليس من المعقول أن يغيرّ اليهود التوراة قبل المسيح، لأن المسيح صادق عليها واقتبس منها. وتبعاً لذلك صارت للمسيحيين كما هي لليهود. ولا يُعقل أن اليهود غيّروها بعد المسيح، وإلا لعارضهم المسيحيون. يستحيل أن يتفق اليهود والمسيحيون على تغيير نصوص الأسفار المقدسة لأنهما أمتان متضادتان أولاً، وثانياً لأن الكتاب المقدس انتشر في كل العالم بعدة لغات، ولا سبيل إلى جمع النسخ الكثيرة للعبث بمحتوياتها.

ولا يُعقل أن يكون الكتاب المقدس حُرف في زمن محمد، لأن القرآن شهد لصحته كما رأينا في ما تقدم. ولا يعقل أن يكون قد حُرف بعد الإسلام نظراً لسعة انتشاره بين الشعوب والأمم التي اعتنقت المسيحية.

ولو سلمنا بحصول المستحيل، وهو أن تواطئاً قد تمَّ بين المسيحيين واليهود على تزوير الأسفار المقدسة، أَمَا كان اليهود يحذفون طائفة من النصوص التي تدينهم؟ ومقابل ذلك أَمَا كان المسيحيون يطالبونهم بالاعتراف أن يسوع هو المسيا؟

«كُلُّ جَسَدٍ عُشْبٌ، وَكُلُّ جَمَالِهِ كَزَهْرِ ٱلْحَقْلِ. يَبِسَ ٱلْعُشْبُ، ذَبُلَ ٱلّزَهْرُ... أَمَّا كَلِمَةُ إِلَهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ»(إشعياء 40: 6 و7).

ورد في كتاب «عيون أخبار الرضي» أن كل نبي في أيام موسى وبعده كان على منهاج موسى وشريعته، وتابعاً لكتابه إلى زمن عيسى. وكل نبي كان في أيام عيسى وبعده كان على منهاج عيسى وشريعته، وتابعاً لكتابه إلى زمن محمد. أما شريعة محمد فلن تُنسخ إلى يوم القيامة.

وورد في كتاب «هداية الطالبين إلى أصول الدين» للمولى محمد تقي الكاشاني الفارسي أن علماء الإسلام قرروا أن محمداً نبي هذا الزمان، ودينه ناسخ لأديان الأنبياء السابقين.

ورداً على ذلك أقول إن القرآن لم يشر إلى مسألة النسخ بكلمة واحدة. وكذلك الحديث لم يتكلم عنها. وبذلك يكون هذا الرأي ادّعاءً هزيلاً لا يقل سخفاً عن الادعاء بالتحريف، لأنه إن كان لا يقلب تعليم القرآن رأساً على عقب، فإنه على الأقل يشوّشه ويجعله يتكلم بما لم يتكلم به.

من المعلوم لدى الجميع أن النسخ خاص بنصوص القرآن وحدها. وقد ورد في موضعين:

* «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» (البقرة 2: 106).

* «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ» (الحج 22: 52).

وهذان النصان لا يدلاّن على أن القرآن جاء ناسخاً للكتاب المقدس، بل إن بعضاً من نصوص القرآن تنسخ بعضاً آخر. وقد قال أحدهم إن عدد الآيات المنسوخة من القرآن تبلغ 225 آية.

وقد أورد البيضاوي بحثاً مستفيضاً في تفسير النسخ المشار إليه في سورة الحج، فبينّ كيف نُسخت بعض الكلمات التالية من سورة النجم: «تلك الغرانيق العُلى. إن شفاعتهن لتُرتجى». ويمكنك الرجوع إلى شروحه.

وأشار إلى هذا الأمر كل من يحيى وجلال الدين، وذكره ابن هشام في السيرة النبوية نقلاً عن اسحق، وذكره الطبري أيضاً في شروحه.

روى ابن حاتم عن ابن عباس، قال: «ربما نزل على النبي الوحي في الليل ونسيه في النهار. فنزلت الآية ما ننسَخ من آية أو نُنْسِها نأت بخير منها أو مثلها».

وقال البيضاوي إنها نزلت لما قال المشركون أو اليهود: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه، ويأمر بخلافه؟ وهكذا نزلت الآية على شكوك الكتابيين والمسلمين في تغيير أي كتاب.

وقال السيوطي إن النسخ مما اختص الله به هذه الأمة.

فاستناداً إلى هذه النصوص التي دوّنها العلماء بالإسناد نفنّد الدعوى بأن الزبور ناسخ للتوراة، وأن الإنجيل ناسخ للزبور، وأن القرآن ناسخ للإنجيل، والقرآن يقولها صراحة لكل مدَّعٍ: «قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا (أي التوراة والإنجيل) أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ» (القصص 28: 49).

قال الحاج رحمة الله الهندي في كتابه «إظهار الحق»: «القول بنسخ التوراة بنزول الزبور، ونسخ الزبور بظهور الإنجيل، ونسخ الإنجيل بنزول القرآن، لا أثر له في القرآن ولا في الحديث».

صدق هذا العالِم في ما قاله، لأن القرآن عكساً لادّعاء المدّعين بالنسْخ ينقض مزاعمهم من أساسها إذ يقول:

* «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا ٱلدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» (الشورى 42: 13).

أَليس من سُخف القول أن يزعم أحد أن القرآن نسخ الكتاب المقدس؟ بل كيف يتجرأ المسلم على تجاوز تعليم القرآن القائل إن الله أراد بالقرآن هداية العرب إلى سنن أهل الكتاب، لأنه يقول:

* «يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتَوُبَ عَلَيْكُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (النساء 4: 26).

والقرآن يأمر أهل الكتاب بالعمل بموجب أحكام كتابهم إذ يقول:

* «وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ ٱللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ» (المائدة 5: 47).

أخي،

إنّ من يقرأ الكتاب المقدس بعمق يرى أن تعاليم أسفاره متفقة تماماً، لها اتجاه واحد، وهو إعلان مقاصد الله لبني البشر. فلا ناسخ ولا منسوخ بين آياتها البينات. ففي أسفار العهد القديم نتعلم كيف خلق الله العالم والإنسان، وكيف دخلت الخطية إلى العالم، ثم يلي ذلك الوعد بمخلّص يأتي من نسل المرأة عند ملء الزمان. وبانتظار ذلك أقام الله ميثاقاً مع ابراهيم وعده فيه أن المخلّص سيأتي من ذريته في إسحق، ثم تجدد الوعد لإسحق ويعقوب، وتردد على الألسنة جيلاً بعد جيل.

وحين جاء موسى أعطي الناموس له وفيه هذه المواعيد العظمى والثمينة، فاكتحلت رؤى الأنبياء الذين أعقبوا موسى بطيف المخلّص الآتي باسم الرب. وكذلك الأسفار التي كتبوها جاءت متفقة مع ما كتبه موسى. وقد بسط بعضهم الطريقة التي سيأتي بها المخلّص، والعجائب التي سترافق تعاليمه وموته الكفّاري، حتى أن بعضهم ذكر اسم البلدة التي سيُولد فيها.

أما الإنجيل فقد بسط أحداث حياة المخلّص وتعاليمه وموته وقيامته وصعوده كمتممة للنبوات التي وردت في التوراة والزبور.

في توراة موسى ظهر قصد الله من حيث نعمته بكل وضوح، حتى أن الذين عرفوه مالوا إليه وعبدوه وآمنوا بالمخلّص الآتي، ووجدوا فيه ما يشبع قلوبهم. وقد أشار الرسول إلى ذلك بقوله: «فِي ٱلإِيمَانِ مَاتَ هٰؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا ٱلْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى ٱلأَرْضِ» (العبرانيين 11: 13).

وفي أسفار الأنبياء والمزامير علت هذه الأخبار إلى درجة أوضح، إذ أنها تشرح لنا أن الله من البدء أفرز له جماعة وهذَّبهم شيئاً فشيئاً، صابراً على غلاظة قلوبهم وشر أفعالهم. وتعلمنا هذه الأسفار أن الطقوس الرمزية ومناسك العبادة رُسمت لتلك الجماعة مؤقتاً، توصلاً إلى قصد معلوم وهو إيجاد حد فاصل مميز بين اليهودية والوثنية، إلى أن يأتي المخلّص الموعود به بركة لجميع الأمم. وتعلمهم أن تلك الرموز والطقوس وإن كانت قد رُسمت بأوامر إلهية، لا تفيد شيئاً ما لم تقترن بحياة مكرسة. وقد أُعلنت هذه الحقيقة لميخا النبي في حيرته وتساؤله إن كان الله يرضى بالمزيد من الذبائح والمحرقات والقرابين، إذ قال الله له: «قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا ٱلإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ ٱلرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ ٱلْحَقَّ وَتُحِبَّ ٱلرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعاً مَعَ إِلَهِكَ» (ميخا 6: 6-8).

إن جميع الطقوس والشعائر اليهودية، من ذبائح ومحرقات وبخور وغسولات كانت رموزاً إلى حقائق تمَّت في ملء روحانية العهد الجديد، الذي ضمنه المسيح لكل من يؤمن به، أياً كان جنسه أو لسانه أو لونه، وفقاً لقول إشعياء: «لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ ٱلأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ ٱلرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي ٱلْمِيَاهُ ٱلْبَحْرَ» (إشعياء 11: 9).

فالعهد الجديد لم ينسخ العهد القديم، وإنما شرحه وأبرزه في شكله الروحي الذي يلائم الناس في كل زمان ومكان.

والذي أتمنى أن يرسخ في ذهنك أيها العزيز، هو أن ناموس التوراة نوعان: ناموس الفرائض، والناموس الأدبي. الأول أُعطي لليهود مؤقتاً لعزلهم عن الأمم الوثنية، صوناً لهم من السقوط في رجاسات الأوثان، وذلك بانتظار عهد النعمة. وقد شرح الرسول هذه الحقيقة: «ثُمَّ ٱلْعَهْدُ ٱلأَّوَلُ كَانَ لَهُ أَيْضاً فَرَائِضُ خِدْمَةٍ... ٱلَّذِي هُوَ رَمْزٌ لِلْوَقْتِ ٱلْحَاضِرِ، ٱلَّذِي فِيهِ تُقَدَّمُ قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ ٱلضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ ٱلَّذِي يَخْدِمُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ، مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ ٱلإِصْلاَحِ» (عبرانيين 9: 1-10) وقد كشف إشعياء النبي المقصود من تلك الذبائح الحيوانية في نبواته عن حمل الله، الذي كانت كل الذبائح ترمز إليه (قابل إشعياء 53 برؤيا 3: 18). وحيث أن الذبح العظيم الذي كانت الذبائح كلها ترمز إليه جاء فى ملء الزمان، فالمسيحيون لا يقدمونها إكتفاءً بذبيحة المسيح.

والمدهش في الأمر أن اليهود كفّوا اضطراراً عن تقديم الذبائح الحيوانية، لأن التوراة تأمرهم بأن لا يقدموا ذبيحة إلا في أورشليم وداخل أسوار الهيكل. وهذا هُدم ونُقضت حجارته.

أما الناموس الأدبي فهو ناموس أزلي يجب إقامة حدوده في كل زمان، لأن الوصايا التي وردت فيه متعلقة بالله عز وجل، وفي مخالفتها تعدٍّ على وصاياه. وهذه الوصايا لم ينسخها المسيح بإنجيله بل شرحها وأعطاها قوة. مثالاً على ذلك قوله: «قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى ٱمْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ» (متى 5: 27و 28).

إن كل تعاليم الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد ثابتة لا تقبل النسخ، لأنها تمثل للناس إرادة الله الصالحة المرضيَّة الكاملة، مما يؤكد لنا أن طريق الخلاص واحدة في كل جيل وعصر. وسيُدان الناس الذين لم يؤمنوا بالمسيح، الذي تهلل إبراهيم بأن يرى يومه (يوحنا 8: 56). قال له المجد: «اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِٱلٱبْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ غَضَبُ ٱللّٰهِ» (يوحنا 3: 26).

أيها الحبيب حسان،

أرسل إليك هذه الفصول ولست أدري كيف ستقع من نفسك النبيلة. أنا لا أتوخى أن تجد فيها مادة دسمة تشبع جوعك إلى البحث في الأمور العالية، التي لا تخوّلني معارفي البسيطة الخَوْض فيها. ولكن لعل الإقتباسات من كلمة الله التي اقتبستها في رسالتي توجد فيك جوعاً وعطشاً إلى البر الذي من الله بالإيمان. حينئذ تشبع وترتوي وفقاً لقول المسيح: «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَٱلْعِطَاشِ إِلَى ٱلْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (متى 5: 6) يشبعك الراعي الصالح الذي قال: «مَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ فَلاَ يَجُوعُ، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِي فَلاَ يَعْطَشُ أَبَداً» (يوحنا 6: 35).

لقد عرف داود هذه الحقيقة فقال: «اَلرَّبُّ رَاعِيَّ فَلاَ يُعْوِزُنِي شَيْءٌ. فِي مَرَاعٍ خُضْرٍ يُرْبِضُنِي. إِلَى مِيَاهِ ٱلرَّاحَةِ يُورِدُنِي» (مزمور 23: 1 و2). وعرفها إشعياء فقال: «أَيُّهَا ٱلْعِطَاشُ جَمِيعاً هَلُمُّوا إِلَى ٱلْمِيَاهِ، وَٱلَّذِي لَيْسَ لَهُ فِضَّةٌ تَعَالُوا ٱشْتَرُوا وَكُلُوا. هَلُمُّوا ٱشْتَرُوا بِلاَ فِضَّةٍ وَبِلاَ ثَمَنٍ خَمْراً وَلَبَناً. لِمَاذَا تَزِنُونَ فِضَّةً لِغَيْرِ خُبْزٍ، وَتَعَبَكُمْ لِغَيْرِ شَبَعٍ؟ ٱسْتَمِعُوا لِي ٱسْتِمَاعاً وَكُلُوا ٱلطَّيِّبَ، وَلْتَتَلَذَّذْ بِٱلدَّسَمِ أَنْفُسُكُمْ» (إشعياء 55: 1و 2).

يا أخي،

المادة لا تشبع أياً كان نوعها، خبزاً، أم علماً أم مالاً. قال يسوع: «لَيْسَ بِٱلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا ٱلإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ ٱللّٰهِ» (متى 4: 4). المادة مهما بلغت كمياتها أو حسُن نوعها لا تستطيع أن تشبع أو تحيي الإنسان الروحي، لأنه كائن حي وليس مجرد آلة مركبة من لحم ودم وعظام. فلو كان كذلك، لكان الطعام المادي الذي يتحوّل فيه إلى لحم ودم وعظام كافياً له، ولكان من الموافق أن يكرس كل جهوده لتأمين الطعام أياً كانت الطرق! كذلك الإنسان ليس مجرد عقل يفكر ويبتكر. لأنه لو كان كذلك، لوجد غذاءه في مادة العلوم والآداب والفنون.

ولكن مَن منا يرتضي أن يكون جهاز أكل وشرب، أو مخزناً للعلوم والآداب والفنون؟ لا أظن أن عاقلاً يرضى بذلك!

ولكن للأسف إنه «ليس كثيرون عقلاء. ليس كثيرون فهماء». ولهذا نرى سواد الناس ينكبوّن على المادة ويعيشون لها ويقيسون قيمة الآخرين بميزانها! ألا تذكر المثل الذي كان يردده أخونا أبو غسان: «معك قرش بتساوي قرش»!

فيا للتقدير البخس للإنسان الذي خلقه الله على صورته كشبهه! وحين اشتراه لنفسه دفع أعز ما في الوجود ثمناً له، ألا وهو دم المسيح.

إن الإنسان لا تشبعه المادة، خبزاً أكانت، أم علماً، أم آداباً أم فنوناً. فقد ثبت بالاختبار أن كثيرين حصَّلوا أموالاً طائلة دون أن تشبع نفوسهم، بل ازدادت نهماً. وإن كثيرين اختزنوا في أدمغتهم المزيد من العلوم والفلسفات والآداب والفنون ولكنهم لم يرتووا. صدق الذي قال: «اثنان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال».

فإلى كلمة الله أوجّه نظرك، لا فرق بين كلمة الله المتجسد «الذي أَمَامَهُ شِبَعُ سُرُورٍ. فِي يَمِينِهِ نِعَمٌ إِلَى ٱلأَبَدِ» (مزمور 16: 11) وكلمة الله الموحى بها التي «تحكمّ للخلاص». وقد قال المسيح: «فتشوا الكتب. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (يوحنا 6: 63). «إن ثبتم فيَّ وثبت كلامي فيكم، تطلبون ما تريدون فيكون لكم» (يوحنا 15: 7).

15 - 5 - 54 المخلّص توفيق

بعثت بهذه الرسالة إلى حسان منذ عدة سنوات، وإلى الآن لم يطلب مزيداً من القول. ويبدو أنه وجد في مواد البحث ما كان يصبو إلى معرفته عن موت الرب يسوع. أو لعل البحث وجَّهه إلى الأسفار المقدسة فانكبَّ على مطالعتها.

لقد تقابلنا أربع مرات خلال هذه السنين الطويلة، وفي كل مرة كان يتعذَّر عليَّ الدخول معه في البحث بسبب وجود أشخاص لا يُستحسن طرْق هذا الموضوع في حضرتهم. ولكنني في هذه المقابلات لمست تغييراً في حياته وتحوّلاً في أهدافه.

وكذلك معاملاته مع الناس حملت طابع الجدّ واللطف، وكل ما يبدو في أقواله يدل على أنه اجتاز اختباراً ما صيَّره أكثر اهتماماً بالروحيات، وقد قيل لي إنه أصبح زوجاً وأباً مثالياً.

وكم سرَّني أن أستشفَّ من خلال حديثه وجود الإيمان المقترن بالرجاء والمحبة، أمراً مميزاً في حياته!..

وكم ابتهجت نفسي حين علمت أنه وقف منذ أمد طويل للدفاع عني بشجاعة ضد تهجمات الذين ما تركوا مناسبة يمرّ فيها ذكري دون أن ينالوا مني بألسنتهم.

وإن كان لي ما أبديه في الختام، فهو رفع آيات الشكر لذاك الذي رحمني، وقَبِلَ توبتي، وتفاضلت نعمته عليَّ حتى أخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة.

«صَادِقَةٌ هِيَ ٱلْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُولٍ أَنَّ ٱلْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ ٱلْخُطَاةَ ٱلَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا. لَكِنَّنِي لِهَذَا رُحِمْتُ لِيُظْهِرَ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ ٱلأَبُدِيَّةِ» 1 تِيمُوثَاوُسَ 1: 15 و 16

أيها القارئ العزيز،

إن قرأت هذه السيرة الممتعة بتمعن، تستطيع الإجابة على الأسئلة التالية بسهولة، وان كان لديك أي أسئلة أو استفسارات عن هذا الكتاب، يمكنك الكتابة إلينا مباشرة عن طريق استمارة الاتصال الموجودة على الموقع.

  1. كم مرة حوكم المسيح، من كان القاضي في كل محاكمة؟
  2. ماذا كان حكم المحكمة اليهودية الدينية على المسيح، ولماذا أصدروا هذا الحكم؟
  3. ماذا كان الحكم الأول لبيلاطس على المسيح، وعلى أي أساس أصدره؟
  4. ماذا كان الحكم الأخير لبيلاطس على المسيح، ولماذا أصدره؟
  5. على الصليب قال المسيح سبع كلمات - اذكرها بالترتيب مع شواهدها.
  6. كيف تبرهن من هذه الكلمات السبع على الصليب أن المصلوب هو المسيح، وليس شبيهاً له؟
  7. اكتب خمس نبوات عن صَلْب المسيح من التوراة، ووضح كيف تحققت على الصليب.
  8. كيف تشهد حاسة العذراء مريم لحقيقة صَلْب المسيح؟
  9. لو أن الذي صُلب كان «شبيه المسيح» فكيف نفسر أن قبره خلا من جسده في اليوم الثالث؟
  10. حدثت عجائب ومعجزات وقت الصليب - كيف تبرهن هذه أن المصلوب كان المسيح؟
  11. هناك خمسة نصوص قرآنية تؤيد موت المسيح - اكتبها مع شواهدها.
  12. أورد الإمام فخر الدين الرازي ستة إشكالات على أن شبيه المسيح هو الذي صُلب. اذكرها.
  13. كيف لا يغفر الله لآدم وذريته إلا بموت المسيح.
  14. ما هي صفات الوسيط بين الله والناس، وكيف تحققت في المسيح؟
  15. فدى الله إسماعيل بكبش، والكبش أقل شأناً من إسماعيل. فلماذا لا يفدي الله الخطاة بشَبه المسيح، وليس بالمسيح نفسه؟
  16. اكتب خمس آيات قرآنية تبرهن صحة التوراة والإنجيل، مع شواهدها.
  17. متى كُتبت كلٌّ من النسخة الإسكندرية، والنسخة الفاتيكانية للكتاب المقدس؟ وما هي دلالة زمن الكتابة بالنسبة لصحّة الكتاب المقدس؟
  18. اذكر شهادة من علم الآثار تبيّن صحة الكتاب المقدس.
  19. اكتب آيتين قرآنيتين تذكران «النسخ». عن أي كتاب تتكلمان؟
  20. إلى أين تظن وصل حسَّان في إيمانه، بعد كل ما كتبه له أخوه توفيق؟

كرّس القس اسكندر جديد حياته في خدمة المسيح. وبتاريخ 16 كانون الأول (ديسمبر) سنة 1989 بلوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية انتقل إلى الأمجاد السماوية، وله من العمر 80 سنة، قضى منها أكثر من خمسين سنة في خدمة الرب، وعلّة وفاته مرض عُضال امتدّ عشر سنوات، تألمّ فيها طريح الفراش بسبب الشلل الارتجافي، فأصبح ضعيف الجسم. ومع ذلك بقي واعياً في الروح، ولو أنه لا يقدر أن يدوّن أفكاره. أما كتبه فهي لا تزال تتكلم في كل قارات العالم بصوت عال حسب وعد يسوع:«تكفيك نعمتي، لأن قوتي في الضعف تُكمَل» (2كورنثوس 12: 9).

يعيش اسكندر جديد اليوم مع ربّه ومخلّصه الذي كان يؤمن به ويسير على نهجه. وهو كذلك يعيش بيننا في شهادته وما تركه من مؤلفات تذخر بنعمة ربّه. ويقدّر عشرات الألوف من الشباب كتبه القيِّمة البناءة. لقد كان يفسر سر انتشار شهادتنا المشتركة بكلمات يسوع في رؤيا يوحنا 3: 8 «هأنذا قد جعلت أمامك باباً مفتوحاً ولا يستطيع أحد أن يغلقه، لأن لك قوة يسيرة وقد حفظت كلمتي ولم تنكر اسمي». وأبرز القسيس جديد مراراً شهادة بولس الرسول في رسالته الأولى إلى تيموثاوس 1: 15 و16«صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول: إن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلّص الخطاة الذين أولهم أنا. لكنني لهذا رُحمت، ليُظهر يسوع المسيح فيّ أنا أولاً كل أناة، مثالاً للعتيدين أن يؤمنوا به للحياة الأبدية». وقال إنه يقبل كل كلمة من الكتاب المقدس، إلاّ أنه لا يوافق الرسول بولس على قوله بأنه «أول الخطاة» لأن هذه المكانة السّفلى تخصُّه هو (أي اسكندر جديد). فاختبر في إنكار ذاته أيضاً الامتيازات المذكورة في هذه الآيات.

الرجاء استخدام الاستمارة الخاصة بالموقع للاتصال بنا:

www.the-good-way.com/ar/contact

او يمكنك ارسال رسالة عادية الى:

The Good Way
P.O. BOX 66
CH-8486 
Rikon
Switzerland
 

الصفحة الرئيسية